قراءات نقدية

قراءات نقدية

ارسل لي صديق "فيسبوكي" من اهالي مدينة خانقين، وهو محب للادب وعالم السرد، كتب يطلب مني كتابة مقال عن الروايات واهم انواعها، والفروقات بين أنواع الكتابة، وما هي اهم أدواتها، وكيف يمكن ان نكتب رواية يمكن ان تحدث أثرا مهما في الجمهور المثقف الواعي المحب للكتب والكتابة، ويحثني ويشجعني في كتابة مقال، لأن هناك فئة واسعة تريد ان تدخل عالم السرد الروائي لكنها فاقدة للمعرفة، فيكون المقال لفتح الابواب المعرفية أمام من يريد ان يكتب رواية، فقررت ان استجيب لطلب صديقي واكتب مقالا مطولا أوضح فيه مطالب صديقي الفيسبوكي، وابين فيه الاهم لمن يرغب ان يكتب رواية، وقد وضعت اهتمامي حسب ما اجده الأكثر تأثيرا من انواع الروايات.

الروايات يمكن ان تنقسم إلى عدة أنواع، حيث تتنوع بناءً على المواضيع والأساليب والأهداف الأدبية.

ومن أهمها: الرواية الواقعية والرواية التاريخية والرواية النفسية والرواية الرومانسية و الرواية البوليسية، وسنتكلم عن هذه الأنواع الخمسة المهمة حسب وجهة نظري.. نعم هناك انواع مثل، و الرواية الفانتازية، و الرواية السيرة الذاتية، و الرواية العلمية، والرواية الاجتماعية، والرواية الملحمية، لكن توجهت فقط عن الانواع الخمسة الاولى التي اجدها اهم.. وإليك أيها القارئ تفاصيل الأنواع الرئيسية الخمسة للروايات:

اولا: الرواية الواقعية:

وهي تركز على تصوير الحياة اليومية والواقع الاجتماعي والسياسي، وغالبًا ما تستند إلى أحداث حقيقية، والرواية الواقعية تعتمد على مجموعة من الأدوات والتقنيات الفنية التي تساعد في بناء السياق وتقديم الشخصيات والأحداث بشكل واقعي ومعبر. إليك بعض الأدوات الأساسية التي تُستخدم في الرواية الواقعية... وهي:

1- الشخصيات: وهي متعددة الأبعاد؛ أي أن لها صفات، دوافع، وصراعات تجعلها تبدو واقعية، ويجب أن تكون الشخصيات قادرة على التطور والنمو خلال الأحداث.

2- الحوار: الحوار يُستخدم لنقل الأفكار والمشاعر بين الشخصيات، كما يساعد في بناء العلاقات وتقديم الشخصيات بشكل أكثر واقعية، ويجب أن يكون الحوار طبيعيًا ويعكس طريقة كلام الشخصيات في الحياة اليومية.

3- الوصف: استخدام أوصاف دقيقة للأماكن، الأشخاص، والأحداث، وهذه الأوصاف تساعد القارئ في تصور البيئة والشخصيات وتخلق صورة واقعية في ذهنه.

4- الزمان والمكان: تحديد الزمان والمكان الأحداث بشكل دقيق، مما يساعد على وضع القارئ في سياق القصة، ويمكن أن يتضمن ذلك تفاصيل حول الثقافة، العادات، والأحداث التاريخية.

5- وجهات النظر: استخدام وجهات نظر متنوعة (أول شخص، ثالث شخص) لتقديم تجارب الشخصيات بشكل مختلف، مما يعكس واقع الحياة من زوايا متعددة.

6- الاحداث: التركيز على أحداث الحياة اليومية وتجارب الشخصيات، بدلاً من الاعتماد على أحداث خيالية أو خارقة.

7- التفاصيل الحسية: إدراج تفاصيل حسية (رؤية، سمع، لمس، شَم) لإضفاء عمق على التجارب وتقديم أبعاد إضافية للشخصيات والأحداث.

8- المشاعر: التعبير عن المشاعر الداخلية للشخصيات بشكل واقعي، مما يساعد القارئ على التعاطف مع ما يمر به الشخصيات.

9- القضايا الاجتماعية: معالجة قضايا اجتماعية حقيقية مثل الفقر، التمييز، والحقوق الإنسانية، وهذا يساهم في تعزيز الصلة بين القارئ والعالم الخارجي.

10- البنية: الهيكل الزمني للأحداث يجب أن يكون منطقيًا، ويمكن أن يتضمن استخدام الفلاش باك (flashback) لاسترجاع الذكريات التي تساهم في فهم الحاضر.

تساعد هذه الأدوات في تقديم رواية واقعية تعبر عن تجارب الإنسانية بشكل صادق، وتسمح للقارئ بالتفاعل مع القصة بشكل عميق.

ثانيا: الرواية التاريخية:

تدور أحداثها في فترات زمنية سابقة، وغالبًا ما تستند إلى أحداث وشخصيات تاريخية مع إضافة عناصر خيالية..والرواية التاريخية هي نوع من الأدب يدمج بين السرد الخيالي والأحداث التاريخية الحقيقية. هنا بعض الأدوات والمكونات الأساسية التي تساعد في كتابة رواية تاريخية.. وهي:

1- البحث التاريخي: إجراء بحث دقيق عن الفترة الزمنية والمكان الذي تتمحور حوله الرواية. هذا يشمل قراءة الكتب التاريخية، الوثائق، والمقالات، بالإضافة إلى مصادر ثانوية مثل السير الذاتية.

2- شخصيات تاريخية: دمج شخصيات تاريخية حقيقية مع شخصيات خيالية. يمكن أن يلعب الشخصيات التاريخية دورًا في تطور القصة بينما يمثل الأبطال الخياليون الأصوات والآراء الجديدة.

3- الإعداد الجغرافي والتاريخي: وصف الأماكن والأحداث المرتبطة بها بشكل دقيق، مما يساعد القراء في تصور البيئة. يجب مراعاة العادات، الملابس، والفنون المستخدمة في تلك الحقبة.

4- اللهجة واللغة: استخدام اللغة أو الحوار المناسب للفترة الزمنية، مع مراعاة الفروق الثقافية واللغوية. قد يتطلب ذلك تطوير لهجة معينة أو استخدام تعبيرات تاريخية.

5- الأحداث التاريخية: دمج الأحداث التاريخية في سرد الرواية بشكل يساهم في تطوير القصة، مما يجعلها غنية بالمعلومات ومشوقة في الوقت ذاته.

6- النزاعات والصراعات: تسليط الضوء على النزاعات التاريخية المختلفة، سواء كانت سياسية، اجتماعية، أو فكرية، وكيف أثرت على حياة الشخصيات.

7- التفاصيل الحسية: استخدام أوصاف حسية تنقل القراء إلى العصر المحدد، مثل الروائح، الأصوات، والألوان التي كانت موجودة آنذاك.

8- العادات والتقاليد: تضمين العادات والتقاليد الاجتماعية والدينية التي كانت سائدة في ذلك الوقت لتقديم تصور شامل عن الحياة اليومية.

9- وجهات النظر: استعراض الأحداث من زوايا مختلفة، مما يساعد على تقديم أكثر من تفسير للواقع التاريخي.

10- الرسائل والأفكار: تضمين موضوعات تتجاوز الوقت، مثل الهوية، الحب، الشجاعة، والحرية، مما يجعل القصة تتناغم مع التجارب الإنسانية عبر العصور.

11- الربط بين الماضي والحاضر: يمكن إدراك كيف أن الأحداث التاريخية تؤثر على الحاضر والكيفية التي تتقاطع بها القصص عبر الزمن.

باستخدام هذه الأدوات، يمكن كتابة رواية تاريخية غنية ومؤثرة تأسر القارئ وتنقله إلى عصور ماضية.

ثالثا: الرواية النفسية:

تركز على استكشاف العقل البشري، الدوافع، والصراعات الداخلية للشخصيات، والرواية النفسية تستند إلى استكشاف العواطف والأفكار الداخلية للشخصيات، وتستخدم مجموعة من الأدوات والتقنيات لتعزيز هذا الاستكشاف، وإليك بعض الأدوات الأساسية للرواية النفسية:

1- التدفق الواعي: تقنية تُظهر أفكار الشخصيات ومشاعرهم بشكل مباشر دون ترتيب زمني، مما يعطي القارئ فكرة عن كيفية مواجهة الشخصيات لمواقف معينة.

2- الراوي الداخلي: استخدام صوت الراوي للتعبير عن الأفكار الداخلية والمشاعر المعقدة للشخصيات، مما يعزز فهم القارئ للعمق النفسي للشخصية.

3- الوصف العاطفي: استخدام أوصاف مفصلة للمشاعر والعواطف، مثل القلق، الاكتئاب، أو الفرح. يساعد ذلك القارئ على التواصل مع الشخصيات على مستوى أعمق.

4- الحوار الداخلي: إدخال حوارات داخلية تعكس صراعات الشخصيات، مما يمنح القارئ نظرة ثاقبة على أفكارهم وقراراتهم.

5- الرمزية: استخدام الرموز كأدوات لتعزيز الموضوعات النفسية، مثل الألوان أو الأشياء التي تعكس مشاعر معينة.

6- دور الماضي: تسليط الضوء على تأثير تجارب الشخصيات في الماضي على سلوكياتهم الحالية ومشاعرهم.

7- الأحلام والكوابيس: إدخال عناصر من الأحلام كتعبير عن الصراعات والخوف الداخلي، مما يعكس ما يدور في ذهن الشخصيات.

8- الشخصيات المعقدة: إنشاء شخصيات ذات عمق نفسي، تجعلهم مثيرين للاهتمام وقابلين للتعاطف من قبل القارئ.

9- الأحاسيس: التركيز على الأحاسيس الجسدية كطريقة للتعبير عن الحالة النفسية، مثل توتر القلب أو فرح الصدر.

10- الرؤية المتعددة: عرض الأحداث من وجهات نظر متعددة لخلق طبقات من الفهم والتعاطف مع الشخصيات.

11- التوتر والصراع الداخلي: التركيز على الصراعات الداخلية التي تواجهها الشخصيات، مثل الصراع بين رغباتهم ومسؤولياتهم.

12- التعلق والانفصال: استكشاف علاقات الشخصيات وتأثيرها على نفسيتهم، مما يساعد في تعزيز الصراعات والمشاعر.

باستخدام هذه الأدوات، يمكن للرواية النفسية أن تنقل تجارب عميقة ومعقدة تتعلق بالحياة الداخلية للشخصيات، مما يجعل القارئ يشعر بالاتصال والتعاطف معهم.

رابعا: الرواية الرومانسية:

تتناول قصص الحب والعلاقات العاطفية، وعادةً ما تتضمن عناصر من العاطفة والدراما، والرواية الرومانسية تعتمد على مجموعة من الأدوات والأساليب التي تساعد في بناء الحبكة وتعزيز المشاعر العاطفية... وهي:

1. الشخصيات المعقدة: إنشاء شخصيات ذات عمق نفسي وتاريخ شخصي. الشخصيات القابلة للتعاطف تجعل القارئ يستثمر في قصصهم.

2. العواطف القوية: التعبير عن المشاعر بشكل مكثف، مثل الحب، الشغف، الحزن، والخيانة. يجب أن تكون العواطف نابضة بالحياة ومؤثرة.

3. تطور العلاقة: التركيز على مراحل تطور العلاقة بين الشخصيات، من البداية نحو التعقيد والتوتر، وكيف يمكن للأحداث أن تؤثر على مشاعرهم.

4. العقبات والتحديات: إدخال صراعات أو تحديات تعترض طريق الحب، مثل التقاليد، الفروق الاجتماعية، أو المشاكل الشخصية. هذه العقبات تجذب القارئ وتزيد من التوتر الدرامي.

5. الحوار الرومانسي: كتابة حوارات ذات طابع رومانسي، تتسم بالعاطفية والحميمية. الحوار يعتبر وسيلة هامة للتعبير عن المشاعر.

6. البيئة والمكان: وصف الأماكن الرومانسية التي تلعب دورًا في الأحداث، سواء كانت أماكن جميلة أو غريبة تعزز الأجواء الرومانسية.

7. الرمزية: استخدام الرموز والاستعارات لتمثيل المشاعر، مثل استخدام الألوان أو الطبيعة لتعكس الحب أو الفراق.

8. الذكريات: تضمين الذكريات المشتركة للشخصيات، مما يساعد في بناء عمق العلاقة بينهما ويعزز التعاطف.

9. الحب من النظرة الأولى: استخدام هذا العنصر كوسيلة لجذب القارئ إلى القصة، حيث يسعى الشخصيات لتجاوز الصعوبات لتحقيق الحب.

10. التحولات الشخصية: عرض كيف يمكن للحب أن يؤدي إلى تغييرات إيجابية في شخصية الفرد ونموه.

11. الأفراح والأحزان: تضمين اللحظات السعيدة والحزينة التي تعيشها الشخصيات، مما يعكس تقلبات العلاقة.

12. النهاية السعيدة: في كثير من الروايات الرومانسية، يُفضل أن تنتهي القصة بنهاية سعيدة أو توافق، مما يترك القارئ بمشاعر إيجابية.

13. وجهة نظر الشخص الأول أو الثالث: اختيار السرد بوجهة نظر شخصية محددة يمكن أن يعزز العمق النفسي ويظهر مشاعر الشخصيات بشكل أفضل.

استخدام هذه الأدوات بشكل متكامل يساعد في خلق تجربة قرائية غنية ومؤثرة في الرواية الرومانسية.

خامسا: الرواية البوليسية

الرواية البوليسية هي نوع من الأدب الروائي يركز على التحري والتحقيق في قضايا الجرائم، غالبًا جريمة قتل، وتتميز الرواية البوليسية بوجود محقق أو شخصية رئيسية تسعى لحل اللغز وفك رموز الجريمة، مما ينطوي على استكشاف الأدلة، واستجواب المشتبه بهم، وتحليل المعلومات، والرواية البوليسية تعتمد على مجموعة من الأدوات والعناصر التي تساهم في بناء الحبكة وإثارة التشويق، وهي:

1. الشخصيات: وهي ثلاث .. اولا: "المحقق" الشخصية الرئيسية التي تقوم بحل اللغز، قد تكون شرطيًا أو متعهد خاص، وثانيا: "الضحايا" وهي الشخصيات التي تقع ضحية الجريمة وتكون مركزًا للأحداث، وثالثا: "المشتبه بهم" وهي الشخصيات التي تمثل مجموعة من الخيارات المحتملة التي قد تكون متورطة في الجريمة.

2. الحبكة: او الجريمة ويجب أن تكون هناك جريمة معقدة (مثل القتل) تدفع الأحداث... ثم حل اللغز: حيث الأحداث تتصاعد نحو كشف الجريمة، ويجب أن تكون هناك مفاجآت وتغييرات في مسار الأحداث.

3. الأجواء: وتتكون من البيئة وهي الأماكن التي تحدث فيها الأحداث، مثل المدن، المنازل، أو الأماكن العامة... وايضا تشمل الأجواء النفسية، حيث  يخلق جو من التوتر والقلق الذي يحيط بالشخصيات.

4. الأسلوب السردي: وتشمل "وجهة النظر" ويمكن أن يكون السرد من منظور المحقق أو من وجهات نظر متعددة... وكذلك "التشويق والتوتر" حيث استخدام تقنيات الكتابة مثل الفصول القصيرة والحوارات المشوقة لزيادة التوتر.

5. الأدلة والقرائن: استخدام أدلة معينة تساهم في توجيه القارئ نحو حل اللغز، وذلك من خلال إثارة التساؤلات وخلق الغموض.

6. المفاجآت والتقلبات: إحداث تقلبات غير متوقعة في الأحداث، بحيث تعطي للقارئ خيوط جديدة وتحافظ على اهتمامه.

7. حل القضية: الوصول إلى كشف الجريمة وجعل القارئ يشعر بالرضا عند معرفة التفاصيل وارتباطها مع الأدلة والشخصيات.

باستخدام هذه الأدوات، تتمكن الروايات البوليسية من جذب انتباه القارئ وتقديم تجربة مشوقة تتطلب التفكير والتحليل.

***

الكاتب: اسعد عبدالله عبدعلي

سيمون سترانجر هو كاتب نرويجي مبدع، معروف بتقديمه روايات تلامس قضايا حساسة ومعاصرة، مستخدمًا فيها أسلوبًا سرديًا يجمع بين الواقعية والخيال. أحد أبرز أعماله هو ثلاثية الشباب التي تتناول موضوعات الصراع والهجرة وتأثيرها على الأفراد والمجتمعات. هذه الثلاثية تشمل الروايات: "Barsakh"، "Verdensredderne"، و"De som ikke finnes". في هذا المقال، سنستعرض هذه الروايات الثلاث ونحلل كيفية تناول سترانجر لموضوعات الصراع والهجرة من خلالها.

Barsakh: البداية المأساوية

في روايته "Barsakh" (2009)، يقدم سترانجر قصة إيميلي، الفتاة النرويجية التي تلتقي بسامويل، المهاجر غير الشرعي من غانا، أثناء قضائها عطلتها في جزر الكناري. الرواية تعالج القضايا المتعلقة بالهجرة غير الشرعية وكيفية تأثيرها على الأفراد من كلا الجانبين: المهاجرين الذين يخاطرون بحياتهم بحثًا عن مستقبل أفضل، والمواطنين الذين يواجهون تحديات أخلاقية واجتماعية في التعامل مع هذه الظاهرة.

تظهر الرواية الصراعات الداخلية والخارجية التي يواجهها سامويل، بما في ذلك الخطر المستمر لحياته أثناء الرحلة وظروف الحياة القاسية التي يهرب منها. من ناحية أخرى، تعيش إيميلي تجربة غير متوقعة تؤدي بها إلى إعادة التفكير في حياتها المريحة ومعنى العدالة الإنسانية.

Verdensredderne: الشباب والوعي الاجتماعي

في "Verdensredderne" (2012)، يواصل سترانجر استكشاف قضايا الهجرة والصراع من خلال قصة تتبع إيميلي وصديقتها كارين، اللتين تسعيان للقيام بأعمال تطوعية ومساعدة الآخرين. تتناول الرواية موضوعات الفقر العالمي والظلم الاجتماعي، حيث تنتقل الشخصيات بين الحياة المترفة في النرويج والواقع المرير للمجتمعات الفقيرة.

تتسم الرواية بأنها ليست مجرد قصة مغامرة، بل هي دعوة للتفكير والتأمل في دور الشباب في مواجهة التحديات العالمية. يبرز سترانجر كيف يمكن للأعمال الصغيرة أن تساهم في إحداث تغيير كبير، وكيف أن الوعي الاجتماعي والشعور بالمسؤولية هما مفتاح لتحقيق العدالة.

De som ikke finnes: الأمل والمأساة

الجزء الأخير من الثلاثية، "De som ikke finnes" (2014)، يسلط الضوء على قضية اللاجئين غير المسجلين أو "الذين لا وجود لهم" كما يصفهم العنوان. تتعمق الرواية في حياة الأفراد الذين يعيشون على هامش المجتمع بدون حقوق أو اعتراف قانوني. تروي القصة حكاية سامي، الذي يهرب من الحرب والفقر إلى أوروبا، ليواجه تحديات جديدة تتعلق بالاندماج والحياة في ظل عدم الأمان القانوني. تُظهر الرواية الجوانب الإنسانية لهؤلاء الأشخاص، وتكشف عن الصعوبات اليومية التي يواجهونها، من البحث عن مأوى إلى تجنب السلطات. يطرح سترانجر من خلال هذه القصة سؤالاً عميقًا حول الإنسانية: كيف يمكن للمجتمعات المتقدمة أن تتعامل مع أولئك الذين يبحثون عن الأمان والكرامة؟ من خلال هذه الثلاثية، يقدم سيمون سترانجر رؤية شاملة ومعقدة لقضايا الهجرة والصراع. يستخدم شخصيات شابة لتجسيد البراءة والتفاؤل، ويواجهها بواقع قاسٍ يعكس تعقيدات العالم الحقيقي. تظهر الروايات كيف تؤثر السياسات الدولية والظروف الاقتصادية على الأفراد، وكيف يمكن للتعاطف والوعي أن يكونا أداة للتغيير. يبرز سترانجر في أعماله قدرة الأدب على التأثير في الوعي الاجتماعي وتعزيز فهم أعمق للقضايا الإنسانية. من خلال السرد الجذاب والشخصيات المعبرة، يقدم للقراء فرصة للتفكير في دورهم ومسؤولياتهم تجاه القضايا العالمية. تمثل ثلاثية سيمون سترانجر حول الصراع والهجرة عملاً أدبيًا مؤثرًا يجمع بين الواقعية والتأمل الفلسفي. بفضل أسلوبه السردي الفريد وشخصياته القوية، ينجح سترانجر في إلقاء الضوء على قضايا هامة ومعقدة، داعيًا القراء للتفكير في العدالة والإنسانية في عالمنا المعاصر. تعد هذه الثلاثية دعوة للتعاطف والعمل من أجل مستقبل أفضل وأكثر إنصافًا للجميع.

***

زكية خيرهم

يأخذنا النص الروائي الى محطات عديدة ومتنوعة، ترسم مسيرة الواقع والحياة، في شؤون مصيرة عويصة ومهمة، ويتوغل الحدث الروائي باشكاله المتنوعة، في احدث عاصفة في مسيرة حياة (بابو حبيبي) وهي ترمز الى حياة العراق والعراقيين، قبل الاحتلال الأمريكي وبعده، أي بعد عام 2003، ترسم خارطة العراق والعراقيين في ابعادها السياسي والاجتماعي والاخلاقي. مستلهماً المتن الروائي قصة النبي يوسف وتبعاتها الخطيرة في اطار الاخوة الاعداء، في المعنى والمغزى البليغ والعميق، وهي رمزية لحياة العراقي في الغربة والمهجر أو بعد رجوعهم الى الوطن، في صراع دائم غير مستقر يأخذ أشكال وطرق مختلفة. ربما نجد بعضها غريبة عن واقعنا ومعطيات تراثنا، ولكن قصة اخوة يوسف، لن تغيب عن المشهد العراقي، قديما وحديثا. تظهر باشكال مختلفة تبعاً للزمن والظرف المحدد. ودور الطمع المالي في تخريب أواصر العائلة والمجتمع حتى في تخريب الاوطان، حين تتفجر صفات الخيانة والغدر بشكلها الرهيب تهدد الحياة والوجود. ولكن الحياة تبقى مستمرة في البقاء، أو في المعنى الأدق، تحيى من رمادها من جديد. لذلك اننا أمام نص روائي مزدحم في خضم أحداث ومحطات، تذهب في اتجاهات مختلفة، والنص الروائي يملك الامكانية الهائلة من براعة الصياغة والتعبير، في تنقلاته من الواقعية الى السريالية الى الروحانيات، لكنها تسير في اتجاه، وهرم واحد يتحكم بها. في تداعيات الاحداث والصراعات بين الشخصيات الرئيسية في المتن الروائي، تعطي معنى الصراع بين الخير والشر، ولا يمكن ان يحسم، ربما يتغلب احدهما على الآخر لكن دون حسم ثابت. ومن اجل تسليط الضوء في التحليل النقدي، لابد من فرز الشخصيات ومميزاتها الدالة في المتنن الروائي ورمزيتها المعنونة والدالة.

- شخصية بابو حبيبي:

الطفل الذي ولد معوقاً جسمياً في صعوبة الحركة، ومصاب بالصم والبكم، فقد والديه وتكفلت رعايته خالته (سعاد) وزوجها ( الحاج ناجي) الذي يكن له احتراماً وتبجيلاً الى حد القدسية. واعتبره ابنه الشرعي ويفضله على أولاده (رعد وعماد) وبناته (موجة ورقية)، رغم ان البعض يعتقد الى هذه الإعاقة والمعوقات ستخلق منه شبحاً شريراً وعدونياً، ينتقم من المجتمع الذي خلقه بهذه التشوهات كشخصية (فرانكشتاين) ولكن النص الروائي خلق منه ايقونة أنسانية نبيلة في قلبه وعاطفته كشخصية رواية (احدب نوتردام) التي تملك مميزات خارقة في صالح ومنفعة المجتمع. يكون مدعاة فخر واعتزاز بالحب النقي، يورق عبيره في العائلة والجيران وسكنة الحي والى ابعد من ذلك، بقلب فياض بالحب والعاطفة السامية، وخلق من إعاقته وإصابته بالصم والبكم، سلماً في خلق معجزات، كحاسة الشم وفرز الروائح كالكلب البوليسي. حتى أمه تستخدمه في معرفة روائح الطعام، وكذلك الجيران والحي في استثمار حاسة الشم الخارقة. وقلب فياض بالإنسانية. فعندما فقد بين يدي والديه في التسوق في (المول / سوبر ماركت ) خلق الفزع والقلق وخاصة من أبيه خوفاً من الخطف من قبل تجار أعضاء الجسم وخاصة الأطفال (يا الله أين أنت بابو ؟!! أظهر يا ولدي فديتك با أغلى ما عندي، كنت وسعاد نسابق الزمن لكي لا يبتعد بابو كثيراً، فيصير من المستحيل العثور عليه، وكان هاجس المزعج الذي سيطر علينا،أنا وسعاد ان يقع بيد من لا يخاف الله، ويوهمه أنه سيدله على أبيه وأمه ويقتاده إلى خارج السوق وبيعه الى العصابات المتخصصة بسرقة الأطفال المعاقين) ص 7.وخاصة ان بابو ولد بعينين زهريتين تميل الى الصفرة تفتح شهية هؤلاء المجرمون (وقد حدثت الكثير من حوادث الخطف لهذا النوع من الأطفال، وعثر على جثثهم فيما بعد مرمية في الاماكن البعيدة وعند مزابل الاحياء، وكل شيء كامل في اجسادهم سوى فقدان العينين !! وقد تم اقتلاعهما بحرفية عالية تدل على التمرس في هذا الفعل الإجرامي الشنيع !!) ص36. واخيراً وجدوه يقود فتاة عمياء هي الاخرى فقدت ذويها في السوق.

- كان بابو حبيبي يملك ميزة خارقة في شفاء المرضى ومن فيهم العلل والسقم، بتمرير عود الثقاب على اجسادهم حتى يذهب المرض والعلة، واشتهر بذلك بين الجيران والحي وما هو ابعد من ذلك، بصفة التي عرف بطبيب الامراض والعلل.

- بابو العاشق: كان يقوظ كل صباح ابيه، ليقف على عتبة الباب مسكنهم حتى تمر الفتاة (صفاء) لترشقه في ابتسامة تنور انوار قلبه بالفرح والحب، وحين اصابها المرض، طلبت عائلته من بابو ان يشفيها بتمرير عود الثقاب على جسمها حتى يذهب المرض والعلة، فقبل الدعوة بكل سرور وخاصة وهو يحمل شغاف الحب والهوى الى فتاته (صفاء) وحين طلب خطبتها، استغربت عائلة (صفاء) كيف يتجرأ معوق بخطبة فتاة جامعية ؟، وكانت خيبة الرفض اصابت قلبه بجرح ينزف، وتزوجت من شاب من عائلة غنية وميسورة.

- حاول ابيه ادخاله في مدرسة الصم والبكم، لكن مدير المدرسة رفض لصعوبة حركته، مما اصاب ابيه الحزن والخيبة (- آه ياولدي حبيبي !! ماذا افعل لكي تكون كغيرك من الاطفال الطبيعيين، من اعطاهم الرحمن الصحة والقدرة على العيش الطبيعي ؟!! لكنني كنت احاول أن أعلمه مبدأ أن لا يترك الاعاقة التي يعانيها تهيمن على حياته) ص23.

- احتضنته العائلة بحب كبير، وتحاول ان تعلمه بعض الاشارات لتفاهم معه، رغم الصعوبة في البداية ولكنه اخذ يفهم بعض اشارات التفاهم، وبدأ يتتعلم على تشغيل الكومبيوتر، وبدأ يعرف اسرار الشبكة العنكبوتية كمحترف في التواصل والمراسلة. وحتى امتلك القدرة الى ان يصل الى اكثر المواقع الحساسية والخطيرة، التي حتى المحترفين يعجزون في الايصال اليها مهما كانت قدرتهم في معرفة اسرار الشبكة العنكبوتية، ولكن بابو حبيبي امتلك القدرة ان يصل الى اي موقع ويراسله، ومن خلال هذه المراسلات حصل على شيك من البنوك بمبلغ عشرين مليون دولار، بشكل شرعي وقانوني، وارسل الى رصيده البنكي، وحين تحرى ابيه عن صحة وفحوى هذا الشيك، اخبره البنك، بأنه بالفعل ارسل هذا مبلغ بشكل شرعي وقانوني وادخل في حسابه في البنك. هذا المبلغ المالي الكبير نقلهم من حالة الفقر والبؤس في الغربة، الى خالة الغني وميسورية الحال، فودعوا الغربة ومعاناتها العسيرة ورجعوا الى العراق بعد الاختلال الامريكي عام 2003،واسس بابو في مهاراته الخارقة شركة كبيرة وفتحت عليه العقود والصفقات المالية من الداخل والخارج. وكانت الشركة تحت اشرافه يساعدانه في الاشراف الاداري والمالي وتوقيع العقود شقيقاه (رعدد وعماد).

- غدر أخوة يوسف:

من الربح الوفير واصبحت شركة بابو حبيبي، تملك ارصدة مالية وعقارات واملاك كبيرة ومتنوعة. وتنهال عليها الصفقات المالية الرابحة، فلعبت الخيانة والغدر في عقلية شقيقيه (رعد وعماد) ان يستحوذون على المال والسندات والعقارات واموال الزبائن الشركة، فدبروا فخ في خطف بابو من خلال الشراب المنوم ورميه في الصحراء ليكون طعماً للكلاب السائبة في رمال الصحراء، وفعالاً اخذوه ورموه في رمال الصحراء، ورجعوا الى ابيهم يتباكون ويذرفون دموع التماسيح على فقدان شقيقهم بابو. بحجة تركوه في السيارة لفترة وجيزة لشرى حاجة معينة، وعند رجوعهم لم يجدوا بابو في السيارة، فبحثوا عنه في كل مكان فلم يفحلوا بالعثور عليه، فكانت الصدمة الكبيرة لوالدهم، واصابه الوهن والارتباك والحزن، كأن خنجر غرس في قلبه، فلم يهدأ له بال بفقدان ابنه (بابو حبيبي) فكان يخرج مع زوجته كل صباح، يفتشون عنه ويسألون هذا وذاك، ونشروا اعلان عن فقدان معوق فمن يعثر عليه يكرم بهدية مالية كبيرة، لكن دون جدوى، اما حال الشركة والاموال والعقارت وصلت الى حد الافلاس التام. وتبخرت كلياً واصبحوا مدانيين للزبائن والشركات والدولة ووصل الحال بهم الى السجن، بتهمة الاغتصاب وابتزاز اموال الزبائن والدولة، اما حالة بابو حبيبي حين افاق من مخدر المنوم، وجد نفسه مرمياً وسط رمال الصحراء، فغشي عليه،ولكن الصدفة انقذته من الموت المحتم،، انقذه احد رجال البدو كان ماراً مع كلبه وشاهد جثة مرمية على الرمال، فأخذه الى بيته واعتنى به، حتى شفى تماماً، واستثمر ميزته الطبية في علاج المرضى بعود الثقاب، حتى احتل مقام الاحترام والتبجيل من ناس الصحراء. فهزه الشوق والحنين الى ابيه، فرجع اليه ووجده مريضاً منهكاً فاقد البصر، فاحتظنه بحزن وبكاء وقال (- كنت اعرف أنك لا تزال حياً في مكان ما !! وانني سالتقيك قريباً وقد بشرني الله بالكثير من الرؤى جعلني أطمن عليك وعلى مصيرك !! الحمد لله يا ولدي أنك لا تزال حياً، وقد شفيت من عاهتك، فصرت متكلماً لبقاً، فلا اجد فيك ذلك البابو الصغير، الذي لا يكاد أن ينطق حرفاً، هذا الرجل الحكيم المتكلم حكمة هو أبني بابو !!) ص147.

- البعد الرمزي في الخيانة والغدر:

صحة مقولة: من يأتي المال بالحرام يتبخر في الحرام، وهذه حاالة عامة تنطبق في أي زمان ومكان، وخاصة على حال حياة العراقيين، في الظواهر الغريبة التي ظهرت بعد الاحتلال، ترسيخ مبدأ الخيانة والغدر في كسب المال الحرام، في تدمير الاخلاق والبنية الاجتماعية والوطن، ونعرف طاعون الفساد اهلك العراق والعراقيين، واحرق الاخضر واليابس، في شهية الطمع بسرقة الجمل بما حمل.

***

جمعة عبدالله

 

هذه قراءة مختصرة ولمحة خاطفة عن رواية "دروب العتمة" للكاتب محمد نصّار، الصّادرة عن مكتبة سمير منصور في مئتين وثماني صفحات.

تبحر بنا هذه الرّواية في دهاليز الذّاكرة، تغوص في أعماق النّفس البشريّة؛ لتكشف لنا أسرارها المظلمة وأضواءها الخافتة، وتبرز لنا هشاشة البشر وقوّتهم في آن واحد.

يجسّد الكاتب من خلالها رحلة إنسان يصارع ذكرياته، ويواجه عتمة ماضيه، باحثا عن بصيص أمل ينير دروبه المعتمة، فهل نجح في التغلّب على ظلمة ماضيه، أم أنّ العتمة أحاطت به إلى الأبد؟

تلك الأسئلة الّتي يثيرها هذا العمل، تدعونا إلى قراءة يتداخل فيها الواقع بالخيال، وتتشابك فيها الأسماء والأحداث والأماكن الحقيقيّة، لتزخر بالألوان والحكايات، فكلّ اسم وكلّ مكان وكلّ حدث في هذا العمل، هو بمثابة نافذة تُطلّ على صفحات الماضي، تجسّد صراع الفلسطينيّ مع واقعه المرير، وتصوّر عزيمته وإصراره على الصّمود، وتصف مختلف جوانب الحياة الغزّيّة، وذلك بلغة تلامس القلوب، وسرد مُثقل بالأحزان والمآسي، وعتمة طالت كلّ شيء، حتّى الدّروب.

العتمة، مرآة للرّوح:

تُعدّ العتمة من أبرز الرّموز الأدبيّة الّتي وظّفها الأدباء على مرّ العصور، للتّعبير عن طيف واسع من المعاني والدّلالات. في هذا النّصّ الرّوائيّ، تحمل العتمة في طيّاتها عمقا رمزيّا يتجاوز كونها مجرّد حالة من الظّلام، بل تمتدّ لتشمل جوانب نفسيّة واجتماعيّة وفلسفيّة أعمق، يوظّفها الكاتب ببراعة؛ ليعبّر عن الواقع الّذي يعيشه النّاس.

يشير العنوان "دروب العتمة" إلى دلالات تجسّد مضمون العمل وأفكاره الرّئيسيّة، ومن أهمّ هذه الدّلالات:

- العتمة كواقع معاش: هي سيف ذو حدّين، فهي من جهة تمثّل استسلاما لليأس والقنوط، ومن جهة أخرى، هي رمز للصّمود والتحدّي، تؤكّد على أنّ الأمل ما يزال موجودا في قلوب النّاس؛ لتحقيق مستقبل أفضل.

- العتمة كمسار نحو النّور: وهنا لا تمثّل العتمة في العنوان نهاية مغلقة، بل هي بداية لرحلة جديدة نحو الضّوء والخروج من الظّلام.

- دروب العتمة كمسرح للحياة الواقعيّة: لا تقتصر العتمة على الظّلم والقهر فحسب، بل تمتدّ لتشمل مختلف جوانب الحياة بكلّ ما فيها من تناقضات وتحدّيات وآمال وتجارب، إنّها ليست مجرّد ظلام دامس، بل هي مسرح تنكشف عليه أحداث الحياة بكلّ تعقيداتها وتنوّعها.

- الجهل والغموض: غالبا ما ترتبط العتمة بالجهل وعدم المعرفة، حيث تمثّل صعوبة رؤية الحقيقة. يمكن أن تدلّ على الغموض الّذي يحيط بشخوص العمل أو الأحداث الّتي مرّت عليهم، وأدّت إلى عدم يقينهم بشأن المستقبل.

- الخوف والمخاوف: العتمة تثير في النّفس مشاعر الخوف والقلق، فهي بيئة خصبة لتكاثر المخاوف والظّلال، وهي تمثّل المخاوف الدّاخليّة الّتي يعاني منها شخوص العمل، أو الخطر المحدق بهم من الخارج.

- الحزن والكآبة: غالبا ما ترتبط العتمة بالحزن والكآبة واليأس، فهي شّعور بالفراغ، يعكس حالة نفسيّة سلبيّة متوتّرة.

- الشّر والظّلام: ترتبط العتمة بالقوى الدّاكنة (الآخر)، فهي تمثّل النّقيض للنّور والحياة.

- الموت والفناء: ترتبط العتمة بالموت والفناء، فهي تجسّد نهاية الحياة وغيابها، يمكن أن تكون رمزا للمجهول الّذي يحيط بالموت أو الخوف من الزّوال.

- الضّياع والانعزال: يمكن أن تعبّر أيضا عن الشّعور بالضّياع، ويمكن أن تكون رمزا لفقدان الاتّصال بالآخرين أو بالذّات.

بالإضافة إلى هذه الدّلالات الّتي ذكرتها، يمكن قراءة العنوان على عدّة مستويات أخرى، فكلّ قارئ قد يجد فيه دلالات خاصّة، تثري تجربته القرائيّة.4335 محمد نصار

تقنيّة التّذكّر في الرّواية:

يتميّز أسلوب الكاتب بالبساطة والعفويّة، حيث يكتب دون تكلّف أو مبالغة، مستعيدا بعض الأحداث والمواقف السّابقة الّتي عاشتها الشّخصيّة الرّئيسة، محرّكا مشاعرها المتضاربة، مستخدما الماضي كبوابة للولوج إلى أعماق النّفس البشريّة، مبتعدا عن التّقريريّة والمباشرة؛ ليضفي على السّرد حيويّة وخصوبة.

ساهمت تقنيّة التّذكّر في بناء شخصيّات متكاملة، حيث كشفت عن تاريخها وخبراتها السّابقة، مما ساعد القارئ على فهم دوافعها وسلوكها الحاليّ.

أضافت هذه التقنيّة عمقا وبعدا للأحداث، حيث ربطتها بالأحداث السّابقة وكشفت عن أسبابها وعواقبها، فأثارت التّساؤلات حول ما حدث في الماضي وكيف أثّر على الحاضر.

كما تنوّعت أدوات الكاتب اللّغويّة، استخدم اللّغة الشّعريّة، والمفردات الإيحائيّة، والصوَر السّرديّة، والعبارات المجازيّة؛ ليخلق بذلك نصّه الغنيّ.

يجسّد الرّاوي صراع الإنسان مع ظروفه الحياتيّة اليوميّة، في أعماقه يستعر صراع بين أمل باهت وواقع قاسٍ، فيترنّح بين أنقاض الماضي وحطام الحاضر، حاملا جراحا نازفة تتداخل مع أحلامه، وتعيد إليه ذكريات الأمكنة والأشخاص الّذين تركوا بصماتهم على روحه، تعيده إلى عالم من الأحاسيس المتناقضة، حيث يتداخل الفرح بالحزن والخوف بالأمل، ليشكّل لوحة متشابكة، تعكس عمق تجربته الإنسانيّة، تُعيد إليه المشاعر والتّداعيات، وكلّ ما كان وما هو كائن.

يقول في الصّفحة السّابعة: "صور الماضي ترافقني في كلّ حين، وتأبى إلّا أن تذكّرني بواقعي اللّعين، وأنا أراوغها مكابرا، موهما النّفس أنّ الأشياء كما هي، الخلق هم الخلق، والشّارع هو ذات الشّارع".

هكذا، يطلّ الرّاوي من وراء ستار الزّمن، حاملا على كتفيه عبء الحكاية، يروي حكاية المجتمع، فتتداخل الأزمنة والأحداث بماضيها وحاضرها في ثنايا السّرد، وتتّحد فيها مشاهد الفرد مع مشاهد الجماعة، والذّكريات الشّخصيّة مع الذّكريات المجتمعيّة، تلك الّتي تحاكي قسوة الحياة، وتنطق بما جثم على صدور النّاس؛ لتغدو السّطور مرآة تعكس وجه الواقع بكلّ تناقضاته وآلامه، فتتداعى الصّور والأحداث مع سيل من المشاعر، ما يضفي على النّصّ خصوبة وعمقا.

المكان كشخصيّة:

تحملنا السّطور إلى صور من أيّام الطّفولة الّتي عاشت في ذاكرة السّارد، وإلى صور تلاحقه من المخيم الّذي ولد فيه، وعاد إليه بعد غياب، فيكتب: "شوارع المخيم، لم يتغيّر فيها سوى شكل البناء، أسطح القرميد والزينكو صار معظمه إسمنتا، وبقيت الأزقّة على حالها، حبال الغسيل المواجهة للبيوت، جلسات المسنّين على العتبات، مشاهد ولّدت بداخلي رغبة في البقاء".

تنسج هذه الفقرة خيوطا حميمة تربط بين السّارد ومكانه، فمن خلال ذكرياته الحيّة، يستعيد تفاصيل المكان الّذي أثّر في أعماق نفسه، وكأنّه جزء لا يتجزّأ من هويّته، ما يكشف لنا عن مشاعره وأفكاره، ويخلق صلة عاطفيّة بينه وبين القارئ، ويضفي على العمل لمسة فنّيّة.

بهذا يتحوّل المكان إلى شخصيّة حيّة تتفاعل وتؤثّر بشكل مباشر، فالمخيم والشّوارع والأزقّة ليست مجرّد خلفيّات، بل هي شركاء في الحدث، يشهدون على الصّراعات والمعاناة، ويؤثّرون في مسار الأحداث وتطوّر الشّخصيّات.

التّداعي الحرّ.. نافذة على اللّاوعي:

يوظّف الكاتب تقنيّة التّداعي الحرّ، الّتي تمثّل نافذة على اللّاوعيّ، فيحاكي تدفّق الافكار والمشاعر داخل عقل شخوصه بشكل عفويّ ودون قيود.

يستند هذا المفهوم "التّداعي الحرّ" الى مبدأ نفسيّ وضعه عالم النّفس الشّهير "فرويد"، وهو ما يستعمله المعالجون النّفسيون؛ لمساعدة المرضى على استكشاف أفكارهم ومشاعرهم اللّاواعيّة، حيث يُطلب من المريض أن يعبّر عن أيّ أفكار أو مشاعر تخطر على باله؛ للكشف عمّا هو مكبوت أو مخفيّ في نفسه.

في عالم الأدب، تعدّ تقنيّة التّداعي الحرّ، أداة قويّة يمكن للرّوائيين استخدامها لكشف التّعقيدات النّفسيّة الدّاخليّة العميقة للشّخصيات.

من هنا، استفاد نصّار من هذه التقنيّة؛ ليتيح للقارئ الدّخول الى عقل شخوصه وفهم أفكارهم ونفسيتهم، ومشاعرهم اللّاواعية، فيمكّن المتلقّي من رؤية تطوّرهم، وفهم دوافعهم المتناقضة بشكل أفضل، دون الحاجة إلى شرح أو تحليل مباشر. ومن خلال الانكشاف على أفكارهم الدّاخليّة، يصبح القارئ أكثر قدرة على فهمهم، وأكثر تعاطفا معهم، حتّى لو لم يتّفق مع جميع أفكارهم أو سلوكياتهم.

يخلق هذا الأسلوب تجربة قرائيّة جذّابة، تحمل المتلقّي إلى عوالم الشّخصيّة، ليستشعر تجاربها وأفكارها ومشاعرها، ممّا يكسر قيود التّسلسل الزّمنيّ للأحداث، ويثير الفضول نحو النّصّ لمتابعته حتّى النّهاية.

يتجاوز الرّاوي حدود السّرد التّقليديّ؛ ليغوص في أعماق الوعيّ الجمعيّ، يربط بين ذكرياته الشخصيّة وتاريخ مجتمعه، فتصبح كلّ حادثة فرديّة انعكاسا لحدث تاريخيّ أوسع.

لقد استطاع الكاتب محمد نصّار توظيف الخلفيّة الثّقافيّة في غزّة؛ لخلق رواية عميقة ومؤثّرة، تعكس واقع الحياة بكل تعقيداتها وتناقضاتها، وتنقل للقارئ رسائل قويّة.

ختاما، فهذه الرّواية ليست مجرّد سرد لحكاية، بل هي دعوة للتأمّل والتّفكير، فهي تطرح تساؤلات جوهريّة حول الهوية، والانتماء، والمعنى والواقع، وصراعات الحياة، وما كتبته هنا هو مجرّد قراءة موجزة لبعض الجوانب الفنيّة فيها، ومحاولة لتقاسم بعض التصوّرات الّتي شكّلها النّصّ في نفسي.

***

صباح بشير

 

النص// (مدونة أعرابي)

كذبٌ وادّعاءٌ هو الموت !!

فأنا لم أمت بعد

وأنا منذ أن ولدتني الهجيرةُ

ما زلتُ حياً

ولدتُ بخاصرةٍ في كهوف اليمن

قبل عشرين عاماً من البعثة النبوية

أذكر أني ولدت

وما زلتُ أذكرُ

كيف نصلّي

ونعبدُ آلهةً من حجر

وكيف نشرُّ النذور على بابهم

ونغسلُ أحلامنا بالمطر

وأذكرُ اني درجتُ على تلكم الأرض

وعتّقتُ أدعيتي في الكهوف البعيدة

ثم احتميتُ بما ظلّ من خيم الآلهة

غفوتُ على بابهم مطمئناً

شكمتُ الرؤى العابثات

وزجرتُ خطىً تائهة

سلامٌ على عدد الآلهة

ثلاثون .. عشرون .. لا أتذكرُ

لكنهم كثرٌ طيبون

ثلاثون رباً ينامون في غرفة واحدة!

ثلاثون رباً على الأمم البائدة

ثلاثون رباً ولكننا أمةٌ واحدة !!

***

إستهلال//

سؤال إشكالي أنطلق من عمق التاريخ يقول "كلكامش":

(أيكون في وسعي ألاّ أرى الموت الذي أخشاه وأرهبه؟).

بعد أكثر من أربعة آلاف سنة يقول الشاعر "عارف الساعدي":

(كذبٌ وادّعاءٌ هو الموت !!

فأنا لم أمت بعد

وأنا منذ أن ولدتني الهجيرةُ

ما زلتُ حياً)

القراءة//

في البدء يتم مناقشة إشكالية العلاقة بين الشعر والفلسفة، الإشكالية الجدلية التي أثارت الكثير من التساؤلات، هل الوعي الشعري أسبق من الوعي الفلسفي؟ هل يمكن أن تكون الفلسفة شعراً والشعر فلسفةً؟ هل بدأت الفلسفة شعراً؟، متى تصبح القصيدة فلسفية؟.

قد تثير العلاقة بين الفلسفة والشعر قلق البعض، من أن تستحوذ الفلسفة على الشعر، فيصبح (الشعر بلا روح)، أو يخشى البعض الاخر من سيطرت الشعر على الفلسفة فتصبح (الفلسفة كلاماً هجيناً).

أرى أن الشعر ضرورة فلسفية مثل ما الفلسفة ضرورة شعرية، فلابد من وجود فلسفة في القصيدة وإلا سوف يكون الشعر ثرثرة لغوية أو لقلقة لسان. في كتابه (فن الشعر) يقول "ارسطو": (إن الشعر أكثر تفلسفاً) والتراث الأدبي العالمي والعربي فيه الكثير من الشعراء الفلاسفة ومن الفلاسفة شعراء، فتراهم يبحثون عن عمق المعنى في النص، فكانت نصوصهم الشعرية تستند الى رؤية معرفية، فهناك نصوص فلسفية وضعت في قوالب شعرية، مثل ما الشعرية تغلغلت في الكتابات الفلسفية، وليس ببعيد عنا الشاعر الفيلسوف "أبو العلاء المعري" الذي شكل علامة فلسفية كبرى في تاريخ الشعر العربي، في مفهومه الوجودي والفلسفي.

إن جوهر العلاقة بين ما هو شعري وما هو فلسفي، هي رموز لغوية بها يكتمل المعنى، وبها يعاد بناء النص رمزياً، هذه العلاقة لا يدركها الا الفيلسوف الشاعر أو الشاعر الفيلسوف. وعلى هذا الأساس كان الفلاسفة الأوائل يعبرون عن أفكارهم في (شذرات شعرية).

سقنا ثنائية الفلسفة والشعر كمقدمة لثنائية كبرى في نص الشاعر "عارف الساعدي" (مدونة أعرابي)، الثنائية التي استولت على الذهن الإنساني، فكانت مدار بحث وجدل في الكتابات الفلسفية والنصوص الشعرية.

ترصد هذه القراءة التجليات الرمزية في نص الشاعر "عارف الساعدي" من خلال انفتاح النص على دلالات تجعل المتلقي يبحث عن الدلالة الرمزية فيه.

لقد أعطت الحداثة الشعرية للشاعر الحرية أن يخوض في عوالم الشعر، ويواكب مساراته التأويلية ومقارباته، وهذه سمة بارزة من سمات النص الشعري الحداثي، الذي لا ينقل معنى جاهز وأنما يبحث في دلالاته ويستنفر طاقة المتلقي ويجعله شريكاً في إنتاج هذه الدلالات، مما يجعل النص ينفتح على مقاربات تأويلية تعمل على تفكيك النص الذي يمثل رؤيا الشاعر.

في كتابه (الموت والعبقرية) يستهل الاستاذ "عبد الرحمن بدوي" حديثه بأشكلة الموت، حتى يميز بين الإشكالية والمشكلة فيرى (أن الإشكال هو الصفة التي تطلق على شيء يتضمن تناقضاً في بنيته وتركيبته، بينما المشكلة هي محاولة تفسير الإشكالية وحلها بحيث يكون هذا التفسير صادراً عن بنية الشيء الإشكالي وجوهره)،"عبد الرحمن بدوي، الموت والعبقرية، ص3".

وعلى هذا الفهم، هل الموت في النص الشعري إشكالية أم مشكلة؟

الموت لم يمثل في الشعر مشكلة، وأنما إشكالية حين تتعدد الرؤى وتختلف الدلالات وتكثر التساؤلات. ومن أجل فهم وتقبل فكرة الموت، تلك الفكرة التي تطارد الإنسان الذي لا يرى فيها إلا معناها البيولوجي، كونها تشكل اللقطة الأخيرة الحتمية في حياته، فتراه مسكون بهاجس الموت، تلك الفكرة المركزية التي لها جذورها الدينية والميثولوجية في حضارات الأمم القديمة، الذي يعد أهم هواجس الانسان الوجودية ومصدر قلقه.

في حواره مع صاحبة الحانة "سدوري" ورحلة البحث عن الخلود يقول "كلكامش":

(أيكون في وسعي ألا أرى الموت الذي أخشاه وأرهبه؟).

فكان جواب صاحبة الحانة:

(إلى أين تسعى يا كلكامش/ إنَّ الحياة التي تبغي لن تجد/حينما خلقت الآلهة العظام البشر/قدرت الموت على البشرية/ واستأثرت هي بالحياة)،" طه باقر، ملحمة كلكامش وقصص أخرى عن كلكامش والطوفان، ص137".

فالموت حدث كوني وحقيقة وجودية مطلقة. وملحمة كلكامش من أقدم الملاحم في تاريخ الحضارات كلها، التي ناقشت مسألة الوجود البشري، وثنائية الحياة والموت، وحسمت أمر الإنسان المحكوم عليه بالموت، وأبقت الخلود من نصيب الآلهة.

فالموت عند الشعراء من مفردات نصوصهم، يأتي وفق منطلقاتهم الفلسفية والفكرية، وهذا الشاعر "ابو ذؤيب الهذلي" حين يتأمل الحياة من حوله، ولا يقوى على رد غائلة الموت، يقول:

واذا المنية أنشبت اظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

الشاعر "عارف الساعدي" يطرح نصاً تصورياً فلسفياً عن العلاقة الجدلية بين الحياة والموت، في ديباجة نصه (مدونة أعرابي)، تلك الجدلية التي هيمنة على مجمل الخطاب الشعري العربي، فكانت الأكثر شيوعاً في الشعر العربي قديمه وحديثه، وثيمة رئيسية في نصوص معظم الشعراء، التي تباينت رؤاهم، ليس بمفهومها الشعري كرؤية شعرية فحسب، وإنما بمفهومها الفلسفي والاجتماعي والديني، فكانت نظرتهم نابعة من ثقافتهم، حينما نسجوا رؤيتهم الشعرية للموت من خلال الوعي الشعري واللغة الشعرية، فتباينت الأدوات التي اعتمدوها في تشكيل الصورة الفنية للموت، بوصفه ظاهرة انسانية انفعالية، ومحاولة التعبير عنه تأتي كل حسب وجهته. فالموت في نص الشاعر "عارف الساعدي"، ثيمة مهمة ودلالة كبرى، تثير تساؤلات في داخل حركة النص، الذي يبدأ بجملة استفزازية تشتمل على نفي حقيقة حتمية ثابتة هي الموت أو يؤجلها.

إن الذي يبرز في نص الشاعر "عارف الساعدي" محاكاة فلسفية يؤسس منها فلسفة خاصة بالموت وملابساته ويعلن بيانه فيه، الذي يعكس فلسفته الذاتية حول فكرة الموت، وأرى أنها تتناغم مع الرؤية الفلسفية (الأبيقورية)، من خلال (إخفاء قلق داخلي من الموت أو إظهار عدم الشعور بهذا القلق)، فكانت رؤية "أبيقور" عن الموت أراح بها نفسه من مسألة التفلسف بالموت فقال:(إن الموت لا يعنيني البتة، فهو إن وجد، لن أكون موجوداً، وإن وجدت أنا لن يكون موجوداً)، فكانت رؤية الشاعر "عارف الساعدي" تتناغم مع الرؤية (الأبيقورية).

(كذبٌ وادّعاءٌ هو الموت !!

فأنا لم أمت بعد

وأنا منذ أن ولدتني الهجيرةُ

ما زلتُ حياً).

إذاً رؤية الشاعر في النص عن الموت رؤية فلسفية يسعى بها أن يتحرر من قيود التاريخ وموروثاته، بوصفه إشكالية وجودية اختص بها الشعراء فقط، التي تدعو المتلقي الى التأمل، بعد أن اثارت دهشته، وجعلته يتوقف كي يفهم المعنى، من حالة نفي حقيقية راسخة وفتح مغاليق (جرة أسئلة) الشاعر الوجودية، التي يحتملها النص الذي يمثل وحدة متكاملة تسهم في تكوين الخطاب الدلالي للنص، محملا بتأملات ورؤى غير مؤدلجة، عن الحياة والموت، فضلا عن قيمته الجمالية والفنية والأسلوبة والفلسفية، التي اكتسبت دلالات تعكس موقف الشاعر وفلسفته. نحن أمام نص مزدحم بدلالات تبدو ضبابية للمتلقي تصيبه بالحيرة والاستفهام وتتوقفه للتأمل فيها، قد نجد في المنحى الصوفي طريقا لفك هذه الاشكالية كـ(شذرة صوفية) في النص، تمنحه أبعادا لا نهاية لها، عندما أراد الشاعر أن يؤكد على معنى ذات أبعد فلسفية. إن الربط بين الحياة والموت من خلال كونية كل منهما في نسق فلسفي صوفي، هي رغبة الشاعر في البحث عن اللامرئي، وتجاوز حدود العقل، ومقاييسه المنطقية لأن الدلالة الرمزية للموت في النص سير في اتجاه معاكس للدلالة القصدية، والدلالة اللغوية تتقاطع مع رمزيته، والانطلاق به من دلالة الجملة الى دلالة النص عندما يقول:

(كذبٌ وادّعاءٌ هو الموت !!

فأنا لم أمت بعد).

نحن أمام نص مزدحم بدلالات تبدو ضبابية للمتلقي، تصيبه بالحيرة، والاستفهام وتتوقفه للتأمل فيها، قد نجد في المنحى الصوفي طريقاً لفك هذه الإشكالية كـ(شذرة صوفية) في النص، تمنحه ابعاداً لا نهاية لها، عندما أراد الشاعر أن يؤكد على معنى ذات أبعاد فلسفية.

إن الربط بين الحياة والموت من خلال كونية كل منهما في نسق فلسفي صوفي، هي رغبة الشاعر في البحث عن اللامرئي، وتجاوز حدود العقل ومقاييسه المنطقية لأن الدلالة الرمزية للموت في النص تسير في اتجاه معاكس للدلالة القصدية، والدلالة اللغوية تتقاطع مع رمزيته، والانطلاق به من دلالة الجملة إلى دلالة النص، عندما يقول:

(كذبٌ وادّعاءٌ هو الموت !!

فأنا لم أمت بعد)

الشاعر "عارف الساعدي" رؤيته (ميتا شعرية) أن يكون شاعراً وناقداً في الوقت ذاته، باحثاً ما وراء الأفق عن اللامرئي في النص، کاشفاً عن أفق دلالة الموت بمدى اتساع تلك الدلالة، والانتقال به من مستوى تعبيري إلى مستوى إيحائي.

يمكن أن تكون اللمسة الصوفية مدخلاً تفكيكياً لقصدية الشاعر (لأن الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر يُدرس عند كل شاعر منفصلاً من سواه)،" د. إبراهيم محمد منصور، الشعر والتصوف الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر". فهو يعبر عما يختلج بنفسه، ويثير انفعالاته، وكأنه يردد ما قاله "هايدجر" (يجب على الموت ألا يكون هاجساً وجودياً يقض مضاجعنا) ولكن لا يمكن تأجيله.

الشاعر "عارف الساعدي" يريد أن يتجاهل الموت برؤية فلسفية، ألبسها لباس صوفي، يقف في حالة من اللامبالاة إزاءه، فيأخذ موقفاً لاشعورياً وكأنه لا يعنيه أبداً، وهذه اللامبالاة تكون في أعماق اللاشعور أو العقل الباطن. وعلى الرغم من أن الموت يبقى حقيقة كونية مؤلمة كبرى وقضية إشكالية أثارت الكثير من التساؤلات، إلا أن الشاعر أستفز المتلقي وأثار فضوله في الخوض في هذه الإشكالية كمغامرة بحثية تفجر معاني النص وتؤسس لرؤية متفردة وشعور عميق داخل النفس، في صور شعرية تتوغل في أعماق وعي المتلقي وتثير فيه الدهشة وإيقاظ القدرة التأويلية.

*** 

حسين عجيل الساعدي

 

نقد رواية "أموات يحكموننا ل شيماء أبجاو"*

تنميط خطاب المرأة: عندما لا تتحقق الشروط الضرورية، يـخفق العمل الفني في توليد الأثر الذي يريده الكاتب، وعلى رأي "ميلان كونديرا: لا يستطيع الروائي المعاصر الذي يشتاق إلى الحرية المرنة التي كتب بها المؤسسون الأوائل، أن يقفز فوق موروث القرن التاسع عشر، إذ عليه أن يجمع بين متطلبات التأليف القاسية؛ الجمع بين حرية "رابليه" و"ديدرو" في الكتابة والتخطيط المنظم الصارم، الذي يتطلبه التأليف[1].  من شروط الإبداع إذن إحداث الأثر، والأثر بمفهومه النفسي هو التفاعل مع الموضوع، أو المتعة «وهو العنصر السائد في القصة، وهو الطاقة المحركة فيها، [...] ولعل تنوع عقليات القراء، أو تباين تجاربهم في الحياة، أو اختلاف أمزجتهم هي العناصر التي تحدد مصدر المتعة في الأثر الأدبي»[2]، هذا التفاعل ينطلق من توجهات انطباعية محدودة بالحكم على العمل بجدته أو رداءته، أو منهجية، تتعلق برأي نقدي مشفوع بأدلة، وأسمى أنواع الأثر هو الذي يحرك في القارئ شهيته لمساءلة النص ومساجلته، سجالا معرفيا، من هذا المنطلق لا يمكنا إلا نقبل برهان هذا العمل الأدبي، ونقبل بأسئلته الوجودية والثقافية بل والدينية، هذه الأسئلة على لسان شخصيات متنوعة يحدوها التأمل والمعرفة، باعتبار أن اختيار الشخصيات تحكمه خلفية معرفية كذلك، فاسم طارق، وسلوى، وسعيدة، والسيد المصطفى، والهاشمي تستضمر كما هائلا من التأويلات والقراءات يمكن أن تشكل مبحثا خاصا لدلالة الأسماء لأن «الشخصيات من أصعب جوانب الفن الروائي يمكن مناقشتها تبعا لحضورها في النص»[3].

إن موضوع هذه الرواية في نهاية المطاف وبأبسط تعاريفه رسالة فنية من الذات المتشظية  الملتفحة بنيران وقسوة المجتمع، إلى مجتمع آخر يؤمن بأفكار الرواية ويتبناها؛ قد نكون جزءاً منه .«فالمحك الحقيقي لعظمة القصة، أو الخلود أي أثر أدبي، على اختلاف الأساليب والموضوعات، هو مدى اتصاله بالحقائق التي تجعل الحياة الإنسانية أكثر عمقاً»[4]، لكن ما يُلاحظ على العمل فنيا هو طريقة الاشتغال على مفهوم الحبكة، لقد أخلت الكاتبة بقواعد هذه التقنية حينما كسرت وأوقفت الحوار الشيق المعرفي/ الوجودي بين "السيد المصطفى" وابنه "طارق"؛ حوارٌ يتأسس على أسئلة فلسفية أنطولوجية، بنفس سردي لم يكن طويلا وعميقا، لأن الغاية الكبرى لهذا العمل تتجلى في انتقاد منظومة متوارثة ذكورية منطلقاتها القرآن والسنة، وبين الأسئلة والرهان فقَدَ مسار الحكي بوصلته، ليقع في تحنيط وتنميط خطاب المرأة، وتكرار تلك المعزوفة المتمثلة في قهر الرجال للنساء، من منطلق الدين، ولو واصلت الساردة مسارها السردي في السؤال والحوار الفلسفيين كان العمل سيبدو بصورة أخرى. لذلك فالرهان في مواجهة الأنساق الثقافية كان مغامرةً سرديةً، من جهة البناء الفني، ومن جهة تناول الموضوع، لأن الدين في نهاية  المطاف في خدمة المجتمع، والمجتمع في خدمة الفرد، والتربية الدينية هي تحرير العقل من الأفكار المسبقة والأحكام المتوارثة كما يؤكد ذلك جان جاك روسو[5]، ولعل الأديان جميعها تتوحد في رؤيتها وتصورها للإنسان عبر قانون أخلاقي أو ميثاق مؤسساتي منظم للسلوك وموجه له. ولعلنا نتساءل ـــ بقصد إضاءة جوانب النقد الروائي الذي يضع على عاتقه مسؤولية القراءة والتوجيه، علما أن مستويات هذا النقد تخضع بدورها لمقولات مختلفة ـــ، لماذا ننظر  إلى الدين الإسلامي نظرة أحادية، ونتبنى خطابا واحداً ووحيداً من بين خطابات متشعبة ومتنوعة؛ وهو خطاب المرأة وعلاقتها بالرجل؟، ثم نقوم بتحليل هذا الخطاب من زاوية ضيقة مُشبعة بأفكار حداثية موغلة في التشديد والاستلاب؟ لماذا يُنظر إلى هذا الدين بمنظار واحد ضيق، هل خطاب المرأة و علاقتها بالرجل هو محور الدين؟ وهل ظلم المرأة وسلبها للحقوق هو ما يمكن أن نتحدث عنه؟ نتفق مع الكاتبة في كون المجتمعات على اختلافها تعيش هضماً لحقوق الإنسان، ثم إن علاقة الرجل بزوجته أو أبنائه إذا شابها سوء خلقٍ أو إهانةٍ، فهذا السلوك لم يقر به نص، وإنما سلوك فردي أملته دواعي كثيرة منها النفسي المرضي، والسوسيو الثقافي والاجتماعي. وبناء على ذلك كيف لنا أن ننظر إلى صورة المرأة واستهلاك أنوثتها في المشهد البصري، واعتبارها مادة إعلانية ممن يدعون  إلى التحرير والتحرر؟ كيف نقبل بالممارسات العدائية على النساء،؟ كيف نقبل بتشغيل القاصرين في المزارع والحقول؟ كيف نقبل بترك الأمهات في دور العجزة؟ هي أسئلة في صميم معاناة المجتمعات الإسلامية والدينية عموما تكرس لقهر المرأة وظلمها من طرف سياسات بشرية وليس من طرف دين سماوي.

خاتمة

في الأخير مثلت رواية "أموات يحكموننا" سجالا معرفيا وفلسفيا ونقديا مع التراث، والمجتمع، والدين، وشكلت في جزء منها رؤية مغايرة للكتابة النسائية، لأنها لم تقع في اجترار مواضيع الذات الأنثوية، وأبانت عن تصور معرفي فلسفي ميز العمل؛ قبل أن تنزلق الحكاية إلى مسار التنميط، وتقع ضحية تصور ماضوي لا ينتمي لميثاق الأخلاق الذي يدعو إليه الإسلام، وإنما هو فكر متطرف استدعته أوضاعٌ وظروفٌ سياسية، ولا يقبله عقل ولا منطق، وهو منزلق أو هفوة سردية يمكن الاصطلاح عليه  "بالومضة السريعة" ( Eclat rapide  (هذه الومضة السريعة أملاها غياب السياق الذي يعد موجها للخطاب ومؤثرا فيه.

***

د.عبد الـمـُجيب رحمون

.........................

الهوامش:

* نشر الجزء الأول بتاريخ 24/07/2024، عبد الـمـُجيب رحمون: مغامرة السرد النسائي في مواجهة الأنساق الثقافية (1) (almothaqaf.com)

[1] أيمن الغزالي، لذة القراءة في أدب الرواية، دار نينوى، سوريا، الطبعة الأولى 2001، ص: (9ـــ10).

[2]  يوسف نجم، فن القصة، دار بيروت للنشر، لبنان، 1955، ص: (11، 13).

[3]  انظر، ديفيد لودج، مرجع مذكور، ص: (78).

[4] يوسف نجم، مرجع مذكور، ص: (60).

[5] انظر، دين الفطرة، ترجمة عبدالله العروي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2012، ص: (15-16).

 

في المفهوم: البنيويّة التكوينيّة أو التوليديّة: هي فرع من فروع البنيويّة، وتُعد من مناهج ما بعد البنيويّة، حيث جاءت لسد ثغرات المنهج البنيوي, وهي تجمع ما بين البعد الاجتماعي والبعد اللغوي. أي ما بين الشكل والمضمون.

لقد نشأت البنيويّة التكوينيّة استجابة لسعي بعض المفكرين والنقاد الماركسيين وعلى رأسهم  الفرنسي "لوسيان غولدمان" للتوفيق بين أطروحات البنيويّة في صيغتها الشكلانيّة من جهة، وأسس الفكر الماركسي الجدلي من جهة أخرى، والذي يركز على التفسير المادي التاريخي لعموم الفكر والثقافة. فالتفكير الماركسي من هذا المنطلق, يتجاوز مفهوم البنية المغلقة للنص الأدبي، ويحاول في الوقت ذاته ربط النص الأدبي بسياقه الاجتماعي والتاريخي.(1).

أعلام البنيويّة التكوينيّة:

لقد كان للفيلسوف والمفكر المجري "جورج لوكاتش" الأثر الكبير في صياغة الاتجاه البنيوي التكويني إلى جانب عالم الاجتماع الفرنسي "بيير بورديو". لقد سعى "لوكاتش" إلى الربط بين التطور الاجتماعي والتطور الأدبي في مضامينه وأشكاله, مما أدى إلى تحقيق نقلة نوعيّة في (علم الاجتماع الأدبي)، اعتمد عليها أبرز منظري المنهج البنيوي التكويني وعلى رأسهم "لوسيان غولدمان".(2). الذي سعى إلى تأسيس منهج عقلاني لدراسة الواقع الإنساني، فاستقى فرضياته ومرتكزاته النظريّة من المنهج الماركسي, مع أطروحات فلسفيّة "لكانط وهيغل" وآراء "بياجيه"، إضافة إلى اعتماده الأساس على آراء "لوكاتش"، وكان هدفه من ذلك كله, هو إيجاد بديل علمي لبنيويّة "ليفي ستراوس"، وفلسفة "ألتوسير".(3). (لقد أطلق "غولدمان" فكرة "رؤية العالم" التي أرسى بها أسس البنيويّة التكوينيّة، حيث يرى أنّ الأدب والفلسفة تعبران عن رؤية العالم، وأنّ هذه الرؤية منعكسة عن واقع اجتماعي لا فردي، "إذ إنّها ليست وجهة نظر الفرد المتغير باستمرار، بل هي وجهة نظر ومنظومة فكر مجموعة بشرية تعيش في ظروف متماثلة).(4). هذا  ويعتمد المنهج التكويني من وجهة نظر "غولدمان" على مبدأين أساسيين، هما:

المبدأ الأول: (إنّ كل تأمل في العلوم الإنسانيّة والفكر لا يحدث من خارج المجتمع، وإنما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بطبيعة الحياة الماديّة والثقافيّة للمجتمع، فالمنهج التكويني يعالج قضايا منظومة الفكر الاجتماعي بكليته، بمعنى أنه لا ينظر إلى بنية النص بمعزل عن عواملها الخارجيّة سواء أكانت اجتماعيّة أو ثقافيّة.).(5).

المبدأ الثاني: (إنّ الأساس الذي يقوم عليه الفكر الجدلي لبنيويّة التكوين، نابع من نشاطات الإنسان (الممارسة)، وأنّ كل فعل إنساني، له خاصيّة دالة ليست دائماً واضحة بالضرورة، ولكن الباحث يجب عليه عن طريق عمله إظهار هذه الخاصيّة الدالة.).(6). وعلى هذا الأساس الذي عبّرت عنه وجهة نظر "غولدمان", فإنّ عمل الباحث أو الناقد في بنية تكوين النص الأدبي أو غيره عند قراءته له, إنما يقوم بتفسير النص من خلال تركيزه على العوامل الخارجيّة, تاريخيّة كانت أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو ثقافيّة أو نفسيّة، فبنية النص الدلاليّة تحمل في طبعها أبعاداً فكريّة أو فلسفيّة نابعة من مخزون ثقافة مجتمع ما, ضمن إطار زمني معين، وبالتالي لابد من استنطاقها داخل النص لمعرفة مولداتها وأسباب تكوينها.

مرتكزات البنيويّة التكوينيّة:

تقوم البنيويّة التكوينيّة على أربعة مرتكزات أساسيّة، حددها "لوسيان غولدمان" تبعًا لنوعيّة وطبيعة العلاقة بين الحياة الاجتماعيّة والإبداع الأدبي، وهي علاقة تقوم على أساس التماثل أو التطابق الوجودي بين النص الأدبي، وعلاقته بالبنيات الذهنيّة لطبقة أو فئة اجتماعيّة، وتمثل هذه المرتكزات مصطلحات إجرائيّة، ومفاتيح يتسلح بها الباحث أو الناقد عند تحليله العمل الأدبي تحليلا سيسيولوجيّاً تكوينيًّا، يمكن حصرها بالتالي:(7).

1- الرؤية الشموليّة للعالم:

تعد رؤية العالم من المرتكزات الأساسيّة التي تُبنى عليها البنيويّة التكوينيّة، فيعرفها "لوسيان غولدمان، بأنّها "مجموعة من التطلعات والإحساسات والأفكار التي توحد أعضاء مجموعة اجتماعيّة أو طبقة اجتماعيّة، وتجعلهم في تعارض مع المجموعات الأخرى، حيث تمتاز الرؤية عند "غلودمان بالشموليّة والانسجام أو التماسك.(8).

2- الفهم والتفسير المادي للنص:

حيث تقوم عمليّة الفهم والتفسير على (مبدأ التكامل) بين بنية النص الداخلي وعواملها الخارجيّة الاجتماعيّة والثقافيّة والتاريخيّة والنفسيّة، فالفكر هنا يرتبط بالواقع وهو انعكاس له على حد تعبير نظريّة الانعكاس عند" لوكش". وهذا يساهم في إنشاء بنيات دالة تنتمي إليها المجموعات أو الطبقات التي يتمثلها سلوك جماعي معين.(9).

3- البنية الدالة:

ويحددها "غولدمان" بأنها الواقع، والمضمون الاجتماعي داخل البنية النصيّة، إلا أنها تتجرد لتشكل مقولات ذهنيّة أو تصورات فلسفيّة تتحكم في مجموع بنيات العمل الأدبي التي تشكل نسيجًاً منسجمًاً شموليًاً تُعبر عنه رؤية المبدع للعالم.(10).

4- الوعي القائم والوعي الممكن:

و(يشتغلان على توضيح الصلة القائمة بين الوعي والحياة الاجتماعيّة. فالوعي القائم: هو إدراك فئة اجتماعيّة ما لوضعها الراهن سواء في علاقتها مع الطبيعة أو في علاقتها مع الجماعات الأخرى. أما الوعي الممكن: فهو أقصى ما يمكن أن يبلغه وعي الجماعة دون أن يؤدي ذلك بالضرورة إلى إحداث تغيير في طبيعتها.). (11).

5- العلاقة الجدليّة بين بنية النص ومضمونه الاجتماعي:

وتتجلى هذه العلاقة الجدليّة في إبراز (التأثير المتبادل) القائمة بين العمل الأدبي والبينة الدالة في هذا العمل, فدور الكاتب أن يعمل على تحليل هذه العلاقة وإظهارها, أي بيان الصلة بين بنية العمل الأدبي ومضمونها الاجتماعي، إذ إنّ العلاقة بين الحياة الاجتماعيّة والعمل الأدبي علاقة جوهريّة يقوم التماثل باستظهارها والتوفيق بينهما. (12).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

............................

الهوامش:

1- (بسام قطوس - دليل النظريّة النقديّة المعاصرة، الاردن: فضاءات للنشر والتوزيع - ص 113- 114. بتصرّف.).

2- ("مرتكزات بنيويّة - لوسيان غولدمان - التكوينية"، مجلة آفاق علمية، 2009، العدد 4، المجلد 44، ص 503. بتصرّف.).

3- (موقع موضوع: البنيوية التكوينية في النقد الأدبي -  ليث بني نصر).

4- ("مرتكزات بنيوية لوسيان غولدمان التكوينية"، آفاق علمية، 2019، العدد 4، المجلد 11، صفحة 502.).

5- ).( محمد بنيس (1985)، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب،- مقارنة بنيوية تكوينية - الطبعة 2، بيروت: التنوير للنشر، ص 25.).

6- (المرجع نفسه- ص 25.).

7-  (موقع موضوع: البنيويّة التكوينيّة في النقد الأدبي -  ليث بني نصر ). بتصرف.

8- (المرجع نفسه. بتصرف.

9- ( "مرتكزات بنيوية لوسيان غولدمان التكوينية"، آفاق علمية ، 2019، العدد 4، المجلد 11، ص 509. نقلاً عن موقع موضوع).  بتصرّف.

10- المرجع نفسه. ص509

11- (المرجع نفسه ص. 510.

12- المرجع نفسه. ص512 بتصرف

 

مسائل القلب، من أسطورة آرثر إلى تريستان وإيزولد

بقلم: مارلين يالوم

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كلمة الرومانسية نفسها تأتي من الكلمة الرومانية - أي قصة مكتوبة بإحدى اللغات الرومانسية المشتقة من اللاتينية (الإيطالية والفرنسية والإسبانية والبرتغالية والرومانية). غالبًا ما تتبع هذه الحكايات مغامرات الفارس الذي كان هدفه إثبات نفسه في المعركة وفي غرفة النوم. بمرور الوقت، أصبحت الكلمة الفرنسية "رومان" تمثل النوع الأدبي المعروف باللغة الإنجليزية بالرواية. كان الحب الغرامي، في العصور الوسطى وحتى اليوم، مرتبطًا جدًا بأدب الحب لدرجة أنه من الصعب معرفة ما الذي جاء أولاً: هل خلقت قصص العصور الوسطى الفرنسية (الرومانية) رؤية الحب التي نسميها الآن رومانسية، أم أنها خلقت رؤية رومانسية؟ الحب موجود قبل الرواة؟

من المؤكد أن تاريخ أبيلار وهيلواز، من النصف الأول من القرن الثاني عشر، يشير إلى أن التروبادور لم يكونوا أول الأوروبيين في العصور الوسطى المهووسين بالحب العاطفي. قصة إغواء رجل الدين أبيلارد لتلميذته الموهوبة هيلواز، وحملها، وطفلهما المسمى أسطرلاب، وحفل زفافهما السري، وإخصاء أبيلارد اللاحق على يد عم هيلواز المنتقم، كانت منتشرة بالفعل خلال حياة الزوجين.

كان من الشائع بين المنشدين ورواة القصص في العصور الوسطى أن يمجدوا الرجل أو المرأة الذي أعطى قلبه من النظرة الأولى أو الذي كان محظوظًا بما يكفي لتبادل قلبه مع حبيبته. لنأخذ على سبيل المثال شاعر القرن الثاني عشر كريتيان تروا (1130-1191) عندما كان تحت رعاية ماري دو شامبانيا، ابنة إليانور آكيتاين ولويس السابع ملك فرنسا. في بلاط ماري في مدينة تروا الصغيرة الصاخبة، حيث تم رفع الحب إلى مدونة سلوك مثالية، أصبح كريتيان المتحدث الرسمي باسم ماري عن القلب العاشق.

