(الشخص الذي وضع هذا اللوح
هو انخيدو أنـّا
مَلكي
ما أبدع َ هنا
لمْ يبدعـْهُ أحد من قبل)
توقيع الشاعرة
"إنخيدوانا"
***
تعد حضارة وادي الرافدين من أقدم الحضارات الإنسانية، الذي أجمع الباحثون على قدمها وتطورها من عصور ما قبل التاريخ حتى بلغت أوج تطورها في آواخر الألف الخامس وبداية الألف الرابع قبل الميلاد، فهي نتاج فكري وثقافي ومادي متراكم منحها خاصية ميزتها عن حضارات الأمم الأخرى. لقد عبرت حضارة وادي الرافدين عن نفسها، حيث قدمت الأنماط الأولى من الأدب العالمي، وكان الشعر أحد الأنماط الأدبية التي أهتمت به. قد لا يعرف القارئ متى بدأ الأدب في التاريخ وما هو شكله؟
أدب وادي الرافدين يعد أقدم الآداب العالمية التي عرفتها البشرية، الغني في مادته وأسلوبه، فكانت الملاحم والأساطير تمثل نصوصاً أدبية وثقافية ذات نزعة إنسانية تعبر عن دقة التفكير وإنفتاح هذه الحضارة على ثقافات الأمم الأُخرى. وقد ظهرت ملامح هذا الإبداع في مطلع الألف الثالـث قبل الميلاد، الذي كشف عن ملامح هذا الإبداع الباحثين الذين أكدوا على أن أصول العلوم والمعارف والفنـون والأداب وجدت أسسها الأولى في حضارة وادي الرافدين. ولعل نصوص النتاج الأدبي لهذه الحضارة تعكس تميزها بنزعتها الوجودية التي عالجت قـضايا الوجود، التي شغلت فكر الإنسان منذ لحظته الأولى الى يومنا، لقد أظهرت آداب وادي الرافدين التفوق الفكري والروحي على آداب الأمم الأخرى. وكان الباحث والآثاري العراقي "طه باقر"، قد ذهب إلى أن للأدب في وادي الرافدين، ميزتين ليستا في غيره من الآداب القديمة: (الميزة الأولى، أنه موغل في القدم وسبق جميع الآداب العالمية، سواء أكان ذلك من ناحية الأساليب وطرق التعبير، أم من ناحية الموضوع والمحتوى، أم من ناحية الأخيلة والصور الفنية. والميزة الثانية أنه وصل إلينا على هيئته الأصلية غير محور، أي كما كتب ودوِّن بأنامل الكتبة السومريين والبابليين قبل 4000 عام، على عكس الآداب العالمية القديمة، التي عانت من التحوير والتبديل والإضافة، على أيدي النساخ والجماعين والشراح).. "طه باقر، في تاريخ الحضارات القديمة".
وأشهر الموضوعات الأدبية التي تناولها أدب وادي الرافدين سواء كان شعراً أم نثراً، أصل الكون والوجود وقصص الطوفان والملاحم وعالم ما بعد الموت والأساطير والشرائع والأبتهالات والتراتيل والأدعية والمزامير وغيرها من الموضوعات.
لا يخلو الأدب الرافديني من تأثير النزعة الدينية وهيمنت المعابد عليه، خصوصاً في نشأته الأولى، من خلال الأناشيد والتراتيل والأدعية والأبتهالات والتسابيح الدينية. وإن الآداب الرافدينية من حيث النشأة الأولى (لم تكن أناشيد أو أراجيز غزلية بل كانت صلوات وأدعية دينية)، "ول ديورانت، قصة الحضارة، الجزء الأول، ص233". أو كما يقول عالم السومريات "صموئيل كريمر" (إن أكثر القصائد الغنائية القديمة لم تدون ألا بعد أن دخل عليها التبديل والتحوير من قبل الكهنة والكتبة)، "صموئيل كريمر، من الواح سومر، ص 334".
في ظل هذه القفزات الحضارية تبوأت المرأة مراكز بارزة في إدارة المشهد السياسي والثقافي والأدبي والديني في حضارة وادي الرافدين، وتمكنت من وضع بصمة في عالمها، أشتهرن كآلهات أو ملكات أو شاعرات أوفنانات أوملهمات أو موظفات أو مغنيات، فهن صنعن جزءاً هاماً من تاريخ حضارات وادي الرافدين. كما تحدث التاريخ عن منح الأكديين الآلهة "عشتار" صفات الحرب والقتال فصارت آلهة الحرب وآلهة الحب في الوقت نفسه.
(يتفق العلماء عموماً على أن المرأة كانت تتمتع بأكبر قدر من الحريات في المراحل المبكرة من التطور الثقافي في بلاد ما بين النهرين، من فترة أوروك (4100-2900 ق.م) إلى فترة السُلالات المبكرة (2900- 2334 ق.م) قبل صعود سرجون الأكّدي (حكم 2334-2279 ق.م). ومع ذلك، فقد لوحظ أن "سرجون" أختار إلهة أنثى (إنانا / عشتار) كحامية له، ونصب ابنته إنخيدوانا (إنخيدوانا)، (2285- 2250 ق.م) كاهنة عليا لأور، وتشير السجلات إلى أن النساء ما زلن يتمتعن بالعديد من الحقوق نفسها كما كان من قبل)، "جوشوا ج. مارك، النساء في بلاد ما بين النهرين القديمة، ترجمة سامي الاطرش". حيث شغلت العديد من الوظائف كملكة وكاهنة وأديبة وشاعرة وغيرها من الوظائف. فقد تم تصنيف النساء وفقاً لوضعهن الأجتماعي:
(- النساء الحرائر من طبقة النبلاء (الطبقة العليا).
- نساء أحرار كاهنات في المعبد.
- الإداريات
- النساء الحرائر من الطبقة الدنيا.
- البغايا أو النساء العازبات.
- الإعتماديات الذين لا ينتمون إلى منزل رجل).
- العبيد الإناث)، "جوشوا ج. مارك،
النساء في بلاد ما بين النهرين القديمة، ترجمة سامي الاطرش".
يصف عالم الآثار العراقي الدكتور "بهنام أبو الصوف" في كتابه (التاريخ من باطن الارض)، الدور المحوري الذي لعبته المرأة في العراق القديم في نهضة المجتمعات القديمة، حين أثبتت قدرتها على أحداث التغيير الفعال في تلك المجتمعات، فكان لها الظهور الأولي في الجانب الديني الذي مثل بواكير العقيدة الدينية في عبادة الإلهة الأم "نينهورساج" زوجة الإله (إنكي)، في حضارة بلاد الرافدين، حيث يتسع مفهوم الأمومة إلى ما هو أبعد من الأمومة البيولوجية، فصور فلاحو العراق القديم الأرض بهيئة المرأة وهي في حالة الحمل. ويذكر الدكتور "خزعل الماجدي"، الباحث في علم تاريخ الأديان والحضارات القديمة، إنه في حدود (8000 ق.م) أكتشفت المرأة الزراعة في شمال وادي الرافدين، ولذلك أصبحت زعيمة المجتمع الفلاحي لأعتقادهم بأن في جسدها قوة خارقة تجعلها تنجب وتزرع، فهي ترمز للخصوبة، وصورتها توضع في الحقول تبركاً. كذلك الآلهة العذراء (إنانا) زوجة الإله (ديموزي) وكانت قصتهما تعبر عن أجمل قصص العشق والحب في سومر.
هذه المنزلة تعكس المكانة التي تمتعت بها المرأة، وبيان منزلتها في مجالات الأدب والكهانة وقيادة الدولة والثقافة والأقتصاد والموسيقى. ويمكن أن نذكر بعض النساء اللواتي خلدهن تاريخ العراق القديم؛
- المغنية "أور-نانشي" أو "أورنينا"، أو "بُلبالة" وهي موسيقية سومرية (2000 ق.م)، كانت تعمل في فرقة "إنانا" للإنشاد، وكانت تغني في البلاط السومري أواخر القرن الثالث قبل الميلاد. ترجم لها "صموئيل نوح كريمر" أغنية (أيها العريس الحبيب إلى قلبي).
- الملكة "كوبابا"، أول امرأة حكمت في تاريخ العراق القديم (2500 - 2330 ق.م)، حيث ورد أسمها في قائمة الملوك السومريين في مملكة مدينة (كيش)، وخلفها على الحكم أبنها "بوزور سوين" ثم حفيدها "أور زبابا".
- ملكة أور "بو آبي" المعروفة باسم "شبعاد" زوجة الملك "آبار كي" أحد ملوك سلالة أور الأولى في فترة حوالي (2650 ق.م)، والتي كشفت البعثة البريطانية في عشرينات القرن الماضي عن مدفنها وهي بكامل زينتها.
- الملكة الآشورية "سميراميس" أو "سميراميدا" وتعني (محبوبة العالم)، التي كانت زوجة للملك الآشوري "شمشي أدد" الخامس (822-811 ق.م)، حيث حكمت كوصية على العرش بعد وفاة زوجها حتى بلغ أبنها "أدد نيراري الثالث" السن القانونية.
- خلد تاريخ العراق القديم أيضاً، (صانعة الملوك) الملكة "زاكوتو النقية" (705-681 ق.م)، التي تمكنت من أن ترتقي بنفسها من محظية إلى أرملة ملك ووالدة ملك وجدة ملك. كانت من محظيات "سنحاريب" (705-681 ق.م) التي تمكنت بطريقة ما من جعل أبنها "أسرحدون" (681-669 ق.م) يخلف والده في الحكم على الرغم من أنه الأصغر من بين أحد عشر أبناً على الأقل، كثير منهم أنجبتهم الملكة "تاشميتو شراط" زوجة الملك "سنحاريب". أمرت "زاكوتو" ببناء قصرها في نينوى وأصدرت نقشاً خاصاً بها، وفي عام (670 ق.م) سنت (معاهدة زاكوتو) الشهيرة التي تضمنت الأنتقال السلمي للسلطة من أبنها إلى حفيدها "آشور بانيبال"
(668-627 ق.م) الذي جلس على عرش أبيه بعد وفاته. وحافظت على حضورها في البلاط الملكي الى حين وفاتها.
- زوجة الملك "شمشي أدد الخامس"
(823-811 ق.م) "سامو رامات" كانت وصية على عرش الإمبراطورية الآشورية لأبنها الصغير "أداد نيراري الثالث" (811-783 ق.م) بعد وفاة زوجها.
- الملكة "شيبتو" هي ابنة "يارملم" زوجة الملك "زمريلم" (1780- 1760 ق.م) ملك دولة ماري، وكانت متميزة في الحكم والإدارة، وكانت تخلف زوجها في إدارة شؤون البلاد أثناء الحرب، أشتهرت بأفكارها العسكرية.
- سيدة الجنائن المعلقة "أميديا" أو "أوميت" هي زوجة "نبوخذ نصر الثاني"، التي أتت بفكرة الجنائن المعلقة، فكانت تسقي الجنائن من مياه الفرات بواسطة نظام ميكانيكي معقد.
- سيدة الأعمال السومرية "أماه"
(2330 ق.م)، من مدينة (أوما)، كانت متزوجة من رجل يُدعى "أور-سار"، أدارت عملها الخاص بأسمها لتستثمر في العقارات ومشاريع البناء وأشرفت على شبكة تجارة واسعة.