تستخدم روايات كريتيان الرومانسية الخمس على نطاق واسع كلمة "قلب" (cuer في الفرنسية القديمة). تتكرر الإشارات إلى قلوب أبطاله، سواء كليجيس أو لانسلوت أو إريك أو إيفين أو بيرسيفال، طوال مغامراته العديدة والرائعة. في أغلب الأحيان تكون قلوبهم حزينة، تعاني، نادمة ومتألمّة بسبب بعدهم عن من تحب. دفعت هذه المشاعر السلبية المستقرة في القلب البطل إلى التصرف على أمل أنه من خلال التغلب على عقبة محسوسة، سيجد القلب الفرح أخيرًا.4320 الرومانسية

كان القلب الذي تمجده رواة القصص في القرن الثاني عشر مخلصًا دائمًا لحبه الحقيقي.  كما كتب كريتيان دي ترويس في رائعته "لانسيلوت"، "الحب الذي يحكم / جميع القلوب / لا يسمح لها إلا / بمنزل واحد." وبالمثل، كتب القس أندرياس كابيلانوس، الذي كان أيضًا يتمتع برعاية ماري دي شامبانيا، في رسالته اللاتينية "عن الحب(من الفن الصادق أماندي)  "الحب الحقيقي يربط قلوب شخصين بشعور عظيم من الحب بحيث لا يمكنهما أن يتطلعا لعناق آخرين." في هذا السياق وغيره، كان كابيلانوس يردد بعض الأفكار التي عبر عنها بالفعل الفيلسوف المسلم ابن حزم قبل قرن من الزمان. كان الإخلاص للمحبوب أمرًا مسلَّمًا به في أدب العصور الوسطى، مهما كانت الحقيقة خارج النص في حياة الناس الحقيقيين.

الاعتقاد في الوفاء كان ينطبق سواء كانت المرأة المرغوبة عذراء عذراء أم متزوجة بالفعل. بوضوح، عندما كانت المرأة المرغوبة زوجة لرجل آخر، كانت المشاكل واضحة. تتحدث قصص تريستان وإيزولد، ولانسلوت وغوينيفير، وأزواج آخرين يمارسون الزنا عن جاذبية الثمرة المحرمة. على الرغم من أننا لا نستطيع أبدًا معرفة مدى انتشار الزنا في الحياة الواقعية، يبدو أن المجتمع القروي كان مهووسًا بموضوع الزانية، كما يُظهر ذلك في العديد من الروايات الشعرية العالية والقصص التهكمية الشعبية المعروفة باسم فابلو. بسبب الخوف من أن تنجب النساء أطفالًا نتيجة علاقات محرمة، جعلت الممارسات الإقطاعية من الصعب عليهن أن يبقين وحيدات. كانت النساء ذوات الأصول النبيلة محاطات دائمًا بنساء أخريات - أقارب وخدم يأمرهن رئيس المنزل الذكر بمراقبة زوجته أو بناته بعناية.

"القلب الذي تمجده رواة القصص في القرن الثاني عشر كان دائمًا مخلصًا لحبه الحقيقي الوحيد."

أحد أسباب شعبية قصص الزنا يكمن في الاعتقاد السائد في بلاط ماري دي شامبانيا، بأن الحب الحقيقي لا يمكن أن يزدهر في إطار الزواج. وبالفعل، عندما سُئلت عن رأيها، أجابت بشكل لا لبس فيه: «إننا نعلن ونؤكد بشكل لا لبس فيه أن الحب لا يمكن أن يمتد لسلطته على الزوجين». لقد رأت أن العشاق أحرار في منح حبهم أو حجبه، في حين أن المتزوجين ملزمون بإرضاء بعضهم البعض، مما يجعلهم غير عرضة لانفعالات الأحباء الفجائية. وعلى غرار راعيها، دافع كابيلانوس في البداية عن وجهة نظر تقول بأن الحب لا يجد مكاناً بين الزوجين. ولكن في نهاية كتابه "في الحب"، غير رأيه، وأدرك أن الزواج لا يُعتبر عذراً لعدم التعبير عن الحب. من المحتمل أن كابيلانوس، الكاهن، شعر في النهاية بالاستياء من الموقف السلبي تجاه الحب الزوجي الذي تنادت به ماري دو شامبين وغيرها من الطبقة النبيلة.

على الرغم أن الفرنسيين ابتكروا هذا النوع الأدبي، إلا أن الألمان سرعان ما تبنوه. تعتبر قصة تريستان وإيزولد من القصص المعروفة بفضل النسخة التي كتبها جوتفريد فون شتراسبورغ (حوالي 1180-1210)، والتي أُعيد توضيحها بعد ستة قرون في أوبرا واغنر الشهيرة عالميًا. خلال مغامرات تشبه تلك التي يعيشها الأبطال الخارقون، يظهر تريستان كفارس مثالي، لكن مصيره يُحتضر عندما يُرسل إلى أيرلندا من قبل عمه الملك مارك ليخطب إيزولد له.  في رحلة العودة، شرب تريستان وإيزولد عن طريق الخطأ من جرعة سحرية مخصصة لمارك وإيزولد في ليلة زفافهما. من الآن فصاعدا، لا شيء يمكن أن يضعف العاطفة المتبادلة التي تغزو جسدي تريستان وإيزولد. بعد أن أكملا حبهما على القارب الذي أعادهما إلى كورنوال، يقرران الاحتفاظ بعلاقتهما الجنسية سرا، حتى بعد زواج إيزولد رسميًا من مارك.

أحد أشهر المشاهد في الحكاية يحدث في مغارة داخل الغابة. إنه مكان يسود فيه الحب الجنسي بشكل طبيعي بين النباتات والحيوانات، دون قيود المجتمع والدين المصطنعة. إن ممارسة الحب داخل هذه المغارة يرتقي إلى مستوى من التفاني الذي يوحد الجسد والقلب والروح. وأقتبس فقط بضعة أسطر من هذه الأنشودة عن الحب: “لم يتغذوا في مغارتهم إلا على الحب والرغبة. . . الإخلاص الخالص، الحب يصبح حلوًا كالبلسم الذي يواسي الجسد والإحساس بحنان شديد، ويدعم القلب والروح. . . ولم يفكروا قط في أي طعام إلا ما يشتهيه القلب، وتتلذذ به العيون، ويرتاح له الجسد أيضًا.

يمجد جوتفريد الأيروس ولا يحاول الإجابة على الأسئلة الأخلاقية التي يثيرها الزنا. إنه يضع القلب في مركز الكون ويفترض أنه يجب أن يوجه شؤون الإنسان مهما كانت العقبات التي تواجهه. وخلص أحد النقاد المعاصرين، في تعليقه على تريستان، إلى أن "كل شيء مباح لمن يحبون".

بحلول عام 1200، في كل من الثقافة الفرنسية والألمانية الرفيعة، كان الحب الجنسي ينافس، بل ويتجاوز، القيمة التي كان يتمتع بها في العصور القديمة اليونانية والرومانية. ربما لا يزال يُنظر إلى الحب على أنه جنون، لكنه جنون يستحق العيش والموت من أجله. سيموت تريستان وإيزولد من أجل الحب؛ حتى أن الألمانية لديها كلمة لوصف فعلهم: liebestod (من liebe، وتعني "الحب"، وtod، وتعني "الموت"). بعد قرون، ألهم هذا المصير المأساوي المثير نسخة فاجنر الأوبرالية المجيدة من تريستان وإيزولد.

لقد أعطتنا نصوص وصور العصور الوسطى رجالًا ونساءً لم يكونوا مختلفين كثيرًا في قلوبهم. مثل الرجال، كانت لدى النساء قلوب تتسع لتشمل الحب، وتشعر بالرغبة والشوق، ويمكن أن تصاب بالغيرة واليأس. على الرغم من الاختلافات وعدم المساواة التي كانت موجودة بوضوح بين الرجال والنساء في العصور الوسطى، إلا أن القلب كان يعتبر مجالًا لتكافؤ الفرص.*

***

...........................

* مقتطف من (القلب الغيور: تاريخ غير تقليدي للحب)  تأليف:  مارلين يالوم.2018

المؤلفة: مارلين يالوم/Marilyn Yalom: (10 مارس 1932 - 20 نوفمبر 2019) كانت مارلين يالوم  مؤلفة ومؤرخة نسوية. كانت من كبار الباحثين في معهد كلايمان لأبحاث النوع الاجتماعي في جامعة ستانفورد، وأستاذة اللغة الفرنسية. شغلت منصب مديرة المعهد من عام 1984 إلى عام 1985.ولها كتاب تاريخ الزوجة،

 

تداعيات المكان في سِفر مدينة

توظيف المدينة أو المكان في نصوصٍ رصينة لإيصال معلومة تاريخية ذات دلالات اجتماعية وسياسية الى المتلقي ضرب من السردية الشائعة التي تناولها الأدباء والكتاب عبر أزمان متعاقبة، وبفضل نتاجاتهم الإبداعية اشتهرت مدن كبيرة وكذلك اخرى صغيرة منسية وخاصة في أعمال عبدالرحمن منيف ونجيب محفوظ وبول أوستر وغابريل ماركيز وغيرهم  وألهمت المدن باحثيها وكتابها سمات وأشكال فريدة في الكتابة عنها وبالخاصة تلك التي تجاوزت هيكلية المدينة كمبان ومنازل وشوارع ومحلات، إلى كونها مسرح حياة تحمل كل أنّات وعبرات وطموح وأفراح ونجاحات من يعيش بداخل أحيائها بل إن العديد من هذه النتاجات غيرت القناعات والمسلمات لدى بعض الناس وأسهمت في تغيير طريقة تفكيرهم ونمط حياتهم.

و(كركوك) المدينة التاريخية العريقة التي تعود الى ١٦٠٠ قبل الميلاد الواقعة في شمال العراق والتي تبعد عن العاصمة بغداد حوالي ٣٠٠ كلم كانت مبعث وهج للكثيرمن الشعراء والأدباء الذين تغنوا بها وكتبوا عنها في قصصهم ورواياتهم وقصائدهم، لكنها اكتسبت خصوصيتها كونها تضم إثنيات واقوام وكيانات متنوعة تمازجت وتآلفت عبر مئات السنين وقارعت معاً الخطوب، بل وتمسكت بنسيجها الإجتماعي المتين رغم كل تحديات ومحاولات التمزيق وسياسات التشتيت والفرقة، فاضاف الكاتب كمال بياتلي المولود في كركوك في العام ١٩٥٨م بُعدا سسيولوجياً وواقعياً إليها في كتابه (كركوك وسوق القورية) عبر قصة طويلة محورها مجيد الحمال تلك الشخصية البسيطة والغريبة في آن واحد، بلغة سلسلة، وانسيابية بديعة، بفضل الترجمة المميزة الى العربية التي تولاها أرشد الهرمزي من التركية، والقصة تتناول فترة ثمانينيات القرن الماضي وابان الحرب العراقية الايرانية حيث كانت حافلة بالأحداث المريرة والوقائع المفعمة بالاحزان المغروسة عميقاً في الذاكرة .

ولا شك أن إختيار سوق القورية من قبل المؤلف لم يأت إعتباطاً فهي أقدم أسواق المدينة وأعرقها، وهي معروفة بغالبية سكانها القاطنين في الأحياء المحيطة بها من التركمان، فوظف السوق نموذجاً لما جرى لهم في المدينة برمتها وما تعرضوا له من تعسف وإجحاف خلال تلك الفترة نتيجة فرض سياسة التغيير الديموغرافي على المدينة والتي لا تزال تأثيراتها السلبية قائمة ليومنا هذا.

تبدأ القصة بخروج مجيد الحمال في كل صباح باكر الى السوق وفي تلك الساعات (كان يمكن أن ترى مجيد الحمال دوماً بثوبه القصير المخطط والسترة التي يلبسها ويكون فتق الخياط ظاهراً تحت الإبط دوماً وبحزامه الجلدي الغليظ والطاقية التي يعتمرها وهي الأخرى تعلوها الثقوب.. كانت عيونه تتابع المارة عسى أن يكلمه احد ليحمل مشترياته في سلته المتهالكة القديمة) على أمل أن يعود بمكسب يعينه وأمه على صروف الدهر . فرغم فيض الحركة الدؤوب في السوق فقد كانت هناك لحظات فوضى ورعب وعنف بسبب ممارسات رجال السلطة المدججين بالسلاح بمسمياتهم المختلفة وأغلبهم كانوا من الطارئين على المدينة وقد استخدمتهم السلطة لتغيير واقعها الاثني فساموا أهلها شتى صنوف الاستعلاء والغرور والبطش بحجج مختلفة سواء بزعم البحث عن المتخلفين عن الخدمة العسكرية اوالهاربين من وحداتهم أو حتى الذين لا صلة لهم بالموضوع سوى كونهم مختلفين عنهم بإنتمائهم القومي ومنهم مجيد الحمال الذي تعرض لواحد من اؤلئك حينما صاح عليه غاضبا وسأله عن هويته فوقف مجيد فاغرا فاه وهو لا يعي ما هي الهوية فامتدت يد الشاب ذي الشارب الكث الى قميص مجيد المتهرئ لتهزه بعنف فيتدخل يوسف البقال لإنقاذه :

(يا سادة، هذا الرجل معوّق لا ضرر منه إطلاقا، إنه رجل قست عليه الدنيا، ثم أنه يتيم ووحيد في دنياه. واضح أنه لا يعلم عن ماهية الهوية إطلاقاً...لم يكد يوسف البقال ينهي كلامه حتى مدّ الشاب ذو السترة السوداء يده لتنتزع طاقية مجيد الحمال بقسوة متناهية شاء حظه أن يكون حليق الرأس وإلا فقد كان من المحتم أن ينتزع الشاب خصلة من شعره لو كانت له بقية من شعر، نظر إلى الطاقية المهترئة بقرف واضح ورماها على الأرض) .

ثمن رصاصات الموت

قدرية ام مجيد كانت قد عانت الأمرين أيضا قبل أن تلد ابنها المعاق الوحيد، فقد غاب زوجها حيدر الفخار دون أن يترك وراءه اي إثر في تلك الفترة التي كان أعداد المفقودين المختفية اثارهم تزداد، لقد كان الكثيرون ممن يغادرون منازلهم أو محلات عملهم يختفون دون أن يظهر لهم أي أثر. وهكذا انتهى البحث بها من طوزخورماتو الى أحد أحياء الفقراء في سوق القورية لكنها تلقت بعد سنوات خبرا وصلته من جيرانها هناك مفاده أن سيارة الشرطة توقفت ذات ليلة (أمام بيت حيدر الفخّار، ولما لم يجدوا أحدا في البيت قاموا بتسليم تابوت إلى الجيران وأخذوا توقيعهم بالاستلام وأبلغوهم بضرورة دفن الجثة ليلاً مع عدم تجمع أي أحد، فقام ثلاثة من سكان الحي بحمل التابوت على جرّار وقاموا بدفن الفقيد. وفي صباح اليوم التالي، حضر أفراد الشرطة أنفسهم مع الورقة الموقعة باستلام الجثة إلى جار حيدر الفخّار وطلبوا منه ثمن خمس عشرة رصاصة، وعندما تم سؤالهم عن السبب قال أحدهم: «لقد كان حيدر الفخّار منخرطا في تنظيم تركماني سرّي معاد للدولة. وقد حكمت عليه محكمة الثورة بالإعدام رمياً بالرصاص وثمن الرصاصات اثنان وعشرون دينارا ونصف الدينار وعليكم دفع المبلغ » .

هزة حب

ولكي ينتشل المؤلف قصته من الرتابة والتجريد السياسي فنراه يضع هيفاء تلك الصبية اليافعة والجميلة أمام مجيد فيحدث العابر لقاءه بها هزةً وجدانية عنيفة افقدت مجيد توازنه، وبذلك فقد اسبغ البياتي لمسة رائعة من الرشاقة والرومانسية، وبُعدا إنسانياً مفعماً بالعاطفة الجياشة على قصته عندما إبتدأ قصة العشق المفاجئ والجارف من طرف واحد (فقد نادته سيدة لم يرها لحد اليوم قبلا ليحمل مشترياتها، وقد اصطحب المرأة بما حملها من أكياس إلى دار قريبة من مسكن اسرة عائلة النفطجي، وعندما أدركت أنه قد مسه التعب فقد أدخلته الدار ونادت ابنتها لتعطيه كأسا من اللبن الرائق حصل ما حصل يومها، فقد التقت نظراته مع نظرات الفتاة عندما ناولته الكأس، فتغيّرت ملامح وجهه ولما سمع الفتاة تقول له: «تفضل!» فقد تغيّر العالم من حوله، ولأول مرة في حياته اكتشف أن شفتاه قد خلقتا لرسم ابتسامة، وشعر بشيء ما في داخله كما أحس وكأنما موجة من الدفء تسري في عروقه من رأسه إلى أخمص قدميه) .

ويشرع المؤلف في قسم كبير من القصة بعرض مكابدات مجيد الذي اكتفي بمتابعة هيفاء في تحركاتها خارج البيت . وهيفاء اسم أطلقه مجيد عليها في خياله فيما تبين بأن إسمها الحقيقي سماء وهي وحيدة والدتها وتعيش معها بعد استشهاد شقيقها عبد الهادي في جبهة الشيب على الراتب التقاعدي الذي خصص لهما .. وفي إحدى متابعاته يسقط مجيد مغشيا عليه في ساحة ألعاب العيد وهو يراقب معشوقته تتأرجح في أرجوحة عالية مع صديقاتها ويرقد في المستشفى وكان المختار محمد بجانبه في حين كانت أمه قدرية تتلظى كمداً على إبنها الذي غاب عنها دون أن تعرف مصيره . وحالما اعاده المختار إليها بعد أيام حضنته المسكينة (وهي بين حالتين من الضحك والبكاء، بدأت تشم رائحته وتقبل عينيه وجبينه ورقبته، إلا أن مجيداً بدا وكأن الأمرلا يعنيه. سحب رأسه من حضن والدته وصعد إلى السطح قبل أن تغرب الشمس لينتظر النجوم ).

ويمضي البياتي في إيراد حالات من المآسي الناجمة عن الحرب ومنها حمل التوابيت التي تضم الشهداء إلى البيوت المفجوعة فيما كان بعضها تضم مجرد قطع من اللحم البشري وكان من الصعب (تحمل رؤية هذا المنظر فيما لو كان الفقيد قد تزوج حديثاً أو كان قد قام بخطبة فتاة في الفترة الأخيرة) . وفي ذات الوقت كانت سوق القورية مسرحا لوقائع مؤلمة نتيجة حالات اعتداء يقوم بها أفراد الشرطة السرية على بعض الناس ومنهم احمد تركلاني صاحب أحد المحلات الذي سحبوه امام أنظار أفراد الشرطة بملابسهم الرسمية فانهالوا عليه بالضرب المبرح فيما كان ابنه الصغير يصرخ من الفزع والخوف على والده فاندفع لينقذ والده إلاّ انه تلقى ضربة من أخمص بندقية أحد أفراد الامن الخمسة فيما كانت جمهرة من الرجال والنساء الوافدين من أحياء المدينة المستحدثة بانتظار إشارة منهم للاستيلاء على بضائع المحل انذاك تملك مجيد الحمال الخوف وهو يرى ما يجري وبدأ يرتجف فأمسك به أحدهم واخذه بعيدا عن المنظر المؤلم.

ويختتم البياتي قصته الطويلة بحدث موجع شهدتها سوق القورية في أحد ايام الجمعة بعد ان تحول الى ساحة هرج واضطراب وفزع شديد بسبب قيام قوة أمنية مسلحة بإطلاق النار عشوائياً بين المدنيين في محاولة للقبض على أحد الهاربين من الخدمة العسكرية فيما كان بضعة من الحمالين بينهم مجيد جالسين تحت أحد اعمدة الانارة مدخل فرع الصاغة القديم في السوق فاصابتهم رشقة من الرصاص الطائش فجرح أحدهم ومات اثنان (بعد حين ذهب أحد الحمالين الذين كانوا يجلسون مع مجيد والذي نجا من الإصابة بأية طلقة إلى قدرية قال لها دون سابق انذار «أصيب مجيد برصاصة في صدره وهو ينتظر النجوم).

لقد أفلح البياتي في قصته الطويلة إختزال الحياة لمدينة كركوك في زمن محدد ورقعة جغرافية محصورة بجزء من سوق القورية لكي يؤرخ للقارئ تداعيات الأحداث على أهلها انذاك، ورغم ان مقصد المؤلف كما أورد في المقدمة كان يكمن في نسج قصة حب بريئة ومستحيلة وعلاقات اجتماعية متماسكة ومصيرية تؤطرها تقاليد وقيم إنسانية ملهمة بين أشخاص عاش بينهم ومعهم  لكن سطوة الوقائع هيمنت عليه وأخذت حيزا واسعا بين دفتي الكتاب . وبذلك تحولت القصة إلى شهادة إنسانية وتأريخية نضرة لفترة زمنية عاصرتها كركوك لتبقى حية في ذاكرة الأجيال القادمة.

***

محمد حسين الداغستاني

القدرة على سرد ما قل ودل وليس عجزاً في التعبير

(تجويع اللفظ وإشباع المعنى)، الجرجاني

***

"التكثيف كمصطلح أدبى فهو خصيصة جوهرية من خصائص الشعر، ويكون على المستوين البنائى والدلالى فالتكثيف البنائي هو الاقتصاد اللغوي وعدم تحميل النص بكلمات زائدة عن حاجاته، وتكثيف دلالي وهو تحميل الكلمات وشحنها بالدلالات المتعددة، ويشتبك التكثيف البنائي بالتكثيف الدلالي اشتباكاً لا انفصال فيه بحيث يتحقق الاقتصاد اللغوي القائم على إزالة الحشو والزيادات مع التكثيف الدلالي و تكثير وغزارة المعنى في آن واحد"

"الجدير بالإشارة أن التكثيف والاٍختزال ليسا مصطلحين مترادفين يحل كل منهما محل الآخر، فالاختزال يختلف عن التكثيف في أن الاختزال تكثيف شديد يستخدم في صياغة النصوص القصيرة جدا كالاٍبيجراما أو الومضة الشعرية، وهو بذلك يتناسب مع النص القصير الوامض الخاطف الذي يعبر عن لحظة أو مشهد خاطف وامض يصوغه الشاعر بأقل قدر ممكن من الكلمات وأكبر قدر ممكن من الحمولات الدلاليه" محمدعزب الانطلوجيا 9 شباط 2021 طامي الشمراني

https://makkahnewspaper.com/article/1557855/الرأي/الأدب-الوجيز-طفرة-أم-استجابة-لروح-العصر

أهتم الأدب الوجيز كالقصة والقصة القصيرة جدا وكذلك قصيدة النثر  والهايكو، بالإيجاز والتكثيف في عملية السرد وتخليق النصوص السردية والشعرية، لتستوفي مبررات وجودها كجنس أو أجناس إبداعية تستجيب لروح العصر ومتطلباته للاختصار وعدم الإسهاب  في التوصيف والتعريف والاكتفاء بما قل ودل من الكلمات والجمل، وقد أهتم العرب عبر تراثهم الأدبي والكتابي بهذا الأمر   حيث دعا عبد القادر الجرجاني إلى (تجويع اللفظ وإشباع المعنى)، وهذا التعبير أو هذه التوصية تستبطن الكثير من معنى ودلالة  التكثيف والاختزال  وهذه  الوصية أو النصيحة الجرجانية الثمينة ربما تكون سابقة حتى لعصرها، في حين أصبحت ضرورة ملحة في عصرنا الراهن عصر العولمة، عصر السرعة، واقتصاد الزمن في واقع يستوجب السرعة والإيماء والرمز ولا يحتمل الإطالة والإسهاب، ومن مبررات ذلك انشغال الإنسان حد القهر بالعمل اليومي لتأمين متطلبات الحياة المتزايدة دوماً. الإنسان في عصر الأنترنيت وتطور شبكات التواصل والفضائيات واسعة الانتشار أصبح يستبطن الكثير من المعلومات  التي كانت عصية عليه في القرون الماضية، وبذلك أصبح يفهم ويدرك الكثير من الأمور والصفات والتعريفات بالإشارة ولا داعي للإسهاب والإطالة والإعادة المملة  للكثير مما يعرفه ويضمره المتلقي في ذاكرته وتجربته الحياتية، وكأن المتلقي  يتوسلك: يا أخي لا تعيد علي ما أعرفه اخبرني بالجديد المتفرد للشيء الموصوف من قبلك، فأنا أعرف تفاصيل برج إيفل  وتاريخ  إنشائه ومهندسه، لا داعي أنْ تصف لي  وتعرف  طوله ومساحته  وتفرعاته، اذكر لي أذا استجد  شيء في هذا البرج لم أعرفه، أخي  صاحب المطعم أعطني وجبة غذاء أتناولها وأنا أسير  حتى لا يفوتني القطار أو الطائرة لا وقت لدي للجلوس وتناول الطعام  المتنوع  والمقبلات  وووو في مطعم فاخر ...

وأنت يا أخي الروائي العزيز وقتي محسوب ببعض ساعات  قد أقضيها في قطار أو طائرة أو باص نقل، أو فترة استراحة بين دوريتي عمل في معمل أو مصنع، وأنا بالتأكيد بحاجة إلى وجبة غذاء روحي كالرواية والشعر والقصة. شكرا لكاتب القصة القصيرة جداً وقد اختزل  كثيراً، وقد فهمني  كاتب قصيدة النثر  والهايكو ... أما أنت  أيها الروائي قدر وقتي ولا تحرمني من متعة قراءة الرواية أرجوك كثف كثف أختزل قلل أحذف كل الزوائد والمرادفات  أختار كلمة واحدة ولا تكرر المرادفات، فكر في كتابة كل مفردة لتكون هي أفضل الكلمات  تعبيراً عن المعنى وتخليق المبنى ... واستذكر مقولة الجرجاني: (تجويع اللفظ وإشباع المعنى)، كما أرجوك لا تعيد على ما استبطنه من معرفة عن المدن والبنايات  وعمارة  الدور وحتى التوصيف السائد لشكل وملابس الشخصيات الروائية، اذكر لي فقط العلامات الفارقة، أنا أعفيتك ضمن ما استبطنته من معلومات وفرتها ثقافة العصر الراهن أن لا تطيل وأن لات سهب فحينما تذكر مدينة لندن مثلاً،  تتولد في مخيلتي كل صفات هذه المدينة وساحاتها  وشوارعها  ومتاحفها  ومسارحها  ومتنزهاتها ... فقط أعطني  وصفي  إنْ جد فيها جديد لم أعرفه.

من تجربتي الحياتية  سألت  أحد الأصدقاء حول  صديق  مشترك  بيننا  فقال:- نعم  هو  بخير، رأيته يرتدي بدلة زرقاء من قماش انكليزي، خاطها عند الخياط فلان، دفع له المبلغ الفلاني كأجرة خياطة، زوج أحد أولاده من أحد بنات خالته  المعلمة في  المدينة الفلانية وعمرها .... وظل يشرح ويفصل  بإسهاب ممل  لأمور أنا لا احتاجها  وأخرى أنا اعرفها ... كل ما أردته منه أن يقول إني رايته وهو بخير، وكفى.

وهذا  هو  ما تريد أن تنتهجه الرواية القصيرة جداً  في أسلوب  سردها  وحياكتها  لأحداث الرواية القصيرة جداً لتفي بشروطها في الاختزال والتكثيف مع احتفاظها باشتراطات الرواية، وهذا  يفرض على الروائي التفكير كثيراً قبل أن يكتب المفردة  وصياغة الجملة بدون زوائد وان تعبر أحسن تعبير عن المعنى، مكتنزة المعنى من دون كرش وترهل رشيقة أنيقة معبرة، وهنا يجب أن يمتلك الروائي خزيناً لغوياً وثقافياً كبيراً يضخ له الكلمات والمفردات من مخازن ذاكرته الثرية بهذه المفردات والصور والكلمات، شرطها الأول هو كثرت القراءة والمطالعة وكما ذكر الأستاذ عبد الجبار الرفاعي  ضمن مقال بعنوان (الكتابة بوصفها فن الحذف والاختزال) : (كما الاقتصاد سياسة مكثفة كذلك الكتابة مطالعة مكثفة).

لذلك  ترى المتحدث  أو المحاضر المكتنز للمعرفة يعبر عما يريد بأقل الكلمات وبأقصر الجمل، بينما  نرى آخر قليل الاطلاع  يظل  يلف ويدور ويرغي ويهذر  محاولا توصيل ما يريد إلى المتلقي من دون جدوى.

فالكتابة جزلة المعنى رشيقة القوام أمر في غاية الصعوبة وعلى وجه الخصوص في مجال كتابة الرواية القصيرة جداً، فقد قال أرنست همنغواي لمن يريد أن يصبح كاتباً، وبالتحديد روائياً: (عليه أن يذهب ويشنق نفسه، لأنه سيجد أن الكتابة صعبة إلى درجة الاستحالة. ثم ينزل ويعرض هو على نفسه أن يكتب أفضل ما يستطيع للبقية الباقية من عمره. عندها سيكون لديه قصة شنقه بمثابة بداية).

هذا ما قاله همنغواي  حول صعوبة الابتداء بكتابة رواية  طويلة أو قصيرة وهو لم يكتب رواية قصيرة جداً  تستدعي جهوداً  أضعاف م اتتطلبه كتابة رواية طويلة أو رواية قصيرة  لإيصال هذه الفكرة إلى المتلقي المستعصية  بأسلوب  مختزل مختصر مكثف أكثر صعوبة واستحالة. وكما قال الدكتور حسين المناصرة في مقال حول كتابة القصة القصيرة جداً: (وكان السؤال الأكثر إلحاحًا في مجال الكتابة عمومًا، والقصة القصيرة جدًا خاصة، هو: كيف أصبح قاصًا حقيقيًا؟! وكانت الإجابة الوحيدة : قبل أن نكتب علينا أن نقرأ ، ثم نقرأ ، ثم نقرأ في المدونة التي نريد أن نكون من كتابها؛ فمن وجد أنّ لديه ميولًا في كتابة القصة القصيرة جدًا؛ فعليه إن يقرأ ما لا يقل عن مئة مجموعة قصصية قصيرة جدًا؛ حتى يتمكن من أن يكون كاتبًا جيدًا في مجالها.

اقرأ المزيد على الرابط:

https://iraqpalm.com/ar/a3112

كل هذه الصعوبة يواجهها من يريد أن يكتب قصة قصيرة جداً، وهي محدودة الشخصيات ربما شخصيتين لا أكثر، ومحدودة الحوارات، ومحدودة الزمن، ومحددة الهدف، فما أكبر وأصعب مهمة كاتب الرواية القصيرة جداً، متعددة الشخصيات الرئيسية والثانوية، وتعدد الحوارات، وانتقالات الزمكان، وتحديد الهدف المنشود بأقصر الجمل وأقل الكلمات، وارشق الحوارات، وبلوغ الهدف محافظة على اشتراطات أمها جنس الرواية.

فقد كتبت الرواية الطويلة بأقل قدر من التوتر والحذر من الانزلاق إلى جنس أو نوع أدبي مجاور، بينما كتبت الرواية القصيرة جداً وأنا في غاية التوتر والتركيز والحذر من الإسهاب حتى لا انزلق إلى  الرواية القصيرة، ولا أن أوغل في الاختزال والتكثيف لانزلق صوب القصة القصيرة جداً، أو إلى النص الشعري النثري الحديث،  والخوف الشديد من عدم القدرة على إيصال الفكرة ومضمون الثيمة الروائية إلى المتلقي بأقصر الجمل  وأقل الكلمات، يجب أن  تكون الرواية القصيرة جداً رشيقة القوام حد النحافة، مكتنزة المعنى والمبنى حد النشاط والحيوية وخفة الحركة المشوقة للمتلقي، تتحول الرواية القصيرة جداً إلى نص وامض متعدد الفجوات والفراغات، يتحول إلى دوائر متوالية متسعة دائماً في مخيلة المتلقي لتسد وتشغل كل الفجوات والفراغات التي تركها المؤلف لتكون من حصة المتلقي لسدها بطريقته الخاصة وما يختزنه من  خبرة ومعلومات  حول  الشخص أو المكان أو الحدث  الذي يبدو ناقصاً غير مكتمل المواصفات ضمن المتن الروائي، مما يوفر للمتلقي متعة المشاركة في كتابة النص، كما تتعدد المعاني والمباني للنص بتعدد القراءات بعدد القراء. وهنا تكمن الصعوبة التي يواجهها كاتب الرواية القصيرة فيما  يقدمه للمتلقي  وما يحجزه ليكون من حصته، على أن يكون الروائي متفهماً لبيعة هذا المتلقي وبيئته وما مقدار ما يستبطنه من معلومات متعلقة بثيمة الرواية  حتى يتمكن من بناء نص ثان  بدون فراغات مواز للنص الأول ...

فلذلك نقول لمن  يتهم كاتب الرواية القصيرة جداً بأنه لجأ إلى كتابة هذا النوع الجديد من الرواية لأنه لا يمتلك من الخيال والخزين اللغوي لكتابة  الرواية الطويلة والرواية القصيرة، أي أنَّه لا يمتلك هشاشة الهذر والاستغراق في التوصيف والتعريف  والإكثار من المرادفات والإفراط في التشبيه والتزويق اللفظي  ليقدم عملاً روائياً (مكروشاً) متخماً  بما هو معروف ومعاد ومكرر  يولد الملل والكلل من قبل المتلقي  وهو المحاصر بالزمن  المحدود ضمن  كده الحياتي اليومي.

فكما أكد النقاد وأجمعوا على صعوبة كتابة القصة القصيرة جداً، هنا الجهد مضاعف  والصعوبة كبيرة جداً في كتابة الرواية القصيرة جداً. وكتابتها ليست نزهة، وإنما هي عصارة فكر وجهد ومكابدة للقلم وللعقل. ومن لا يستطيع السباحة عليه أن لا يقترب من الساحل.

***

بقلم: حميد الحريزي

خفايا الساردة المنقسمة وتمثيلات المؤلف ساردا

توطئة: إذا تأملنا الاحوال والاوضاع السردية في رواية (حلم ماكنة الخياطة) للكاتبة الإيطالية الشهيرة بيانكا بيتسورنو، والتي قامت بترجمتها عن الإيطالية إلى العربية المترجمة وفاء عبد الرءوف البية، لوجدنا ذلك النسيج المتماهي بين حياتي (المؤلفة - الساردة المشاركة) ويبدو أن الكاتبة بيانكا لديها ذلك الوعي المهني بحرفة الخياطة اعتمادا ملحوظا، على الخلفية الثرية والمفعمة بممارسة مهنة الخياطة عن حال الأوضاع القائمة بها الشخصية الساردة في تشكلات السرد وما آلت إليه أوضاع هذه الساردة المشاركة على أن تكون الواصلة التكنيكية بينها وعوالم تلك الطبقات الاجتماعية المفارقة حينا والمخيبة والمتوترة في ذاتها حينا.و تومئ عنوانات الفروع الفصولية في الرواية بالبث التفصيلي الممل والتشويقي عن أخبار وحكايا تلك العوائل المأخوذة بالخوف والقلق والتنازع فيما بينها لأجل الحضور بتلك المظاهر اللائقة من الملبس ودﻻﻻته الازدواجية في حضور مطامح ودوافع تلك الشخصيات حول عالم الومضة والازياء وكيفية كسب الرهان بأقل الكلفة، حتى وإن كان رهانا منتحلا في الحقيقة المشروخة . في الواقع أن رواية (حلم ماكنة الخياطة) من الاعمال الروائية المتكاثرة في تشكلات تفاصيلها وشخوصها المشحونة بالشك والقمع والتسلط بأشكاله القيمية البالية، لذا تتواصل انهيارات بطلة الرواية ومنذ نشأتها الأولى في بيت الجدة مع تواترات اللقطات المشهدية الكبرى والوسطى والاخيرة مع رواد تلك العائلات الأرستقراطية تغلغلا فيها لحد الاشباع والتخمة: (أنا أيضا خياطة متواضعة، أحبك الثياب منذ صباي ... هكذا أخابت بيانكا بيتسورنو مؤلفة هذه الرواية، مرات عدة عندما سألت عن شخصية بطلتها الحقيقية . /ص3 عتبة مقدمة الرواية) من هنا سوف نعلم بأن هناك القاسم المشترك بين (الساردة الشخصية - المؤلفة الساردة) لتجسد لنا الرواية تصورا متطورا بأن المؤلفة تكتب ذاتها عبر فواعل رواية السيرذاتي . واللافت في أمر الرواية، كونها جاءت بومضات متناثرة ذاكراتيا، لتصبح من خلال صوت عجلة ماكنة الخياطة للشخصية الحاكية توليفا بين الإسقاط الذاكراتي والإيحاء بحلم الشخصية الخياطة عبر سفرها الطويل بين جنبات منازل العوائل الأرستقراطية. وأحياناً يكشف خط التوازي بين طرفي (مؤلفة=شخصية) ذلك الامعان في البنية السردية المحكية لكل منهما المؤلفة والشخصية في الآن نفسه.

- جماليات الحكي وتشظيات الأبنية الحكائية:

لعل البنية السردية في رواية (حلم ماكنة الخياطة) عبارة عن حاﻻت مشيدة في التجاور والتوازي والرموز والتزامن والتضمين، لذا بدت أواصر المحكي وكأنها في حالتي (تفكيك - تشظي) لكننا صرنا نعتقد مع مستهلات الزمن الأولي من العرض المسرودي الذاتي للساردة والمؤلفة، بأن هناك حاﻻت تضفيرية بين أزمنة الوحدات والمشاهد واللقطات يدعمها النسيج التعويضي في الربط بين مستويات التألق في لغة الحكي والتوصيف، ويلاحظ تعدد الحوارات والجمل المشحونة بالتوتر والتضاد وخطية الاسلوب الزمني في عرض الظاهر والمخفي من الأحداث السردية .

1- بنية السرد و المسرود الذاتي والعرضي:

أشرت ضمنا أن مؤثرات السرد والمحكي تنهض بموجب جملة انحرافات تكرارية واستطرادات وقفز في الاسترسال والمزج بين (السرد - المسرود الذاتي - المسرود العرضي) بلوغا إلى مرحلة إحصائية الأسماء الشخوصية المتباينة والمختلفة في وحدات السرد: (السيدة أنجلينا فالييلا، مظيفتنا خلال الصيف، والخياطة الوحيدة في ستينتينو، والتي كانت تمتلك ماكينة بالمدوس جميلة للغاية - السيدة أرمينجيل ارجارج وني، المرأة الأكثر ذكاء وابداعا بين من عرفت، التي غابت عن حياتنا منذ عامين، والتي ظلت، حتى بعد أن صارت عمياء وإلى عامها السابع والتسعين، تخيط بماكينتها ذات المدوس ./ص8 الرواية) هذا الأمر ما يفسر تماهي الأزمنة وثبات المكان أي (حلم ماكنة الخياطة) عبر موقعها السيرذاتي في الاختيار ككاتبة وخياطة لأكثر الأحداث والأسماء الشخوصية تجسيدا في رؤية شمولية ورؤية أكثر جلبا لدﻻلة التواريخ المتعددة بتلك السيدات اللائي غبن صامتات أو ممن فقدن ابصارهن في عوالم حكايات زمن وموقعية السرد الذاكراتي أو الاسترجاعي .

2- فعل كينونة التكرار ومراوحة الذات الفاعلة:

لعلنا نقول في صدد (فعل كينونة التكرار) كون حياة حكاية الساردة تتنفس في أعماق وبواطن زمن ماكنة الخياطة، لذا بقيت الذاكرة في (مراوحة الذات الفاعلة) إذ ينطبع من خلال سردها التناظر بين المحكيات المحكومة بمعيار التفصيل وخصيصةالانفتاح نحو استجلاب المتخيل بالواقع الطردي ليؤسس نوعا من الترابط والدﻻلة الناظمة: (جدتي بيينا سيستو التي علمتني التوشية بالخيط الأبيض والألوان، والتي كانت تراني استخدم الإبرة دون إرتداء الكشتبان - كما فعلت دوما وﻻ أزال . تشكوني لأمي متنبئة بأنني سأصبح امرأة صعبة المراس . / ص9 الرواية) ولعل أهم خصيصة في جملة هذه الوحدات، ذلك القول (كما فعلت دوما ولازال) يحدث مثل هذا في مجرى تقليب الزمن المعطى الأخذ في التكر وحتى مرحلة ملازمة مبدأ الدخول الكلي في النسيج تمفصلا بالسرد صعودا إلى مشروطية الفقدان: (لم يتبق غيرنا نحن فقط من العائلة بأكملها بعد وباء الكوليرا الذي أطاح في طريقه، دون تمييز للجنس، بوالدي وأشقائي وشقيقاتي، وكل أبناء جدتي الآخرين وأحفادها - كنت في السابعة عندما بدأت جدتي تعهد لي بأبسط لمسات التشطيب على قطع الثياب . / ص١٢ الرواية) ومن خلال الوقائع الجديدة التي أحدثت تغيرا سرديا في منحى الأحداث، نقول إذا كانت الساردة الشخصية إلى الآن وقد تمت عامها السابع، فمن كان يتولى مهام سرد الرواية؟ حتما هي المؤلفة وقد حلت حلولا محل (المؤلف الضمني) أو السارد العليم، مما ترتب على ذلك النظر في كون وجهة نظر المؤلفة ضمن الحدود المماثلة في تواصلات المواقع السردية المتعددة: (الراوي - المروي له - التجميع - الاقتباس - ذات المؤلف =هيأة مواضعة حاكية) امتدادا نحو تفعيل وحدة الفاعل العاملي ضمن صيغة الخطاب من حاضر واقعة (المبأر - جواني الحكي) فالعلاقة بين المبئر والمبأر في مثل هذه الوحدات المعروضة ﻻ تقف عند حدود المشهد الخارجي للزمن، بل يركز المبئر في تبئيره على دواخل المبأر فيقدمه لنا من الداخل: (عندما لم يتبق سوانا، كنت في الخامسة من عمري وجدتي في الثانية والخمسين .. كانت لا اتزال قوية .. اليوم هكذا راهنت نفسها أنها ستنجح في أعالتنا معا معتمدة على عملها في الخياطة فحسب . /ص١٤ الرواية) .

- تعليق القراءة:

إذا تأملنا إجمالا سير عملية الخطاب السردي والمحكي في رواية (حلم ماكنة الخياطة) وصلنا إلى حقيقة مفادها أن الخطاب السردي يحتوي على معادلتين احدهما تشمل الأخرى ضرورة . إذ يبدا السارد المشارك بتأطير فضاءات الزمن بوصفها الأجزاء والمكونات التي يتم الكشف من خلالها عن مجاﻻت الأحداث والأفضية المكانية، الى أن تصل صيغة الخطاب المسرود صوتا مهيمنا على صيغة الخطاب المعروض الممسرح . في رواية (حلم ماكنة الخياطة) ثمة علامات وإشارات بالغة التوظيف لكل مكون من مكونات الصنعة الروائية، لذا تبقى مساحة المنظور السردي محددة من خلال (خفايا السرد) المشاركة بأختلاف (إظهارية تمثيلات المؤلف ساردا؟) لذا تبدا كل شخصية في الرواية بالتكون والتشكل والستقلال، نظرا لما يتيحه مجال وموقع الساردة المشاركة من حافزية ومضاعفة بتأطير جل الفضاءات الشخوصية، بطريقة تذكرنا بعلاقات التركيز الفضائي الحاصل على خشبة العرض المسرحي، ولكن عملية الظهور في مكونات رواية (حلم ماكنة الخياطة) تحكمها آليات البناء الروائي المحتدم ومنظومة الأفضية الذاكراتية والحاضرية من واصلات الفواعل المتحركة ضمن حركتي السرد والتبئير وإحاﻻت صيغة الخطاب المسرود في رسم الأحداث الروائية وفق رؤية حكائية روائية نادرة، تفسح لكل شخصيات بالظهور على سطح السرد، مظهرا متفاعلا مع جوانب تعدد الأصوات ومعالم الأمكنة والأزمنة تحوﻻ وتدليلا في كشف الاسرار والخفايا عن وجوه وحلم ماكنة الخياطة الأخرى من العلاقات الدﻻلية الناظمة والمنظومة للسرد المركز واللامركز .

***

حيدر عبد الرضا

(دِيستُوبيَا) المَقموعِ والمَسكوتِ، و(يُوتُوبيَا) الاِحتجاجِ الثًّوريِّ

مَفاتيحُ العنونةِ:

لكلِّ قصيدةٍ شعريَّةٍ ما، أو مُدوَّنةٍ إنتاجيةٍ إبداعيةٍ تظهر جليَّاً في الأثر الوجودي للفضاء الشعري الزمكاني مفتاحٌ سحريٌّ بازٌّ وقارٌّ للأثر، ولافتٌ للنظر في ضوء هالته العلاماتية. وهو في الوقت ذاته يعدُّ مُثيراً اشتراطيَّاً نفسيَّاً استجابيّاً مُنظَّمٌاً لقارئ نصِّ قصديات الأثر الأدبي. فمن خلاله وبه يصل وعي المتلقِّي والقارئ النوعي أو النموذجي (الناقد) إلى جماليات بغية العمل الأدبي ودلالاته اللُّغوية والرمزية وغاياته، السيميائية المتفرِّدة أيقونياً وصوريَّاً وجماليَّاً وفنيَّاً.

والتي من أجله أخذت هذه العتبة العنوانية سمتها البنائية التركيبية وكينونتها المنتظمة، واختطَّت عنونتها الاستفزازيةّ الَتي أخذت بيان اسمها الصريح العريض، وأعلنت شخصيَّاً عن رسم هُويتها التعريفية الشاخصة في عملية وجودها الوظيفي. واختصَّت وظيفتها العنوانية بمضان قصدياتها التأويلية والإخبارية الرفيعة وبلاغة انحرافاتها وحمولاتها الدلالية والمعنوية القريبة منها والبعيدة.

ولمِهْمَازِ مُدوَّنة جَنان السعديّ الشعريَّة (لا حياءَ للخَنازيرِ) مفتاحان سحريان شاخصان في جملة التركيب النحوي لا ثالث لهما إلَّا الأداة (لا) النافية التي تصدَّرت بقوَّةٍ نفي الجنس القاطع لمستهل الجملة الاسمية (لَا حياءَ للخنازيرِ) والتي هي صرخةُ الشَّاعر السعديّ الثوريَّة المُدوِّية، المُلَغَمَةُ ببارود ديناميت الهزيمة الاستسلاميَّة النكراء المشوِّهة لرمزيَّة العرب وموقفهم القميء المتشضي.

والمفتاح الأوَّل لباب هذه العنونة الاستفزازية الشائنة الشوهاء، والصادمة بتورية مفارقتها التوقُّعية وثيمتها الفكرية المدهشة، هو تلك المفردة الاسمية النكرة دالة (حياءَ) التي هي إحدى طرفي المعادلة العنوانية الموضوعية الضيزى في ثنائية التضاد الحركي بين قطبي فعلي الصراع (الخير والشرِّ).

والحقيقة أنَّ الخير يكمن في (يوتوبيا) معنى الحياء الإنساني الدلالي الفاضل؛ كون (الحياء) يمثِّلُ شعبةً مُثلى وعُليَا من شُعب الإيمان لأركان هذه المدينة الشعرية المثالية الفاضلة التي تجرَّدت عن معنى صفتها وكينونتها الإنسانية الجمعيَّة، وانتزعتْ عنوةً دلالاتها اللِّسانية المُقطَّرة في صرختها العنوانية الباسلة بطعنتها الخيانية النجلاء. أمَّا بوادر نسق (الشرِّ) الذي هو الطرف السلبي من ركني العنونة، فيكمن في رؤيا الشاعر المخيالية الطوباويَّة المثاليَّة القصيَّة المُمَثَّلة بـ (دِيستوبيَا) الفوضى والخنوع اللَّا إنساني المعطوب في دلة (الخنازير)الحيوانية المُبتذلة المَمقوتة بدلالة ذمها التوصيفي.

فَحينَ نتأمَّل بتؤدةٍ المعنى الدلالي القريب لدالة (الخنازير)، فلا نجد لها مدلولاً سويَّاَ غير معناها البوهيمي الحيواني المتوحش الممجوج كراهية وتدليلاً عليها لا حُبَّاً بها. أمَّا توريةُ معناها الدلالي البعيد الذي رامه الشاعر الرائي في قصدياته وحاك نسيج خيوطه وأمسك بتلابيب أذياله الكليَّة المُحكَمَةِ في تركيب مدونته الإقصائية الفكرية والصوتية التصريحية المعلنة (لَا حياءَ للخنازيرِ).

فهو يرمز في صميم علاقته الخطيَّة المباشرة مع صفة الحياء إلى موحياته الحقيقية البشريَّة المقصودة ويستهدف عَيِّنَةَ مدلولاته،وهم رموز السَّاسة من الحكَّام والمهرولين إلى صُناع ما يسمَّى بالسلام المنقوص الذي لا سلام فيه إلَّا العارَ والشنار للموقف العربيّ المتخاذل الجبان. فمن أجل ذلك الفعل التراجعي السلبي وصفهم الشَّاعر بخنازير الخنوع السياسي الذي لا حياء لهم فيه مُطلقاً.

مَقصدياتُ العَتبةِ العُنوانيَّةِ

بهذه الروح الشاعرية الجريئة الهُمامة والواعية الثورية المِقِدَامة وجَّهَ جَنانُ السعديّ سِهام نقده الشعري ولِحاظ نصل قلمه الفكري (البَاشِط)للآخر السَّلبي بنار مصفوفته اللَّاذع (لا حياءَ للخنازير)، وبمنار حبِّه الآسر للحياة. هذه العنونة التي هي بالأساس عتبة ثانويَّة فرعيَّة لقصيدةٍ شعريةٍ ثائرةٍ متميِّزةٍ من نصوص هذه المجموعة الموضوعية المتنوِّعة. ومن باب تغليب إطلاق الجزء الصغير الرافد الفرعي على صورة الكُلِّي الجمعي أخذت المدوَّنة العنوانية اسمها الكتابي اللَّافت من صُلبها.

والتسميةُ الإعلانية للَّافتة الشعريَّة تشي كثيراً بأنَّ العنونة قد تكون بعضاً من عناصر الإدهاش الماتعة، حيث تُجسِّد خطَّ العَلاقة الخطيَّة السيميائية المتعالقة بين واقعة الحدث الموضوعية من جهةٍ والعنونة الرئيسة (هالة النصِّ) الشعرية الموازية للنصِّ (الخطاب)، والتي هي بوابة الشاعر الداخلية المؤدِّية إلى مدينة الشعر الفاضلة من جهة دلالية وفكرية أخرى متناصرة.هذا الاهتمام العنواني هو ماجرت عليه العادة في العتبات النصيَّة الأخرى التي أثَّثها الناقد والمؤلِّف الفرنسي جيرار جينيت.

ولنقراً بعضاً مما يُصرِّحُ به السَّعديِّ في صرخته الشعرية الاستنكارية (لا حياءَ للخنازيرِ) المدوِّية، والتي يستحضر فيها مناجاة الشاعر العربي السوري نزار قباني ويتناصُّ معه كُليِّاً في أحد أبيات قصيدته (المُهرولُون) التي هجا بها موقف الحكام العرب المتخاذلين في دعم عملية السلام المأزوم.

لا يَا نِزارُ

عُذرَاً

خَانَكَ التَّعبيرُ المَجازيُّ القَديمُ

 (سَقطتْ آخرُ جُدرانِ الحَياءِ)

وَهَل لِلخنازيرِ حَياءٌ؟

والعتبة التصديرية الأخرى اللَّافتة هي عتبة (الإهداءُ)التي تكرَّر فيها تمنِّيه لثلاث أُمَمٍ،أمَّةُ القراءة، وأُمَّةُ الاختيار ِالأصلحِ، وأُمَّةُ العيشِ الأفضلِ، والتي أراد بها الخروج من رِحم الذاتية إلى الجمعيَّةِ.

تَأثيثُ المُدوَّنَةِ الشِّعريَّةِ مِعماريَّاً

والقارئ المتتبع النابه الذي يقتفي بحسِّه الثقافي البصري المرئي الواعد الثاقب، ويتوخَّى برؤى عينه النقدية الثالثة آثار حِفريَّاتِ هذه المصفوفة الشعرية المتوحدنة (لا حياءَ للخنازير)، ويجوسُ-على حدٍ سواء- خلال ديارها الشِّعريَّة الرَّخوة والصُلبةِ، سيلحظ باهتمامٍ بالغٍ ذلك التفاوت الكمي المعهود والتحشيد النوعي الموضوعي اللافت المقصود لمعمارية هذه المجموعة التي احتوت أساسات خريطتها الهندسية الأرضية المتماسكة حَبْكاً لغوياً وسَبَكاً دلالياً لسانياً مُحكماً على أربعين نصَّاً شعرياً لبعضٍ من قصائد التفعيلة (الحُرَّة) المموسقة، وقصائد النثر الشعرية الرصينة المتحرِّرة فكرياً وأُسلوبياً بإيقاعها. تلك القصائد الموضوعية المتنوِّعة التي احتلت مِساحاتٍ شعريةً واسعةً من فضاء مثاباتها المكانية الثابتة والمتحرِّرة، والتي ألقت بفيء ظلالها الشعرية الغالبة على أقانيم جغرافيا الفضاء الشعري المتأصل كليَّاً.ويُعزى ذلك لتطابقها إجرائياً مع آليات قصيدة النثر العديدة.

والأكثر إلفاتاً من ناحية الشكل والأسلوب على إنتاجية نماذجها الشعرية المُخَلَّقة في ترافدها النصِّي، أنَّ نصوصها الشعرية المتآلفة تراوحت حركتها الإنتاجية -عمودياً وأفقياً-بين خطِّ القصائد الطويلة، والمَلحميَّة الطويلة جدَّاً، والمتوسِّطة الطول، والقصيرة جدَّاً. وترجعُ رمزية هذا التقسيم الطولي والعرضي اللا إرادي إلى خاصيتي التخاطريَّة (العفوية والتلقائية) معاً التي جُبلت عليها الذات الشاعرية الأنوية لمعجم جَنان السعدي الفكري والثقافي شاعراً وأديباً وكاتباً له بصمته الدالة.

فضلاً عن امتداد طول مقدار الدفقة الشِّعريّة وقصرها التي تُحدِّدها مِساحةُ اللَّحظة الشعورية المتشضية الهاربة من نبع عناصرها الداخلية خلال انبجاسها العيني منها إلى حيز عالمها الفضائي الخارجي الواسع؛ والتي بها تنتهي حركة تلاقي روافد المقاطع الشعرية المُتوحدِنَة بنائياً وعضويَّاً. وبها أيضاً تكتمل وحدة القصيدة وتتشكل فنيَّاً وتخليقياً وإنتاجياً بانتهاء إتمام عناصر الوحدة الموضوعية لواقعة الحدث الشعرية التي هي جوهر القصيدة الثيمي وأُسها الفكري الهادف للقارئ. ولنتأمل المقطع الأول من مفتتح قصيدته (البكاءُ)كيف يُوظُف أسَ الفكرة الموضوعية؟وكيف يُؤنسنُ الألفاظ المجاورة لها ويمنحها حريَّة الحركة الرُّوحيَّة؟ وكيف يظهر حقول الفكرة ووقائعها الحدثية؟

البُكاءُ فَنٌّ لَا يُفقهُهُ إلَّا المُتخمُونَ بِالوجعِ

حِينَمَا تَتَلَوَّى الدَمعةُ كَراقصةٍ عَلَى مَسرَحِ الخَدِّ

تَتَهادَى النُّفوسُ بِرفْقٍ مُعلِنَةً خًسارَاتٍ تَحتضنُ خَسارَاتٍ

خُذْ دُموعَ الخُذلَانِ وَالغَدرِ

وَقَرابِينَ الأوطَانِ

فِي بَلَدِي حَيثُ سبَايكَرُ

تَمظهُراتُ المُدوَّنةِ الشِّعريَّةِ

وحين ندقق النظر قصدياً، ونمعن التأمُل الفكري بجماليات التلقِّي المعرفي وآلياته الفنيَّة القرائية لِطَيَّاتِ هذه المدونة الشعرية، سنقفُ أُسلوبياً على بعض ما حوته ميادين أفكار حقولها الدلالية وتمظهراتها الفنيَّة والجماليَّة الضافية التي زخرت بها معمارية هذه المجموعة واحتفت إثرائياً بتنوِّع محتوياتها الموضوعيَّة والفكريَّة التي هي هَرَمُ الخِطاب الشعري وقاعدته الأساسية العريضة التي أُثثتْ بها قصائد هذه المصفوفة الشعرية تأثيثاً احترافياً مُنظماً خاضعاً لتجربة الشاعر الحياتية وفلسفته الذاتية وموقفه الآيدلوجي والفكري والعقائدي الذي انماز به مُعجمهُ الشِّعري عن سواه.

إنَّ آخر ما تشي به خريطة هذه المجموعة هو جماليات أغراضها الشعرية المتعدِّدة، وفنيَّة تقاناتها المتجدِّدة، وبراعة انزياحاتها اللُّغوية والمجازية المتعاضدة، وحسن اختيار تناصَّاتها الكُلية والتحوليَّة المترابطة، وأفكارها التجدُّدية المتفاعلة، وإشارات موحياتها الرمزية والسيمائية الهادفة.

وعلى الرغم من تسيِّد قصائد الرفض والاحتجاج والمناهضة لفلسفة ديستوبيا الواقع اللَّا إنساني المستهلك والمجرد خُلقياً من صفته البشرية،وتغلُّب قصائد أسطرة حِفريَّات أثر المقموع والمسكوت عنه في فضاء يوتوبيا المدينة الشعرية الفاضلة للشاعر جَنان السعدي والتي بلغت أكثر من خمسةٍ وعشرين قصيدةً. فلا نعدمُ في الحقيقة من انتشار قصائد الترويح النفسي، قصائد الغزل العفيف الروحي الصوفي الشفيف الممزوج برائحة الحسِّي الجمالي المُهذب بتوصيفه،العَذِبُ في لُغة تأليفه.

تلك القصائد المائزة بتكثيفها المعنوي والدلالي التي تكرَّرت تردُّداتها في هذه المدونة بنحو خمس عشرة قصيدةً بين طويلةٍ وقصيرةٍ ومتوَّسِّطةٍ.وهي نسبة كبيرةٌ وعددٌ كمي ونوعي لا يُستهان به إذا ما قُورِنَ بالعدد الكُلي للديوان البالغ أربعين قصيدة كما مرَّ بنا. وهذا يشي بأنَّ جَنان السَّعديَّ تراهُ تارةً شاعراً ساخطاً ثائراً لا تأخذه في الحقِّ لومة لائمٍ،وتَراهُ تارةً أو حيناً آخر شاعراً غزليَّاً عاشقا، مُحبَّاً للجَمال والمَرأة والحَياة. ونقتطف في التدليل على ذلك مقطعاً من قصيدته (سَيِّدةُ الضَوءِ)، لنشاهد هِزَّاته النفسيَّة واندهاشه واستغاثته الجمالية بنداء معشوقته الأسطورية التي جعلته يُردِّد كلَّ ياءات النداء مُتسائلاً مذهولاً،وقد تَوَحدَنَتْ تقاسيم حروف المعنى بتراتيل موسيقى الشعر الخارجية:

يَا هَدِيلَ الحُسِن

يَا صَلاةَ الوَسامَةِ

يَا فِتنَةَ الفِتنَةِ

كُلُّ يَاءاتِ النِّداءِ تَصرَخُ يَا فَريدةَ الصَفَحَاتِ

مِنْ أينَ لَكِ تُفاحةُ الخَّدِّ وَبَسمَةُ الثَّغرِ؟

مِنْ أَيِّ الأَعنَابِ عَناقيدُ الصَّدرِ

وَهَيَافَةُ القَدِّ؟

وليس كل هذا مظاهر شعره، فقد مال الشاعر السَّعديّ كثيراً إلى استخدام وتوظيف تقنية التَّكرَار الذي هو عنصر مهمٌ من عناصر كتابة قصيدة النثر وبالأخصِّ إذا كان تَكرَارَاً فنيَّاً مُتجدًداً كما نجده في خطاب الشعر.لذلك قام بتوظيف أنواعٍ من التَّكرَار (الاسمي والفعلي والحرفي والجُمَلي الكلي والجُمَلِي الجُزئي) في أكثر من خمس عشرة قصيدةً من قصائد هذا الديوان وكان تَكرَاراً مُهندسَاً بإيقاع أُسلوب واقعة الحدث التي تتطلَّب التعددية التكرارية لتعرية المقصود واثباته للقارئ. فلنقرأ ونسمع ترددات الفعل (سَرَقَ)ونكشف سِرَّ ترنُّماته وإيقاعه الحدثي الزمكاني الماضي والآتي:

مُولًايَ

سَرقُوا اللُّقمَةَ

سَرقُوا البَسمَةَ

سَرقُوا الآياتِ العُظمَى

سَرَقُوا بَسمَلَةَ القُرآنَ

سَرَقُوا الأحلَامَ الحُبلَى

سَرَقُوا أَحبابَكَ، أَيتَامَكَ وَالجُوعَى

سَرَقُوا اللهَ

سَرَقُوا القَرنَ الحَاديَ والعِشرِينَ

سَرَقُوا حتَّى الشَيطانَ

اِنهَضْ مَولايَ اَعدِلْ كَفَّةَ المِيزانْ

فمثل هذه السرقات القصديَّة التي تردَّدت تسعَ مرات في هذه الدفقة الشعورية لخاتمة قصيدة (انهضْ مُولاي)التي وصل بها حدِّ تجاوز السُّراق على وجه التَّفَنُّن في الكثرة والمبالغة لسرقة حتَّى الله و الشيطان الذي لا يمكن أن يُسرق.وكان الغرض من هذا التَّكرار التقني التردُّدي لتقوية المعنى الدلالي للفعل الحدثي وتأكيد فاعليته ونزع الشكِّ من نفس المتلقِّي والقاري لمتنِ الخطاب الشعري.

وإذا كانَ التَّكرَار اللَّفظي من الوسائل الفنيَّة المُهمَّة التي اعتمد عليها الشاعر في مدونته لفضح أُولئك اللّصوص السرَّاق العابثين بأمور الناس، فإنَّ (التناصَّ النصِّي) الذي هو إدخال نصٍّ جديدٍ بنصٍّ قديمٍ والتعالق معه بفكرةٍ تَحوليةٍ جديدةٍ، يُعدُّ من التقانات الفنيَّة الحداثوية التي اعتمد عليها السعديّ خمس مراتٍ في ثنايا مدونته الشعرية لأسبابٍ تاريخيَّةٍ وإنسانيَّةٍ تعضد جماليات شعره. فكانت توظيفاته للتناصِّ التاريخي الرمزي مرتين لإيثار حِكَمِي عن الإمام علي بن أبي طالب، ومرتين للتناصِّ الديني الكُلي والتَّحوِّلي، ومرّةً واحدةً للتناصِّ الشعري الأدبي لبيتٍ من نِزار قباني:

نَادِ الحَسنَينِ وَابنَ البَدويَّةِ

اِصرَخْ ثَانيةً

الإِنسانُ هُو الإِنسانُ

 (إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ أَو نَظيرٌ لَكَ فِي الخَلقِ)

في حين عكف السعديّ جَنان على استدعاء وتوظيف الرموز التاريخية والدينية والثقافية القديمة والحديثة المؤثِّرة في شعره ستٍ وعشرين رمزاً فاعلاً في شعره بدأ من البطل الغالب علي بن أبي طلب ومروراً بالحسين شهيد كربلاء وسفير طفِّه مُسلم بن عقيل وقائد جيش عَليٍّ الأشتر وبعضاً من رموز الصحابة والموالين لآل بيت النبوَّة كأبي ذَرٍ وسلمانَ وابنَ اليمانَ حتَّى الثائر جيفارا وابن جرداقَ جورج وغاندي محرِّر الهند وانتهاءً بأمِّ (اللُّول)بلوكر الرقصِّ رمزُ وسائلِ الاتِّصال الهابط.

سَلْ أبَا ذَرٍ وَابنَ اليَمانِ وَسلمانَ

سَلْ اِبنَ جِرداقَ

سَلِ الثَّائرَ جِيفَارَا عَنِ الوَصيّ

سَلْ مُحرِّرَ الهِندِ مِنَ نِيرِ الغُزاةِ

سَلْ المُوالينَ والأعدَاءَ

سَلْ مَنْ تَشاءُ

سَلْ الهَواءَ وَالمَاءَ وَالغَدِيرَ

هَل تَجودُ السَّماءُ بِعَليٍّ جَديدِ؟

إنَّ هذه التساؤلات الأمرية المتراتبة تساوقياً لهذه الرموز التاريخية المؤثِّرة التي تكرَّرت سبعاً بعدد أطباق السموات والأرض السبعة ماهي إلَّا تأكيد لرمزيِّة فذةٍ لا تتكرَّر أبداً مثل شخصيَّة أميرِ المؤمنينِ عليٍّ. ويرافق ذكر هذه الرموز تدوين وأرخنةٌ لكثيرٍ من الوقائع والأحداث التاريخية العربية والعالمية الدولية ذات الأثر الإنساني والديني والسياسي الكبير الذي أخذ مِساحةً من التأثير. فها هو الشاعر السعديّ يتناول هذه الوقائع عشر مَراتٍ بمدونته فذكرَ، (غديرَ خُمٍ وواقعةَ الطَّفِّ، وبدرٍاً وحُنينَاً وصفينَ وخيبرَ والجملَ والنهروانَ، وأحداثَ هيروشيما، وأحداثَ التحرير)المُعاصرة:

بُخٍ بُخ ِ يَا عَلِيُّ

أيُّ هَذَا الَّذي مَلَأَ الخَافقينِ

حَيدرُ لَيثٌ كَرارٌ، لَمْ يُدْبِرْ مِنْ مَعركةٍ

تَشهَدُ لَهُ بَدرٌ، خَيبرٌ وًحُنينُ

وَيَشهدُ لَهُ مَرحبُ وَابنُ وُدٍّ قَائِدا الجَيشينِ

عَليٌّ رَبيبُ أحمدَ تِلميذُ الرِسالةِ النَّجيبُ

إذا كانت الوقائع والأحداث التاريخية والسياسية والدينية قد أخذت أهميتها الشعرية ونصيبها الموضوعي في شعر السعديّ فإنَّ المدن والأمصار الحضارية والثقافية والتاريخية قد وجدت لها حظاً وافراً عند السعدي وقد أرخن ذكرها اثنتي عشرة مَرةً لمدن قديمةٍ وحديثةٍ، فأورد ذكر (سومر وبغداد والكوفة ونينوى وكربلاء وصنعاء ولبنان ورفح وغزة ولبنان واسطنبول وهيروشيما). فانظر للسعديِّ كيف يجسِّد بقصيدته (سفيرُ الطفِّ)لمسلم بن عقيل في سفارته ومقتله بمدينة الكوفة:

هَلْ سَمِعتُمُ عَنْ فَردٍ بِأُمَّةٍ ؟

إِنْ كَانَ لِلشَجاعةِ والإِقدَامِ سِمَةٌ وَتَجسيمٌ

هَيأتُهَا، سِمَتُهَا، كَيانُهَا

بِكُلِّ فِخرٍ كَوكبُ الكُوفةِ البَراقُ

اِبنُ عَقيلٍ [مُسلِمٌ] السَفيرُ الَزَاهدُ

أمَّا الحصة الكبرى والكثرة الكاثرة من وثائق نصوص السعديّ الشعرية التي حفل بها (فِهْرستُ) هذه المصفوفة الشعرية المتطاول عليها الزمن بسيف عَادياته المناهضة الكثيرةِ، وهِزاتهِ التاريخية الواثبة الخطيرة. فقد كُتِبَتْ التقاطاتُ هذه المدونة الصورية الإيماجية المؤثِّرة ورؤاها الفلسفية المخيالية المؤسطَرة في ميادين وحقول عديدة جمَّةٍ، واتّجاهاتٍ موضوعيةٍ قديرةٍ لا حصر لها شتَّى.

فكتب جَنان السعديَّ شعرياته بالدرجة الأولى وعلى وجه الخصوص لوجع الإنسان العراقي الحزين والهمِّ العربي خصوصاً، ولمسرح الحياة المائرة بأحداثها (سياسياً، وثقافياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وعقائدياً). وكتب لحقِّ الإنسان بالعيش الكريم وللحريَّة المفقودة وللجمال الروحي والحسِّي، وللتُراث الديني والتاريخ العربي العراقي القديم والحاضر المعاصر الحديث. وتحدَّث عن رموز الساسة من حكَّام الأُمَّة المتخاذلين الطُغاة والبُغاة. وَوَّثقَ بشكلٍ عينيٍّ خاصٍّ دقيقٍ لصور الواقع ومشاهد عقابيل الراهن السياسي المعيش وبالذات المَقموعُ والمَسكوتُ عنه قصدياً وإرادياً.

ولم يقف السعديّ جنان جانباً دون التصدِّي الحازم في الكتابة عن الواقع الثقافي والإعلامي ذي المستوى الاحتوائي القميء الهابط ومقارنته بواقع فنِّ الإبداع الثقافي الحقيقي المنتج الفريد الرائع:

لِمَ العَجبُ؟ قَدَّمَتْ مَا قَدَّمَتْ

 (أُمُّ اللُّولِ) خَيرُ مَنْ نَفَخَتْ

هَزَّتِ الأَردَافَ وَالقُلُوبَ أسَرَّتْ

بَينَ الثَّنَايَا جَوازَاً دُبلومَاسِيَّاً خَبَّأَتْ

أينَ الغَرابَةُ وَالعَطَب؟

هكذا يتساءل الشَّاعر في مطلع قصيدته (شهاداتٌ خاصةٌ)آسفاً غيرَ مُتعجبٍ، مُستنكراً بألمٍ وحرقةٍ واستخفافٍ مُرتَّلٍ موقَّع الأثر عما آلت إليه مشاهد وصور مرآة الواقع الثقافي والاجتماعي العراقي الجديد، والذي أضحى واجهة للراقصات والغواني المُبتذلات من أمثال النكرة (أُمِّ اللُّول) وتوابعها الرخيصة حتي وصل به الأمر في ختام القصيدة إلى ذمٍ تلك الأمَّة التي تتسيَّدها تلك المظاهر بتناصٍ قرآني وُصفتْ به امرأة أبي لهب في كُفرِها ومُجونها وخُروجها عن واقع الملَّة والعرف:

كَفَاكِ حَسَدْ

أُمَّةٌ تَعلُو (لَولَوَاتُها) المَشهَدَ السَّياسيَّ الرَّسمِيَّ

حَتْمَاً دُونَ شَكٍّ فِي (جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدْ)

ولم تأخذه لومة لائم في مصوراته الشعرية الباذخة، واستنكاراته الذاتية والجمعية اللَّاذعة في الكتابة عن أطفال غزة والعراق واليمن وما يحدث من تدنٍ قصديٍّ لسياسة الراهن العربي المعيش. فكان السعديّ خير الشاعر الراصد المُعين لقضايا أُمته وشعبه؛ كونه مرآة آلامه وضميره الناطق:

أَطفالُنَا فِي غَزَّةَ كُلُّ يَومٍ فِي الجِنَانِ

يَعتمرُونَ يَلعَبُونْ

وأَطفالُ اليَمنِ والعِراقِ

يَنشدونَ المَوتَ لِلطُغَاةْ

يَنشدُونَ لَا لِلظُلمِ لَا لِلغُزاةْ

حَليبُهُم ثَديُ الأُمهاتِ وَغِرينُ الفُراتْ

أُسلوبيَّةُ السَّعديِّ الشَّاعريَّة ومُعجميتُها

إنَّ أهم ما يُميِّز أسلوبية الشَّاعر جَنان السعدي وذاته الشاعرية في مُعجمه الشعري الفارق في مثابات مدونته الشعرية الشاخصة بعنوانها الماثل (لا حياءَ للخنازيرِ)، وفي مرافئ سفن محطَّاته الفكريَّة الرَّاسية بشراعها الحركي على ضفاف الإبداع والابتداع الفكري،هو جماليات لُغته الشعريَّة التي كُتبت مضانها التركيبة بلغة فنيَّةِ (السهلِ المُمتنعِ) الشفيف الماتع بقراءته التواصلية الذهنية.

تلك الخاصيَّة التعبيرية المتمايزة التي لا تعتمد كثيراً بالدرجة الأولى على فَنِّ بلاغة مُدخلات الصور الشعرية المخيالية أو الحسيَّة المؤثِّرة نفسياً بالقارئ بقدر ما تعتمد إبداعياً وفنيَّاً كثيراً على وقع مؤثِّرات عُمق الفكرة المحورية البؤريَّة الساطعة وقوَّة شحنتها التأثيريَّة المُناسبة للواقعة الحدثية، ومن ثمَّتَ مزيَّة الاهتمام بمخرجات ثيمها الموضوعية المتواترة إيقاعياً وأسلوبياً وتمكينيَّاً.

على وفق ذلك فإنَّ النسق الفكري الثقافي الثيمي للشاعر سواء الظاهر أمْ المضمر لواقعة الحدث الشعرية عنده هو، أولاً في المحلِّ، وأمَّا مخايل الصورة البلاغية الفنيَّة فهي ثانياً، أي في المحلِّ الثاني من مُحطات قواعد فنِّ هذه الشعرية التي تسير عند السعديِّ على خطى حقلٍ خطيرٍ مُعبَّأٍ مليَّاّ بموضوعات الألغام الفكرية المدويَّة، وعلى فعلِ سلكٍ رفيعٍ من صيحات المُتفجرات الشعوريَّة الناهضة التي تهتم أُسلوبياً بقضايا وهموم الإنسان الواقعية، وتبني وجع أحلامه وحجم آفاق تطلعاته الذاتية والمستقبلية الاستشرافية التي هي بالأساس هموم ذاتية جمعية كونية مشتركة في التصدِّي لرهانات الواقع الاجتماعي الشعبي المتهالك الآيل للسقوط والانحدار العطبي.هذا يشي بأن السَّعديَّ صاحب مشروع شعري فكري ثقافي لا يحيد عن طريق سكَّتِهِ التي أسس قواعدها الشعرية الثابتة.

هذه اللُّغة الشعريَّة الطواعيَّة الابتكاريَّة الموجعة التي شيَّد بناءها الهرمي المتنامي الشاعر جَنانُ السعديّ، تلك المعيارية المتلازمة لمظاهر الشاعريَّة الحسيَّة المُتقدة، وروافد المخيالية الانزياحية المُتفجِّرة انحرافياً في تخليق صورها ومعانيها ودلالاتها اللِّسانية النصوصية لم تأتِ ثمارُ أُكُلِهَا الإنتاجية صدفةً عابرةً لخطى الشعرية في رياحها الهُبوبية اللَّاهبة لفكر وسمع القارئ عرضياً.

في واقع الأمر هي نتيجةٌ حتميةٌ عن حصيلة تزاحم ثراء تجربته الشعرية الفذَّة وتراكم خزينه الحياتي والثقافي المعرفي المُكتسب، ونتيجةً لاستعداده الفطري التأثُّري لرؤى الشعرية التي تغلبت عناصرها على زمام شخصيته وَحَزَبَتْ أناهُ الشاعريةَ المتفاعلةَ. فكانت الموهبة الشعرية بملكتها الذاتية والجمعية الموحدنة حاضرةً في كل الوقائع والأحداث والمحافل والمناسبات الأرضية التي تتطلبها المواقف الوطنية الحقة في تعضيد بنيان الجامعة الإنسانية وإسناد جدرانها بالإبداع الفنِّي.

إنَّ معيار حقيقة النقدية الشعريَّة لنصوص قصائد النثر والتفعيلة في مجموعة (لا حياءَ للخنازيرِ) يشي بإنصافٍ وعدلٍ وتجريد ونكران ذاتي لغير صفة الحيادية بأنَّ قوةَ شعر الشاعرية لجَنان السعدي لا تكمن في تنامي أثر معجميته الشعرية النسقية الظاهرة فحسب؛ بل تكمن-حقاً- في وثوقية صدقه الذاتي مع نفسه أولاً، ومع علاقته و صدقه بمحيطه الشعبي الخارجي الجمعي ثانياً.

وتكمن أيضاً في تعزيز قوَّة انتمائه الأرضي المبدئي الثابت،فصارَ جَنان السعديُّ وفق عُرَى هذه العَلاقة من المصداقية مجساً ضوئيَّاً شعريَّاً لاقطاً لصور الحقيقة، وهاجساً فكرياً قلقاً يستشعر بحبٍّ وألمٍ عبر إرساليات أثير مجسِّه الشعري وقلمه التواثبي هُمومَ الناسِ ومعاناتهم لأولئك المجهولين والمهمشين والمغيبين من أبناء الشعب. ويتحسَّسُ آهاتهم ووجع جراحاتهم وأنين آلامهم اليومية المتصاعدة، ويستنطق بفم مرآته الشعرية صراخاتهم الإنسانية المثيرة، وصيحاتهم الآدمية الأثيرة التي سرقتها منهم حشود عملاء الدولة الخفيَّة العميقة فغيَّبتها لمصالحها الذاتية والشخصية الخاصَّة.

فما كان من صدقه الواعد إلَّا أنْ يكون تُرجماناً حقيقياً بيانياً فصيحاً مُعبِّراً عن جَام غضبه الثائر وتذمُّره وسخطه النفسي العارم الفائر على أولئك البُغاة الأشرار الفاسدين من الذين عاثوا في أرض الطُهر فساداً وخراباً، وأحالوا كلَّ ألوان الجمال الطبيعي الحقيقي في الحياة إلى بُورٍ يبابٍ. وعلى إثر ذلك الإيثار النفسي الكبير أضحى جَنانُ السعديُّ، الشاعرُ والإنسانُ والمكافح رَجُلاً بِأُمَّةٍ، وَأمَّةً بحاجةٍ لكلِّ أولئك الرجال الحقيقيين المدافعين عن نصرةِ الحقِّ المُبين من أمثاله الواعدين بالصدقِ.

***

تَقديمٌ:

د. جبَّار ماجد البهادليّ / ناقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

يوليو/ تموز 2024م

 

دِراسةٌ نَقديَّةٌ لِمدوَّنةِ زَيدِ الشَّهيدِ الشِّعريَّةِ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي)

توطئةٌ: من مفاتيح هذه الدراسة النقدية المتقاطعة، أُفقياً(الأرضية)، وعموديَّاً(السطحيَّة) لهذه المدونة الشعرية مفتاحان هما:(الشعريَّةُ والمكانيَّةُ)، ولا وسيط ثالث بين حديهما إلَّا(الشاعريَّةُ). فأمَّا الشعريَّةُ فهي خبرة الشاعر الفذَّة التراكمية ومعرفته الابستمولوجية، وثقافته الذاتية التجدَّديَّة بقواعد وأصول دراسة الفنِّ الشِعري، والتي هي أداة الشاعر الوجودية وهُويةُ مروره المُعجميَّة في فنِّ الشعريَّة. وأمَّا المفتاح الثَّاني، فهو المكانيَّة التي تُظهرها قدرة الشاعرة الاستعداديَّة وموهبته الفُطريَّة (المَلَكَةُ) في توظيف أقانيم جغرافيا الفضاء المكاني وتوزيعها فنيَّاًعلى جسد القصيدة الشعريَّة توزيعاً مؤثِّراً.

لم يعدْ مفهوم الفضاء المكاني الشعري في أوجز تعريف له، ذلك الحيز الحسِّي المرئي أو التكوين الجغرافي المثابي، أو هو مِساحةٌ من الفضاء الأرضي الواسع الذي يحيا عليه الإنسان ويعتاش ويُعَمِّرُ ويفنى ويموتُ ويرتحلُ منه راغباً كان أمْ راهباً مضطراً، بل هو المكان الشعري الذي تنبثق منه مناطق الشعر وتتفجَّر منه عيوناً من الإبداع وتُشكِّل ما يُسمَّى فنيَّاً بـ(الفضاء الشعري) الحقيقي الذي يُسهم إسهاماً تخليقياً وإبداعيَّاً وبنيويَّاً في تجسيد لُغة الشاعر المُثلى، وتشكيل إيقاعه الأُسلوبي الفنِّي التعبيري. ويُسهم أيضاً حتَّى في إبراز صلة الشاعر الوثيقة بانتمائه البيئي المحيطي الخارجي الأرضي، أكان ذلك(المَدِيني أو الريفي أو الصحراوي) الذي يُحدِّد طابع وهُوية معجمه الشعري الخاص بشعريته.

فكلُّ هذه الأمكنة المثابية المتعدِّدة تؤدِّي دوراً مُهمَّاً وفعَّالاً في تشكيل ثقافة الشاعر وتعميق هاجس لغته الشعرية، وتجديد سماتها الكونية بالطبيعة (المتحركة أو الثابتة). فالمكان أيَّاً كان نوعه الوصفي هو صوت الشاعر المهمازي النابض بالحركة، وهو جزء عاكس لراهن هُويته وملامحه الثقافية والحضارية التي بها يُميَّز وتميَّزُ شاعريته عن مُجايليه من الشعراء أمثاله الآخرين.

ومن خلال هذه المثابات المكانية الشَّاخصة يتشكَّل الشعر الذي هو بطبيعة الحال جنسٌ غنائي أو بتعبير أدق هو شكل من أشكال الغناء الأرضي أو الشدو الغنائي الذاتي الرومانسي؛ كونه يمثِّل صوتاً صورياً مُتحرِّكاً، وإيقاعاً(تُونيَّاً)شعرياً عذباً مموسقاً بوحدات نغمية مقطعية تراتبية الضربات.

وبما أنَّ الشاعر يخرج بلغته الشعرية المتمايزة من رَحِمِ هذه المكانية الضاربة أطناباً وتجذُّراً في العمق التاريخي؛ فإنَّ هاجس الشعرية الجمعية أوسع وأجلَّ عمقاً من هاجس اللُّغة البيانية. وذلك كون اللُّغة وسيلة أو واسطة بيانية توظيفية لتلك المثابات الأرضية المكانية الواقعية المتباينة، في حين أنَّ الشعر مِخيال شعوري وانزياح لُغوي وانحراف أسلوبي أسلوبي بلاغي فنِّي شفيف يهبط على الشاعر نسمة كما يهبط الندى من الزرع أو الأشجار على أديم الأرض المخضرة فَتُحيِيها.

فالمكان، هو صومعة الشاعر الأيقونية ومثابة محرابه القدسي الذي ينطلق منه مُحلِّقاً برؤاه في بثِّ رسالته الشعرية الكونية عبر أثير مجسَّاته اللغوية الموقعة صورةً صورةً ودفقةً دفقةً. وبهذه المخايل الشعرية والصور الشعورية يصنع الشاعر من المكان مكاناً حقيقياً خالداً، أو لا مكاناً بديلاً افتراضياً مُتخيَّلاً في ذهن الشاعر وَمُتَصَوِّراً في عقله الفكري الذي فرضته عليه ضرورات الحياة.

فلا عجب أنْ يكون المكان وطنَ الشاعر المتأصِّل به ومنبت عشقه الأرضي الآسر، ومسقط رأسه الآسر، ولا عَجبَ أنْ يكون المكان بيت الشاعر الأوَّل ومكمن حبِّ عشقه الأزلي الذي شتتَ شمله في هواه مُبدَّداً. فمنه تنبعث رائحة الشعر وشآبيبه الماطر، الهاطلة غيومه زخَّاً وتسكاباً على أرض القارئ المُمْحِلة الظمأى ، فتخضرُّ عُشباً وإمتاعاً ومؤانسةً وابتداعاً لا مثيل له في قواعد الشعرية.

فهذا بدر شاكر السيَّاب الذي خلَّد بشعره آثارَ المكانيةِ لُغةً وصَوتاً وإيقاعاً ورَمزاً ومنزلةً. السيَّاب الذي صيَّرَ(بُويبَ)تلك الساقية أو(الشَّاخة)، أو المجرى الصغير إلى نهرٍ عظيم وخالدٍ. وجعل من (شبّاَكَ وفيقة)، تلك (الرازونَةُ) الكوة، أو المشكاة الصغيرة أيقونةً سيمائيةً شعريَّةً وتُحفةً جماليَّةً صارت أشبه بِقِبلةٍ للعُشَّاق والمُحبِّين، وليس هذا فقط، بل جعل من شناشيل ابنة الجلبي مثابات تراتيل شعرية يتغنَّى بها في الموروثات الشعبية كأناشيدَ وتَبتُّلاتٍ غنائيةٍ للأطفال موقَّعة مُوزونةٍ.

السيَّاب الذي خلَّد(جَيكُور) القرية الصغيرة الغافية على أرض الجنوب الشرقيِّ، وجعل منها مدينةً رمزيةً يعشقها القرَّاء ويتلهَّفُ بسماعها المُتلقُّون، ويُمَنُّون أنفسَهم ويُمتِّعونَ أعينهم برؤيتها وزيارة أثرها المكاني الذي مجَّده السيَّاب. في الوقت الذي تُوفِي فيه السيَّاب بعيداً عنها في منفاه الكويت(غريب على الخليج)، حيثُ جعل من المكان الأول اللَّامكان البديل الذي حَملَ رُفاته وموته.

وهذا هو مُحمَّد الجواهري الكبير الذي خَّلدَ(دجلةَ الخيرِ) في أسفاره الشعرية لحناً صوتياً وكتابةً، وأحالها إلى علامةٍ سيمائيةٍ متفرِّدة تتغنَّى بمجدها الأجيال في الوقت الذي توفي الجواهري بسورية في غُربته المهجرية بعيداً عن أرض وطنه العراق ومدينته الأولى النجف الأشرف. ونظيره الشَّاعر عبد الرزاق عبد الواحد الذي مات حسيراً كسيراً ظميَّاً على بلده العراق في مأواه الفرنسي البعيد.

ومثله أيضاً رفيقا الجواهري الشاعر البيَّاتي، والشيخ الدكتور مصطفى جمال الدين الذي خَلَّد مدينة بغداد وتخلَّدت به بقصيدة تتلوها الأجيال نشيداً للحبِّ وسِفراً وطنياً للجمال في الوقت الذي وافته المنيَّة بعيداً عنها ودُفِنَ مع الجواهري في مقبرة الغرباء في الشَّام. وهذا هو نِزار القباني شاعر الحبِّ والغزل الحسِّي والنساء والسياسة الرفض والاحتجاج الذي أكثر من ترديد عواصم العرب الكبرى دمشق وبيروت وبغداد وصنعاء اليمن، وتُوفيَ في وطن اللَّامكان الأصلي. فمات مُتغرِّبَاً في منفاه الأخير بلندن عاصمة الضباب بعيداً عن مسقط رأسه الحقيقي الأول في سوريا.

ولا نعدم من هذه المكانية واللَّامكانية البديلة أثر محمود درويش وأمل دُنقل وغيرهم من شعراء المقاومة العرب وفلسطين الثائرين، وشعراء الحداثة الشعرية الماجدين خلوداً بمكانتهم لهذه الأمكنة.

والحقية أنَّ مثل هذه النماذج الشعرية المكانية تشي بأنَّ الشاعر قد لا يكون له مكان ثابت إلَّا في غربته ومنفاه وهجرانه، مع أنَّ مكانه الأول الأصلي في بلده منبت أرضه ومسقط رأسه ومربع صباه وطنه ومنزله الأول الذي أَلِفَهُ وعاش فيه بمدينته ومنه هاجر وتشتت وتغرَّب وضاع تِيهَاً.

ولا مكان يُذكَرُ لشعراء الصعلكة المحدثَين من العراقيين أمثال، (حسين مضردان، وعبد الأمير الحصيري. ، وجان دمو، وسركون بولص) غيرَ وطنِ الشَّتات والمنافي اللَّامكانية البعيدة والتشرُّد والتِيه والضياع، والحدائق العامَّة التي يُسميها حسين مردان بـ(الفنادق الهوائية)، كونها مثابةً للحريَّة.

والحقُّ أنَّ مثل هذه النماذج المكانية المتعدِّدة تُحيلنا إلى القول بأنَّ خصوصية المكان عند بعض الشعراء، ومنهم شاعرنا صاحب هذه المجموعة الشعرية ذو القصائد النثرية ممن تميَّزت أُسلوبيتهم الشعرية الذاتية بالحسيَّة العالية لوجودية الفضاء المكاني تُعادل أو تساوي من وجهة نظرهم رمزيَّةَ (اللَّامكان)الحقيقية أو الخيالية. ذلك لأنَّ الشعر يُعدُّ مثابة الشاعر الأيقونية الشاخصة ومثواه الأخير.

هندسة معماريةِ المدوَّنةِ الشعريَّةِ

لعلَّ هذا التنويه التصديري المكثَّف في تنظيره الرؤيوي من هذه الدراسة التحليلية لفضاءات الشعر المكانية، والمقترن إجرائيَّاً بفعل الممارسة القرائية المعرفية لمدونة(دولةٌ داخل قلبي) للشاعر والقاصِّ والروائيّ والمُترجم العراقيّ السَّماويّ المُثابر زَيدِ الشهيدِ، والصادرة بطبعتها الأولى عن دار الأمل الجديدة بدمشق-سوريَّة عام 2022م، وبفضاء كمي ونوعي بلغت مساحته الكليَّة(108) صفحة من القطع المتوسِّط.

أقولُ موضِّحاً تُحيلنا هذه التوطئة التقديمية لهذه المصفوفة الشعرية إلى الإجابة عن قواعد فنِّ الشعرية المكانية عند زيد الشهيد شاعراً، وإلى أثر تحولاتها الفنيِّة والجماليَّة، وتداعياتها الروحية والفكرية عبر سلسلة من النصوص الشعرية النثرية التي بلغت نحو (33) نصَّاً أو قصيدةً شعريَّةً.

وَأُعُدَّتْ بفكرة توليفٍ جديدةٍ قسَّمَ فيها الشاعر المجموعة على قسمين متتابعين، القسم الأول من الكتاب الذي وضع له عنواناً لافتاً (حُصنٌ هوَ القَلقُ.. الهُيامُ غَرَقٌ)، والذي احتوى على خمس عشرة قصيدةً من قصائد النثر الشعرية. أمَّا القسم الثاني الذي وضعه تحت عنوان (بالأسئلةِ لُغتِي تُؤسِّسُ مِملكتها)، قد ضمَّ هذا القسم ثماني عشرةَ قصيدةً نثريَّةً أيضاً. وكأني بالشاعر الشهيد يُلمِّحُ لقارئه الذكي ومتلقيه الذوَّاق بأنَّ القسم الأول هو لـ(لشعر.. هذه اللُّغة العاتيةُ)، وأنَّ القسم الثاني هو لشعرية (اللُّغة.. هذا الجبروت الطَّيعُ). وأنَّ الجمع بين المفهومين يعطيك فنَّ الشعرية الإبداعية.

لم يكتفِ الشاعر زيد الشهيد بهذه المُقدِّمة التي خصَّ بها كتابه من عتباته العنوانية، والتي يُصرِّحُ فيها مؤكِّداً أنَّ "الشعر:هُوَ خِفةُ القَلبِ فِي تَرنيمتِهِ، والبُستانُ فِي هُدوئهِ.. تَارةً يَجيءُ طَيفاً غَافيَاً عَلَى سَريرِ نَسمةٍ تَتَهادَى، وَتَارةً يَحضرُ عُصفُوراً نَزِقَاً مَشحُونَاً بَالتهجُّسِ أنْ يَقف َعَلَى غُصنِ الرُّوحِ.. مِنهُ أستقِي نِظامَ البَوحِ، فَأجيدَه؛ وَلَهُ أُقدِّمُ اِعترافاتِي فَأستقبلُ رِضاهُ". (دولةٌ داخلُ قَلبي، ص 9).

وإنَّما في راح الشاعر الشهيد في الوقت ذاته يؤكِّد موقفه الباذخ من مفردات هذه اللُّغة الجامحة فيقول:" اللُّغةُ لَمْ يَكُنْ لَهَا فَضلٌ عَليَّ سِوَى أنَّهَا الوَسيلةُ الَّتي أعانتنِي عَلَى رَسمِ خَبَبِ الحُصانِ الجَامحِ فِي صَدرِي وَهيجَاناً بِمَا يَكفِي لِاعتلاءِ مُوجةِ الهُيامِ؛ وَسِوَى كَتابةِ النُّفورِ الَّذي اِتسمتْ بِهِ غَزالةُ الرُّوحِ، وَجعلتنِي أَهيمُ بِالجماَلِ فَأتأبَّطُ قَصائدِي وَخُطايَ عَلَى حَدٍّ سَوَاءُ. (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 9).

عَتَبَاتُ المُدوَّنةِ الشِّعريَّةِ

من اللَّافت للنظر جِدَّاً في لافتة مدوَّنة زيد الشهيد(دولةُ داخلُ قلبِي) العناية الشديدة والدِّقَّة باختيار عتبتها العنوانية المكانية المثيرة في دهشتها للقارئ وفي كسر توقع جدار أفق المألوف العنواني الرتائبي الذي اعتاد عليه نظر القارئ شعراً ونثراً. فالعنوان هو(ثُريا النصِّ)الفناريَّة اللّافتة، وهالته الضوئية الشعرية المُشعة الموازية للخطاب النصِّي المُرسل، إيذاناً بخطى الدخول إلى مدينة الشعر الإبداعية القائمة. ومن ثمَّ التعرُّف على عقابيل رهاناته الواقعية الحادثة من خلال ما يُعرَفُ بفلسفة اليوتوبيا لأمكنته المخيالية المثالية والطوباويَّة القصيَّة في أدب الخَيْرِ بمدينته الشعرية الفاضلة.

والشروع بالكشف أيضاً عن تقفي آثار حفريَّات تناقضاته المكانية الساخنة في ديستوبيا الشَّرِّ المضاد والرفض والفوضى والظلم والاستبداد وممارسة قمع الحريَّات الثائرة في هذا العالم المَديني المُجرَّد من وقع إنسانيته إلى مسوخٍ معطوبةٍ مُتناحرةٍ لا ترى إلَّا في ممارسة فعل الشرِّ مَلاذاً آمناً.

وربَّما الأكثر إدهاشاً في لافتة العتبة العنوانية الرئيسة(دَولةٌ داخلُ قَلبِي)، تلك العلامة الأيقونية السيمائية الذاتية السادرة التي تشي موحياتها المضمرة والخفيَّة بالرمزية المكانية لمثابات هذه الدولة العميقة الرابضة في شغاف القلب وجنباته الخافقية الجناحية المُحلِّقة بريش القوادم وما تحت الخوافي الظاهرة منها والخفيَّة. إنها بكلِّ تأكيد تُمثِّل دولة الوجود المكاني للشعر ودولة اللَّا مكان غير الوجودي المؤسَّطر الذي يسعى الشاعر بكلِّ جدَّيَّة في كلٍّ من هذا وذاك الوصول إليه في تراتيل مساحاته الشعرية المتعدِّدة وترانيم لوحاته الروحية المتناغمة في مثل هذه الرمزية العالية.

وحينما يكون العنوان توصيفاً فنيَّاً مُحايثاً لواقعة الحدث الشعرية، وانزياحاً أسلوبياً لُغوياً مُنحرفاً، يكون الشعر مِرآةً ارتداديةً عاكسةً لتجلِّيات ذلك الواقع الآني المتغيِّر، ويكون شاخصاً فنارياً مضيئاً لمرافئ الشعر ومحطَّات سفته الشراعيَّة الراسية. فالقلب بحدِّ ذاته هو دولة الشعر ومركز الشعوريَّة المتحركة والثابتة. فكيف به إذا كان دولةً تربضُ في أعماق داخل دولة أخرى؟

إذا كانت لافتة الخطاب الشعري النصِّي الرئيس هي إحدى العتبات النصيَّة المُهمَّة التي أكَّدها الناقد والمفكر جيرار جينيت في معرض كتابه(العتبات النصية) الَّتي تصدَّرت لوحة غلاف الكتاب الخارجي الأولى المُعتمة الضوء في توحُّدها مع صورة الشاعر الخلفيَّة المُضَمَّخة بشدو تناثر الكلمات، وسحر الشاعرية الصورية لهذا الفتى الواثب قفزاً لإدراك تمنيات المعالي النفسية من غير الممكن والمُستحيل، فإنَّ هذه اللَّافتة العلامة الأيقونية صارت مفتاحاً إجرائياً مُوجِّهاً لعتبة التصدير الشعري الأخرى التي استهلها الرائي الشِّعري زيد الشهيد باستدعاء تناصينِ تصديرين مُتعاقبينِ.

فقد كان التناصَّ الأوَّل للشاعر والكاتب والأديب الناقد البرتغالي(أنطونيو فرناندو بيسوا) الذي يقدِّمُ فيه شَذرةً نثريةً لرؤيته الذاتية عن الحُريَّة والفنِّ وهويَّة الإنسان حينما قال مُطالباً بلغةٍ آمريَّةٍ شفيفةِ الأثرِ النفسي والمعنوي : "مُرْ أيُّها الطَّائرُ، مُرْ.. وَعَلمنِي كَيفَ أمرُّ" ؟! (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 7). أمَّا النصُّ التصديري الثَّاني فهو للشاعر والروائيّ والمُحرِّرِ الفرنسي(لويس أراكون) الذي يدعو فيه إلى تأكيد ثقافة لُغة الإنصات والاِستماع لنداء القلب الذي هو موضع الحبِّ والإيمان والشعور والتقوى ومصدر النقاء الباهي إذ يقول داعياً: "اَصمِتُوا كَي أستَمِعَ إِلى قَلبِي". (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص7).

والمعادل الموضوعي في العلاقة الخطيَّة لهذين التصديرينِ، النثري الأول والشعري الثاني الذي أراد الشاعر منهما الالتفات إلى لُغة الحُريَّة بدلالة(الطائر)، وتعلُّم ثقافة الصمت الشعري بدلالة (فنِّ الإصغاء) والاستماع إلى نداء القلب الكبير مُوئِل الدفقة الشعورية الهاربة لحظة انبجاسها. واللذين يشيران إلى ثقافة الشاعر الفلسفية وهُويته الشِّعريَّة المُتفرِّدة في مَضان هذه المصفوفة الشعرية. وإنَّ استخدام الكاتب أو الشاعر للتناصِّ في نصِّه المُبتدع يُضفي على المدونة مورداً ثرَّاً في التماهي الصوري والفكري لفضاء جماليات المثابات المكانية الشعرية والنثرية المتآلفة.

وقد أعقب الشاعر زيد الشهيد عتبة التصدير هذه بعتبةٍ فرعيةٍ أخرى، تلك هي عتبة (التقديم) الذاتي الذي لم يكن مألوفاً لنظر القارئ في النمط المتبع بطباعة المجاميع الشعرية وسياقاتها التي اعتادَ عليها نظر المتلقِّي النوعي والعادي. وقد قصر هذه المُقدِّمة على صفتين مُهمتين هما:(الشعر واللُّغة). وعنده "الشِّعرُ هذهِ اللُّغةُ العَاتيةُ". (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 9)، ووسيلته هذه " اللُّغةُ.. هذا الجَبروتُ الطَّيِّعُ". (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 9). في إشارةٍ خفيَّةً وذكيَّةٍ إلى فنِّ الشعريَّة التعبيرية، ومعجمية اللُّغة الشعريَّة أداة التوصيل الروحي والحسِّي بينه وبين المتلقِّي لشطآن هذه الشعرية وضفافها.

والعتبة النصية الثالثة التي جعلها الشاعر تصديراً ثانياً لكتابه هي عتبة الشعر في إشارةٍ إيحائية مُضمرة إلى الذات الشاعرية الصُلبة المُتعَبَة التي تَعاركتْ مع نوازع تَطاول الزمن واستمراء دهاليز الأسئلة المُحيِّرة لهذا الفتى الشُّجاع الذي نحتَ في إزميله الشعري من صَلابة الحجر أمانيَ شخصيةً، ومن المستحيل إدراكاً فكريَّاً لتحقيق ذاته وتكوين أناه الشاعريَّة، فَيُخبِرُ بتصديره الثاني:

مَشدودٌ إِلَى الزَمنِ

عَاكفٌ فِي دَواليبِ الأَسئلةِ

حَجَرٌ هَذا الَفتَى الَّذي صَنَعَ الأُمنياتِ

قَفزَاً لإِدراكِ المُستحيلِ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 11)

وحرص الشاعر زيد الشهيد على أنْ يضع لكل قسم من أقسام الكتاب الاثنين عتبةً فرعيةً متمايزةً عن الأخرى بجوهر محتواها ينطلق منها في إنتاجه إلى شطآن الشعرية الخِصبَة.

ومن يتتَّبع العنوانات الفرعية لمدونة(دَولةٌ داخلُ قَلبِي) بقسميه الأول والثاني سينبهر بذلك الكم النوعي والعددي من العتبات الفرعية الداخلية لمتن الخطاب التي تَغلَّبت بنائياً وتركيبياً فيها العنوانات الفنيِّة المُنزاحة على نظائرها الأخرى القليلة من العتبات ذات التوظيف الحسي التقريري المباشر الذي لا يتطلب جهداً وتفسيراً وتحليلاً وفكاً لشفراته اللغوية في التنميطية الإطارية والقياسية المُعجمية المألوفة للقارئ والدارس والناقد في أدبيات القراءة والتلقِّي المعرفي الإبداعي.

ويُعزى كلُّ ذلك إلى بلاغة الانزياح اللغوي الأسلوبي لِمُعجمية الشاعر وثقافته الشعرية المكتسبة ومقدرته الفنيَّة الواثبة على صياغة عنوانات صورية فنيَّةٍ مُتحركةٍ في أنسنتها الروحية وإيقاعها الصوتي الأسلوبي التعبيري عن جماليات واقعة الحدث الشعرية، وتحوِّلات وتيرتها الحركية المتسارعة في تخليق وإنتاج لوحاتٍ شعرية متناميةٍ تجمع في مضانها التكويني بين ثنائية التجريب الشعري الوصفي والتجريد الفنِّي في رسم اللَّوحة الشعرية بهيأتها الكَماليَّة لنظر القارئ.

وعلى وفق ذلك فإنَّ العنونة قد تضيف بُعداً دلالياً وجمالياً جديداً على شعرية النصِّ، وقد تكون في كثير من الأحيان خلاصةً رمزيةً مُكثَّفةً لمسار الشعرية المكانية. وذلك لأنَّ العنونة قد تكون عنصراً مهمَّاً من عناصر روافد الإدهاش والتجلِّي النصيَّة المُتعدِّدة. حيثُ تُكرِّس العَلاقَة الخطيَّة المباشرة والتعالق السيمائي بين واقعة الحدث الموضوعية من جهة، ولافتة العنونة الموازية للنصِّ الشعري من جهة أخرى. فهي علامة أيقونية فارقة دالة على محتوى المجموعة وصورتها الكليَّة.

تَطبيقاتٌ إِجرائيَّةٌ لِفضاءِ المَكانِ التَّشعِيري

ومن أهمِّ النصوص الشعرية المكانية الجيَّدة التي تلفت الانتباه الفكري والموضوعي المُستجد بسمتها العنوانية المُدهشة، النصُّ الشعري القائم بذاته(دَولةٌ داخلُ قلبي)، والذي اتَّخذه الشاعر عتبةً عنوانيةً رئيسةً لمصفوفة هذا الكتاب الشعريَّة. ومن باب تغليب الأفضل تمَّ إطلاق اسم القصيدة الجزء على الكل العنواني؛ إيثاراً للعَلاقة الحَميمَة ما بين العنونةِ وواقعة النصيَّة الشعريَّة الداخلية.

وهي القصيدة التتي استهل مُفتَتَحهَا الشاعر بمجموعة من ضمائر الذات الفردية والجمعية المشتركة، وهي ضمائر( الخطاب والتكلُّم والغياب) بشتى أنواعها الذكورية أم الأنثوية، والفردية أم الجمعية. فضلاً عن الإشارة المباشرة لهذه الضمائر بأدواتها القريبة والبعيدة التي تعاضدت جميعاً وتشاركت في تأثيث وبناء أُس دولة القلب العظمى العميقة مثابةً مكانيةً راسخة لهُويَّةِ الحبِّ والفخر والزهو والخُيلاء في هذا المجد الشعري الخالد. فلنتأمل جماليات هذه الدولة المثالية:

أَنتَ، وَهوَ... أَنَا، وَنَحنُ، وَأَنتُمُ

أنتُمَا، وَأَنتُنَّ

كُلُّ هَؤلاءِ، وَأُولئِكَ

بَنُوا دَولَةً دَاخلَ قَلبِي (دَولةٌ دَاخلُ قلبِي، ص 25)

إذن كل هذه الضمائر الشمولية الداخلية المؤنسنة مشتركة ببناء دولة القلب، وهي تأكيد ذاتي على الخروج من ربقة الذاتية الضيقة والانفتاح على عميم الذات الجمعية الكُليَّة المشتركة؛ لتشمل كل الصفحات المكانية في داخل القلب النابض بالحبِّ وخارجه كدولةٍ حصينة لا يمكن أنْ تتزحزح:

لِكُلِّ الصَّفحاتِ الَتي زَرَعَتْ كَلمَاتٍ

وَحَفَرَتْ صُوَراً.. وَأَنتَجَتْ كِتَابَاً

دَوَلَةٌ حَصينَةٌ هُنَا (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 25)

هذا الشعور الطافح بالانفتاح الشمولي في الخروج من ذاتية الأنا الشعرية الضيَّقة والارتماء بأحضان ذاتية الجمع الكوني الشعبي الآخر، دفع بالشاعر زيد الشهيد إلى تأكيد حصانة تلك الدولة القصية المثالية والقريبة الفاضلة التي شيَّد صرح معمارها الفنِّي الهندسي في ثنايا قلبه النابض من خلال تقنية التَّكرار اللَّفظي الجزئي لكلمة(الدولة) التي تكرَّرت تَكراراً عمودياً في الجُمل الشعرية الأربع الأخيرة بهذه القصيدة؛ وذلك لتأكيد جلالة المعنى النصِّي، ونزع نية الشكِّ لحقيقة البناء في نفس السامع والقارئ. فجاءت ترانيم المقطع الرابع منها لتأكيد المكانية الظرفية لهذه الدولة الماجدة:

دَولَةٌ عَظيمَةٌ هُنَا..

تَمشِي لِمُدنٍ عَارِيَةٍ بِلَيْلٍ بَلِيْلٍ

تَستَحِمُ بِنَسماتِ الِّسِّحرِ

وَتُغنِّي مَا تَشَاءُ مِنَ العِشقِ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 26)

وينتقل الشاعر في المقطع الخامس في تكراره اللَّفظي من دولة(العَظَمَةِ)الماكثة في جذورها العميقة إلى دولة(الجَمَالِ) الشِّعري الشاخصة في بنائها الماثل لجميع أبناء الشعر والجمال. فيقول في تأكيد ظرفيتها المكانية المعمارية بهذا التراتب المعماري الفنِّي من الكلمات الذي يسعى إليه:

دَولَةٌ جَمِيلةٌ هُنَا

صَمَّمَها مَعمَاريونَ مِنْ جَبَلِ الكَلمَاتِ،

مِنْ بُحُورِ الأَلوَانِ..

مِنْ طُوفانِ الفِكرِ الخَارِجِ لِتَبييضِ العُتمَةِ

مِنْ أَخبَارٍ لَمْ تِتِكِيَّن بِغَيرِ مُغامِرِينَ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص26)

وأخذ الشاعر يُكرِّر أيضاً الحرف(مِنْ) التبعيضية أربع مرَّاتٍ متواليةٍ في هندسة بناء الدولة، فقال: (مِنْ جِبلِ الكَلماتِ)، و(مِنْ بُحورِ الألوانِ..)، و(مِنْ طُوفانِ الفِكرِ..)، و(مِنْ أخبارٍ لَمْ تَتَكَيَّنْ..). ويمضي الشهيد في تواتره اللَّفظي التَّكراري لهذه (الدولة) في المقطع السَّادس ليؤكِّد حجم مصداقيتها وعدم اعترافها بأي نقصٍ؛كونها تقوم على الصدق وتأخذ الورد من الخالدين لِتُأكِّد خلودها المكاني:

دَولةٌ مُتكامِلَةٌ هُنَا.. لَا تَعترِفُ بِالنقصِ

وَلَا هِيَ بِحَاجَةٍ لِتَقييمِ الحُسَّادِ، وَالمُتطفِّلينَ، وَالمُتنطِّعِينَ.

دَولةٌ تَقولُ الصِّدقَ، وَتَشترِي الوَردَ مِنْ رِياضِ الخَالدِينَ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، 27)

وجاء الفضاء المكاني للمقطع السابع والأخير في تتابعه التكراري لحجم هذه الدولة المُتخيَّلة أسطورياً؛ لتؤكِّدَ خلودها الحضاري والثقافي من خلال هذه التشبيهات العجائبية والغرائبية لثقافتها:

دَولَةٌ خَالدةٌ هُنَا..

كَبُرجِ بَابلَ، كَشَلالاتِ نِيكَارَا

كَسورِ الصِّينِ، كَبَحرِ المَانشِ

كَأهراماتِ الفَراعنةِ ، كَيُوليسزَ، كَشكسبيرَ

كَبُؤساءِ هُوغُو، وَدراويشَ بَاشلَارَ

كَالمَجَرَةِ السَابحَةِ فِي الهُيولِي الغَامضِ والغَرِيبِ. (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص27)

ويُلاحظَ أنَّ الشاعر الشهيد اعتمد في تأثيث معمارية هذه الدفقة الشعورية الختامية على مجموعة كبيرة من تقانة بلاغة المقاربات التشبيهية العظيمة للرموز الثقافية والشعرية والأيقونات العالمية والدولية، ولمثاباتٍ مكانيةٍ وثقافيةٍ ورمزيةٍ مهمَّة شغلت فكر العالم المترامي بجلالها الساحر وجمال صرحها الحضاري الفضائي المكاني العالمي المائز، فكيف لا تشغل فكر الشاعر والمترجم فكانت بحقٍّ خطاباً نصيّاً يليق بأقانيم معمارية دولة اليوتوبيا الأسطورية الفاضلة وبمكانتها الخالدة.

وفي قصيدة (أحلامٌ تَتَعلَّمٌ الأناقةَ) الدالة عتبتها العنوانية على استدعاء أنسنتها الفنيَّة الرائعة التي أضفى فيها على الدلالة المعنوية غير المرئية لدالة (الأحلام) شيئاً من حسِّيَّات الإنسان البصريَّة، وهو (الأناقة) الذوقية الجمالية الشكلية والجوهرية. حيث ينقلنا فكر الشاعر الصوري من حلم الدولة القلبية المكينة الكبيرة إلى حُلُم(المدينة) المثابة الإفلاطونية التي تنعمُ بِرغيد الفرح والسعادة، وتخلو شوارعها الفسيحة من وجع الهمِّ والحزن والارتكاس والنكوص ومكابدات الذات الماسوشية.

حتى وصل الظنُّ الانزياحي برؤى الشاعر الأنسنية الحُلُميَّة إلى أنَّ السماء فيها تقرأ كُتُبَ الأماني المنشودة، وأنَّ الفراشات الرقيقة تُعطيك رَقَصَاتٍ مُهفهفةً عذبةً جذلى لمن يرسم لها لوحة الحبِّ شعراً ُمبشراً بشآبيب نَثِّ المطر في هذه الانثيالات التدفقية التي تقترب كثيراً من فنِّ السرديَّة:

فِي حُلمِكَ مَدينةٌ تَخلُو مِنْ شَوارعِ الأَحزانِ، تَقتَفِي الأشجَارَ خَطوَ سَعادتِكَ الَّتي تَبتَغِي وتَقرأُ السَّماءُ كِتابَ أَمانيكَ، بَينَمَا الفَراشَاتُ تَغدَقُ هَفهفَاتٍ عِذَاباً عَلَى رُمُوشِ مَنْ يُصاحبُ المَدينةَ صَدِيقاً يَكتُبُ لَهَا الحُبَّ طَيفَاً وَيُرسمُهُ شِعرَاً عَلَى خَدِّ غَيمَةٍ تُبشِّرُ بِالمَطَرِ. (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 53)

ويُلاحظ أنَّ الدولة القلبية التي أسسها الشاعر الشهيد في قصيدته السابقة، وتلك المدينة الطوباوية القصية في القصيدة الحُلُميَّة الثانية ذاتها هي مثابات للمكانية والزمانية التي ينشدها الشاعر في مدينته الخلودية. وليست مجرد أمكنةً تصوّريَّة شاخصة العلامات بمعالمها الأيقونية واضحة الأثر.

وهذا يشي بخيالية الشاعر الحلمية التي يريد أن تنتهي، ولا يريد أن تنتهي بانتهاء اللَّحظة الشعورية الصارمة للقصيدة. وهذا التداعي الشعوري الداخلي لا يمنع الشاعر من استمرار حلمه في المقطع الثاني من القصيدة نفسها، فيستدعي لهذه المدينة الحُلُمية بحيرةً من الأحلام، وأناساً فاعلين يحتفون بها كأنّهم يَستحِمُّون على ساحل بحرِ مثابةٍ مكانيةٍ، في لقطة تخاطر من الانثيال السَّردي:

في حُلُمِكَ بِحيرةٌ يَرخَى لَهَا الرَّملُ سَاحِلاً وَتَنتَصبُ المِظلاتُ، فَالنائِمونَ عَلَى الرَّملِ عِشاقٌ يَقرأُونَ مَا كَتَبتَ لِعروسةِ البَحرِ. هُناكَ.. فِي أعالِي مُحِيطاتِ الرَّغبةِ، وَأدنَى حُدُودِ القَلَقِ تَرى الشَّمسَ تُحاورُها، وَيَأتيهَا القَمَرُ يُبعِدُ الوَحشَةَ رَيثَمَا تَجِيءُ بِعواطفِكَ فَأنتَ المُنْتَظَرُ. (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 53)

وتأخذهُ نشوة الأحلام والتمنِّيات على جناح غيمةٍ حُبلى مَاطرة شوقاً لأناقة بودلير الفرنسي المُعلِّم، وإلى جماليات لوحات مونيه الفنيَّة المرصَّعة بفرادة الألوان والضوء، فيمنحك انطباعاً بالإشراق الفنِّي. وكأنّي بزيد الشهيد يُترجِمُ لهما زمكانياً بطريقة من يَسرد لكَ بلغته النثرية القريبة من الشعر:

فِي حُلمِكَ تُرافقُ بَودليرَ تِلميذَا يُعلمُكَ الأَناقةَ، وَيُشيرُ عَلَى مُونيهَ أَنْ يَسقيكَ كَأسَ الألوانِ والضَوءِ، فَالانطِبَاعُ زَهرةٌ تَكتُبُ العِطرَ شِعراً، وَالشُّعراءُ مِظلَّاتُ وَرَسائلَ.. وَإشراقٌ. (َدَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 54)

بهذا الهجس اللُّغوي والشحن الشعوري الطافح يُصَيِّرُ زيد الشهيد الرؤيا الحُلُمية الشاعرة إلى تراتيل مِساحاتٍ فنيَّةٍ شعوريَّةٍ، وواحاتٍ بصرية جماليةٍ خضراءَ سامقةٍ للطبيعة والفنِّ والحياةِ والمحسوسات الكونية المتحركة التي تُسعد نفس الإنسان السويِّ وتَرتقي به نحوَ الرفاهية والتقدُّم.

فكل هذه الأدوات الشعرية التي وظَّفها الشهيد الشاعر والمترجم والإنسان هي في حقيقة الأمر تعدُّ ميادين فنيَّةً وجماليةً لمثابات عناصر الحياة الكونية (السكونية والمُتحرِّكة) التي أخذت مأخذها الطبيعي المتساوق أسلوبياً في ثنايا هذه القصيدة الصورية. لتعلن عن نفسها لوحةً تصويرةً إيماجية متحركةً لا تقف بدورانها الشعري إلَّا بانتهاء الدفقة الشعورية الهاربة لعالمها الوجودي الأرحب.

ومن بين قصائد هذه المجموعة الشعرية قصيدته الزمكانية الناهضة بصورها الفردية والذاتية الجمعية المتماسة(حَرائقٌ تُعرِّشُ في الجُفُونِ). والتي يستحضر فيها الشاعر عديدَ الأمكنة الإنسانية الثابتة والمُتحوِّلة(الشوارعُ والأرصفةُ والأزقةُ والبيوت) مرتبطةً ارتباطاً فلكياً وثيقاً بقرص حركتها الزمانية المحدَّدة بوقت معيَّن ما، (الفجر، طلوعُ الشمسِ، الظهرُ، الضُحى).

ورُبَّما الأيام المتسارعة وانتهاء الساعات المنقضية، وزفير اللَّحظات الشعورية الانخطافية المُتصارعة من تاريخ بلادي المدوَّن بدفتر مَلاحيظ الأُمَّهات والزوجات الذارفات للدموع أسىً وتأسياً على مجد أعتاب هذا التاريخ المتتالد الدهور. فهذه الدموع الساكبة للعبرات هي لظى الحرائق النارية التي تعرَّشت في جفون العيون لهيباً حارقاً للقلب والروح المستهامة بالحبِّ.

لنتأمَّل بإمعان فكري نابه في المقطع الأول من مفتتح القصيدة حركةَ شعور الشاعر زيد الصباحية المُبّكِّرة، وهو يلفُّ الشوارع الساكنة بحركته التأمُّلية، ويمرُّ سائراً على قارعة الأرصفة النائمة الهامدة في وقت السَّحر في لوحةٍ فنيَّةٍ دراميةٍ مُتناميةٍ تجمع بين هدوء السواكن المُتحرِّكات:

كُلُّ يَومٍ أَنهضُ عِندَ الفَجرِ أَلفُّ الشَّوارعَ

وَأَمُرُّ عَلَى الأَرصِفَةِ

أَجمعُ الدُّموعَ قَبلَ طُلُوعِ الشَّمسِ.

لَا أُريدُ أنْ يَضيعَ دَفترُ الأُمهاتِ وَالزَّوجاتِ

دُمُوعُهُنَّ تَاريخُ بَلَادِي

وَجَعَهُنَّ، تَرتِيلِهُنَّ عَلَى أَيامٍ مَزَّقَتهَا اِنتظارَاتُهُنَّ.

كُلُّ ظَهيرةٍ أَشقُّ الأَزقَةَ وَأخترِقُ الأَشواقَ.

ألحَقُ مَنْ رُحْنْ يُحَدِّقْنَ فِي الوُجُوهِ وَيَتشبَّثْنَ بِأَكُفِّ الَّشَبابِ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 57)

ليس فقط همُّ الشَّاعر مَقصوراً مَقصديَّاً على عناصر هذه الحركة المكانية أو الزمانية المتراتبة إيقاعياً، وفواعلها الشخصية المتحركة فحسب، بل فلننظُرْ إلى إيقاع أسلوب وَحْدَنةِ الأفعال الحالية الزمانية المضارعة، (أنهضُ، ألفُّ، أمُرُّ، أجمعُ، أريدُ، أشقُّ، ألفُ، أتحرَّى)، ونتحسَّسُ بعمقٍ وقعَ مشاركتها الفعلية العملية المنتظمة التي أسهمت إسهاماً فنيَّاً وبنائياً تركيباً ومعجمياً في تحريك صورة الواقعة الشعرية وتفعيلها مكانياً وإيصال دلالاتها الشعورية الحارَّة إلى ذائقة المتلقِّي.

فتلك الأفعال التشاركية هي عرائش الكروم الزمانية التي ترفع الأغصان المكانية عَلِيَّاً وتُهيِّئ إلى قيام المثابات الوجودية في هذه الصورة واللَّوحات الشعرية الإنسانية التي تزدحم بها الوحدة الموضوعية لهذه المدوَّنة الشعرية كعلاماتٍ خطِّيِّةٍ فَارقةٍ في تحقيق مقاصد مَرامي الشاعريةِ.

ويستمرُّ الشاعر زيد الشهيد في نهجه الحركي المكاني الدائر بهذا التَّكرار الكلي(كلُّ) المقترن بالدالة الزمانية(ضُحىً) المُرتبطة بمثابة(البيت) المكانية في جملة إخبارية يتحرَّى فيها الشاعر متأملاً ويبحث عن الوجوه المشرقة الصبوحة التي تغرِّد كالبلابل في معزوفاتها الغنائية الشادية:

كُلُّ ضُحىً أًتركُ البَيتَ

أتحرَّى عَنْ وُجُوهٍ صَبُوحةٍ

كَانتْ كَمَا بَلابِلَ تَقُولُ الزَغاريدَ

أَجمعُهَا فَي أُغنيةٍ

لَا أُريدُ لِتَساؤُلاتِ الصِغارِ أَنْ تَتَبَدَّدَ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 58)

لم تكن المثابات المكانية عند زيد الشهيد على مستوىً واحدٍ نمطي ثابتٍ من تداعي الصور الفنيِّة والدراميَّة والبصريَّة المرئية. فالإيقاع الأسلوبي للحظة الشعورية الدافقة قد يتغيَّر جذرياً وكليَّاً بتغيُّر غرض الفكرة الموضوعية لوحدة القصيدة. فإذا كانت (الشوارع)، أو طرق الحركة الإنسانية المتزاحمة في القصيدة السابقة عنواناً لحركة فضاء الحياة اليومية المكانية، وعلامة أيقونيةً لديمومة استمرار نسغ الروح الحياتية بكل تجلياتها ومهيمناتها الصورية الظاهرة والمضمرة.

فإنَّ الشاعر في قصيدته(رُؤىً تَقتات وَقتَاً) الدالة على فكرتها الموضوعية المتوائمة قد أحال تلك(الشوارع) المكانية الواسعة إلى صُحفٍ ثقافيةٍ انتشرتْ عنواناتها بين الإرجاء وتبعثرتْ علاماتها الناطقة بالمعرفة إعلانياً. وفي الوقت ذاته أحال (الأُقبيَةَ)أو الأماكن الخفية التي تكمن في صدور الفقراء من عامة النِّاس إلى كلماتٍ شفيفةٍ تَنسكبُ منها زفرات العبرات شجناً، وتنحدر منها الآهاتُ دموعاً عصيَّةً، مُعَلِّلاً هاجسَ تلكَ الإحالة النفسية كي يُعيدَ للدمعة كبرياءَها الذاتي الجليل:

كُلُّ نَهارٍ أَرَى الشَّوارِعَ جَرائِدَ تَتَبَعثرُ عَناوينَهَا

وَفِي أَقبِيةِ صُدُورِ الفُقراءِ تَسكِبُ الكَلمَاتُ العَبَرَاتِ

أَعيدُ لِلدَمعَةِ كبرِياءَهَا (دُولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 67)

فمثل هذه النظرة الزمكانية في تناظرها الحركي والفكري قد قادت وعي الشاعر زيد الشهيد إلى الاستمرار في استخدام وتوظيف الدالة الجمعية ا لشمولية التوكيدية(كلّ) المقترنة بزمن كأداةٍ لمُفتتَحاتٍ في مقاطع القصيدة الأخرى(الأول والثاني والرابع والخامس)بحسب ما يتطلَّبه الموقف.

وغائية الشاعر من كل ذلك التشديد الكلي؛ لتأكيد فاعليتها الكية المكانية وأثرها الجمعي الشمولي في كلِّ زمانٍ دالٍ على حركة الشاعر وتنامي انثيالاته الصورية ورؤاه الفكرية الُمتحرِّرة في منظومةٍ شعريةٍ من التحشيدات الجمليَّة الملتقطة. والتي ترسم هواجس الشاعر ونظرته الثقافية عن واقعه الشعري الذي هو واقع مجتمعي. وهذه الاستمراريَّة تشي بأنَّ الشاعر يختلق المكانية ويحدِّدها، سواء أكانت حقيقيةً أم أسطوريةً متخيَّلةً ؛ لينتج لنا صوراً شعريةً تكامليةً تأثيريةً مفعمةً.

الشاعر الشهيد دائما يبحث في تجديده الشعري عن مفرداتٍ تُخلِّد القصيدة وتبعث فيها الروح الشاعرية والأثر التاريخي الناجم عن ثقافة الشاعر المكتسبة واستعداده الفطري في تجسيد الواقعة المكانية بشخوصها الرمزية القديمة والحديثة ذات الأثر التراثي الغائر بأطنابه في عمق التاريخ. وقد دعاه هذا الاستعداد الثقافي المعرفي الابستمولوجي إلى استخدام تقنية التضاد الفعليَّة الأمريَّة المُتوحدنة مع زمكانية الحدث(كُنْ)، (لاتَكُنْ)في إشارة نسقيةٍ إلى مصادر الخير والشرِّ ومنابعه:

كُنْ مَعِي كَهَارونَ لِمُوسَى فَأرسِمُكَ وَفَاءً

وَلَا تَكُنْ برُوتسَ لِقَيصرَ فَأحسبُكَ أَيقونَةً لِلغَدرِ.

كُنٍ نَهرَاً يُحَاوِرُ الأشجارَ عِشقَاً

وَلَا تَكُنْ صُخُوراً تَرشِقُ جَبهَةَ النَاظرِينَ.

اِجعَلنِي أَهفُو إِليكَ كُلَّمَا جَرَحتَ يَدَيَّ

شَوكَةُ بُغضٍ، أوْ وَقَفَ بِوَجهِي غُولُ الحِقدِ (دَولةٌ دَاخل قلبِي، ص 61، 62)

الشاعر في إثبات الوجود الهاملتي(أكون أو لا أكون)، وفي خطابه التحذيري لاستنطاق هُويَّةِ الآخر وديمومة بقاء النص الشعري(أيها الطالع من نهر الذاكرة) يتمنَّى أن يكون هذا الطالع بمنزلة هارون من موسى الأخوية الرساليَّة في صفة الوفاء والإخلاص التاريخي بتمام العهد، لا صفة الغدر والخيانة كمثل بروتس الصديق الغادر لقيصر الروم والضالع بالجريمة الجمعية. ويتكرر تردُّدُ هذا النداء النُّصحي الحَكيم لنظيره الآخر إيجاباً وسلباً فيدعوه بفعل أمرٍ طلبي ناسخٍ (كُنْ) أنْ يكون نهراً عاشقاً في حواره الروحي لأشجار الطبيعة الكونية المكانية، وليس صخراً جارحاً يشجُّ جبين الناظرين بهذا الترديد الأسلوبي الإيقاعي المموسق بينه وبين فكرة القصيدة المكانية.

هكذا يحوِّل الشاعر الشهيد المثابة الفضائية المكانية بهذا الترديد التضادي المتواتر التكراري إلى حلبة صراع بين الخير ونقيضه الشرُّ. وتتابع خُطى الشاعر زيد بهذا الهجس النفسي المتصاعد في مقاطع القصيدة المتتالية حتَّى نهايتها بإيقاع تَدَرَّجٍ أسلوبي تكراري تحدُّدي من الفرادة والإمتاع الروحي في تجسيم واقعة الحدث(المُعَلَّقةُ)وأرخنتها شعرياً لمكانها القديم وزمانها عصر الجاهلية:

كُنْ مُعلَّقَةَ الشِّعرِ يَحفظُهَا كُلُّ ذِي قَلبٍ جَمِيلٍ

وَلَا تَكُن سَيلَ الأوجاعِ الرَعنَاءِ

تَذِرُهَا رُوحِي وَتُسَمِّيكَ عَذَابَاً (دَولةٌ دَاخلُ قلبِي، ص 63)

وعند الالتفات إلى فكرة نصه الشعري المعنون (بالأسئلة لُغتي تُؤسِّس مِملكتها)، يقرُّ الشاعر زيد الشهيد في خواتيم هذه القصيدة الهَميَّة المنسكبة بسيل من الأقدار والهموم والتجلِّيات التلهفية، وبجمل شعرية خبرية واسمية متوالية باعترافه القارِّ عن مرافئ محطَّاته المكانية الخمرية فيقول:

لُغَتِي خَمرِي.. وَأنتِ مَدِينتِي

مِتعَةُ حَديقةِ الكَلِمَاتِ

إنْ اِرتكزَتْ إِلَى الصَّمتٍ تَبَعثًرَتْ (دَولةٌ داخلُ قلبِي، ص 76)

لا شكَّ إنَّ الإخبار عن مرافئ ومحطات الشاعر المكانية التي حولته إلى راءٍ للهموم والمرارات تنمُّ عن أسفٍ وتحسرٍّ وانكسارٍ ونكوص وشعور خيبة بالتذمُّر؛ لكن ما يعوض ذلك التراجع والانكسار الروحي الآسف هو لغته الشعرية التي هي هويته في مدينته الشعرية التي استحالت إلى حديقة هجسد من الكلمات الاستنطاقية التي لا تعرف الصمت والركون الهادئ.

والملاحظ أنَّ الفضاء المكاني في نصِّ هذه المدينة الشعرية الفاضلة لم يأتِ مصطنعاً قصدياً، بل حضرَ عفوياً انسيابياً تلقائياً سلساً غير متكلِّفٍ في معرض انثيالاته التبئيرية؛ لأنَّ الدفقة الشعورية الهاربة من شواطئ الصمت هي من تأتي به طيِّعةً منقادة تجرُّ أذيالها جرَّاً انسكابياً مدراراً كَغيثٍ منهمرٍ. هذا ما نرى استنطاقه العذب وديمومته في خطابه الشعري ومناداته الحُلُميَّة لمدينته الحياتية:

أَيَّتُهَا الحَياةُ يَا مَدِينَتِي

كُونِي شَوارِعَ بَهجَةٍ وَأرصفةَ تَرانيمَ

زَهرةً يَهتَدِي عِطرُهَا لِعُشَّاقٍ نَامُوا

عَلَى حُلُمٍ يَغرِقُ فِي الضِّحكِ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 71)

ويلاحظ أن الشاعر الشهيد كان بمدونته مُلهَمَاً ومهووساً بِحبّه الجمِّ للفعل الماضي الناقص الناسخ (كان) وأثر تقلباته الاشتقاقية(أكنُ، يِكُنُ، تَكنُ، كُنْ، كُونِي، كُنتُ...). والحقيقة أنَّ هذه التردُّدات (الكانيَّة) الفعلية الحدثية المتناغمة التساوق الصوتي والحدثي في طيَّات القصيدة تمنح النصَّ الشعري إيقاعاً أسلوبياً عذباً ناتجاً عن شغاف نياط القلب وعلائقه الروحية بالآخر الذي يتماهى معه الشاعر زمانياً ومكانياً في مِساحاتٍ كبيرةٍ من سعة فضائه الشعري المتواشج علائقياً:

حَيثُ أَكونُ تَكونينَ قَفَصَاً

أيَّتُهَا السَّمَاءُ الَّتِي خَطفَتْ مِنِّي

سُلَّمَاً وَرَمَتنِي فِي المَتَاهَاتِ

صَحراءَ بِلَا وَاحَاتٍ أَنتِ

وَأَنَا الظَّبِيُّ الظَّمآنُ

أَكتُبُكِ شَوقَاً، لَكِنْ أَحصدَكِ نَهَارَاتٍ صَيفِيَّةً (دولة داخل قلبي، ص90)

فحينما يكون النداء التَّكراري خالصاً من ثنايا القلب يقع في القلب، وليس كما يخرج الكلم من اللِّسان فلم يجاوز إلَّا الأُذن، كما يَستدلُّ بذلك الأثر البالغ الجاحظ في بيانه الساحرعن اللَّفظ والمعنى. فلننصت إلى ما يقوله الشاعر في رحيله المكاني الذي هو يقين القلب الثابت الذي لا يتزحزَحُ:

وَتَرَكتُ غُيُومَ التِّيهِ

قِطَارَاتٍ َترحَلُ إِلى مَحطَّاتٍ

لَعلَّهَا اليَقِينُ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 82)

ومن يتتبع الجمل الشعرية المتوالية لقصيدة(اقتفاءُ أثرِ النَّيازكِ)، سيلحظ بعين بصريَّةٍ ونقديَّةٍ ثالثةٍ سَيلاً من الأفكار التساؤلية عن الأمكنة الوجودية التي يبحث فيها الشاعر عن ضالته المفقودة وعن وجوده الكوني في هذا العالم الواسع المليء بالمتاهات السرابية الضيِّقة والغوايات المُهلكة:

إِلَى أيِّ المَرافِئ الغَائمَةِ تَأخذُنَا النَوافذُ المُسرِعَةُ؟

إِلَى أيِّ سَراباتِ المَتاهَاتِ تُسَلِّمُنَا ضِياءُ الغُوايةِ؟

وَإِلا مَا نَنَحَتُ الكَلماتِ كَي تَبقَى زَرعَاً أخضرَ؟ (دَولةٌ دَخل قَلبِي، ص 97، 98)

فالأداتان الاسمان(أيّ)، و(إلاما)، هما أداتا استفهام تساؤليتان بحاجةٍ إلى إجاباتٍ شافيةٍ للوصول إلى شاطئ الحقيقة المكانية عن مدلولاتهما المعنوية الزمكانية التي قدحت فكرتهما إلى وعي الشاعر زيد الشهيد وذخيرته الشعرية إلى الهجس بهما بهذا التساؤل عن ذاته الشاعرية المُتحيِّرة.

حينما تكون العنونة النصيَّة الموازية لتجلِّيات النص الشعري المرسل إلى القارئ علامةً ضوئيةً وفناراً سيميائياً كاشفاً عن محطَّات النصِّ المكانية وفضاءاته الزمانية الحالية والمستقبلية وصولاً لمرافئ الحقيقة الوجودية اليقينية الثابتة والمتحركة المعبِّرة عن هجس الشاعر الفكري وقلقه، تكون العلامة الخطية بين موحيات العنوان والمتن الشعري علامة صدقٍ لـ( الوُصولِ إِلى مَجرَّةِ اليَقينِ).

والتي هي ثيمة النصِّ الفكري التي يخوض غمارها الشاعر صوراً فنيةً سابحةً في فضاءات المكانية وانزياحاتها لعنونة أسلوبية تنعم بها تجليات النصِّ الشعري؛ لتبعث برسالة مفادها أنَّ الرغباتِ آمالٌ واعدةٌ، ، وأن الوصول إلى عين الحقيقة الوجودية للمستقبلية وإنْ كان مُكلِّفاً ومُتعباً شاقَّاً لا يخرج عن حدِّه عن كونه يقيناً روحيَّاً فكريَّاً يبعث عن مكملات الطمأنينة والسلام والدِّعة والاستقرار النفسي ذي المردود الفكري والمكاني التخليقي المنتج لا التافه المُستهلِك لجوامع الكلم:

سَأبحَثُ فِي فَضَائِكَ مُدُنَا تَرتَدِي قُمصَانَاً مِنْ رَغَبَاتٍ

وَتَتَعثَّرُ كَالأطفَالِ وُصُولاً إِلَى مَجَرَّةِ اليَقِينِ

رَاكِضَاً فِي بَرارِيكَ أَحلامَاً تَتَهَايَفُ فِي شَوارِعَ

تَبحثُ عَنْ عِربَةٍ لَا تُقِلُ الظُنُونَ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص 101)

إنَّ السباحة في فضاءات المدن، وارتداء قمصان الرغبات النفسية، والتَّعثُّرَ كالطفولة، والركض في براري الأحلام، هي جمل شعرية وصورية فنيَّة ناطقةٌ بجماليات الصوت والحركة الدرامية كَفيلةٌ بتحقيق المنشودات الذاتية الحُلُمية من خلال استدعاء صور هذه الفضاءات المكانيَّة الصادقة.

فالمشتقان اللَّفظيان(سابحاً وراكضاً) اللَّذان افتتح بهما الشاعر مستهل قصيدته وصولاً بها إلى مجرَّة اليقين الدالة على معنى عتبتها، ما هما إلَّا علامة سيمائية دالة موحياتها الدلالية على سعي الشاعر زيد الدؤوب وحركته الشعرية المتوثبة تجريدياً في إمتاع القارئ بهذه الانزياحات الضوئية المؤنسنة القريبة للروح في مؤثِّراتها النفسية وعملها الحدثي الفاعل بالأثر.

وقد زانها جمالاً وفنَّاً حركياً على فنٍّ ساكنٍ حينما قال بأنَّها:(تَتهايفُ في شَوارعَ)، وكأنَّ الأحلام فتاةٌ هيفاءٌ رشيقة القوام عذبة الروح تسرُّ صورتها الكُليَّة الممشوقة نظر الرائين ورضاهم الذاتي؛ كونها (تَبحثُ عنْ عَربةٍ لا تُقِلُّ الظُّنُونَ)، أي الشكَّ، بل تُقلُّ اليقين القلبي الثابت.

ولننظر بتؤدة وإمعان دقيقينِ إلى صورة المقطع الأخير من أواخر قصيدة للشاعر بهذه المصفوفة الشعرية المتصالحة مع نفسها، والتي وضع لها عنواناً خبريَّاً وفنيَّاً طويلاً لا يخلو من فن بلاغة التعبير القولي عن تزاحم همومه النارية المتسكعة بقوله: (أتركُ هُمومِي تَتَسكَّعُ وأرفو جذوتي).

كيف يترك الشاعر الشهيد همومه الذاتية وأناه الشاعرية إنساناً يتسكُّع كخيَّاطٍ رافياً بها جذوته القلبية الملتهبة ناراً لا تنطفئ جذوتها المشتعلة بهذه الصور المُحتشدة بالأماني والفضاءات المكانية الَّتي أكلت عمره وشيَّبتْ، شعر رأسه، وقوَّضت وعي فكره، ومرَّضت العلّة نفسه؟ إنَّها المخايل:

وَأمانٍ كَبَحرٍ يَغرقُ فِي ضَبَابٍ

شَوارِعٌ تَتَعثَّرُ، وَأقبِيَةٌ تَئِنُّ

لَافتَاتٌ تَمرَضُ مِن تَمزُّقِهَا

آخرُ الخُريطةِ يَتمَرَّغُ بِغُيومِ الحَقيقةِ الغَائِبَةِ (دَولةٌ دَاخلُ قَلبِي، ص104، 105)

والعجيب أن الشاعر الحقيقي هو من يجمع وقع هاجسه الفكري المحتشد بين مُدخلات اللَّقطة الشعرية الشعورية المُحتدمة الصراع ومخرجاتها الكليَّة الجاهزة. بين عالمها الداخلي الأرضي المكاني الضيِّق ومحيطها الخارجي الكوني الوحدوي الوسيع. وما مفردات، (البحرُ، والضبابُ والغُيومُ) إلا عناصر من عناصر الطبيعة الكونية الخارجية(الصامتة والمتحرِّكة)، وقد تواشجت فنيَّاً وجماليَّاً مع دالات مدلولات فضاءاتها المكانية الداخلية المتشابكة الصور، (شَوارعٌ تتعثرُ)، و(أقبيةٌ تئِّنُ)، و(لافتاتٌ تَمرضُ)، (التَّمرغُ بغُيومِ الحقيقةِ) المكانية المقترحة.

هكذا يرسم زيد الشهيد حمولاته الفكرية الضاجَّة في لوحةٍ شعريَّةٍ واعدةٍ بالفنِّ توصيفاً وتجريداً وتكنيكاً لقواعد الفنِّ الشعري في زمن تكالبت عليه ثعالب الشعر القميء الطارئ، وفي فضاء مكاني نامت نواطير الشعر وحُرَّاسهُ عليه بالشخر والسُّبات الدائم، وباتت فيه قصيدة النثر الشعرية عند الكثير من مُدَّعي الشعر ليس إلَّا إسهالاً لفظيَّاً ناشزاً لا يمكثُ زبده الطَّافي إلا بتجاوز الأذنين.

المُعجمُ الشِّعريّ لِزَيدِ الشَّهيدِ

إن ما يميِّز المعجم الشعري لزيد الشهيد في قصائده النثرية الزاخرة التي احتفت بها مدوَّنته الشعرية الثرَّة، (دُولةُ دَاخلُ قَلبِي)، هو رشاقته لغته الشعرية الباسلة في تماسكها النصِّي حَبكَاً لُغويَّاً مُتجدِّداً وسَبكَاً دلالياً رصيناً مُحكمَاً. وفضلاً عن ذلك تنوِّع وكثافة صوره الشعرية البلاغية والجمالية الزاخرة بالعطاء الفنِّي، وجرأته الانحرافية المِقدَامة في بثِّ انزياحاته التعبيرية المِخياليَّة في تأثيث وصياغة وتركيب جمل شعرية ومجازية إدهاشيةٍ ثرةٍ في دلالتها اللفظية ومعانيها الكليَّة.

وبالتالي قادرةً على كسر توقُّع أفق المألوف الشعري بفنية التعبير الأسلوبي في إنتاج وتخليق منظومات شعرية متكاملة الصور والأثر لا في تركيبها النحوي فحسب، بل في موحيات علاقاتها الخطيَّة الاستدلالية والتضادية والرمزية الاستعارية المهمّة في صناعة الأثر الشعري بعيداً عن المُباشرة والتقريرية والإملال الممقوت.

فهذه المنظومات والنتاجات الشعرية هي بطبيعة الحال تُشكِّل ثقافياً ورمزياً أشكال ثقافةٍ ما مثلما هي أشكال معاني ما. ويعضد هذه الانحرافية البلاغية الجديدة جماليات الشاعر في اختيار عنواناته الفنيَّة الحسيَّة والبصرية التي تُناسب وحدة واقعة الحدث الموضوعية التي هي بؤرة الشعر الفكريَّة، وتخدم النصَّ الرسالي الذي يُلامس ذائقة شغاف القارئ المتلقِّي الذكي النوعي ويُثير وقع اهتمامه.

ويرافق كل هذه الأسلوبية الشعرية بصمة الشاعر المُعجمية في إنتاج قصائد شعرية نثرية خالية من إيقاع الموسيقى الخارجية لبنية النصِّ أو القصيدة الشعرية. فالشعرية الحقَّة لا تتأتى دوماً من إيقاع الوحدات الوزنية العروضية أو القافية الشعرية الموحدة، بل ربَّما قد تأتي من ذلك التنغيم الصوتي والموسيقي المتواشج عشقاً وتعالقاً وتركيباً.

فهذه العلاقة التجاذبية المُوحدنة تظهر نتيجة الانسجام بين وحدة الأفكار الموضوعية والأسلوبية الإيقاعية التي تحصل أو تنشأ على مستوى تقنية التَّكرار الصوتي المُتعدِّد(الحرفي أو الاسمي أو الفعلي أو الجُملي)، أو على مستوى والطباق والجناس والموازاة ورُبَّما المقابلة الناشئة على مستوى التركيب النحوي والصوتي والموسيقى الداخلية والعلاقات المعجمية داخل البنية الشعرية للنصِّ.

وتبقى المفارقة الشعرية والمباغتة الصورية الفنيَّة والرمزيَّة المذهلة السِّمة الأشدَّ بروزاً في عملية التخليق الشعري، والتي تنماز بها فلسفة الشاعر المتفرِّد شعريَّاً وثقافيَّاً عن فلسفة شاعر النصوصية المُتفرِّد بلاغياً في معجمه الشعري الرتائبي.

وأنَّ آخر أقانيم تخوم التميُّز المُعجمي الشِّعري تشي بأنَّ زيدَ الشهيد الشاعر والمُترجِم والرِّوائي والقاصّ والمثقَّف والإنسان يُعدُّ صاحب مشروع شعري ثقافي فكري مُتجدِّد في منهج رؤاه الشعرية وفلسفة تطلعاته الحداثوية في مدائن الشعر الفاضلة وفضاءات السرد الفاعلة وحافاته الفنيَّة الحافلة بالإبداع والابتداع الجمالي التي أسس لها كياناً بدولة الشِّعر القلبيةِ ومدينةِ السَّردِ المثاليَّةِ.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ

عندما تكون المعاني مترسّخة في الذات الحقيقية، تخرج من الذات بتلقائية، تحمل معها كلّ تفكّرات المنظور الشعري، كأن يكون للاختلاف اللغوي الذروة في الأبعاد التأويلية، وكما تتجه التأويلية وتستعمر النصّ المكتوب، نلاحظ أنّ الاتجاه النصّي كجامع للغة من خلال علاقاته اللغوية قبل كلّ شيء؛ وهذا يحدث عندما تكون بؤرة النصّ الشعري، ينفتح فيها النصّ على عدّة اتجاهات تأويلية، لذلك تتعدّد المعاني أيضاً؛ انطلاقاً من تجربة المتلقي الخاصّة، ومدى ثقافته الشعرية من جهةٍ، وثقافته الفردية في القصدية المنظورة من خلال أيّ نصّ يواجهه من جهةٍ أخرى. ومن هنا يكون واقع تفسير النصّ وتقويله، فاللغة ومنها الطبيعية والرمزية والسريالية، تلبس ثياب التأويل وهي تتنشط مع أهداف النصّ الشعري وتكوّن علاقاتها الدلالية بينها وبين الأشياء الخارجية وبينها وبين المنظور الحسّي، فيكون للمحسوس النصيب الجزئي بإطلاق الإشارات، وتدخلات الذات في الحسّية الإدراكية وكذلك تجمع الأفكار المبعثرة والتي تؤدّي إلى تجربة الشاعر ليطرحها بلغة جديدة في المنظور النصّي.

الشاعرة السورية لجينة نبهان ومن خلال بعض نصوصها، نصل إلى ما رسمته من تفكّر شعري بلغة مختلفة، وهي ليست كأيّ لغة يتمّ توظيفها في المنظور النصّي، بل اعتمدت خصوصية الكتابة الفعلية؛ ومنها الخصوصية الإدراكية، وخصوصية فعل المتخيّل، وخصوصية الإبحار في التأويل، وهي تدمج اللغتين، السريالية بالرمزية، لكي تحصل على منطقةٍ من التأويلات وتستقرّ فيها الاتجاهات المتعدّدة.

لقد التهمتَ الكثيرَ من الأسماك

إنّها تسبح في داخلكَ الآن

لا تأكلُ بعضها

بل أحشاءك

سينقلب البحر عليك يوماً

ولن تلقى قشّة!

هكذا قال الصوت

 **

من قصيدة: قيد وملح أو...

توظّف الشاعرة السورية لجينة نبهان، دلالة اللفظ ليس على مسمّاه، وإن اعتنت بالمسمّى فسيسقط النصّ بالمباشرة (المسمّى هنا ما يخص الدَلالة في حدّ ذاتها). فهي تعيش في واقع غير الواقع الطبيعي، أو السائد كما جرى تسميته، بل أنّ هناك واقعا آخر تنحاز له من خلال الذات الحقيقية. إنّ الحركة الذاتية مع الأفعال الحركية تُعتبر تشكّلات لغة عابرة للأشياء المباشرة (كان السرياليون يثمّنون القيمة الكامنة للأشياء، أكثر من محتواها الظاهر. في اللغة السريالية، الفارق بين المحتوى الكامن أو المستتر والمحتوى الجلي هو هام جداً. الكامن مرتبط بحرّية المتخيل بينما الجليّ ينذر بالنتائج المحبطة للمبدأ المنفعي المضاد تماماً لمبدأ المتعة الذي يحكم نشاط المخيلة").

لقد التهمتَ الكثيرَ من الأسماك + إنّها تسبحُ في داخلكَ الآن + لا تأكلُ بعضها + بل أحشاءك + سينقلب البحرُ عليك يوماً + ولن تلقى قشّة! + هكذا قال الصوت

لنضع سؤالاً ضمن النصّ، ماذا قال الصوت؟

قال الصوت = لقد التهمتَ الكثيرَ من الأسماك... تقويل البحر ضمن المنظور الشعري، هو الانتقال إلى عالم آخر، فالذي رسمته الشاعرة لجينة، هو الانتقال بشكل تشبيهي من المنظور الواقعي إلى منظور فعل المتخيل، معتمدة على لغة اعتمدت الرمزية، حيث أنّ المعاني مختبئة خلف ذلك، وعلى ما يبدو وبعيداً عن قبيلة القرش، فقد اعتمدت البحر وما يحويه دون مسمّيات ظاهرة، وهذه هي الشعرية بالذات عندما تكون اللغة الدلالية قد سيطرت بواسطة أفعال الحركة بتأمّل تأويلي.

نستطيع أن نجعل بعض المسمّيات الدلالية من خلال النصّ والنصّية، اتجاه وكلّ اتجاه يحوي على خصوصيّةٍ حركيّةٍ وانتقاليةٍ أو تموضعيةٍ والتي يكون البحر خصوصيتها الأخيرة، بينما انتقال الأسماك (تسبح في داخلك) متعلقة بمسمّى آخر أكثر سيطرة، وفي المنعرج التأويلي دائماً ترمز الأسماك إلى حالة البراءة ودليل ابتلاعها (ضعفها)، حيث تدلّنا على حالة حِجاجية في المنظور النصّي.

في ماراتون الرغيف

حين يسقط الثلجُ من غيم التشريعاتِ الغائمة

على النوافذ التي خلخلتها الحروب المرئية واللا..

سيتكوّر الأطفالُ أجنّة في رحم الجوع

حيث الإجهاض ممنوع

والولادة شبه مستحيلة

والحمل مديد

حينها

حتى القنفذ الذي لم يجد يوما غير الاختباء

 سيشحذ أشواكه

ويلبي نداء الأمعاء الخاوية...

**

من قصيدة: قيد وملح أو...

هي ليست المكرّرات التي نسعى إلى ظهورها، بقدر ما هو الخيط التواصلي الاضطراري، قد يعترض بعضهم وقد يوافق بعض ممّا قرأ أو سمع أو خاض تجربة حياتية مماثلة، وفي جميع الأحوال إن المشهد المندفع نحو الطبقة المعدمة جعلت الشاعرة في المشهد الحياتي من خلال تجربتها الشعرية، وأهم تلك المواقف هي البيئة التي تحيط بالشاعرة السورية لجينة نبهان.

يسعف النصّ بعض المؤشرات التركيبية أو الأشياء المنظورة التي تدخل ضمن دائرة المحسوس، فالبحث عن رغيف الخبز أو الالتفاتة نحوه، يعتبر من المؤشرات النصّية (فالمؤشرات التركيبية تتشكّل جرّاء ربط الملفوظ الخاضع للقراءة بملفوظات أخرى موجودة داخل النصّ ذاته. ولربّما يكون "التناقض" و "التكرار" و "التقطّع" هم أكثر هذه المؤشرات شهرة وانتشاراً. – الرمزية والتأويل – ص 10 – تزفيتان تودوروف – ترجمة وتقديم: د. إسماعيل الكفري).

في ماراتون الرغيف + حين يسقط الثلجُ من غيم التشريعاتِ الغائمة + على النوافذ التي خلخلتها الحروب المرئية واللا.. + سيتكوّر الأطفالُ أجنّة في رحم الجوع + حيث الإجهاض ممنوع + والولادة شبه مستحيلة + والحمل مديد + حينها + حتى القنفذ الذي لم يجد يوما غير الاختباء + سيشحذ أشواكه + ويلبي نداء الأمعاء الخاوية...

تمكين النصّ ليس خطاباً عابراً، بقدر ما هو واقعٌ متعلّقٌ في الذات الحقيقية، ومن خلال اللاوعي الكتابي تخرج هذه المتعلّقات كدروس نصّية تحمل الصيغة الشعرية بين المنظور التأسيسي والمنظور الكتابي، لذلك نؤكد دائماً على ما هو الأبقى، والأبقى هو المنظور الكتابي، ليكون بؤرة تجميعية مع جامع النصّ، ومن هنا فإذا تحدّثت الشاعرة لجينة نبهان عن الخبز، فهو أبسط صيغة للمعنى تنتمي له، طبعاً إنّها الصيغة الحياتية التي تدور بفلك الأمعاء الخاوية، وهناك الكثير قد تحدّث عن الجوع وأسبابه ونتائجه، وخصوصاً في مجتمع كان يزهر بالأقداح والياسمين.

إن تقويل النصّ ليس فقط بما يتعلّق بالذات الحقيقيّة، بل أنّ هناك المنظور التخييلي وتقويله، وهو من الأمور المهمّة في كتابة النصّ الشعري، حيث أن الذهاب إلى الثقل الشعري والاعتناء بوحدات اللغة المختلفة هما من مميزات التخييل، ومن هنا يكون للشاعرة لجينة نبهان عنوانات تسير في البنية المنطقية للعوالم التخييلية (حيث أنّ هذه العوالم يختلف الواحد عن الآخر، وكلّ عالم منطقة توجيهية وتحريضية نحو الكتابة) وكذلك بنية المناطق التي تدور حول الذات الحقيقية وكيفية تجسيدها والعمل على تسخيرها في الواقع النصّي.

للفكرة شهوة الولادة

وأمّا العقل فله خيار المزاج

 بتحديد النسل!

حين تعلن الحرب عن ذاتها، بكل أنواع التوكيد

الثقيلة، والخفيفة

يكون على البلاغة البحث عن مخرج مناسب لشذوذ (الأحرف)

أو ملاذٍ آمن للانتماء

**

من قصيدة: حين أقرأ قلادتكَ

نكون عادة في وسط نصوص من التخييل والتخييل الجزئي؛ فالنصّ التخييلي يقودنا إلى أبعاد مرئية وأخرى غير مرئية، ويكون للحسّية الجمالية مساحتها في الكتابة النصّية، ومن هنا فإنّ قصدية السلطة التأليفية تؤدّي إلى مقاصد تجميعية؛ ومنها فلسفة العقل والدلالة بوجهيها العام والخاص، ويكون المعنى القصدي بدلالته مثيراً للعلامات والرموز النصّية، وهي خصوصية فنّ الإجادة للقول الشعري باتجاهاته الماثلة في النصّ المكتوب.

للفكرة شهوة الولادة + وأمّا العقل فله خيار المزاج + بتحديد النسل! + حين تعلن الحرب عن ذاتها، بكل أنواع التوكيد + الثقيلة، والخفيفة + يكون على البلاغة البحث عن مخرج مناسب لشذوذ (الأحرف) + أو ملاذٍ آمن للانتماء

موضوع الشاعرة السورية لجينة نبهان ليس داخلياً فقط، وإنما ذو ارتباط نصّي توجيهي خارجي، وتنقلنا من الوحدات الصغرى إلى الوحدة النصّية الكبرى، ولكن لو نظرنا إلى الإشارات الدالة فإنّها تربطنا بموضوع الحرب، الثقيلة منها والخفيفة، وهي حالة من التشبيه تستعيره من الواقع المنظور، ومن هنا توضّح الشاعرة الصلة النصّية بالمعنى التفكري الذي شغل الكثير من الناس.