- المشرفة على القصر الملكي "تابوتي بيلاتكاليم" في بابل حوالي القرن (12 ق.م)، تعد أول كيميائية وصانعة عطور مسجلة في التاريخ، كما تشير الالواح البابلية التي تعود إلى حوالي 3200 عام، وهذه العطور كانت تستخدم للأغراض الطبية، كما أنها أول من أكتشف عملية التقطير. - "سيروا إتيرات" (652 ق.م) كبرى بنات "أسرحدون" والأخت الكبرى "لآشور بانيبال". حازت منزلة رفيعة في البلاط الملكي، تظهر بالمهرجانات الملكية إلى جانب أخوتها.
- ملكة كاريا "أرتميزيا الأولى"
(480 ق.م) كانت مشهورة بدورها في معركة سلاميس عام (480 ق.م) خلال غزو "زيركسيس الأول" لليونان، حكمت "أرتميزيا" وصية على أبنها الصغير بعد وفاة زوجها من دون إشراف أو نصيحة ومشورة من أي رجل.
- كان للمرأة دور كبير ومحوري في ملحمة "كلكامش"، إذ يقدم البروفيسور "إيدوارد غرينستاين" من جامعة "بار إيلان"، رؤية مغايرة للملحمة حين يرى أن عملية تحول "إنكيدو" من الطبيعة الوحشية إلى الحضارة ما كانت لتتم إلا عبر المرأة البغي المعروفة بـ "شمحات" أو "شمخات" بمعنى "الفاتنة". كما يشير، إلى الدور الكبير الذي قامت به الإلهة "ننسون" أم "كلكامش"، وكذلك المرأة "سيدوري" صاحبة الحانة التي عرفت "كلكامش" بالطريق الذي يجب عليه سلوكه ليصل إلى هدفه. في حديثها عن دور المرأة وحقوقها في بلاد الرافدين، تذكر الدكتورة "لمياء محمد علي كاظم" العديد من الكاتبات والناسخات منهن: "سركا" زوجة الملك "اورنمو" (2112 -2059 ق.م)، التي كتبت مرثية لزوجها وأقامت مناحة على موته. وأبنة الملك "سن كاشد" حاكم مدينة الوركاء في حدود (1865 -1833ق.م)، وفي العصر البابلي القديم ورد ذكر عدد من الناسخات التابعات للمعبد كانت معظمهن من الكاهنات منهن "اننا- امامو" التي كان والدها كاتباً، وكذلك ورد ذكر أسم الكاتبة "بليتي-ريمن" إذ كانت كاتبة وأديبة.
إن الغرض من كتابة هذا البحث هو لفت الأنظار الى الشاعرة السومرية "إنخيدوانا" لقلة ما كتب عنها، فرأيت أن أضع امام القراء جانباً من سيرة هذه الشاعرة معتمداً على بعض المصادر في أقتفاء كتاباتها وموهبتها ودورها في الحياة العامة كونها أميرة والدها الإمبراطور الأكدي سرجون، وشاعرة وكاهنة. وفي بحثنا هذا، سوف نستكشف الإرث الثقافي والأدبي الذي تركته أحدى نساء حضارة وادي الرافدين، ألا وهي الشاعرة السومرية "إنخيدوانا" وأثرها في الآداب السومرية والأكدية. وتسليط الضوء على تجربتها الشعرية في التعبير عن ذاتها، والتي مثلت تحدياً للمجتمع الذكوري السائد في عصرها. ودورها السياسي والديني والأجتماعي كناشطة نسوية في مواجهة التمييز الذي تواجهه المرأة.
عُرفت شخصية "إنخيدوانا"، لأول مرة، من خلال عمليات التنقيب التي قامت بها البعثة الأثرية المشتركة من المتحف البريطاني وجامعة بنسلفانيا الأمريكية في مدينة أور، حيث جرى التنقيب للمرة الأولى في خمسينيات القرن التاسع عشر، إلا أن الكثير من المدينة لم يكتشف حتى بدء العمل في عام 1922 وأستمر الى عام 1934، عندما تولى عالم الآثار البريطاني "تشارلز ليونارد وولي" (1880ـ 1960)، قيادة مهمة أستكشافية بتمويل من المتحف البريطاني ومتحف جامعة بنسلفانيا، الغاية من هذه البعثة هو البحث في تاريخ أور بأعتبار أنها كانت موطن "النبي إبراهيم" والبحث عن أدلة مادية تثبت صحة الروايات التوراتية في كتاب العهد القديم. لكن في العام 1927، أي بعد خمس سنوات من بدء الحفر، أكتشف فريق التنقيب أنقاض المقبرة الملكية في المعبد "گيبارو" (معبد زقورة أور العظمى) في مدينة أور مكان إقامت "إنخيدوانا" الرئيسي ومدفنها. الذي ضم العديد من الأضرحة الملكية، والكنوز النفيسة التي يعود تأريخها إلى نحو منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وأثناء التنقيب أكتشفت البعثة قرصاً مدوراً صغيراً من المرمر قرب مكان إقامة الكاهنة الكبرى في معبد (إله القمر) يصور الكاهنة "إنخيدوانا" تترأس طقساً دينياً، وكان هذا القرص مكسوراً ومشوهاً، وبعد ترميمه برزت على ظهره أشكال مصورة وهي: "إنخيدوانا"، ومديرتها "أدا"، ومصفف شعرها "إيلوم باليليس"، وكاتبها "ساغادو". ومنقوش على ظهر القرص كتابة: (إنخيدوانا، امرأة نانا الحق، زوجة نانا، ابنة سرگون، ملك الجميع، في معبد إنانا في أور، منصّة أنتِ بنيتِ، ومنصّة مائدة السماء "آن" أنت سميتِ). تصف مؤرخة الفن بجامعة (هارفارد) "إيرين ج. وينتر" هذا القرص بأنه منحوت من المرمر شبه الشفاف، يبلغ قطره حوالي 25.6 سم وسمكه 7.1 سم. وكشف كذلك عن وجود أشياء أخرى تحمل أسم الكاهنة وأختام والواح من الطين مغطاة بالخط المسماري، وكانت بعض هذه الألواح عبارة عن نسخ من نصوص "إنخيدوانا". لكن كتاباتها لم يتم نسخها أو نشرها وأسنادها اليها حتى أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، صدرت أول ترجمة لكتاباتها من السومرية الى الأنكليزية في عام 1968. وظهر كذلك نقش ملكي آخر بخط الشاعرة "إنخيدوانا"، تصف فيه نفسها: (إنخيدوانا، كاهنة الزيرو، زوجة الإله إنانا، ابنة سرجون، ملك العالم، في معبد الإلهة إنانا). وهذا القرص محفوظ في متحف جامعة بنسلفانيا للآثار في ولاية بنسلفانيا الأميركية. وهناك قرص من الحجر أحتوى على نحت بارز يمثل الكاهنة العظمى وهي ترتدي عباءة طويلة وغطاء على رأسها، وقد تدلت ظفائرها على كتفيها، حاملة الصولجان، تترأس طقساً دينياً أمام مذبح الإله، تقوم بتقديم الصلوات والطقوس الدينية خلال أيام السنة، يتقدمها كاهن يسكب الماء المقدس في إناء، بالقرب منه بناء مدرج شبيه بالزقورة، ومن ضمن المشهد مجموعة من الكاهنات، أما الوجه الآخر من هذه القرص فانه يحوي كتابة مضمونها: (إنخيدوانا كاهنة الإله ننار، زوجة الإله ننار، ابنة سرجون). وعُثر على خاتمين يحملان أسمها، في موقع المقبرة الملكية في المعبد (گيبارو).
وعُثر على ثلاث قصائد طويلة لها في تمجيد إله القمر "إنانا" (سين) وثلاث طوال أخرى، إضافة إلى 42 ترتيلة لـ (إنانا) نفسها. وختمت الترتيلة الثانية والأربعين بتذييل جاء فيه (الذي وضع هذا اللوح هو إنخيدوانا، مليكي، ما أبدع هنا، لم يبدعه أحد من قبل). وهذا التذييل هو الأول في تاريخ الأدب الإنساني يصدر من شاعرة خاطبت قراءها بضمير المخاطب وأعلنت عن أسمها وهويتها في الوقت الذي نجهل فيه هوية معظم مبدعي الأدب السومري، عندما كانت النصوص تكتب مجهولة الكاتب، بما فيها (ملحمة كلكامش).
في كتابها (صلوات إنخيدوانا) تخبرنا المؤلفة الامريكية "بتي دي شونك ميدر" التي نشرت ترجماتها للشعر السومري في كتب عديدة منها: (إزالة لعنة الظلام) و (السيدة ذات القلب الأعظم)، عن أهمية هذه البعثة التي (غيّرت أكتشافاتهم معرفة العالم وفهمه للتاريخ، وحقبة ما قبل التاريخ. اللّقى الغنيّة التي عثروا عليها في تنقيبهم، سلّطت الضوء على 3500 سنة من الحضارة المبكرة أبتداء بالقرى الأولى، التي بُنيت على حافة الأهوار الملحية حوالي 4000 قبل الميلاد، في ما يُعرف اليوم بالعراق الحديث، وتراكمت طبقات عدّة كان وجودها متخيّلا فحسب. كانت أور مركزاً للحضارة السومرّية التي أزدهرت على طول الفرات). فقبل العثور على القرص، (لم يكن الباحثون يعرفون ما إذا كان سرجون شخصاً تاريخياً حقيقياً أو أسطورياً متخيلاً. لم يسمع أحد قط بـ "إنخيدوانا" قبل ذلك. وقد مرت خمس وسبعون سنة منذ أكتشاف "إنخيدوانا"، قام فيها الباحثون بالكشف وفك مغاليق آلاف الألواح الطينية التي وسعت نطاق معرفتنا عن العراق القديم، من بين الخمسة آلاف، أو أكثر، من الألواح الأدبية العراقية القديمة، يوجد من أعمال "إنخيدوانا" ثلاث قصائد طويلة لإنانا، وثلاث قصائد، وأثنتان وأربعون تسبيحة)، "بتي دي شونك ميدر، صلوات إنهيدوانا، ترجمة د. كامل جابر ". ثم عثر لاحقاً على تراتيلها بين آثار المعابد "إريدو" و"سيبار" و"إشنونة". فعلى لوح من الطين هناك كلمات محفوظة لقصيدة طويلة تضمنت عبارة "أنا إنخيدوانا" تقول فيها (لقد توليت أخذ مكانتي في مسكن الحرم. كنت الكاهنة الكبرى. أنا إنخيدوانا)، وهذه أشارة ترمز الى بداية التأليف، وبداية كتابات السيرة الذاتية. يقول الدكتور "خزعل الماجدي" (إن السبب الذي دفع بالمؤرخين والباحثين الى أعتبار "إنخيدوانا" أول شاعرة في التاريخ هو أنها كانت تذيّل أسمها على ألواح قصائدها، فيما كانت ألواح الشعر قبلها خالية من أسم مؤلفيها وكان بعضها يحمل أسماء نسّاخ هذه القصائد وليس أسماء مؤلفيها).
توصف "إنخيدوانا" في الوسط الأدبي العالمي بأنها الأديبة الأولى في التاريخ، التي ساهمت في تغيير قصة الأدب، فهي أول مؤلفة موثقة في العالم، وصاحبة أقدم نص شعري مكتوب، وبذلك تكون أول امرأة شاعرة في التاريخ، وصفها الناقد والمترجم والباحث من (جامعة ييل) المختص في أدب الآشوريات والبابليات، والمولع بأدب وشخصية "إنخيدوانا" "ويليام فولغانغ هالو" بعد قراءة أعمالها وكتاباتها بـ(شكسبير الأدب السومري)، فهي سبقت في كتاباتها الشعرية، ملحمة كلكامش ب(800) سنة، وسبقت الشاعر الإغريقي "هوميروس" الذي كتب (الالياذة والاودسية) بحوالي أحد عشر قرناً. وكان الشائع في تاريخ الشعر العالمي أن الشاعرة الغنائية الإغريقية "سافو" هي أقدم من عرف من النساء الشواعر. ولكن كان هناك الشاعرة العراقية "إنخيدوانا" تقدمت عليها بنحو (1700 سنة)، ف(سافو) عاشت خلال القرن السادس قبل الميلاد، في حين عاشت "إنخيدوانا" في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد.
إن أقدم الإشارات التي تشير الى ممارسة المرأة الكهانة والسياسة وكتابة الشعر، وردت من العصر الأكدي، إذ برزت الأميرة الأكدية "إنخيدوانا" من النساء اللواتي لهن دور في العراق القديم، والتي عُرفت قبل حوالي (4300 عام)، في الفترة (2285 - 2250 ق.م)، في الألف الثالث قبل الميلاد. أي؛ في القرن (23 ق.م).
عرفها علماء الأدب والباحثين في التاريخ والآثار والمهتمين بالآداب القديمة، كشخصية تاريخية، جمعت بين كونها أميرة وكاهنة عليا، وكاتبة للعديد من القصائد الأدبية والتراتيل الدينية مما جعلها شخصية أستثنائية في تاريخ العراق القديم. فهي صاحبة أقدم عمل إبداعي نسائي في التاريخ، حتى عُدت رمزاً لآداب بلاد وادي الرافدين والعراق القديم. ظهر كشخصية نسائية وتاريخية راسخة ومؤثر في ثقافة عصرها، أضافة الى كونها كاهنة فهي شاعرة ومؤلفة وأول ناشطة نسوية في تاريخ البشرية. عاشت في فترة لم تعرف فيه النساء شاعرات أو كاتبات.
كُتب عنها الكثير وترجمت أشعارها إلى الإنكليزية والألمانية، وقالت عنها "روبرتا بنكلي" أستاذة الأدب الأنكليزي في جامعة (تينيسي) بأن صوتها هو (الصوت الحازم، والقوي الذي تحتاج النساء لسماعه)، وذكرتها الباحثة في آداب بلاد الرافدين في (جامعة بيركلي) "بتي دي شونغ ميدر" بأن صوتها (يحطم الصمت الذي فرضته على المرأة الثقافات والعقائد الدينية السائدة في الغرب). ولخصت "جانيت روبرتس" في مقالة لها (إنخيدوانا ابنة الملك سَرجون الأميرة، والشاعرة، والكاهنة)، ما تُمثله بإختصار: (مثلت إنخيدوانا شخصيةً قويةً ومبدعة، إمرأة متعلمة انجزت ادواراً متنوعة في مُجتمع مُعقد، بطموحات لا تختلف عن طموحات نساء اليوم). وهناك من يصفها (شخصية صوفية وبطولية، قد تكون صورتها مقدراً لها أن تستحوذ على الخيال الشعبي في عصر الحركة النسائية الناشئة واستعادة الصور الأنثوية القديمة).
وتخليداً لأسمها قام الأتحاد الفلكي الدولي عام 2015 بتسمية فوهة بركانية على سطح كوكب عطارد بأسم "إنخيدوانا"، وذلك وفقاً لقواعد الأتحاد الفلكي الدولي بتسمية كافة الفوهات الجديدة على سطح عطارد بأسماء فنانين أو مؤلفين أو كتاب، فقد أعتبر الباحثون وصفها للقياسات والحركات النجمية على أنها ملاحظات علمية مبكرة.
فمن هي الأميرة والكاهنة والشاعرة إنخيدوانا؟
ولدت "إنخيدوانا" من أب أكدي وأم سومرية، سنة (2285 ق.م) في بلاد وادي الرافدين في العراق. حصرت عالمة الآثار الأمريكية الدكتورة "جوان جودنيك ويستنهولز" تاريخ حياتها بين (2300 – 2225 ق.م.)، في حين يضع عالم الآثار السير "تشارلز ليونارد وولي" الذي أكتشفها في مقابر أور الملكية، ولادتها ووفاتها بين (2285 – 2225. ق.م).
والدها "سرجون الأكدي" (2334- 2279 ق.م)، مؤسس الإمبراطورية الأكدية الذي دام حكمه نحو خمسة وخمسين عاماً (2371-2316 ق.م).
وحد مدن شمال وجنوب بلاد الرافدين تحت راية واحدة تحمل اسم "الإمبراطورية الأكدية"، ولقب (ملك الجهات الأربع)، وأمها الملكة السومرية "تاشلولتوم" من جنوب العراق، والتي كانت زوجة الملك "لوغال زاغيزي سي" ملك اوروك السابق والتي تزوجها سرجون بعد فتحه لأوروك ومن أولادها(إنخيدوانا وريموش ومانشتوسو وشو انليل وأبيش تاكال) وجدة الملك "نرام سين". وهي كاهنة عالية المقام للالهة "إنانا" (سين) إله القمر. وهناك من يعتقد من الباحثين أن "إنخيدوانا" ليست ابنة "سرجون" من زوجته "تاشلولتوم" التي تتحدث السامية، بل من زوجة سومرية وذلك لطلاقة لغتها السومرية وكتابة شعرها بالخط المسماري السومري.
عاشت "إنخيدوانا" في قصر كبير، مع أبيها وهي البنت الوحيدة بين أربعة أبناء، وهم (وشو انليل، وأبيش تاكال وريموش، وما نشتوسو) وعمة الملك "نارام سين" حفيد الملك "سرجون". تعد "إنخيدوانا" أول أميرة تحتل مركز الكاهنة العليا لإله القمر "إنانا" (سين) في أور، وهو أعلى رتبة كهنوتية في الألف الثالث قبل الميلاد، أضافة الى أنها تشغل مناصب عليا ورفيعة في العديد من المعابد طوال فترة حياتها. فهي حين تولت منصب الكاهنة العليا مسترشدة بسيرة جدتها أم سرجون في أور .
أسمها أنثوي أكدي، تُرجم بأكثر من لفظ "إيهودينا" أو "أنخيدوانا" أو "إنخيدوانا" أو "أنهيدوانا" أو "إن-هيدو-آنا" أو “أنخدوانا"، يتألف من خمس مقاطع سومرية (إن، هي، دو، أن، نا). والتي تعني ("إن" تعني الكاهن الأعلى، و"هيدو" معناها زينة، ومعناها زينة الكاهن الأعلى للإلهة "إنانا"، و"إنانا" هي نسبة إلى السماء أو إله السماء "القمر" أي " زينة الكاهنة الأعلى لإله السماء")، وهناك ترجمات أُخرى لأسمها: (الكاهنة العُليا مَفخَرَة السماء/الجنة)، ولكن أسمها الحقيقي غير معلوم، يقول الدكتور "دنحا طوبيا كوركيس" في مقالته "إنخيدوانا الأكدية أول شاعرة في تاريخ البشرية" (إن المقطع الأول من اسم شاعرتنا له دلالات أكبر بكثير من المعنى التقليدي المتعارف عليه آنذاك. وأهم ما يحمله من معنى هو أنه كان لقباً يكنى به ملوك أوروك القدماء لأن تنصيبهم ملوكاً كان يقتضي اختيارهم بمباركة رجال الدين قبل كل شىء وإقامة أحتفالات رسمية بمناسبة الجلوس على العرش. وربما لأنه لقب ذكوري أيضاً، إختارته "إنخيدوانا" بدلا عن لقب "زرو" الأنثوي الذي كان يمنح للكاهنات من قبلها). (كان من الممكن أن يكون لها اسم ميلاد سامي لكن عند أنتقالها إلى أور، معقل الثقافة السومرية، أخذت لقباً سومرياً)،كذلك يدخل في تركيب أسمها إله السماء (آنو) والذي كانت مدينة الوركاء مركزاً لعبادته، إذ تولت بصفتها كاهنة عظمى العمل في الوركاء فضلاً عن مدينة أور.
قام والدها "سرجون" بتعيينها لتكون كبيرة آلهة القمر "إنانا" المنصب الذي شغلته حوالي أربعين عاماً، فهي أقدم شخصية معروفة تحمل هذا اللقب الديني، أضافة الى كونه منصب ذو أمتياز وأهمية سياسية كبرى. حيث رفعها إلى منصب رئيس الكهنة في أهم معبد في الإمبراطورية الذي يطلق عليه إسم "گيبارو" في مدينة أور السومرية، فكلفها بمهمة توليف المعتقدات السومرية والأكدية، وتقريب ودمج طقوس عبادة الآلهة السومرية "إنانا" والآلهة الأكدية "عشتار". كذلك عينت، كاهنة كبيرة على معبد الإله "آنو" (أبو الآلهة) في الوركاء، إحدى المدن السومرية القديمة، لتكون أول امرأة تترأس معبدين لإلهين. تقول "الدكتورة عزة جاد الله": (قام الملك سرجون بالمساواة بين إنانا (سين) إله القمر في سومر وبين إينانا (عشتار) البابلية، وبهذا أصبحت أسماء "إنانا" و"عشتار" مترادفة في قصائد إنخیدوانا). ومنح الأكديون الآلهة "عشتار" صفات الحرب والقتال فصارت آلهة الحرب وآلهة الحب في الوقت نفسه. وبما أنها كانت كبيرة الكهنة فكانت داهية سياسية، نظمت وترأست مجمع معابد المدينة، بإنشاء مؤسسة دينية جعلت منها أقوى سلطة دينية في زمانها. تمثلت وظيفتها الأساسية، العناية بالمعابد الدينية والإشراف على أملاكها من أراضي زراعية وماشية، والدعاء للملك في الصلوات وفي المناسبات العامة. وكان الغرض من ذلك سياسي وهو فرض سلطة والدها على بلاد سومر وإبقائها تحت السيطرة من خلال الدين، كونها أكدية المولد وسومرية الثقافة، فكان بحاجة الى كاهنة عليا من نسل ملكي ممزوج بين ألهة سومر مع الآلهة الأكدية، كذلك حركت أبيها "سرجون" للبناء في جنوب بلاد سومر وتحديداً في مدينة أور، وأن تكون أميرة وحاكمة لهذه المدينة. ويشكك بعض الباحثين في كونها ابنة سرجون من صلبه، وإنما كانت تتحلى بشيء مميز وكاريزما آخاذة. فقد ظلت تعمل بصفتها كاهنة عليا لأكثر من 40 سنة، كونها شخصية فعالة حتى بعد وفاتها.