حين تنام أصابعك جائعة

لا تصم أذنيك عن صوت معدتها الخاوية

راجع قلبك قبل عقلك،

ولا تنس أن تربّت على كتف الليل ليهدأ

فكأسك الفارغ منك الآن

ثمل بثمالة شفتيّ جنون الأمس

وأنا الممتلئة بحزني

 كل مرة أعدّ فيها ضحكاتي

**

من قصيدة: حين أقرأ قلادتكَ

إنّ المطلب اللغوي، من ناحية التأويل أو ظهور الرمزية، هو مطلب تركيبي بالدرجة الأولى، ومن هنا يكون لتداخل الأنساق في النصّ المكتوب، وللطبيعة اللغوية المساحة الواسعة؛ إمّا بالتواصل النصّي وتأويله، وإمّا أن تكون اللغة عاملا بنائياً تؤدّي إلى علاقات ذاتية خارجية، وعلاقات نصّية، وهي الأهمّ عندما نكون في منطقة المفاهيم النصّية وتعابيرها المتقنة.

حين تنام أصابعك جائعة + لا تصم أذنيك عن صوت معدتها الخاوية + راجع قلبك قبل عقلك، + ولا تنس أن تربّت على كتف الليل ليهدأ + فكأسك الفارغ منك الآن + ثمل بثمالة شفتيّ جنون الأمس + وأنا الممتلئة بحزني + كل مرة أعدّ فيها ضحكاتي

إنّ من طبيعة النصّ أن يكون محكم المعنى، وذلك لأنّ المعاني القصدية الدالة، قد أفرغها الباث (الشاعرة)، وتكون معاني تأسيسيّة بالدرجة الأولى، في حين تكون تراكيب الجمل مساحة كافية لاستقبال تلك المعاني والمفاهيم التي تشغل الذات الحقيقـيّة والمنظور الكتابي.

نلاحظ من خلال التعبير النصّي لدى الشاعرة السورية لجينة نبهان، بأنّها؛ تارة تنتمي إلى الأفعال الحركيّة وتارة أخرى لتوظيف أفعال الكلام، ومن خلال هذا التنوع تبدأ بجملةٍ وتطلقها عندما تأمر القارئ بتبنّي خطوات فكرية هي بالذات قد فكّرت بذلك.

تبدأ الشاعرة لجينة بجملة: حين تنام أصابعك جائعة.. وتحوي على أحد الأفعال الحركية، ومن ثمّ تنتقل إلى أفعال الكلام، ومن خلال المعنى المرسوم، فإنّها تتغنّى بتوظيف اللغة المختلفة، (الأصابع لا تجوع)، ولكنّها وضمن الترابط اللغوي بين المختلف واللا مختلف، فقد أشارت ضمن الحركة الدلاليّة على معنى الجوع من خلال (الأمعاء). ومن خلال القلب، تشير إلى الحزن، وهما مفردتان ملائمتان وما طرحته الشاعرة من توقيت نصّي وما يجري على الأراضي السورية. بينما عندما يهدأ الليل فإنّها تربّت أكتافه (تطبطب على أكتافه)، فقد جعلت منه كائنا حركيّاً يظهر لساعات معيّنة ومن ثمّ يختفي.

ويبقى البريق المنداح من عينيك

شهوتي للدفء

كلما خلعته على غيري

هطل الصقيع بقلبي

فتهتك ثوب الوجد.

**

من قصيدة: حين أقرأ قلادتكَ

عندما نتكلّم عن السياق، يحضر السياق اللغوي، وهو نفسه سياق النصّ، وعندما يكون الباث في جزئيات نصّية، فهو في السياق المصغر (السياق الجزئي)، ومن هنا نحصل على السياق الأكبر كهيئة منظورة من خلال الانسجام الكتابي، حيث أنّ الأنساق تندمج مع بعضها لتوليد المكتوب النهائي.

ويبقى البريق المنداح من عينيك + شهوتي للدفء + كلما خلعته على غيري + هطل الصقيع بقلبي +

فتهتك ثوب الوجد.

نبقى مع القيمة الموضوعية، كما هي الشاعرة لجينة عندما طرحت بقاء البريق؛ فالتدفق الذي يحدث، تدفق معرفي من خلال النصّ، وذلك لأن البناء النصّي نبعَ من فلسفة العقل، وهذا يقودنا إلى ما جاء به (جان بياجيه) عندما أخذ يبحث عن المعرفة كمفهوم.

من خلال المعرفة والمعرفة الذاتية استطاعت الشاعرة أن تضعنا بين مكتسبات اللغة، فاللغة لديها كتابية معرفيّة – انزياحيّة، معتمدة على السياق التركيبي لكلّ جملة شعريّة، مع توظيفها للأفعال الحركية والانتقالية والتي شكّلت مركزية دلالية في كلّ مقطع نصّي.

***

قيد وملح أو...

لجينة علي نبهان – سورية

لقد التهمت الكثير من الأسماك

إنّها تسبح في داخلك الآن

لا تأكل بعضها

بل أحشاءك

سينقلب البحر عليك يوما

ولن تلقى قشة!

هكذا قال الصوت

*

في ماراتون الرغيف

حين يسقط الثلجُ من غيم التشريعاتِ الغائمة

على النوافذ التي خلخلتها الحروب المرئية واللا..

سيتكوّر الأطفالُ أجنّة في رحم الجوع

حيث الإجهاض ممنوع

والولادة شبه مستحيلة

والحمل مديد

حينها

حتى القنفذ الذي لم يجد يوما غير الاختباء

 سيشحذ أشواكه

ويلبي نداء الأمعاء الخاوية...

***

حين أقرأ قلادتكَ

للفكرة شهوة الولادة

وأمّا العقل فله خيار المزاج

 بتحديد النسل!

حين تعلن الحرب عن ذاتها، بكل أنواع التوكيد

الثقيلة، والخفيفة

يكون على البلاغة البحث عن مخرج مناسب لشذوذ (الأحرف)

أو ملاذٍ آمن للانتماء

حين تدور حول كعبتك

لا تحمل كل خطاياك

فبعض (آثامك) مباركة

لا ترجم كل شياطينك

عد بالقليل لتنجُ من إيمان ضلّ طريقه

ليسقط فيك!

حين تنام أصابعك جائعة

لا تصم أذنيك عن صوت معدتها الخاوية

راجع قلبك قبل عقلك،

ولا تنس أن تربّت على كتف الليل ليهدأ

فكأسك الفارغ منك الآن

ثمل بثمالة شفتيّ جنون الأمس

وأنا الممتلئة بحزني

 كل مرة أعدّ فيها ضحكاتي

تهرب واحدة يأساً

 وتسقط أخرى سهواً من كُمّ السّر

لأعود بكيس يتضاءل

 أحشره في ثقب العمر المتهالك

 قبل أوان الموت بحبّ ضيّع أحرفه.

ويبقى

.

.

ويبقى البريق المنداح من عينيك

شهوتي للدفء

كلما خلعته على غيري

هطل الصقيع بقلبي

فتهتك ثوب الوجد

..

ذاكرة

 

تمنحنا قراءة المجموعة الأخيرة للشاعر اللبناني الراحل محمد علي شمس الدين ( 1942-2022 )" خدوشٌ على التاج" الصادرة في كانون الثاني 2023، عن دار الرافدين، أي بعد بضعة أشهرٍ من رحيله، تمنحنا بعض مفاتيح تجربته الشعرية الكبيرة، التي استهلّها بمجموعته الشعرية الأولى " قصائد مُهرّبة إلى حبيبتي آسيا" الصادرة عام 1974، أي أنّ عمره آنذاك 34 عاماً، التي كان لها أصداءٌ حسنةٌ في الوسط الأدبي اللبناني والعربي، وكرّست شمس الدين كأحد شعراء التيار الجنوبي، الذي كان يضمّ شعراء مثل شوقي بزيع وجودت فخر الدين والياس لحود، كما كرّسته شاعراً غنائياً تراجيدياً، طالعاً من رحم معاناة أهل الجنوب، نتيجة العدوان الصهيوني المستمر على أراضيهم، وما يسبّب ذلك من خسائر في الأرواح والممتلكات، فضلاَ عن النزوح من بلداتهم الحدودية مع هذا الكيان.

شمس الدين الذي يعتبر شاعراً غزير الإنتاج، أصدر من أكثر من عشرين كتاباً، منها ؛"غيم لأحلام الملك المخلوع، أناديك يا ملكي وحبيبي، الشوكة البنفسجية، طيور إلى الشمس المرّة، أما آن للرقص أن ينتهي، أميرال الطيور، ممالك عالية، النازلون على الريح، اليأس من الوردة، كرسي على الزبد"، ظلّ في مشارف نهاية حياته، نتيجة تدهور حالته الصحية، يكتب يومياً، في تحدٍّ كبيرٍ لهذا التدهور، ونلاحظ ذلك في ديوانه الأخير" خدوش على التاج". هو ديوان قصائد نهاياته، كما وُسم على غلاف الديوان، بعد 48 عاماً من الإبداع الشعري المميّز، بوصفه آخر الشعراء المجدّدين في الكتابة على نمط قصيدة التفعيلة، فهو سليل تجارب روّاد هذا النمط، الذي بُشّر به في أرض الريادة الشعرية العربية المعاصرة، العراق، من قبل السيّاب والبيّاتي والملائكة، ومع انطلاق الحداثة الثانية المتمثّلة في ترسيخ قصيدة النثر على يد شعراء مثل أدونيس ويوسف الخال وأنسي الحاج، أي من أرض لبنان، بتبنّي مجلّة (شعر) لها. ظلَّ شمس الدين مرسّخاً على مدى سني تجربته الشعرية الكبيرة لقصيدة التفعيلة، وظلّ يدافع عنها، ذلك لأنّ الأوزان والقوافي أسلست له قيادها، بفعل سليقته الشعرية، التي صقلها بالمران والتأمّل والثقافة. في ديوانه ما قبل الأخير" آخر ما تركته البراري" مع عنوانٍ فرعي" سيرة صغيرة"، يذكر هيامه بالإيقاع، فيقول:" أنا مفتونٌ بالإيقاع، مريضٌ بالإيقاع، لأنَّ ما يصبُّ في السّمع من النظر يحرّك أوتار الملكوت، ويجعل كلَّ شيءٍ موسيقى، حتى الكارثة"، فأيُّ إيقاعٍ هذا، يحوّل الكارثة إلى موسيقى. 

 وعلى ذلك فإنَّ شمس الدين نهل من تراث الفجيعة الكربلائي، وكان اعتزازه بانتمائه الجنوبي، ليس من باب التعصّب الجغرافي أو الطائفي، بل أنّ الجنوب، كان كينونته التي تتغلغل جذورها في وجدانه، وحفرتِ الطبيعة الجنوبية مفرداتها في قاموسه الشعري العذب الوهّاج؛ الشجر والماء والطيور والسماء والقمر والحقول والسنابل، مازجاَ إيّاها بما نهل من تجارب أعلام الشعر العالمي بابلو نيرودا ولوكا وناظم حكمت.

يُوسم شمس الدين بأنه شاعر غنائي، تحتلّ" أناه" مركزاً دلالياً فيها، ولكنها لا تعلو إلى شأن النرجسية السلبية، فهي سرعان ما تتوحّد مع الناس والطبيعة.4295 محمد علي شمس الدين

 في نصوص" خدوش على التاج"، ترتسم لنا ذاتٌ فجائعية، متنبئةٌ بالرحيل الوشيك عن هذا العالم. نصوص الديوان المؤرَّخة غالبيتها قبيل أشهرٍ من رحيله عام 2022، تتضمّن مخاطبات رثاءٍ لمن رحلوا. في طريقه إلى الرحيل، تمثل أمام الشاعر صور الموت المتتالي للأحبّة، بما يجعل الدمع المذروف عليهم كالنزيف الذي لا يتوقّف، في إحساسٍ متوهّجٍ بالحزن الجمعي أمام قسوة الموت وأحزان الرحيل. يسري هذا مع تعاظم هاجس معايشة الموت والتكيّف معه من دون رهبة:" كلما سال دمعٌ على الأرض قلنا جرى/ دمعنا/ أو تراءى دمٌ في المغيب على/ عنق الشمس/ صحنا انظروا / إنّه دمنا/ دعِ الآن أهل المقابر/ في صمتهم ينعمون/ وقلْ: إنّهم حين ماتوا/ استراحوا/ أفاقوا على الموت/ ثم استراحوا": الديوان، ص110 . ما يعني أنّ الموت راحةٌ كبرى للبشر المُعذّبين، واللحظات الأخيرة لا تعني سكرة الموت، بل قلْ صحوة الموت. فهل كان شمس الدين يدعو الموت أن يجيء، كي يرتاح من عذاباته؟.

التمهيدات الدلالية لاستقبال الموت، تجعل الشاعر يهجس بأنّهُ حتى مفردات الطبيعة، كالرياح، مثلاً، محمّلةٌ بأشباح الموت حين يقول شمس الدين: لعلَّ للرياح شغفاً / لعلّ فيها روح من تباعدوا/ وأوغلوا/ رأيتها تدور حول منزلي/ كقطّةٍ سوداء/ تقول للأشجار عانقيني/ أنام ليلةً واحدةً وأرحل/ تقول للصغار هيّئوا أريكةً ومقعداً / تقول هيّئوا قبراً صغيراً لي / أبيت ليلةً وأرحل: ص59 .

ومن مفردات الطبيعة إلى كائناتٍ حيّةٍ مثل الطيور، هاجس الموت يجعل شمس الدين مؤنسناً لتغريدها، كأنّما تحاور الشاعر وتسائله عن أزوف وقت الرحيل، وعن أسبابه: يقف البلبل الأصفر المستريب/ ويسألني/ هل رأيت دماً في الغروب / وهل جاء وقت الرحيل؟: ص60.

 في الديوان خزينٌ تراجيدي، صوراً ودلالات، من استدعاء الرحيل أو تمنّيه للخلاص من تداعيات مرضه ووحدته، مع معرفة الشاعر بأنّهُ كمن سيرحل إلى صحراء لا نهاية لها، إنّها الموت حقاً، مع دأب شمس الدين  على ذكر مرموزاتٍ دينية آخروية، مثل "سدرة المنتهى"، حتى الشجر، لعظمة الأمر وأهواله، استعار له، خاصيّةً إنسانيّةً وهي البكاء: خذوني بعيداً عن الأرض/ إنّي لأشعر أنّي مريض/ وأنّي كذئبٍ وحيدٍ وأعمى/ على وجه صحراء لا تنتهي/ على قاب قوسين من" سدرة المنتهى"/ رأيت الشجرْ/ واقفاً / وهو يبكي: ص30 .

مُجمل الحصاد الشعري للراحل محمد علي شمس الدين، في تجربته التي امتدّت إلى ما يقارب أكثر من نصف قرن، تشخص أقانيمهُ أيضاً، في ديوانه الأخير، من ثراء هذه التجربة وغناها الوجداني والعرفاني، إلى التمسك بقصيدة التفعيلة مع احتواء الديوان لقصائد من الشعر العمودي، إلى شعريّة التهجّد إلى الله، واستدعاء الموت بدون خوفٍ أو رهبةٍ منه.

***

باقر صاحب - أديب وكاتب عراقي

شكلت الرواية المثال البارز لكيفية استيعاب الأدب العربي للأشكال والأنماط الأدبية العالمية وإعادة تشكيلها لتعكس الهوية والتجربة العربية. وهذا الاستيعاب يمثل عملية تحويلية عميقة تجاوزت الأشكال لتشمل الأساليب السردية والموضوعات الجوهرية، مما يكشف عن مخاض ثقافي عميق وغني..

لكن هل استطاعت الرواية في مجتمعاتنا العربية أن تتجاوز سطوة التمويه الثقافي والترويض الاجتماعي؟

البارز أن إنساننا العربي منذ طفولته يستقبل جرعات ثقافية من مجتمعه عبر إيحاءات في مسائل العقائد والأخلاق والأعراف من خلال خطاب الفقه المقدس... بحيث يكون موجها توجيها أيديولوجيا فلا يستطيع أن يرى الواقع أو يفكر إلا من خلال ما يراد له أن يتفاعل وفق مسطرته، هكذا عرف المجتمع العربي عدة غزوات ضد الرواية منذ القرن الماضي، وإلى يومنا هذا لا تزال الرواية في نظر الفكر الظلامي مهددا لعقائد الناس وهوياتهم الدينية وأخلاقهم لا لشيء إلا لكونها تنتج خارج صندوقه ...

 لقد عانى نجيب محفوظ ويحي حقي وحيدر حيدر و طاهر وطار، رشيد بوجدرة، أمين الزاوي، وعلاء الأسواني، يوسف زيدان، من سياط وتسقيط وتكفير بوليس المعبد الذي لا يعترف أساسا بشيء اسمه الرواية، فضلا عن أن يبذل جهدا لقراءتها- والعياذ بالله- لكتابتها، الرواية ليست نسخا للحيل الفنية على شاكلة الحيل الشرعية، الرواية الجريئة المؤثرة والمجددة للوعي الثقافي العام هي تعبير عن الاختلالات العميقة في البيئة الاجتماعية، بل هدفها الأول والأخير كشف حقائق الواقع التي تمس حياة الناس بشكل كبير وعميق وجوهري، فالرواية في الأدب العربي تعد بمثابة نافذة عميقة على الذات والمجتمع والجزء المغموس العميق من الواقع، الذي تستمد منه المشاكل والأزمات والصراعات والنكسات والانحرافات قوتها وحيويتها المستدامة في مقابل حلم التنمية المستدامة... لقد سمحت الرواية بتجسيد تجارب شخصية وجماعية معقدة فكانت الرافعة لاستنطاق القضايا الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية والثقافية المسكوت عنها أو المتغافل عنها ..

هذا على صعيد راهن الرواية العربية المميزة بواقعيتها وجديتها وجرأتها وصناعتها للوعي المدني والحضاري، وما يرتبط بالأفكار والتصورات في المشهد الثقافي العربي العام، ذلك كله ينسحب على كل شيء تقريباً في يومياتنا من طنجة إلى مسقط، وتحديدا عندما تصبح القراءة بالمشاعر والأحاسيس والعواطف؛ لا يمكن للرواية أن تمتد في جغرافية الثقافة العملية للمجتمع فعلياً، لأن الواقع تحت تأثير خطاب التخوين والتفسيق والتكفير الذي جعله يجهل سبيل الخلاص، فيقرأ وفق مسطرة المعبد وإلا يكون من المغضوب عليهم والضالين...

لا ريب أن رواية (هوارية) للكاتبة إنعام بيوض أصبحت مثار جدل مفتعل وصخب شعبوي لا يجيد سوى التطير والهرج والمرج، بل هي ضحية موجات عمى البصيرة كما عبر الروائي واسيني الأعرج، والجميع حتى من انتقدوا الرواية ومن ركبوا موجة التشهير والتسقيط لم يقرأوا الرواية إما تماما أو بكليتها بل اكتفوا بتوسيع دائرة التشهير والمحاكمة على الطريقة البيزنطية أو بتسليط الأضواء على نقاط سوداء بارعون في انتقائها من كل النتاجات الإبداعية الأدبية والفكرية والثقافية، والعجيب أن غالبيتهم لا علاقة له بالأدب والرواية ومقتضياتها بل همه اليومي الكتب الصفراء والتشنيع والتضليل الإعلامي والتنويم الثقافي، وكما هو متفق عليه العقل الفردي يغيب تماماً في العقل الجمعي ويذوب فيه، في مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً نلاحظ أنه يكفيك أن تطلق شائعة وتزينها بصورة أو فيديو مفبرك، حتى يأتيك سيل جارف من القبح الثقافي والاجتماعي الذي يتحدث عن الأخلاق ولا يحترم حريات الآخرين ويتحدث عن العفة وهو غارق في الرذيلة، وينصب نفسه فارس النقد المغوار و هو لا يتقن أبجديات القراءة والكتابة، بل هناك من هؤولاء القوم من لا يلتفت أو يتغابى باستخدامه لأكثر الأدوات والتعبيرات سذاجةً وقبحاً وظلماً للآخرين. على الأقل إن كنت فعلا ناقدا للرواية ومنصفا لذاتك ومجتمعك ودينك، لابد أن تكون منصفا في حجاجك، إلا أن هنا بالضبط تكمن خطورة الأمر؛ أن سيل الانتقاد لأي عمل أدبي أو فني أو فكري يمكن أن يكون مفيداً فهو كذلك قد يكون مميتاً وقاتلاً للإبداع وأصحابه وللسلام والتنمية والكرامة الإنسانية في نفس الوقت، بحسب أوعية وقنوات تصريف وتوجيه الثقافة في المجتمع..

الطبيعي والموضوعي والأخلاقي أنه من لم يقرأ رواية ما أو كتابا أو قصة أو مقالة أو عن موضوع ما، لا يحشر نفسه فيما لا يعنيه، ولا يركب بحرا عميقا لا يمكنه أن يصمد أمام موجاته الفكرية والثقافية، وصدق واسيني الأعرج حين كتب- كما ورد بموقع العربي الجديد- بحسابه على فيسبوك: اقرؤوا النصوص جيّداً قبل تسليط ساطور عمى البصيرة عليها..

أخيراً..

الأخلاق الحقيقية تبدأ من الصدق مع الذات ومعرفتها حق المعرفة والتحرر من أي ترويض ثقافي يكون الإنسان خاضعاً له في أدق تفاصيل حياته الخاصة والعامة ... والرواية الجريئة هي تحرير الوعي من سجون الاستعباد الثقافي والتجهيل الممنهج وتمويه حقائق الواقع تحت غطاء الوصاية الفكرية والدينية والثقافية الاجتماعية... قبل هذا وبعده الرواية ليست قرآنا، لها ما لها وعليها ما عليها، الأمثل أن تجادل بالتي هي أحسن وليس بخنق الحريات والإبداع...قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.

***

بقلم: أ. مراد غريبي

ثرثرة في مقهى إيفانستون للكاتبة المقدسيّة هناء عبيد والمقيمة في شيكاغو، صدرت في طبعتها الأولى العام 2023 عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمّان- الأردن. كُتبت بلغة سرديّة وبأبعاد فلسفية ونفسيّة، حيث صنعت نسرين في مخيلتها طيفا لشخصية سارة واعتبرتها توأم روحها.ومن خلال هذا الطيف أطلقت الكاتبة العنان لسارة للبوح بكل معاناتها وعذاباتها التي بدأت مع طفولتها ورافقتها في كل أيام حياتها.

إذا أردنا تجنيس هذه الرواية نجد انها تنتمي لعدة اجناس أدبية منها: الأدب السياسي، الأدب الإجتماعي وحتّى أدب الرسائل، إلا أن ما يجمع هذه الأجناس كلها هو أدب الإلتزام الذي يبدو جليًا  من خلال ما تتناوله الكاتبة من قضايا وموضوعات في رواياتها ملتزمة بإثارة القضايا الوطنية والسياسية التي تمس في جوهرها ما يواجهه الفلسطيني سواءً في الأرض المحتلة او في المنافي وبلاد الإغتراب.

امتازت الرواية باعتماد تقنية الإسترجاع في أكثر من موضع، وتماشيًا مع تقنيات العصر وبما ان الرواية تضمنت نفحة من أدب الرسائل فقد اعتمدت الكاتبة على التكنولوجيا فجاءت رسائلها عبارة عن إيميلات عبر البريد الإلكتروني ووسائل التواصل الإجتماعي الرائج إستخدامها في عصرنا الحالي. وما يُميز هذه الرواية أيضا هو عدم اعتمادها على الراوي الواحد او السارد العليم بل أن الكاتبة أفسحت المجال لأكثر من راوٍ وهو ما يعرف بتعدد الأصوات، بحيث كانت حيادية  ومانحة الفرصة لكل شخص من شخوص روايتها بأن يبوح بكل ما يعتمر بداخله انطلاقًا من وجهة نظره وفهمه لما يمر به دون تدخل أو إيحاء من الكاتبة، وهذا ما يضفي على الرواية الكثير من المصداقية والواقعية.

ولكي لا يقع القارىء في حال من الملل كان ما يشبه تقطيع المشاهد عن طريق الإنتقال إلى الإسترجاع او الفلاش باك مما يدخل عنصر التشويق لدى القارىء ويحفزه لمواصلة القراءة ومعرفة ما ستؤول إليه الأحداث لاحقًا. وإلى جانب تعدد الرواة فقد شهدنا أيضا تعددأ للأماكن بدءًا من الاردن الى اميركا وإيفانستون مرورا بالنرويج  مع الإشارة إلى بعض مدن فلسطين كالخليل وغزّة والقدس.

رواية ثرثرة في مقهى إيفانستون، رواية ذات وجيهن ظاهريّ وباطنيّ، ففي وجهها الظاهريّ يمكننا القول أننا أمام رواية إجتماعية ذات بعد نفسي، تعالج مسألة الإنفصام أو ما يسمى بالإضطراب الوهمي، والذي غالبا ما يصيب الفرد نتيجة تجارب مؤلمة ورغبات مكبوتة يصعب تحقيقها،بحيث يصبح المرء عاجزا عن التفريق بين الحقيقة والوهم. وهذا بالضبط ما قدمته لنا الكاتبة من خلال شخصية سارة المتخيَّلة - والتي هي بالواقع نسرين- حيث تفصح سارة أنها عاشت طفولة بائسة مع زوج أمها ثم تزوجت لتصبح زوجة مهملة من زوجها رمزي الذي يعاملها بفظاظة وخشونة مما حملها للتوهم بأنّها قتلته وجشّت رأسه بحجر، لتختفي بعد ذلك وتضع نسرين في دوامة البحث عنها وعن حقيقة ما إذا كانت فعلا قد قتلت زوجها كما تدعي.لنكتشف في النهاية أن سارة ما هي سوى نسرين المضطربة نفسيًا نتيجة لموت والدها قتلًا على يد الإحتلال في القدس. ولقد أبرزت الرواية الصراع الأزلي داخل النفس البشرية بين الشر والخير، ففي أحد الحوارات تقول نسرين لسارة"أنتِ كثيرًا ما تتذمرين بينما أنا أجد ملاذي في إسعاد الآخرين، تمتلىء نفسك بالغل والحقد ورغبة في الإنتقام"(ص16).كما عبرت عن هذا الصراع الذي يعتمر في النفس البشرية من خلال ما درجت عليه نسرين من عادة في طلب فنجانّي قهوة أحدهما حلو والآخر مُر، فكيف لشخص أن يشرب قهوة تحمل طعم الحلاوة والعلقم في الوقت نفسه؟ إلا إذا كان يعيش صراعا داخليًا وتشتتًا ذهنيًا.

إضافة إلى هذا فقد تناولت الرواية الآلام النفسية التي يعانيها الشباب العربي نتيجة إغترابه وإبتعاده عن جذوره كما عبَّر عن ذلك  ليث بقوله:"صعب أن تترك جذورك وتحاول أن تنبت لك جذورًا جديدة في أرض أخرى (55). ونتيجة للأوضاع المتردية في معظم البلاد العربية بعد ما سُميَ بالربيع العربي أصبح الإغتراب القسري هو ما يتشارك به الشباب العربي من مختلف الأوطان ولكي لا تقع الكاتبة في فخ تسمية هذه الأوطان فقد لجأت للترميز واختارت ان تسميها ببلاد النخيل القادم منها ليث الذي يقول بلسان حال معظم الشباب العربي :  لم أختر الغربة يومًا،لكن أحلامي تلاشت فلم يعد مسقط رأسي وطنًا صالحًا بعد أن امتلأ باللصوص ومدمري الأحلام" (ص56).

لقد إستفاضت الكاتبة على لسان شخوص روايتها في الإشارة إلى ضرورة التمسك بالجذور مهما بعدت المسافات، تقول فاطمة ابنة الخليل: "كيف سينسى الفلسطيني جذوره المتغلغلة في وجدانه؟ (ص80). وفي موضع آخر تفصح عن وصية والدتها لها: " لا تقطعي رحلاتك إلى الأرض، هذه أرضنا وحلمهم أن ننساها" (ص116). وبهذا المعنى وردت عبارة في الرواية لا يجب ان تمر مرور الكرام لما تحمله من موقف سياسي ووطني لافت، وهي ما قالته نسرين من أن الأردن وطن دافىء إلا أنّه لن يكون يومًا وطنًا بديلًا عن فلسطين" (ص111).

هذا بإختصار ما يمكن استخلاصه من الرواية إذا تمّت مقاربتها من هذه الزاوية النفسية والإجتماعية، ولكن جوهر الرواية كما قلنا يكمن في مكان آخر وفي منحى مختلف تماما وأكثر تشعبًا. وهنا لا بد وأن نسجل للكاتبة براعتها في اعتماد ما يشبه التورية فقدمت لنا رواية على أنّها تعالج أزمات نفسية ما نتيجة القهر او الإغتراب، ولكنها في الحقيقة هي رواية ذات بُعدٍ سياسي ووطني وهذا ما نلمسه إذا ما حاولنا فك شيفراتها والقيام ببعض الإسقاطات على الواقع العربي عمومًا والفلسطيني خصوصًا.

بداية ليس مصادفة أن تنتقي الكاتبة شخصياتها بمجملها من العرب والفلسطينيين - بإستثناء السيدة نانسي المرأة الآتية من النرويج لتستقر في أميركا - .وهذا ما يمكنها من الإطلالة على ما يعانية الفلسطيني المغترب والمُبعد عن أرضه.

وبالإنتقال للبعد السياسي والترميز في هذه الرواية، فلو إستمعنا إلى سارة وهي تقول: " كنت صغيرة حين إحتلّ هذا الغريب الدار ورأيته يطلق النار على رأس أبي بعد أن كسّر عظامه بعقب البندقية،هذا الرجل الغريب –زوج أمي الوحش- كان دومًا يلبس بدلة عسكرية كاكية اللون ويحمل على ظهره بندقية، لقد طردني من بيت أبي وأمي وإدعى انّه مالك البيت ولديه حاجيات فيه قبل وجودنا نحن". إذا أردنا التمعن فيما قالته سارة نجد ان قولها هذا بالتأكيد يرمز إلى المحتل العسكري الذي يدعي زورًا أن له الحق في هذه الأرض التي إغتصبها عنوةً.

وفي موضع آخر وتحديدًا  الصفحة 137 تقول سارة ما مضمونه أن زوجها يريد أن يُسكِن صديقه وزوجته معهم في الغرفة الفارغة متساءلة كيف لها ان تعيش بحرية مع أغراب تتقاسم وإياهم المنزل. أليس في هذا القول إشارة إلى حركة الإستيطان التي تمارس في مصادرة البيوت والأملاك؟.

إشارة رمزية قد لا تخلو من البعد السياسي والوطني وهي عندما تفصح سارة عن وصية والدتها لها: " واصلي الرسالة يا سارة، كانت تحمل بيدها حجرًا أخذته منها، حينها قالت لي هذا هو إرثي لك" (ص12).هذه الوصية من الأم لإبنتها تعيدنا بالذاكرة إلى إنتفاضة الحجارة وتعلن بوضوح ان المقاومة ولو بحجر هي السبيل الوحيد لإسترجاع ما خسرناه.

لقد حضرت فلسطين بقوة في هذه الرواية وفي مفاصل كثيرة، وتضمنت إشارة تذكيرية بيوم الأرض الذي لا يمكن إختصاره بتاريخ يوم واحد فكل يوم من ايامنا هو يوم الأرض، وأيضا يأخذنا خالد إلى مدينته غزّة وكيف ان الحياة فيها يغلفها القلق الدائم وهي تنتظر الغارات القاتلة لسكان عزّل لا يحملون غير حقيبة من الأحلام المؤودة. ومشيرًا إلى الغارات التي تستهدف الأماكن المدنية بحجة انها تشكل خطرًا على الإحتلال بينما الحقيقة هو التصميم على قتل هذا الشعب.لكن هذا لا ولن يمنع  غزّة من ان تنجب اطفالاً يرضعون مع الحليب العزّة والكبرياء. وغزّة لن يُقْصم ظهرها يومًا فجذورها عميقة بعمق تاريخها الأصيل أمّا فاطمة تقول ان لها ابنة أسمتها فلسطين وصبّي اسمه خليل متمنية ان تنجب المزيد من الأبناء،لتحضن يافا وجنين وبيسان وصفد وتأخذنا الى الخليل بعين والدتها التي تعتبر الخليل قطعة من جسد الوطن ولا يمكن بترها مهما حاولوا إقتلاعها، لقد إنحفرت الخليل في قلبها كوشم أبدي وهي تستذكر المسجد الإبراهيمي وما حدث فيه من مجزرة أقدم عليها العنصري جولدشتاين العام 1994. والحديث عن فلسطين لم يقتصر على الخليل وحده بل كان للقدس نصيبها التي تستحقه، فالقدس كما تقول نانسي لها نور خاص يدخل السكينة إلى القلوب، والأماكن المقدسّة فيه تتشابك فكنيسة القيامة توجد في الجهة المقابلة للمسجد الأقصى. وللقدس أبواب عريقة كانت تغلق لتحميها من الطامعين أمّا الآن وبعد أن احتلوها فأبوابها أصبحت تغلق في وجه أصحابها بحجة أنهم إرهابيون.

الى جانب ما ذكر فإن التراث الفلسطيني كان حاضرًا أيضا من خلال جمعية إحياء التراث الفلسطيني كالحديث عن ضرورة التمسك بالثوب الفلسطيني حيث يحمل كل ثوب تاريخ مدينة فلسطينية،  كي يتم تناقله بين الأجيال، فالإحتلال يسعى لسرقته كما سرق الأرض والوطن، مع الإشارة الى الأكلات الشّعبيّة الفلسطينيّة التي تعتبر من صميم التراث الفلسطيني والذي يحاول الإحتلال أيضا طمسه ونسب تلك المأكولات إليه.

كما ان الرواية قاربت مسألة الإعلام وأيضا كتابة التاريخ الذي يغلب عليه الكذب، فالتاريخ يكتبه المنتصر أو الظالم في معظم الأحيان. وأيضا تشير إلى الإعلام الموجّه الذي لم يكن صادقًا يومًا.فهو يتبع القوي ويغسل الأدمغة ويعمل على تفريق الشعوب، كما تقول نانسي.(103).

مسألة أخرى بدأت تلوح في الأفق وهي مسألة بداية التغيير في الرأي العام الأميركي وتحديدًا أولئك القادمون من بلاد أخرى كالسيدة النروجية نانسي المتعاطفة مع القضية الفلسطينية  والتي رفضت أثناء زيارتها للقدس أن تستمع لشروحات الدليل السياحي خشية منها ان يسرد التفاصيل التي تتناسب مع تاريخ الإحتلال، وتقول لا مصداقية يمكن أخذها بدقة إلا ممن عاش على هذه الأرض على مر العصور.(106).

قضايا أخرى تناولتها الرواية ولو لمامًا كمسألة الزواج غير المتكافىء كما حدث مع سارة التي تزوجت من شخص لا تعرفه وتسأل كيف لشخصين أن يعيشا في بيت واحد؟ كيف يمكن لها أن تتعامل مع قلب مغلق وكيف للروح أن تتواصل مع عاطفة ميتة؟ (ص37).

لا بد وان نسجل للكاتبة متابعتها لما يدور في الأوساط الثقافية والأدبية من خلال إشارتها إلى رابطة الأدباء العرب حيث تتم مناقشة الأصدارات الأدبية سواء وجاهيا ام عبر تقنيات الزووم كما يحصل حاليا في معظم الملتقيات الأدبية. ولكن ما لفتني هنا شجاعة  نسرين – أو الكاتبة لا فرق-  في طرحها لسؤال إشكالي بعد مناقشة روايتها فتقول: لا أدري إن كانت الآراء تحكي الحقيقة أم أنّها مجاملات؟ كل الآراء متشابهة "قلم جميل واعد، لغة متينة، أفكار عميقة" فهل هذا قالب معدّ حتى يضمن كل كاتب ألا يهجو أحدٌ أعماله"؟

سؤال برأيي يجب التوقف عنده خاصة إذا كانت مناقشة الروايات او الكتب تتم بحضور كاتبها، فإلى أي مدى تكون مساحة الحرية والجرأة والموضوعية متاحة امام من يريد ان يدلي بمداخلته.

ختامًا مبارك للأديبة هناء عبيد هذا الإصدار الهادف وإلى المزيد من التألق والنجاحات.

***

عفيف قاووق – لبنان

1 –مفهوم البنيويّة:

الدلالة اللغويّة:

جاء معنى "بنيوية" في معجم المعاني الجامع – (معجم عربي عربي). بِنيَويّة: اسم مؤنَّث منسوب إلى بِنْيَة. وهي مصدر صناعيّ من بِنْيَة. أتت من بنى يبني بناءً. أي الدلالة عن الشكل والصورة والكيفية التي شيد عليها بناء ما.

وإذا ما عدنا إلى المعجم الوسيط لوجدنا أن الدلالة اللغويّة للفظ "بنية" وجدناها مشتقة من الفعل الثلاثي "بنى"، وهي في "هيئة البناء، ومنه بنية الكلمة: أي صيغتها".

والمنهج البنيوي في (العلوم اللغوية) هو منهج أو نظريّة تهتمّ بالجانب الوصفيّ من اللغة، وقد دخلت إلى علوم اللغة عامة، وراحت تنظر إليها على أنها (وحدات صوتيّة) تتجمّع لتكوِّن "المورفيمات" أو الوحدات الصرفيّة التي تكوِّن الجملة وعلم الأسلوب خاصّة. (1). وتُعرف أحيانًا باسم البنائيّة والتركيبيّة والبنويّة. أو هي كما ترى "يمنى العيد" في كتابها الموسوم بعنوان: (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي): (مفهوم ينظر إلى النص الأدبي في نسق من العلاقات له نظامه". أي أنها التصميم الداخلي للأعمال الأدبيّة بما يشمله من عناصر رئيسة متضمنة الكثير من الرموز والدلالات بحيث يتبع كل عنصر عنصرا آخر.). (2).

البنيويّة اصطلاحاً:

هي منهج فكري لا يقتصر تأثيره على النقد الأدبي، كما هو شائع، لكنه امتد ليشمل عدّة مجالات بحثيّة ومعرفيّة أخرى كالأنثروبولوجيا، وعلم النفس، والاجتماع، واللغويات وغير ذلك من مباحث تحاول أن تضع أسساّ موضوعيّة لما يسمى بـ " العلوم الإنسانيّة" أو الوجدانيّة. وهو في أهدافه وآليّة عمله معارض لكثير من المناهج الفلسفيّة والفكريّة التي سبقته، لا سيما مناهج الفلسفة المثاليّة بعمومها، كالوجوديّة والحدْسيّة واللاأدريّة والرومانسيّة والكلاسيكيّة، وغيرهما من المناهج كالتاريخية والوصفية ولكلاسيكية والرومانسيّة وغيرها.

وبتعبير آخر البنيويّة هي المنهج النقدي في الأدب والفلسفة الناقدة، الذي تشكل على أساس مجموعة من العناصر التي اعتمدت قراءة النصوص أو المباحث المختلفة على أسس ومعايير محددة ومضبوطة دون النظر إلى ذاتيّة الكاتب أو الأديب ومشاعره، أو التفكير في العوامل الخارجيّة المرتبطة به أو توثر فيه.(3). ولقد بدأ تأثيرها الفعال على النقد الأدبي في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، اعتمادًا على النظريات اللغوية "لفرديناند دي سوسير". وتَعْتَبِرُ المدرسة البنيويّة اللغويّة أن اللغة مجموعة من الدلالات والإشارات، يصعُب فهمها إلا من خلال ترتيبها معًا بنظام مُحدّد، ومن خلال المنظور الأدبي. والبنيويّة تعتقد بأنّ كل عمل أدبي يُظهر حقيقة شيء معين، لذا حلّل النقاد البنيويون التفاصيل الأساسيّة في العمل الأدبي من حيث ألفاظه وجمله وتراكيبه ومجازته وصوره الشعريّة لاستخراج المعنى الأساسي منه. وهذا أدّى إلى تطوير الاستنتاجات العامة حول الأعمال الفرديّة والأنظمة الأساسيّة لها. (4).

تاريخ ظهور البنيويّة في النقد الأدبي وأهم روافدها:

يذكر الكثير ممن اشتغل على النقد البنيوي بأن هذا الاتجاه (قد بدأ في فرنسا أواخر القرن التاسع عشر، متأثرا بكتابات هيجل وماركس وفرويد ودوركايم ولوكاش، على ما بينهم من اختلافات في المنهج والاتجاه. ومن هنا يمكن أن نلمح رسوخ هذه التأثيرات وتراوحها بين الجدل- الديالكتيك- كما عرفه هيجل ومارسه ماركس ولوكاش خاصة في نظريّة الانعكاس، وبين تحليل- أو ديالكتيك- فرويد النفسي، ودوركايم الاجتماعي، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الاتجاه- البنيوي - (قد تشكل واستقام أوائل الستينيات من القرن العشرين حين أصدر "كلود ليفي شتراوس " كتابه المهم: " الفكر الهمجي " سنة 1962، وتلاه " فوكو " بكتابه الدال " الكلمات والأشياء" سنة 1966 ثم "لاكان " بكتابه الذي لا يقل أهمية "كتابات"). (5). و(من أعلام النقد البنيوي أيضاً في الغرب نجد بليخانوف ورولان بارث وتزفيتان تودوروف وجيرار جينيت وغيرهم. أما في العالم العربي فنجد كلا من حميداني حميد وصلاح فضل ومحمد مفتاح على سبيل المثال لا الحصر.). (6).

ومما هو جدير بالذكر أن البنيويين يرفضون نعتهم بالفلاسفة، ويذهبون إلى القول بأنهم "منهجيون لا مذهبيون " (وهذا ما قاله " ليفي شتراوس: " بأن البنيويّة: (مجرد منهج أو نسق يمكن تطبيقه على أي نوع من الدراسات، تماما كما هو الحال بالنسبة للتحليل البنيوي المستخدم في العلوم الأخرى"). وكذلك رأي "جان بياجيه " الذي (يؤكد بأن البنية مثلها مثل السببيّة في الفيزياء، وهي صرح نظري وليست معطى تجريبياً بأي حال.)، أو كما يقول "لوسيان سيف ": هي (نظام علاقات داخليّة محددة لا يمكن اختزاله إلى حاصل مجموع عناصره، بحيث لا يبقى أمام البنيويّة المعاصرة سوى محاولة الصياغة الرياضيّة لهذا المفهوم المركب.). (7).

وللتأكيد نقول أيضاً: إن ذيوع صيت اللسانيات الحديث وتقاطعه مع المنهج الشكلاني الروسي، كونه أرسى أسس الاختلاف بين الشكل والمضمون، داعيّاً إلى الاعتناء بالشكل أكثر من المضمون. جاءت البنيويّة لتعمل على دمج الشكل في المضمون، أو الدال في المدلول (المعنى)، وبخصة عند المتلقي أو القارئ، لأن الدال الواحد لا بد أن ينتج مدلولات مختلفة بالنسبة لكل متلقي حسب التجارب الفرديّة وثقافة وعمر كل متلقي. وعليه يصير النص واحداً والقراءات متعددة. تقول الكاتبة والناقدة الأدبيّة " حسناء الكيري الإدريسي": (بأن الشكلانيّة والبنيويّة قد ظهرتا معا كرد فعل ضد التيار الرومانسي/ الانطباعي، وعلى التحليلات والمناهج التي تربط الأدب بمحيطه الاجتماعي وخاصة الماركسيّة بالدرجة الأولى. لذلك اتفق العديد من الدارسين والنقاد على أن الشكلانيّة والبنيويّة قد ظهرتا معًا كردِّ فعلٍ ضدَّ اللاعقلانيّة الرومانسيّة، وعلى التحليلات التي تربط الأدب بمحيطه الاجتماعي، ويُقصد بذلك النزعة الماركسيّة بالدرجة الأولى). (8).

أهداف البنيويّة وخصائصها:

لقد ركزت البنيويّة اهتماماتها على بنية العمل الأدبي بهدف تبيان نظام اشتغاله، وذلك من خلال تحليله تحليلاً داخليّاً، والبحث في نسقه، والكشف عن العلاقات المتحكمة فيه، و"تراتبها، والعناصر المهيمنة على غيرها، وكيفية تولدها ثم كيفية أدائها لوظائفها الجماليّة، واختبار لغة الكتابة الأدبيّة عن طريق رصد مدى تماسكها وتنظيمها المنطقي والرمزي، ومدى قوتها وضعفها، بصرف النظر عن الحقيقة التي تعكسها. وقد رفعوا شعاراً عريضاً يؤكد على (النص ولا شيء غير النص)، أي البحث في داخل النص فقط عما يشكل أدبيته، أي طابعه الأدبي. وقد حاولوا من خلال ذلك التأكيد على حياديّة الأدب. فدراسة الأعمال الأدبيّة عندهم هي عمليّة تتم في ذاتها، بغض النظر عن المحيط الذي أنتجت فيه. فالنص الأدبي منغلق في وجه كل التأويلات غير البريئة التي تعطيه أبعاداً اجتماعيّة أو نفسيّة أو أيديولوجيّة أو تاريخيّة، أو حتى ماديّة، كونه قائم على اللغة، أي الكلمات والجمل. هذا وتنضاف إلى هذه الخصائص مسألة “موت المؤلف” التي نادى بها "رولان بارث"، كي يتولد المعنى برأيهم بعيدا عن كل المؤثرات الخارجيّة قصد تجاوز الأحكام التي قد تشوه هذه الممارسة النقديّة.(9).

إذن إن من أبرز مهام البنيويّة في النقد الأدبي السعي لفهم محاور النص ومرتكزاته بالتحليل اللغوي، والتفكيك النسقي في محاولة لتلمس "الثابت والمتحرك " في ذلك النص، مع استبعاد كل انطباع عام وحكم عام وذاتي أو قيمي، وضد الأحكام العامة والمفاهيم المعياريّة، والقوالب الجاهزة سلفاً. فهي لا تُقَوِم النص- بالمعنى الذي يعرفه أنصار البلاغة التقليديّة- لكنها تحلله وتقيمه بعد أن تَشَكَلَ، واستقام بالفعل.

وبشكل عام يمكن أن نقول: إن البنيويّة قد قامت ضد الأحكام العامة والمفاهيم المعياريّة، والقوالب الجاهزة سلفاً. وأخيرا قامت ضد كل المدارس التي تدور حول النص ولا تدخل فيه أبدا، وكل المدارس التي تكتفي بالأحكام العامة والقيميّة والإنشائّية، والتي تملي حكما جاهزا ومسبقا لكل نص!! وضد كل الاتجاهات التي تحاول أن تعلم الكاتب كيف يكتب، أو تضع مثالاً مسبقاً يتوجب محاكاته والسير في كنفه.

أما أبرز خصاص المنهج البنيوي ومبادئه فهي:

1- النص الأدبي ينبني على نظام داخلي منغلق على نفسه يجعل منه وحدة محددة:

أي إن دراسة الأعمال الأدبية تتم هنا دون النظر إلى العوامل الخارجيّة التي تحيط به. وهذا ما أكد عليه الناقد "عبد الله حمد في كتابه "مناهج النقد الأدبي الحديث" حيث يقول: (إن الأدب نصّ مستقل تام منغلق على نفسه" حيث تتمّ دراسة الأعمال الأدبيّة في ذاتها، بغض النظر عن العوامل والظروف المحيطة بها، فالنص الأدبي قائم على كلماته وجمله، مُنغلق في وجه التأويلات كلها التي تُعطيه أبعادًا تاريخيّة واجتماعيّة.).(10).

ويقول الناقد التونسي الدكتور "حسين الواد" في هذا الاتجاه: (إن هذا النص الأدبي ينبني على نظام داخلي يجعل منه وحدة محددة، ولأن العمل الإبداعي الأدبي منغلق على ذاته فإنه يقوم على نظام داخلي يجعل منه كلا متماسكا، تنشأ بين عناصره (الكلمات) شبكة من العلاقات التي تستمد قيمتها من علاقاتها المتبادلة. فكل خصائص العمل الأدبي مجتمعة في بنائه الداخلي، وبالتالي فلا حاجة بنا للبحث عنها خارجه.). (11).

2- البنية تستطيع تنظيم ذاتها بذاتها لتُحافظ على وحدتها واستمراريتها:

أنّ بنية النص وفق هذه الخاصية تستطيع تنظيم ذاتها بذاتها لتُحافظ على وحدتها واستمراريتها، أيّ إن البنية باستطاعتها ضبط نفسها ضبطًا ذاتيًّا يُؤدي للحفاظ عليها، ويضمن لها نوعًاً من الانغلاق الإيجابي، وهو ما يجعل البنية قادرة أن تحكم ذاتها بذاتها من خلال مكوناتها، بحيث لا تحتاج إلى شيء آخر يلجأ إليه المُتلقي ليستعين به على فهمها ودراستها وتذوقها.(12).

3- اللغة هي التي تتكلم، وليس المؤلف:

إن التأكيد على أهمية اللغة في التأثير على المتلقي عبر الكتابات الأدبيّة، يساهم في اختفاء شخصيّة الكاتب من الكلام، ويأتي هنا دور القارئ في فهم الدلالات والمعاني التي يحملها النص. وتقول في هذا الاتجاه "الناقدة فاطمة البريكي": (إن اللغة هي التي تتكلم، وليس المؤلف" هذا المبدأ نادى به "رولان بارت" في مقالته (موت المؤلف) من كتابه (نقد وحقيقة)، حيثُ يُلغي شخصيّة الكاتب في النص؛ ليتولّد المعنى بعيدًا عن الظروف الخارجيّة، فيبقى الدور على القارئ في فهم سياقات النصوص والوصول إلى دلالاتها.). (13). وهذا مايؤكده منهج التلقي الذي نتناوله بدراسة خاصة لا حقاً.

4- تتعامل البنيويّة مع الجزء:

أي التعامل مع (الكلمة)، فهي تريد التأكيد على أن هذا الجزء ترس من آلة. أو نقطة تقاطع لحزمة من العلاقات داخل النص، فالكلمة جزء من جملة، وجزء من مفهوم وجزء من بنية اجتماعيّة وإنسانيّة. ومن جهة أخرى في هذه الخاصية، فاللغة شكل لا جوهر كما يقول "دي سوسير"، لذلك على اللغوي أن يركز وصفه على الشكل، مادام عالم الدلالات - المعاني مشتركاً بين سائر اللغات، ومادام وجه الخلاف بين تلك اللغات يكمن في "الصورة "، أي الكلمة. ولأن الكلمة- أو الكلمات- لا تحقق مهامها بالتجاور الكمي، ولأنها - أي الكلمة - دال ومدلول، لذك بدأت البنيويّة بالكلمة كجزء من كل- تطبيقا لاجتهادات اللغويين- اللسانيين- والاجتماعيين الذين يشتغلون على المنهج البنيوي. وبالتالي من العبث أن نقول بأن البنيويّة تقوم على "لعبة لغويّة" تحصي الصفة والموصوف أو الجار والمجرور، أو عدد الأحرف اللبنة أو القاسية في متن النص، أو تقف عند التكراريّة والإشاريّة بحيث يسهل بعد ذلك أن تستعيض عن المعنى بسهم أو دائرة، كما يصعب القول بأنها "موضة" وانتهت. (14).

5- دراسة النص من حيث مستوياته:

(الصوتيّة، والصرفيّة، والمعجميّة، والنحويّة، والدلاليّة، والتداوليّة، والرمزيّة. فالبنيويّة تدرس النص من حيث الاعتماد على هذه المستويات قصد الكشف عن العناصر المختلفة التي يبنى عليها النص، والتي تُظهر وتُجلي دلالته المقصودة.). (15).

المرجعيات الفكرية والوظيفيّة للمنهج البنيوي:

لقد اعتمد المنهج البنيوي على طرقً أو أساليب منهجيّة في نقد النص الأدبي، ويأتي في مقدمتها:

1- "المنهج الشكلاني الروسي": الذي يقوم على الاعتناء بالشكل أكثر من المضمون في أحد مراحل تطوره، فهو لا يُعنى بالظروف والعوامل الخارجيّة، ولا يُسقطها على النص عند تحليله، حيث يدعو هذا المنهج إلى الاكتفاء بتحليل النصوص. ويُؤمن أنصاره بذاتيّة القارئ في فهم النصوص واستنتاج دلالاتها. وقد أشرنا إلى هذه المرجعية المنهجيّة عند تناولنا لموضوع تاريخ ظهور المنهج البنيوي في بداية دراستنا هذه.

2- المنهج "التكويني": الذي يقوم على تحليل النصوص الأدبيّة من منظور اجتماعي إلى حد ما، أي لا ينظر للنص بانعزاليّة تامّة عن الواقع الذي أنتج فيه، بل يرى أنّ الأدب تعبير عن الواقع، فاللغة ذاتها لها بعدها الاجتماعي ولا تفرخ مجردة وقد حاول هذا المنهج الدمج بين الشكل والمضمون، وبذلك يُمكن للدال الواحد إنتاج مدلولات مُختلفة باختلاف المُتَلقّين، ومن خلال الربط بين المنهج البنيوي في صيغته الشكلانيّة مع المنهج التكويني، نشأ عنه المنهج "البنيوي التكويني" - الذي سنبين طبيعته في دراسة لا حقة -. فإذا اقتصرت البنيويّة الشكليّة على تحليل النص وحده دون رجوع المبدع إلى أي مرجعيّة كانت كما بينا في موقع سابق، كالمرجعة النفسيّة أو الأخلاقيّة أو التاريخيّة أو الأيديولوجيّة أو الاجتماعيّة، فهي في هذا التوجه تقوم بإلغاء الفرادة والخصوصيّة الفنيّة للنص الواحد، وتقضي على المبدع وتميزه، وهذا ما ركز عليه المفكر الفرنسي "روجيه غارودي" في كتابه (فلسفة موت الإنسان)، حيث وجدت البنيويّة نفسها أمام باب مسدود بسبب هذه الانغلاقيّة. لقد جاءت (البنيويّة التكوينيّة) لتعيد قيمة المبدع، حيث جمعت بين البعد الاجتماعي للنص الأدبي والبعد اللغوي.

3- الماركسيّة والتفسير المادي الجدلي: وذلك في ظل جهود المفكرين والنقاد الماركسيين، للتوفيق بين أطروحات الشكليين في أولى مراحل طرحها، ومبادئ الفكر الماركسي الجدلي الذي ركز على التفسير المادي والواقعي للفكر والثقافة عموما، كونها "تسمح بنوع من العلاقة بين البنية الفوقيّة – الثقافة والأدب والفنون– والبنية التحتيّة وهي الوجود الاجتماعي بقوى وعلاقات إنتاجه.(16). وهذا التأثير تجلى في "البنيويّة التكوينيّة".

4- ومن المناهج التي اعتمدت عليها البنيوية أيضاً هناك منهج "النقد الجديد": (الذي ظهر في أربعينات وخمسينات القرن العشرين في أمريكا، فقد رأى أعلامُه أن الشعر هو نوع من الرياضيات الفنيّة "عزرا باوند"، وأنه لا حاجة فيه للمضمون وإنما المهم هو القالب الشعري، وأنه لا هدف للشعر سوى الشعر ذاته "جون كرو رانسوم").(17).

5- وهناك مناهج "اللسانيات البنيويّة": حيث يقول الناقد المصري "عبد العزيز حمودة" في كتابه الموسوم ب: "الخروج من التيه": (أما المرجع المشترك في كل هذه الأعمال الأدبيّة، فهو اللسانيات البنيويّة، فكلها تسلم بأن الحكاية تشابه الجملة، بل هي جملة كبيرة يجب توضيح قواعد توليدها، وهي خاضعة لقيود المنطق الإلزاميّة، ويمكننا تقطيع وحدات صغرى في الحكاية كما نقطعها في الجملة، ولو كانت تلك الوحدات أكبر بكثير من الوحدات المكونة للجمل، وتبيان كيف يندمج بعضها في بعض ويتألف ليشكل حكاية، فقوانين تحولاتها هي التي تشكل التركيب السردي) (18). ولعل هذا المصدر هو أهم مصادر البنيويّة، (لا سيما "ألسنية دي سوسير" الذي يُعد رائد الألسنيّة البنيويّة، بسبب محاضراته (دروس في الألسنيّة العامة) التي نشرها تلامذته عام 1916 بعد وفاته. وعلى الرغم من أنه لم يستعمل كلمة (بنية) إلا أن الاتجاهات البنيويّة كلها قد خرجت من ألسنيّته، فيكون هو قد مهّد لاستقلال النص الأدبي بوصفه نظامًاً لغويًاً خاصًّا. وفرّق بين اللغة والكلام: فـ (اللغة) عنده هي نتاج المجتمع. أما (الكلام) فهو حدَث فردي متصل بالأداء وبالقدرة الذاتيّة للمتكلم.). (19).

6- وهناك أيضاً "حلقة براغ" في المنهج الشكلاني الروسي: وهي حلقة دراسية كونها ثلة من علماء اللغة في براغ -عاصمة التشيك-، وهذه الحلقة وإن كان زعيمها "ماتياس" إلا أن المحرّك الرئيس لها هو نفسه مؤسس المدرسة الشكلية الروسيّة "ياكبسون" الذي تنقّل بين روسيا وبراغ والسويد والولايات المتحدة الأمريكية، فكان أينما حلّ بشّر بآرائه، وكان له دَور فعّال في نشر الوعي بالنظريّة الجديدة وترسيخها في أوساط المثقفين. ومن هنا التقط علماء حلقة براغ مشعل الدراسات اللغوية الحديثة الذي صب "سوسير" زيته ونسجتْ الشكليّة الروسيّة خيوطه وأخذوا يتحدّثون بشكل صريح متماسك عن بنائيّة اللغة.(20)..

7- وهناك نظرية (موت المؤلف) في المنهج البنيوي: لقد فضلت البنيويّة الاهتمام بالبنية الدلاليّة التي حملت مضامين العمل الأدبي عند القارئ أو المتلقي، ودعت إلى تهميش المؤلف وإماتته، وهو ما أدّى إلى إلغاء دور التاريخ وعدم الاهتمام به لكونه قد قام على احتكار المعاني في المناهج النقديّة التي أعطته دورًا مهمًا في تحليلاتها، ونظريّة (موت المؤلف) أسهمت جديًا في الاعتماد على دور القارئ في فهم سياقات النصوص والوصول إلى دلالاتها.

فالحق أن منهج البنيويّة هو حاصل جمع وطرح أغلب إن لم يكن كل التيارات السابقة عليه، والمعاصرة له.

مستويات المنهج البنيوي:

يقوم المنهج البنيوي في تحليله النصوص الأدبيّة على مستويات مُتعددة يُمكن عرضها على النحو الآتي:

1- المستوى الصوتي: ويقوم هذا المستوى على دراسة الحروف (أصوات اللغة) وتكويناتها ورمزيتها وموسيقاها من تنغيم، ونبر، وإيقاع.

2- المستوى الدلالي: ويقوم هذا المستوى على دراسة وتحليل المعاني المباشرة وغير المباشرة، والصور المتصلة بالأنظمة الخارجة عند حدود اللغة، المرتبطة بالعلوم النفسيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة.

3- المستوى الرمزي: يقوم هذا المستوى على دراسة رمزيّة اللفظ، واستنتاج وتركيب ما تقوم به المستويات السابقة من دور في المعنى الجديد، وإنتاج مدلولات أدبية جديدة.

4- المستوى النحوي: ويقوم هذا المستوى على دراسة تنظيم الكلمات وتركيب الجمل وتأليفها وخصائصها الدلاليّة والجماليّة.

5- المستوى الصرفي: ويقوم هذا المستوى على دراسة الكلمات والبُنى اللفظيّة لها، ووظيفتها في التكوين اللغوي.

6- مستوى القول: لتحليل تراكيب الجمل الكبرى بهدف معرفة خصائصها الأساسيّة والثانويّة. (21).

البنيوية في النقد العربي:

مع بداية القرن العشرين، وبتضافر العديد من جهود الباحثين والنقّاد من أجل السعي قدماّ نحو ولادة فكر جديد وإحداث الكثير من التغيُّرات، وبتتبّع حركت الفكر النّقدي، نجده قد مرّ بعدّة مراحل متباينة متأثّرا بالأفكار والرؤى النّقدية الأدبيّة الغربيّة، ومن محور اهتمام النقاد العرب هو توجههم نحو نقد المدرسة (البنيويّة التكوينيّة) في الخطاب النّقدي الأدبي العربي الحديث، هذا النقد الذّي كان واضحاّ وجلياَ من خلال عدد كبير من أفكار ورؤى نقّاد الوطن العربي، خاصة بعد أن سيطر فكر هذه المدرسة على أفكار نقّادنا، وجعلهم يتّجهون نحو بنائيّة النّص الأدبي، وينظرون إليه نظرة "سوسيوجدلية"، على أساس انغلاقه على مكوّناته النصيّة، مع ضرورة إيجاد بنية تاريخيّة تفسّره.

وخلال السبعينيات من القرن العشرين، انتشرت البنيويّة وهيمنت على النقد العربي حيث تلقفها النقاد العرب المحدثون، الذين استفادوا من بعض الترجمات التي عرفت بها وبمميزاتها وطرائقها في تحليل النصوص الأدبية، فضلا عن بعض الدراسات التي أنجزها بعض النقاد من قبيل: "يمنى العيد" و"كمال أبو ديب" و"محمد برادة" و"محمد بنيس" و"جابر عصفور و"حميد حمداني" و"عبد الفتاح كيليطو" ... وغيرهم من النقاد الذين أغنوا الممارسة النقديّة العربيّة. (22). وهنا أصبحت البنائيّة أو البنيويّة في هذه الفترة من القرن العشرين تتردد في أبحاث الدارسين العرب، ففي البدء تأثر النقد العربي الحديث بالمنهج البنيوي في لبنان وسوريا والمغرب، ولم يلبث أن انتشر هذا المنهج في مصر وبلدان عربيّة أخرى، ولعلنا نستطيع أن نرى النقاد العرب قد أفادوا من هذا المنهج وأنهم أخذوا يحللون أعمالًا أدبية، فعلى الصعيد التطبيقي يلقانا "كمال أبو ديب" في (جدلية الخفاء والتجلي والرؤى المقنعة)، و"خالدة سعيد" في (حركية الإبداع)، أما على صعيد السرديات فيلقانا "سعيد يقطين" في (القراءة والتجربة)، و"يمنى العيد" في (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي). ورغم أن المنهج البنيوي كان من أقصر المناهج عمرًا، إذ لم يستطع الصمود فترة طويلة أمام ما واجهه من عقبات ومناهج ما بعد الحداثة، وبخاصة (المنهج التفكيكي) الذي حافظ على وجوده عند النقاد العرب محاولين توظيفه في التحليل الأدبي والولوج به في التعامل مع النص الديني. هذا ويعتبر "كمال أبو ديب" أبرز رواد المنهج البنيوي في العالم العربي، ذلك أنه أصل له وقام بتطبيقه على الشعر العربي في كتابين: الأول (جدلية الخفاء والتجلي دراسة بنيوية في الشعر" طبعة 1981)، والثاني عنونه بـ (الرؤى المقنعة، نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي – طبعة 1986) .(23).

ويرجع اهتمام أغلب نقاد العقود الأخيرة من القرن العشرين بهذا المنهج إلى إحساسهم بقصور المناهج النقديّة السابقة عن تقديم ذاك التحليل المتكامل للنص الأدبي، فضلا عن الرغبة في الانخراط في التحولات التي يعرفها النقد الأدبي في ظل الاحتكاك مع بعد الحداثة الغربية، والتي شكلت البنيويّة أبرز ملامحها. وهكذا، أسهم المنهج البنيوي في تجديد الخطاب النقدي السائد في العالم العربي، وبلورة رؤية نقديّة جديدة فتحت معالم رحبة للخوض في كثير من النصوص والبحث في أنظمتها الداخليّة.

نهاية "البنيويّة"

يقول الناقد السوري محمد عزام: (إذا كانت (البنيويّة) قد انطلقت في النصف الثاني من القرن العشرين فملأت الدنيا وشغلت الناس، فإنها بدأت بالتراجع منذ إضرابات الطلاب الراديكاليّة في فرنسا عام 1968، مما جعل البنيويين يعيدون النظر في مواقفهم ومنهجهم الذي خرجت من رحمه مناهج نقديّة عديدة كالأسلوبيّة، والسيميائيّة، والتفكيكيّة، بالإضافة إلى الألسنيّة، التي هي عماد هذه المناهج النقدية جميعًا).(24). وبهذا يمكن القول: إن البنيويّة قد بدأت بالانهيار في أوائل السبعينات من القرن العشرين، وظهر مكانها في فرنسا ما اصطلح على تسميته «ما بعد البنيويّة». وكان "رولان بارت" و"جاك ديريدا" أهم فلاسفتها. وكان "رولان بارت" قد تحول عن البنيويّة إلى ما بعد البنيويّة، وبدأ في دراساته النقديّة يتجه إلى التقليل أكثر من أهميّة الكاتب في تركيب النص الأدبي، إلى دور قارئ النص في توليد معانٍ جديدة لا نهاية لها. يؤكد "بارت" في كتابه (متعة النص)، (1975): (أنه في غياب الكاتب تصبح عملية إيجاد تأويلات للنص عملية عبثية لا نهاية لها، لكنها ممتعة، وتأتي المتعة من امتلاك النص لإمكانات «اللعب» بالمعاني. ولكن هذا لا يعني تخلّيّا فوضويّا عن كل القيود، وإنما تفكيكاً وهدمًا منظَّمين لإنتاج معانٍ أخرى، وكأن القارئ يعيد كتابة النص، فيصبح منتِجًا له وليس مستهلِكًا، وهذا أساس المذهب التفكيكي، الذي طوره " جاك ديريدا"، وهو أساس «مابعد البنيويّة»(25). هذا وإن الكثير من المفكرين والفلاسفة لم يتقبلوا البنيويّة أيضاً -على الرغم من انتشارها السريع- (وراحوا يصفونها بالمنهج اللاإنسانيّ، ومن أبرز مَن واجهها ونقد روّادها وساهم في تقويضها: الفيلسوف الفرنسي "لوك فيري"). (26). ومما يدلل على عدم جدوى هذا المنهج وضرورة التخلص منه أن بعض أبرز روّاده قد تحوّلوا عنه وتطوّروا -كما سلَفَ ذِكره.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

...................................

الهوامش:

1- (موقع الألوكة- الوحدة الصرفية (المورفيم): مفهومها وأنواعها - د. عصام فاروق – و(المورفيم) هو عبارةٌ عن أصغر وحدة لُغَوية تَحمِل معنًى والمقصود بـ (المعنى) هنا ما يسمَّى المعنى الوظيفيَّ.).

2- (يمنى العيد -كتابها: (تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي- الناشر: دار الفارابي - الطبعة: الثالثة، ص 318).

3- (موقع لحظات نيوز- تعريف المنهج البنيوي في النقد الأدبي - خصائص المنهج الاجتماعي في النقد الأدبي - صورة كيرو البدري.). بتصرف.).

4- (موقع موضوع - تعريف المدرسة البنيوية. لينا سرطاوي.). بتصرف.

5- (مجلة العربي - أدب ونقد العدد 419 - البنيوية: اتجاه في النقد الأدبي الحديث: سمير عبدالفتاح.).

6- (موقع العمق المغربي - البنيوية في النقد الأدبي - حسناء الإدريسي الكيري).

7- (كل الآراء المتعلقة بالبنيويّة التي وردت هنا نقلاً عن مجلة العربي - أدب ونقد العدد 419 - البنيوية: اتجاه في النقد الأدبي الحديث: سمير عبدالفتاح.).

8- (، حسناء الكيري الإدريسي - البنيوية في النقد الأدبي، مدخل تعريفي. بحث منشور في صحيفة "قاب قوسين" الإلكترونية).

9- (موقع العمق المغربي - البنيوية في النقد الأدبي - حسناء الإدريسي الكيري). بتصرف.

10- (عبد الله خضر حمد، مناهج النقد الأدبي الحديث - دار القلم بيروت –دون تاريخ النشر – ص105 وما بعد). بتصرف.

11- (حسين الواد: “قراءات في مناهج الدراسات الأدبية”، سراش للنشر، تونس -1985.).

12- (عبد الله خضر حمد، مناهج النقد الأدبي الحديث - دار القلم بيروت –دون تاريخ النشر – ص107 و108). بتصرف.

13- (فاطمة البريكي، قضية التلقي في النقد العربي القديم- دار الشروق – عمان - 2006 صفحة 29.).

14- (مجلة العربي - أدب ونقد العدد 419 - البنيوية: اتجاه في النقد الأدبي الحديث - سمير عبدالفتاح -). بتصرف.

15- (الحوار المتمدن - العدد: 5453 – 2017- المحور: الادب والفن - مناهج النقد الأدبي الحديثة - المنهج البنيوي أنموذجا - محمد الورداشي -كاتب وباحث مغربي.).

16- (مجلة آفاق علمية – المجلد 11 العدد 4 -2019- مرتكزات بنيوية لوسيان غولدمان التكوينية - . د عادل اسعيدي المركز الجامعي تامنغست)الجزائر- ود. عبد القادر بختي المركز الجامعي تامنغست – الجزائر). بتصرف. (ويراجع حول البنيوية التكوينية أيضا: ("مرتكزات بنيوية لوسيان غولدمان التكوينية"، مجلة آفاق علمية، 2009، العدد 4، المجلد 44، صفحة 503وما بعد).

17- (عزام، محمد: تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحداثية. منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، (ص13).

18- (الناقد المصري "عبد العزيز حمودة" في كتابه الموسوم ب: "الخروج من التيه" دراسة في سلطة النص، عالم المعرفة – الكويت - 2003ص 92).

19- (راج موقع موضوع - المنهج البنيوي وخصائصه - خلود المعاويد.).

20- (راج موقع البوابة -المنهج البنيوي في النقد الأدبي -عمر السنوي). بتصرف.

21- (حول مستويات المنهج البنيوي – يراجع موقع موضوع - المنهج البنيوي وخصائصه: خلود المعاويد.)بتصرف.

22- (مجلة التعليميّة - مظاهر النقد البنيوي في النقد العربي المعاصر – العدد 2 - د. عتيقة سعدوني – جامعة الجيلالي عباس - الجزائر). بتصرف.

23- (موقع سطور - المنهج البنيوي في النقد الأدبي - أنس محفوظ -). بتصرف.

24- (24). (عزام، محمد: تحليل الخطاب الأدبي على ضوء المناهج النقدية الحداثية. منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، (ص9).

25- (للاستزادة في هذا الاتجاه - يُراجَع: ستروك، جون: البنيوية وما بعدها، من ليفي شتراوس إلى ديريدا. ترجمة محمد عصفور، عالم المعرفة، الكويت، 1996.).

26- (جاكسون، ليونارد: بؤس البنيوية. ترجمة ثائر ديب، ط2، دار الفرقد، دمشق، 2008، (ص167).

صدرت عن دار "الفينيق" بعمّان رواية "أسبوع العسل" للدكتور حميد الكفائي؛ وهي الرواية الثالثة في رصيده الإبداعي الذي يترسّخ برَويّة ودِقّة وأناة، وقد استغرقتهُ الرواية الأولى "عابر حدود" قرابة عشر سنوات، كما أخذت منه رواية "الغائب الحاضر" زمنًا مماثلًا يعكس اهتمامه الكبير في كتابة النص السردي الذي لا تنقصه البراعة والرصانة والجمال.

مَن يقرأ هذه الرواية سيكتشف من دون لأْي أنها تتمحور حول الخيانة الزوجية والخيانة المهنية لكن القارئ العضوي المتفحِّص سيرى فيها أبعد من هاتين الخيانتين العُظميين، فبطل الرواية سليم صالح هو الشخصية الرئيسة في هذا النص السردي لكنها ليست المهيمنة كليًا على الرغم من حضوره الدائم في الفصول الثمانية والعشرين، إذ يمكن اعتبار هذا النص رواية بوليفونية متعددة الأصوات تشترك فيها من النساء فيونا ولورا وبيانكا وجوليا وسِلفِيا وفاتن، ومن الشخصيات الرجالية سليم ورشيد وألبيرتو ومصعب وحمدان وكونور وكامل وبوهدان وما سواهم من الشخصيات الرجالية والنسائية التي جاوزت الخمسين شخصية بضمنهم الأطفال الذين سنأتي على ذكرهم حينما تتشعّب الأحداث وتتشظّى العوائل التي كانت متضامّة مُتشابكة ذات يوم. كما تقترب هذه الرواية في جانب منها من السيرة الروائية أو السيرة الذاتية، إن شئتم، وذلك لهيمنة الراوي الذي يروي الأحداث بضمير المتكلم الذي يضطر للبوح بكل أسراره الخاصة والحميمة التي قد يهشِّم بعضها صورته الجميلة في أعين المحبّين والناقمين عليه على حد سواء.

ليس بالضرورة أن ينتمي هذا النص السردي إلى جنس الرواية التقليدية المتعارف عليها ولعل تشظّيها إلى أجناس قريبة منها كالسيرة الروائية أو السيرة الذاتية يمنحها أبعادًا إضافية توسّع من مدى الجنس الأدبي الواحد. كما أنّ النسق الحواري الذي ظهرت فيه الرواية سمح لها باحتضان معلومات سياسية واجتماعية وتاريخية وجغرافية وثقافية وفنية ما كان لها أن تظهر بهذه الكثافة وتمدّ الرواية بمضامين ثانوية تعزز ثيمة الرواية القائمة على أزمة الهُوية التي يعاني منها بطل الرواية سليم صالح، المهاجر من العراق الذي استقر في خاتمة المطاف في ضواحي لشبونة بعد أن درس في بريطانيا، وتعيّن في دبلن ثم انتقل إلى البرتغال وعمل في شركة "الرغبة" التي وفّرت له فرصًا ذهبية للقاء العديد من الحسناوات الأوروبيات إلاّ أنَّ "سِلفِيا احتلت منه موقع القلب، بينما سكنت بيانكا في أعماق الضمير" (الرواية،9) ولكي نتتبع الأحداث بشكل دقيق لابد من العودة إلى الزمن الكرونولوجي الذي يسير بخط مستقيم وإن تعمّد الراوي الداخلي أو الراوي المشارك تأجيل البوح ببعض الأسرار المهمة التي قد تقلب حياته رأسًا على عقب. ولهذا بدا النسق السردي دائريًا أو ثمة حلقة مفقودة يمكن أن تُعيد للسياق السردي إيقاعه المنتظم أو نسقه المعتاد. يمكن اعتبار سليم صالح راويًا عليمًا لكنه ليس كلي العلم فثمة تصرفات وسلوكيات لا يمكن أن يتوقعها أو يعرفها على وجه الدقة مثل ردود أفعال النساء الأربع اللواتي ارتبط معهنّ بعلاقات حميمة وهنّ على التوالي فيونا ولورا وبيانكا وسلفيا فقد درس سليم في جامعة لندن وتخرج فيها طبيبًا متخصصًا في علم النفس، ثم تعيّن في مستشفًى بدبلن، وهو المستشفى ذاته الذي تعمل فيه زوجته فيونا كطبيبة أيضًا لكنه في لحظة ضعف أقام علاقة حميمة مع لورا، إحدى مريضاته التي حملت منه طفلاً أسمتهُ راين، فالقانون الآيرلندي لا يسمح بالإجهاض كما أنها تنتمي إلى أسرة كاثوليكية تعتبر الإجهاض حرامًا. وسوف توفر لنا لورا إطلالة على الديانة المسيحية القائمة على المحبة والنبل والتسامح حيث ردد والدها ما قاله السيد المسيح عندما أرادوا رجم مريم المجدلية "فليرمِها بحجر من لم يرتكب ذنبًا" (الرواية، 170) فتوقّف الجميع لأنه لا يوجد بينهم منْ لم يرتكب إثمًا أو خطيئة. كما سيوفر لنا مصعب إطلالة أوسع على الديانة الإسلامية والقرآن الكريم من خلال استشهادات رشيد بآيات من الذِكر الحكيم أبرزها "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"(الرواية، 20) "ولا إكراه في الدين فقد تبيّن الرُشد من الغيّ"(الرواية، 21) وما إلى ذلك من آيات كريمة تحضُّ على حرية الاعتقاد والإيمان والتفكير.

علاقات متعددة وولع مُفرط بالنساء

لابدّ من الإقرار بأنَّ سليم صالح يحب الجمال ويتوه فيه فلاغرابة أن يحب أكثر من امرأة في وقت واحد كما حصل حينما أحبَّ لورا بوجود زوجته الأولى فيونا، وسوف يحب سِلفِيا بوجود بيانكا، كما أنه كان يميل إلى فاتن بوجود الاثنتين على الرغم من أنها سطحية وتفتقر إلى الثقافة والكياسة ولا تمتلك غير الجمال الوراثي الذي يعود إلى جيناتها الفينيقية. ومثلما ارتكب الخطأ الأخلاقي والمهني الأول مع لورا فسوف يدفعه الولع بالنساء إلى تأسيس علاقة حميمة مع بيانكا التي قررت أن تعود إلى جنوا لتكتشف بعد مدة قصيرة أنها حامل وسوف تنجب هذا المولود وتتعلق به جدًا وتُطلق عليه اسم أليساندرو لينضاف إلى قائمة أولاد سليم صالح الذي قرّر أصلًا ألّا ينجب أطفالًا في هذا العالم المكتظ بالمواليد الجُدد. وبعد أن تفكّ سلفيا طلاسم العلاقة التي كانت تربطه ببيانكا وتعزف عن الإنجاب تفاجئنا بأنها حامل بتوأم غير متماثل وسوف يسمّيهما سليم أسماءً مشتركة في الثقافتين العربية والأوروبية حيث تأخذ الطفلة اسم منى بينما يأخذ الطفل اسم كميل ليُصبح عدد أولاده أربعة وهم على التوالي راين وأليساندرو ومنى وكميل ولطالما كان يحلم بجمعهم في بيت واحد لكن صغر سن راين وأليساندرو كان يمنع أمّيهما من التفريط بهما في وقت مبكر خاصة وأنّ بيانكا لم تتخلَ عن حُب سليم وإن كانت تتكتّم وتحبس أوار هذا الحُب في قلبها قبل أن تبوح به بعد الأشهر الأولى من الإنجاب.