يظهر من خلال أعمالها انها كانت (امرأة ذكية، قوية الشخصية، صلبة الإرادة، ذات شمم وكبرياء، وكانت تدرك أهمية موقعها، وتتخذ الموقف الذي يليق بها كأميرة وكاهنة عظمى)... "سامي مهدي، آفاق نقدية، إنخيدوانا أقدم شاعرة معروفة في العالم"
حصلت على ألقاب متعددة فهي : (زوجة "إنانا" لأنها الكاهنة العظمى له. أما ثاني صفة فهي المخلوق الفاني، كونها ابنة الملك "سرجون". أما الصفة الثالثة فهي المحبة والمخلصة لإنانا، وقد ظلت معروفة بتلك الصفات).
يعتقد أن والدها "سرجون" قد عينها في هذا المنصب في أواخر سنوات حكمه وأستمرت فيه حتى خلال حكم إخوتها "ريموش" الذي حكم تسع سنوات، الذي يقول عنه عالم الآثار العراقي "طه باقر" في كتابه (مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة)، إن ابن "سرجون" الملك "ريموش" حكم اولاً ولكنه لم يكن الأكبر بل الأبن الأصغر) و"مانشتوسو" الذي حكم خمس عشرة سنة، ثم ابن أخيها الملك "نرام سين"، الذي حكم قرابة ثلث قرن من الزمن. وهو أبن "مانشتوسو". يرجح البعض أن تعيين "إنخيدوانا" جاء لتعزيز سيطرة حكم والدها على الشعب المتمرد في الجنوب السومري للإمبراطورية، لأن من خلال خدمة ابنته الأكدية لآلهة سومرية قد قام بمزج الآلهتين في شخص ابنته، الأمر الذي له أبعاد سياسية أكثر منها دينية، وهذا ينسجم مع سياسة الملك سرجون التوحيدية لبلاد سومر، الذي لقب نفسه بـ(الأخ الأكبر للإله آنو). وعليه من المرجح أن تكون بعض قصائد الكاهنة "إنخيدوانا" ذات غاية سياسية. يرى "د. نعيم الرضوي"، في كتابه (ملامح التوحيد في الديانة العراقية القديمة)، أن قصائدها تكشف عن (روح توحيدية مبكرة)، فهي قامت بخلق تناغم بين المعتقدات السومرية والأكدية.
يرسم لنا الناقد "بول كريوتشيك" صورة للشاعرة "إنخيدوانا" في العمل:(أثناء تواجدها في غرفتها، أو ربما مكتبها، وبصفتها مدير مؤسسة كبيرة ومرموقة مثل معبد نانا في أور، يجب أن تحصل بالتأكيد على أفضل ترتيبات عمل، رونق شعرها يملأُها جمالا بعد أن زيّنَهُ "إيلوم باليليس" مصفف شعرها والموظفون التابعون لها، تُملي على كاتبةٍ لها، ربما هي نفسها "ساغادُو" التي عُثِر على ختمها)، وعمل على خدمتها حارس يُدعى "أدا" وموظف يدعى "كوكودوك".
خلال حكم أخيها "رَيموش" (2315- 2306 ق.م)أعلنت عدة مدن سومرية تمردها، وهذه التمردات تسببت في تدهور مكانة الشاعرة والكاتبة والكاهنة والحاكمة "إنخيدوأنّا" وفي زمن أخيها "ريموش" أشتدت هذه الأضطرابات التي قادها المتمرد السومري "لوكال آن" التي أدت الى أحداث محاولة إنقلاب ضد "إنخيدوانا"، وأجبرها على أن تُنفى، فأخذت تتجول تائهة في البرية بعدما جرى اخراجها من أور، كتبت في قصيدتها نفي من أور تقول:
(سألتني أن أدخل المعبد المقدس
الـ (كَيبارو)
ودخلتُ، أنا الكاهنة العليا
انخيدوانا
حاملة قُـفّــة الطقـوس، ورتّلـت
أدعيتك.
منبوذة الآن بين المجذومين
حتى ماعاد بمقدرتي أن أحيا معك
ظلال تدنو من ضوء النهار،
النور اسّود حولي.
أفياء تقرب من بياض النهار
تغشيه بعاصفة رمل.
وفمي العذب من الشهد.. بَهُت بغتة
وجهي الحلو.. هباء
إدانة إله القمر نانا
أما أنا، فقـد أهملنـي إلهـي نانا
أخذني للخراب
لدروب الخطيئة
أشيمبابار لم يظلمني
إن فعل ذلك، لما أهتم؟
لو فعل، لما أكترث؟
أنا انخيدوانا
كنتُ المظفرة.. المبجلة
لكنه ساقني من حَرَمِي
صيّرني هاربة كسنونوة من النافذة.
حياتي في سعير
جعلني أمشي بين العليق في الجبال
عرّاني من الإكليل
ناوَلني خنجراً وسيفاً
وقال:
أديريهما صوب جسدكِ
قد وجدا لكِ).
وفي قصيدة أخرى تكتب "إنخيدوانا" طلباً للمساعدة إلى الإلهة "إنانا"، ترجوها أن تطلب المساعدة من الإله "آن" (إله السماء) بعد عزلها من منصبها كاهنة عليا، وطردها إلى المنفى:
(تم إحضار القرابين الجنائزية
كما لو أنني لم أعش هناك أبدًا اقتربت من الضوء
لكن الضوء أحرقني
اقتربت من الظل
لكن عاصفة غطتني
أصبح فمي المعسول غثاءً
أخبر آن عن لوغال آن ومصيري! بمجرد أن تخبر آن عن ذلك
سوف يطلق سراحي).
خاض "ريموش" حروباً عديدة لإعادة السيطرة على المدن المتمردة، التي عانت أغلبها من خراب الحرب، وقد خلدت "إنخيدوانا" هذا الخراب في قصيدة رثاء أعتبرت فيها أن الإله تخلّى عنهم، لكن ابن شقيقها "نرام سين" تمكن من إخماد التمرد، وعادت "إنخيدوانا" الى منصبها كاهنة، وأسترداد مكانتها، ويبدو أن الإلهة "إنانا" أستجابت لدعواتها بقمع التمرد وتمكن ابن أخيها "نرام سين"، بتوحيد سومر. وكان لها دور في أقناع الجنوب السومري بأعادة حكم الأكديين عليهم، وساعدت في توفير التجانس الديني الأساسي الذي سعى إليه الملك سرجون. ثم بعد ذلك توفيت، ولكن بقيت ذكراها قائمة كشخصية مهمة في تاريخ بلاد الرافدين.
كانت "إنخيدوانا" امرأة جمعت مناصب ثلاثة، بين المكانة السياسية والقداسة والشعر، فكانت أميرة وحدت الحضارات، وكبيرة كاهنات الآلهة، وشاعرة تخاطب القلوب. ورائدة وناشطة نسوية، تراها تهتم بشؤون المرأة، صاحبة فكر رافض للتمييز الجنسي بين المرأة والرجل، تسعى أن تدخل المرأة في التعليم، ويكون لها وظائف كما الرجل.
أعتبرها المؤرخون والباحثون أول مؤلفة معروفة تكتب بضمير المتكلم في عصر كان مجال الكتابة فيه خاضعاً لسلطة الذكور، مما أظهر مكانتها الدينية الفريدة والعالية. فهي في إحدى قصائدها، تقتل الإلهة "إنانا"، الإله الرئيسي السابق في آلهة بلاد الرافدين آن، وبالتالي تصبح القائد الأعلى للآلهة. يبدو أنها "روجت" لإله أنثى محلي إلى ملكة السماء. أنتقدت المجتمع الذي عاشت فيه، والذي يسيطر عليه الذكور، وربما "إسقاط" رغباتها على خصومها الذكور، إلى حد ما. فقد بالغت في حماستها للدفاع عن العنصر النسوي، تقول الكاتبة الامريكية "أماندا فورمان" (إنه أمر مثير للغاية منذ آلاف السنين تم حجب فكرة "أنا" عن النساء، حتى بعد عصر إنخيدوانا. ومع ذلك كانت هنا امرأة تتمتع بسلطة ومكانة لا تصدق وتطالب بعملها الخاص، منذ ما يقرب من 5000 عام)، وتكشف نصوصها عن شخصية بطولية وعرفانية في آن واحد، حكيمة ذات سطوة، وقد بدأت صورتها تستحوذ على المخيال الأدبي المعاصر مع بروز نظريات النقد النسوي، وإحياء صورة الأنثى في العصور الخوالي. قالت عنها "روبرتا بنكلي" أستاذة الأدب الانكليزي في جامعة (تينسي) بأن صوتها (الصوت الحازم، والقوي الذي تحتاج النساء لسماعه)، اما الباحثة في (جامعة بركلي) "بتي دي شونغ" تقول: بأن صوتها (يحطم الصمت الذي فرضته على المرأة الثقافات والعقائد الدينية السائدة في الغرب).
تقول عنها "جانيت روبرتس" (مثلّت إنخيدوانا شخصية قوية ومبدعة، امرأة متعلمة أنجزت أدواراً متنوعة في مجتمع معقد، بطموحات لاتختلف عن طموحات نساء اليوم)، "عبد الله حسين جلاب، قصيدة النثر تواقيع".
وفكرة تعيينها كاهنة أولى، أصبح تقليداً أستمر لقرون، قام عليها أغلب ملوك بلاد الرافدين بتعيين أخواتهم وبناتهم في ذات المنصب من بعدها.
في كتابه (قصيدة النثر تواقيع) يرى الباحث "عبد الله حسين جلاب"، في دراسة مستفيضة، أن قصيدة النثر هي قصيدة أكدية بأمتياز تفردت بأبتكارها الشاعرة ُ"إنخيدوانا"، فهي رائدتها الأولى في التاريخ البشري، فلا سبق لأي شاعرة أو شاعر من الغرب والشرق، بكتابتها قبل الميلاد. فهي رمز لآداب العراق القديم. كتبت شعرها بلغة سومرية، لأنها تتكلم اللغة السومرية بطلاقة. وتنوع قصائدها بين الحب والجنس والغزل الإلهي، في كتابها (أميرة، كاهنة، شاعرة: تراتيل المعبد السومري لإنخيدوانا)، أكدت "بيتي ميدور"، أن قصائدها وصفت لنا تفاصيل الحياة اليومية السومرية، وطبيعة الحياة داخل المعابد. ويذكر الباحثون أن مؤلفاتها الموقعة بأسمها، دُرست بعد وفاتها، لمئات السنين في العراق القديم، وأستنسخت على مدى أكثر من خمسة قرون.
لم تكن "إنخيدوانا" أول شخص يؤلف قصائد وتراتيل، إلا أن الكتابة بصيغة المتكلم، ومطالبتها بأن تُنسب أعمالها إليها جعل عملها فريداً، فنصوصها تُعد أقدم مثال للكتابة من منظور ذاتي بصيغة المتكلم. ففي مجموعة التراتيل التي نظمتها أضافت حاشية ذكرت فيها أنها:(كاتبة هذا المخطوط اللوحي هي إنخيدوانا، يا مليكي لقد أبدعتُ شيئًا لم يبدعه أحد من قبل)، وعلى الرغم من كون "إنخيدوانا" شاعرة الجنس والحب، إلا أنها كرست نصوصها الشعرية للتسابيح والتراتيل والغزل الإلهي. ربما كان الهدف من وراء قصائدها دينياً وهو تسبيح وتمجيد الإلهة "إنانا"، لكن تنوع الأماكن الجغرافية الواردة بها وأختلافها كان له هدف سياسي هو إظهار مدى سيطرة الإمبراطورية الأكدية على تلك المناطق. فكان لها ولشعرها تأثير كبير في التفكير الديني في حياتها وبعد وفاتها بقرون. وقد وصفتها كاهنة عظمى جاءت بعدها بأنها (امرأة بخواصر مؤهلة في طهرها، جديرة بالكهانة).
تركت الشاعرة "إنخيدوانا" أعمالاً شعرية غزيرة وتراتيل أطلق عليها (تراتيل المعبد السومري)، وكانت تدون كل كتاباتها باللغة السومرية، لأنها تعتبرها لغة دينية مقدسة، مكرسة للإلهة (إنانا)، التي تعد (أول المحاولات في الإلهيات المنتظمة)، ومولعة بالأطلاع على الأساطير والآثار السومرية القديمة. فتراتيلها أقدم أثر أدبي في التاريخ الإنساني، مكتوبة على الرُقم المسمارية قبل 4300 سنة. فقد كتبت قصائدها، بين عامي 2285 و 2250 قبل الميلاد، وعُثر عليها مكتوبة على ألواح فخار مطمورة في أماكن مختلفة في جنوب العراق. ربما كان أهم شيء بالنسبة "لإنخيدوانا" هو أنها (وقعت اسمها) على أعمالها الشعرية. وهذه من النوادر في الآداب القديمة أن يضع شاعر أسمه على كتاباته. فهي أول شخص في تاريخ العالم كتب شعراً ووقع على ما كتبه، وأعلن الملكية لمؤلفاته وأعماله وتصميمه، وسجل أسمه في قصيدة معلومة التاريخ، بعد أن كانت الكتابة مجهولة. لهذا يعدها الباحثون أول مخترعة للتوقيع. وأول مؤلف في التاريخ كتب بصيغة الضمير المفرد الأول، "أنا إنخيدوانا". تقول الكاتبة والمؤرخة "أماندا فورمان" (إنه أمر مثير للغاية: منذ آلاف السنين تم حجب فكرة "أنا" عن النساء، حتى بعد عصر "إنخيدوانا". ومع ذلك كانت هنا امرأة تتمتع بسلطة ومكانة لا تصدق وتطالب بعملها الخاص، منذ ما يقرب من 5000 عام).
في عام 2003 صدر كتاب بالإنكليزية عنوانه (إنانا السيدة ذات القلب الأرحب، قصائد الكاهنة العظمى إنخيدوانا) من تأليف الباحثة الأمريكية ”بتي دو شونغ ميدور” وهي محللة نفسية يونغية، ذات نزعة جنسانية، تعرفت مصادفة على شخصية "إنانا" فراحت تبحث عن كل ما يتعلق بها، وقادها البحث إلى التعرف على "إنخيدوانا" وشعرها، وصار بحثها عن "إنانا" يمتزج ببحثها عن "إنخيدوانا" حتى كأن كلاً منهما هي الأخرى. وواضح أن أهتمامات "ميدور" الجنسانية هي التي خلقت لديها هذا الشغف بالبحث عن طقوس الزواج المقدس لدى السومريين، وبإنانا حبيبة دموزي، وبأنخيدوانا التي بجلت "إنانا" وعظمتها. ولذا جاء كتابها عن "إنخيدوانا" وشعرها في سياق بحثها عن "إنانا"، وقد تضمن الكتاب ترجمة ثلاث قصائد طويلة من شعرها عن إنانا، مع تحليل وافٍ لكل منها.
لقد أرست الشاعرة "إنخيدوانا" تقليداً شعرياً من خلال كتاباتها، لا يزال يحتفظ به، وما تزال القصائد تؤلف على النمط الذي أبتكرته، في ثقافة بلاد الرافدين الحديثة، وتأثيرها على الأدب، منذ أكثر من أربعة آلاف عام. فقد أكدت دراسات الباحثين أن كتابات "إنخيدوانا" كانت ذات قيمة عالية وتنوع في الأسلوب، أستمر تأثيرها لقرون طويلة بعد وفاتها. فكانت قصائدها وترانيمها وصلواتها وتراتيلها عكست مشاعرها الشخصية،حول شؤون العالم وحياتها، فهي كل أعمالها تتحرك بضمير المتكلم. فهي تحاكي مشاعرها الشخصية عن العالم الذي عاشت فيه، في إحدى قصائدها تذكر:
(أنا مَن جَلَستَ مبتهجةً بالنصر هو من إندفع خارجاً من المعبد
كالسنونو جعلني أطير من النافذة
حتى ذهبت أنفاسي
لقد خلعني من التاج لكي أُوائم الكِهانة
وإعطاني خِنجراً وسَيّفاً
وقال لي: هكذا تكوني أنتِ)
يُنسب اليها إنشاء أشكال شعرية ومزامير وصلوات أدت إلى تطوير الأنواع الشعرية. فأحدثت مساهماتها في الأدب السومري ثورة في طريقة السرد القصصي، فكانت كتاباتها مصدر إلهام للأعمال الأدبية اللاحقة.
كانت "إنخيدوانا"، بإجماع الباحثين المختصين، (شاعرة موهوبة وقديرة، كتبت شعرها بلغة سومرية عالية، ويمتاز شعرها بسعة الخيال، وجمال التشبيهات، وحرارة العاطفة، وقوة التعبير عن حياتها الباطنية)، "سامي مهدي، آفاق نقدية، إنخيدوانا أقدم شاعرة معروفة في العالم". كانت تتحدث عن كيفية كتابتها للترتيلة، وعن الجمر الذي كانت تشعله بعد منتصف الليل، والذي يمنحها الإلهام، حيث كانت تؤلف على وهجه أغانيها.
تعتبر قصيدة “نن-مي-سارا” (تمجيد أنانا) من أشهر أعمال الشاعرة "إنخيدوانا" التي كتبتها في المنفى المتضمنه (تمجيد إنانا)، المؤلفة من 153 سطراً، فمن خلالها سجلت فيها عدة تفاصيل عن حياتها، فهي عبارة عن ابتهال أسهبت فيه عن وضعها كأعلى كاهنة، ومعاناتها عن طردها من أور، فهي تكريس شخصي للإلهة "أنانا"، في طلب العون والمساعدة لأنها طردت من منصبها من قبل المتمرد السومري "لوكال آن" الذي أجبرها على النفي الى الصحراء، الذي قام بمحاولة أنقلاب ضدها، خلال حكم أخيها "ريموش"، أجبرها على أن تُنفى الى الصحراء، ولم يُظهر الأحترام المناسب للآلهة ودنس معبد الآلهة العظيم. فهي تظهر توسلها للإلهة "إنانا" كي تعيد إليها مكانتها: (جعلني أمشي في أرض الأشواك، سلب مني الإكليل النبيل لمكتبي المقدس، أعطاني خنجراً وقال: هذا ملائم لك يا امرأة).
تقول "زينب بحراني" أستاذة تاريخ الفن وعلم الآثار في جامعة كولومبيا، ومؤلفة كتاب (نساء بابل: الجندر والتمثل في بلاد ما بين النهرين): "إنخيدوانا" تصف نفسها (كيف عوملت بأحتقار في أثناء الأنقلاب، وفي مقطع من القصيدة تتحدث عن تعرضها لما بدأ أنه أعتداء جنسي).
قام "ويليام هالو" و"فان ديك" بتحرير وترجمة هذه القصيدة من اللغة المسمارية الى الانكليزية عام 1968، ثم ترجمتها "أنيت زگول" عام 1997 إلى الألمانية.
شكلت هذه القصيدة (تمجيد إنانا) نصاً مهماً في مدارس المخطوطات. يقول عنها "سيدني بابكوك" مسؤول معرض (الكاتبة: إنخيدوانا ونساء ما بين النهرين 3400-2000 ق.م) في متحف مورغان في نيويورك :(يمكن القول إن القصيدة أصبحت جزءاً من النصوص المُعتمدة المتعارف عليها بوصفها مناهج أساسية، دُرست على مدار أكثر من 500 عام التالية في مدارس المخطوطات. نتيجةً لذلك، بلغنا ما لا يقل عن 100 نسخة مختلفة من قصيدة التمجيد). كذلك عدت القصيدة نصاً مقدساً في الأدب السومري حتى إن الطلبة والكتبة كانوا يدرسونه خلال العصر البابلي بعد 500 سنة من وفاتها.
أحتوت قصيدة (تمجيد إنانا) على جمالية الفكرة وكثافة الدلالات وتناسق اللغة وروحانية وعمق المعنى، (تمنح المتلقي مساحة واسعة للبحث عن جوانيتها داخل استعارات وتشبيهات ضمنية واخرى تخيلية أخذتنا في رحلة الى تاريخ بتفاصيل حددتها الشاعرة).
توجه الأسطر الـ 65 الأولى إلى الإلهة وصفاتها ومقارنة بكبير الهة سومر، ثم توضح عدم سعادتها أثناء وجودها في المنفى خارج المعبد، وتتكلم عن مدن أور وأوروك، وتطلب شفاعة "انانا"، ثم تسرد الأسطر من 122 وحتى 135 الصفات الإلهية لإنانا.
قصيدة "نن-مي-ساررا" (تمجيد إنانا)
(12-1 يا سيدة النواميس الإلهية كلها، النور المتوّهج، أيتّها التقيّة التي تكتسي بالإجلال، محبوبة السماء والأرض. سيدّة السماء، يامن تزّين صدرها الحلي العظيمة، التي تحب غطاء الرأس المناسب لكهنوتها. يامن تمسك بيدها النواميس الإلهية السبعة! يا سيدتي: أنت حارسة النواميس الإلهية العظيمة. يامن رفعت النواميس الإلهية وعلّقتها بيديها-
يامن جمعت النواميس الإلهية وضمّتها الى صدرها. لقد ملأت البلاد الغريبة بالسم الزعاف كالتنين. وأنت عندما تزأرين على الأرض يختفي الخضار وتصير الأرض قفار.
تهبطين كالطوفان على تلك الأراضي الغريبة،
ياقوة السماء والأرض.. يا إنانا.
أنت (انانا) السماء والأرض
19-13 يامن تمطرين البلاد بالنار الملتهبة.
يا من كرّمها الإله آن بالنواميس السماوية.
أيتها السيدة التي تمتطي الوحوش،
يا من تنطق بالكلمات المقدسة بأوامر آن المقدسة.
يامن تملكين الشعائر المقدسة العظيمة. من ذا الذي يسبر غورها.
يا مدمرة البلدان الأجنبية وواهبة الأجنحة للعاصفة.
حبيبة إنليل.. أنت من أنزّل الرعب على البلدان..