لا نريد أن نسهب في الحديث عن حبكة الرواية وقد اكتفينا برسم معالم عمودها الفقري الذي يكشف عن ولع سليم صالح بالنساء الجميلات وهو المهاجر القادم من ثقافة مغايرة، وديانة مختلفة، ومجتمع لم يغادر كليًا قيمه البدوية، وتقاليده الاجتماعية التي دأب عليها منذ قرون طويلة الأمد. ما يهمنا في هذه الرواية أيضًا هي الأفكار والرؤى والمضامين الثانوية التي زخر بها هذا النص السردي الدسم الذي ارتأى مُبدعه حميد الكِفائي أن يقدّمه بطريقة مغايرة لما اعتدنا عليه في الرواية العراقية والعربية فلم أقع شخصيًا على روائي عراقي أو عربي يوظف السياسة والتاريخ والجغرافية والدين والسياحة والآثار والشعر والأغنية العراقية والعربية والعالمية بهذا الشكل المندغم مع نسيج النص الأصلي حتى غدت هذه المعلومات جزءًا من لُحمة النص السردي وسَداته. وحسنًا فعل الكِفائي حينما تحدث بلغة العارف ببواطن الأمور عن استبداد غالبية الحُكّام العرب الذين كانوا السبب الرئيس وراء هجرة المواطنين العرب وغير العرب إلى المنافي الأوروبية والعالمية، بل أنّ حروب صدام حسين الخارجية والداخلية هي التي شرّدت العراقيين من وطنهم الذي يمحضونه حُبًا من نوع خاص ولولا قسوة هذا الطاغية الذي فعل بشبعه ما لم يفعله أي رئيس في العالم باستثناء بول بوت وستالين لما تفرّق العراقيون أيدي سبأ وتناثروا في مشارق الأرض ومغاربها وهذا الأمر ينطبق على غالبية الدول العربية باستثناء دول الخليج العربي التي وفّرت عيشًا كريمًا لمواطنيها وللأجانب الذين وفدوا إليها.

تستطيع الرواية الناجحة أن تتقبّل كل الأجناس الأدبية وتذوّب في بنيتها الداخلية غالبية العلوم والمعارف الإنسانية شرط أن يُلبسها الكاتب لبوسًا أدبيًا ولهذا بدت الأحاديث السياسية والعسكرية والجغرافية جزءًا حيويًا من نسيج النص ومادته الداخلية التي تهدف للتلميح بما هو ممكن الحدوث إن عاجلًا أم آجلًا، فحينما تتحدث كاترين عن جزيرة القرم "كرايميا" تقول إنها أرض أوكرانية وسوف يستعيدونها في يوم من الأيام. وأنّ روسيا اعترفت عام 1954 بأنها جزء من أوكرانيا ولم تطالب بها بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي عام 1991. تعّج رواية "أسبوع العسل" بالمعلومات التاريخية والسياحية والفنية التي لم يُقحِمها الكاتب في نصه السردي وإنما جاءت لتوضيح مجموعة من الآراء والأفكار التي تتعلق بالحوار النوعي الذي دار بين شخصيتين محوريتين في الرواية وهما الدكتور سليم ورشيد هارون، الشخصية الواعية المثقفة التي يفيد منها سليم ويعتبرها قدوة ويهتدي بآرائها العلمية والحضارية المتفتحة حينما يتحدثان عن "قصر الحمراء" في غرناطة، ومدينة الزهراء، ونُصب ولّادة بنت المستكفي وابن زيدون ليؤكد لنا بأنّ الإسبان يحتفون بجميل ماضينا "بينما نحن نهجر الجميل والنافع في تأريخنا، ونجتر أسوأ ما فعلهُ الأسلاف" (الرواية، 73). لا يجد الروائي حرجًا في استعمال بعض المصطلحات العلمية مثل التستوسترون والأستروجين وما سواهما لأن القارئ سيفهم من السياق طبيعة هذه المصطلحات التي يتحدث عنها الراوية في إطار العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، بل أنّ هناك ثيمات مهمة يجترحها الكائن السردي لتنضاف إلى الثيمة الرئيسة للعمل الأدبي وتعمِّقها أكثر من ذي قبل من بينها إشباع الغريزة الجنسية وتحقيق الطمأنينة، وتعزيز الغرور في النفوس حيث يتوصل إلى ما يشبه الحقيقة التي تقول:"لا سعادة إلاّ بالتخلص من التستوسترون الفائض عبر الطرق البيولوجية"(الرواية، 87). تستمر قائمة توظيف المعلومات بأشكالها المتعددة بسلاسة كبيرة وتدفق ملحوظ من دون أن يرتبك النص السردي أو يشذّ عن سياقه المألوف كما هو الحال في الحديث عن أفضل أنواع  الأنبذة التي تصعنها دول عربية وإسلامية وعلى رأسها المغرب والجزائر وتونس وتركيا حيث يقدّم السارد المتماهي مع كاتب النص ومبدعه قائمة طويلة بأسماء أفضل هذه الأنواع المُنتَجة في العالمين العربي والإسلامي.

الهجرة إلى المنافي وصعوبة التأقلم والاندماج

تتمحور هذه الرواية على موضوع الهجرة والمهاجرين من مختلف أرجاء العالم وإن كان التركيز مُنصبًا على العالم العربي والإسلامي، وخاصة أولئك الناس المُقتَلَعين من جذورهم، وقد وجد الكثير من هؤلاء صعوبة في التأقلم والاندماج، وبعضهم ظل على الهامش بحجة عدم التفريط بالهُوية العربية والإسلامية لكنّ البعض الآخر اندمج مع البلدان المُضيِّفة وقِبل بقيم منظومتها الإخلاقية والاجتماعية. فثيوفانيس، على سبيل المثال لا الحصر، يرى أنّ المسلمين في اليونان منسجمون مع المجتمع اليوناني، كما يسمع سليم من أحد الطلاب بأنّ البرتغاليين والأسبان مُطلعين على الثقافة العربية ومُحبّين لها لأنهم قريبون جغرافيًا وثقافيًا كما أنّ العرب بسطوا نفوذهم على تلك المضارب لبضع مئات من السنين.

لا بد من الإشارة إلى ولع الراوي المشارك بالموسيقى والغناء وهذا ما يفسّر لنا توظيف الكاتب لعشرين أغنية تقريبًا في هذا النص غالبيتها أجنبية وبعضها الآخر عربية أو عراقية أهمها "مُبحر أنا" لرود ستيورات، و "أبي لا تعِظني" لمادونا، و "عودك رنّان" لفيروز و "الليلة ليلة هَنانا" لعارف محسن وما إلى ذلك من أغنيات جميلة تُحاكي الغربة، والوجود، والعاطفة الإنسانية في أقصى لحظات توهجها. فهذه الرواية لا تمجِّد الحُب فقط وإنما تزرع حُب الموسيقى والغناء والشعر وتدعو إلى التماهي مع الفنون القولية وغير القولية لأن الحياة من دونهما لا يمكن أن تُطاق وتُصبح مثل "صحراء قاحلة" على حد وصف مؤلف النص السردي نفسه.

تنطوي رواية "أسبوع العسل" على لغة صافية منسابة مريحة للقارئ المحترف الذي يلتهم هذا النمط من الروايات التي تقترب كثيرًا من الأفلام الدرامية الرومانسية التي تنتظم في حبكة قوية جدًا يحرّكها مثقفون وعشّاق من جنسيات متعددة. ويكفي القارئ الحصيف أن يلْمح هذا العنوان المُغاير "أسبوع العسل" ليُدرك أنّ الروائي المبدع حميد الكِفائي قد نأى بنفسه عن العِبارة الشائعة والمُستهلكة "شهر العسل" التي لا تثير شهية القارئ العضوي ربما ولا تُوخز مخيلته الذهنية المُتقدة الأمر الذي دفعه لانتقاء هذا العنوان الجديد الذي يراهن على المفارقة والشدّ والترقب ومحاولة الإمساك بالمعنى المجازي الذي أراده خالق النص وأحالنا إليه قبل أن تتكشّف أسراره المتوارية ومعانيه الدفينة إلى حدٍ ما.

شيئان مُهمّان يميزان هذه الرواية ويعكسان حِرفية كاتبها وهما الجملة الاستهلالية والجملة الختامية فقد أوجزنا في الجملة الاستهلالية حين قالت فيونا بالحرف الواحد:"لا لن أبقى مع رجل أخلّ بأهمّ شرط في عقد القِران، وأهمّ مقوِّم من مقومات الحياة السعيدة، وأول مبدأ من مبادئ الإخلاص". فهذه الجملة على الرغم من طولها واسترسالها تضع المتلقي في قلب الحدث، وتوصل بطلته إلى لحظة الحسم واتخاذ القرار وما ينجم عنه من تداعيات مؤسية تُبعده عن البلد الذي عمل وعاش فيه لمدة خمس سنوات متتالية ثم وجد نفسه عاريًا وعليه أن يبدأ من جديد. أمّا الجملة الختامية التي أشرنا إليها سلفًا فهي التي تضع الأمور في نصابها الصحيح والصريح في آنٍ معًا، وكأنّ الكاتب الذي يرتدي في أحيان كثيرة قناع شخصية سليم أو صديقه رشيد، يريد أن يرسّخ في أذهاننا حقيقتين ثابتتين تؤكدان حيرته الدائمة وانشطاره إلى شخصيتين تُحبّان امرأتين أو أكثر في الوقت ذاته حيث يعترف بالفم الملآن:"لقد عاشت سِلفيا في قلبي، وعاشت بيانكا في ضميري".

على الرغم من أنَّ "أسبوع العسل" هي رواية أحداث، وخيانات زوجية ومهنية، إلاّ أنها رواية أفكار ومفاهيم ورؤى ثقافية واجتماعية وسياسية ودينية وفنية، ولو شئنا الدقة لقلنا إنها رواية "جامعة مانعة" لا يعتورها النقص، ولا يرتقي إليها  القصور، ويستطيع المتلقي أن يجد فيها ضالته المنشودة وأحسب أنّ مؤلفها المبدع حميد الكفائي لم يترك لأقرانه الروائيين موضوعًا إلاّ وتناوله أو لامَسهُ من كثب. وعلى الرغم من حرصي الشديد في أن ألمّ بمختلف ثيمات هذه الرواية إلاّ أنها استعصت عليّ لسعتها وشموليتها الفكرية والثقافية والثقافية والفنية واتساع رقعتها الجغرافية التي تغطي أجزاءً كبيرة من القارة الأوروبية وتمتد إلى روسيا وبعض البلدان العربية المحصورة بين العراق والمغرب.

لابدّ من التنبيه إلى أنّ الروائي حميد الكفائي اقد درس الاقتصاد والترجمة والعلوم السياسية وعمل في الصحافة والإعلام لسنوات طوالا، وسافر كثيرًا فاكتسب خبرات ومعارف جغرافية تراكمت بمرور الزمن فلا غرابة أن يعرف العديد من العواصم والمدن الأوروبية على وجه التحديد، من هنا يمكن القول بأنّ هذه الرواية هي رواية مكانية أيضًا إضافة إلى كونها رواية زمانية لا تقتصر على رصد العقود الثلاثة الأخيرة وإنما تغوص إلى الماضي البعيد وتستنطق التاريخ العربي في عهوده الزاهرة ليس في أسبانيا فقط وإنما في البرتغال وفرنسا وغيرها من البلدان الأوروبية التي تأثرت وتلاقحت بالحضارة العربية. وقبل أن نطوي صفحة هذا المقال لابد من الإشارة أيضًا إلى أنّ الروائي حميد الكفائي قد نجح في إدارة هذا العدد الكبير من الشخصيات التي جاوزت الخمسين شخصية تقريبًا مثلما ينجح المخرج السينمائي البارع في إدارة عدد من الممثلين وتوجيههم إلى المسارات الصحيحة ويضمن في خاتمة المطاف إيقاعًا منتظمًا يقارب المقطوعة السمفونية التي تخلو من التلكؤ والتعثّر والنشاز.

***

عدنان حسين أحمد

أصدر الأديب حميد الحريزي عدداً منَ الأقاصيص، التي أسماها (الروايات القصيرة جداً)؛ بسبب قصرها الشديد، وكثافة وضغط السرد، واعتمادها على حدث وزمان ومكان واحد، وشخصية محورية، وعدم الإفراط والإفاضة في وصف دقائق الأشياء والشخصيات والأماكن من حيث شكلها الخارجي، أو دواخل الشخصيات وصفاتها الذاتية، مثلما اعتادت الروايات الكلاسيكية والمعاصرة الطويلة الضخمة، وذات الأجزاء العديدة لبعضها. فقد أطلَّ علينابهذه الرواياتالقصيرة جداً)، والتي يتراوح عدد صفحاتها مابين 11 و 25 صفحة. وقد يكون أول روائي يكتب أقاصيص بهذا الحجم، ويُنظِّر لها  بتلك التسمية ليكونَ رائداً فيها.

في تاريخ الرواية في العالم، وأجناسها من حيث الحجم، عرفنا الرواية الطويلة والرواية القصيرة. ومن أبرز وأشهر الروايات القصيرة، وأهمها من الناحية التقنية للرواية ومناهجها وقواعدها في السرد والحبكة، هي رواية (رسائل من أعماق الأرض) لديستويفسكي الصادرة عام 1864 والمؤلفة من حوالي 82 صفحة، والتي أسماها أيضاً مترجمها أنيس زكي حسن عام 1959 بـ(الإنسان الصرصار)، ورواية الألماني توماس مان (الموت في البندقية) الصادرة عام 1912، التي ترجمها الى العربية كميل قيصر داغر عام 1979 والمتكوّنة منْ حوالي 101 صفحة، وقد اسماها على الغلاف   بـ(رواية)، وفي متن تقديمه لها أطلق عليها اسم (الأقصوصة والقصة)، ورواية (الشيخ والبحر) لأرنست همنغواي الصادرة عام 1952 والمؤلفة من 105 صفحات.

وبالمقارنة مع صفحات روايات الأستاذ حميد الحريزي هناك فارق عددي في الصفحات، قد يدفع بعض النقدة الى رفض تسميته أقاصيصَه هذه بـ(الرواية القصيرة جداً)، وما هي إلا أقاصيص أو روايات قصيرة. بالاعتماد على المنهج النقدي في القصة القصيرة والأقصوصة. وكما أشار الأستاذ الدكتور أبو المعاطي فخري الرمادي، أستاذ الأدب والنقد الحديث، في بحثه الموسوم بـ(الرواية المصرية القصيرة في الربع الأخير من القرن العشرين) عام 2003 ، إذ أشار الى "أنّ الرواية القصيرة ليست بحجم القصة القصيرة، ولا بحجم الرواية الطويلة، وغير محكومة بعدد الكلمات، كما أشير الى الأقصوصة التي حُدِّدَت بين 10.000 كلمة و20.000 . كما أنها (الرواية القصيرة) تمتاز بسرد مكثّف، وشخصية محورية واحدة، أو شخصيتين، وحدث محوري واحد، ومكان وزمان محدّد، وهي أيضاً من الخصائص الرئيسة للقصة القصيرة والأقصوصة."

لذا فإنْ نظرنا الى طول الروايات القصيرة جداً الحريزية (نسبة الى حميد الحريزي) فإنها تحمل نفس الخصائص، الشخصية المحورية مثل الكلب في مذكرات كلب، وضويّة في (أرض الزعفران)، وحامد في (هذيان محمزم)، إضافة شخصيات أخرى تخدم المضمون وتطور الحدث وسيره حتى النهاية. وهناك حدث محوري واحد، وأحداث متفرعة منه ضمن التصاعُّد في الحبكة القصصية للوصول الى النهاية والمفاجأة  كما في رواية (هذيان محموم)، والتي تؤدي دورها في الهدف الأساس من كتابتها، وفي التوجهات الفكرية والسياسية والاجتماعية النقدية لمؤلفها، والتي دفعته الى تأليفها، ووضع الظواهر السلبية التي تأخذ بخناق البلدان وشعوبها نحو التخلُّف والانحلال والسقوط والظلم والانهيار. وهو الهدف الرئيس الذي جعله الروائي والشاعر والناقد المفكّر حميد الحريزي ضمن أهدافه في المساهمة بالتغيير الحضاري، وهو طريقه الذي اختاره في فنه الأدبي؛ لأنّ الأدب جزء أساس في نشر الوعي والثقافة والتطور والتحوّل الحضاري بين أبناء الأمة، لأهمية الكلمة الحرّة المناضلة، ووقعها بين الناس. فهو من الأدباء الملتزمين بصرامة وثبات بقناعاته الفكرية التقدمية.

ومن خصائص الرواية القصيرة، كما حدّدها البعض من النقاد، أنها تميل الى السخرية والكوميديا والاستفزاز، وهو ما نقرأه في روايات الحريزي كـ(مذكرات كلب)، و(هذيان محموم)، أو تميل الى التراجيديا مثل رواية (أرض الزعفران)، ورواية (مقايضة). وكلُّ هذا يتناوله حميد الحريزي ضمن تعريته للواقع الاجتماعي والسياسي والديني السائد على الساحة العراقية والعربية، بأسلوب النقد الفني الأدبي الجميل، وهو مايمكن لنا اعتباره ضمن أدب الواقعية النقدية. فهو لا يصرَح ، وإنّما يُلمّح ويُرمِّز، ويترك للقارئ التأويل – رواية مذكرات كلب (النقد الاجتماعي)، وروايتي أرض الزعفران ومقايضة (النقد السياسي) - لكنّه في (هذيان محموم) يُصرّح من خلال الحوارات بين الشخصيات المُتخيَّلة، ويوجّه سهام نقده ورفضه الواقعَ السياسيَّ والاجتماعيّ والديني، وانتشار الخرافات والأساطير، والتفسيرات غير العقلانية للدين وشرائعه وسيطرتها على العقول، وكلّ هذا على لسان شخصيات الرواية.

لقد سبق للروائي والشاعر والناقد حميد الحريزي أنْ أصدر رواية طويلة بثلاثة أجزاء (محطات: العربانة، كفاح، البياض الدامي) رواية غطّتْ فترة زمنية طويلة، تاريخية سياسية اجتماعية، تمتد من أربعينيات القرن العشرين إلى يومنا هذا، من خلال تأريخ الحزب الشيوعي العراقي. وهو الذي جعل الرواية طويلة جداً؛ لتغطية هذه الفترة، وذلك لكثرة الأحداث وضخامتها وخطورتها وأثرها الكبير الخطير على العراق والعراقيين، وكذلك لكثرة الشخصيات، وصراع الأفكار والإرادات.

لكننا نجده اليوم يتوجه الى الرواية القصيرة ذات الحبكة المكثفة والمركزة، والشخصية المحورية الواحدة أو أكثر بقليل، والزمن المضغوط، والمكان المحدّد. وهو لم يكتفِ بذلك، بل طلع بجنسٍ روائيٍّ آخر خارج منْ رحم الرواية القصيرة، مع احتفاظه وحرصه على الخصائص الفنية لها - وقد مررنا على بعضها - وأطلق عليها تسمية (الرواية القصيرة جداً). ثمّ نظَّرَ لها بعدد من الدراسات المستندة والمُفسّرة والشارحة للرواية في العالم، وتاريخها وظروف ظهورها وتطورها من الطول والضخامة والأجزاء المتعدّدة الى الرواية القصيرة، والأسباب التي تكمن وراء هذا التطور، المرتبط عضوياً بالتطور البشري والحضاري والاجتماعي والتكنولوجي، حتى وصل العالم الى ما هو عليه الآن من ضغط الحياة وسرعة حركتها، التي أثّرت بشكل عميق جداً وطبيعي على سرعة الملاحقة البشرية لما يجري، وهذا طبيعي بطبيعة الحياة، التي جعلت الإنسان لا يستطيع ملاحقة كلّ شيء، ومنها الآداب والفنون، فلم يعد يمتلك الوقت الفائض الطويل ليقرأ الطوال من الروايات، والدراسات، والمقالات، والقصائد المعلقات، والاستماع الى الأغاني، والمقطوعات الموسيقية الطويلة لساعات، بل يستطيع خلال دقائق معدودة أن يستمتع بعدد منها، فلم يعد بمقدوره إهدار وقته في الاستماع الى أغنية واحدة بطول ساعة أو ساعتين. وهذا التطور فوق إرادة الإنسان واختياراته.

وبما أنّ هذا التقدّم الحياتي الاجتماعي والتكنولوجي والتغيير ينسحب على كلّ نشاط إنساني، ومنها الفنيّ بالضرورة، فإنه يأخذ الرواية وتطورها أيضاً في طريقه. وبهذا ساد في الاتجاه الأدبي القصصي فنُّ القصة القصيرة جداً، والومضة الشعرية. وعليه اتجه حميد الحريزي لخلق لون روائي جديد، بما أنه وعى القفزة النوعية في التقنيات العلمية، وتغيّر الإنسان معها. وهي نظرة مستقبلية لا تختلف عن كلّ التطورات التي جرت في عالم الأدب نثراً وشعراً.

يقول الحريزي ضمن تعليله لأهمية الرواية القصيرة جداً – كما يرى ويدعو - في دراسة تنظيرية لهذا الجنس تحت عنوان (الرواية القصيرة جداً، موجبات الولادة، واشتراطات التجنيس) في صحيفة الحقيقة العدد 2699 /4.7.2024  :

"الإنسان في عصرنا الحالي مشغول دوماً بالعمل من أجل توفير متطلبات الحياة المادية اليومية، لا تترك له المشاغل اليومية إلّا حيزاً محدوداً جداً من أجل تأمين احتياجاته الروحية ومنها الرواية والفنون عموماً، مما جعل الرواية القصيرة جداً من متطلبات الحياة الواقعية الحالية لتوفير ما يمكن من الغذاء الروحي للإنسان ، وحمايته من الوحدة والتوحّد وجفاف الروح وتصحُّر المشاعر وغلاظة السلوك."

كما يشير في موقع آخر من الدراسة، بعد ذكره لتاريخ الرواية عالمياً وظروف وأسباب انتشارها بطولها القديم الضخم، يشير الى متطلبات الواقعية التطورية الحياتية والتقنية للمجتمعات والناس، وربط كلّ ذلك  بالصراع الطبقي، وبالبرجوازية بالذات، وتفاعلات حركة المجتمع مع حركتها والتغييرات الناتجة عنها سياسياً واجتماعياً وفكرياً وثقافياً، وبالضرورة أدبياً وفنياً لأنهما ضمن البنية التحتية للأنظمة الاجتماعية. ومن هذه المتطلبات المتعلقة بالتطور الحاصل في واقع يومنا هذا، برزت الحاجة الماسة لتطور الرواية، ومن رحم الرواية القصيرة كلونٍ روائيّ شائع، مثلما القصة القصيرة جداً، والومضة الشعرية، وكلِّ المتعلقات الفنية الأخرى. فيقول:

"هذا الواقع يتطلب المزيد من ضغط الوقت لكلّ فعالية إنسانية، في عالم لاهث، راكض، خاطف السرعة، في كلّ شيء، في العمل والأكل والحديث والتمتُّع بما هو كمالي ومن ضمنه الغذاء الروحي للإنسان، كالأفلام القصيرة والكتب المختصرة ومنها الرواية، لتكون بحجم يناسب وقت وجيب المتلقي للإنسان الراكض دوماً. وهنا كما نرى يطرح الواقع نوعاً شديد الاختزال من الرواية، وما أسميناه بالرواية القصيرة جداً."

ربما يعترض البعض من الأدباء والنقاد على هذا، مستندين الى الاشتراطات والقواعد والخصائص المنهجية للرواية، وللرواية القصيرة التي تنطبق ايضاً على روايات الحريزي القصيرة (جداً) مع فارق الطول بينها  – كما ذكرنا سابقاً - ، إلّا أنّ الذي مرَّ بالأدب العربي على طول تاريخه الطويل من تطورات وتحديثات وتجديد، شكلاً ومضموناً، وفق التطور الاجتماعي والحضاري والزمني: الشعر الأندلسي، الموشحات، البند، شعر المهجر، الشعر الحر/شعر التفعيلة، قصيدة النثر، الومضة ... إضافة الى التطور الفني في الموسيقى والغناء، والمسرح، والقصة (القصة القصيرة جداً)، والمقالة، فما الغرابة في أنّ تتطوّر الرواية مع الزمن بناءً على ما نشهده من قفزة تطورية حضارية تقنية اجتماعية، كما مرَّ ذكره، لتبرز الرواية القصيرة جداً، مع الاحتفاظ بحقّ النقد، والرأي والرأي الآخر، أي بين حقّ الرفض والقبول والحوار، كلُّ منْ موقفه وقناعاته الفنية. وهو ما يهدف اليه حميد الحريزي رائداً لها.

رواية (هذيان محموم) نموذجاً:

هي آخر رواية قصيرة جداً أصدرها الروائي والشاعر والناقد والباحث حميد الحريزي، بخمسٍ وعشرين صفحةً. تدور حول الشخصية المحورية الرئيسة وهو المؤلف (حامد): فهل هو مشتق من اسم الروائي نفسه (حميد)؟ أظنني لا أحيد عن الصواب؛ فبمقارنة بين شخصية حامد وأفكاره، ومواقفه وتطلعاته، حول الواقع الحياتي سياسياً واجتماعياً ودينياً، وبين ما نعرفه عن الأديب حميد الحريزي، أقول جازماً أنّه هو، لكنْ في إطار قصة فنتازية خيالية، وأراد من خلالها أنْ يكون حاضراً بجزء من شخصيته؛ ليعرض هذه الآراء والأفكار والتطلعات والآمال من خلال النقد الإيجابي لا السلبي، ضمن الإتجاه الأدبي بما يُسمى (الواقعية الاجتماعية النقدية).

يخرج بطل الرواية حامد على دراجته الهوائية ليجلب الثلج بعد انقطاع التيار الكهربائي ودرجة الحرارة أكثر من 55، وعند عودته الى البيت يقع مغشياً عليه، فيدخل في غيبوبة وحمى شديدة، ليبدأ في الهذيان بكلام غريب. وهو ما يدفع أهله الى الاعتقاد بأنه على مشارف الرحيل النهائي، فيأتي شيخ معمم ليقرأ عليه أدعية وصلوات عسى أن يعود الى وعيه، مع أنّ حامد لا يؤمن بهذه الأمور، ولم تنفع الأدعية، وجاؤوا بطبيب، ولم ينفع، فقال الطبيب لعائلته أن يتهيأوا لما هو أسوأ (موته). وأثناء ذلك كله كان حامد يسمعهم ويرد عليهم، ويهذي، إذ تراءى له كيف مات وكيف شيّعوه، وكيف دفنوه، وقرأوا عليه، وما شاهده في القبر، والتقى بموتى قربه. ثم ينتقل الى الآخرة بعد الحساب ليلتقي بفلاسفة ومفكرين وشعراء وكتاب، وحكام وخلفاء، والأنبياء والصالحين، مسلمين ومسيحيين ويهود وبوذيين، والبابا، وأناس عاديين، فيتحاور معهم بما كانوا يطرحونه في حياتهم من أفكار وآراء ومواقف دينية وسياسية واجتماعية، وما جرى للبشرية بسببها من خلاف وصراع وحروب وضحايا. وفي النهاية يعترف الجميع بالأخطاء، وأثر ذلك على البشر في تفسيراتهم لما قدّم هؤلاء من معتقدات وتعاليم وشرائع، وكانت جميعها لصالح الإنسان ومنفعته، فيجتمعون معاً في وفاق ووئام وسلام في الآخرة. كما يستشهد خلال هذه الحوارات بأقوالهم واشعارهم. وفي نهاية الرواية (المفاجأة) يرجع حامد الى وعيه ليخبره أهله بما جرى له.

الرواية تمتاز بقصرها الشديد (جداً)، وتكثيف الحدث المحوري، والتركيز على مضمون فكريٍّ مُركّز، من خلال النقد الاجتماعي الفكري، ومحاولة تقويم الواقع السائد في المجتمعات البشرية من خلال تلك الأطروحات، ومنها مجتمعنا، وذلك بالمصالحة التي تمت بين الجميع في الآخرة، واجتماعهم معاً، وهذا أملٌ من الحريزي، يريد من خلاله أن يُبيّن بأنّ كلَّ الأديان والأنبياء والصالحين والفلاسفة والمفكرين على اختلاف مشاربهم وعقائدهم وتوجهاتهم ظهروا وكافحوا ونشروا أفكارهم، وتحمّلوا منْ أجلها ما تحملوا، كان منْ أجل خير الإنسان في كلّ مكان وزمان، انما العيب والخطأ والذنب يقع على عاتق المفسّرين وشيوخ التأويل وفق مصالحهم ومنافعهم ومواقعهم، وخبث البعض.

الرواية بقصتها الفنتازية الخيالية متأثرة وتسير على نفس النهج – برأيي الشخصي – بـ(رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري 363-449 ه، و(التوابع والزوابع) لابن شهيد الأندلسي 382-426 ه، و(الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي دانتي اليجري 1265-1321 م، والتي جميعها تعتمد على الخيال والرحلة الى العالم الآخر والالتقاء بالشعراء والكتاب وغيرهم، والحوار بينهم والاستشهاد باقوالهم ومناقشتها معهم، مثلما نقرأ في (هذيان محموم)، مع الفارق أنّ تلك الكتب مُسهبة في كتابتها، ضخمة في حجمها، وهي كتب أدبية وليست روايات.

***

عبد الستار نورعلي

تموز 2024

 

نقد رواية "أموات يحكموننا ل شيماء أبجاو"

دهشة الحقيقة وسؤال المعرفة

من الأمور التي تجعل عقل الإنسان في شغل دائم وتفكير مسترسلٍ هو البحث في أسئلة متعددة كالتي تطرحها الفلسفة الوجودية، أو كما يصورها فلاسفة ومفكري علم الكلام مثلا، أو كما ينقلها لنا النقد الثقافي في علاقته بالأنساق المتوارثة، من هذه الأسئلة: ما الحقيقة الكامنة وراء الوجود؟ هل العالم مادي أم طبيعي؟ كيف يوازن الإنسان بين العقل والقلب؟. كل هذه الأسئلة  يمكن أن نجد صداها في النفي الهايدغري المعبر بصيغة   Ne-pas التي تحيل للوجود كاختلاف، وهذا ما يفسر عبارة: الوجود الأنطولوجي[1].

من هذا المنطلق تبحث "شيماء أبـجاو" في روايتها (القصيرة) "أموات يحكموننا"[2] بحيث شيدت خطها السردي بناء على قسمين: قسم يؤطره حوار دقيق بين شخصية طارق وأبيه حول مفهوم الحقيقة، بعدما سلمَّ ابنَه

وصيةً مكتوب فيها عبارة:  وحيدة «وصيتي ألا أدفن»[3] ، إذ شكلت هذه العبارة قلقاً فكرياً ودهشة عارمة لطارق، لم يستوعب أبعادها، خصوصا عندما دعاه إلى البحث عن شريط (الفيديو) الذي يتحدث عن البعث والإحياء وقراءة كتاب «مكة في جغرافية القرآن»[4]، لقد «أصاب طارقَ زلزالٌ رج بعنف تلك السكينة اللذيذة التي ركن إليها، الشعور بالتيه يكتم أنفاسه»[5].

أما القسم الثاني فهو انسلال فني من موضوع البحث عن الحقيقة والوجود إلى  الحديث عن علاقة الرجل بالمرأة في سياقاتها الدينية والتاريخية، انسلال انطلق من المشهد الأول، أو القسم الأول بعد غياب سلوى عن لقاءاتها الافتراضية مع طارق: «عزيزي طارق أعرف أني لم أفعل صوابا بهذا الانقطاع البشع، فما كنت لأقبل منك غياباً دون مبرر أو وداع»[6]. وكان غيابها مرتبطاً بمشاكل أسرية أساسها تسلط وظلم الأب لها ولأمها وأختيها، وهذا في نظري هو رهان هذا العمل، وموضوعه الرئيس الذي راهنت عليه الكاتبة برؤية فنية تطرح الكثير من الأسئلة. لقد شكل هذا القسم، حديثا صريحاً وقوياً عن الأزمة التي خلقتها بعض النصوص الدينية وتأثيرها عن علاقة الرجل بالمرأة، دون أن تبحث في سياقتها وموثوقيتها (Fiabilité). هي نصوص حديثية استهلكت بحثا ومناقشة من طرف الكثير؛ في تبئير مشوش لموضوع الإسلام والمسلمين، دون أن تقدم شيئا ــ هذه المناقشات ــ غير التحليق خارج السرب، فالعقل الأخلاقي الذي ينظم الفكر، ويبحث ويساجل يرفض أن يجعل المرأة دون الرجل مكانةً ومهابةً وقيمةً، وما ورد في الرواية من أحاديث منسوبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الخصوص هي أحاديث شاذة وظفت في سياقات دينية وسياسية وتاريخية مختلفة  تبنتها الكاتبة، وكان عليها أن تنفتح على مختلف النصوص الدينية الأخرى، كما كان عليها أن تتأكد من صحتها؛ إذا كانت الرؤية السردية تتجه نحو نقد الموروث الثقافي والديني «دون أن نسير عميانا على خطوات أموات مازالوا يحكموننا»[7]. فالفكر لا يموت والحضارات استمرار في الوجود؛ منها تنهل الثقافات والإنسان ماهيتها وهويتها، لذلك فزاوية النظر النقدي للأنساق الثقافية في الرواية ضيقة، أرادت المؤلفة أن تخوض في موضوع كبير بنفس سردي قصير، لن يسعفها ذلك في تتبع وتطور علاقة الرجل بالمرأة من خلال فترات زمنية متنوعة؛ يتقاطع فيها الفلسفي بالديني؛ والأخلاقي بالثقافي.

الـمغامرة المعرفية و التحايل على مقولة التجنيس

استهلت الكاتبة موضوعها بذكاء كبير، حيث وهمت القارئ بسؤال المعرفة، وورطته في ثنايا عالمها السردي والغوص في أسئلته الوجودية، أسئلة تدعمها تلك العتبات النصية التي تعلو بداية كل فصل وهي عبارات وأقوال مقتبسة من فلاسفة ومفكرين، جعلت القارئ ينساب وراء أسئلة "طارق" وحيرته الوجودية، كما يتساءل مع "السيد مصطفى" في همومه المعرفية، وهي أسئلة مشروعة ومنسجمة مع ماهية العقل، ولا يمكن للقارئ أو للباحث، أن يرفضها فالتدبر والتفكر في الحقيقة الكونية تطرحه النصوص الدينية، كما تطرحه النصوص الفلسفية، والوصول إلى ماهيته تظل نسبيةً، وتغذيه ثقافة ومرجعيات متنوعة، كما يتحكم فيه إرث إيديولوجي، هذا الإرث تجلى لنا في عتبة العنوان "أموات يحكموننا"؛ حيث قصدت من ورائه ذلك  الرصيد الديني والمعرفي الذي يؤطر حياة الإنسان المسلم، وقد أغفلت المؤلفة أن تاريخ الحضارات والفلسفات القديمة مازال ينير طريق العلم والمعرفة، ومازال سؤال المعرفة يعلن نفسه سيداً على كل الأسئلة. لقد اعتمدت الساردة من خلال صوت شخوصها أحاديثَ وأخباراً مجردةً من سياقها، وعبرت عن ما يسمى ب"تيار الوعي الحداثي"، بحيث أضحى شعار "أنا أفكر أنا موجود" يسم أغلب الأعمال التي تبحث في العقل الديني[8]،  بعدما أصبح الدين الإسلامي مستهدفا في إحدى خطاباته؛ من منطلق كونه يكرس الطبقية بين الرجل والمرأة، ويعلي من سلطة الرجل، عبر هذه المنزلقات المعرفية جردت الأحكام من سياقها، وركزت على متغير في الحياة البشرية، متصل بالسلوك البشري وليس بقوانين، فالغلو في استعمال السلطة أو تعنيف الزوجة وأطفالها، أو ما تقوم به بعض الجماعات المتطرفة باسم الإسلام من قتل وعنف للعامة والخاصة فهي سلوكات بشرية مرضية عنيفة، ينبغي معالجتها، ويجب محاكمة مرتكبيها فهم المسؤولون عنها، وليس الدين.

وعلى وجه القياس فقط هنا لا على وجه المقارنة، نتذكر كتاب الشخصية المحمدية "لمعروف الرصافي" الذي استطرد وأسهب في الحديث عن بلاغة الإعجاز القرآني، مستظهرا جما وافراً من كتب التفسير، لكن حينما وصل إلى انتقاد هذه البلاغة لم يجد ما يشفع له في التفاسير واكتفى بقراءته وتأويلاته للنص الديني، هنا يكمن الرهان أو المغامرة، التي عولت عليها المؤلفة في كتابـها، وتوريط القارئ في متاهة الخطاب دون تحديد مستواه التداولي السياقي، يحدثنا "بروان ويول" عن ضرورة توفر المتلقي على معلومات لتكون حظوظه قوية لفهم الرسالة وتأويلها[9]. والخاصية الأولى للسياق مما يتعين التوكيد عليها هي الديناميكية، فليس السياق مجرد حالة لفظ، وإنما هو على الأقل متوالية من أحوال اللفظ، وفضلا عن ذلك، لا تظل المواقف متماثلة في الزمان، وإنما تتغير وعلى ذلك فكل سياق هو عبارة عن اتجاه مجرى الأحداث.[10]

هكذا لا يمكن لخطاب أن يستقيم دون النظر في مجراه ومصادره وهو السياق، فالنص ينزل منازل كثيرة بحكم ظروفه المتعددة التي تفرضها سياسة الحكم في غالب الأحيان. إن التسرع في تحليل نصوص دينية يفضي بصاحبه إلى منزلق التيه، ويفقده القدرة على التأويل الذي يطلبها النص؛ تأويلا يسائل معانيه ودلالاته ويبحث في مراميه وأبعاده، يذكرنا هذا التسرع من طرف الباحثة؛ في الهجمة التي تلحق الأديان والدين الإسلامي على وجه الخصوص حيث أضحى شعاراً حداثيا وحديثا، تحت يافطة تيار الوعي الحداثي كما تقدم، وقد تجلى هذا التسرع كذلك في التحايل على مقولة التجنيس، إذ نعلم أن  الأدب يطرح إمكاناتٍ فسيحةً للتعبير عن هواجس مختلفة منها الاجتماعي والديني والسياسي، وقد أصبح وضع المرأة الثقافي يفرض عليها التعبير عن صوتها بما يخدم فلسفتها في الحياة وتوجهها الديمقراطي، لأن المرأة تحب وتعشق البوح والاعتراف، وهكذا  يمكننا تصنيف هذا العمل ضمن الكتابة النسائية المنفتحة المتحررة من مقولة النوع الأدبي، هذه المقولة التي تفرض على الكاتب الالتزام بصرامة القواعد الفنية والتقنيات المعتمدة، ولأجل تغليب الموضوع على القاعدة يتم تجاوز النوع "وصارت الرواية أم الأنواع فصار كل شيء رواية و لا شيء غير الرواية[11] ، لأنها تتضمن وتختزل كل الأنواع الأدبية دون أن تفصح عنها، لأن الكاتب يختبئ وراء هذه الفسحة الأجناسية ليمرر خطاباته ويلونها بأي لون شاء، ويصطحب القارئ معه في تحديد النوع الأدبي المقصود، بل يحمله مسؤولية ذلك.

***

د.عبد الـمـُجيب رحمون

...............................

الهوامش:

[1] - انظر محمد هلالي وحسن بيقي، الاختلاف، دفاتر فلسفية، عدد 28، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى، ص: (19-20).

[2] - دار نشر الوطن، الرباط، الطبعة الأولى، 2020.

[3] - الرواية ص: (14).

[4] ـ الرواية، ص: (15).

[5] ـ الرواية، (ص: 24).

[6]ـ الرواية، (ص:72).

[7] ـ الرواية، ص: (28).

[8] - انظر، ديفيد لودج، ترجمة ماهر البطوطي، الفن الروائي، المشروع القومي للترجمة، العدد، 288، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مصر، ص: (50).

[9]- محمد خطابي، لسانيات النص، مدخل إلى انسجام النص، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، 1991، الدار البيضاء، المغرب، ص: (297).

[10] - فان ديك، النص والسياق، استقصاء البحث في الخطاب الدلالي والتداولي، ترجمة عبدالقادر قنيني، أفريقيا الشرق، 2013، الدار البيضاء، المغرب، ص: (339).

[11]- انظر سعيد يقطين، قضايا في الرواية العربية، الوجود والحدود، دار الأمان، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى، 2012، ص: (78-79).

- احداث الرواية جسدت واقعاً ملموساً و صنعت الرؤية البصرية الشاملة لخيال (ماهر)

- اعتماد "ياسين شامل" مفردة (نساء) في عنوانه منحت الرواية أفقاً مفتوحاً لاحدود فيه للتخيل

رواية واقعية مستنبطة من حالة معاشة عكست حال مدينة كبيرة مثل البصرة العراقية بشفافية واضحة تصويراً لما وقع من أحداث، والتي باتت مدينة اشباح مرعبة بعد الاحتلال البريطاني الأخير عام 2003، رسم الكاتب من خلال صفحاته صورة حقيقية لسيطرة المليشيات والخارجين على القانون على زمام الأمور والتمثيل الحكومي الهش فيما بعد، حالة مزرية لم تنتهي، بل لازالت قائمة، أراد منها الكاتب بذكاء يتسم بجمال الأسلوب ومرونة استجابة اللغة للمواقف التي دَاخل(شامل) بعضها البعض في روايته، ليقدم منتجاً روائياً هادفاً أخاله أقرب للرواية السياسية منه إلى عوالم الرواية المتعددة التوصيف. غلفها الفنان (صدام الجميلي) بغلاف جميل مازج فيه ألوان العتمة مع الأحمر الصارخ برداء الإيحاء وتقاسيم ما احتوى المشهد مما يعبر عن تراكمات الحدث وصيرورة التناول الروائي.

العنوان بما حمله من دهشة، والذي جاء به (ياسين شامل) بغرائبية ممتعة أوحى من خلاله إن ما كتب (رواية رومانسية) اعتمد فيها على مخيلة البطل التي شكلت تخيلاته عن علاقات نسائية بحتة أو عن خياله الجامح اتجاه ما يعشق من نساء تتجمع صورهن في مخيلته، دون أن يكون هناك أي ارتباط روحي أو جسدي بينه وتلك النسوة، لكن واقع (نساء ماهر) لم يكن يعتمد على خيالات تتربع على مجمل أحداث الرواية، بل جاءت واقعاً ملموساً شاركت بل صنعت الرؤية البصرية الشاملة لخيال (ماهر)، كما شاركت في الرؤية السياسية والتوصيف الذي يحمل نفس المعنى للحقبة السياسية والذي حاول الكاتب أن يزج ما مر فيه عبر تفاصيل العمل المشترك مع (الدكتور حسون بدر).

العنوان كما ذكرنا جاء على جزئين بنى الأول على المبهم، ثم استدرك في الجزء الثاني منه بالدلالة الوصفية (ماهر) وهو اسم علم يدل على شخص ليس على التعيين، أي شخص يحمل هذا الاسم سيكون هو المقصود بالحدث الروائي، إلا أنه وبفطنة رائعة ودقة متناهية في العمل ذهب الكاتب ليورد بذكاء عملية توظيف الدلالة في الحدث فاحال المبهم إلى صورة ناطقة حين وظف التوصيف الدلالي (الخيالي) كصفة ملحقة بالاسم (ماهر).

اعتمد "ياسين شامل" في عنوانه أفقاً مفتوحاً للتخيل (نساء) لاحدود للتصور فيه، مؤكداً أنها أكثر عن (امرأة)، لذلك قدمهن بصيغة الجمع (نساء)، التصور الذي جسده (شامل) في عنوان روايته يمنح القارئ انطباعاً يوحي بأن هناك علاقات مشوهة أو مشبوهة سيضع القارئ يده عليها في متن الرواية وفصولها، إلا أن كاتب الرواية خيب هذا الظن، إلا من واحدة رسمها بطل الرواية (ماهر) مع احدى النساء اللاتي أتى على ذكرهن في الرواية.

البساطة التي حملتها لغة الرواية من أجمل ما يكون، فلا تعقيد أو تعالي في لغة الخطاب، وكأن ياسين شامل قد جاء بروايته بناء على نقاش مستفيض مع كاتب هذه السطور الذي يرفض تعقيدات ما يكتب به الروائيين والنقاد، ويذهيب (لأسلوب التبسيط) في كل ما يتناوله الفن والأدب، فالأدب للجميع مثلما هو الفن، لاطبقية فيهما.

 هناك الكثير من الروايات السياسية التي تخوض في واقع معاش لشعب أو وطن خلال حقبة معينة، تتناول بالسرد ما يدور من أحداث خلال تلك الفترات من التجبر الذي تمارسه الأنظمة السايسية أو قوات الاحتلال اتجاه شعوب تقع تحت طائلة غلوها وقهرها وتسلطها، لكن تلك الروايات أو معظمها (لانريد التعميم) يكتب بأسلوب يصف مايدور على الساحة من أحداث بشكل درامي فني، وتصوير لمشهد ما يحدث، وقد يخلو أسلوب الكاتب الذي يوظف (الوصفي) كمشهد عام لروايته من العاطفة والتخيل، ليس بمعنى أن تكون الرواية ناقصة التكوين أو التشكيل، لا على العكس ربما تأتي رائعة في تضمين ماحدث عبر الوصف، وكأن من يقرأ يأخذه التصور بأن تلك المشاهد الروائية قد عاشها من قبل، وذلك التفاعل دليل نجاح، لكنه يبقى مقتصراً على التفاعل.

الأدب بشكل عام يجسد الحدث السياسي ويؤرخ لمجرياته، وربما يذهب لما في الأدب من وصفية دلالية على تعريف الحدث السياسي وتقريبه للواقع أكثر من مجريات الحدث نفسه أو تعريف شخوصه لما جرى، فالأدب أقرب للجمهور من السياسة بما فيه من عاطفة وخيال واهتمام بمشاعر الجمهور، وتلك عناصر تخلو منها السياسة بشكل عام.

هذا من جانب، أما الأخر فالأدب السياسي شكل من أشكال الأدب العام، وقد كتبت فيه روايات وقصص، كما كتبت مسرحيات وأفلام عبرت عن مراحل سياسية كانت غاية في الدقة والرصانة وأقرب للمتلقي من قصص الخيال والحب والألم والمعاناة. بل أن الكثير من الروايات والأعمال الأدبية لاتخلو من توصيف أو تناول لفترات سياسية محددة أو مطلقة.

أما في (نساء ماهر الخيالي) فقد عشنا التصور والخيال معاً، ورسمنا من تلك الصور التي أفرد ياسين شامل لكل واحدة من نساءه صورة وحدث، ثم عمل على جمعهن في بوتقة تصور واحد أفضى من خلاله إلى تعدد الروئ النفسية والمكانية والشكلية التي فضحت علاقات تلك النسوة بماهر، و تقلبات الخيال التي عمل ماهر على بنائها تجاه كل واحدة من تلك النساء.

أني أغبط ماهر لسعة تلك التخيلات التي رسمها له (ياسين شامل)، وجمع كل النساء اللاتي أشار إليهن من حوله حتى وإن كن في الخيال، فمن ذاك الذي يحظى بجمهرة من النساء في خياله .

هذا الجمع بين الوصف السياسي المبطن لحالة الشارع حينذاك في الرواية، والخيال الذي لف به شكل الرواية بإبداع وإتقان مازج (شامل) من خلاله مابين التشويق والترقب (الترهيب)، ودفع المتلقي ليقف على حد هاجس الخوف مما سيحدث، (ماذا بعد) سؤال بحجم الوطن لم يجد جواباً عند الجميع. استطاع الكاتب أن يصف مكر من تسلط على المدينة عبر(شخصية شهاب) الشاب المراوغ الفوضوي الذي يسعى لاستغلال الفرصة والوثوب على من سواه عبر اقتناص ما يتاح أمامه من منفذ، وتلك ميزة فيمن ظهر أبان الاحتلال ولازال يسود المشهد بدعم (صورة واقعية) نقلها ياسين شامل دعمت من حظوظ روايته ورفعت من درجات مصداقيتها ورصانة الفكرة والتداخل الذي وظفه شامل بالرواية لينجز صورة حقيقة ناتجة عن خيالات ماهر لكنها واقعية.

(عواطف، منار، بيداء، حنان، أوديت، زليخة، عبير، بسمة، خالته شذا، سماح، جوليا، شارون ستون، آن)، كم من اسماء النساء حشرن في تفاصيل الرواية للتشويق، ولكل منهن قصة، ما يعني أن (ياسين شامل) أفرد للدلالة عبر الاسماء، والأمكنة، والأحداث مساحة شاسعة من الرواية بنى من خلالها علاقته مع القارئ لتخيل الصور الدالة على النساء اللواتي جاء ذكرهن كل حسب توصيفاتها في الرواية ومدى العلاقة التي تربط ماهر بكل منهن، كما فتح المجال لتصور الأماكن التي ذكرها (شارع الجزائر)، (سيطرة للجيش البريطاني) (فندق السلطان) قد تكون استعارات فقط لكنها تستخدم للتوظيف الدلالي على الحدث.

فالدلالة حاضرة عند ياسين شامل وبقوة في البناء الدرامي للرواية، وتلك من ضرورات البناء والتوظيف والسرد، استطاع "شامل" أن يكرسها في متن روايته ليقطف ثمرة ما جنى (ترابط الأحداث الذي شكل عمقاً روائياً هادفاً، ظننته في بادئ الأمر عند قرائتي الأولى أن لايحدث فيفقد الرواية (أقصد الترابط) سيرتها وضرورات التشكيل الروائي والإنسجام ما بين الشخوص والأمكنة، إلا أن الكاتب أبدع وليظهر براعته في ما قدم من ترابط أحال المشهد الروائي من خلاله إلى ما يشبه (سمفونية هادئة شفيفة ناعمة) كنعومة نساء ماهر بما أتاح لنا من خيال نعيشه لنكتشف سحر النساء التي ورد ذكرهن في تفاصيل الرواية.

الطابع الوصفي طغى على تفاصيل الرواية، وهذا ليس بخلل فيها على العكس فهو يمنحها سعة التخيل واطلاق العنان لخيال القارئ لأبعد مدى، فالرواية أساساً تعتمد في جل تفاصيلها على الوصف لتشكيل وبناء الحبكة. أراد لها ياسين شامل أن تكون متكاملة من ناحية المعنى والشكل التكويني المتمثل بعناصر البناء، ناهيك عن أن تناغم المشاهد التي كون منها شكلها العام مع المفردات التي وظفها "شامل" لتظهر فصولها وكأنها لوحة نابعة من الخيال فعلاً، لكنها كانت تعبر عن تجسيد أحداث حقيقة، سجلها الكاتب من خلال الصور الخيالية التي أوردها لتتناسب وحبكة الحدث الذي شكل منه الرواية.

المشهد الأول لرواية "ياسين شامل" (نساء ماهر الخيالي) أظهر فيه بطل الرواية متردد في صفاته، بل قد يذهب القارئ إلى تصور أن البطل مهزوز الشخصية وغير قادر على التصرف أو حتى إتيان فعل مباشر دون أن تكون هناك محاولات أو أن يتلقى المساعدة من الغير، (صورة)، وتلك واضحة لما ظمنه من أفق عبرعنه ب (تضارب أفكاري)

الصورة الثانية في ذلك المشهد، نرى أن ماهر يبحث تراتيب معينة ليبلور أفكاره عبر التضارب الذي عانى منه في التفكير، هذا التناقض يخلق فكرة مشوشة عند المتلقي حول شخصية البطل في الرواية، أحسبها ميزة في الكتابة، فليس كل الروائيين قادرين على خلق ذلك التناقض ثم الخروج منه بصور تخدم التصور القادم للرواية، أو المشهد الذي يلي في تراتيبية متوالية ينشأ عنها المشهد الكلي للحدث فتكون الحبكة.

القدرة على الكتابة بمفهوم الخيال تحتاج ميزات خاصة يستطيع من خلالها الكاتب أن يداخل ما بين إلهام الفكرة والتصورات التي يتطلبها الخيال، للخروج بصورة روائية مقبولة أو ترضي المتلقي على أقل تقدير، إلا أن شامل في روايته استطاع تجاوز تلك الميزة إلى ما هو أبعد منها (الاقناع والتشويق) فعلاً في وصف الخيال الروائي وبناء عقدة الحدث دون أن يدخل النسق الروائي في اشكالية التداخل مابين صورة الخيال وحقيقة الحدث.

ذهب ياسين شامل في روايته (نساء ماهر الخيالي) لتوظيف الخيال من خلال أسلوب مبسط في الطرح ومفردات دالة عميقة المعنى لكنها هادفة، ليقدم للقراء مشاهد سلسة مفهومة لا تعقيد فيها ولا إطالة في المشاهد عبر من خلالها عن الواقع الممزوج بقوة التصور (الخيال).

ذهب لاستخدام الخيال كوسيلة للتعبير عن حقائق عميقة نقلت ماجرى من أحداث حقيقية مازجها الكاتب بقوة الخيال الذي جسده في صفحات الرواية، داعماً عمله بالرمزية التي مثلها الزمان والمكان، كما الشخوص (النساء) اللواتي منحهن أفقاً واسعاً في رمزية الحدث التي استطاع أن يبقي الحقيقة بعيدة شيئا ما عن الواقع الظاهري، ثم ليخرج بها مدوية وليبهر بها قراءه.

كل الخيال الذي رسم به "شامل" مشاهد الرواية قصد من خلاله إثراء ذهنية القارئ وتوسيع مداركه نحو التخيل ونضوج الوعي الفكري عبر ربط الخيال بالحقيقة، وهو ما أراده من فعلياً من خلال تجسيد ماجرى وتصوير الواقع الاجتماعي والفكري الذي نتج بعد ماحدث في المدينة أثر العامل المتغير المتمثل بالاحتلال الذي طرأ على المشهد العام.

إذاً نستطيع القول أن توظيف "المرأة" في المشهد الروائي العام عند ياسين شامل جاء لتوسيع مدارك القارئ، والأخذ بيده نحو استخدام خياله كوسيلة لتوقع الأحداث والتعبير عنها، لما تحمله المرأة من رمزية دلالية في تجسيد الحياة و الواقع المعاش، وهي بما تمثله من مكنون عاطفي وأحاسيس وخصوصية جسدية تغري الجميع على متابعة الحدث دون توقف طالما كان يتعلق بالنساء.

من خلال هذا العمل الرائع الذي قدمه ياسين شامل في روايته بظروفها التي كانت، رسم للرواية بعداً خيالياً بأفق واسع عبر ترك مساحات التَخيل مفتوحة يذهب من خلالها القارئ لتشيكل صوراً عدة لنساء ماهر اللاتي ذكرهن شامل، أو لنساء في مخيلة القارئ نفسه.

لعب ياسين شامل على مساحة العاطفة لدى القارئ، وتلك لعبة صعبة جداً في الأدب من يتمكن منها يمتلك القدرة على سحب المتلقي من يده لاتجاهات ما يريد، وفعلاً استطاع الروائي ياسين شامل أن يأخذني أنا الذي قرأت الرواية بشغف مجبراً بأسلوبه من يدي نحو متاهات الخيال التي أوردها في الرواية، حتى ظننت أن امتلكت من نساء ماهر الكثير فلا شذى غفلت عنها، ولا " آن" روت شغفي، ولا حتى تلك الناعسة الجميلة "سماح" (كما تخيلتها)، وفي زحمة تخيلاتي تلك، عنى لي وجه عواطف وجمالها الذي طغى على الرواية بشكل عارم ثم ضاعت في زحمة الأحداث التي تعاقبت عند شامل، ونسيتها.

قد لاتعني الاسماء شيئاً رغم كثرتها، لكنها تعبر عن حالتين في الرواية، الأولى عدم إتزان تفكير ماهر وتشتت رؤاه، تلك الحالة التي انتجت شروداً في التفكير لديه، وولدت عنده تلك الخيالات.

 الأخرى خوفه من الدخول إلى عالم مختلف يسمع عنه ربما، ولايملك الجرأة لولوجه خوفاً من تبعات ما قد يحدث، سيما وأن ماهر الذي رسم لنا ياسين شامل شخصيته لم يكن ذو تجربة تعينه على ولوج عوالم النساء، وتلك معضلة تضاف وتخلق مساراً للأولى.

جَمِع كل ذلك الخيال الذي وصف به ياسين شامل شخصية البطل في الرواية تعبير عن توظيف الدلالة الرمزية في السرد الروائي، والدلالة بحد ذاتها (توصيف)، فلم يكن القارئ ليعلم من هن نساء ماهر، لو بقيت الحالة التي كتب بها شامل على أنهن (نساء ماهر)، لكن أي نساء هن، لذلك جاء الكاتب بالدلالة الاسمية لتعريفهن دون سواهن.

ذلك التحديد لل (النساء) جعل الرواية أكثر واقعية حتى من خيالات ماهر التي عبرت عنها الرواية بأنها واقع يحكي قصة فترة مريرة مرت على العراق والبصرة خاصة، رغم إنها لم تمر بعد، ما يمنح الرواية صفة الواقعية الدلالية بحق .

امتلك ياسين شامل القدرة الخاصة على تناول الموضوع من زوايا عدة أهمها كان التداخل الروائي السياسي (فترة عصيبة "احتلال")، ثم التاريخي الرمزي (البصرة)، ثم الخيالي الذي جاء بأفضل صوره التي منحت الحياة لاسماء عدة (نساء ماهر) ما جعل القارئ يعيش تلك الأجواء المفعمة المتداخلة فيما بينها، والمنتجة لغرائب الصور الذهنية التي علاها الخيال اللمسي قبل غيره، فقد لمس القراء رقة النساء اللاتي ذكرن في التفاصيل، ويقال (الشيطان يكمن في التفاصيل) التي وظفها شامل باطار درامي رائع.

لم يكرس ياسين شامل الخلط بين الموقف والحالة كصلة تناظر يجسد من خلالها صوره الناطقة بما يحدث، بل لعب على الحركة والخيال المعزز بواقع ما جرى من احداث ليشكل فصوله بروائية رائعة وأسلوب في قمة الجمال فرض علينا شامل بتتابع الأحداث والخيالات أن نكمل الرواية بشغف.. علنا نحضى بخيال من خيالات "ماهر" .

***

سعد الدغمان

عملٌ أدبيّ يتجاوز الحدود التقليدية للرواية إلى فضاء الفلسفة والوجودية ، يحاول استكشاف العلاقة بين الإنسان والعالم من حوله من خلال سردية تتمركز حول شخصيات تحاول العثور على معنى لوجودها في سياق تاريخي واجتماعي وسياسي معقد ، نجد كل هذا الضوء في رواية “الحيوان وأنا” للكاتب العراقي أمجد توفيق في عام 2023 عن دار الشؤون الثقافية العراقية العامة ذات الـ 144 صفحة .

تبدأ الرواية بصيغة ضمير المتكلم، مما يخلق علاقة وثيقة بين السارد والقارئ، حيث ينغمس القارئ في عالم السارد ويشاركه تجربته الشخصية. هذه التقنية السردية ليست مجرد اختيار أسلوبي، بل هي جزء من استراتيجية أعمق تهدف إلى تقليص المسافة بين الواقع والمتخيل، بين الذات والآخر.

يمثل السارد دانيال علي موسى الشخصية المحورية في الرواية، والتي من خلالها يستعرض توفيق قضايا الإنسان المعاصر. دانيال، الذي يعزل نفسه في مزرعة بعد أن فقد شريكة حياته، يحاول الهروب من واقع يملؤه العنف والخداع والتهميش. هذه العزلة الذاتية ليست مجرد هروب، بل هي محاولة لإعادة اكتشاف الذات والعودة إلى جوهر الإنسان البسيط والأصيل.

تعالج الرواية سؤالاً وجودياً عميقاً: ما هو طريق العودة إلى الذات الأصيلة؟ هل يمكن للإنسان أن يتحرر من الشوائب التي علقت به نتيجة الحروب والصراعات؟ من خلال سردية دانيال، الذي يختار الحياة مع الحيوانات في المزرعة، يسعى توفيق إلى تسليط الضوء على الفطرة الإنسانية النقية قبل أن تتلوث بالعنف والخداع.

إن اختيار توفيق للحيوانات كرموز في الرواية يحمل دلالات فلسفية عميقة. فالحيوان هنا يمثل البراءة والنقاء، وهو على النقيض من الإنسان الذي بات يحمل سمات الخداع والخذلان نتيجة التاريخ الطويل من الحروب والصراعات. تسعى الرواية إلى استعادة هذه البراءة من خلال العلاقة الحميمة بين دانيال وحيواناته.

تتميز الرواية بأسلوب سردي متداخل يعكس تعقيد الواقع الذي تعيشه الشخصيات. يستخدم توفيق تكرار الضمائر والأصوات الداخلية ليبرز الصراع الداخلي للشخصيات ومحاولاتها المستمرة للعثور على معنى لحياتها. هذه التقنية السردية تعزز من عمق الرواية وتضيف بعداً فلسفياً يعكس رؤية توفيق للعالم.

تتعرض الرواية لقضايا الهوية والانتماء من خلال تجربة دانيال مع الاحتلال الأمريكي للعراق. تنقل الرواية إحساس الشخصيات بالانفصال عن الواقع والحاجة إلى الهروب إلى مكان يمكنهم فيه إعادة اكتشاف أنفسهم بعيداً عن الفوضى والعنف. هذا الإحساس بالانفصال يعكس أيضاً شعور الإنسان المعاصر بالضياع والبحث عن معنى في عالم مضطرب.4283 امجد توفيق

إن رواية “الحيوان وأنا” تمثل إضافة هامة للأدب العربي المعاصر، حيث تجمع بين السرد الأدبي العميق والرؤية الفلسفية الناضجة. من خلال قصة دانيال علي موسى، يسعى أمجد توفيق إلى استكشاف جوهر الإنسان والعلاقة بين الذات والعالم. تطرح الرواية أسئلة وجودية حول الهوية والانتماء، وتدعو القارئ للتأمل في معاني الحياة والبحث عن النقاء الداخلي في عالم مليء بالتحديات والصراعات.

“الحيوان وأنا” ليست مجرد رواية، بل هي رحلة فلسفية في أعماق الذات البشرية، تستحق أن تُقرأ وتُناقش في المحافل الأدبية والفكرية ، وكاتبها  ليس مجرد كاتب روائي، بل هو فيلسوف يطرح أسئلة جوهرية حول الوجود والمعنى، ما جعل أعماله محط اهتمام النقاد والأدباء على مستوى العالم .

***

إيهاب عنان – كاتب عراقي

كعادتها في معظم نتاجها الأدبي والروائي، تواصل الأديبة نزهة الرملاوي الحفر في الهمّ الفلسطيني والغوص في يوميات ومعاناة ذاك الشعب الرازح تحت نير الإحتلال.

"تراتيل في سفر روزانا" لو أردنا تجنيسها نجدها أقرب ما تكون إلى الأدب السياسي المقاوم، كُتِبت بلغة سهلة وأنيقة في آن وبأسلوب سردي إنسيابي تجعل القارىء مشدودا لمتابعة مجرياتها وتشعره بأنه في قلب المشهد الروائي لا بل أحد شخوصه لما يطالعه من أحداث وتفاصيل سبق وأن تابع معظمها إن لم نقل عاشها في يعض المراحل والمحطات.

جاءت هذه الرواية لتؤرخ لا بل لتوثق ما جرى ويجري على سكان فلسطين عمومًا وقطاع غزّة ومخيماته على وجه الخصوص، هذا القطاع الذي عاش سكانه العديد من المآسي والحروب التي جعلت سبل الحياة فيه أقرب إلى المستحيل نتيجة ما يتعرض له من أخطار وحصار.

وللدلالة على تواصل الأجيال وتوارثهم للقضية الواحدة والجامعة إرتأت الكاتبة ان تبدأ روايتها هذه بالإشارة إلى الجدّة روزانا والتي حملت مشعلها وإسمها فيما بعد حفيدتها روزانا لتقدم لنا هذه الرواية "تراتيل في سفر روزانا".

روزانا الجدّة كما وصفتها حفيدتها بأنها تلك المرأة المقدسية، الآتية من عبق الحارات ومن تكبيرات المآذن وأجراس الكنائس، وإذ كانت تعتبر أن كلّ المدن مدنها، لكنّ يبقى للقدس ربيعًا آخر، وما يميزها أنّها حفيدة شهيد وأخت أسير ما زال جسده مدفونًا في مقبرة الأرقام.

ولإبعاد شبح الملل عن القارىء، لم تشأ الكاتبة ان تولي مهمة السرد إلى شخصية واحدة هي السارد العليم روزانا الحفيدة، بل لجأت إلى إيكال مهمة السرد أيضا إلى شخصيات أخرى مثل نورا وأيضا خالتها زهرة إضافة إلى بعض الشخصيات الثانوية الأخرى .

وكأن ميلاد الأطفال أصبح يؤرخ بتواريخ الحروب المتكررة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني ، تشير الرواية إلى أن روزانا قد ولدت في شهر كانون الأول من العام 2008، مع بدء الحرب التي يسميها المحتلّ "حرب الرّصاص المصبوب"ويُسميها المقاومون بمعركةالفرقان، أو بقعة الزّيت اللاهب . ولقد أسهبت الكاتبة في الإشارة إلى ما يعانيه هذا الشعب من قهر وإذلال وحصار خاصة فيما يتعرض له سكان قطاع غزّة. كما سلطت الضوء على الأوضاع الضاغطة التي تعيشها المخيمات متخذة من مخيم الشاطىء وقطاع غزّة مسرحًا لأحداث روايتها. لتبرز الممارسات التي يقوم بها الإحتلال الذي أقدم على تفجّير الأرصفة والشّوارع بحجة هدم الأنفاق، فتكوّمت الأبراج على رؤوس ساكنيها، وأصبحت "حارات المخيم تضجّ بصياح السّاكنين، وآهات المجروحين. فالحرب لا تفرق بين الصالح والطالح، حتّى الأجنّة يقتلون قبل الولادة، والمساجد تهدّم، والمدارس تمسح دماء أطفالها عن الأدراج والمقاعد، ويحمل الآباء جثامين صغارهم، يصفّونهم كأشتال جميلة، تزهر في كل الفصول ذكريات واشتياق. ومئات الراكضين نحو مدرسة الوكالة، حفاة ينتعلون الخوف ويتألمون. يحملون أولادهم وكتبهم وأقلامهم ليكتبوا تراتيل بقائهم وتاريخ صمودهم. وللدلالة على همجية الإحتلال تسأل روزانا ما إذا كانت مكتبة الكتب التي أتلفها العدو كانت تقاوم وتطلق الصّواريخ؟ وهل كانت العائلة التي تتناول طعامها تقاوم أوتطلق المدافع؟ وهل أضحت زجاجات الحليب بين يديّ الأطفال قنابل؟ وتستطرد لتقول :كم نحتاج من الوقت كي نستريح من مشاهد القتل والدّمار؟ متى نتساوى مع العالم بشيء من الأمن والاستقرار؟ كيف نعتلي مراكبنا، ونمضي في البحر، دون أن تضربنا القذائف؟".

 وتُبرز الرواية المعاناة التي يعيشها سكان المخيم بعد أن سرق الإحتلال المياه الجوفية العذبة، وحوّلها لآبار ارتوازية لريّ مستوطناته، وأبقى لهم مياه مالحة تفتك بأجسادهم وتبيد مزروعاتهم. كما تشير الى الوضع المهين والمُذلْ للسكان عند انتظامهم في طابور يوم المؤن، حيث يصبح العاطي إلهًا تركع له البطون، وتسجد له أوقاتًا طويلة من الانتظار، والمحاباة المعتمدة في توزّيع بطاقات التّموين.

 تشير الرواية فيما تشير إلى ما يشبه المقاومة المدنية وإصرار السكان على العيش بكرامة، تقول روزانا "علمتنا الحرب أن نخرج من تحت الركام بقوة، إبنة عمّي ندى تحلم أن تصبح خبيرة في صنع أطراف متحرّكة، لتمنح من فقدوا أطرافهم في الحرب أملًا بالتّحرك والنّشاط، وأنا أحلم أن أسخّر طاقة الشّمس في إضاءة القطاع ليلًا؛ كي لا تُرهب ظلمته نور الحياة. كما ان شبابنا ابتكروا حجارة بناء بلاستيكية صديقة للبيئة، ساهمت في حلّ مشكلتيّ نقص مواد البناء وازدياد النّفايات البلاستيكية، لنثبت للعالم أننا صنّا ع للحياة، نبحث عما هو أفضل، ونبتكر ما يبقينا بكرامة".

بجرأة لافتة قد يتحاشاها الكثير من الكُتّاب قاربت الكاتبة بلسان شخوص روايتها الوضع السياسي وتعريته مشيرة إلى الخلافات القائمة بين الفصائل، بحيث أن التوافق فيما بينهم أشبه بمعجزة، فالكل يتربّص لفكر يعارض فكره، أو توجّه لا يمتّ لتوجّهاته بصلة. اللهمَّ عندما يوّدع المخيّم المقاومين في كرنفال يليق بتضحياتهم، تنام خلافات الفصائل، ويلتئم شملها لفترة لتعود وتصحو في نهار آخر. وفي موضع آخر تدعو للتمسك بحق العودة التي تعتبر أن "إتفاقية اوسلو" لم تشر إليه، وهذا ما يولّد الشعور بالتّخاذل والعتب والاستنكار.

 وفي إنتقاد صارخ لصمت معظم الأنظمة العربية تصرخ والدة روزانا في وجههم قائلة:" وينكم يا عرب، وينكم يا أمة المليار، هذه مش حرب، هذه مجازر، إبادة، غزة تدافع عن شرف الأمة، عن الأقصى، عن القدس، وين النّخوة؟". وللأسف فإن الرد العربي على هذه الصرخة جاء على شكل مركبات جاءت بآلاف الأكفان، وبعض الأرز والعدس، وعلب السّردين والحمّص والفول وبسكويت منتهي الصّلاحية .في حين كان الدعم اللامتناهي الذي حظي به الإحتلال سواء من الأبعدين او الأقربين فأمعن في عدوانه متفلتًا من كل ضوابط وقوانين الحروب المعترف بها. فبينما كانت قوافل الشهداء تواصل صعودها إلى السماء، كانت قوافل المساعدات تواصل دعْم القتلة، بمليارات الدولارات وجنود وخبراء ودبابات وعتاد، وأقمار صناعية وسفن حربية وصواريخ تبيد العباد

وتنتقل الكاتبة لترسم بقلمها صورة مأساوية شاهدها العالم أجمع عن هؤلاء الأطفال الذين تزاحموا لكتابة اسماءهم على اطرافهم حتى يتم التعرف عليهم عند إستشهادهم، وتنقل لنا الرواية طلب أحد هؤلاء الأولاد عندما قال: "اكتب اسمي الرباعي على يديّ ورجليّ، إذا مت شهيدًا يعرفوا أنا مين وابن مين عشان إذا اتقطع جسمي يجمعوني" ويكمل بسخرية من لا يخشى الموت، "بلاش يحطوا إيدك بدل إيدي، أو رجلك بدل رجلي، أنت قصير وأنا طويل، ما ينفع بصير أعرج في الجنة". وقد ترجمت لنا الكاتبة هذه الحادثة وحولتها إلى نشيد مستوحى من نشيد بكتب إسمك يا بلادي فكتبت:

"أكتب اسمي يا هادي ، على رجلي وعلى الإيد

يمكن نال الشّهادة وألحق أخي الشّهيد

يا غزة الأحرار بلبقلك الانتصار

 وتبقي مزروعة عالداير إكليل ورد وغار

ونعيّد عيدك والفرحة تزيدك قوة وعزم وإصرار." .

بواقعية وبدون روتوش تشير الكاتبة إلى ظاهرة العمالة والخيانة التي عرفها المخيم نتيجة لتجنيد ضعاف النفوس من شبابه هؤلاء الخونة خطرهم أقسى على السكان من الأعداء، ينخرون عظم الانتماء، ثمّ يتوارون بالخفاء"، تقول روزانا "رأى أبي جسّاسًا في زاوية، كان يراقب المشهد، ويخابر العدوّ من أجل بعض الشّواقل، ينجح ويخفق في ضبط أبطال المقاومة، وأيضا ما كشفته نورا عن تورط فريد وفريدة في تفجير الطّابق السّادس الذي يقطنه أحد المقاومين في البناية المقابلة، ورصد تحرّكات المقاومين، وتعاونهم مع العدوّ لتصفيتهم.وكانا يخابران العدوّ، ويعملان على نقل المعلومات له للقضاء على المقاومين من أجل الحصول على بعض النقود.

 لقد وفقت الكاتبة في التطرق إلى كتاب يوميات آنّا فرانك اليهودية الهولندية، ومذكراتها حول معاناتها تحت الاحتلال الألماني، وكيف أن العالم تضامن مع معاناة اليهود، ولإبراز ان العالم يكيل بمكيالين تقول روزانا : "يبكي العالم على موت (آنّا فرانك) بفايروس وهي في معسكر الإبادة ، ولا يبكي على قطاع يسكن فيه مليونا إنسان محاصر منذ ستة عشر عامًا ؟ وفي موقف سياسي مُعبّر تقرر روزانا التبول على كتاب آنّا فرانك وكأنها بذلك بالت على كل كتب التاريخ المزيف الذي يتلطى به الآخرين والذي يعتبر آنا فرانك مضطهدة في حين ينظر إلى روزانا على انّها إرهابية كما غالبية شعبها.

ربما لأن الكاتبة إمرأة وبالرغم من ان روايتها كما قلت تنتمي للأدب السياسي، إلا أنها لم تشأ إغفال بعض القضايا التي تتعرض لها المرأة ، سيما وان العنصر النسائي إستحوذ على مساحة لا بأس بها من الأحداث ومجرياتها وهذا ما يقربها أيضا من ألادب النسائي بشكل أو بآخر. وما يعزز هذا الرأي ما لمسناه من طرح الكاتبة لبعض القضايا التي تهم المرأة ومنها قضية الطلاق والتفكك الأسري كما هي قصة نورا التي انفصل والديها بالطلاق عن بعضهما وبدأت معاناتها مع زوجة أبيها فريدة واخوها المتحرش فريد.الذي لم يتورع أن يفبرك لها صورا فاضحة بغية إبتزازها ودفعها للرضوخ له ولمطالبه الدنيئة.

حالة نسوية ثانية أبرزتها الرواية تتمثل بالخالة زهرة التي نذرت نفسها للتعلم ولتعليم أخوتها، ونسيت نفسها بلا زوج وأولاد لأنها بقيت على عهد قطعته على نفسها أمام أمها ساعة الاحتضار، بأن تجمع شمل أخوتها كلّما اجتاحهم تيار القطيعة لأسباب واهية، وتقدّم لهم الدّعم الماليّ والمعنويّ ما استطاعت إليه سبيلًا .

في إشارة ولو بسيطة تشير الرواية لمسألة العنف الذي تتعرض له المرأة كما حصل مع والدة ابراهيم ونادين ومعاملة زوجها المخمور لها حيث كانت تتلقّى صفعة ترديها الأرض وتصيح من ألم: الله لا يسامحك، وينهض الأولاد من نومهم مذعورين، يتحلّقون حول أمهم التي تكوّرت في الزاوية، وقد أنهكت جسدها الرّكلات.ولم تغفل الكاتبة الدعوة إلى التعامل مع أصحاب الإحتياجات الخاصة بكل أنسانية وتعاطف في إشارتها إلى ليلى إبنة نادين فتقول روزانا "ازداد عطفي عليها، رحت أعاتب أيّ شخص يضحك على كلماتها غير المفهومة ولسانها الكبير المتدلي خارج فمها، أخبره أنها لا تستطيع التّنفس دون إخراجه".

لا يمكن مغادرة الرواية دون التنويه بالجانب الفنّي الذي نلمسه في أكثر من موضع، والذي يتمثل في تلك الأناشيد والأهازيج المعبرة والتي تخدم النص. كما ان بعض الأشعار امتازت بشىء من التناص الديني كما جاء في هذا المقطع:

"سأقتحم خلوة روحك إذا ما الليل عسعس..

وأكتب لك دهشتي .إذا ما الصّبح تنفّس..

وأرتّل عليك رقيتي.. إذا ما القلب توجّس خيفة،

إن أغمست حروفي بزيت عشقك المقدّس."