يا من تقف جاهزة لتنفيذ أوامر آن.
33-20 يا سيدتي – يا من تنحني أمام زئيرها خوفا كل البلدان الغربية. وعندما يمثل الناس أمامك، خائفين صامتين من نورك الوهاج وعاصفتك الفتّاكة.
يا من تمسكين زمام أكثر النوامسي الألهية رعباً.
بسببك أنت تنهمر الدموع خوفاً. وتسير الناس على طريق بيت الأحزان الكبرى سيراً.
صرعى أمامك كل البشر يستاقطون.
بقوتكّ ياسيدتي، الأسنان تسحق الصُوان.
حينما تهجمين، تشهبين العاصفة الهوجاء.
وتزأرين كما العاصفة وترعدين.
كل القوى أمام رياح غضبك تنهار، يا أيتها القوية الصامدة.
وأماك شخصك طبول النحيب يقرعون.
41-34 يا سيدتي، ان انونا الآلهة العظام، ينهزمون أمامك إلى الكهوف مثل خفافيش مرفرفة.
فلا قدرة لهم على الصمود أما نظرتك الحارقة. ولا يمكنهم الوقوف بوجه طلعتك المرعبة.
من ذا الذي يقدر على تهدئة قلبك الغاضب؟ فغضبك القاتل نارُ مستعرة لا تبرد.
هل يمكن أن يهدأ مزاجك، ياسيدتي.
مليكتي، هل يمكن أسعاد قلبك؟ يا أيتها البنت الكبرى لسوين. لا يمكن تهدأة غضبك.
59-42 يا أيتها الملكة الحاكمة المُطلَقة في البلاد الغريبة.
من له القدرة على إستلاب أي شيء من مملكتك؟
أمتّد سلطانك على كل السهول والجبال.
وحينما تغضبين على الجبال، تتيبس أعصانها وتصير قاحلة.
أضرمتِ النارَ ببواباتهم العظيمة،
وجرت أنهارُهم دماً بسببكِ، وصار شربه على ناسهم لزاماً.
وأنقادت جيوشهم طواعيةً إلى الأسر أمامكِ،
وتفرقّت وحداتهم أمام سطوتك طواعيةً،
ورجالهم الأقوياء طواعيةً خرّوا أمامكِ لخدمتك.
رياحك بعثرَت مدنهم وأمتلأت بالفوضى أماكن رقصهم.
ورجالهم البالغون سيقوا كأسرى أمامك.
أنت من أصدر ألأمر على المدن التي لم تعلن أنّها ملك لك.
وأيهما لم يعلن الولاء والطاعة يأتي صاغرا تحت أقدامك.
حلّ الفزع بين ظهرانيهم.
فلم تعد الزوجة بحديث الحب تسّر زوجها.
ولا تحدّثه ليلاً عن مكانه في قلبها.
يأيتها البقرة الجامحة البريّة.. الأبنة الكبرى لسوين ( إله القمر).
يا من تفوق بعظمتها الإله آن.
من ذا الذي يجرؤ على أستلاب أي شيء من مملكتك؟
65-60 يا ملكة الملكات العظيمات،
يا من ولدت من الرحم المقدس للنواميس الإلهية.
يا من أصبحت أعظم من أمك التي أنجبتكِ
لحظةَ خرجتِ من الرّحم المقدس،
عارفة، حكيمة، وملكة على كل البقاع الغريبة.
يا مانحة الحياة لكل البشر المزدحمين.
سأتغنّى بأغنيتكِ المقدّسة!
أيتها الإلهة المناسبة حقاّ للنواميس الإلهية.
رائعة كلماتك البهيّة ياسيدتي.
سيدتي ياكبيرة القلب الطيب.
دعيني أذكر خصائلك ونوامسيك الإلهية لك.
73-66 أنا –أنا الكاهنة، إنخيدوانا- دخلتُ أمامكِ إلى معبدي المقدس جيبارو لخدمتك.
حاملةً سلّة البخور وأنشدُ ترنيمتكِ السعيدة.
ولكنّ نذور العزاء كانت زادي وكأنني لم أعِش هناك يوماً.
حلّ النهار وأحرقتني الشمس
وأتى ظلّ الليل، ومعه غطّتني العاصفة القوية.
وفمي الحلو كالعسل صار مرأً كالسم الزعاف.
وقلّت حيلتي على تهدئة الأمزجة
80-74 هلاّ أخبرتي آن عن قدري وعن ما فعله لوغال؟
لعلّ آن يخلصني،
ويقلبُ السحرَ على الساحر ويحرّرني.
فالمرأة ستخلصني من آن ..
تلك السيدة التي تقف الأراضي الغريبة والفيضان تحت أقدامها.
انّها ممجدة هي الأخرى.. ويمكنها أن ترعب المدن.
تقدّمي من أجلي.. علّ قلبها يحّن الي.
90-81 أنا إنخيدوانا، أصلّي إليك، إنانا،
اليّك يا إنانا المقدّسة.
ساُنزِلُ دموعي كشراب حلو.
وسأخبرها عن قراركِ.
لا تقلقي حول اشيمبابار.
وفيما يتعلّق بطقوس التطهير للإله آن المقدّس.
لوغال آن هو من غيّرَ ودنَّس.
وهو لوغال من جرّد آن من الكهنوت المقدّس.
فلم يرتعب ولم يخف من الإله الأعظم.
بيده أضحى خراباً،
ذلك المعبدـ جاذبيته
ولايتنهي جماله للأبد.
وقد سبقني في الدخول الى معبدي المقدس
وكأنه شريك لي. ولكنّه الحسد.
108-91 يا بقرتي البرّية المقدسة الطبية. أخرجي المعتدي وأسّريه.
أين مكاني الأن وسط المكان المقدّس؟
ليقتلع آن الأرض التي تمرّدت بخبث ضد نانا!
ليحطّم آن تلك المدينة!
وليلعنها إنليل.
لتنقطع مشيمة كل طفل فيها من رحِم أمه.
سيدتي! ها قد بدأ النواح!
أتضرّع اليك أن تتركي سفينة نواحك في أراضي العدو.
هل يجب عليّ أن أموت بسبب أغنيتي المقدسة؟
لقـد أهملنـي إلهـي نانا
أخذني للخراب- حطّمني بالكامل
ورماني في أراضي المارقين.
أشيمبابار لم يصدر حكما ضديّ.
إن فعل ذلك، لما أهتم؟
ولو فعل، لما أكترث؟
لقد وقف لوغال منتشياً بالنصر في معبدي المقدس.
ورماني خارج أسواره.
صيّرني هاربة كالسنونو من النافذة.
خارت كل قواي.
جعلني أمشي بين العليق في الجبال
عرّاني من الإكليل– الحق لكاهنة عليا
ناوَلني خنجراً وسيفاً
وقال:
أديريهما صوب جسدكِ
قد وجدا لكِ.
121-109 ياسيدتي الثمينة يامحبوبة آن.
ما أعظم قلبُك. ليخفف همّي نيابة عني.
يأتها الزوجة المحبوبة لدوموزي،
أنت سيدّة الأفق العظيمة وقمّة الأرض.
أستسلمت كل الإلهة أمامك.
ومنذ أن ولدت، كنت أنت الملكة الصغيرة.
اُنظري كيف ترتقين فوق كل الإلهة الكبرى،
التي تقبلّ تراب الأرض الذي تدوسين.
ولكنّ حكمي لم ينتهِ لحد الآن،
رغم معاناتي من حكم عدو يطوقنّي وكأنه حكمي.
لم أتعدَّ على السرير المزخرف بالورود.
ولم أكشف أسرار نينغال لأي شخص.
يا سيدتي يا محبوبة آن.
هلاّ عطفت علي.
هل يحن قلبك على الكاهنة العليا لنانا!
138-122 ليكم معلوما ً ! ليكن معلوماً!
لم تتكلّم نانا لحد الأن.
لقد قال " بأنه تحت تصرفك"
ولم يكن معلوما بأنك شامخة كالسماء.
ولكين معلوما بأنك واسعة كالأرض.
وليكن
بأنك من يحطّم أراضي المتمردين.
وليكن معلوماً بأنك على الأراضي الغريبة تزأرين.
وليكن معلوماً بأنك رؤوسهم تسحقين.
وليكن معلوماً بأنك لجثثهم كالكلاب تمزّقين.
وليكن معلوماً أنك لنظراتك المرعبة توزعين.
وليكن معلوماً أنك لعينيك المخيفة تفتحين.
وليكن معلوماً بأن عينيك بالرعب تبرقان.
وليكن معلوماً بأنك لا ترتعدي ولعدوك لا تستسلمين.
وليكن معلوماً بأنك دوماً بنصرك تحتفين.
نانا لم يتكلم لحد الآن. وبأنه حينما قال بأنه " تحت تصرفك".
قد جعلك عظمة على عظمةٍ تزدادين.
يا سيدتي! ها قد أصبحت أعظم العظماء!
سيدتي يا محبوبة آن . سأتحدث عن كل غضبك.
لقد كومت الفحم في المبخرة وحضرّت شعائر التطهير.
وأضحى بأنتظارك.
عسى ولعل أن يرّق قلبك علي.
139-143 وبما أن الأمر أكتمل ! أكتمل بالنسبة لي، ياسيدتي المبجلة المقدّسة.
عسى أن يعيد الكاهن المنشد في وضح النهار
ما تلوته اليك من صلوات في آخر الليل.
154-144 السيدة القوية المحترمة في تجمع القادة،
تقبّلت صلواتها ونذورها.
وحنّ قلب إنانا المقدّس عليها وهدأ.
والضوء جميلاً قد أضحى،
وملأتها الفرحة.
وهي تكتسي بالحسن وتزخر بفتنة الأنوثة.
وصارت مبتهجة كضوء القمر البازغ .
وخرجت نانا لتحدّق فيها جيداً،
وباركتها الأم نينجال.
ليعش مجدُكِ يامدمرة الأراضي الغريبة.
يامن منحك الإله آن النواميس الإلهية.
الى سيدّتي التي تكتسي بالحسن و الجمال،
الى إنانا).
أشتهرت "إنخيدوانا" بأعمال أدبية أخرى، بالأضافة الى نصها "نين مي سار را" (تمجيد إنانا)، الذي يتألف من 153 سطراُ. هناك نصان أخران منسوبان لها وهما "إن نِن سا غور را"، وتعني (العاشقة كبيرة القلب) مكونة من 274 سطراُ"، وهي غير مكتملة، قام "سوبيرغ" بتحريرها عام 1976. و"إن نِن مي هوس آ" وتعني (إلهة القوى المخيفة). ترجمت من قبل "ليمِت" عام 1969. وفي كل واحد من هذه الأعمال، تتكلم بصيغة الشخص الأول وليس صيغة الشخص الثالث.
أضافة الى تراتيل كتبت لكل معبد من المعابد الرئيسية في مدن سومر وأكد والبالغ عددها 42 ترتيلة دينية، وهذه المجموعة من التراتيل تعتبر من قبل الباحثين كأول محاولة لتنظيم الدين (اللاهوت)، وفيها ذكرت "إنخيدوانا" بنفسها بأنها الأولى من نوعها: (مَليكي شَيئاً ما قَد صُنِع لَم يُصنع مثله قبلاً). يقول عنها المؤرخ "ستيفن بيرتمان" : (تزودنا الترانيم بأسماء الآلهة الرئيسية التي عبدها سكان بلاد ما بين النهرين، وتخبرنا أين كانت معابدهم الرئيسية. هذه الصلوات هي التي تعلمنا عن الإنسانية، لأننا نواجه في الصلوات الآمال والمخاوف من الحياة البشرية اليومية).
ويعود الفضل الى "إنخيدوانا" في إنشاء نماذج من الشعر والمزامير والصلوات المستخدمة في جميع أنحاء العالم القديم والتي أدت إلى تطور الأنواع المعترف بها في الوقت الحاضر.
ترجمت أعمالها هذه من قبل فريق من خبراء اللغات القديمة في جامعة (بركيلي) بكاليفورنيا نثراً، قبل أن تصاغ الترجمة شعراً إلى الإنكليزية على يد الباحثة في آداب بلاد الرافدين "بيتي دي شونغ ميدر". أما عالم السومريات ”صموئيل نوح كريمر” والشاعرة “ديان وولكستين” قاما بترجمة أعمالها وجمعها في سرد موحد تحت عنوان (إنانا ملكة السماء والأرض) ونشرتها(دار هاربر بيرنيال) عام 1983، وكانت نسخة "وولكستين" مصدر إلهام لعدة أعمال شعرية أخرى كـ(ملكة السيوف) للشاعرة "جودي غران"، و(بين الآلهات) "لآنّ فينتش".
أما قصيدتها (رثاء لروح الحرب) أو (ندب روح الحرب) هي أول قصيدة مسجلة رداً على الحرب وأهوالها كما وصفتها.
(تطحنُ كلَ شيء في المعركة ....
إله الحرب، بأجنحتك الشرسة
تقطّعُ الأرضَ وتشنّ هجوماً
متنكرا في زي عاصفة مستعرة،
تذمر كإعصارٍ هديرٍ،
تصرخُ كما العاصفة،
رعدٌ، غضبٌ، هديرٌ،
كصوت طبول الحرب،
تطرد الرياح الشريرة!
تمتلئ قدماك بالقلق!
على قيثارة تنهداتك،
أسمع صراخك بصوت عال.
مثل الوحش الناري تملأ الأرض بالسم.
كما الرعد تهدرُ على الأرض،
تتساقط الأشجار والشجيرات أمامك.
أنت دم يهرول أسفل الجبل،
روح الكراهية والجشع والغضب،
المسيطر من السماء والأرض!
نيرانك ترفرف على أرضنا،
ممتطية وحش،
مع الأوامر التي لا تقهر،
عليك أن تقرر كل مصير.
أنت تنتصر على جميع طقوسنا.
من يستطيع أن يشرح لماذا تستمر في ذلك؟).
وفي ترنيمة الى انانا (العاشقة صاحبة القلب الكبير)، تكمن العاطفة والحماس:
(أنت رائعة، يُمتَدَحُ اسمك، أنت وحدك الرائعة!
سيدتي ... أنا لك! هكذا سأظلّ الى الأبد. ! عسى أن يحُّنُ قلبك عليّ!
الهويتُكِ أًزهرًت في الأرض! شهد جسدي عقابك الكبير.
الرثاء، المرارة، الأرق، الضيق، الانفصال ... الرحمة، العطف، الرعاية،
إن التسامح والتكريم من شيمك.
ولك القدرة على التسبب في الفيضانات وقهر الأراضي العصيّة وتحويل الظلام الى نور).
ومن نصوص الشاعرة "إنخيدوانا" الاخرى، ترتيلة في مدح إلهة الحب والحرب انانا (عشتار)، التي تؤكد انها حظيت بقبول الإلهة انانا، التي عرفت في المعتقدات السومرية بهذا الاسم، أم عند الأكديين، عرفت باسم "عشتار"، التي تحولت من مجرد إلهة محلية للطبيعة، والحياة، والخصوبة، إلى ملكة السماء. فكانت الإلهة الأكثر شعبية في جميع بلاد الرافدين.
يقترن اسم عشتار في أدب العراق القديم باسم الراعي "دموزي". فهو حبيبها وزوجها وشريكها في طقس أحتفالي سنوي كان ملوك العراق القديم يقيمونه في الربيع لكي تنعم البلاد بالخصب، هو ما يعرف بطقس (الزواج المقدس).
وكانت "إنخيدوانا" (عظمت إيننا وأسبغت عليها من الصفات، ونسبت إليها من القوى والقدرات، ما يضعها في قمة البانثيون الرافديني)، فهي تشعر بوجود صلة حميمة عميقة بينها وبين "إيننا"، وتعتقد أن حياتها ومصيرها يتوقفان على هذه الصلة، ولعل هذا هو سر تعلقها بها وتعظيمها لها. هذه الترتيلة طويلة تحتوي على أدعية ومدائح موجهة إلى الإلهة مستعرضة قدراتها الكبيرة على إنزال العقاب والدمار، فهي العاصفة المدمرة التي يرتعش لهولها البشر وهي إلهة الحرب الغاضبة التي لا يعرف قلبها الرحمة والتي ينهزم أمامها الآله مثل الخفافيش. في قصيدتها (تسبيح من أجل إنانا) التي تعتبر من أهم أشعارها تتحدث بلسان الأنا في قصيدتها، التي تتألف من 153 بيتاً.
"تسبيح من أجل إنانا"
(يا ملكة كل شيء، أيتها الضوء المتوهّج/أيتها المرأة الواهبة للحياة/
…
أنتِ يا من تجلبين الطوفان من الجبل،/أيتها الشاهقة، يا إنانا السماء والأرض،/يا من تمطرين ناراً ملتهبة على القفار/يا من بعثها إليّ الإلهُ (آن)،/أيتها الملكة التي تمتطي الوحوشَ/والتي نطقت بالكلمات المقدسة/تنفيذاً لأوامر (آن) المقدسة،/من يستطيع أن يسبرَ شعائركِ المقدسة!/يا مدمّرة الأراضي الأجنبية/منحتِ الأجنحةَ للعاصفة،/
حبيبة (أنليل)- وجعلتها تهبّ على الكون،/وحملتِ أوامر (آن)./مليكتي،/
الأراضي الغريبة تطأطأ أمام صرختكِ،/رعباً وخوفاً من الريح الجنوبية أتى البشرُ/إليكِ بضجيجهم الملتاع/حملوا صراخهم إليكِ/ووقفوا أمامك يولولون وينتحبون/وأمامكِ جلبوا النحيبَ العظيم لشوارع المدينة./
…
مليكتي،/أنتِ الافتراسُ كلّه في قوّتكِ/وظللتِ تهاجمين مثل ريح مهاجمِة،/وظللتِ تعولين أعلى من الريح المعولة،/وظللتِ ترعدين أعلى من الرعد،/وظللتِ تئنّين أعلى من الرياح الخبيثة،/قدماكِ لا يمكن أن يصيبهما الإعياء/وجعلتِ الولولة تُعزف على "قيثارة النحيب."/مليكتي،/جميع الآلهة العظام/فروا أمامكِ مثل خفافيش مرفرفة،/لم يستطيعوا الوقوف أمام وجهك المهيب،/لم يستطيعوا الاقتراب من جبينكِ المهيب،/من يستطيع أن يهدّئ قلبكِ الغاضب!/قلبكِ المهلِك لا يمكن تهدئته!/أيتها الملكة، يا سعيدة الروح،/ يا فرِحة القلب،/يا من لا يمكن تهدئة غضبها، يا ابنة الإثم،/يا ملكة، يا الحاكمة المُطلَقة في البلاد،/
من قدّم ولاءً كافياً لكِ!/الجبل الذي امتنع عن تقديم الولاء لكِ/يبست أعشابه وصارت قاحلة،/أضرمتِ النارَ ببواباته العظيمة،/أنهارُه جرت دماً بسببكِ،/وناسُه نشفَت مياههم،/جيشهُ انقادَ طواعيةً إلى الأسر أمامكِ،/قواته تفرّق شملها طواعيةً أمامكِ،/ورجاله الأقوياء طواعيةً خرّوا أمامكِ،/أماكن اللهو في مدنه امتلأت بالفوضى/ورجاله البالغون سيقوا كأسرى أمامك./
…
يا ملكة الملكات العظيمات،/يا من أصبحت أعظم من أمك التي أنجبتكِ/
لحظةَ خرجتِ من الرّحم المقدس،/عارفة، حكيمة، وملكة على كل البقاع،/يا من ضاعفتِ كل المخلوقات الحية والبشر/لقد نطقتُ بأغنيتكِ المقدّسة./أيتها الإلهة الواهبة للحياة، المولودة للألوهة،/يا من أسبّح تهليلها،/الرحيمة، المرأة الواهبة للحياة، يا مشعّة القلب،/لقد نطقتُ بأغنيتي أمامك حسب ما يناسبُ ألوهتكِ/دخلتُ أمامكِ إلى معبدي المقدس،/أنا الكاهنة، إنخيدوانا،/
حاملةً سلّة البخور، أنشدُ ترنيمتكِ السعيدة،/لكنني الآن لم أعد أسكن المعبد المقدس الذي شيدته يداك./
أتى النهار، وجلدتني الشمس/وأتى ظلّ الليل، وأغرقتني الريح الجنوبية/
صوتي الرخيم الحلو كالعسل صار نشازاً/وكل ما أعطاني المتعة تحول إلى غبار./آه، أيها الإثم، يا ملك السماء،/ياقدري المرير،/إلى الإله (آن) بلّغي شكواي، و(آن) سوف يخلّصني/
…
أنا إنخيدوانا، أتضرّع إليك، إنانا،
ودموعي مثل شراب حلو.
…
أنا، من أنا بين المخلوقات البريّة!
…
أه، أيتها الملكة التي ابتكرت النواح
مركبُ النواح سيرسو في أرض معادية
وهناك سأموت، أنشدُ الأغنية المقدسة.
…
أوه، إنانا، المجدُ لكِ!)
تبدأ الشاعرة "إنخيدوانا" قصيدتها "تسبيح من أجل إنانا" بوصف مطول، لشخصية الإلهة "إنانا"، وخصائصها الإلهية، وتقدم للقارئ صورة عن تنوع نشاطها كالإلهة-الملكة، رافعة من شأنها إلى مرتبة كبير الآلهة "آن".
(يا ملكة كل شيء، أيتها الضوء المتوهّج/أيتها المرأة الواهبة للحياة)
(أيتها الملكة، يا سعيدة الروح،/يا فرِحة القلب)
(يا ملكة الملكات العظيمات،/يا من أصبحت أعظم من أمك التي أنجبتكِ/
لحظةَ خرجتِ من الرّحم المقدس،/
عارفة، حكيمة، وملكة على كل البقاع،/يا من ضاعفتِ كل المخلوقات الحية والبشر/لقد نطقتُ بأغنيتكِ المقدّسة./أيتها الإلهة الواهبة للحياة، المولودة للألوهة،/يا من أسبّح تهليلها،/الرحيمة، المرأة الواهبة للحياة، يا مشعّة القلب،/لقد نطقتُ بأغنيتي أمامك حسب ما يناسبُ ألوهتكِ/دخلتُ أمامكِ إلى معبدي المقدس).