 ولأن الحرب لم تضع أوزارها بعد في قطاع غزّة ولم تزل تعبث بأمن القطاع وسكانه، فإن تراتيل في سفر روزانا لم تنته فصولاً بعد ، لذا إرتأت روزانا ان تترك النهاية مفتوحة وان تشارك القارىء في وضع ما يرتأيه من نهاية لهذه المعاناة، من هنا جاءت دعوتها لكل من سيتسنى له الإطلاع على هذا السِفر بأن لا يتعجّل نهايات تراجيدية بائسة، وتدعوه لكتابة نهايات أكثر سعادة، ويزيّنها بالصمود المدهش" . ورداً على دعوة الكاتبة هذه فنحن بدورنا ندعوها لأن تواصل الكتابة لتترجم ألم ومعاناة هذا الشعب المقهوركما فعلت في هذه الرواية وفي غيرها من الكتابات التي ننتظرها.

ختامًا مبارك للأديبة نزهة الرملاوي هذه الوثيقة وإلى المزيد من التألق والنجاح في مسيرتها الإبداعية.

***

عفيف قاووق – لبنان

شِعْرُ الرِّثَاء لَيْسَ تَجميعًا عشوائيًّا لِصِفَاتِ المَيِّتِ وخصائصِه وذِكرياتِه وأحلامِه، أوْ حُزْنًا عابرًا سَرْعَان مَا يَذهَب إلى النِّسيان، إنَّ شِعْر الرِّثَاء نظام إنساني مُتكامل، تَندمج فيه رَمزيةُ اللغةِ معَ مركزيةِ الألمِ لِتَوليدِ فَلسفةٍ اجتماعية تُؤَسِّس لحالة تَوَازُن بَين حَتميةِ المَوْتِ (الانطفاء) ومَرجعيةِ الحُزْنِ (الاشتعال)، حَيْث يَنبعث الحُزْنُ في التفاصيل اللغوية العميقة مِن أجْلِ تَجميدِ الزَّمَنِ، وتَخليدِ المَيِّتِ . وإذا كانَ البُكَاءُ على المَيِّتِ لَن يُرجعه، فإنَّ اللغةَ قادرة على إرجاع المَيِّتِ طَيْفًا حالمًا مُتَدَفِّقًا لا جسدًا ذابلًا مَحدودًا .

والإنسانُ في الواقعِ الماديِّ المُغْلَقِ هُوَ كِيَان مِن لَحْمٍ ودَمٍ، مَصِيرُه إلى التُّرابِ، ولكنَّ الإنسانَ في رَمزيةِ اللغةِ المفتوحةِ هُوَ تاريخ مِن بَريقٍ وفَضَاء، مَصيرُه إلى الذاكرةِ . وهذه الذاكرةُ ضَوْءٌ يَتَفَجَّر في أقاصي الشُّعور وأعماقِ المَعنى .

مَركزيةُ الألمِ في شِعْرِ الرِّثَاء لَيْسَتْ تَخليدًا للمَيِّتِ فَحَسْب، بَلْ هي أيضًا تَجسيدٌ للوِجْدَانِ وَفْق صُوَر شِعْرية مُهَيِّجَة للمَشاعرِ والأحاسيسِ، وإعادةُ تأويل للوُجود، بِحَيْث تُصبح الأحداثُ اليوميةُ المُعاشة تفاعلاتٍ مُستمرة بَيْنَ الألمِ والحُلْمِ، وانفعالاتٍ مُتواصلة بَيْنَ الحُزْنِ والرَّمْزِ، وهذا يُؤَدِّي إلى كَشْفِ أسرارِ الحَيَاةِ، ومَعرفةِ مَسَارِ الإنسانِ ومَصيرِه، والوُصولِ إلى مَغْزَى الروابطِ الإنسانيةِ والعَلاقاتِ الاجتماعية في عَالَمٍ مُتَغَيِّرٍ يَقُوم على التَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَّةِ والواقعية . ولا يُمكِن أن يَثْبُتَ الحُلْمُ إلا في الذاكرة، ولا يُمكِن أن يصير الجَسَدُ طَيْفًا إلا في اللغة .

والمَوْتُ يُفَجِّر الطاقةَ الرمزية في اللغة، فَتَصِير الكلماتُ شُعلةً مِنَ الحَنين، الحنين إلى أزمنة سحيقة لا تَتَكَرَّر، والحنين إلى أمكنة غابرة لا تَعُود، وتَصِير المعاني مصابيح مِنَ الدَّمْع، الدَّمْع النابع مِن التَّأمُّلِ في طبيعة الحياة الفانية، والدَّمْع النابع مِن ماهيَّة المَوْتِ باعتباره الحقيقة الوحيدة في كَومةِ الأوهام التي تُمَزِّق رُوحَ الإنسانِ، وتَستنزف جَسَدَه حتى الرَّمَقِ الأخير .

وإذا دَخَلَ المَوْتُ إلى فَلسفةِ اللغةِ نَصًّا ورمزًا وتَعبيرًا، فإنَّ زاوية الرُّؤية إلى الحياة سَتَتَغَيَّر، ويُصبح الطريقُ إلى مَعرفةِ النَّفْسِ البشرية طريقةً لتفكيك عناصرِ الوُجودِ والوِجْدَانِ معًا، وعِندئذ يَصِير الخَوْفُ مِنَ الزَّوَالِ حُضورًا لُغويًّا طاغيًا، ويُصبح الخَوْفُ مِنَ العَدَمِ وُجودًا قائمًا على خُلودِ الكلماتِ القادرة على حَمْلِ الإنسانِ رُوحًا وجَسَدًا، وحمايته مِنَ الفَنَاءِ، وحراسته مِنَ الماضي الذي لا يَمْضِي، والزَّوَالِ الذي لا يَزُول، والغِيَابِ الذي لا يَغِيب . ولا شَكَّ أنَّ الكلمات هي شرعيةُ البَقاءِ في عَالَمٍ لا يَبْقَى، ومَنْبَعُ اليَقينِ والأمانِ في عَالَمٍ تُسيطر عليها الشُّكُوكُ والمَخاوفُ .

والألمُ الذي يُسَبِّبُه المَوْتُ يُصبح _ مِن خِلال التَّكثيف الشِّعْريِّ _ دافعًا إلى الخُلودِ، وتَخليدِ اللحظة الآنِيَّة، حَيْث يَصِير المَوْتُ في شِعْر الرِّثَاء وِلادةً جديدةً، وانبعاثًا مُتواصلًا، واستعادةً لزمنِ الأحلامِ الوردية مِن قَبضةِ الغِيَابِ الخَشِنَةِ .

وكُلَّمَا تَجَذَّرَ الحُزْنُ في تفاصيل البناء اللغويِّ، تَكَرَّسَت العَلاقةُ الفلسفيةُ بَيْنَ الحَيَاةِ والمَوْتِ، واللمعانِ والانطفاءِ، والوُجودِ والعَدَمِ، والبَقَاءِ والفَنَاءِ، وهذه العَلاقةُ الفلسفيةُ تُسَاهِم في انتشالِ الذكرياتِ المَنسيةِ مِن هاوية الغيابِ السحيقة، واستعادةِ الأحلامِ المَقموعةِ مِن مَتاهةِ الزمن القديمة، كما تُسَاهِم في تَحديدِ الخَطِّ الفاصلِ بَيْنَ المَوْتِ بِوَصْفِه الحقيقة الوحيدة في الحياة، والمَوْتِ بِوَصْفِه الحياة الحقيقية القائمة بذاتها . وهذا يَعْني أنَّ للمَوْتِ وَجْهَيْن : معنوي ومادي، وبُعْدَيْن : مَحسوس وغَيْر مَحسوس .

وشِعْرُ الرِّثَاءِ يُعيد صِياغةَ العَلاقةِ بَيْنَ الألَمِ والبُكاءِ اعتمادًا على المَنظور اللغوي الرمزي، ويُعيد تَكوينَ المَعاني الفلسفية العَميقة استنادًا إلى ثُنائية (الخُلودِ / العَدَمِ) . والواقعُ المَادِيُّ نَسَقٌ حياتي زائل، والأحداثُ اليوميةُ أرشيفُ النِّسيانِ . والإنسانُ سَيُصبح طَيْفًا عابرًا، وذِكْرَى باهتة، كأنَّ شيئًا لَمْ يَكُنْ، ولكنَّ اللغة تَجعل الإنسان كِيَانًا مَعرفيًّا خالدًا، وكَينونةً فِكريةً باقيةً، لأنَّ اللغةَ خالدةٌ في قَلْبِ العَدَمِ، وباقيةٌ في الفراغِ المُوحِش .

إنَّ الألَمَ لَيْسَ شُعورًا هُلاميًّا مُجَرَّدًا، وإنَّما هُوَ نظامٌ فلسفي، وشكلٌ مِن أشكالِ الانبعاثِ الدائم، ومَركزيةُ الألَمِ في شِعْرِ الرِّثَاءِ تَجعل للمَوْتِ بُعْدًا جَمَالِيًّا، حَيْثُ تَؤُول لحظةُ الفِرَاقِ إلى لِقَاء مُتَجَدِّد معَ الماضي والحاضرِ، وتَصِير لحظةُ النهايةِ نُقْطَةَ انطلاقٍ لبداية جديدة، وتُصبح غُربةُ الرُّوحِ في البَدَنِ زَمَنًا مُتَدَفِّقًا في الهُوِيَّةِ المَعرفية للوُجود الإنسانيِّ، وَيَتَحَوَّل اغترابُ الجَسَدِ في التُّرَابِ إلى تَجربةٍ شِعْريةٍ لها أسرارُها المُستمدة مِن الصُّوَرِ الفَنِّيةِ المُدهِشة، ولها عوالمُها القائمةُ على الدمعِ المُضِيء في نظام استهلاكي مادي مُعْتِم، ولها جُذورُها الراسخة في الروابط الإنسانية النبيلة . وكأنَّ صَدْمَةَ المَوْتِ تُولِّد أزمنةً جديدةً للحياة، وتَفْتَح الماضي على الوَعْي بالحاضر، مِن أجْلِ حِمايةِ مَاهِيَّةِ التاريخ مِنَ الانكسار، وحِمايةِ سُلطةِ الحضارة مِنَ الانهيار .

وإذا امْتَصَّ الإنسانُ صَدْمَةَ المَوْتِ، وفَرَّغَ ألَمَه وحُزْنَه في اللغةِ، فَإنَّ اللغةَ سَتُعِيد اكتشافَ أسرارِ الوُجود التي تَنْمُو في داخلِ الإنسانِ، وتُعِيد تَرتيبَ العلاقاتِ الاجتماعية في الأحداث اليومية، فَيُصبح المَوْتُ بِدايةً جديدةً للأحلامِ والذكريات، وتأمُّلًا دائمًا في الحياةِ باعتبارها الفُرصة الوحيدة للإنسان كَي يَترك بَصْمَتَه في رُوحِ التاريخ، ويَترك أثَرَه عَلى جَسَدِ الحضارة .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

لعلّ أهمَّ ما يلفت انتباهَ قارئ رواية "نهاية الصحراء" للجزائريّ "سعيد خطيبي )ط1: 2022) بناؤها السرديُّ المرتكِز على حبكةٍ بوليسيّةٍ، تُفتتَح الأحداثُ فيها بمقتل مغنيّةٍ شابّةٍ تُدعى: "زكيّة زغواني" تعمل في فندقٍ سياحيٍّ اسمُه: "فندق الصحراء".  يمكن للقارئ أن يُوجِّه تلقِّيَه نحو هذا الحدثِ المفصليِّ، ويتوغّل في تفاصيله مثلما يتوغّل قارئُ أيّة روايةٍ بوليسيّةٍ، تتأسّس جماليّاتُها على تعدُّد الاحتمالات، وتكاثف الاشتباهات، التي لا بدّ أن تُتابَع باهتمامٍ، ليُحتفَظ ببعضها، ويُقصى بعضُها الآخر، إلى حين الوصول في الختام إلى حلِّ لغز الجريمة، والتعرُّف إلى هويّة القاتل، الذي غالبا ما لا يكون ضمن دائرة التخمين والشكوك.  ومن هذه الناحية يمكن أن نسجِّل براعة الكاتب في نسج حبكةٍ بوليسيّةٍ متينةٍ، بدت معها أغلبُ الشخوص مُشتبها فيها، وبدت بريئةً أيضا؛ فمن ناحيةٍ يُوجَّه الاتهامُ رسميّا إلى "بشير" حبيبها، ولكنّه من ناحيةٍ ثانيةٍ يدور أيضا بشكلٍ غير رسميٍّ حول كثيرين ممّن عمد الكاتبُ إلى ربطهم بالمجنيِّ عليها في شبكةٍ من العلاقات الغامضة الملتبسة؛ كإخوتها الناقمين عليها سلوكَها ومهنتَها، و"الشيخة ذهبيّة" منافستها التي من مصلحتها التخلُّص منها، وسكّان المرج النازحين "أبناء الحرام" الذين ربّما قتلها أحدُ مشعوذيهم، و"فرحات" عازف المرقص الذي طُرِد بسببها من عمله، و"كمال" موظف الاستقبال الذي كانت تبتزّه بعد أن كشفت قتلَه للسياسيّة "مرزاقة"، أو "ميمون" مالك الفندق الذي كان سيتزوّجها، وخشي طمعَها في أملاكه، أو "ميلود" منافسه الذي ربّما فعلها انتقاما منه لامتناعه عن بيعه الفندقَ، أو لعلّها زوجته الغيور "الياقوت"، أو ابنه "مهدي"، أو خطيبها السابق "بنسالم"...  أو ربّما "حميد" المكلَّف بالتحقيق في مقتلها بعد أن صدّتْه، أو لعلّ أحدا من هؤلاء لم يقتلها، ولقيت مصرَعها كما افترض الطبيبُ الشرعيُّ إثر سقوطٍ مميتٍ في أرض المرج الوعرة، وهنا يكون "عزرائيل" هو الذي فعلها، كما ردّد "كمال" في أحد المقاطع (ص: 161).

هكذا تسير حبكة الرواية سيرا تصاعديّا لا يملك معه المتلقِّي سوى مواصلة القراءة بحثا عن هوية القاتل، الذي يتفنّن الكاتبُ ببراعةٍ في تمويه ملامحِه، لتتكشّف في الأخير، ونعرف أنّه "كمال" بالتعاون مع حبيبته المحامية "حسينة"!

ولكنْ، هل هذا كلُّ شيء؟ هل يمكن أن يراهن كاتبٌ مهمٌّ مثل "خطيبي" على حبكةٍ مُستهلَكةٍ ينتهي بريقُها بانتهاء القراءة الأولى؟ شأنها في هذا شأن جميع الروايات البوليسيّة التي تُدرَج ضمن ما يُعرَف بالأدب الهامشيّ/ الموازي (Paralittérature) لم يحمله النقّادُ يوما على محمل الجدّ، لأنّه في نظرهم لا يرتقي إلى مرتبة الأدب الرسميّ؛ أدب الحياة والفكر والواقع.

هنا يأتي دورُ قارئٍ من نوعٍ خاصٍّ لا تشغله تفاصيلُ هذه الحبكة الخارجيّة، ولا يُغريه احتدامُها، لأنّه سيمضي نحو ما هو أبعد؛ نحو "الجريمة الكبرى" جريمة "قتل الوطن" التي تُقترَف علنا على غير بقيّة الجرائم، حيث الكلُّ جناةٌ ومجنيٌّ عليهم، قضاةٌ، ومُدّعون، سجّانون، ومسجونون، على غير بقيّة الجرائم أيضا، عند هذا المستوى الغائر من السرد يبرع الكاتبُ في بسط تفاصيل هذه الجريمة بحبكةٍ محكمَةٍ، تتخلّل وعيَنا بتأنٍّ، وعلى جرعاتٍ خافتةٍ، تبدو في كثيرٍ من المقاطع غير مقصودةٍ، لكنّها مقصودةٌ جدّا ومُتوخّاةٌ من الكاتب، الذي ينقلها إلينا بحذقٍ شديدٍ، وبعفويّةٍ كبيرةٍ من الشخوص في تداعيات أفكارهم، وتفاعلهم مع محيطهم، وهذا اعتمادا على تقنيّة تعدّد الأصوات، حيث تُدلي كلُّ شخصيّة برأيها ورؤيتها لما يدور حولها من تغيُّراتٍ وأحداثٍ، لا يغفل الكاتبُ عن التأريخ لأغلبها. وكما تتراصّ مُكعّباتُ الفسيفساء، وتحقِّق بتلاحمها جماليّة اللوحة ومعناها، كذلك تتراصّ أصواتُ الشخوص في هذه الرواية، لتُكوِّن في مجملها فداحة الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ في جزائر الثمانينيّات وما قبلها، هنا على القارئ أن يشحذ وعيَه كاملا، ويتلقّف مكعّبات الواقع قطعةً قطعةً، ليضع كلَّ واحدةٍ منها في مكانها، فتكتمل لديه عندها دمويّة المشهد، وتحضر جميعُ ملابسات "الجريمة" التي لن يُحاكَم فيها أحدٌ، ولن يُدان، شأنها شأنَ جميع الجرائم الكونيّة الكبرى: أليس مَن يقتل فردا يُدعى مجرما، ويُقتصّ منه، بينما مَن يقتل الألوفَ أو الملايين يُدعى بطلا، وقائدا مُفدّى؟

ولنحاولْ تأمُّل بعضَ هذه الملابسات على عجلٍ؛ فمثلا تلوح في كثيرٍ من المقاطع مشاكلُ الفساد والرشوة والواسطة والغشّ، والاحتكار، والاختلاس، والتسوُّل، والسرقة، وتفاوت الأرزاق، وضعف البنى التحيّة والفوقيّة، كأزمة ندرة الموادّ الغذائيّة الأساسيّة، واختفاء الأدوية الضروريّة من الصيدليّات، وانقطاع الماء عن البيوت، ومثله الغاز، والبنزين، والكهرباء، إلى جانب إهمال الفكر والثقافة، فلم تعد مكتبة البلديّة سوى وكرٍ للعشّاق المراهقين، ولم يعد للناس من يقينٍ سوى ذاك الذي تقرّه الخرافات والأوهام والشائعات؛ لم يعد يريحهم سوى الهرب وتخدير آلامهم بالجنس أو الحشيش، أو الخمر، أو ارتياد المراقص، أو زيارة الأولياء أو هوس كرة القدم أو الهجرة بعيدا إلى ما وراء البحار، أو قهر الإناث من ذويهم، أو ارتكاب الجرائم ودخول السجن، أو الجنون أو الانتحار... لم يعد الواقع يُطاق، فلا الحاضر حيث البقُّ والصراصير والجراد يبشِّر بخيرٍ، ولا الماضي المثقَل بالأحلام الكبيرة استطاع أن يستوفيها، لم يُضبَط شيءٌ، ولم يحصل أحدٌ على ما يستحقّ: الفاسدون والمرتشون ملكوا الأرضَ والعبادَ، والمخلِصون والشرفاء أهينوا وشُوِّهت سيرتُهم،  باختصارٍ شديدٍ، وكما جاء في الرواية في أكثر من مقطعٍ: "الداب راكب مولاه" ولذا لا مفرّ من الانفجار المدوِّي بدءا بالإضرابات التي اشتعل فتيلُها في "تيزي وزو"، وانتشر في بقيّة الولايات، ومرورا بأعمال الشغب التي رافقتها، وتحطيم الممتلكات العامّة والخاصّة، وصولا إلى العنف الشنيع وحملات الاعتقال التي انتهت بها، وكان أحدها وياللمفارقة! من نصيب "إبراهيم درّاس" وهو الشخصيّة الوحيدة التي لم يُعنوَن أيٌّ من الفصول باسمها، بل دُوِّن التاريخ فقط، لتكون شاهدا على الأحداث، ومحورَ العبث والمفارقات كلِّها؛ فهاجسه الكبيرُ كان العثور على ما يفيد أنّه ابنُ شهيد، فيحصل وأمّه على ما يحصل عليه غيرهما من أموالٍ وامتيازاتٍ، ويُعفى كغيره من أبناء الشهداء من واجب الخدمة الوطنيّة، فيحظى بوظيفةٍ رسميّةٍ بدل هدر الوقت في محلِّه البائس لتأجير الأفلام.  وهو ما لم يحصل عليه، رغم استحقاقه له، لأنّ "ميمون" الذي عرف كيف يجني ثمارَ النضال شوّه سيرة والده المجاهد العريق، وجعله "بيوعا" مكروها. ولم يتوقّف الظلمُ الواقعُ عليه عند هذا الحدّ؛ ففي فورة الأحداث الدامية تمّ اعتقالُه للاشتباه في مشاركته في أعمال النهب والشغب، مع أنّه حينها كان في السجن لتهمةٍ أخرى!

أعتقد أنّ هذا المستوى من القراءة هو ما يشكّل جوهرَ هذه الرواية وعصَبَها العميق، وقد تعمّد الكاتبُ ألّا يربط الأحداثَ بمدينةٍ بعينها، بل اختار إحدى مدن الصحراء لتكون إيماءً مكانيّا لجميع مدن الجزائر، فكان ممكنا أن يختار إحدى المدن الجبليّة، فيصبح على سبيل المثال "مطعم النخيل" "مطعمَ الروابي" و"دوار الإبريق" "دوّارَ السنديان" و"فندق الصحراء" "فندقَ القِمَم" و"محلّ وردة الرمال" "محلَّ زهرة الجبال" أو يختارها ساحليّة، فيطالعنا حينها: "مطعم المحيط" و"دوّار الدلفين" و"فندق الأمواج" و"محلّ نجمة البحار" ليس مهمّا المكان، بل المهمّ ما يحدث فيه، وقد نجح الكاتبُ في رصف الأحداث ببراعةٍ عالية، وذوقٍ أصيلٍ.  وهنا أنتقل إلى مستوى آخر هو مستوى اللغة السرديّة، وقد برع الكاتبُ في تطويع الأمثال الشعبيّة، والمأثورات الغنائيّة على ألسنة شخوصه، كما برع أيضا في سوْق كثيرٍ من التشبيهات الطريفة في خطابه، مثل: "جلد رقبته مجعَّدٌ مثل ثوب لم يُكوَ"(ص: 136) "كما لو أنّ معدته بالوعة" (ص: 174)

ولكنّه من ناحيةٍ ثانية، لم يُحكمْ نسيجَه اللغويّ في كثيرٍ من المواضع، فأتت لغة السرد – دون الوقوف عند بعض الأغلاط اللغويّة الواضحة – ركيكةً وضعيفة، مثل: "جرحت عزّتَه بالنفس" (ص: 187) "فقِهتُ أنّ" (ص: 46) "يتفخّر" (ص: 211) "لم يبزغ في بالي" (ص: 261) "يتجشّمن فظاظة الكلام" (ص: 91) وغيرها كثيرٌ، ممّا يثير الحيرة حقّا: ما الذي يدعو الكاتبَ إلى الوقوع في مثل هذه التعابير الركيكة؟ تماهيا مع الواقع الركيك نفسه؟ أم سهوا واستعجالا؟ هل ضعف لغة السرد يضعف بناءَه؟ أم أنّ متانة البناء تمحو كلَّ خللٍ ينتاب أيَّ عنصرٍ آخر سواها؟

القارئ وحده هو الذي يختار، ويقرِّر: إمّا أن يعتبر ضعفَ اللغة عاملَ ضعفٍ قاتلٍ في العمل، وإمّا أن يتسامح معه مكتفيا بعمق الحبكة المفصليّة، أو لا ينتبه إليه، وهذا إذا كان وعيُه لا يتجاوز الحبكة البوليسيّة الظاهرة. وما أراه هو أنّ هذه الرواية – في حدود ما قرأتُ – كان من الممكن أن تكون من أهمِّ ما كُتب عن جزائر الثمانينيّات، ومن أهمِّ ما وَثّق لأحداث أكتوبر الدامية، لولا أنّ بناءَها اللغويّ لم يُعتنَ به جيِّدا: الروائيّون ملتقِطو واقعٍ، وعُشّاقُ لغةٍ، وإن تخلّوا عن الشقِّ الثاني فقدوا كثيرا من جوهر فنِّهم، وتحوّلوا إلى صحافيّين.

***

ا. د. بهاء بن نوار/ الجزائر

شهدت العشرون سنة الأخيرة ولادة أجيال من المُبدعات والمُبدعين، في مختلف مجالات الأدب والفن، يتميزون بالجرأة في اقتحام المنصّات والساحات المختلفة مع ثقة بأنّهم يأتون بالجديد المُميَّز الذي لم يسبقهم إليه أحدٌ، هذا صحيح في دول الخليج العربي بعد انفتاح مجتمعاتها على العالم الواسع، وفي مختلف أقطار العالم العربي بعد الإحباط الذي حطّ على شعوبها العربية بنكسة ثورات الربيع العربي التي حمَلت الكثيرَ من الأوهام والأمنيات والرَّغبات، وانتهت بتحطيم مُعظمها، وحُكم وبَطش الجماعات الدينية المُتطرّفة مثل داعش والنُّصرة، وتفجير الصّراعات الدينية والطائفية والقَبَليّة، وتقسيم كل دولة من مُعظم دول المركز العربي إلى دُوَيْلات مُتصارعة، وجيوش تُقاتل بعضها وتُمزّق وحدة الوطن والشعب. وصحيح أيضا في فلسطين، في الداخل المحتل وفي المَنافي والشتات، حيث بدأ هذا التّحوّل بعد اتّفاق أوسلو وسرعة انحسار الوهم الذي بشّرّ بالسلام والرفاهية والحريّة والاستقلال وقيام الدولة العتيدة.

هذه الأجيال الشابّة أخذت تفقد ثقتها بآبائها وبما لقّنوهم من مفاهيم ومبادئ وأفكار، وتبحث لها عن طُرق جديدة خَلّاقة منطلقة من الواقع المَعيش وساعية للتّغيير وخَلق البديل الأفضل بعيدا عن الخيالات الخادعة والبطولات الوهمية وانتظار نُصرة الرب ورُسُله ومَلائكته.

وأوّلُ رواية قرأتُها بعد اتّفاق "أوسلو" وعودة المئات من المُهجّرين والمُبعدين وبداية قيام السلطة الفلسطينية للكاتب الشاب سامح خضر "يعدو بساق واحدة" يطرح فيها المشاكل التي واجهت العائدين إلى وطنهم بعد اتّفاق أوسلو وموقف الشباب الفتيان من هذه التحوّلات السّريعة والغريبة التي عايشها الشاب الفلسطيني في بلد طالما حلم به ولم يره اسمه "فلسطين"، لكنّ صدمات اللقاء بالوطن حلّت الواحدة تلو الأخرى، فالوطن الذي حلم الفلسطيني به في المّنفى، وعمل للعودة إليه، غير الوطن الذي وصل إليه عَبْرَ بوّابات يحرسها جنود الاحتلال، وتُقيَّدُ فيه تحرّكات ومكان سكناه"( نبيه القاسم: رحلة مع غوايات الإبداع. شروق2019).

ومن الروايات التي قرأتها للكاتب أحمد أبو سليم رواية "يس" ورواية "سوداد" لفاروق وادي ورواية "سماء القدس السابعة" لأسامة العيسة. وروايات لعدد من الجيل الشاب، كلّها تتمرّد على ما كان، وتبتكر لها أسلوبا وبناء ونهجا ومواقف غير التي عهدناها في روايات سابقة.

وفرحنا بسماع خبر فوز رواية الكاتب الشاب السّجين باسم خندقجي "قناع بلون السماء" بجائزة البوكر للرواية العربية لعام 2024. وفرحتنا جاءت لسببين:

 الأوّل أنّها رواية تستحق الجائزة للفنية العالية التي كُتبت بها وللقضية المهمة التي عالجتها. والطرح الشجاع الجديد الذي قدّمه الكاتب.

والثاني لكَوْن كاتبها سجين يُعاني ظروف السجن القاسية ورغم ذلك قدّم عملا أدبيا راقيا ومتميّزا.

***

رواية "قناع بلون السماء"

بإعلان فوز الرواية بجائزة البوكر العربية لعام 2024 كثرت المقالات الصّحفية التي تناولتها بالتحليل والتقديم والتقييم وإبداء الرأي وعَرْض مختلف جوانب الرواية من حيث البناء والمواضيع التي عالجتها. وكنتُ قد شاركتُ في أمسية أدبية حول الرواية أدارها الدكتور علي الجريري وشارك فيها العديد من الكتّاب والنقاد مثل بروفيسور إبراهيم السعافين والكاتب محمود شقير والدكتورة ناديا عوض والأساتذة عدنان أبو ناصر، سونيا نمر، نجوى غانم ولبابة صبري.

وفي مداخلتي التي قدّمتها عن الرواية تناولت جانبا مهما لم يتطرّق إليه أحدٌ غيري وهو رؤية بطل الرواية لكيفيّة مواجهة الآخر المُحتل، ومحاولة التّوصّل إلى حلّ قضية الصراع ما بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي. مُتّبعا أسلوبا جديدا وخطّة مبتكرة لا تسعى لمحو الآخر وإنّما للوصول إلى حلّ مقبول معه.

باسم خندقجي في رواية "قناع بلون السماء"

«أنا لا أرتدي قناعا، أنا أرتدي مسخا.. بل أنا هو المسخ الذي ولد من رَحم النكبة والأزقّةِ، والحيرة، والغُربةِ، والصّمت. أنا المسخُ يا صديقي، فهل من رَحم تلدُني مرّة أخرى إنسانا؟"

بهذه الكلمات الحادّة المؤلمة يُلخّصُ نور بطلُ رواية "قناع بلون السّماء" كلَّ المأساة التي يعيشُها الإنسان الفلسطيني الذي يُواجِهُ من لحظة خروجه إلى الحياة مُحاولات الطّمس والإذلال والتّطويع والاستسلام والقُبول بما يُسْمَح له، ليس فقط من قبَل الغرباء والأعداء، وإنّما من قبَل الأشقاء، وحتى أفراد البيت. ويجد نفسَه أمام خيارين فقط:

*إمّا القُبولُ والتَّسليم والرِّضا

* وإمّا الرَّفضُ وإعلانُ التّمرّد والثورة والخروج للمُواجَهة.

هكذا هي حالةُ نور الذي وُلد ساعة فارقت أمُّه الحياة وهي في العشرين من عمرها ليعيش في رعاية جدّته بينما والدُه بطلُ الانتفاضة الأولى التي تفجّرت في كلّ الأراضي المحتلة عام 1987، وبطل المُخيّم يقبع في السجن مُهمَلا، لا يَسْأل عنه أحدٌ من رفاق النّضال، ويخرج بعد اتّفاق أوسلو ليجدَ معظمَهم يَحظَوْن بالمَراتب والوظائف والغِنى، فغضب وقطع علاقتَه بهم وآثر بيعَ القهوة والشاي والسّحلب ولا يذل للآخرين، وعندما أرادوا منحَ ابنه نور منحة دراسية رفض قبولَها. وكان يُضَيّق على نور ويعزلُه عن الأولاد في المخيم والزقاقات، ويحشرُه في البيت في الحجرة البائسة فيصرخ نور كاتما صوته:

- "مَن أنا؟ مَن أبي؟ ما هي الأزقة؟ أين هويّتي؟ أين ظلّي؟ أين مرآتي؟ ماذا أفعل هنا؟ ليس ثمّة مجريات خاصّة بي هنا، ليس ثمّة أحداث، لا وقائع، لا مناسبات، لا مكوّناتٌ لذاكرة جديدة، لا أعياد، لا ملابس جديدة، لا أنخاب للحياة.. للصداقة.. للحبّ.. للقصائد.. للرقص." (ص76)

وقطع نور كلَّ علاقة له بالمخيّم منذ خرج والدُه من المعتقل ومنذ اعتقال صديقه مراد. فهو يسعى للتحرّر، "لا يريدُ الموت على مراحل كأبيه. فهو سيلدُ أباه وأمّه منه، سيلدُ هويّته، سيستعيدُ ذاته، سيحرق قناعَه. وسينبعث من رماده. يسترجعه من تأمّله وهواجسه."(ص76- 77)

نور حَزَم أمرَه واختار المُواجهة مع الآخر.. ولكن بأسلوب جديد وفكر مُغاير رافضا موقف والده في استسلامه للواقع وتفضيله الانزواء والتوحّد وقَطْع علاقته مع كل مَنْ حوله. وكذلك رفض مواقفَ صديقه مراد الدافعة للمقاومة والمواجهة التي أدّت به إلى السجن حيث سيقضي سنوات عمره المُتبقية.

عمل نور خارج المخيّم في الورش والأعمال داخل المدن اليهودية ومن ثم الفنادق في القدس، وفي مُرافقة وإرشاد الفرق السياحية في العديد من مواقع البلاد المختلفة جعله يكتشف أنَّ الصّراع الأساسي ما بين الفلسطيني والإسرائيلي هو على ملكية الأرض وتبعيّتها. وقد نجح اليهود في تسويق الأفكار والأساطير والآثار التي يجتهدون في الحَفْر فيها واستنطاقها لإثبات أنّ هذه البلاد من حقّهم وأنّها هِبَةُ الربّ لهم منذ بدء الكون. وقد نجحوا في اقناع العالم وحتى أنفسَهم بذلك. وعملوا على أَسْطرة المأساة والإمعان في تخيّلها. مُتّخذين من الكتب الدينية مُرتكزا تاريخيا لصدق روايتهم، وكأنّ ليوناردو دافنشي قصدهم بقوله: "كثيرون هم الذين اتّخذوا من الأوهام والمُعجزات الزّائفة وخداع البشر تجارة لهم".

ويتّخذ نور قرارَه بالعمل على كَشْف الزّيف وتسخيف الرواية وإظهار الحقيقة وفَضْح المؤامرة التي اتّفق عليها الجميع ضدّ الفلسطيني.

وكانت قراءته لرواية دان براون "شيفرة دافنشي" المُنبّه إلى هذا التزييف والخَلْق الجديد للتاريخ حيث يقول دان براون إنَّ مريم المجدلية لا علاقة لها بالانتماء الفلسطيني فهي يهودية تنتمي لعائلة "بنيامين" الملكية كما كان المسيح من عائلة داود وهو سليل الملك سليمان ملك اليهود. وإنَّ علاقة المسيح بمريم المجدلية هي التي تُشكل أسطورة "الكأس المقدّسة"(شيفرة دافنشي (ص279- 278) ومن ثم يأخذ بمريم المجدلية إلى فرنسا وأنَّ هناك مَن يحرس مَدْفن مريم المَجدلية ويحتفظ بالسرّ. ومَخبأ "الكأس المقدسة" هو في الحقيقة مَدفَن يحتوي على بقايا جسد مريم المجدلية والوثائق التي تروي قصة حياتها الحقيقية، والمَقصد الحقيقي من وراء البحث عن "الكأس المقدسة" كان دائما بحثا عن مريم المجدلية"(شيفرة دافنشي ص287)                        

ويتساءل نور:

"هل كان دان براون يتخيّل التاريخ أم كان يُخاتله؟ ما الذي فعله بالمَجدلية؟ لماذا ينتزع كاتبٌ أجنبيّ المجدليّة من سياقها التاريخي الجغرافي الفلسطيني ليُلقي بها في مَهاوي الغرب؟ لماذا؟"(ص24)

وكان، لمَن يذكر، الإعلان الكبير عن الفيلم التّوثيقي الذي جرى عرض بعضه في نيويورك بعد ظهر يوم الإثنين 26.2.2007 ويظهر فيه اكتشاف مغارة في مدينة القدس فيها عدّة توابيت للمسيح وأمّه مريم ومريم المجدلية وآخرين من أفراد العائلة. (ידיעות אחרונות 26.2.2007)

ويستنكر نور ما يراه من التّغييب الكامل للفلسطينية مريم المجدلية التي ووجهت بالعداء والرّفض من أيام المسيح برفض بطرس الرسول وزملائه لها، ومحاولة تأليب يسوع ضدّها. وبعد صلب يسوع قاموا بإخفاء كلّ ذكر لها وأبقوا على إشارات قليلة مُتباعدة. ورسموها بصورة سلبية، وكيف على مرّ الأجيال، استمر المَحْوُ لها وتَجاهل أصلها الفلسطيني، وجعلوها تتكلّمُ العديدَ من اللغات ما عدا العربية، وتجاهلوا، وحتى أخفوا كُتبَ دينيّة مثل "إنجيل المجدلية" و "إنجيل فيليب" وغيرهما من التي تُبرز الدَّوْرَ الكبيرَ لمريم المجدلية ومَكانتها في حياة يسوع المسيح وحظوتها عنده ممّا دفع بنور للقيام باسترداد المجدلية لموقعها وقداستها ومركزيّتها بالبحث والتنقيب في كلّ المصادر المُتاحة والمُمكن الوصول إليها.

الركائز الأساسية لانطلاقة نور نحو المُواجه

نور النّموذج للفلسطيني

نور ولد كآلاف الفلسطينيين يتيما، فقَدَ أمّه لحظة ولادته، ولا أب يرعاه لأنّ أباه سجين لاشتراكه في قيادة الانتفاضة ومُواجهة جُند الاحتلال، فنور كما يصفُه الرّاوي "هو المَفجوع والمَكلوم والكاتم والمكتوم والتّائه والمُغترب الذي وُلد جاهزا مُجهّزا بكلّ عتاد البؤس المُتاح وغير المتاح في الأزقّة، فطفولته الزّقاقيّة اسمنتية لم يولد ويترعرع فيها، بل وُلد منها (ص15- 16).

لم تتغيّر حياة نور للأفضل بعد خروج والده من السجن، بل زادت صعوبة لمَنْعه من الاختلاط بأولاد المخيم والتّجوال في الأزقة. وهو ككل سكان المخيم ومعظم الفلسطينيين الذين شُرّدوا وهُجّروا من بيوتهم ووطنهم عام النكبة وعام النكسة وعام باقي التّسميات!، يُواجَهُ أوّل ما يخرج من المخيم بصفة "لاجئ" فهو في أزقة المخيّم ليس بلاجئ، ليس ثمّة مَن يُذكّره بهذا، وأمّا في "هذه المدينة الإسمنتيّة الكبيرة رام الله والبيرة فهو لاجئ" (ص26)، وهكذا حال الفلسطيني خارج حدود المُخيم فهو اللاجئ المنبوذ المحروم المُضطهد والمُتّهم وليس في رام الله فقط.

ويُشاهدُ نور المُواجهات بين الشباب وجُند الاحتلال في المخيم وخارجه، ويُتابع ما تبثه وتنشرُه وسائلُ الاتّصال المختلفة، ويقرأ الكتبَ المتنوّعة ومنها الدينيّة، ويزداد معرفة وثقافة ونضوجا وقُدْرة على الاختيار فانتسب للمعهد العالي للآثار الإسلاميّة التابع لجامعة القدس مُندفعا للوصول إلى الحقيقة التي يُؤمن بها أنّ تاريخ هذه البلاد زُيِّف وشُوِّه وأُخْفي الكثير منه، وتجربته مع مريم المجدليّة كانت التي نبّهته وأطلعته على مدى اتّفاق الجميع على تغييب الفلسطيني وتسخيفه وحتى محو كل ذكر له. وكيف أنّهم جعلوا من الكتب الدينيّة التي كتبوها وقدّسوها مصدرَ معلوماتهم وارتكازهم ومرجعهم لإثبات أحقيّتهم في هذه البلاد، حتى أنّهم جعلوا الله يمنحهم هذه البلاد ويباركهم بها لتكونَ لهم، ولم يتورّعوا عن التّزييف وحتى المَحو من هذه الكتب الدينيّة كلَّ ما وجدوه يُعارضُ أو ينقُضُ ادّعاءاتهم.

ووجد نور أنّ مهمّته الأساسيّة تتحدّد في التّصدّي لرواية الآخرين وتثبيت الحقيقة الوحيدة وهي أنّ هذه البلاد لأبنائها الأصليين.

وكان اختياره دراسة علم الآثار الخطوة الأولى في مواجهته للآخر، والسّعي لإظهار وإثبات زيف الرواية التي خلقها هذا الآخر وآمن بها ونشرها ليتبنّاها كلّ الناس.

لكنّ نور سرعان ما اكتشف أنّ كلّ السُّبل الموصلة به إلى الحقيقة، إذا كان بالحصول على المراجع التاريخية وزيارة المواقع الأثريّة والمتاحف الموجودة في بلاده ممنوعة عليه، ولا يُمكنه الدّخول إليها بحرية وأمان لكونه فلسطينيّا من سكان الأراضي المحتلّة.

وكانت الصدفة التي فتحت له كلّ الأبواب الموصَدة يوم كان يعمل في ورشة مع صديقه مراد ومجموعة من الشباب في مدينة " ريشون ليتسيون" عندما فاجأتهم دورية شرطة، ولحسن حظّه كان في الحمّام، وعندما خرج ارتبك في البداية، لكنه تذكّر مُناداة الأولاد له في المخيم بالسّكناجي لشَبهه باليهود الشكناز (ص40)، فتصرّف بشكل طبيعي، وسار مارًّا أمام أفراد الشرطة الذين ظنّوه يهوديا لزُرقة عينيه وبياض بشرته واتقانه اللغة العبرية.

وهكذا بدأ نور يستغلّ مَظهرَه الأشكنازي للتّنقّل داخل البلاد حتى صدَف وعثر في جيب معطف اشتراه من سوق الخردوات في مدينة " يافا" على بطاقة هويّة لشاب يهودي باسم أور شبيرا يبدو أنه كان صاحب المعطف الذي اشتراه. فسارع نور باستغلال البطاقة ليتّخذها قناعَه الآمن في شخصية أور شبيرا اليهودي الاشكنازي ليتجوَّل في كل البلاد بحرية، ويحضرُ الندوات والمؤتمرات، ويزور المتاحف وأينما رغب.

وبدأ نور يضيق بالمخيّم "فلا شيئ هنا سوى تسجيله وإصغائه لبطاقاته الصوتيّة. لا شيئ له في هذه الحجرة المُلقاة فوق بيت صغير مُشيّد من الأزقة، أزقّة المخيّم الواقع في رام الله، الواقعة في الالتباس والارتكاب اليومي لكلّ الحَماقات والخَطايا. رام الله التي لا أقنعة فيها ولا مَلامح، ولا حياة، فالحياة في رام الله مُفاوضات، والمفاوضاتُ بحاجة إلى شارع، والشارع هو العَبد المُعَبّد الذي تمَّ تعبيدُه بكلّ ما أحال أبوه إلى بقايا.. إلى أشلاء. إلى أزقّة صَمْت وهمهمات." (ص72- 73)

ولماذا يضيق نور بهذا القناع الذي اتّخذه وقد انقلبت أحواله وأقدارُه وأدّت به إلى الاغتراب التام عن واقعه الزّقاقيّ، صحيح أنَّ لا أقنعة في رام الله لأنَّ رام الله هي القناع. فنور يُدرك أكثر من أيّ وقت مضى "أنّه يعيش في ظلال الأقنعة منذ ثلاثين عاما، إذ هو بقناع المَلامح وأور شابيرا، وأما قناع أبيه فهو الصّمت، والمٌخيّم قناعه رام الله قاطبة، والقناع بحاجة إلى وقت، والوقت لا يُسعفه بخفّة مباركة تمضي على عَجَل، كلّا، فالوقت أمامه، وراءه، فوقه، أسفله، يُحيط به بروائح الإسمنت والصدأ والرّطوبة والطحالب والعَفَن والخوف والمُلاحقة". (ص73)

وبدأت المواجهة الكبيرة مع الآخر بأن اتّخذه قناعا له، وبواسطته يدخل إلى عالمه المَخفي ليكشف كلّ أسراره ومَنابع قوّته وأساليبه في السيطرة وامتلاك القوّة.

ولكنه بقناع أور شابيرا أوقع نفسَه في مواجهة أصعب وأشدّ مع صديقه ورفيق عمره مراد القابع في السجن والرّافض لقناع أور ويُشَدّد على نور كي يتخلّى عنه ويعود لنور الحقيقي.

لكنّ نور رفض طلب مراد لأنه اقتنع أنّ طريق المُواجهة مع الآخر تفرض اختراقَه من الداخل، لمَعرفة كلّ أسراره وكَشْف كلّ ألاعيبه وأساليبه، وبذلك ينجح في تَعْرية الزّيف والوصول إلى الحقيقة وتثبيتها.

لقد تأكّد لنور أنّ طريقة مراد في مواجهته العنيفة للمُحتلّ فشلت، وانتهت بالحكم عليه بثلاثة مُؤبَّدات، ممّا يعني أنْ يقضي سنوات عمره في السجن. ورفض طريقة والده في مواجهة المُحتَل بالصّدامات المختلفة حيث أوصلته إلى السجن والحكم عليه لمدة خمس عشرة سنة، قضى منها في السجن خمس سنوات، وانتهت باتفاق أوسلو وانحراف الكثير من المناضلين، وصَمت والده واختياره الموت على مَراحل.

هذه الوقائع والتّحوّلات مع زيادة بطش المُحتل وتوغله زادت نور يقينا أنّه فقط باختراق الآخر، وتتبّع خطواته، وكشف أساليبه، ومعرفة مصادر قوّته يُمكنه، إنْ لم ينتصر عليه يكون بإمكانه شلّه وتحجيمَه والوصول معه إلى تفاهم الندّ للندّ فيحصل على حقوق، وإن لم تكن كلّ التي أرادها وعمل للحصول عليها.

ونجح نور في توجّهه هذا وفي كلّ خطواته نحو الوصول لهدفه، وذلك بقبوله في بعثة التّنقيب التي يتبنّاها معهد أولبرايت للأبحاث الأثريّة بالتعاون مع سلطة الآثار الإسرائيليّة للبحث عن الفَيْلق الروماني السادس جنوب تل مجدو، واستطاع من البداية إقامة صداقة مع معظم المشاركين في المشروع.

وفي الوقت الذي تناسى فيه نور والدَه وقرارَه الانعزالي الحادّ ورغبته في إلزام نور بذلك، ظلّ موقف صديقه مراد الناقد والمُحرّض له على العودة لشخصيّته الحقيقية يُلاحقه، ويُشعره بنوع من الحَرَج والقصور والشعور بالذّنب، ولهذا كان يحرص على استمرار التواصل معه والتأكيد له على التزامه الخط الوطني والصداقة والإخلاص، وكان فرحُه كبيرا وغامرا وقد حقّق أولى خطوات الاختراق للآخر فسارع ليُخبر صديقه مراد في رسالته المُسجلة:

- مراد.. هل تسمعني؟ اعذرني على هذا الهَمْس الشديد.. فأنا الآن في عُقْر الكيبوتس.. أقصد المستوطنة. أقيم في حجرة في مستوطنة مشار هعيمق.. على أيّ حال، دعني أزفّ لك نبأ نجاحي باختراق السور الدّفاعي الأوّل على الرغم من أنف أور شابيرا وناتان خودروفسكي وأيالا شرعابي.(ص156)

وبذلك يُسجل انتصاره في اختراق المناطق الحسّاسة للآخر. ويقول لمراد في رسالة ثانية مؤكدا صدقه في اتخاذ أور شبيرا قناعا له بقوله:

- صديقي مراد لقد أحرزتُ نصرا مؤزّرا اليوم، فقد حَقَّقتُ مُناي أخيرا بالتّسلُّل إلى اللجون بقناع أور شابيرا.. أجل. لقد دخلتُ عُقرَ بيت في مستوطنة مجدو، وتناولتُ فيه أشهى الطعام، وتجاذبتُ أطراف الحديث الأشكنازي مع امرأة صهيونيّة جميلة. (ص200).

هكذا نجح نور في اختراق جدار الآخر الذي اعتقده الكثيرون من المُستحيلات، عرف كيف يُفكِّر هذا الآخر وكيف يُخطّط وينفّذ ويُقنع ويتحكّم ويُوجّه وينبذ ويُقرِّب ويُبعدُ ويُصادق وحتى ينجح في الاستحواذ على الكل والسيطرة عليهم وتوجيههم لخدمة مصالحه التي لا حدود وروابط لها.

أمّا التّوجّه الثاني الذي خطّط له نور لنجاحه في المُواجهة وتحقيق ما يُريد فهو العمل الدؤوب على إثبات أحقيّة الفلسطيني في ملكيته وانتمائه لهذه البلاد التي اسمها فلسطين. وحتى ينجح عليه أنْ يُواجه الآخر ويُظهر زيف أسطورته حول أنّ الله وهبَه هذه البلاد. وذلك بخَلق أسطورته هو حول انتمائه لهذه الأرض. وحتى ينجح في تَوجّهه هذا، عليه العمل على التّواصل مع العرب المُتواجدين ضمن حدود العام 1948 والذين يحملون بطاقة الهويّة الزرقاء والمُواطنة، ويتمتّعون بقانونية وحقّ التّنقّل والإقامة والعمل والحياة بأمان. وكان يُدرك أنّ عليه حتى ينجح في ذلك تجاوز كلّ الموانع الجغرافية والسياسيّة والنفسيّة التي تفصله عن الأهل في حدود عام 1948.

وأخذ يُتابع أخبار حياتهم اليومية ونضالاتهم وإصرارهم لتحقيق حقوقهم، كيف يُوفِّقون بين انتمائهم لشعبهم العربي الفلسطيني وأمتهم العربية وفي الوقت نفسه يتمسّكون بمواطنتهم ضمن الدولة اليهودية وحَمْل هويّتها وتقبّل قوانينها وعدم التنازل عن حقّ العَيش فيها.

واقتنع نور أنّ نجاحه لا يكون تامّا إذا فشل في الوصول إلى هذا الشقّ الثاني الأصيل. وكانت الصّدفة أيضا، كما مع المعطف وبطاقة الهوية وأور شبيرا والقناع، هكذا كان في الأمسية الأولى عندما اجتمع كل أفراد البعثة وبدأ كل واحد يُعَرّف بنفسه أنْ فوجئ بالصوت الأنثوي الناعم الناطق بلغة عبرية واضحة مُعرّفا بنفسه:

- سماء إسماعيل طالبة دراسات عليا في حقل الآثار من حيفا من هذه البلاد.

وجاءه الصوت الأنثويّ المبحوح من جانبه، انبعث عن يساره من فتاة متّشحة بحرير شعرها وملابسها السوداء، مسّت نخاعه بقشعريرة حادّة كادت تطيح به عن القاعة، كاد أن يغيب، أن يسقط من شدّة وطأة الاسم العربيّ الفلسطينيّ سماء إسماعيل من حيفا، يا لِحَرْفي العيْن والحاء حين نزلا بَردا وسلاما على قلبه. (ص159)

ووجد في مريم المَجدلية ابنة قرية المجيدل التي خلّصها المسيح من شياطينها النموذج للفلسطيني الأصلاني الذي يُثَبّتُ جذورَه في هذه البلاد، فهي ابنة فلسطين وبلدة المجيدل الفلسطينية وكانت الأقرب إلى يسوع من كل تلاميذه، وظلّت الأمينة على تعاليمه بعد صَلبه وصعوده للسماء حتى فارقت الحياة ودُفنت في تراب بلدتها رغم كل المُحاولات للتنكيل بها ومَحو كلّ أثر لها، وحتى تزييف تاريخها. ووجد نور أنَّ العثور على قبر مريم المجدلية هو المطلوب، وبنجاحه سوف يُظهر زيف ادّعاءات دان براون في روايته "شيفرة دافنشي" ويؤكد على ارتباط هذه البلاد بأبنائها الأصلانيين، ويدحض كلّ التزييف والأساطير التي نُسجَت حولها. ولهذا اجتهد نور في البحث عن كل أثر يُقربه من إمكانية وجود قبر مريم المجدلية، حتى أصبح شاغله الوحيد طوال الساعات ليلا ونهارا إلى أنْ وجد نفسَه في ليلة ليلاء وقد أخذه النُّعاسُ في حُلم يُطابق الحقيقة يصل إلى أطلال قرية اللجّون المهجّرة يخترق أسوارَ مستوطنة مجدو قاصدا الجهة الشرقية الجنوبية حيث البئر، فنزل في البئر وبدأ عملية الحفر في الجدار، حتى نجح في العثور على كوّة، ومن ثم دخل في دهليز مظلم ضيّق، وظل يقطع المسافات المختلفة حتى لمح في آخر الممرّ بابا عَلَته مَشاعلُ سبعة متوهجة فتقدّم أكثر نحو غرفة كبيرة مُقبّبة مليئة بالقناديل المشعّة يتوسطها حشد متحلّق حول هيئة آدميّة مجلّلة بثوب حريري أبيض فضفاض زادته سحرا الضفائر السوداء الحريريّة المُنسدلة على كتفي ووجه صاحب الهيئة، كان ثمّة صوت أنثويّ رقيق ينبعث منها. دقّق نور بها مليّا إلى أن رفعت رأسَها فجأة نحوه، ثم جمعت ضفائرَها وراء ظهرها، لتحدّق به بوجْهٍ يعرفه، دبّت الرّجفة بأوصاله، حدّقت به، وبدت بصورة سماء إسماعيل الفلسطينية من حيفا.. (ص214- 215)

وبهذا يصل نور، حتى ولو في الحلم إلى التأكيد على فلسطينية مريم المجدلية، وأنّ فلسطين هي لأهلها وليس كما يدّعي الغير. وينجح في أنْ يَخلق الأسطورة، كما الآخر، ويرويها كاملة ليثبت بها عُمْق الصلة بين الأرض والشعب الذي يعيش فوقها، ويرعاها، وتَسَمّى باسمها وعاش ودُفن فيها معظم الأنبياء والأولياء، وأوّلهم يسوع المسيح وأثيرته الفلسطينية ابنة المجيدل مريم المجدلية.

وباللقاء والتّماهي بين الفلسطينيّة مريم المجدلية والفلسطينيّة سماء إسماعيل فوق أرض الوطن الفلسطيني، يتحقّق الحلم وتُنسَج الأسطورة وتترسّخ، وتقف قويّة إلى جانب أسطورة الآخر.

وكما تماهت سماء إسماعيل مع مريم المجدليّة شدّها الحنين لنور الذي انكشف لها بشخصيته الفلسطينية الحقيقية لتُسرع وراءه بسيارتها، وتفتح له الباب وتدعوه للدّخول:

- هيّا.. اصعد أيّها المجنون. لقد صدّقتك بالأمس فقط.. ولن أتركك وحدك في هذا الطريق.

يقف قبالة الباب المفتوح مذهولا، لم يُصدّق عينيه وأذنيه، يتنهَّد بحرارة، ينزع قلادة نجمة داود من عنقه، يُلقيها بعيدا نحو السهل المُحاذي للرصيف، ينتشل بطاقة الهويّة المزوّرة من جيبه، هوية أور شابيرا، يُمزّقها، لا ينبس ببنت شفة، تدمع عيناه، ثم يصعد جالسا بجانبها، يُحدّق بها بتأثّر عميق، يُغلق الباب، ثم يقول لها قبل انطلاقهما معا هامسا بكلّ ما أوتي من لغته العربية المُستَعادَة:

- أنتِ هويّتي ومآلي.

والتقى شقا البرتقالة، وتوحَّد أبناء الشعب الواحد فوق تراب الوطن الوحيد الذي حضنهم بكل حبّ وشوق، وانهارت كلُّ الحواجز والمَوانع والمخاوف.

ويُطرَحُ الحلّ المطلوب

هدف نور من رفضه اتّباع السبيل الذي اختاره كلّ من والده وصديقه مراد في مواجهتهما للآخر إلى عدم تكرار الخطأ، والسَّعي لخلق آليّة جديدة في التّصدّي والمُواجهة، ليس لهزيمة الآخر والقضاء عليه، وإنما للتّصدي له بقوّة، وإقناعه بأنّه من المستحيل أنْ يستأثر أحدهما بكل البلاد التي يعيش فيها الفلسطيني واليهودي معا ويتصارعان على الأحَقيّة في ملك هذه الأرض.

وللوصول إلى اثبات الحق الفلسطيني اختار طريقَ المواجهة الفكرية والعلمية وذلك برز في حواراته مع مراد ومع أور، وفي حوار سماء وأيالا حول ما أحاق باليهود في أوروبا والمشاعر الإنسانية التي أبدتها سماء في ذلك رغم تعنت أيالا وعنجهيّتها. وفي حوار أور ونور حول ارتباط الفلسطيني مع اليهودي في المصير الواحد المشترك.

فليست لدى نور أيّة مشكلة أنْ يعيش مع اليهوديّ، ولكنّ المشكلة هي مع الصهيوني، وهو يسأل أور:

- هل أنت صهيونيّ حقّا أم يهوديّ فحسب؟

فيسأله أور: وما الفرق؟

فيُجيبه نور: ثمّة فرق شاسع.. فأنا لا أعتقد أنّ لي مشكلة في كونك يهوديّ، بل في كونك صهيوني. (ص107)

ويرغب أور في مواصلة الحوار مع نور فيستغرب ذلك ويقول له:

- الآن أصبحتَ تعترف بوجودي، بعد أن تسلّلتُ إلى داخلكَ؟

فيسرع أور ليجيبه،

- بل انتحلتني.. كما أنّك لا تعرف عنّي شيئا سوى بياناتي المتوافرة في بطاقة هويّتي وصورتي التي استبدلتها بصورتك.

فيردّ عليه نور موضّحا ما الذي يريده منه:

- تكفيني مَزاياك.. ملامحك اسمك الزاخر بالهويّة الأشكنازيّة الصهيونيّة. أريد أنْ أدرك حقوقك التي اخترعتها أنت فوق هذه الأرض.. حقّكَ بالوجود.. بالحريّة.. بالحركة.. بالاستيطان.. بالاحتلال.. بالاعتقال.. بالاغتيال.. حقّك بتشريدي ومصادرتي، ومطاردتي، وإقصائي، وتهميشي.. أريد أن أتعلّم الأسماء الصهيونيّة كلّها لكي أقوى على مواجهتك. أريد أن أدركك لكي لا أصير مثلك.. أريد أن أستخدمك لكي أتحرّر منك.

فيرد عليه أور مستغربا:

- حيّرتني.. كيف ستتحرّر مني وأنت تتقمّصني وتنتحلني الآن؟

فيجيبه نور: أنا لا أنتحلك.. أنا أدركك.. أتعلّمك.. أريد التعرّف على كيفيّة قيامك بالنظر على الواقع وأحواله. وعثرتُ بعد كلّ هذا الجهد على ذاتي منعكسة في مرآتك.

ويواجهه بالحقيقة الساطعة الجارحة بأنّ لا انتصار لأحدهما على الثاني، ولا فكاك لأحدهما من الآخر، يقول نور مخاطبا أور:

- "أنا وُلدْتُ منك من رحم صهيونيّتك ومن النكبة التي ألحقتها بي. وبالتالي أنا جزءٌ منك وأنتَ جزءٌ منّي وعندما أتعلّمك سأقوى على الانفصال عنك، وأنت أيضا ستنفصل عنّي.... "السرّ يكمن بالمرآة. المرآة هي المعادلة، هي التفاصيل ... هي الكائنان: أحدهما مسيطِر وأحدهما خاضع. أنتَ أور مسيطِر وأنا نور خاضع، ولهذا يجب أن أُحطِّمَ المرآة!". (ص132- 134)

وتكون ساعة المواجهة الصريحة بين نور وأور بعد ثلاث سنوات على لقائهما في سوق الخردوات في مدينة يافا عندما يطرح نور سؤاله المفاجئ على أور:

- أور ما رأيك بي الآن في هذه الأيام الأخيرة من السنوات التي التصقنا بها معا بشدّة؟ ألا تعتقد أنّني إنسان ولست مجرّد كائن بلا اسم وملامح.. كائن مُصنَّف مُسبقا بوصفي إرهابيّا أو مُخرِّبا؟!

فيجيبه أور باستعلاء استفزازيّ:

- أنتَ أصبحتَ إنسانا خلال هذه المدّة بفضلي أنا.. بفضل هويّتي.

فيتحدّاه نور قائلا: فإذا ما نزعتُ قناعَك الآن، أفلا أصيرُ إنسانا؟

وصمت أور، لم يجد الكلمات لينطق بها.. ويحثه نور على الجواب، فتخرج كلماته لتكشف الرعب الذي يعيش فيه وأبناء شعبه.

- حسنا.. لا أعلمُ.. ربّما! لكنني أخشى من اختفائي أنا إذا ما أصبحتَ أنتَ إنسانا. (ص 234)

 وبهذه الكلمات تنكشف خدعة الآخر للعالم حيث إنّهم أوهموه بأنّ هذه البلاد مِنْحة الله لهم وما يفعله الآخر لهم ليس سوى اعتداء وحشي ممَّن لا وجود إنساني له.

الأرض تعرف أبناءها

- ألَم تجد مَساقا سوى التاريخ والآثار لكي تتخصّص به؟ سأله مراد بتهكّم خفيف، فأجابه نور متجنّبا ذلك:

- بل لم أجد ما أُفتَنُ به سوى التاريخ والآثار. (ص19)

هذا كان اختيار نور في مواجهته للمُحتل الذي فشل والد نور ومراد صديق نور في مواجهته. فالأرض هي مركز الخلاف والصّراع، والتاريخ هو المرتكز الأساسي الذي اعتُمد لتأكيد الأحقيّة في امتلاك الأرض وتبعيّتها. والآثار المتبقية عبر آلاف السنين هي الشواهد والتي تزيد اليقين، إضافة إلى الأسطورة التي حيكت حول هِبَة الرب لشعبه المختار.

هكذا خرج نور لتحطيم الأسطورة وكشف زيفها، ولإخراج الآثار واستخراج أسرارها ورواياتها، وكانت الأرض مركز الصراع هي المستودع الذي يحفظ أسرارها، وعلى نور فعل ذلك. وكانت ساعة التحوّل عند نور من رغبته في دراسة الحقوق ليكون محاميا ليختار دراسة التاريخ والآثار حين عمل لمدّة أسبوعين في نقل وغربلة التربة في موقع آثاريّ يقع غربي القدس تُشرف على التنقيب فيه إحدى الجامعات الأميركية. وعندما عثر في خباياها على قطع فخّارية وأختام ومَجَسّمات وعملات دُفنَت في التراب منذ آلاف السنين.

شعر نور وهو "يُلامس التراب بشغف الأرض ومسّته ببوحها السرّي، فالأرض لا تُثرثر بأسرارها إلّا للذين ينجحون بمُداعبتها بأناملهم الخبيرة، دغدغة لطيفة مخبّأة بالصبر والهدوء والعناد لكي ترتعش بالنهاية صارخة بأسرارها". (ص20) وفي عمله مع بعثة الآثار في مجدو كان نور يتوحّد مع شغفه الأوحد، مُداعبة الأرض، دغدغة قشرتها سعيا وراء ثرثرة مستحبّة ثمّة طائل من ورائها، فبعد قليل ستُفصح حفرةُ الاختبار عن نشوة الأرض المتمثّلة بخفاياها ومجريات ماضيها الضاربة بالقدم. (ص169) كان نور يعمل بصمت. هذا هو عهده السرمديّ عندما يعود إلى الاتحاد مع الأرض، إذ يُخاطبها في سرّه، يُناشدها الحبّ واحتوائه بأحضانها ليُعيد لها رونقَها وأَلَقَها. وكان يتجنّب الخوض في نقاشات ستُشغله عن ممارسة عشقه للأرض.(ص170) ويصف ما أحسّ به عندما دخل أطلال قرية اللجون المُهجّرة والطريق إلى بئر مسك العطّار إذ تلبّسه الخيال والقى به أرضا، أرض واقع ملتبس ما بين خيال وواقع وأمان وحقائق وأحلام ووقائع، ليروَّض خياله بخيال آخر أشد واقعية من رؤاه الروائيّة ، وذلك عندما تفقّد بقايا القرية المتأصّلة بالتاريخ، ليستمدّ من حجارتها حقيقة وجوده في هذا المكان، وهي ليست مجرّد حقيقة، بل شرعيّة تُبرّر وجوده في هذه المستوطنة ما بين أور ونور، مستوطنة امتلكت ناصية الحيّز بزمانه ومكانه في تغاير يجعلها متعالية متجاوزة لما تُعانيه هذه البلاد . (ص205)

اهتم الكاتب أن يؤكّد حقيقة وهي أن الأرض كالأم تعرف أبناءها ولا تتنكّر لهم مهما غابوا عنها راضين أم مُكْرَهين. وهذا ما تابعناه من ارتعاش الأرض تحت وبين أنامل نور وهو يُداعبها ويحاول الوصولَ إلى أسرارها التي حاول الغريبُ إخفاءَها وتجاهلها وحتى نكرانها "مسّه شغف الأرض حينذاك، عندما عثر في خباياها على قطع فخّاريّة، واختام، ومُجسّمات، وعملات، دُفنت في التراب منذ آلاف السنين. مسّته الأرضُ ببوحها السريّ، هي التي لا تُثرثرُ بأسرارها إلّا للذين ينجحون بمداعبتها بأناملهم الخبيرة، دغدغة ً لطيفةً مُخبّأةً بالصبر والهدوء والعناد لكي ترتعش بالنهاية صارخةً بأسرارها. (ص20)

فنور كان وحده من بين كل أفراد مجموعات البحث والآثار مَن ينجح بالحَفْر والعثور على القطع والعلامات. ووحده، حتى ولو في الحلم، مَن نجح في النزول للبئر وفتح غطائه والدخول عبر فتحته والوصول إلى حيث وجد مريم المجدلية وسط مريديها يرتلون الصلوات الدينية معا؟

نور يتحرّر من قناعه أور شبيرا ويرمي بهويّته والقلادة ويعود ليكونَ نور الفلسطيني الذي اختط طريقَه وحدَّدَ هدفَه وعرف كيف عليه التّصرّف مع الآخر بفكره وأساليبه وقُدُراته.

 أخيرا

تبقى الجوانب العديدة التي لم أتناولها مثل الشخصيّات المختلفة التي كان لنور علاقة معها، واللغة الراقية التي كُتبَت بها الرواية، والقضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وخاصة مُواجهة المُحتل وسلوكيّاته. فهذه كان قد تناولها العديد ممّن كتبوا عن الرواية.

 ***

د. نبيه القاسم

........................

بعض المصادر

*دان براون: شيفرة دافنشي. ترجمة سمة محمد عبد ربه. الدار العربية للعلوم بيروت 2004

*ידיעות אחרונות 26.2.2007)

*(نبيه القاسم: رحلة مع غوايات الإبداع .شروق2019)

الخوري بولس الفغالي: الحركة الغنوصيّة في أفكارها ووثائقها . الرابطة الكتابية بيروت 2009

*فراس السواح: ألغاز الإنجيل. دار التكوين دمشق 2013

 *الرامة

بقلم: كافيا سريرام

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

شيترا بانيرجي ديفاكاروني هي مؤلفة (هندية – أمريكية)  مشهورة اشتهرت بسردياتها المقنعة التي تتمحور حول حياة نساء جنوب آسيا. أصلها من كلكتا، الهند، انطلقت في رحلة قادتها إلى متابعة تعليمها العالي في الولايات المتحدة. تشمل ذخيرة ديفاكاروني الأدبية كلا من الشعر والنثر، وتتعمق في تجربة المهاجرين، مع […]

شيترا بانيرجي ديفاكاروني هي مؤلفة مشهورة اشتهرت بسردياتها المقنعة التي تتمحور حول حياة نساء جنوب آسيا. أصلها من كلكتا، الهند، انطلقت في رحلة قادتها إلى متابعة تعليمها العالي في الولايات المتحدة. يشمل ذخيرة ديفاكاروني الأدبية الشعر والنثر، وتتعمق في تجربة المهاجرين، مع التركيز بشكل خاص على التحديات والانتصارات التي تواجهها النساء في جنوب آسيا أثناء خوضهن في مشاهد ثقافية جديدة.

من بين أعمالها البارزة، تبرز "قصر الأوهام" باعتباره تحفة من روائع القصص. تقدم هذه الرواية منظورًا جديدًا للملحمة الهندية القديمة، ماهابهاراتا، من خلال إعادة سرد الحكاية من وجهة نظر دروبادي، الشخصية النسائية المحورية. على عكس الروايات التقليدية التي تسلط الضوء على الأعمال البطولية للأبطال الذكور، فإن أداء ديفاكاروني يسلط الضوء على رحلة دروبادي، مما يسلط الضوء على قوتها ومرونتها وتعقيدها.

في "قصر الأوهام"، تبث ديفاكاروني الحياة في شخصية دروبادي، وتدعو القراء لاستكشاف أعمق أفكارها وعواطفها وهي تكافح مع الحب والولاء وقوة القدر التي لا ترحم. من خلال عيني دروبادي، تتكشف القصة الملحمية بعمق ودقة متجددة، وتسلط الضوء على موضوعات خالدة يتردد صداها عبر الثقافات والأجيال..

إن إعادة رواية ديفاكاروني للماهابهاراتا تتحدى التفسيرات التقليدية، وتقدم رواية جديدة ومقنعة تأسر القراء بصورها الغنية، وشخصياتها الحية، ورؤى عميقة حول الحالة الإنسانية. تقف "قصر الأوهام" بمثابة شهادة على براعة ديفاكاروني في سرد القصص، مما يدل على قدرتها على بث حياة جديدة في الحكايات القديمة مع تقديم منظور جديد حول الموضوعات الخالدة.

تستكشف ديفاكاروني موضوعات مختلفة في عملها، بدءًا من تجربة المهاجرين الهنود والمجتمع الأمريكي المعاصر إلى تعقيدات حياة المرأة وتعقيدات الهجرة. إنها تتعمق في الروايات التاريخية والأسطورية بينما تدرس أيضًا ديناميكيات الأسرة والأفراح والنضالات المتأصلة عبر التنقل في عالم متعدد الثقافات. وهنا لدينا أفضل اللقطات:

1- "قصر الأوهام" (2008):

"الحب يأتي كالبرق، ويختفي بنفس الطريقة. إذا كنت محظوظة، فإنه يضربك بشكل صحيح. إذا لم يكن الأمر كذلك، فسوف تقضين حياتك مشتاقة لرجل لا يمكنك الحصول عليه."

في رواية شيترا بانيرجي ديفاكاروني الصادرة عام 2008 بعنوان «قصر الأوهام»، يتم نقل القراء إلى نسخة مُعاد تصورها من الملحمة الهندوسية القديمة، ماهابهاراتا. تتكشف القصة من منظور بانشالي، الأميرة المولودة من النار، مثل شقيقها دري. تدور أحداث الرواية في عالم تشيع فيه الكيانات الإلهية والقوى الغامضة، وتنشأ بانشالي في قصر والدها الفخم، الملك دروباد، الذي لديه رغبة في الانتقام من خصمه درونا. منذ صغرها، كان مصير بانشالي مصيرًا رائعًا، حيث تنبأ الحكيم فياسا بأن تصبح ملكة قوية متزوجة من خمسة أزواج. ومع ذلك، تتوقع فياسا أيضًا أن تصرفات بانشالي ستؤدي إلى اضطرابات كبيرة في مملكتها. طوال رحلتها، كان الإله كريشنا بمثابة معلم بانشالي وصديقها المقرب، حيث يرشدها خلال تجارب ومحن حياتها غير العادية.

2-  أخت قلبي  (1999):

" لقد كانت السبب في نبض قلبي، وارتفاع روحي."

"أخت قلبي"، رواية مقنعة وغنية عاطفيا صاغتها الكاتبة المشهورة شيترا بانيرجي ديفاكاروني، صدرت لأول مرة في عام 1999. هذه الرواية الخيالية الآسرة تأخذ القراء في رحلة استكشافية غير عادية إلى المصائر المتشابكة لامرأتين هنديتين، أنجو وسودها. على خلفية شوارع كولكاتا الصاخبة، تتعمق ديفاكاروني ببراعة في تعقيدات ديناميكيات الأسرة والتراث الثقافي والحب الرومانسي والتفاني إلى حد نكران الذات.

3- "سيدة التوابل" (1997):

" كل نوع من التوابل له يوم خاص به. بالنسبة للكركم، فهو يوم الأحد، عندما يقطر الضوء الدهن والزبدة الملونة في الصناديق ليتم امتصاصها متوهجة، عندما تصلي للكواكب التسعة من أجل الحب والحظ.

في "سيدة التوابل"، تروي شيترا بانيرجي ديفاكاروني قصة تيلو، وهي امرأة شابة تنحدر من عصر وأرض بعيدة، والتي تخضع للتدريب على حرفة التوابل الغامضة ويتم تعيينها كعشيقة تتمتع بقدرات غير عادية. بعد التنشئة المقدسة التي تنطوي على النار، تصل تيلو إلى الخلود، ويسكن الشكل المسن لامرأة مسنة. تسافر عبر الزمن إلى أوكلاند، كاليفورنيا، حيث أنشأت متجرًا يلبي احتياجات السكان الهنود، وتستخدم التوابل كعلاجات للشفاء وتهدئة أمراض مجتمعها.

4 - شيء مذهل  (2009):

"في بعض الأحيان يتطلب الأمر كارثة لفتح أعين القلب."

"شيء مذهل" بقلم شيترا بانيرجي ديفاكاروني هو كتاب مقنع واستبطاني يدرس مرونة البشرية وترابطها في خضم الشدائد. تدور أحداث الرواية خلال زلزال كارثي أدى إلى احتجاز تسعة غرباء في مكتب تأشيرات في مدينة مجهولة، وتتناول الرواية كيف يمكن لسرد القصص واللقاءات المشتركة أن تسد الفجوات في الثقافة واللغة والتاريخ الشخصي

5- الزواج المرتب  (1995):

"الزواج المرتب" (1995) عبارة عن مجموعة من القصص القصيرة من تأليف شيترا بانيرجي ديفاكاروني، تركز على موضوع الزيجات الشرقية التقليدية المدبرة. من خلال إحدى عشرة قصة متميزة، يتم تقديم كل منها من وجهة نظر شخصيات مختلفة مثل الأزواج والزوجات والأقارب المقربين، تتعمق المختارات في الديناميكيات المتعددة الأوجه لهذه الزيجات. تستكشف ديفاكاروني العلاقات الوظيفية والمختلة، وتصور حالات الحب والإساءة. بدلاً من فرض حكم أخلاقي على التقاليد القديمة، تقدم القصص مجموعة متنوعة من وجهات النظر، وتشكل صورة دقيقة للزيجات المدبرة في العالم المعاصر. اكتسبت المختارات تقديرًا لتحديها الصور النمطية والمفاهيم التقليدية المحيطة بالزيجات المدبرة، مع انتقادها أيضًا بمهارة.

6 - كرمة الرغبة (2002):

تكملة لـ "أخت قلبي"، في رواية "أخت قلبي" الشهيرة لشيترا بانيرجي ديفاكاروني، تجد الشخصيات المحبوبة نفسها متورطة في قصة آسرة تختبر الرابطة العميقة بين أصدقاء مدى الحياة. يتم لم شمل أنجو وسودها، اللذين يشتركان في علاقة عميقة تشكلت في مرحلة الطفولة في الهند، عندما قبلت سودها، وهي الآن أم عازبة في كلكتا، دعوة أنجو للانضمام إليها وإلى زوجها سونيل في كاليفورنيا. ومع ذلك، تنشأ التوترات مع اشتداد انجذاب سونيل نحو سودها، مما يجبر الثلاثي على التنقل بين تعقيدات الهوية الثقافية، والحريات الشخصية في أمريكا، والعلاقات الدائمة التي تربطهم بالهند وببعضهم البعض.

7 - فتاة الدفلى  (2013):

" لا تختار شيئًا أبدًا لأنه أسهل."

في رواية شيترا ديفاكاروني الأخيرة، "فتاة الدفلى"، الحائزة على جائزة الكتاب الأمريكي، تجد امرأة شابة من أصل بنغالي تقليدي نفسها متورطة في علاقة حب مع رجل من عائلة أعمال ثرية حديثًا في كلكتا. في سياق مدينة تكافح مع الصدام بين التقاليد القديمة والمؤثرات الحديثة، على خلفية مدينة تتصارع مع الصدام بين التقاليد القديمة والتأثيرات الحديثة، تكتشف سرًا عائليًا يحطم تصورها عن نفسها. بعد تأجيل زواجها الوشيك، تشرع في رحلة إلى أمريكا، على خلفية حقبة ما بعد 11 سبتمبر والهند التي تعاني من آثار أعمال الشغب في جودهرا. تتعمق رواية "فتاة الدفلى" في تداعيات التعصب وتعقيدات الرغبة، وتقدم استكشافًا عميقًا للتحول والهوية.

8-  قبل أن نزور الإلهة  (2016):

"أنا لا أضع الكثير من الاهتمام في تذكر الأشياء. إن القدرة على النسيان هي مهارة فائقة."

تمتد رواية "قبل زيارة الآلهة" إلى القرن العشرين وتمتد من ريف البنغال في الهند إلى شوارع هيوستن المزدحمة في تكساس، وتتشابك فيها بشكل معقد حياة ثلاث نساء رائعات: سابيتري وبيلا وتارا. سابتري، شابة نشأت في ظل الفقر، تحلم بتلقي التعليم، لكن تطلعاتها تعيقها الموارد المحدودة لمتجر الحلوى الخاص بعائلتها. عندما تعرض امرأة محلية ثرية المساعدة على "سابيتري"، تصبح مساعدتها أمرا خطيرًا بعد أن ارتكبت "سابيتري" خطأً فادحًا. بعد سنوات، تهرب بيلا ابنة سابيتري، التي يطاردها ماضي والدتها، إلى أمريكا مع شريكها اللاجئ السياسي، لكنها تواجه واقعًا مختلفًا تمامًا عن توقعاتها. بينما يتعثر زواج بيلا وتبحث عن طريقها، فإنها تعلم ابنتها تارا دروسًا لا تقدر بثمن حول الاستقلال والولاء، وتشكل مستقبلها بطرق لم تتخيلها أبدًا.