تشير "إنخيدوانا" في القصيدة إلى أن الالهة "إنانا" على مستوى واحدة مع الإله "آن"، كبير الآلهة لدى السومريين.
(يا من بعثها إليّ الإلهُ "آن"،/أيتها الملكة التي تمتطي الوحوشَ/والتي نطقت بالكلمات المقدسة/تنفيذاً لأوامر "آن" المقدسة،/من يستطيع أن يسبرَ شعائركِ المقدسة!/يا مدمّرة الأراضي الأجنبية/منحتِ الأجنحةَ للعاصفة،/حبيبة "أنليل"- وجعلتها تهبّ على الكون،/وحملتِ أوامر "آن").
تعود الشاعرة "إنخيدوانا" إلى ضمير الغائب في سياق تمجيدها وتسبيحها لإلهة الحب والحرب. حيث تنتقل إلى تصوير "إنانا" وهي (تؤدب) الجنس البشري بوصفها إلهة الحرب. وهي بذلك تدمج بين الصفات الحربية للالهة الأكدية عشتار، وتلك الخصائص اللطيفة التي تميز إلهة الحب والخصوبة لدى السومريين.
(مليكتي،/الأراضي الغريبة تطأطأ أمام صرختكِ،/رعباً وخوفاً من الريح الجنوبية أتى البشرُ/إليكِ بضجيجهم الملتاع/حملوا صراخهم إليكِ/ووقفوا أمامك يولولون وينتحبون/وأمامكِ جلبوا النحيبَ العظيم لشوارع المدينة).
وتشبه الالهة "إنانا" بطائر العاصفة الذي ينقض على الآلهة الآخرى ويفرق شملهم كالخفافيش.
(مليكتي،/جميع الآلهة العظام/فروا أمامكِ مثل خفافيش مرفرفة،/لم يستطيعوا الوقوف أمام وجهك المهيب،/لم يستطيعوا الاقتراب من جبينكِ المهيب،/من يستطيع أن يهدّئ قلبكِ الغاضب!/قلبكِ المهلِك لا يمكن تهدئته!).
وتنتقل "إنخيدوانا" لتصف أمجادها الماضية، مستخدمة ضمير المتكلم، وذلك في أكثر مقاطع القصيدة جمالاً ومتعة.
(لقد نطقتُ بأغنيتكِ المقدّسة./أيتها الإلهة الواهبة للحياة، المولودة للألوهة،/يا من أسبّح تهليلها،/الرحيمة، المرأة الواهبة للحياة، يا مشعّة القلب،/لقد نطقتُ بأغنيتي أمامك حسب ما يناسبُ ألوهتكِ/
دخلتُ أمامكِ إلى معبدي المقدس،/أنا الكاهنة، إنخيدوانا،/حاملةً سلّة البخور، أنشدُ ترنيمتكِ السعيدة،/لكنني الآن لم أعد أسكن المعبد/ المقدس الذي شيدته يداك).
كما أنها تكتب عن معاناتها في المنفى بعد أن نُفيت من قبل المتمرد السومري "لوكال آن" وهي كاهنة عليا من المعبد في مدينة أور، ومن أوروك، إلى الصحاري القاحلة.
(لكنني الآن لم أعد أسكن المعبد/المقدس الذي شيدته يداك./أتى النهار، وجلدتني الشمس/وأتى ظلّ الليل، وأغرقتني الريح الجنوبية/
صوتي الرخيم الحلو كالعسل صار نشازاً/وكل ما أعطاني المتعة تحول إلى غبار./آه، أيها الإثم، يا ملك السماء،/ ياقدري المرير،/إلى الإله "آن" بلّغي شكواي، و"آن" سوف يخلّصني).
ثم نراها تتوسل لإله القمر، "إنانا"، للتوسط من أجلها.
(أنا إنخيدوانا، أتضرّع إليك، إنانا،
ودموعي مثل شراب حلو.
…
أنا، من أنا بين المخلوقات البريّة!
…
أه، أيتها الملكة التي ابتكرت النواح/
مركبُ النواح سيرسو في أرض معادية/وهناك سأموت، أنشدُ الأغنية المقدسة).
كذلك نظمت بعض التراتيل في مدح إلهة الحب والحرب انانا (عشتار):
(يا سيدة النواميس الإلهية كلها، النور الساطع.
المرأة واهبة الحياة التي تكتسي بالإجلال، محبوبة السماء والأرض.
كاهنة الإله آنو، ذات الحلي العظيمة.
التي تمسك بيدها النواميس الإلهية السبعة.
يا سيدتي: أنت حارسة النواميس الإلهية العظيمة.
أنت التي رفعت النواميس الإلهية وأنت علقت النواميس الإلهية في يدك.
لقد ملأت البلاد بالسم الزعاف كالتنين.
وأنت عندما تزأرين على الأرض يختفي كل ذي حضرة من سطحها.
يا صاحبة المقام الأول، أنت (انانا) السماء والأرض.
تمطرين البلاد بالنار الملتهبة.
يا مدمرة البلدان الأجنبية لقد أعطيت أجنحة للعاصفة.
يا سيدتي ان البلدان الأجنبية تنحني خوفاً من صرختك.
وعندما يمثل الناس أمامك، خائفين مرتعشين من نورك الوهاج فانهم ينالون منك جزاءهم العادل.
يا سيدتي، ان انونا الآلهة العظام، ينهزمون أمامك إلى الكهوف مثل خفافيش مرفرفة.
أيتها الرحيمة، المرأة واهبة الحياة، صاحبة القلب النير ها قد أنشدتها أمامك بموجب النواميس الإلهية.
ودخلت أمامك في الكيبار المقدس. أنا الكاهنة العظمى انخيدوانا.
حملت سلة الطقوس وأنا أشدو ـ ولكني الآن لم أعد أسكن في المكان المريح الذي أقمته لي.
فإذا ما حل النهار، حرقتني الشمس، وإذا ما حلَّ ظلام الليل حدقت بي ريح الجنوب.
لقد أضحى صوتي العذب مضطرباً ـ وتحول كل ما يسعدني إلى تراب.
أنا انخيدوانا، سوف أتلو الصلوات لها ـ وأقدم دموعي كالشراب العذب إلى انانا المقدسة وأسلـّم عليها.
يا سيدتي، يا محبوبة الإله آنو، عسى أن يرق عليّ قلبك.. أنت معروفة، أنت معروفة (بعظمتك)، وما أنشدته لم يكن من أجل آنو، بل من أجلك أنت، لقد كومت الفحم (في المبخرة) وأقمت الشعائر.
وان ما تلوته عليك في منتصف الليل ـ عسى ان يعيده عليك الكاهن ـ المنشد في منتصف النهار.
السيدة الأولى، يا عماد قاعة العرش، تقبلت صلواتها ـ واستعاد قلب انانا راحته.
كان يومها سعيد، وهي تكتسي بالحسن وتزخر بفتنة الأنوثة.
المجد إلى سيدتي انانا، التي تكتسي بالحسن).
كان هم الأميرة الأكدية "إنخيدوانا" التي كتبت قصائدها في اللغة السومرية، بث روح التسامح والألفة فلم تهجوا أحداً رغم المآسي التي حلت بها ونفيها من أور، كتبت قصيدتها (نفي من أور) التي تحمل ذاتيتها كشاعرة نُفيت من مدينتها وأزيحت من منصبها الكهنوتي.
(نفي من أور)
(سألتني أن أدخل المعبد المقدس
الـ(كَيبارو) - معبد زقورة أور العظمى-
ودخلتُ، أنا الكاهنة العليا
انخيدوانا
حاملة قُـفّــة الطقـوس، ورتّلـت
أدعيتك.
منبوذة الآن بين المجذومين
حتى ماعاد بمقدرتي أن أحيا معك
ظلال تدنو من ضوء النهار،
النور اسّود حولي.
أفياء تقرب من بياض النهار
تغشيه بعاصفة رمل.
وفمي العذب من الشهد.. بَهُت بغتة
وجهي الحلو.. هباء
إدانة إله القمر نانا
أما أنا، فقـد أهملنـي إلهـي نانا
أخذني للخراب
لدروب الخطيئة
أشيمبابار لم يظلمني
إن فعل ذلك، لما أهتم؟
لو فعل، لما أكترث؟
أنا انخيدوانا
كنتُ المظفرة.. المبجلة
لكنه ساقني من حَرَمِي
صيّرني هاربة كسنونوة من النافذة.
حياتي في سعير
جعلني أمشي بين العليق في الجبال
عرّاني من الإكليل– الحق لكاهنة عليا
ناوَلني خنجراً وسيفاً
وقال:
أديريهما صوب جسدكِ
قد وجدا لكِ).
***
حسين عجيل الساعدي
.........................
مصادر البحث:
- بيتي دي شونج ميدور، إنانا سيدة القلب الأكبر: قصائد الكاهنة السومرية العليا إنهيدوانا، ترجمة الأستاذ كامل جابر عام 2009.
- بيتي دي شونج ميدور، الأميرة، الكاهنة، الشاعر: تراتيل المعبد السومري في إنهيدوانا، جامعة تكساس (2009).
- وليام وولفغانغ هالو، تمجيد إنانا، جامعة ييل (1986)
- جانيت روبرتس، إنهدوانا، ابنة الملك سرجون: الأميرة، الشاعر، الكاهنة، (2004)
- سيرجي ماركوف، إنخيدوانا : سيرة ذاتية، إنخيدوانا - أوّل شاعرة ومؤلفة في التاريخ
- الكاتبة الاميركية فيكي ليون، نساء متميزات في العصور القديمة
- عزة علي أحمد جاد الله، الأميرة أنخيدوانا ابنة الملك سرجون الأكدي (الكاهنة-الكاتبة). مجلة مركز الدراسات البردية والنقوش،مج. 2017، ع34، ص381-417.
- طه باقر، في تاريخ الحضارات القديمة
- سامي مهدي، آفاق نقدية. إنخيدوانا أقدم شاعرة معروفة في العالم.
- سعيد الغانمي، فاعلية الخيال الأدبي، محاولة في بلاغيّة المعرفة من الأسطورة حتى العلم الوصفي.
- عبد الله حسين جلاب، قصيدة النثر تواقيع.
- الموسوعة الحرة ويكيبيديا
- صالح حميد، نساء عظيمات من تاريخ وادي الرافدين
- الدكتور بهنام ابو الصوف، الكتابة والتدوين في بلاد سومر منجزات بلاد الرافدين
- الدكتور بهنام أبو الصوف، التاريخ من باطن الارض.
- الدكتور دنحا طوبيا كوركيس، أنخيدوانا الأكدية أول شاعرة في تاريخ البشرية.
- إنخيدوانا شاعرة سومر- مقالات مترجمة حول أول شاعرة في التاريخ المؤلف: مجموعة من الباحثين ترجمها قاسم محمد الأسدي.
- د. إحسان هندي،اشهر شاعرات الحب في بلاد الشرق والغرب
- جوشوا ج. مارك، النساء في بلاد ما بين النهرين القديمة، ترجمة سامي الاطرش