9- "ملكة الأحلام" (2003):

"في الحياة، من الأفضل ألا تأخذ أي شيء مجانًا، إلا إذا كان من شخص يتمنى لك الخير. "الجميع يتنفسون الهواء، لكن الشخص الحكيم هو الذي يعرف متى يستخدم هذا الهواء للتحدث ومتى يزفر في صمت." راخي، أم مطلقة وفنانة طموحة تعيش في بيركلي، كاليفورنيا، تكافح من أجل الحفاظ على الاستقرار وسط التحديات العائلية وعالم سريع التغير. تمتلك والدتها موهبة فريدة في تفسير الأحلام وتستخدم هذه القدرة لتقديم التوجيه والبصيرة لمستقبل الآخرين.

10-  أخطاء حياتنا المجهولة  (2001):

" أليس علينا جميعا أن ندفع، بغض النظر عما نختاره؟"

مجموعة من القصص التي تتعمق في حياة المهاجرين الهنود في أمريكا، وتستكشف موضوعات الهوية والاشتباكات الثقافية والسعي وراء السعادة في أرض جديدة. تتضمن المجموعة قصصًا مثل "Love Of A Good Man" التي تتبع رحلة زوجة هندية راضية أجبرت على مواجهة ماضيها عندما يسعى والدها المنفصل عنها إلى مقابلة حفيده. في "السيدة. "دوتا تكتب رسالة" (المعترف بها في أفضل القصص القصيرة الأمريكية، 1999)، وهي أرملة تقيم في منزل ابنها في كاليفورنيا، وتواجه صعوبة في إدراك أن عاداتها التقليدية تعتبرها زوجة ابنها عفا عليها الزمن. وتروي قصة  "The Blooming Season For Cacti" قصة امرأتين نزحتا من وطنهما بسبب العنف والخداع، وتكتشفان راحة غير متوقعة في رفقة بعضهما البعض. وأخيرًا، في القصة الرئيسية، تضطر الفنانة إلى مواجهة ماضي خطيبها قبل أيام قليلة من زفافهما، مما يؤدي إلى اتخاذ قرار محوري.

تعرض هذه الكتب موهبة ديفاكاروني في رواية القصص وقدرتها على نسج روايات غنية بالنسيج والتي يتردد صداها مع القراء عبر الثقافات والأجيال.

***

*ولدت شيترا في كلكتا عام 1956، وحصلت على درجة البكالوريوس من جامعة كلكتا في عام 1976. وفي نفس العام انتقلت إلى الولايات المتحدة لمتابعة درجة الماجستير في جامعة ولاية رايت ثم درجة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا، بيركلي في عام 1985. في الكلية، قام بمجموعة متنوعة من الوظائف الغريبة لمساعدته على اجتيازها؛ من مجالسة الأطفال، إلى العمل في متجر هندي، إلى تقطيع الخبز وغسل معدات مختبر العلوم.

الكاتبة: كافيا سريرام/  Kavya Sriram  تسعى كافيا سريرام حاليًا للحصول على تخصص ثلاثي في علم نفس الصحافة واللغة الإنجليزية. في أوقات فراغها، يمكنك أن تجدها تتجادل حول تعقيدات ألبومات ل

عتبة لإنعاش المسرح المغربي بأكسجين التغيير والتجديد

كان لي شرف حضور المناقشة الأدبية لمسرحية (حضرة البوح) للدكتور عبد الرحمان بن زيدان، وكذا حفل التوقيع والتكريم. لذا أوجه شكري لكل من ساهم في هذا الحفل البهيج، وللحضور المثقف الوازن، كما أعزز شكري لرئيس وأعضاء الجمعية المغربية للتنمية الاقتصادة والاجتماعية والثقافية على دعوتهم الكريمة، وهذا نص مداخلتي:

الاستعراض الأول: مدخل.

من الاعتراف بالجميل وقفة احترام لأستاذ غرفت منه فيض المعرفة في مدرجات جامعة المولى إسماعيل. لأستاذ كانت تشدنا محاضراته بالكثرة والحضور، كانت موضع البحث عن تساؤلات المعرفة والفهم والتحليل، ولما لا الوقوف على خشبة مسرح الحياة.

من صدق شعور الفخر والاعتزاز بأحد أعمدة أهرام الكتابة الأدبية والنقد المغربي، والتنظير المسرحي الدكتور سليل المنبع الطيب، والأسرة العالمة بمكناس سيدي عبد الرحمان بن زيدان.

أستاذنا، أعلم أنكم بطبعكم لا يستهويكم ذكر مناقب سيرتكم الذاتية المتنوعة بالعطاء والتفاعل. لا يستهويكم تِعدادُ حصيلة سنوات من البحث والتدوين والتأليف في مكون أب الفنون المسرح والأدب والنقد.

لا يستهويكم ذكر بصماتكم الحصرية، وتلك كلمات الإفادة والإشادة في المؤتمرات والندوات الدولية والوطنية، لكني اليوم أقف أمام مقامات وعتبات رجل أبلى البلاء الحسن في إنعاش ذاكرة المسرح المغربي والعربي والدولي، وتكثيف تحصين وتدوين تاريخ المسرح العربي.

رجل خدم المسرح بامتياز في عز فجوات الثقب الأسود وتحولات العولمة الإليكترونية والمعرفية، وكذا نكوص المشهد المسرحي بالمغرب. دكتور علمنا أن من فوق الرُّكح المسرحي يبدأ النضال من عند أب الفنون، ومنه قد نعيش لحظات من الحلم والخيال، ومن الحقيقة الواقعية.

ومن رُكح أبسط عرض مسرحي، يمكن أن نكتسب الجهر بالحق والدفاع عن قضايا الوطن والأمة العادلة، ومقاومة صخرة الفزع الحضاري، ومواجهة آفة التعصب والإرهاب والسياسية الوصولية/ الريعية.

الاستعراض الثاني: مسرحية "حضرة البوح" لويزا ومارين.

عنوان يشكل بطارية مُطارحة مسرحية تضع لنفسها هدفا أنيقا للدفاعِ عن الحرية والعدل، والتنوير، والحداثة (البعدية)، وكذا الدِّفاعَ عن أُطروحات الفرح بالحياة، ضد مشروع الشر والفزع الإرهابي.

عنوان (بوح) وفضح للإيديولوجيات والأسرار المتخفية وراء الانتهازية السياسية، والمقامرة بالأرواح البشرية.

فيما (الحضرة) فهي ترميز ذكي لإتباع شيخ طريقة دون معرفة الخلفيات والتبعات والمآلات. وسواء تعلق الأمر ب"حضرة" مقدسة أو مدنسة، فإن (حضرة) ابن زيدان تعتمد على الانكشاف والتعري والتخلص من عبء الأقنعة الاجتماعية التي يُجْبر الفرد على وضعها ليعيش مع الآخرين.

هنا نقول أن ابن زيدان: " يبحث عن تجليات النفس كي تتحرر من همومها وضغوطها ومرتداتها المرهقة، فالغاية تُسَوِّغ وسائلَها، ولا تكترث إلا بفضح المستورات".

يقول الكاتب " الإرهاب لا وطن له، ولا لون له، ولا عقيدة له إلا عقيدة العنف، والذي لا ُيبْقِى ولا يَذر، لأن هَمَّه السَّادي هو اغتيال لحظات الفرح في مهدها، وهذا ما قدمتُ أحواله لأول مسرحية مغربية تتناول موضوع صناعة الإرهاب في العالم".

إنه عنوان يحمل "الوعي التاريخي، ومعرفة بالوقائع ومداراتها/ ص11"، مسرحية "ملحمة العصر" وفق توصيف ابن زيدان لعمله.

وعن سبب اختيار "حضرة البوح" كعنوان يقول الكاتب : " توخيت أن أعطي لبوح المدينة كل ما يُقربنا من زمن العنف (الداعشي) المُمارَس على الناس والعباد، من قبل مروّجي الجهل، والغباء والجنس والمخدرات والجهاد الجنسي وتشويه الأديان، وتحريم التعاطي مع كل ما يفتح أمام الإنسان أمل العيش بكرامة وحرية، والعيش بثقة كاملة بما تمنحه الحياة ويمنحه المجتمع المحب للسلام والعدل والعدالة والمساواة".

نعم،" مسرحية (حضرة البوح) تُعْلن عن موقفها من عالم مُرهب للنفس والذوات والأرواح ، يقول الكاتب" حين تصير الكتابة لا تطاوع أفكاري ولا تساعدني على إظهار ما تفكر فيه معي وأنا أفكر معها حول مدارات الحياة/ ص5"، من هذا الزمن المخيف .... الناطق بحيوية التفاعل وبحذر لمعرفة المؤهلات العدوانية المسخرة لصناعة الإرهاب/ ص7" .

نعم، هي مسرحية الواقع/ الحلم/ التخيل عن هذه الحياة، حيث الكاتب يحضر معه "الحلم بمعانقته في الواقع، أو معانقة واقع حلم في مسارات التخيل".

في نص "حضرة البوح"، اختار بن زيدان الإرهاب موضوعا، قائلا إن "الكتابة بالإبداع يمكنها أن تستحضر هذا العالم التراجيدي وفق رؤيتها وموقفها من كل الوقائع وكل غاياتها هي التمسك بزمن الوعي بمكونات تريد بها امتلاك الوعي الحقيقي بعالمها، حتى تدب الحيوية في فعل تغيير هذا العالم بما يوافق كل قيم الإنسان التي بدّدتها كل الأفكار الظلامية، والتي توظف كل شيء من أجل مسخ الجميل ... ومحو الأنقى في الحياة.

فحين نَتناول قراءة مسرحية (حضرة البوح) نُحس بمعاناة الكاتب حتى في اختيار كلماته ومصطلحاته، تحس أن ابن زيدان كان يكتب ثم يتركها جانبا، ثم يثيره فضول الكتابة ثانية، ويعود لمخطوطاته بالتتميم.

يقول هي "المعاناة الملتهبة في الذات، والمنطفئة ظاهريا في الواقع، تحت تأثير التمويه الذي تمارسه الموانع، والتحريمات، والقوانين خادمة مصالح من له منفعة في إشعال الحرائق في العالم مدعوما بما تمارسه وسائل الإعلام المحصنة بالقوانين التي لا تريد أن ترى الإبداع حيا يفكر في عالمه".  هنا نقول أن عبد الرحمان اقتحم بجرأة حصنا من مسكوتات العالم بالإفصاح لا الإضمار...

فالتحدي ظَلَّ عند ابن زيدان "حالة من الوعي التاريخي/ص7". أفكارٌ تَظهر من عالم الانكسارات وزمن العولمة .... بين ما هو قار وبين ما هو متحول/ص87). تحد يبحث عن تحفيز البحث عن "تمثلات مغايرة عن التمثلات السائدة في الكتابة المسرحية/ص10"،فالكاتب يبحث عن فضول النزوع نحو الإعلان عن فهم جديد لعالم يُفصحُ عن خطابات الدراما ... وعن عنف العالم/ص10".

عبد الرحمان "أعاد الاعتبار للكتابة النصية... وخلق التفاعل بين الواقع  والمتخيل/ ص10" ولما لا، الإعادة المقصودة لمفهوم النص المسرحي كإبداع ومعاناة ومواقف ورؤية للعالم/ وإعادة لنص المؤلف حياته التي ضاعت بين كل دعوة بدأت تتزعم خطأ إلغاء النص المكتوب لصالح عرض بدون نص... ص11"

"حضرة البوح" قد نعتبرها بحق كتابَ فلسفية "يَحيد بعدا عن الكتابة الفوتوغرافية والوصفية.... ص/11" إنه دلالة هوية جديدة للنص... " فموضوع الإرهاب والمرأة هي القضايا الساخنة التي لا تزال حية بتناقضاتها ومفارقاتها في المجتمع/ص12".

في مسرحية "حضرة البوح" نقل ابن زيدان "ظاهرة الإرهاب إلى الكتابة.... واستعراض حالة المرأة الواعية.... والاكتواء بحرقة المفارقات/ص12" مفارقات أثمرت نوعا فريدا من التساؤلات الماكرة:

من يصنع الإرهاب؟

مَن يصنع السياسة الجديدة في العالم تلتهمه (العولمة)؟

ما هو الوعي الحضاري بتشكيلاته المتلونة، ومن يشكل معالمه الكبرى؟

ما هي المفارقات التعريفية بين الأنا والآخر، وتوجيه مدافع الإرهاب بين الشرق والغرب؟

كيف هي مكائد الادعاء المنافق بأقساط الإيمان ومن يسند ويسانده في انتهازيته؟

ما هي مفجرات القمع والانحسار، وتبيان آهات المجتمع في ظل إشكاليات الوصولية السياسية والإرهاب؟

كيف يمكن تصنيع الإنسان بالايديولجيا الوصولية؟ (قزح الشيطان وآباؤه/ص12)

كيف للكاتب تمكين إحضار الرمزية في النص المسرحي وخلطه بالواقعية؟

كيف للكاتب الموازنة بين تماثل الواقع وتفجير المتخيل في بنية النص المسرحي؟

الاستعراض الثالث: الظاهرة الارهابية

تتشابك في هذا النص المسرحي "حضرة البوح "الظاهرة الإرهابية وموضوع المرأة " وتمثلها هنا الطبيبة (العروف) ، ويرافقها قرينها المدافع عن حقوق الإنسان (العريف)" ، القادمين من "معرفة نقيضهما (قزح الشيطان وأبناؤه) الرمز في النص الذي لا يحيل على نفسه فقط، بل يحيل على العالم الذي يريده أن يكون موجودا وفق هواه، ووفق ما تمليه عليه مصالح المهيمن عليه الذي هو صانع ومهندس الشر والإرهاب في العالم".

ويتابع ابن زيدان تحديد المهام: "هذه المرأة (العروف) بمعرفتها لنقيضها (قزح) ستقوم بفضحه، وبعملها ستختصر أوجاع كل حالات النساء وبوحهن الذي يمزج القلق بالأمل في العيش، حتى يداوين جروحا تُطهِرُهُنَّ بالتفاؤل من أدران واقع صار عنيدا وظالما، ومجحفا ... يفتري كذبا عن المرأة والرجل والمجتمع للحد من شكل وجودهما، ولاسيما حين يشعر بقوتهما الفكرية، فيلجأ إلى صناعة الأتباع، والمريدين، والأشباح، لتشويه الأديان بفكره المشوه".

الاستعراض الرابع : لويزا ومارين.

"لويزا" و"مارين" ترميز القطيعة ضمن لغز أو ألغاز البوح، وتشكيل الغلاف ولوحته الفنية (إظهار الكتاب). فحضور  كل من "لويزا" و"مارين" اللَّتان تُؤرخُ مسرحية (حضرة البوح) على مذبحتهما في الواقع، وكذا في متخيل هذا النص الدرامي، لقد استحضر ابن زيدان لِطيْفيْهما حوارا غطى صفحة ونصف من البوح الثاني "رسالة من مرسل مجهول/ ص35و36)".  كما يستعيدهما في البوح الثاني عشر والأخير "لنمسك قلوبنا من أجل الحياة" والذي جمع طيف الحقوقي "العريف"، الرجل الوحيد الذي تحبه "العروف" والمغيَّبْ(بالاعتقال)، وذلك من خلال تحول "العروف" إلى طيف "لويزا" تارة، ثم إلى طيف "مارين" تارة أخرى، في مشهد الذبح الرهيب/ ص114-115-116.

الاستعراض الخامس : نهاية.

"حضرة البوح"، قراءتي المتواضعة، كانت تتلمس أجوبة لوضع بَشَرِي مَنْذور بالمآسي في كل لحظة وحين.

قراءتي كانت تبحث الخوض في خفايا وخبايا المسرح الواقعي مع نوعية مستحدثة من الخيال لإحداث تغييرات وتصويبات لبعض الوضعيات الاجتماعية المربكة.

يقول ابن زيدان: مسرحية "حضرة البوح" ... أبجديتها قادرة على تبليغ خطابات مسرح ينخرط بمسؤولية في محاولة فهم وتفسير عالم يزعزعه الإرهاب".

نعم، هي لغة كتاب متعة عند القراءة، تسبح بالقارئ نحو تيارات منسابة في الزمن الإنساني المتحول وغير الثابت. مرات عديدة يكون الخطاب باردا ودسما، وأخرى دافئا مفعما بالحياة، ومرات أخرى حلوا بالفرح والأمل، وغير ما مرة مستفزا بملوحة الفزع، والألم والخوف من المتحولات الاجتماعية الوافدة بالنكسة.

***

محسن الأكرمين

تعريف الشكلانيّة الروسيّة:

غالبا، ما تُطلق الشكلانيّة في الأدب والفن، على المدرسة الشكلانيّة الروسيّة، لكن يمكن أن نضيف إليها مدرسة "تارتو السيميائيّة" بموسكو،(*). و"حلقة براغ اللغوية"،(*) إضافة إلى المنظرين الذي يحملون تصورات شكلانيّة في النقد الأدبي، وإن لم يكونوا منتمين مباشرة إلى جماعة المدرسة الشكلانيّة الروسيّة.(1). وعليه، فقد ظهرت الشكلانيّة الروسيّة ما بين ١٩١٥ و ١٩٣٠ م، ومع بدايات ظهورها، نبذت الرأسماليّة، ولم تعترف إلا بالاشتراكيّة العلميّة التي تعود، في جذورها إلى كتابات "كارل ماركس، وبيليخانوف، وهيجل، وأنجلز، وجورج لوكاش"، وغيرهم من المنظرين الجدليين الذين سعوا بجديّة نحو ربط المضمون الأدبي – أي الفكر - بالواقع أو ما يسمى " الوجود الاجتماعي"، ومحاربة جميع التيارات الشكلانيّة والنزعات البنيويّة التي تعنى بالشكل على حساب المضمون.(2). غير أنها راحت تتخلى شيئاً فشيئاً عن المضمون فيما بعد لحساب الشكل كما سيمر معنا لا حقاً.

ومن باب العلم، يمكن الحديث عن مدارس أساسيّة ضمن التيار الشكلاني الروسي نفسه مثل: ("جماعة موسكو" التي يمثلها "رومان جاكبسون"  و"جماعة بيترسبورغ" أو جماعة "دراسة اللغة الشعريّة" التي يقودها "فيكتور شلوفسكي".) (3).

والمدرسة الشكليّة الروسيّة في سياقها العام، هي أحد المذاهب النقديّة المؤثرة في ميدان النقد الأدبي في روسيا، بيد أنها في ثلاثينيّات القرن العشرين، راحت تعيش حالة ضعف وانعزال، كونها لم تلتزم بالمنهج المادي التاريخي الجدلي الذي كانت تتبناه الدولة في تحليلها للظواهر، لتعود وتزدهر من جديد في السنوات اللاحقة. والشكلانيّة الروسيّة في أحد تجلياتها الأساسيّة اعتبرت ردّة فعل على النظريّات الرومانسيّة/الانطباعيّة في الأدب، التي سلطت الضوء على الكاتب وقدراته الإبداعيّة المستقلة، لتقوم بتسليط الضوء والاهتمام على (النص)، مؤكدة أهميّة الشكل بالنسبة لهذا النص، وما له من أثر في التطورات التي تطرأ عليه. بيد أن الشكليين الروس وبسببِ رفضهم لواقعهم وللحرب العالميّة الثانيّة، لم يعودوا يهتمون بالنظريات الأدبيّة، ولا بالمعلومات المتعلّقة بالنص، ولا يكترثون بأهميّة الكاتب على أنه مبدع لهذا النص، فقد أهملوا الكاتب ودوره مثل إهمالَهم للواقع وسماته. هذا وقد تطورت مدرستان نقديتان شكليتان:

(الأولى: في موسكو، وهي التي نشأت منها الشكلانيّة الروسيّة. والثانية: التي تبعتها الشكلانيّة الأنغلوأمريكيّة النقديّة الجديدة. وكانت هذه الشكلانيّة في صيغتها الأمريكيّة، هي النمط المهيمن على الدراسات الأدبية النقديّة في أمريكا حتّى السبعينيات متجسدة في النظريّة الأدبيّة لدى الناقد الأدبي التشيكي/ الأمريكي "رينيه ويليك" والناقد الأدبي والصحفي الأمريكي "أوستين وارين"). (4).

على العموم: إن الشكلانيّة الروسيّة بعد تخليها عن مضمونها الاشتراكي، والمنهج المادي التاريخي في التحليل، شكلت نزعةٌ نقديّة تهدف إلى تغليبِ قيمة الشكل والقيم الجماليّة والذوقيّة ، وما فيها من فكر أو خيال أو شعور على مضمون العمل الأدبيّ.  لكنّها تطورت لاحقًاً واتجهت أيضاً إلى دراسة بنية هذا الشكل. ومن أبرز ما ميّز الشكلانيّة الروسيّة في مرحلة تركيزها على الشكل، هو رفضها لكلّ ما هو مُغرق في الغموض، إضافة لاعتمادها منهجيّة تجريبيّة تركز على دراسة الظواهر والملاحظات التجريبيّة بعيدًا عن الانطباعيّة / الرومانسيّة. أي تركيزها على الشكل ونسيج النص اللفظي، وهذا دفعها إلى دراسة الأصوات وتكرارها وتناسقها وإيقاعها. وممّا هو جدير بالذِكر أن المدرسة الشكلانيّة الروسيّة وضّحت الفرق في استخدام الكلمات / الأصوات بين اللغة الشعريّة أو الأدبيّة، واللغة العمليّة التداوليّة في حياتنا اليوميّة المباشرة، كما عملت على تحديد المستويات المختلفة للنص وأساليبه.(5).

أهم رواد المدرسة الشكلانية الروسيّة:

تجسّدت المرحلة الأولى للمدرسة الشكلانيّة الروسيّة على آراء "كارل ماركس" وتنظيراته، أي على الفكر اليساري ومنها نظريّة الإنعكاس لـ "جورج لوكاش"، إلا أنهم راحوا يتخلون عن موقفهم اليساري هذا وبخاصة (نظرية الانعكاس) التي قدَّمها "جورج لوكاتش"، وأعلَنوا أنّ النقد وفق نظرية الانعكاس لا بد وأن ينتقل إلى داخل أو مضمون العمل، وهذا لا يتفق والموقف عند الشكل فقط. أمّا المرحلة الثانية وهي المرحلة التي راحت تنكر فيها بشكل واضح ودون مواربة ربط السياسيّة بالإبداع، ورفَضَ الواقع أو الوجود الاجتماعي كمحدد أو منتج للأفكار.

وعلى هذا الأساس ظهرت الشكلانيّة هنا في ثوب جديد على يد "جاكوبسون وباختين" وبخاصة بعد أنْ شعَرَ "جاكوبسون" أنّ الموت أوشك أن يلحق بالشكلانيّة، وذلك بسبب حصار السياسيين الروس لها عام (1930).

أما أبرز أعلام الشكلانيّة الروسية فهو: "ميخائيل باختين" الذي دعا إلى ضرورة عَقْد المصالحة بين المدرسة الشكليّة والمدرسة الماركسيّة القائمة على التحليل المادي التاريخي، وذلك عندما أبرزَ رأيَه باجتماعيّة اللغة، لأنها تعدّ في الأساس ظاهرة اجتماعيّة، وبذلك ابتعد "باختين" قليلاً عن القطعية التي أعلنها الشكليون في تحولاتهم اللاحقة نحو ما هو خارج النص. غير أن "باختين" ظل محتفظاً بمسافة بينه وبين الشكليين، تلك المسافة التي جعلته يوافقهم بعدم الاقرار بنظريّة الانعكاس، وظلت رؤيته تركز على (ديناميكيّة) اللغة بسبب قناعته بظاهريتها الاجتماعيّة.(6). وهناك أيضاً من الرواد "جاكوبسون" الذي يعتبر صلة الوصل بين الشكلانيّة والبنيويّة، إذ حاول من خلال قراءاته النقديّة للشعر أو الأدب، أن يصل إلى التناسق والتوافق بين الشكل والمحتوى، كما ركز على العلاقات القائمة بين اللغة اليوميّة واللغة الشعريّة أو الأدبيّة، وأشار فى مقالته "اللسانيات والشعريّة" إلى الشعريّة، ووصل من خلال حديثه عن الشعريّة إلى تحديد نظريّة للاتصال حدّد عناصرها الرئيسة في: (المرسل) الذى يقوم ببث (رسالة ما) عبر قناة داخل السياق النصي، حيث تحمل هذه الرسالة شفرة أو عددًا من الشفرات، ثم (المتلقي) الذي يقوم بحل شفراتها. وكلّ عامل من هذه العوامل له وظيفة لسانيّة مغايرة للأخرى.(7). هذا ويمكننا القول: إن الشكلانيّة الروسيّة تشتمل على أعمال العديد من المفكرين الروس ذوي التأثير الكبير على الساحة الأدبية مثل (فيكتور شيكلوفسكي، ويوري تينيانوف، وبوريس أيشينباوم، وجريكوري فينكور، وهي أسماء أحدثت ثورة في ميدان النقد الأدبي بين العام 1914 حتى الثلاثينيات وذلك يرجع إلى جهودهم التي بذلوها للتأكيد على خصوصية لغة الشعر والأدب واستقلاليتها).(8).

دواعي (النقد الأدبي) لنشأة الشكلانيّة الروسيّة:

قلنا في موقع سابق إن الشكلانيّة الروسيّة ظهرت ردًا على سيطرة المذهب أو المنهج الرومانسي تحت مظلة النظام الرأسمالي، أي رداً على التوجهات النفسيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة والفكريّة التي سيطرة على الأدب الغربي لوقتٍ طويل، حتى صار هذا دافعاً لدى الشكلانيين الروس ليقوموا بدراسة الأدب بوصفه بنيةً جماليّة مستقلة، تتضمن مجموعة من العناصر التي تتفاعل فيما بينها تفاعلاً إيجابياً أو سلبياً.(9). (وقد خدمت الشكلانيّة الأدب والفن والنقد، فقامت بإثرائهم بنيويّاً وسيميائيّاً عن طريق المقاربات بين النصوص الصوتيّة والإيقاعيّة والصرفيّة والدلاليّة والبلاغيّة والتركيبيّة، وتحليلها ضمن استعمالاتها الوظيفيّة أو السياقيّة.).(10).  لقد عمل الشكلانيون الروس حقيقة على إرساء مبادئ نظريّة جماليّة، وتطلّعوا إلى خلق علم أدبي مستقلّ، ينطلق من المميزات الجوهريّة للأدب والسمات الفنيّة له، إذْ كان هدف الشكلانيّة الروسيّة هو الوعي النظريّ بالأدب، وتأسيس نظريّة أدبيّة يكون العمل الأدبي موضع اهتمامها الأساس.(11). حيث طالبت الشكلانيّة الروسيّة في أهم تجلياتها بعد تخليها عن المضمون كما بينا في موقع سابق، بمقاربة النص الأدبي، على أنه بنية فنيّة مغلقة ومكتفية بذاتها، لا يرتبط بوقائع خارجيّة، ولذلك كان تركيزُها في تحليلها للنص الأدبي مُنصبًا على النص بوصفه نقطة البدء والمعاد، والنأي بالنقد عن العلوم الإنسانيّة التي سيطرت على الخطاب الأدبي فترةً من الزمن، لمركزته على ما هو خارج النص من تاريخ وعلم نفس وعلم اجتماع وسيرة وغير ذلك. ومع أنّ الشكلانيّة تجاهلت العوامل الخارجيّة في دراسة الأدب، ولكنْ هذا لا يعني عدم اعترافها بقيمتها، إنّما يعني تحديدها لمجال اتجاهها النقدي في قراءاتها للنصوص الأدبية.(12).

بتعبير آخر: لقد دافعت الشكلانيّة الروسيّة عن رأيها الذي يقولُ إنّ جوهر الظاهرة الأدبيّة لا يكون في علاقتِها بمنشأها أو بيئتها، إنما في كينونتها الموضوعيّة، بوصفها بنية مستقلة. ولعل أهمّ مبادئها: هو تقويم النص بوصفه نصًا لغويًا فقط، إذ إن بناء النص الأدبي وجوهره الأساس إنما يكون في الكلمات وليس في الأفكار، فليس معنى النص أو مضمونه ولا العوامل الخارجيّة المحيطة به هما ما يمنح الأدب هويته، إنما صياغته وطريقة تركيبه ودور اللغة فيه هو ما يجعل من الأدب أدبًا، ومن هنا ظهر مع هذه المدرسة النقدية ما يسمّى "أدبية الأدب " التي تسلّط الضوء على مجموع المواصفات التي تتحقّق في النص، لتجعل منه أدبًا، لذلك يقول جاكبسون: إن موضوع العلم الأدبي ليس هو الأدب إنمـا (الأدبيّة) أي ما يجعل من عملٍ ما عملًا أدبيًّا.(13).

لقد كان الأدب قبل الشكلانيّة الروسيّة يعامل على أنه صورة مرآتيّة عن سيرة المؤلف وخلفيته، أو توثيقاً تاريخيّاً أو اجتماعيّاً. أما الشكليون فيعلنون أن الأدب منتج له استقلاليته وخصوصيته. فكان هنالك مبدآن إثنان في دراسة الأدب في المدرسة الشكليّة الروسيّة قد المحنا إليهما في عرضنا السابق بشكل غير مباشر هما:

الأول: الأدب نفسه، أو السمات الأدبيّة التي تميز الأدب عما سواه من الأنشطة البشريّة، والتي يجب أن تشكل الأساس الذي تتوجه لدارسته النظريّة الأدبيّة. كما بينا أعلاه عند "جاكبسون"

أما المبدأ الثاني: فهو «الحقائق الأدبيّة» والتي يجب أن تعطى الأولويّة في النقد الأدبي على أي حقائق أخرى، سواء كانت فلسفيّة أو جماليّة أو نفسيّة. بيد أنه كان هنالك توافق بين المبدأين على الطبيعة المستقلة للغة الشعر، وخصوصيتها كموضوع يخضع للدارسة في النقد الأدبي. وقد سعى الشكليون بشكل خاص إلى تحديد السمات الخاصة باللغة الشعريّة، سواء كان ذلك في الشعر أو في النثر، والتي يمكن معرفتها من خلال تحديد البعد الفني فيها والعمل على تحليلها. (14).

اضمحلال دور الشكلانيّة الروسيّة:

عموماً لقد هوجمت الشكلانيّة الروسيّة لنقاط عدّة من أبرزها،: تركيزها على إعطاء دلالات جديدة للمفردات نفسها، وهذا ما سيجعلها في النهاية تبتعد عن المعنى كلياً والتركيز على الشكل فقط. رغم أن الشكلانيين لن يستطيعوا تحقيق هذا الانعزال عن الواقع كلياً مهما حاولوا، لأن المحتوى الأدبي الذي يشتغلون عليه مرتبط بالواقع بالضرورة.(15).. وفي أواخر السبعينات من القرن العشرين اضمحلّ دور الشكلانيّة الروسيّة بشكل أكثر  بسبب رفضها ربط الأدب بالسياسة كما أشرنا في موقع سابق. وبالرغم من تعرّض الشكلانيّة إلى رفض كبير عبر تاريخ وجودها، وكان هذا الرفض هو الورقة الرابحة في يد منافسيها ليؤكّدوا سوءَ نظريتها، وانحرافها الأيديولوجي عن باقي المذاهب والمفاهيم النقديّة السائدة، لكنْ ممّا هو جدير بالذكر أن بعض النقاد الأدبيين الأكاديميين يميلون لظهور الشكليّة من جديد.(16). وهذا ما وجدناه في الشكليّة الميكانيكيّة، والشكليّة العضويّة والشكليّة النظاميّة، والشكليّة اللغويّة. فلنتعرف بشكل أوليّ على هذه المدارس الشكليّة:

أولاً - الشكليّة الميكانيكيّة:

ورائد هذه المدرسة الأديب والناقد الروسي "شيكلوفسكي" الذي راح يفند ما كان شائعاً في الأوساط الأدبيّة في روسيا آنذاك، بأن الأدب منتجاً اجتماعيّاً أو سياسيّاً، وأنه يخضع في تفسيره وفهمه للخلفيّة التاريخيّة والاجتماعيّة، وكذلك اعتبار الأدب تعبيراً شخصيّاً عن نظرة المؤلف للعالم يوضحها من خلال توظيف الصور والرموز. ولذلك انصب اهتمام "شيكلوفسكي" و"جمعية دراسة اللغة الشعريّة" التي يتزعمها على الطرق الشكليّة، والتركيز على التقنيات والأدوات، وقد ألف كتاباً أسماه (الفن كصنعة) «تمثل الأعمال الأدبيّة وفقاً لهذا الأنموذج (آلات ميكانيكيّة)، فهي نتيجة جهد بشري مقصود يتم فيه استخدام المهارات الخاصة لتحويل المواد الخام إلى آلة معقدة مناسبة لغرض ما»(17). وعلى هذا الأساس فإن هذا المنهج يجرد المنتج الأدبي من ارتباطه المشترك بالمؤلف والقارئ والخلفيّة التاريخيّة والوجود الاجتماعي. وقد وضح "شيكلوفسكي" هذه المنهجية حيث أشار إلى أن الفن هو تفاعل الأدوات الأدبيّة والفنيّة التي يستخدمها الفنان لإنتاج أعماله. (18).

ثانياً - الشكليّة العضويّة:

رداً على القيود التي فرضتها الشكليّة الميكانيكيّة، قام بعض الشكليين الروس باعتماد الأنموذج العضوي. حيث استغلوا أوجه الشبه بين الأجسام العضويّة والمظاهر الأدبيّة من ناحية انطباقها على الأعمال الفرديّة والأنواع الأدبيّة. فمقاربة الظواهر البيولوجيّة مع النظريّة الأدبيّة وفر إطاراً مرجعياً آخر لدراسات الأنواع الأدبيّة ونقدها. ولكن هذه المدرسة قد فشلت كالشكليّة الميكانيكيّة في تفسير التغيرات الأدبيّة، والتي تؤثر على الأدوات ووظائفها والأنواع الأدبيّة. (19).

ثالثاً- الشكليّة النظاميّة:

اشتملت المدرسة الشكليّة النظاميّة على الجانب الزمني في النقد الأدبي. ومن أهم الشخصيات في هذا النموذج هو "يوري تينيانوف". (20).

رابعا - الشكلية اللغويّة:

تعد اللغة الشعرية، المادة الأولية في عمليات الإبداع الفني هنا، فاللغة موجودة في مخزون كل إنسان، والسبب في ذلك هو الأحداث التي يعيشها، ولغة الشعر تختلف عن لغة الكلام المنثور، لذلك فرق أصحاب النظرية اللغويّة في هذه المنهجية بين اللغة الشعريّة واللغة العمليّة. فالأخيرة – اللغة العمليّة - تستعمل في التواصل اليومي بين الناس لإيصال المعلومات، أي هي لغة تقريريّة. بينما. تجسد اللغة الشعرية كيان الشاعر وتعبر عن حالاته النفسية التي عاشها، وما زال يعيشها، تجاه قضية معينة، أثارت في نفسه مشاعر معينة، وتعرف اللغة الشعرية بأنها لغة جديدة، ومتجددة، بمعنى أنها قادرة على التعايش مع القضايا المختلفة، ومواكبتها، كما أنها تعبر عن رغبات الإنسان وميوله، وتسمى باللغة الباطنية، لأنها ليست لغة تقف على ظواهر الأحداث، والقضايا

وعند الشكلانيين الروس كما هو الحال عند "جاكوبسون وليف جاكوبينسكي". والكثير من الناشطين أو المهتمين في هذا الاتجاه، فقد اهتموا باللغة الشعريّة كأساس لدراستهم وبحثهم. والأدب عموماً يعتمد بشكل أساس على الحقائق اللغويّة الصرفة كما بينا في موقع سابق. أما اللغة الشعريّة فتجعل للارتباطات اللغوية في الخطاب قيمة ذاتيّة. فالعمل الأدبي يتجاوز نفسيّة الكاتب والقارئ ويصبح له وجوداً مستقلاً بمجرد وضعه وإنشاءه.(21).

أثر المدرسة الشكلية الروسية على الصعيد الأدبي:

كان للشكليّة الروسيّة بشكل عام أثر كبير في لفت الأنظار إلى الإشكالات الأساسيّة في النقد الأدبي والدراسة الأدبيّة، من ناحية الموضوع بالدرجة الأولى، حيث غيرت الشكلية كثيراً من المفاهيم التي تدور حول العمل الأدبي وطبيعته، وأرجعت القضيّة إلى أجزائها الأساسيّة التي يمكن الانطلاق منها. كما ساعدت الاتجاهات المتعددة في الشكليّة الروسيّة ما تقارب منها من بعضه وما تباعد، على ظهور مدرسة (براغ البنيويّة) في منتصف العشرينيات، وكانت أنموذجاً للجناح الأدبي في المدرسة البنيويّة الفرنسيّة في الستينيات والسبعينيات في القرن العشرين.(22).

المدرسة الشكلانية عند النقاد العرب:

(رغم أنَّ الشكلانيّة الروسيّة تكوَّنت في بدايات القرن العشرين، وشكّلت إرثاً ضخماً امتدَّ إلى الثقافات الأخرى من الفرنسيّة إلى الإنجليزيّة والألمانيّة، وأحدث هذا الإرث صدىً واسعاً في هذه الأوساط الثقافيّة، إلا أن قبولها من النقاد العرب جاء متأخراً، فلم تتم الترجمة لها أو الاهتمام بها قبل السبعينيات من القرن المنصرم، ولم يكن هناك عند الكتاب والأدباء العرب شيء ذو أهميّة فائقة أو كبيرة عن الشكلانيين ونظرياتهم والمناهج النقدية الخاصة بهم.). (23).. أو بتعبير آخر، (لم يستقبل النقاد العرب الشكلانيّة الروسيّة بالحفاوة ذاتها التي استقبلت فيها في بلدان أوربا الغربيّة، بل لم يكترث النقاد لأمرها إلا بعد مرور سنوات كثيرة، ففي السبعينيات من القرن الفائت بدأت حركة اهتمام متواضعة وخجولة بترجمات لا تكاد تذكر في الشكلانيّة الروسيّة، ولم يكتب للشكلانيّة التداول في الأوساط العلميّة والجامعيّة والأكاديميّة، ولا في الأوساط الثقافيّة والاجتماعيّة قبل هذا الوقت.). (24). (ربما يعد كتاب "رينيه ويليك وأوستين وارين" المعنون بـ (نظرية الأدب)، أول كتاب نقدي يتطرق إلى الشكلانيّة ويترجم إلى اللغة العربيّة وذلك عام 1972، ورغم ذلك فلم يحظَ هذا الكتاب بالاهتمام ولم يلفت اهتمام القارئ العربي في المشرق أو المغرب إلى الشكلانيّة، رغم أهميته المدرسيّة والعلميّة وما في ثناياه من إشارة إلى أعمال الشكلانيين.). (25).

ملاك القول:

على العموم، إذا انتقلنا إلى مرتكزات الشكلانيّة الروسيّة لفحص دعائمها النظريّة والتطبيقيّة، فيمكننا حصرها في النقط التالية:

١- (عدم الاكتفاء بالأعمال القيمة والمشهورة في مجال الأدب أثناء التطبيق النصي، بل توجهت الشكلانيّة الروسيّة إلى جميع الأجناس الأدبيّة، مهما كانت قيمتها الدنيا؛ مثل: أدب المذكرات، وأدب المراسلات، والحكايات العجيبة.. الخ، قصد معرفة مدى مساهمتها في إثراء الأعمال العظيمة، كما فعل "ميخائيل باختين" مع الأجناس الشعبيّة الدنيا في كتابه (شعريّة دوستويفسكي).).(26).

2- استعمال مصطلح السيميوطيقا، أو ما يسمى بالسيميائية  والسيميولوجيا: وقد (عرف مصطلح السيميولوجيا أوالسيميوطيقا على أنه علم حديث ظهر بفضل النتائج التي توصل إليها "دوسوسير" في مجال البحث اللساني، حيث اعتبرت اللغة في هذا المصطلح نظاماً من العلامات والرموز يهدف إلى تحقيق التواصل والتبليغ في مجتمع ما، وهو بهذا الشكل يقر بالطابع الاجتماعي للغة.).  (27).

3- الاهتمام بخصوصيات الأدب والأنواع الأدبية. أي: البحث عن ما سمي بالأدبيّة، وما يجعل الأدب أدباً. (ويُذكَر أن "الشكليّة" كان لها دور كبير في تطوير النقد الروائي، نظرا لما جاءت به من مفاهيم خاصة حول: "الوظيفة"، و"الحبكة"، و"الحكاية"، و"التحفيز"، وغيرها.). (28).

4- التركيز على شكل المضامين الأدبيّة والفنيّة، ودراستها في ضوء مقاربة شكلانيّة. وليست القضية من منظورهم قضية إنكار لهذا المضمون، فهم يعترفون بعلاقة "الفن" بالواقع الاجتماعي، ولا ينفون هذه العلاقة، وإنما القضية عندهم قضية تحديد تخصصات. إذ إن هذه العلاقة - من منظورهم - ليست من شأن الناقد، كما أن ليس عمله تحديدها أو تحديد "المضمون" الموجود في "الأدب"(29). وعلى هذا الأساس جاء انتقاد الشكلانيّة أيضا لإهمالها مشاكل علم الجمال، وإغفالها لمبادئ علم النفس وعلم الاجتماع، وتحويل الدراسة الأدبيّة إلى تطبيقات شكليّة وتقنيّة لا فائدة منها، كونها تَهْمِلْ الإنسان والتاريخ والمجتمع والنفس الإنسانيّة. أي: تهمل الذات المنتجة والذات المتلقيّة، وتقصي الواقع الذي يجمعهما على مستوى الإرسال والمرجع الاجتماعي بكل مستوياته. لقد كان هم الشكلانيين الأساس هو دراسة النواحي الشكليّة في (مظاهرها اللغويّة)، التي يتَّبعها العمل الأدبي، لكي يجعل من نفسه مغايراً للغة الخطاب العاديّة المستخدمة في الحديث اليومي، وذاك لكي يتمكن – العمل الأدبي - من تقديم تلك المعاني والحقائق التي اعتدنا عليها، في شكل نستطيع معه الإدراك على نحو أعمق وأكثر نضجا عما قبل. أي استقلاليّة الأدب عن الإفرازات والحيثيات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والتاريخيّة والنفسية والأخلاقية، ودراسته باعتباره بنية مستقلة عن ما يحيط به).

6- التشديد على خاصيّة الاختلاف والانزياح بين الشعر والنثر.  (30).

ختاماً: نقد وتقويم:

بعد أن كانت الشكلانيّة الروسيّة موقفاً نقدياً ادبياً له حضوره الكبير لربطه بين الواقع والفكر، أو بين الشكل والمضمون في الأدب فمع مطلع القرن العشرين، أصبحت  جريمةً غير مقبولة في روسيا الاتحاديّة عندما تخلت عن هذا الربط الجدلي، والدليل على ذلك الحملات التي قام بها الإيديولوجيون الاشتراكيون ضد هذه النظريّة النقديّة؛ مثل "تروتسكي" الذي اعتبر النظريّة الشكلانيّة بمثابة اعتراض على الماركسيّة في روسيا السوفيتيّة، و"لوناتشارسكي" الذي وصف الشكلانية، في سنة ١٩٣٠م، "بأنها تخريب إجرامي ذو طبيعة إيديولوجيّة.". إلا أن هذه الشكلانّية طُعمت بآراء التحليل الاجتماعي الماركسي مع أحد السوسيولوجيين الروس، وهو "أرفاتوف"، وأيضا مع "جان موكاروفسكي"، وكذلك مع البلغاريّة "جوليا كريستيفا" التي زاوجت، في تحاليلها النصيّة، بين الشكلانيّة والمقاربة السوسيولوجيّة الماركسيّة. وبهذا، كانت سباقة إلى تأسيس ما يسمى بالسيميوطيقا/ السيميائيّة الماديّة. (31).

إن هذه الشكلانيّة الروسيّة - التي أفلت في سنوات الثلاثين من القرن الماضي - أصبحت مدرسةً مُرَحَّباً بها في أوروبا الغربيّة منذ سنوات الستين من القرن الماضي، ونالت ثناءً كبيراً من قبل الباحثين والدارسين. وفي هذا يقول "رومان جاكسون": (وعلى الرغم من المخلفات المحزنة لهذه المواقف الكريهة – للشكلانيّة - فإننا نلاحظ اليومَ ميلا للتذكير بالاكتشافات الحقيقية للسانيات وعلم الجمال السوفياتيين، في العشرينيات، لإعادة تأويلها وتنميتها – أي الشكلانيّة الروسيّة - في هيئة جديدة خالقة؛ وذلك عن طريق مقابلتها بالتيارات الراهنة للفكر اللساني والسيميائي، وإدماجها في النظام المفهومي المستعمل اليوم. إن هذا الميل النافع ليتجلى بحيويّة في المناقشات، وفي الأعمال الجذابة لباحثين شباب، في كل من موسكو، ولينِنْغراد، وتارتو." (32).

***

د. عدنان عويّد

......................

الهوامش:

- (تم تشكيل مدرسة موسكو تارتو للسيميائية ونظرية العلامات بين عامي 1958 و1962. عندما انضمت مجموعة متنوعة من العلماء بشكل غير رسمي من الخمسينيات إلى الثمانينيات لتقديم بدائل للنهج السوفيتي الحاكم للغة والأدب والثقافة، وعملهم على تطوير لغويات دو سوسير بمفاهيمها المركزية عن الإشارة كوحدة للدال والمدلول.). يراجع موقع – e3 arabi – إي عربي.

- (حلقة پراغ اللغوية: تكونها  عدد من علماء اللغويات والنقاد. وطور اعضاء الحلقة طرق التحليل اللغوي التركيبيّة بين عامي 1928 الي 1939 ولكن بعد الحرب العالمية الثانية ورغم تشتت المجموعة ظل تأثير مدرسه براجغ واضحاً علي علم اللغويات. تزعم العالم التشيكي البارز "ڤيلم ماتسيوس" الحلقة حتي وفاته في 1945. ضمت الحلقة علماء روس مثل رومان ياكوبسون ونيقولاى تروبتسكوى وسرگي كراكڤييسكى وأيضا عالمي اللغة التشيكيين البارزين رينيه ولك ويان موكاروڤسكي.). يراجع مقع المعرفة – حلقة براغ.

1- (موقع: جامع الكتب الإسلامية - النظرية الشكلانية في الأدب والنقد والفن ). بتصرف

2المرجع نفسه. بتصرف

3- المرجع نفسه.

4- (موقع سطور).

5- (الشكلية في الأدب"، www.marefa.org،). بتصرّف.

6- "المدرسة الشكليّة الروسيّة.. قراءة في النقد المعاصر"، www.ahewar.org، بتصرّف.

7- موقع سطور بتصرف.

8- (بيتر شناير، المدرسة الشكلانية الروسية، صفحة 33.).

9- (اوراد التويجري - "المنهج الشكلاني"، جامعة بابل). بتصرف

10- المرجع نفسه

11- (موقع سطور.). بتصرف.

12-  المرجع نفسه - بتصرف.

13- ( الشكلانيّة الروسيّة )". www.uobabylon.edu.iq. بتصرّف.

14- ويكيبيديا. بتصرف.

15- (موقع سطور- بتصرف.

16- ("شكليّة"، www.wikiwand.com. بتصرّف.

17- ( مجلة دروب الأدب – المدرسة الشكلية في النقد العربي الحديث – د. لامية مراكشي. بتصرف).

18 - الوكيبيديا. بتصرف.

19- الموقع نفسه - بتصرف.

20- (الموقع نفسه - بتصرف).

21- (الموقع نفسه - بتصرف. وحول أمفهوم اللغة الشعريّة – يراجع موقع موضوع - مفهوم اللغة الشعرية - فرح عبد الغني.

22- (المرجع نفسه - بتصرف. وللاستزادة في معرفة "مدرسة براغ" يراجع موقع – هنداوي – المصطلحات الأدبيّة الحديثة – الفصل الخامس – مدرسة براغ.

23- (  لامية مراكشي، "المدرسة الشكلية في النقد العربي الحديث"، مجلة دروب أدبية.).

24- المرجع نفسه.

25- المرجع نفسه.

26- ).(ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي، ترجمة: الدكتور جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة ١٩٨٦ م.

27- (مصطلح السيميولوجيا وإشكالية الترجمة - لكاتب: حمادي فاطمة الزهراء.  https://www.asjp.cerist.dz/en/article/ ).

28- (أهم أفكار الشكلية الروسية Russian Formalism - مدونة الناقد: وائل النجمي.).

29- ). (أنظر: تيري إيجلتون - مقدمة في نظرية الأدب - ص14.).

30- ( للاستزادة في معرفة الدعائم النظريّة والتطبيقية لنظرية أو منهج الشكلانيّة الروسيّة  نظر: الشكلانيون الروس: نظرية المنهج الشكلي، ترجمة: إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط، الطبعة الأولى سنة ١٩٨٣ م، ص:٩. عن موقع (موقع: جامع الكتب الإسلامية - النظرية الشكلانية في الأدب والنقد والفن).

31- (موقع: جامع الكتب لإسلامية النظرية الشكلانية في الأدب والنقد والفن). بتصرف.

32- المرجع نفسه - بتصرف.).

ستيفان تسفايغ أحد أعظم الكتّاب في عصره، وأوسعهم شهرة عالمية، ومؤلف عدد كبير من الروائع الأدبية في الرواية والسيرة الفنية والتاريخ والرحلات. روايات تسفايغ القصيرة تدهش القارئ بطابعها الدرامي، وتأسره بحبكات غير عادية، وتجعله يفكر في تقلبات مصائر البشر، ومدى عجز الانسان الأعزل، وما يمكن أن يرتكبه من أعمال أو جرائم تحت تأثير العاطفة. كانت الشخصية الرئيسية في معظم رواياته امرأة معقدة ورائعة، وكان تصوير تسفايغ لها واقعياً ورائعاً، لدرجة أن العديد من القارئات أحببن رواياته، إلى حد التماهي مع شخصياتها الرئيسية.

عندما تولى هتلر السلطة في ألمانيا، شعر تسفايغ، النمساوي - اليهودي بالمصادفة على حد تعبيره - أنه لن يمر وقت طويل قبل أن يغزو هتلر النمسا أيضًا. وبعد أن شعر بذلك، غادر وطنه وعاش بقية حياته مغترباً، في إنجلترا وأمريكا والبرازيل.

كان يكره الفاشية بشدة، ويرى أن هجومها على البلدان الأوروبية الأخرى هو بداية انهيار الحضارة الغربية. النمساوي بالولادة ورجل الثقافة الألمانية، لم يستطع أن يتصالح مع حقيقة أن الأراضي الألمانية أصبحت تشكل تهديداً لوجود البشرية. ويتألم عندما يرى انهيار الثقافة الأوروبية والقيم الإنسانية.

كان كاتباً إنسانياً مسالماً، لكن النظام الهتلري عَدَّه عدواً، حيث تم حرق كتبه وحظرها رسمياً في ألمانيا. ومنذ عام 1934 رأى الكاتب بوادر اقتراب الأسوأ.فانتقل من سالزبورغ إلى لندن، وحصل على الجنسية البريطانية، ولكنه لم يشعر بالأمان.

مثلث الحب

في إحدى الحفلات التقى تسفايغ بزوجته المستقبلية فريدريكا وينترنيتز. كانت مطلقة، ولم تنجح حياتها الأسرية، ورحل زوجها من أجل امرأة أخرى، وتركها مع ابنتين صغيرتين دون مصدر رزق. كانت فريدريكا تبلغ من العمر 26 عامًا، وتلقت تعليماً جيدا، حيث أكملت دورات في علم النفس وأصول التدريس، وعملت معلمة للغة الألمانية والفرنسية، وكتبت قصصًا جيدة. وقد أحبها تسفايغ بعمق وتزوجها في عام

1920، وعاش معها عشرين سنة في سعادة ووئام. ذات مرة كان تسفايغ وزوجته يتنزهان بالقرب من منزلهما في سالزبورغ عندما صادفا رجلاً عجوزاً متهالكا على ذراع فتاة صغيرة كانت تسنده بعناية، وتمهد الطريق له.

" كم هي الشيخوخة مثيرة للاشمئزاز! - قال ستيفان بعد ذلك. لا أريد أن أعيش لرؤيتها. ماذا لو لم تكن هناك حفيدة بجانب هذا الخراب، بل امرأة شابة. هل تذكرين ما جاء في التوراة عن الملك داود؟ وصفة الشباب الأبدي تبقى هي نفسها في كل العصور. لا يمكن لرجل عجوز أن يستعيرها إلا من امرأة شابة تحبه". ستتذكر فريدريكا لاحقًا بمرارة ما قاله ستيفان، رغم أنها لم تعلق عليه أهمية كبيرة في تلك اللحظة.

هل كان من الممكن أن تظن فريدريكا أن السكرتيرة التي أحضرتها إلى المنزل لمساعدة زوجها في طباعة أعماله ستصبح أمله الذي طال انتظاره لاستعادة شبابه؟.

لم تكن فريدريكا تتخيل أن شارلوت ألتمان، وهي فتاة منحنية ونحيفة وشاحبة البشرة، يمكن أن تشكل تهديدًا لسعادة أسرتها. كانت الفتاة تبحث عن عمل من خلال لجنة اللاجئين، فأخذتها فريدريكا بدافع الشفقة. لم يكن لدى شارلوت المسكينة، البالغة من العمر ستة وعشرين عاماً، سوى ميزة واحدة مقارنة بفريدريكا: الشباب. في مرحلة ما، اكتشفت السيدة تسفايغ أنها موجودة داخل مثلث الحب. علاوة على ذلك، أخبرتها شارلوت نفسها عن هذا في رسالة، وتوسلت أن تسامحها – لأن ذلك كان مجرد حادث. وعلمت فريدريكا أن زوجها كان له رأي مختلف، عندما اقترحت تسريح السكرتيرة. قال ستيفان إن الفتاة كانت "مثل معجزة" بالنسبة إليه. استمرت هذه الحياة الغريبة ثلاث سنوات - قبلت فريدريكا على مضض شروط اللعبة.

لكن ذات يوم، عندما عادت إلى المنزل، رأت شظايا إناء مكسور ووجه زوجها المرتبك. قال إن شارلوت تسببت في فضيحة، وكانت على وشك القفز من النافذة. وطلب من فريدريكا الطلاق. كان ذلك بمثابة صفعة على وجهها، لكن ماذا يمكنها أن تفعل؟ تم التوقيع على الوثائق، لكن ستيفان أدرك على الفور تقريبا الخطأ الفادح الذي ارتكبه. وتوسل إلى فريدريكا أن ترسل برقية إلى المحامي بإسميهما يطلبان فيه وقف إجراءات الطلاق. تم إرسال البرقية، ولكن من المفارقات أن المحامي كان في إجازة. وتم طلاقهما رسمياً في عام 1938، ولكن فريدريكا كانت تتلقى كل يومين رسالة من ستيفان: «عزيزتي فريتزي!.. ليس في قلبي سوى الحزن من هذا الانفصال، الخارجي فقط، وهو ليس انفصالًا داخليًا على الإطلاق.. أعلم أنك ستكونين حزينة بدوني»... لكن ليس لديك الكثير لتخسريه. فقد أصبحت مختلفًا، تعبت من الناس، ولا يسعدني إلا العمل. إن أفضل الأوقات قد ولت بلا رجعة، وقد عشنا خلالها معًا...أتوسل إليك أن تحافظي على اسمك العائلي – تسفايغ".

في عام 1940، بعد إندلاع الحرب العالمية الثانية، هاجر الكاتب إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع زوجته الشابة شارلوت. لكنه ساعد زوجته السابقة وابنتيها من زواجها الأول على القدوم إلى هناك، والتقى بها، بل وأراد الذهاب في إجازة معًا. لم تكن روحه تعرف السلام، ولم يكن يستقر على حال. كان عيد ميلاده الستين يقترب. "ستون - أعتقد أن ذلك سيكون كافياً. العالم الذي نعيش فيه لا رجعة فيه. ولن نتمكن بعد الآن من التأثير على ما سيأتي. كلمتنا لن تُفهم بأي لغة. ما الفائدة من العيش مثل ظلك؟" وينقل يوهام ماس عن شارلوت قولها: “إنه ليس في حالة جيدة. أنا خائفة".

ولسوء الحظ، لم تتمكن السكرتيرة المسكينة من تحقيق معجزة إعادة الشباب لزوجها المسن. كتب تسفايغ في إحدى رسائله إلى فريدريكا: “لا يمكن خداع القدر؛ لقد انتهى الأمر، ولم أعد عاشقًا". واعترف في الرسالة التالية: "كل أفكاري معك".

كان الملاذ الأخير لتسفايغ هو بلدة پتروپولیس على مشارف مدينة ريو دي جانيرو في البرازيل، التي أهدى لها أحد كتبه - "البرازيل - بلد المستقبل". واعترف بأن الحياة هنا مريحة، والناس ودودون للغاية.. ومع ذلك، في الوقت نفسه، شعر وكأنه منفي لن يرى وطنه مرة أخرى.

كان هو وشارلوت يجلسان في الأمسيات على الشرفة، ويراقبان الغسق وهو يتعمق تحت النهر، ويسمعان أصوات الآخرين القادمة من المنازل المجاورة،. وأصوات الراديو البعيدة، وصرير الكراسي الخشبية الهزازة، وأحاديث لا نهاية لها بلغة أجنبية غير مفهومة، تخلق شعوراً بوجود ستار لا يمكن اختراقه يفصلهما عن الحياة العادية والطبيعية.

كان تسفايغ يتقن اللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية، لكنه لم يحاول تعلم اللغة البرتغالية، فقد كان مشغولا للغاية طوال الوقت - عقود مع دور النشر، والكتب الجديدة، والطلاق المؤلم من زوجته فريدريكا، والأهم من ذلك - اقتراب الطاعون النازي، الذي حرمه من منزله ووطنه ومستقبله.

قضى تسفايغ لأشهر الأخيرة من حياته في حالة اكتئاب عميق. كان يشعر بالوحدة، ولم يجد من يتحدث معه، وغاب عن المناسبات والأحداث الثقافية. ومقارنة بالفخامة التي اعتاد عليها في الفيلا الخاصة به في سالزبورغ، بدا المنزل الصغير المستأجر في پتروپولیس متواضعا لا يليق بمقامه. كان الأثاث بسيطاً، وكان كل استحمام يتطلب تسخين الماء بصعوبة كبيرة، بالإضافة إلى ذلك، بحلول عام 1942، اضطر إلى خلع جميع أسنانه.

قبل وقت قصير من انتحاره، كتب تسفايغ: "أريد أن أقوم بواجبي الأخير- أن أشكر بصدق هذا البلد الرائع، البرازيل، الذي رحب بي ترحيباً حاراً ووفر لي الظروف الجيدة لعملي. كل يوم أتعلم المزيد والمزيد. إنني أحب هذا البلد، ولم يكن بإمكاني في أي مكان آخر إعادة بناء حياتي بالكامل بعد أن فقدت عالم لغتي، ودمرت أوروبا - موطني الروحي - نفسها بنفسها؟.

:" الرعب الذي تسببه لي الأحداث الجارية يزداد إلى ما لا نهاية. نحن الآن على حافة حرب ستبدأ حقًا بتدخل آخر القوى المحايدة، وبعدها ستأتي سنوات ما بعد الحرب الفوضوية... ويتبادر الى ذهني أنه لن يكون هناك لي منزل، أو مأوى، أو ناشر، و لم يعد بإمكاني مساعدة أي من أصدقائي بعد الآن. كنت أقول لنفسي دائمًا: اصمد طوال الحرب، ثم ابدأ من جديد... هذه الحرب تدمر كل ما أنشأه الجيل السابق".

 لم ير تسفايغ مكانه في عالم المستقبل. وهكذا، فإن قرار إنهاء الوجود البغيض نضج تدريجيا، يوما بعد يوم. عندما رأت شارلوت معاناة زوجها، حاولت التخفيف عنه، ولكن دون جدوى.

نهاية مأساوية

في 22 فبراير 1942، كتب ستيفان وشارلوت 13 رسالة إلى الأصدقاء، بما في ذلك رسالة ستيفان الى زوجته الأولى فريدريكا التي يقول فيها:" لقد سئمت من كل شيء". لم تترك شارلوت حبيبها، وأخذت معه جرعة قاتلة من الباربيتورات. عندما دخل خدم المنزل غرفة النوم لتأخرهما بالاستيقاظ المعتاد، وجدوا الكاتب و وزوجته قد فارقا الحياة في عناق أبدي ودون إثارة ضجة. وكانت هناك رسائل وداع على الطاولة.

قالت شارلوت في رسالتها الوداعية : " إن الموت سيكون تحريراً لستيفان، ولي أيضا، لأنني تعذبت بسبب نوبات الربو ". وكتب ستيفان :"بعد الستين، هناك حاجة إلى قوة خاصة لبدء الحياة من جديد. لقد استنفدت قوتي بسبب سنوات التشرد بعيدًا عن وطني. بالإضافة إلى ذلك، أعتقد أنه من الأفضل الآن، ورؤوسنا مرفوعة، أن نضع حداً لوجود كان فرحه الرئيسي هو العمل الفكري، وقيمته العليا الحرية الشخصية. أحيي جميع أصدقائي. دعهم يرون الفجر بعد ليل طويل! "لكنني غير صبور جدًا وأغادر قبلهم.

في اليوم التالي تصدر خبر انتحارهما الصفحات الأولى لكبريات الصحف العالمية. وتحت الخبر المحزن صورة الزوجين المتوفين. كان وجه تسفايغ في صورته الأخيرة مسالمًا. وضعت شارلوت رأسها على كتف زوجها وأخذت يده في يدها بحنان. دفن ستيفان وشارلوت تسفايغ في المقر الصيفي السابق للأباطرة البرازيليين في بتروبوليس.

في عام 1942، لم يكن من الممكن أن يظل هذا الخبر مثار ضجة كبيرة لفترة طويلة، في ذروة الحرب العالمية التي كانت مستعرة في أوروبا والشرق الأقصى. أثار سلوك تسفايغ الدهشة في الأوساط الأدبية.

يبدو للوهلة الأولى أنه لم يكن لدى تسفايغ أي أسباب واضحة للانتحار. لا أزمة إبداعية، ولا صعوبات مالية، ولا مرض قاتل، ولا مشاكل في حياته الشخصية. ووفقا لمعايير ذلك الوقت، كان يعتبر رجلا ثرياً جداً.

صدمت الأوساط الثقافية في العالم بالخبر المفجع وطرح العديد من التأويلات المختلفة الحافلة بالتكهنات والاستنتاجات النفسية حول أسباب الإنتحار: ربما سئم من التشرد والبحث عن وطن جديد. كانت البرازيل ملاذاً مريحاً، إلا أن الكاتب كان يتوق إلى موطنه النمسا.

. وقال توماس مان، وهو كاتب ألماني عظيم آخر في المنفى، بأنه "هروب من مصير المهاجرين المشترك بيننا جميعًا وانتصار للطبقة الحاكمة في ألمانيا، التي تم التأكيد على "براعتها" المثيرة للاشمئزاز من خلال ضحية بارزة بشكل خاص". ومع ذلك، بعد مرور عشر سنوات، اعترف مان بأنه بدأ يفهم تسفايغ، الذي لم يكن يريد ولا يستطيع أن يعيش في عالم مليء بالكراهية والمصائب والحواجز العدائية والخوف الذي لا يرحم الذي أحاط به.

وربما كان التفسير الذي قدمه إريك ماريا ريمارك هو الأقرب الى الحقيقة:

" الأشخاص الذين ليس لديهم جذور، غير مستقرين للغاية، وتلعب المصادفة دوراً حاسماً في حياتهم. لو تمكن تسفايغ وزوجته في المساء الذي انتحرا فيه في البرازيل، من التعبير عن حزنهما لشخص ما، على الأقل عبر الهاتف، فربما لم تحدث هذه الكارثة. "لكن تسفايغ وجد نفسه في أرض أجنبية بين الغرباء ".

***

د. جودت هوشيار

تقديم: رواية الشاعرة مالكة حبرشيد جرح الذاكرة شخصيا أصنفها ضمن أدب السيرة الذاتية أكثر منها رواية، وذلك لأنها أساسا سرد لوقائع حقيقية مرت بحياة الشاعرة. فهي إذن جزء من السيرة الذاتية التي تتضمن لحظات من السير الغيرية، وفي هذا العمل الأدبي السردي تنفلت الشاعرة من الروائية ونجدنا بين الفينة والأخرى أمام فقرات مطولة هي أقرب للشعر والسجع أكثر من العمل الروائي التقليدي وهو زمن طويل وقوي من عمر السيرة الذاتية حيث تطل عليك شاعرة من حجم مالكة في أسلوب روائي لن تجده إلا في جمال العبارة عند زميلتها أحلام مستغانمي .

الرواية/السيرة الذاتية تداخلت فيها عدة أنماط سردية، وظهر منها جليا شكل الكتابة الشذرية على شاكلة ما كتبه محمد شكري في المتأخر من كتاباته.

في السيرة الذاتية للشاعرة مالكة هناك تداخل لأزمنة الكتابة وأحيانا يحضر الفلاش باك، ولذلك فهذا المتن السردي مؤهل لأن يصبح عملا دراميا خصوصا وأنه هو أساسا صرخة إدانة لواقع اجتماعي مرير من طرف شاعرة أتهمها بالمثالية.

عاصمة الحكي في سيرة الكاتبة هي مدينتها الجميلة خنيفرة المناضلة، وهي شكواها الأولى من ظلم التاريخ والاقتصاد والاجتماع .

هذا النص الأدبي يتحرك أساسا بين زقاقين ومدينتين وزمنين هما زمن الظالم وزمن المظلوم. وبين لحظتين، لحظة الواقع المرير ولحظة المستقبل المأمول، المحمول على كتفين، كتف الوعي وكتف النضال .

هكذا رأيت النص فأثار انتباهي أنه لا يكاد يتحرك إلا داخل ثنائية ما، ولربما الإشتغال بالرقم إثنين، ومنها أن مفاتيح الأرض والسماء في خنيفرة إثنتيهما توجدان في يد إثنين هما الفقيه والولي الصالح .

الكاتبة في هذا العمل السردي لها نمطها الخاص في الكتابة وإن كان هناك بعض التناص الأسلوبي في كتابها هذا مع كتاب ٱخرين في لحظات من الإبداع إن في السجع أو في الانتقالات الشذرية .

الكاتبة مالكة، في هذا العمل يتصارع في ساحة مدادها شخصيتان، شخصية الشاعر الحالم ذي العبارة القوية والصورة الشعرية والصحافي الناقم على الوضع والراصد للواقع البئيس، وهذا الأسلوب الصحافي التقريري الذي يغطي مساحات من هذا العمل السردي ليس غريبا على الكاتبة فهي متابعة جيدة لما تمور به الساحة السياسية الوطنية والدولية، ويتضح بشكل جلي من خلال كتابها أنها مناضلة حقوقية ونسوية شرسة خطت النص معتمدة على الكثير من الكلمات المفتاح التي تخترقه طولا وعرضا وتختصر كثيرا من مسافات المعنى، وهي أكثر من عشرين لفظة مثل:

الجرح/ الجهل/ الفحولة الراسخون/ التواطؤ/ الدم/ المدى/الردح/المايات/الجمجمة.

أما كلمة نكبر فكانت افتتاحا ومفتاحا لخمس انتقالات في السرد من مرحلة إلى أخرى.

أزعم أن حب الكتابة عند الشاعرة مالكة بدأ منذ أن بدأت تنصت لأنين مدينتها خنيفرة، ولذلك فالأماكن والشخوص لهم حضور قوي في هذا العمل الذي استعملت فيه الكاتبة عدة تقنيات لتبليغ الرسالة/الصرخة، منها تمرير المعنى على لسان الغير واستعمال لفظة هنا وهناك بالأمازيغية أو الدارجة، كما أنها تشرك القارئ في عملية التأليف بالإكثار من نقط الحذف، ناهيك عن إطلالة الميلودراما واستعمال الجمل ذات المفردات المتناقضة.

كما أزعم أن أقوى لحظات الإبداع في الكتاب هي حين تنتصر الشاعرة على الروائية، وحين تنتصر المبدعة على المناضلة، وفي تلك اللحظات أتت عبارات قوية منها:

 - يزهو بملابسه الرثة

 - معطف صبر وحذاء انتظار

 - ميبلادن تزغرد وجعا.

 - ظل الحزن صعلوكا على قارعة الحياة.

 - إلبسي أوجاعك.

 - تخمة الجوع.

 - السكوت المقصود دوي   يصم الٱذان.

 - بشارات الهزائم.

الكاتبة مالكة حبرشيد أجد فيها المرأة المغربية الأصيلة، فهي عربية العرق، أمازيغية الهوى، مغربية الهوية، وقدرها أن تكون كذلك فوالدتها الأمازيغية لما تزوجت بوالدها العربي كانت هي الأمازيغية الوحيدة في قبيلة زوجها، وبسبب أخلاقها وصبرها اتجه جل شباب القبيلة يختارون الزواج من فتيات القبيلة الأمازيغية المجاورة مما وحد القبيلتين في بوثقة واحدة موحدة، وذاك مثال للتلاقح العربي الأمازيغي ببلادنا العزيزة.

هذه الكاتبة الأمازيغية/العربية هي مسلمة العقيدة اشتراكية المذهب السياسي، نبوية الدفاع عن حقوق المرأة، تقصف ولا تبالي، تقول كلمتها الحرة ولا تهتم بالنتائج، تقول للجلاد أنت جلاد، وتدين السلطة، وتفضح أشباه المثقفين مزدوجي الوجه والمبادئ، وتمقت سوق النخاسة الانتخابي.

وأنا السائح بين هذه السطور أحدث نفسي وأقول، ما هذا التشاؤم ؟ لكن صاحبة الصحيفة لا تتنازل، فهي تعلن نفسها كاتبة لالتقاط السواد (على الرغم أنه لا يليق بها) وذلك رفضا منها للدخول في الجوقة. لكن سوداوية وتشاؤم الكاتبة لا ينم في العمق عن هزيمة بقدر ما ينم عن حرقة وأمل في الانتصار والتجاوز.

الطفلة مالكة كانت بعشق متعدد وتعطي لحياتها معنى داخل غرفة بيتها متحركة بين الأدب والرقص والغناء، وعلى الرغم كل الحظر الممارس من أهلها فهي أحيانا وبتٱمر مع والدتها تنسل من البيت لتمارس نجوميتها فتكون أحيانا ماجدة وهي تركب الطائرة مع حبيبها، وأحيانا سعاد حسني النشالة، وكثيرا ما رأت نفسها جميلة بوحيرد وهي تمد الثوار بالسلاح والطعام، ولما تخرج من سينما الأطلس تختلس الخطوات من الجنبات خوفا من أن تلتقطها عينا أخيها فيضيع منها ما حملت من زاد وذخيرة.

 تعود البطلة للبيت وقد انشطرت الى نصفين. نصف مستسلم للخوف، وٱخر متمرد على تقاليد الاجترار القاتل.

الطفلة مالكة التي كانت بطلة أفلام والتي حاورت المتنبي مرارا والتي حلمت أن تكون شاعرة أو قائدة ثورية منقذة أو أميرة شارل. كبرت على وسادة الأرق واكتشفت أن الوطن ليس خنيفرة، وأنه أكبر من ذلك. لكن للأسف مع كبر الوطن كبرت الهموم. وعلى الرغم من ذلك أقول شخصيا أن جزءا من حلمها تحقق، لقد أصبحت شاعرة مبدعة بحجم مطبات الوطن، وأصبحت ناشطة حقوقية أدانت الظلم والقهر والجهل وأدانت حتى الذكورة، وأتساءل كم كانت تحتاج من ديوان لتهجو الذكورة لولا بصمة والد حنون يحب والدة صبورة.

أصبحت شاعرة لأنها حاورت المتنبي، ولأنها أنصتت لأدب الشارع السبعيني (الحلقة) ولأنها تابعت حكي عمي موحى الذي تحدثت بلسانه، ولربما في لحظات ما تحدثت الكاتبة على لسانه، هذه الأخيرة التي برعت في وصف جسده الذي أنهكته الحرب العالمية الثانية، وزاده المخزن إنهاكا لالشيئ سوى لأنه ينتمي للقبيلة نفسها التي ينتمي إليها الثائر أومدة .

كبرت الطفلة وأدانت إدريس البصري الذي حلق شعر الشيختين فاطمة قسو وتاولعيبات لأنهما رفضتا الرقص أمامه هو وضيوفه في 3 مارس ولسان حالها يقول إن للحق دمعا وللباطل أنيابا.

كبرت الطفلة وأدانت مديرة الثانوية مارگيريت تاتشر.

كبرت وأدانت الرقية الشرعية.

كبرت الطفلة وأعلت من شأن كوثر حفيظي، وثريا الشاوي، وسعيدة لمنبهي، ولم تنس أعلام خنيفرة موحى اوحمو الزياني، وموحى أوسعيد وعلي امهاوش.

ختمت الكاتبة كتابها بقصيدة شعرية تعتذر للشعر وتتهمه بمخاتلة المعنى، وهي بذلك تدافع عن عملها الذي اعتنى بكشف الحقيقة وتعرية المستور على حساب صنعة الكتابة بالرمز والمرموز، وفي السياق نفسه، وقبل القصيدة/الختم نجد في السطر ما قبل الأخير عبارة تقول (بقدر ما يتحقق من تطور تكنولوجي يتوحش الإنسان).

***

محمد شخمان - مكناس/المغرب.

يونيو/حزيران 2024.

يحتل عنصر "المكان" مكانًا متصدرًا في قائمة العناصر التي تأثرت سلبًا بالتَّحوُّلات التَّوظيفيَّة في عصرنا الحاضر، فاختلفت اختلافًا جوهريًّا عمَّا كانت عليه في الماضي، فحين ننظر في تراثنا العربي؛ نجد أن العربي القديم اهتم بالمكان اهتمامًا بالغًا، فجعله رفيقًا له في أشعاره، وقرينًا ملازمًا لذِكر المحبوبة في المقدمة الغزلية التي كان يفتتح الشاعر بها قصيدته، وشاهدًا ناطقًا في أغراض الفخر والهجاء وذِكر الوقائع والحروب، لذلك كان ذلك العربي القديم -على اعتزازه وإبائه- يبكي إذا ابتعد عن موطنه المفضَّل، كما يذكر لنا امرؤ القيس [ت: 80ق.هـ] وهو يصف حال رفيق رحلته عمرو بن قميئة [ت: 85ق.هـ] حين اصطحبه معه إلى قيصر:

بكَى صاحِبي لمَّا رأى الدَّرْبَ دُونَهُ

وأيقَنَ أنَّا لاحِقانِ بِقَيْصَرا

وبعد أن جاء الإسلام ظل المكان محتفظًا بصدارته، إلى أن كثر اختلاط العرب بغيرهم نتيجة الفتوحات الإسلامية، وتمصير الأمصار، وانتقال بعض أهلها إلى الإقامة في بلاد العرب، وصاحَبَ ذلك بناء المدن والقرى، واختفاء حياة التنقل والترحال التي كان يعيشها العربي القديم، وأصبح الناس يعيشون في نسيجٍ واحدٍ، تحت ظِلال حضارة جديدة لها خصائصها ومعالمها المختلفة.

وفي هذه الحضارة الجديدة ازدهرت عند العرب علوم أخرى بجانب علومهم الأدبية التي برعوا فيها قديمًا مِن شعرٍ ونثرٍ؛ فظهرت علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه وما يتعلق بها من علم الأصول والعلل وغير ذلك، إضافة إلى علوم الفلسفة والاجتماع وغيرها من العلوم الإنسانية، وكذلك العلوم التطبيقية كالطب والهندسة والرياضيات وغيرها، وقد نبغ في جميع هذه العلوم عددٌ كبيرٌ من العرب وغيرهم؛ وهنا برز دور المكان من جديدٍ ولكن بشكلٍ مختلفٍ؛ فقد أصبح المكان عاملًا مؤثِّرًا في حصول العلماء -ومنهم الشعراء والأدباء- على مكانتهم التي يستحقونها أو يرجونها؛ فكان الشاعر الفحل أو الأديب البليغ أو العالِم المتصدر في علمه؛ إذا عاش بعيدًا عن العواصم والحواضر؛ لا يكاد يُلتفَت إليه؛ ويذكر لنا التاريخ أمثلة على ذلك؛ منها ما أورده ابن خلكان [ت: 681هـ] في وفيات الأعيان؛ أن «الحسين بن شعيب السنجي [ت: 427هـ]، لمَّا انصرف مِن عند الشيخ أبي حامد الإسفرايني [ت: 406هـ]؛ مرَّ بابن كج [ت: 405هـ]، فرأى ابن كج عِلمه وفضله، فقال له: يا أستاذ؛ الاسم لأبي حامد والعلم لك؛ فقال: ذاك رفعته بغداد وحطَّتني الدينور».

وربما كان ذلك لكثرة إقبال الناس على الحواضر والعواصم؛ وهو الأمر الذي يساعد في شهرة النابغين من أهلها، فكان ذلك عاملًا مشجعًا على إقبال النابغين من كل مكانٍ إلى هذه العواصم والحواضر، فوجد الناس بذلك من العلم ما يكفيهم مشقَّة التَّرحال في طلبه؛ فهم يعيشون في المدن الجاذبة لأهل العلم والفكر والإبداع، فمن عاش من العلماء بعيدًا عنها؛ لم يكن له ذِكرٌ، في الغالب.

وفي عصرنا الحاضر؛ أصبح الإعلام هو الذي يفرض أهمية المكان وإن كان ذلك المكان خامل الذكر في جميع الحضارات السابقة وانتهاء بحضارتنا الإسلامية التي فاقت كل حضارة، فقد أصبحت بعض القنوات الإعلامية تُضفِي هالةً من التَّبجيل على بعض المبتدئين والمتعالِمِين -رغم ضعفِهم- لا لشيءٍ إلَّا لأنهم من قاطني هذا المكان أو ذاك؛ الذي تحاول بعض الكيانات الدَّخيلة أن تروِّج له، مستغلَّة بعض الإعلاميين الضعفاء ممن لا عِلم لهم ولا خبرة، فتُزيِّن لهم أن ذلك المكان اشتهر قديمًا واحتلَّ الصدارة في بعض العلوم، أو نبغ فيه أحد القادة الفاتحين أو نحو ذلك، ثم تملي عليهم ما تريد من مدحٍ وإطراءٍ وتقديسٍ لذلك المكان؛ أملًا منها في صرف الأنظار إليه، وتعلُّق العامَّة به، مع أن الله لم يكتب لذلك المكان شيئًا له قيمة، أو حدثًا له أهمية؛ إنما القضية كلها تتعلق بالغزو الفكري الذي تعكف على تنفيذه مؤسسات كارهة للعروبة وللإسلام، وإذا كان بعضٌ أو كثيرٌ من هؤلاء الإعلاميِّين الذين يقعون في براثنهم؛ ليس لديهم قدرٌ كافٍ من العلم أو الثقافة؛ فالأدهى من ذلك أن بعض المحسوبين على العلم والثقافة ينساقون خلفهم ويشجعونهم، حتى نتج عن ذلك تقديسٌ أعمى لبعض الأماكن التي لا يُعرَف لها ما يستدعي شيئًا من التقديس؛ فلا هي بالأماكن الدِّينية التي أمر الله بتقديسها، ولا هي بالأماكن التي شكَّلت هويَّة العرب أو المسلمين يومًا ما، والمأساة الحقيقية في ذلك أنهم يتَّخذون من ثقافتهم الدَّخيلة مقياسًا، وقد جعلهم ذلك يظلمون الناس ويتنكَّرون لأفضالهم، حتى أصبحوا يحطُّون مِن مكانة العالِم المبدع لأنه ليس من أبناء أو سكَّان تلك القرية الأثرية -مثلًا- التي تقع في مدينة كذا؛ التي ينتمي إليها أولئك الإعلاميون ثقافيًّا، وهذا هو نهجُهم في كل أمرٍ يُسلَّطون عليه مِن قِبَل تلك الكيانات التي تستغلهم في عمليات الغزو الثقافي والفكري الذي تتعرض له بلادنا العربية والإسلامية؛ ذلك الغزو الذي يتم تنفيذ مخططاته بأيدي بعض الجاهلين الذين تم وضعهم في صفوف الإعلاميين لكي يروِّجوا لكل ما هو قبيح، ويحطُّوا مِن قدر كل ما هو جميل ونافع.

وعَوْدًا على بدءٍ نقول: إنَّ حُبَّ العربي القديم للمكان وحنينه إليه؛ لم يكن من أجل المكان ذاته؛ فقد كان معظمهم يعيشون على الترحال والتنقل؛ إنما كان شعورهم بالانتماء إلى هذا المكان أو ذاك من أجل ما شهده المكان من مواقف وأحداث تمثِّل جزءًا من حياتهم وتاريخهم، لذلك كان حب المكان أمرًا فطريًّا ومطلوبًا.

لكن ما سرُّ حبِّ العربي المعاصر لمكانٍ ليس بِعَربيٍّ أصلًا ولا إسلاميٍّ ولا علاقة له بأي عنصرٍ من عناصر هويَّتنا؟! إن الأمر لا يعدو كونه محاولةً لِسَلخ العربي من هويَّته، والزَّجِّ به -ثقافيًّا وفكريًّا ووجدانيًّا- في أحضان أمكنةٍ غريبةٍ عنه، لذلك يسعون جاهدين من أجل تتويج أبناء تلك الأمكنة الأعجمية بشهادات النبوغ والتفوق في علوم العرب وثقافتهم، وفي الوقت ذاته يجري التعتيم على النابغين والمتفوقين العرب.

***

حسن الحضري - شاعر وكاتب مصري

بدءاً، نقول إن الروائي والناقد والبروفيسور البيروفي ماريو بارغاس يوسا (1936) يعد من أهم فرسان جيل الازدهار الادبي في أميركا اللاتينية، الجيل الذي نشط في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، وضمّ الكتّاب المعروفين على نطاق عالمي؛ كارلوس فوينتس من المكسيك، وخوليوكورتازار من الأرجنتين، وغابرييل غارسيا ماركيز من كولومبيا، وإيزابيل الليندي من تشيلي. وبالإضافة إلى التوصيف المذكور – جيل الازدهار، فإنهم، كلما ذُكرت الواقعية السحرية في الأدب العالمي، ذُكرت هذه النخبة. والواقعية السحرية، بحسب الويكيبيديا، تُعرّف بأنّها تقنيةٌ أدبيةٌ ظهرت في كثيرٍ من الأعمال الروائية والقصصية في الأدب الألماني منذ مطلع خمسينات القرن الماضي، وأدب أميركا اللاتينية بعد ذلك، ثمّ وجدت طريقها إلى بعض الأعمال في آداب اللغات الأخرى. ويستثمر هذا التيار الأدبي مزج تنويعاتٍ فنتازية مع قوانين الواقع، بشكلٍ يذهل القارئ ويربك حوّاسه فلا يستطيع التمييز بين ما هو حقيقي وما هو خيالي، هذه التنويعات ماثلةٌ في الخرافات والحكايات الشعبية والأساطير وعالم الأحلام والكوابيس.

حظي بارغاس يوسا بشهرةٍ عالميةٍ في ستينات القرن الماضي منذ صدور أولى رواياته؛ المدينة والكلاب، والبيت الأخضر، وحديث في الكاتدرائية. وتناولت رواياته مضامين متنوعة، مثل ألغاز جرائم وموضوعاتٍ تاريخيةٍ وأحداثًا سياسية، وتحوّل عديد أعماله إلى أفلام، مثل: بانتاليون والزائرات، والعمّة جوليا وكاتب النصوص . حصل على عديد الجوائز، اهمها جائزة ثيرفانتس (1994)، جائزة نوبل في الآداب عام (2010).

من أعماله المترجمة إلى العربية؛ قصة مايتا 2013، وحرب نهاية العالم 2021، ودفاتر دون ريغوبرتو 1997، وامتداح الخالة 1999، ومن قتل بالومينو موليرو2001، وحفلة التيس2018، والفردوس على الناصية الأخرى 2004، ورسائل إلى روائي شاب 1997، وشيطنات الطفلة الخبيثة، 2006، وليتوما في جبال الأنديز 1993، والجراء (رواية قصيرة 2007، والرؤساء (مجموعة قصصية) 2007، وحلم السلتي 2012، والبيت الأخضر 2015، والبطل المتكتم 2016، وخمس زوايا 2021، وزمن عصيب 2021 .

يستثمر بارغاس يوسا السخرية السوداء في عديد أعماله الروائية، ولذا كان من الالقاب التي أطلقت عليه (المتهكّم الذكي) مثلاً، رواية "العمة جوليا وكاتب السيناريو"، المُترجمة إلى العربية عام 2023، لم يُتَح لنا الحصول على نسخةٍ منها، ولكن كُتب عنها بأنّها روايةٌ غارقةٌ في الفكاهة وحبّ المراهقين، وأنّها روايةٌ تتحدّث عن سحر المدينة المفقودة، وهي " نوعٌ من السيرة الذاتية لـ بارغاس يوسا". تغمر قارئها بالسرور والبهجة، وتتناول حنين بارغاس يوسا إلى ليما – عاصمة البيرو- في خمسينات القرن الماضي. وهي رواية ممتعة "تمتلئ بالأشخاص الغريبي الأطوار وخطوط الحبكة التي تمزج الخيال بالحقيقة". ويمكن أن نتناول هنا بشكلٍ موسّع، روايتيه المهمتين (بانتاليون والزائرات)، و(قصة مايتا)، لما فيهما كما نرى، من رؤى تراجيكوميدية كتبهما بارغاس يوسا بشكل ذكيٍ ومُحترف.4263 bantalyon

بانتاليون والزائرات

صدرت هذه الرواية بطبعات عديدة، آخرها عن دار الجمل 2022، ترجمة صالح علماني. وتدور أحداثها في البيرو، موطن الروائي، ويمكن إيجاز حبكتها بما يلي: بعد تلقّي المؤسسة العسكرية في البيرو شكاوى كثيرةً عن اعتداءات الجنود في مناطق الأمازون على نساء الفلاحين وبناتهم، ابتكرت هذه المؤسسة فكرة تأسيس خدمة زائرات" نساء غانيات" يتكفّلن بتوفير المتعة الجنسية للجنود. وللمفارقة، الطابعة لأعمال بارغاس يوسا، فإنّها، أي المؤسسة العسكرية، تكلّف أشدّ ضباطها التزاماً في حياته العسكرية والاجتماعية النقيب المُرقّى حديثاً بانتاليون بانتوخا بتأسيس خدمة دعارةٍ للقوات المسلّحة، فيحقّق نجاحاً باهراً فيها، انعكس على تسميتها شعبياً (بانتالاند)، لكنَّ هذا النجاح لبطل الرواية عسكرياً والعاطفة المشبوبة تجاه أجمل نساء خدمة الزائرات، وتدعى البرازيلية أولغا، الامرأة الوحيدة، من بين اللاتي يقدّمن تلك الخدمة، التي تجرّأت على جسّ نبض عواطف بانتوخا، لما امتاز به من صرامةٍ في تعامله مع الزائرات. هذا النجاح، لابدّ من دفع ثمنه الباهظ لجهة مهنته العسكرية وحياته العائلية، فتهجره زوجته بوتشيتا مع ابنتهما الحديثة الولادة، بعد انكشاف أمره مع العشيقة البرازيلية، ومن ثمّ انكسار بطل الرواية بانتوخا إلى وضعٍ لا يُحسد عليه، نتيجة الحملة الشرسة التي قادها إعلامي إذاعي مُمثّلاً بشخصية سينتشي، لفضح هذه الخدمة، ومن ثمّ السكوت من جانبه عنها مقابل رشىً. لكنّ السكوت والمديح جاءا بعد افتضاح أمر بانتوخا. ومن التطوّرات التي رافقت تلك الخدمة وأصابتها في مقتل، خطف مدنيين من قرى البيرو النائية زائرات، واغتصابهنّ بوحشية، كان من نتائجها التراجيدية مقتل البرازيلية فنعاها بانتوخا، وظهر في المقبر مرتدياً الزي العسكري، متجاهلاً أو متناسياً تحذيرات القادة الكبار بارتداء الزي المدني لإخفاء علاقة الجيش بالخدمة، فأدّى ذلك إلى انهيارها.

وترى الناقدة والأكاديمية السورية الأردنية شهلا العجيلي، في معرض قراءتها للرواية بأنّها تثبت بأنّ ما يصنع الروايات الجيّدة، ليس الأفكار الخطيرة، ولا الأحداث العظيمة، بل تلك التي تجعل أيّة حادثةٍ بسيطةٍ حدثاً مهماً في واقع النصّ. فنّ الرواية، بحسب العجيلي، بحاجة إلى حكاياتٍ، لا إلى أفكار فحسب، وفي الوقت ذاته "هذا لا يعني أنّ الرواية بعيدة عن التاريخي والدينيّ والسياسيّ والإديولوجيّ. إنّها تقاربهم، وتستعملهم من غير أن يستعملوها".

أدرج المتهكم الذكي بارغاس يوسا، على طول صفحات الرواية، تقارير الجيش الرسميّة المؤرخنة، مع الالتزام بتفاصيل التقارير جميعها: "الطريقة، الخطاب، المفردات، الاعتذارات، الحواشي، الخواتيم، كما استعمل الردود على التقارير" كما ثبّتت العجيلي في قراءتها للرواية. كما استثمر بارغاس يوسا سردنة الوثائق، عندما ضمن الرواية سيناريو نصياً عن تدخّلات الإعلامي الإذاعي سينتشي، سعياً منه في تأليب الرأي العام ضدّ بانتوخا، من أجل الحصول على رشىً منه، وحين اضطرّ بانتوخا إلى التسليم بالأمر وإرسال مبلغٍ شهريٍّ، انقلبت البوصلة باتّجاه كيل المديح لبانتوخا وفريق الزائرات، وهنا سخريةٌ واضحةٌ من الإعلام المدفوع الثمن، الذي ظاهره الدفاع عن المبادئ وباطنه الابتزاز والرشى.

استثمر بارغاس يوسا الريبورتاجات الصحفية، لنقل الوقائع الكاملة لمقتل البرازيلية أولغا، كما نشرت صحيفة (أروينتي) في عددٍ خاصٍّ لها وقائع تشييع جثمان القتيلة، ومراسم دفنها بالمقبرة العامة، وتكريمها بوصفها" شهيدة الخدمة"، وضمّ العدد الخاص كلمة النعي التي ألقاها بانتوخا، والتأثّر المفرط الذي كان بادياً عليه إلى حدّ البكاء. وبما أنّه عددٌ خاص، فقد تشرت الصحيفة وقائع جريمة ناوتا، المنطقة التي وقعت فيها أحداث الجريمة. ونشر تاريخ العدد الصادر للصحيفة يوم 5 كانون الثاني 1959، يوحي للقارئ بأنّها أحداثٌ حقيقية، وهنا يتّضح أثر مصداقية الواقعية السحرية على القارئ، من خلال تلك الأرخنة، بحيث يلتبس على القارئ هل ما يقرأ؛ واقعٌ أم خيال؟ كما أنّ التشييع المهيب لقتيلةٍ تعتبر اجتماعياً سيئة السمعة، يفصح لنا أنّها روايةٌ تراجيكوميدية، يدهشنا فيها البناء الروائي المُحكم في (بانتاليون والزائرات) حينما تتراصّ هذه الملهاة" تقديم الخدمة الجنسية للجنود" مع السياقات العسكرية الرصينة.

قصة مايتا

رواية " قصة مايتا" يستثمر فيها بارغاس يوسا التهكّم السوداوي عن التطرّف الثوري في دول العالم الثالث، البيرو، نموذجاً، ومآل فشل هذا التطرف وهزيمة عرّابيه، وانزلاق موطن الروائي إلى أحداث عنفٍ وحربٍ أهليةٍ حدثت في البيرو بين عامي 1982 – 2000.

تقع أحداث الرواية عام 1958، بطلها، مايتا شخصيةٌ حقيقيةٌ (افتراضاً) قادت تمرّداً ثورياً فاشلاً في عام 1958، بمعيّة بعض المتطرّفين اليساريين، المنتمين إلى حزب العمال الثوري (التروتسكي)، الساعين إلى قيام دولةٍ اشتراكيةٍ في بلادهم. في الرواية يلتقي مايتا بملازم الشرطة باييخوس، وهو الذي حرّض مايتا على القيام بهذا الحراك الثوري، في إقليم خاوخا عاصمة البلاد الأولى.

الراوي الأول هنا، هو الكاتب ذاته، أي يدخل كشخصيةٍ رئيسةٍ في الرواية، وهذه أحد التقنيات التي يحفل بها أدب بارغاس يوسا، وهي الرواية الصادرة بنسختها الاصلية عام 1986، هو يستنطق شخصيات الرواية، ويجمع شهادات عنهم عن التباسات قصة مايتا مع التغيير الثوري الذي يزمع هذا الأخير القيام به، ومن هذه الشخصيات، شخصية خوسيفا أروسيوينيو، خالة مايتا وعرّابته، مثلاً هذا الحوار بين الكاتب واروسيوينيو " هل جرت هنا الحفلة التي تعرّف فيها مايتا على باييخوس؟ هنا بالذات – تؤكد لي السيدة اريسوينيو ذلك.." الرواية: ص13، التحقيق المفصّل عن مايتا والتحولات في حياته، شاباً وكهلاً، أثار فضول خالته وشكوكها، وهو يثير فضول القارئ أيضاً، هل هذا التقصّي حقيقةٌ أم خيال؟، بدليل صيغة إجابة الروائي، عندما تسأله الخالة..هل سيكتب سيرة حياته، فيجيبها كما ورد في الرواية" لا، ليس حياته – أجبتها وأنا أبحث عن صيغةٍ لا تسبّب لها مزيداً من البلبلة- أريد أن أكتب شيئاً مُستوحىً من حياته. ليس سيرةً وإنّما رواية. قصة حرّة، حول الحقبة، والوسط الذي عاش فيه مايتا والأشياء التي جرت في تلك السنوات": الرواية ص25 .

وهنا نسأل، هل تقصّيات الروائي حقيقيةٌ أم خيالية، هل التداول العمومي للواقعية السحرية لدى القارئ يجعل كلّ شيء مُبلبلاً، إذ بالإمكان وصفها بأنها تخييلٌ أكثر واقعيةً من الواقع. وهنا لعبة الروائي في إثارة مزيدٍ من البلبلة والتفكير التأملي لدى القارئ فيما يقرأ، حيث يتوقّف ليتساءل هل هذا واقعٌ أم خيال. يرى القارئ أنّ الحوار بين الروائي وإحدى شخصياته مثيرٌ جداً، فهي تسأله لماذا اختار مايتا للكتابة عنه، وترك شخصياتٍ شهيرةٍ في البيرو. تساؤل خالة مايتا أثار بدوره تساؤلات لدى الروائي" ألأنّه في عبثيته وتراجيديته كان السبّاق؟): ص23 . هذه التراجيكوميديا في شخصية مايتا تعكس" صورة شعاعية للتعاسة البيروية".

أرى في كلّ تعاسات البشر طرفين متناقضين، الملهاة والتراجيديا، ليس هناك شقيٌّ أو تعيسٌ لا يتهكّم عن حياته، وحيوات الناس من حوله، سعداء أو تعساء. الفكاهة السوداء ماثلةٌ في تضاعيف الرواية، من ذلك ما يقوله مايتا عن حديث باييخوس عن الثورة" لقد أمتعه سماع من يتحدّث عن الثورة كمن يتحدّث عن لعبةٍ أو مأثرةٍ رياضية": ص24، وهو توصيفٌ ثريٌّ عن الثورة، واقعي – خيالي.

ما يحدث في (قصة مايتا) قلبٌ للوقائع، وإبرازها بشكلٍ ساخر، مثلاً، عندما يقول باييخوس بأن البيرو الحقيقية موجودة في سلسلة الجبال، وليس على الشاطئ، إنها موجودة ما بين الهنود ونسور الكندوز وذرى الأنديز، كذلك ليما العاصمة، ليست الموجودة، الآن، هي الحقيقية، حين يصفها" المدينة المتأجنبة والمملّة واللابيروية": ص30 .

تنعكس طروحات باييخوس على مايتا، حيث يصف الثاني الأول بأنه سياسي نقي، السياسة لديه" مشاعر وحسب، نزقٌ أخلاقي، تمرّد، مثالية، أحلام، سخاء، صوفية" ص30 .

ولكنّ ما جرى، لاحقاً، من تطرّفٍ ثوري في أحداث خاوخا عام 1958، أدى إلى انقلاب المفاهيم، وأصبح اللاواقع هو الواقع، والمثالية السياسية تحوّلت إلى وقائع حزينةٍ تثير المرارة والسخرية معاً. والدليل على ذلك تأملات مايتا بشان الثورة، حيث هي" روتينٌ لا نهائي، وبخلٌ رصين، وإنها ألف تقشّفٍ وتقشف، وألف دناءة ودناءة، وألف وألف..." ص31 .

هناك سخريةٌ من قبل مايتا، تّجاه مثقفي بلاده" أخلاقهم تكاد لا تساوي إلا قيمة تذكرة سفرٍ بالطائرة إلى مؤتمر للشباب، أو للسلام، الخ": ص32. وعلى وتيرة التحقيق مع خالة مايتا، يجمع الروائي المشارك في الرواية تحقيقات وشهادات، تشكّل البنية الأساسية للرواية، عبر ثلاثة أزمنة؛ زمن الروائي، وزمن الرواة المُستجوبين، وزمن البطل، وبتداخل تلك الأزمنة، تتسع دائرة الرواية، لتصبح كما المتاهة اللاوقعية، وهذا ما يؤكده بارغاس يوسا، بالنص في الرواية "إنني واقعي، أحاول أن أكذّب دائماً في رواياتي وأنا أعرف السبب، إنّه أسلوبي في العمل، وأعتقد أنّها الطريقة الوحيدة لكتابة قصةٍ بالانطلاق من التاريخ": ص97. وهنا نقول إنّ الكذب، أي الخيال هو الملهاة، والصدق، أي الواقع، هو التراجيديا.

ما يريد أن يقوله بارغاس يوسا هو أنه اخترع بيرو " قياميّة"، فبوساطة خياله الفانتازي الجامح والمنضبط في الآن ذاته، يقول الروائي" اختلقت بيرو قيامية، تعيث بها الحرب والإرهاب والتدخلات الأجنبية خراباً، ولن يتعرف أحدٌ بالطبع على أيّ شيء وسيعتقد الجميع أنّها محض خيال": ص 399 . لقد أذاب بارغاس يوسا الحدود بين التاريخ واللاتاريخ، بين الواقع واللاواقع، ليزرع في كل ما قرأنا الشك المثمر، الذي يحفزنا للبحث عن تاريخ أكثر صدقية.

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

ان شعراء وادباء ثقافة الادب الساخر هم الحالمون بحل لغز الصراع الطبقي بين اللبراليين المنحرفين وبين المثقفين الحقيقيين الصامدين هم الذين يؤدون ضريبة التحرر وهو عنوان الاديب وموقعهُ من التغيير، باعتقادي الشخصي يكون قد حصلنا على المثقف الملتزم وهم شعراء وادباء المهجر الذين هجروا الوطن للحفاظ على الوطن، يقول الاديب الروسي مكسيم غوركي : " ان الادباء مهندسو النفوس البشرية "الذين تعرضوا لعذابات نفسية لتسلط على الروح والفكر، وربما خاض تحديات نضالية كفاحية خطيرة يسهل الطريق الى التغيير المنسشود، لذا يكون الشعر والادب في الصدارة الريادية لانهُما من انواع الفنون التحريضية والكشف والشهادة على واقعية الحدث اليومي والتاريخي، وهو بذلك يسبق العقل ويواكبهُ ويضيء لهُ الطريق ويحرسهُ من غوائل التضليل وكشف عالم المظلومية في حياة المواطن وازماته اليومية، حين نواجه حقيقة مرة ربما محبطة للتامل انهُ : لا تغيير شامل الا بالشعر والادب ! ربما هو شاعر او اديب انتحاري ذاهب الى الحرب بدون اسلحة تقليدية بيد انهُ على علمٍ مسبق بقواعد اللعبة وقادر على تفكيك شفرة الذات البشرية باشعاره الترميزية او اديب مثقف ملتزم في مدوناته الانتقادية اللاذعة  كما يبدو في سيمياء عنوان المقالة،  عبد الجبار وهبي (ابو سعيد) وجاسم المطير والشاعر الخالد احمد مطرهم البعض من  شعراء وادباء المقاومة .

ويبدو لي من خلال مطالعاتي لهذا الصنف الساخر من الادب ان الشعراء والادباء جندوا انفسهم لهذه المهمة الصعبة والمعقدة والمحفوفة بالمخاطر المرعبة ربما يواجه الموت او النفي من وجه الارض هو صاحب الكلمة الحرة الاديب المتطوع لمهمة المعارضة وكشف المظلومية ومقاتلة بسلاح افتراضي لذباحي الكلمة الحرة يتميز بانهُ متابع وقارئ نهم ومطلع لما يكتبون حولهُ مطلا من نافذة العراق ثم من نافذة الادب الخليجي فالعربي والعالمي، ومطلع جيد لعالم الروايات العربية المصرية والعالمية، اضافة الى الا طلاع على عصرنة الشاشة البيضاء السينما الصامتة والمتحركة وصاحب موهبة في رسم الكاريكاتيربتوليفة حس موسيقي مرهف لكي يجيد هندسة اللعبة الانتقادية خلال تحريك بيادق رقعة الشطرنج ليعلن خلال الاحتدام (كش ملك ---- مات !!!) فهو اقتحامي جريء يتمتع بنسبة كبيرة من الشجاعة والحكمة ولانهُ قد اتقن مفهوم الحرية وربيب المعتقلات والسجون السياسية  .

نماذج لمثقفي الادب الساخر

-الاستاذ عبد الجبار وهبي (ابو سعيد) عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي عام 1963، كان لهُ عمودا مخصصا لمقالته اللاذعة بعنوان (كلمة اليوم) في جريدة اتحاد الشعب في ستينات القرن الماضي، وددتُ ان احصل على نسخة من جريدة اتحاد الشعب الصادرة عن لسان الحزب قبل ستين سنه بيد ان محاولاتي اليائسة مع الارشيف لم تنجح !، كانت كلمته الانتقادية سياسية وسوسيولوجية اجتماعية له القدرة الفائقة في تحويل الالم الى (بسمة) بتوليفة درامية من نقدٍ وهجاء وتهكم لتطهير النفس البشرية من الهم والقلق والاحباط والياس والتشاؤم يشطبها الكاتب المتالق ابو سعيد سراعا (ببسمة) وتسمى بالنقد الادبي بالكوميديا السوداء، وكانت (كلمة اليوم) مشوقة ومثيرة للاهتمام حتى سُئل الزعيم عبدالكريم قاسم من قبل الصحافة عن رايه بالكاتب عبد الجبار وهبي !؟ قال : رصاص راس القرية ارحم لي من عبد الجبار وهبي ابو سعيد (يقصد براس القرية تقاطع في شارع الرشيد تعرض الزعيم الى عملية اغتيال فاشلة خططها  لهُ حزب البعث العربي الاشتراكي، وكانت نهاية هذا الكاتب والمثقف الساخر الاعدام يوم 19 تموز 1963من قبل انقلابيي 8 شباط الاسود 1963.

- الكاتب الساخر البصري جاسم المطير :1934-2023 هو باحث سياسي اقتصادي وقاص وروائي عراقي من مواليد البصرة، اشتهر بمقالاته الساخرة اللاذعة الموسومة ب(مسامير جاسم مطير) وهذا نموذج واحد توفر عندي بعد البحث المضني !  :

من مسامير جاسم المطير- وزيرة الصحة العراقية نموذج الهي لا يستقيل !!!

ان معالي وزيرة الصحة العراقية الدكتورة عديله حمود قيادية في حزب الدعوة لا تعرف شيئا عن (ايزيس) ولا عن (ربة الامومة) لانها منغمسة بحب المنصب الوزاري، عويناتها متركزة ومفتوحة على الراتب والمكاسب لا شان لها بمبادئ  الشاعر الجورجي فايكومينيسكي ولا بما يسمى (اسطورة اوزوريس) كما انها لا تعرف شيئا عن حريق 12 طفل رضع في مستشفى اليرموك ببغداد، ولا تعلم ان يوم امس استقالت في السويد اصغر وزيرة سويدية عمرها 29 سنة اسمها (عايده حاج علي) من اصول يوغسلافية سبب تقديمها الاستقالة لانها رُصدتْ في الشارع العام وهي تسوق سيارتها وهي محتسية قنينة بيره، بعد فحص جهاز نسبة الكحول تبينت النسبة 20% غرمتْ 50 يورو، ولكنها قدمت (استقالتها) لانها تعتقد انها تجاوزت على القانون ينسبة 20% في 1\8\2016  .

- الشاعر احمد مطر : 1954 البصري اقتحم عالم الشعر وهو يحمل جينات التصدي للانظمة الشمولية الدكتاتورية والظواهر الاجتماعية والسياسية المعيبة، امتزجت هذه الظواهرالحياتية مع عالمهِ الشعري ليرسمها بابهى صورة وبنكهة جمالبة خاصة اضطر فيها سلوك طريق هذا النمط من المقاومة الذي هو التعبير عن الثورة والتغيير .

اخر قصيدة لاحمد مطر في الحكام العرب بعد ثورات الربيع العربي:

عندي لغز يا ثوار

يحكي عن خمسة اشرار

الاول يبدو سباك

الثاني ساقٍ في بار

الثالث يعمل مجنونا

في حوش من غير جدار

والرابع في الصورة بشرْ

لكن في الواقع بشار

اما الخامس يا للخامس !

شيءَ مختلف الاطوار

انك تعرفهُ مكار

***

عبد الجبار النوري – كاتب وباحث ادب عراقي مغترب

في تموز 2024

................

هوامش

-اطروحة الباحثة العراقية مريم الفاخري \ اساليب السخرية في ادب احمد مطر.

- الادب الساخر\ نبيل راغب، سنة النشر 2000 بيروت

في تموز 2024

بين اللامنتمي والمنتمي في مسيرته الشعرية

تعرفت عليه في مهرجان المربد في أواخر الثمانينات، في حينها أهدى لي مجموعته الشعرية (مقعد راكب غادر الباص   1987). من حينها عرفته مهاجرا ثائراً ينطبق عليه قول كولن ولسن (في كتابه اللامنتمي) بانه الانسان الذي أدرك ما تنهض عليه الحياة الانسانية من اساس واهٍ، فشعر بان الاضطراب والفوضى اللتان يسودان العالم هما أعمق تجذرا من النظام....

فمنذ مجموعته الاولى (ليس للمساء اخوة) تحسسته شاعراً يسير على حبل متدلٍ بين ضفتين - المنتمي واللامنتمي - الى الزمان والمكان، فالزمان لديه ينصهر في اللحظة التي فيها والمكان هو تلك البقعة الصغيرة الذي يقف او يجلس او يستريح فيها...

بدأ الشاعر اكتشاف ذاته من خلال اكتشافه للزمان والمكان الذي جعله يشعر بالانتماء، أنه المكان الحبلى بذكرياته الطفولية كي يختزل كينونته الانسانية الناتجة من تفاعلاتها مع الاخر الجمعية مكونة الـ (نحن).

تارة كانت محطات الباصات والقطارات مكانه والزمان لديه كان تلك اللحظة التي كانت الاعاصير تجرفه و ترميه الى تلك المحطة التي يستقر فيها... لذا كثيرا ما كان يكتب رغباته على الثلج وعلى رمل البحر محبّته...

لقد أحس الشاعر منذ خطوته الاولى أن اقتناص اللحظات الهاربة هي التي تمكنه من ايجاد معادلا نفسيا لحالات الارهاق النفسي من خلال بحثه لايجاد مكان لا يتعالى فيه الاحساس بالملل والرتابة.4260 وديع سعادة

كان يتقمص في مسيرته دور بطل هنري باربوس (الجحيم) وهو يفتش عن الوجود من خلال فتحة المفتاح في الباب او ثقب ابرة ولكنه لم يرى الا فوضى من الحشد يشتركون في هدف الوصول مسرعين الى مراكب بحار وأمواج  تسير بهم مسرعة، احدهم يريد أن يصل بركابه الى نقطة الوجود واخرى تجرفهم مع اوراق الشجر المتكدسة على سطح الماء الى الشاطئ الرملي لينصهر في اللاوجود. جميعهم يدورون في حلقة أرض اليباب (اليوت) لانهم لم يفكروا يوما ان يكونوا رموزا حسابية في معادلة الحرب التي دمرت لبنان والمنطقة، لذا فهم يرفضون تلك القيم التي حولت ربيع بلادهم الى خراب لذا كل منهم، ومن بينهم شاعرنا تأبط نعلاه ليمتشق عباب المغامرات ما دام كل شئ سينتهي الى النهاية..

كان يرى الحياة كما الحلم في مفترق الطرق فهي ليست الحقيقة، فلا طريق أمامنا الى الخارج ولا العودة الى الداخل، لذا بدأ يكتب رغباته على قالب الثلج ومحبته على البحر  حين تكسرت في يده زجاجة العالم (كما يقول في قصيدته 1VX  - ليس للمساء اخوة - 1974):

في هذه القرية

تُنسى أقحوانات المساء

مرتجفة وراء الأبواب

في هذه القرية التي تستيقظ

لتشرب المطر

انكسرت في يدي زجاجة العالم

أن عاطفته الإبداعية وتحسسه في الأثر الذي تركه اللاانتماء الى المكان، أكسبته نبضاً إبداعياً، جعلته يتحلق بها من إطارها الفوضوي الحسي اللا منتظم في حيز الطبيعة، إلى إطار فني جمالي منظم، عبر جمالية التخييل، وفضاء المتخيل الإبداعي الخلاق.

أيا ترى ما الذي جعل شاعرنا يتأرجح بين اللامنتمي و المنتمي إن  لم تكن نظرته الثاقبة الى الوجود كونه كان يرى اكثر مما تراه عيناه، فعاشت في مخيلته مئات الاسئلة جعلته يرى كل شئ وكأنه يعيش ما بعد الموت.. وكما يقول في مجموعته (المياه المياه 1983):

قطرةً قطرة

ينزل الموتى على بابي

ومركب يتوقف من أجلي تحت الشمس

وجالية فقيرة من الرعشات

تعود الى الرمل

هذا الانزياح الحياتي لم يكن الا تمردا وجوديا لا يخلو من رغبة في تأكيد الذات الخارجة عن النسق ببوصلة منكسرة تجعل صاحبها في حالة تيه وضياع.

من هنا تمظهرت ظاهرة اللامنتمي الى المكان في قصائد الشاعر وديع سعادة كشكل من أشكال التمرد على الواقع كونه كان يرى تلك النسمة التي تستحق المغامرة من أجلها، فبدأ شعره يتجه ليتقمط دلالة الذات بوصفها الفضاء الحضوري، فجاءت قصائد المجموعة وهي منحازة إلى مايشبه الهاجس اليومي فاشتغل الشاعر على أسلوب السيرذاتية فأبدع فيه. وكما في قصيدته (حياة) من مجموعته (مقعد راكب غادر الباص   1987):

وأنا ولدُ أرعن راكب دراجة

يهرِّب زنزاناته في الليل

يمشي مخمورا

حاملاً رجلاً مجنوناً منذ الصباح على ذراعه

ذاهباً نحو مسحّ

محتفظاً من كل ماضيه بـ: أحشاء

ومفتاح

لا يجد له بيتا

الرحلة وضعته هنا

ان الانسان الذي تسوقه الهجرة يصادف في حياته الاوهام والرغبات فهو لا شئ سوى ذلك الحبل الذي تحول جسرا يفصل بين المنتمي واللامنتمي بين الوجود واللاوجود بين الحنين الى مهد طفولته او البقاء متدليا في وسط حبله... فتحسس الشاعر أهمية المكان كونه من أكثر العناصر أهمية في تشكيل جمالية نصه الشعري فارتبط به ارتباطًا وثيقًا منذ ولادته الأولى، مروراً بشبابه وحتى اللحظة، حيث أصبح المكان هاجسا لا يمكنه الانفصال عنه فبدأ يبحث عنه كي تتجسد على أرضهِ معالم شخصيته التي ارتسمتْ خطوط البدايات الأولى لتجربته الأدبية. 

ففي مجموعته (بسبب غيمة على الارجح   1992) بدأ الشاعر ينشطر بين حنينه وذكرياته  في بيته الدافئ مع عائلته وهو يقص لاطفاله الحكايات وبين مشقات الطريق، فتارة تقذفه الرياح وفي الاخرى تقذفه أعاصير البحار كما يقول في قصيدته الظلال من المجموعة نفسها حيث يتجسد خيال الشاعر في حركة قطرات الماء التي تنحدر من سفوح الجبال نحو ساقية تجرف معها آماله وطموحاته وأبتسامات الصغار فتبعثرت وتشتت فكيف له أن يجمع أوصالها ليبث فيها الحياة إن كان لا يجدها حتى من خلال  ثقب ابرة:

زحلوا حتى وصلوا

الى الماء منهكين

وفوقهم كانت الشمس تبحث عن إبرة

لتعيد وصلهم بالظلال

أن القيمة الجمالية لفضاء المتخيل الشعري تبدو في هذه الإسقاطات الجمالية على الشخصية والأحداث، والرؤى الشعرية، فلا تزال قصائده منحازة إلى مايشبه الهاجس اليومي ولا يزال يعيش ويزاوج بيته الريفي اينما ذهب يتخيله معه يسكنه ويلامسه إلا أنه هل يستطيع ذلك البيت أن يرمم جراحه ويعيد النصاب الى ما عليه؟؟؟.

بعد تجربته الشعرية هذه دخلت الصورة مرحلة أخرى، فما عادت إحساساً أو إدراكاً للمكان المشبع بذكريات الطفولة ومأساة الحرب وفقدانه لمن كانت سرته مرتبطة بسرتهم بل أصبحت تجسد الاشياء التي يصادفها في رحلته الطويلة في الوقت الذي لا يزال يعيش الفراق والزوال وخاصة حين فارقت امه الحياة:

نادوها من سطيحاتهم، نادوها من الحقول

لم يسمعوا صوتها

وحين جاؤوا

كانت نقطةُ ماءٍ لا تزال

ترشَحُ من يدها وتزحف

الى الحبقة

وبعدها عاش فراق والده:

لم يقل شيئاً قبل أن تحول

وجهه غابةً

فقط شجرات قليلة منها صارت بيضاء

حين الثلج على الجبل المقابل كان يرحل

وشجرات مدّت جذورها وطلع

دغلٌ صغير من ترابه

حاول الشاعر في محطته هذه تجسيد الحقائق النفسية والشعورية والذهنية التى يريد  أن يطرحها، من خلال تجربته الغنية ورؤيته المعمقة للزمان والمكان على نحو مغاير، حيث انتقل من المشهد الحسي للصورة إلى العلاقات التي يفرزها الواقع النفسى والشعورى للفراق فتشكلت الصورة الشعرية لديه من الخيال الممزوج بالحدس وقام  بشحنها بدلالات جديدة. فالخيال لديه هو الطريق الاقصر للكشف والفيض عن أناه وهو يتساءل ما الذي يبقيه العيش في هذا المكان لا شئ الا الرحيل:

لمس باب البيت وخرج

تاركا على القفل بعض أنفاسه

رآهما ينظران اليه:

القفلُ الذي كان يحبسُ وراءه عواء الليل

والباب الذي كان الصباح

يطلع من شقوقه

رآهما يتحلّلان ويعودان

يباساً على الطريق وكتلة صدئة

وراء الحيطان ترجع الى الجبال

أحجاراً وحيدةً وحزينة

وفي مجموعته (محاولة وصل ضفتين بصوت 1997) بدأ الشاعر ترتيب أوراق ذكرياته من جديد وهو يتأمل مسيرته مجتراً لكل ما شاهده وعاناه من ارهاصات وضعته أمام مجازات شعرية قابلة للتأويل والتشظي ولكل منها لها زمنها التوليدي في التخيل والتخييل،لمعرفة الذات  فاقتران" الرؤيا" بالصورة الشعرية يتم بالتخييل وهي أكمل حالات الانفعال الطبيعي لما للخيال عنصر جمالي بارز في تفعيل المنتجات الفنية عموماً. ففي قصيدته (غيوم):

الذين جرفتهم المياه الى الوادي

ارتفعوا غيوماً

لم يمطروا

إلا أن ذكرياتهم (قصيدته نزهة ذاك اليوم) لا تزال تلازم المكان المتجسد في مخيلته لذا تراه لا يزال يرى طبع أصابعه على قفل الباب وآثار أقدامه على الرصيف وفوق الاسفلت طبقة من جلده والمكان لا يزال مهجورا، ولا يزال الربيع في خبر كان... كل هذت دفعته لافراز متخيلات جمالية في قوالب فنية جذابة وآسرة جمالياً؛ إلا أنه لا يزال يحتفظ بأسرار الحياة التي تلقفها وهو في طريقه الى اللاعودة وكما يقول في قصيدته (الطريق):

سلمتنا المياه أسرارها أخيراً

لكننا كنا على حافة الشلال

فانحدرنا رذاذاً

مرسلين للنباتات نعومة سقوطنا

حركة الصورة بدأت لديه من تجربته الاولى ثم تسامت في الأعالي، وغاصت في أعماقه لتعبر من الثبات إلى الحركة، من اللامكان الى المكان ومن المحدود إلى اللا محدود.. فزاد من كثافتها وإيحاءاتها الشعرية للموقف والحدث الشعري وأصبح الماء الذي تزاوج مع أنفاس وذكريات من غرقوا فيه أو من جازفوا بالعبور من خلاله، المحور الذي تتركز حوله أو تلتف صوره الشعرية في أغلب قصائده، أصبح المرآة التي تعكس صورة الموت في ذهنه فتحولها مخيلته الى صور ناطقة... ولما لا يكون الماء المحور إن كان هو نسمة الحياة وهو البداية.

إن شعرية المتخيل لديه مكنته من رصد شبكات من العلاقات، بين المكان وذات الشاعر وكينونته فتجسدت اللامنتمية في شخصيته أكثر من خلال قصيدته الجميلة والتي أبدع الشاعر في صورها (استعادة شخص ذائب) وهو يرى كيف تحول الانسان الى قطرة ماء وذاب في البحر، فهذا يعني لا زمان له ولا مكان. في الوقت الذي يعي ان المكان هو الذي يمنح الانسان الإحساس بالانتماء والوجود ويوقظ شعور الحنين في نفسه كلما داخله شعور بالاغتراب والمفارقة.

هذه البحيرة ليست ماء. كانت شخصاً تحدثتُ اليه طويلاً ثم ذاب!

ولا أحاول الان النظر الى ماء بل استعادة شخص ذائب

كيف يصير الناس هكذا بحيرات، يعلوها ورق الشجر والطحلب؟!

قطرة قطرة ينزل الموتى على بابي

ومركب يتوقف من أجلي تحت الشمس

وجالية فقيرة من الرعشات تعود الى الرمل

لم أرتجف. لكني جننت. الماء بارد لكني لم أرتجف. فقط ارتعشت قليلاً. ثم جننت.

يُعد المكان الذي يشهد فيه الشاعر بدايات طفولته الأولى الأكثرَ حضورًا في قاموسه الشعري ؛ لكونه أحد أبرز المكونات اللاشعورية في عقل الشاعر، بوصفه المكان الأثير لدى النفس، ومن هنا نلمح التفاعل مع بنية هذا المكان (البحر) أكثر انفعالًا واستدعاءً من الأمكنة الأخرى في منجزه الشعري.

حاول الشاعر ومنذ مجموعته هذه إنتاج ذاكرة إبداعية مفارقة، ليس من خلال نفى الذاكرة السلفية، بل من خلال التعايش مع الحتمي... لذا تحولت الصورة لديه من نتاج المخيلة إلى المشهدية الناتجة من الانطباع المباشر تجاه الأشياء.

أن تدفق الصور والأفكار عبر نسغ قصيدته هذه تجسد لنا شاعريته والتي تكمن في تشكيلة من التكوينات البصرية والتي رسمها الموت في حياته لذا تكررت لديه عبارة (ينزل الموتى على بابي) هذه الصورة التي تتقاطع خطوطها مجسدة لنا صورة الغائب الذي لا يزال الشاعر يتشبث في لملمتها ورتق جراحها من خلال استرجاعات زمنية تمزج بين الصورة البصرية والصورة الشعرية.

أن قوى التخيل لديه مكنته من الاستجابة لقوة الحدث، وشدة تأثيره على وجدانه فأنتج صورا شعرية غير خاضعة لسلطة العقل بل للخيال فأسهمت  في تفجر قاع النفس المعتمة.

وفي قصيدته (في النفق... في العظمة) تتجسد النهاية أمام عينيه لتبدأ الحياة من جديد وكما قالها أليوت (في نهايتي تكمن بدايتي) هكذا أحسها الشاعر وديع سعادة حين رأى الرياح تقترب من الجدار والوقت قد تفتق وبقي معلقا بقطب واحد وهو ينتظر السقوط.

إلا أن الشاعر لم ييأس كونه يعرف مثلما لكل بداية نهاية سيكون لكل نهاية بداية:

(تبدأ الحياة في اليوم الأخير

الأيام كثيرة، لكن الحياة قليلة. تتأجل من يوم الى يوم.... وهكذا تبدأ الحياة فقط حين انتهائها)

الا أن الشاعر في مجموعته الشعرية (نص الغياب 1999) يقف من جديد في مفترق الطريق ولكن في هذه الحالة الطريق ما بين مزاولة الانتماء والوجود من خلال الكتابة أو من عدمها فيتساءل مع نفسه:

هل أقول الوداع للكتابة؟

أقول الوداع

حوار الكتابة حوار الصمت. زمن الكتابة زمن الغياب. مكان الكتابة عدم المكان

لا حياة بالكلمات

بعد هذه التجربة الغنية بالمغامرات والعطاء اخذ التشكيل النصي للقصيدة لدى الشاعر وديع هو ما يجعل من صوره ومتخيله الشعري أساساً لما يعايشه للغور تجاه مناطق الإيجاز والتكثيف والرؤى والإيحاء والانتقال من المتخيل الجمالي الى الشعري، لقد أفرزت مسيرته كم هائل من الصور المتتشظية والمتتناثرة على شكل مشاهدات من خلال ربطها ووضعها داخل إطار حسي ترتبط فيما بينها بخيط ذهني داخل اللوحة الواحدة لتتحول هذه الصور الجزئية إلى صورة فسيفسائية جميلة تامة ومتكاملة.

وفي مجموعته (رتق الهواء 2006) بدأ يقترب من الانتماء الى المنتمي (المكان)، ففي قصيدته (حين أراد القاعد أن يمشي) تيقن الشاعر عليه أن يحول حلمه الى حقيقة عليه أن يقتل حلمه ليستعيد المكان كي ينتمي اليه من جديد لذا عليه أن يزاوج المكان لينال من الزمان حصته فيقول:

يركض من مكان الى مكان صافقاً هنا وهناك

يقتل ذبابة فتنبت فراشة

يقتل فراشة فينبت طير

قذفه حلمه في الريح

كان جالساً فأراد مشيا

وضاع

حلم المسافات

الشاعر تقمط طفولته ليصنع من مكعباته عالما جديدا، إلا أنه يريد أن ينقل ماء البحيرة من خلال ملعقة كوبه الصغيرة فتقمط (فان كوخ) ليقول لنا أنا أدرك الكون بواسطة الشعور لا العقل.. فشعوره باللاإنتماء الى الزمكان أفرز لديه نوعا متخيلاً من الانتعاش من خلال تجمع الانطباعات الحسية في مخيلته فبقي قريبا من فطرته وأصبح ميالاً الى التحسس وازدادت الحياة لديه عمقا بحيث يستطيع أن يصنع أشياءً غير ملموسة من خلال التأمل والكفاح الذهني وأيمانه بأن الحياة يجب أن تستمر  والعودة الى الذات من جديد.

إلا انه في مجموعته (تركيب آخر لحياة وديع سعادة 2006) بدأ بترتيب نفسه ويكون قد اجتاز ضفة اللامنتمي وحل في ضفة المنتمي فأصبح يتحسس المكان فهذا يعني هناك زمان، لذا حين أعاد ترتيب اوراقه واعضاء جسمه وجد نفسه يشتغل على الفضاء الواسع كما الخيال، زاوج جسمه مع نسيم الفضاء ليكون قادرا على التكيف في المكان الجديد (المهجر) بعد أن تيقن ان العودة الى مهد الطفولة يكتنفه المستحيل فيقول في قصيدته (كائنات أخرى):

الفضاء الذي روض نفسه بالفراغ

خلق طيوره

والارض التي حدّقت طويلاً في يبابها حتى خلقت أشجارها

تؤوي طيور فضائه

ومن ثم يقول:

عابرون بلا شكل ولا ظل

وإن أرادوا إقامة

ففي نفسه ثقوب

تكفي

لسكناهم النحيلة

فلا تزال لديه طاقة إبداعية لها إمكانية الخلق، وإعادة صهر دلالة العلامات الفنية التي يراها والتي عليها أنْ تستمر، حتى يتبلور لديه نسقاً رمزياً لا تتوانى عن الانفجارِ في وجه الحقائق المألوفة.

لقد كان المتخيل الجمالي لديه بؤرة حراك للأحداث والمواقف والمشاهد التي صادفته في ترحاله مع المكان والاصدقاء فكان بؤرة حراك الأحداث وفواعلها الرؤيوية تتمثل في المشاهد التي كانت مخيلته ترسمها له.

ظن كل شئ بدا اليه في مكانه يسهل عليه ترتيبه إلا أنه بعد هذه الجولة الطويلة وهذا الصراع المرير من أجل الوصول الى ضفة المنتمي وجد نفسه في قصيدته (مثل الظنون):

ظنّ التراب غيما

سقط ويبس

محتفظاً من الفضاء بلهاث ناس كانوا يعبرون

في صحارى حارقة

ظن الشجر أيادي دفنت تحت التراب

في حروب قديمة

ظن وظن ولكن يبدوا ان الوقت كان قد فات فما عليه إلا أن:

قال سأزرع نباتاً جديدا

لا يحتاج الى تراب ولا الى ماء

دخل في خياله وزرع ظلاً

ومذ ذاك وهو ينام

في ظل خيال

بدت الصورة الشعرية لديه كتجل من تجليات طاقة الخيال. بالخـيال يستطيع إعاد ترتيب وخلق معاني ودلالات جديدة للمكان، وخياله يعانق عوالم جديدة لها علاقة موضوعية بالنشاط الوجداني فحاول القبض على خيوط بعض دوائر حقيقة هذا الوجود الذي أراد صنعه في مخيلته الغائرة وحيث لا يمكن البتة لعقله أن يتلمسها ويقبض عليها لان شدة الخيال لديه مكنه من السفر في تخوم اعتمد كل الاعتماد على البصيرة والحدس حتى يدنو من الحقيقة.

فجمال الألفاظ لديه لا يكمن في ذاتها بقدر ما تكمن في اتساقها وخلقها عوالم دلالية تخييلية لها القدرة على صوغ فضاءات تخييلية بين عناصر متقاربة،فاستطاع بممارسته النصية أن يشيد وجوداً جديدا للطيور والاشجار والتراب والغيوم...

وفي خطوة لاحقة حاول أن يعيد ترتيب جسمه في قصيدته (قال.. أيضا):

خلع يداً ووضع مكانها زهرة

خلع عينا ووضع مكانها ثمرة

خلع قدما ووضع مكانها شجرة

خلع فماً، أذناً، قلباً، رئة...

ومشى في حديقته الجديدة

يبحث عن نفسه

ولا يجدها

ما يحمله الشاعر من رؤية تخييلية متوهجة ؛ جعله يرتقى بمتخيلاته الشعرية آفاقاً من الحراك الرؤيوي الجمالي الذي يضمن عمق التأثير، وبلاغة الرؤيا، من خلال عوالم مبتكرة وظفها الشاعر

فما كان منه الا أن يقف في مفترق طريق العمر ليتذكر حياته وما عليه الا أن يعيد ذاكرته يوم تحول الى طير وترك في كل بقعة حل فيها ذكرى...

بعد هذه الجولة في فضاء الخيال الرحب أعاد تشغيل آليات البناء في الذهن من أجل انجاز صورة شعرية تدهش المتلقي وتؤثر فيه فجاءت الصورة الشعرية محاولة تكثيف عاطفي ووجداني للتجربة الوجودية بلغة إيحائية.

ففي مجموعته (من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب – 2011) حاول الشاعر تشغيل ذاكرته ليرى ذكرياته تمر من أمام عينيه على شكل فلم سينمائي كون العلاقة بين الشاعر والمكان علاقة تلازمية حميمية تخضع للتجربة الشعرية التي يمر بها الشاعر ؛ ليكون المكان فيها حاضرًا ومألوفًا لديه، وله خاصية مميزة، ونصيب وافر من الاهتمام يجعل حضوره طاغيا في المنجز الشعري للشاعر.

يحا ول الشاعر تجسيد الحدث من خلال ادراكه للعلاقات القائمة بينه وبين الصورة التي تفرزها له رؤيته لما تحتمله من معنى بشكل مباشر، وفقا لذاتية الشاعر كـرد فعـل معـادل لدواخله وبأثر تجربته الذاتية. كما ان التعبير عما هو ظاهر من قلق يكشف عن ما هو مضمر وبما يكشفه من انفعال وتوتر قائم على سطح الصورة يوازي علاقاته مع الحدث.

ففي قصيدته (بقليل من الحطب بقليل من الدخان):

بقليل من الحطب المتبقي في قلبي

أشعل سيجارة

وأرى في دخانها رفاقي

الذين ماتوا سكارى على الطرقات

وفي مكان اخر يقول:

أيضا رأيت شجرا تضربه الرياح ويسقط

شجراً في العروق

شجراً في الدم

رأيت أصابع تحاول أن تصير غصوناً

وتهوي

وعيونا تريد أن تصير ثماراً

للعابرين وللطيور

أن القيمة الجمالية للمتخيلات الشعرية في مجموعته الشعرية (من أخذ النظرة التي تركتها أمام الباب) ترتكز على قوة المثير الجمالي الذي عكسه الحدث في أناه الداخلية، فافرزت لديه كثافة الرؤية، والقيمة الحداثية لفضاء المتخيلات، ورؤاها المحركة لدلالاتها وتأويلاتها.

من خلال تجربته الشعرية هذه استطاع الشاعر أن يخلق من الخيال ومن نتاج تجربة عاشها ممزوجة بالمآسي بعد أن استفزه الواقع ليتقمط اللامنتمي الى المكان فرسم لنا خياله واقعاً مرّ به الشاعر لا يتلمسه الا من كان له خيالا فاعلا في رسم الصور المجازية.

هذا الخيال الواسعُ اللاملموس وبلا واقعٍ يقفُ عليه الشاعر ليعطي للمتخيل الجمالي قيمته المثلى في الكشف عن خصوبته الشعرية، للسير في طريقه لتشكيله النصي، ليثير تلك الحساسية الشعرية، القادرة على دغدغة (أنانا) وتحقق متغيرها التخييلي الجمالي الخلاق، الذي يتأسس على سعة الأفق، وعمق التأمل، وسحر الرؤيا الوهاجة.

وفي مجموعته (قل للعابر أن يعود نسي هنا ظله 2012).

فإن المتخيل الشعري يفتح مداليل الجملة الشعرية، لتخلق تصورها، وإبداعها بالتئامها بالنسق اللغوي التشكيلي المناسب. إذ أن الإدراك الجمالي للواقع يثمر معرفة جمالية بهذا الواقع. ومن هنا، تصير علاقة المتخيل بالواقع علاقة جمالية، وتصير وظيفة الفن أو الأدب هي الوصول إلى حالة من التناغم والانسجام.

الشاعر في تجربته هذه يحاول رؤية الأشياء رؤية صوفية للوصول لحالة من الكشف والرؤى المختلفة للأشياء التي جردها من شكلها المادي لتكون قادرة على القفز فوق الزمان والمكان بعد أن حولها الى أشكال قادرة للتكيف فى تناغمها أو تنافرها أو فوضاها ليرينا العالم كما هو فى حقيقته التى قد لا نراه نحن.

يتذكر اصدقائه الذين كانوا معه يقاسمونه الوجود واللاانتماء في قصيدته (المقعد):

هناك ايضا فوق من يمشي ولا مقعد له

ولكن من هم هؤلاء الذين طلعوا من ماء ويمشون فوق ؟ لا شك بينهم أنفاس غرقى

الأثرُ الجمالي لدى الشاعر وديع يتجسد كونه أثراً متخيلاً، فإنَّه يتركُ وجودَّه على صعيد الصور التي تفرزها وتجسدها مخيلته من خلال أفعاله الدلالية بطرائق تشكيلية. فانغمست صوره في الخيال القادر على تحريك مشاعر المتلقي من خلال الربط بين الدال والمدلول فصوره لا تتوقف عن توليد الدلالات داخل فضاء الصورة فأفرزت تجربته الشعرية زخماً عميقاً من الدالات. ومن هذا المنظور، فإن ما يعزز شعرية المتخيل بداعة النسق الوصفي، وحيازته التصويرية المراوغة من جهة، وارتياده فضاءات رؤيوية غير مدركة من جهة ثانية؛ مما يعني أن ثمة اشتغالاً إبداعياً على نسق التمفصل المثير، الذي يرفع وتيرة النسق حرارة وجمالاً نصياً. ولكنه لا يزال يراهم، يتحسسهم وكما يقول في قصيدته (العيون أيضا):

نظر ولم يرَ رحماً

نظر، ولم يرَ.

كأنه كان هو العابرين.

ومثلهم لم يعرف الى أين تذهب نظرته

انهم لم يموتوا لا يزالون أحياء (الذي غرق):

الذي غرق في الماء صار سحابة

ثم نزل قطرةً قطرة

والسابحون في البحر يسبحون فيه

 ولعل هذه الانفعالية الواضحة، حملت الشاعر على اختيار مفرداته القادرة على استيعاب طاقاته الانفعالية، بما يثير المتلقي، وبمعنى آخر تصدمه بما تحمله من شحنة توترية، يقوم اساسها على محورين: محور الذات الشاعرة، المتأثرة، ومحور الموضوع، والعلاقة القائمة بينهما، التي اما ان تكون علاقة تنافر وخصام، واما ان تكون علاقة توافق وانسجام.

وقد تعمد الشاعر الى اسلوب الانزياح؛ ليعمق من مسافة التوتر، واللامألوف بين مفردات اللغة، منتجا علاقات جديدة ذات طبيعة حزينة، تحمل معاناة الشاعر، واحزانه المتصاعدة. ففي قصيدته (الذي مات ولم ير الغزالة) يقول:

انتظر الغزالة ستين عاماً على النبع

أراد فقط أن يراها

هذه التي جالت طويلاً في خياله ورَعَت

عشب رأسه

وفي قصيدته (كان):

كان بودي أن أكتب أغنية

أن أجد كلمات

تقتل الضجر

ان روحه هائمة في أفق القصيدة يعرضها كما هي وان فضائه الشعري زمن مطلق تنساب اللغة فيه كالنهر، لغة تكوينية متدفقة كالموجات تنبثق الأفكار من خلالها، تتحول من لغة صوفية الى لغة مرئية تتشكل أحيانا كالحلم يحاول الشاعر ان يجسده بالكلمات فهو رهين لحظته الشعرية.

وفي مجموعته الاخيرة من المجموعة الكاملة (ريش في الريح  2014)  والتي أعتبرها محطة استراحة يعود ليحاور الأنا المتألمة ويعزيها في هذا الآخر ويرسل عبر صوره المتباينة آهات الشجون وغصص الرزايا فيقول للقارئ:

ايها الناظرون الى السماء

أنظروا جيدا تروها خاوية

وكذلك:

الغصون التي تهزها الريح لا تكون ترتجف

بل هي تلوح

للغصن الاخرى

وفي الختام:

في مجاميعه الشعرية هذه وعلى مدى أكثر من 30 سنة (1983-2014 ) أبدع الشاعر من خلالها في انتاج صور ورؤى تجسد المراحل التي اجتازها جعلنا نحسّه ساردا ليوميات عاشها بعد أن نفح فيها من روحه شعريتها، فقد انتقل من النص الوجداني المعبر عن تبرمه من الحاضر إلى نداء اعتمد تتابعا للأحداث، فتغيرت مستويات الأداء الشعري تبعا لمضامينها المتباينة لتبحث عن الأنا التائهة وتواسيها بأسلوب جميل وكلمات موحية يعلو وينخفض الإيقاع معها حسب الحاجة السيكولوجية المفسرة لقهر الذات وحجم العواطف.

الشاعر في رحلته الطويلة عبر ذاكرة احتفظت بالعديد من الصور الممزوجة بالحلم والناتجة بفعل الحدس والطاقة الكامنة في داخله، ولدت عنده قصيدة جامعة بين عروقها ما انصهر من المتناقضات التي صادفته في مزيج واحد الحسي والمجرد، ليُعبّر من خلالها عن قلق الذات الفردية، وذلك من خلال حركة الشاعر النفسية، ومدى تفاعله الداخلي مع صورة تترك لدى القارئ تخييلاً تصورياً تقوم مخيلتنا بإعادة تشكيلها من جديد.

تارة كان يتقمط الغنائية وفي الاخرى كان ساردا لحياته، تارة كان يتقمط النص الشعري وفي الاخرى كان النص المفتوح هو الذي يتقمطه.

ان شعرية القصيدة لدى الشاعر وديع كان اعتمادها على كثافة الحدث ورد فعله تجاهه، فكان لشعرية المتخيل الجمالي دوره في رسم الصورة، وإكسابها قيمة جمالية وسعة تخيلية.

لقد أبدع شاعرنا في اضفاء لمسته الإبداعية التخييلية على صوره الخاصة فاستطاع وبعد جولة من النتاجات ان يحرك الأشياء، ويخلقها من جديد، ليبعث فيها نبض الحياة؛ ممثلة بروح الفن وجوهره الأصيل. فجاءت قصائده مرايا عاكسةً لوقائع الماضي التالد، والحاضر الراهن، واستشراف الغد المستقبلي الآتي...

***

نزار حنا الديراني

الشخوص الرواة بين ذاتية الحكي وجمالية التوظيف

توطئة: في حقيقة الأمر أن العلاقة بين السارد والمؤلف هي علاقة ترابطية ﻻ تنفصل في أي مظهر من مظاهر الإنشاء والتركيب والتنصيص، ذلك دون النظر إلى موقع السارد في أحداث النص، أو رؤيته السردية، وهذا الترابط ينتفي مع إلغاء صوت ودور (المؤلف الجاد ؟) ومحوه من النص، خصوصا إذا كانت طبيعية الارتباط تعتمد جملة من الأصوات الحاكية التي تتموقع داخل أوضاعية بنائية خاصة مشتملة على صوت وحاﻻت الشخصية ذاتها وبذاتها. وعلى ضوء هذه الجدلية واجهتنا رواية (الرقص على إيقاعات الغياب) للقاص الروائي عادل المعموري، لتشكل لنا محاورها الشخوصية المركزة ارتباطا علائقيا بذاتها وبالنسيج التشاركي الذي تتموضع في حيزه الأفعال السردية في الرواية، لذا بدت وكأنها فضاءات مستقلة في معجم المحورية والتمحور الفضائية في أحوال النص وتمفصلاته البنائية والاسلوبية، أي إنها عوالم تختص بسرد وقائعها الأدوارية في مساحة تشاركية مركزة من ثنائية (المسرود الذاتي = المسرود العرضي) وﻻ تختلف القيمة الدورية للشخصية في الإرتباط والتواصل مع طبيعة العلاقات المتوازية من حراك الشخصيات المحورية الأخرى، بل إنها توظف محكيها اقترانا بمصاحبات رؤية وموقع السارد المشارك الذي يحث صوته وفعله بموازاة عملية تقارب (الحكي ضمن دائرة المحكي العام ؟) كما وتمارس هذه الشخصيات دورها وسلطتها في بناء دائرة منظورية متكونه من مجموعة علاقات حافزية ومحفزة، تأخذ لها من حيثيات السردي والمحكي ارتباطا تناوبيا في موقع ما، إلى آخر من وحدة الطالع الشخوصي، لذا ﻻ اختلاف بين المواقع الشخوصية الحاكية في محور سردها إلا من ناحية اختلاف الأوضاع والصفات والدور ورؤية السارد الشخوصي في الحكي المناط بدوره توظيفا وتبئيرا ومجاورة في الرؤية من خارج الذات العاملة إلى حاكمية مكوناتها وكوامنها في الداخل الشخوصي.

- حوارية المسرود الذاتي ووقائع المنظور المبأرة .

١- المؤلف الضمني ومسارات العلاقة الضمنية:

يرى بعض نقاد السرديات ان المؤلف يمارس سلطته في بناء النص وتكوين علاقة جوانية أو نسبية في مرحلة محددة في الدور السردي، كأن يكون هو ذلك الضمير الغيابي الموظف بديلا عن ذلك الأب المهاجر أو ذلك الشقيق المفقود من إحصائية الحياة والموت، عموما يوظف (المؤلف الضمني)كأداة من أدوات الحكي والاستجابة التي يتطلبها مدار السرد،كحال الشخصية جميلة في هذه الوحدات: (يأتيني صوته كالعادة يخترق الجدران الباهته، يسألني في تلك العتمة وأنا أجلس وحيدة في بيتي: -- جميلة أما زلت تنتظرين قميص يوسف ؟ -- ربما يعقوب يعلم بعودة أحبائه بطريقة الإلهام الرباني ./ص٥ الرواية) وتأخذ الرؤية الحوارية (المونولوج) اشكاﻻ مختلفة في الرؤية السردية تتحدد من خلالها إحاطة الشخصية بعوالم ذلك الصوت وعلاقته بأحداث محكيها ودوافع موقع دورها العاملي، بوصفها رؤية مشخصة ترصد وتقلب مكونات وأجزاء وقائع المتخيل بتفصيلاته ومجسداته أمام المتلقي، إذ تتجاوز حدود السارد المشارك، بمجرد ذكرها وتحاورها الداخلي مع ذلك الصوت في حدود صورته التحاورية الضمنية والعرضية أحياناً: (يقولها ويختفي، كان يزورني بين الفينة والأخرى، أحياناً يمكث عندي أياما، ينزوي في ركن من أركان بيتي الفارغ، يتناهى إلي صوته وهو يهمس لي من غرفة أخي العلوية، أسمع صوت بعثرة الكتب وحفيف الأوراق ./ ص٦ الرواية) لابد من التنويه بأن بعض المستهلات السردية في البناء الروائي، غالبا ما تكون مفعمة بذلك المسرود العرضي، حتى وإن كان في حالة من اﻻنتقالية أو الاستباقية، فالاستهلال العتباتي اعتمده المعموري ها هنا لأجل اشاعة علاقات تتصل بحواضر مرهونة بحركية الاحوال والمواقع الشخوصية الأخرى، ففي ثنايا الوحدات الحواريةو المحكية، نكتشف ثم أسماء وأدوار وخلفيات تشتمل على مؤطرات ومستويات خاصة من تمثيلات النص: (-- هذه الكتب الكثيرة لمن تدخرينها ؟ هل تظنين ان -- نبيل -- سيعود ليتصفحها من جديد ؟ ./ ص٦ الرواية) وما يرمي إليه الصوت الضمني في الوحدات، ما هو إلا (الرؤية - البؤرة) وكذا ما تشتمل عليه الأفكار والهواجس والتصورات في مكنون وجدان الشخصية جميلة من علاقة قد ﻻ تنتهي بغير استجلاب المظاهر والمحاور التعرفية في سياق الوحدات توضيحا لمنظور المرادات المقصدية وما تستلزمه من استرجاعات تصورات مضمنة ومعلنة في رؤى دينامية مقاربة أو مغتربة: (أنا لست مجنونة وﻻ ممسوسة، ولكني أملك طاقة روحانية بالتحدث مع الجن، فقد كان جدي في طفولتي يستخدمني لفتح المندل والتكلم مع الجن، هذا الجني الذي يتواجد معي أغلب الأحيان، أنا أعرفه منذ زمن قديم. / ص٦ الرواية) وباستقرائنا لحصيلة مؤهلات الشخصية جميلة، إذ نعاينها كونها فتاة مشدودة إلى واقعها المتردي، فهي تلك الفتاة التي فقدت شقيقها الأكبر في الحرب، كذلك هي الفتاة التي لم تحظ بحسن الفتيات، لذا بقيت وحتى عقدها الأربعين دون اقترانها بذلك الزوج المناسب، لذا ما كان بوسع أمها سوى تغريرها بصفقة الزواج من أبن خالتها حميد: (أمي كانت صريحة معي حد السذاجة قالت لي: - أن زواجي من - حميد - سيقرب المسافات بينها وبين أختها ويرأب الصدع القديم بين اسرتيهما. / ص١٠ ص ١١ الرواية) غير ان المسكينة جميلة لم تحيا مشاعر الزوجة بصورتها التمثيلية إلا وبعد مرور عدة أشهر من التحاق حميد للحرب: (التحق بوحدته لخدمة الاحتياط، جاءني الخبر الذي كنت اتوقعه . / ص١١ الرواية) لعل الروائي المعموري في بعض الوحدات الخاصة في مرحلة ما وراء زواج جميلة من حميد، كان أكثر تندرا في تعزيز تموجات المسرود بما يلاءم خصائص وعلامات الشخصية جميلة، فالروائي راح يغطي السرد بأقصى الأفعال المتماهية مع الاحتفاظ بصوت ووتيرة الساردة المشاركة بما يوفر لمرحلة مأزومية الذات الشخوصية مبلغاً ذرويا على مستوى كشوفات البؤرة السردية: (سكبت -طاسة - الماء خلفه بوصية من أمه كي يحفظه الرب ويعود إلينا سالما .. موضوعة -الطاسة - والماء الذي يرمى خلف الراحلين، تلك عادة دأب عليها أهلنا منذ أمد بعيد . ﻻ أدري من ابتدعها رغم عدم إيماني بها جملة وتفصيلا . بدليل أن - حسن - جارنا ذلك الشاب الأشقر الوديع . جلبوه شهيدا بعد يومين من رش الماء خلفه، وحدث ما كنت اتوقعه، رحل زوجي حميد ولم يعد،وقد أدرج اسمه مع المفقودين في الحرب . / ص١٤ الرواية) لا شك ان العلاقة بين المبئر والمبأر في حدود هذه الوحدات السردية لا تقف وقفة المشهد الخارجي، بل كونها حالة تركيزية بين (المبئر = تبئيره) جنوحا نحو دواخل تفاصيل محكية راحت تنتقل كصيغة خطاب من حاضر (المبأر - اللحظة الزمنية المنصرمة) وحتى حدود الإطار الحاضري للشخصية كصوت سردي يقوم بدور (السارد - الشخصية - المبئر) وصوﻻ إلى كونها الفاعل الذاتي الذي اتخذ من نفسه شكلا للمحفز لهذه الجملة من الاسترجاعية، لذا ينتقل الشكل السردي من فاعلية الاسترجاع إلى ممارسة فعلية في رؤية الحاضر الوقائعي للشخصية . كذلك نتعرف من خلال تفاصيل الرواية على الشخصية نبيل شقيق جميلة، بالمقابل من وجود شخصية سالمة تلك المرأة الأخاذة في حسنها وكيفية زواجها من جبار ذلك الرجل الكهل الذي يعاني من الضعف الجنسي والذي تشغل حياته مهامه في منظمة حزب البعث، في حين كان نبيلا فارا من الجيش، فيقع في عشق سالمة تلك المرأة التي تصاحب جميلة وأمها في دارهم في أغلب الأوقات، فيما كان نبيل يتخفى هاربا من الحرب في أحدى غرف الطابق العلوي من المنزل، فيقع عن طريق المصادفة في حب سالمة والهيام بجمالها الساحر، ويحدث ما يحدث من أحداث روائية لها مقبولية الذائقة والتذوق الجمالي .

- تعليق القراءة:

ﻻ يمكننا طبعاً تناول كل الأحوال النصية في رواية عادل المعموري، خصوصا وإنها تتحلى بذلك التواتر والتوتر في السياق الدرامي والنواتي،إذ يتعلق زمنها الكتابي ضمن فضاءات محكية تقع في حدود ارتباطات كل شخصية ومقامها الاحوالي الخاص في السرد والمسرود، الروائي يتعامل مع أزمنة الشخوص بتلقائية عذبة، ناهيك ما للبناء الروائي من المؤثرات والمتواليات المحكومة بالفجائية والمعمارية المتخيلة والمحتملة في ذائقة النص . لذا تكشف لنا أخيرا الرواية عن وقائع وويلات الحرب ونتائجها البائرة على حيوات الشخوص الداخلية والخارجية، لذا فهي رواية ذات صنعة فنية وجمالية وتقانية لا غبار يشوبها . ومن هنا اقول ختاما ان دﻻﻻت رواية (الرقص على إيقاعات الغياب) هي النسيج الروائي الشاهد والدال على عقود ملتبسة وممجوجة من ولادة شبح الموت والمكبوت والاصفاد التي قام بتوظيفها الروائي المعموري في سياقات حكايته الرواية المائزة في توظيفاتها وتشخيصاتها لبقايا الحياة المهجورة في رحلة الهروب من الموت والزمن المفقود في إيقاعات الانغلاق والتيه في غياهب الغياب .

***

حيدر عبد الرضا

(الأشجار تحلّق عميقاً )

يتخذ الشاعر (سعد ياسين يوسف) من أسلوب التمركز العلامي في مجموعته (الأشجار تحلّق عميقاً) الصادرة عن (دار أمل الجديدة- دمشق 2021) ممثلاً بالتركيز التكراري على موضوعة الشجرة، وتوظيف وجودها ورمزيتها وإحالتها في مختلف زوايا النظر، ومختلف المضامين الإنسانية متّخذاً منها أيضاً المرتكز الفني فضلاً عن الإشاري، فهي المرتكز الشعري الذي تتصاعد تجلّياته وإيحاءاته عبر إضمامة من النصوص، بل هي تتضافر لتشكّل ارتحالاً، وبحثاً وتأمّلاً في الحياة والطبيعة والمكان، والميثولوجيا، وتظاهرات تشرين ومناجاة الأم بوصفها الشجرة المباركة الأولى، ومناجاة الوطن والإنسان ووقائع الحياة الأخرى كالغربة ورثاء المرأة الباسلة (طوعة).

وهذه هي معالم الرؤية الشعرية المرتكزة على العلامة المركزية (الشجرة) التي ينطلق فيها الشاعر وهو يوظف ظواهر فنّية متعدّدة وصولاً إلى صياغة شعريّة تشكّل صوتاً منفرداً، وتجربة ترسم حدود مغايرتها بذكاء، واستلهام شعري يميل إلى استثمار الصورة الشعرية، والإيقاع وبراعة الاستهلال والخاتمة الدالّة وانتقاء المنظومة اللّفظية لتأسيس إرسالية تعبيرية منتجة.

لعل من الظواهر الفنية الأخرى القدرة المتجلّية في انتقاء العنوانات، وعدم الترهّل أو الملل من وجود مفردة الشجرة في معظمها بلا تكرار معيب بل إنَّ الشاعر تناول عناصر ومظاهر أخرى مرتبطة بالشجرة أو تعبّر عن مدلول موازٍ لها مثل الفسيلة والجذور والخضرة والغصن والزرع والنخل والألواح والأوراق و(اليابس والأخضر)!!، بل إن الشاعر يوسّع المدى الترميزي، إذ تتحوّل الأم إلى شجرة وإلى نخلة باسلة، وهذا المنحى يؤسس لموضوعة أنَّ الشاعر يفجّر المدى والبنية الدلالية ويجعل الشجرة تتّخذ معاني وتجلّيات رمزية وواقعية ممّا يجعل الخطاب الشعري ينفتح على طاقة التأويل وتعدّد المعنى، ولم يكن توظيف الشجرة مجرد وصف مورفولوجي محض مثل وصف الطبيعة لدى بعض الشعراء لاسيما الرومانسيون، وبذلك حقّق الشاعر انزياحاً دلالياً في الخروج من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، ومن التوصيف إلى الترميز، ومن الواقع إلى المتخيّل الرمزي واقترنت الشجرة بالمرأة بدلالة المشترك العطائي، بل إنَّ المعنى خرج إلى غرض ودلالة أخرى، حين تجسّد وجود العطاء على شكل شجاعة أسطورية أبدتها (طوعه) وهي امرأة عراقية من ناحية العلم في تكريت أنقذت عشرين شاباً عراقياً من موت حتمي على يد الدواعش وقوى الظلام والجهل وآوتهم في بيتها وقد لقّبت بهذا الاسم لشجاعتها الفائقة وموقفها الإنساني والوطني ووقوفها ضد الفكر الكهفي المتحجّر.

وكل هذه الظواهر مرتبطة بموضوعة العنوان ودلالته وبُعده السيميائي الذي ينطوي على رؤية مغايرة وتقديم صورة خارجة عن المألوف لتشكيل البعد الرمزي والتأويلي (الأشجار تحلّق عميقاً) ولم يقل (عالياً) وفقاً للسائد والمتوقع بل كسر الشاعر أفق التوقع بهذه المفارقة وخلق استجابة جديدة لتأويل جديد يسير إلى الثبات والقوة والبسالة وأنَّ الشجرة في حقيقتها المورفولوجية ترتبط بالأرض وتستند عليها وهذا سرّ قوتها وربما يحيلنا العنوان إلى تناص مع عنوان لمسرحية إسبانية (الأشجار تموت واقفة)، وهي تحمل دلالة القوّة والثبات والبسالة والإخضرار وهي مقولة رمزية وإشارية تنطبق على كثير من وقائع ومواقف الحياة.

إنَّ المعاينة النقدية والتحليلية ستكشف لنا الأبعاد الجمالية، وبعض الأساليب التي عمّقت من الأداء أو الخطاب الشعري بتنوعها ولا يخفى اهتمام الشاعر بالمكان بوصفه الفضاء المعبّر عن الأحداث والرؤى بمعناها الشعري فهو يوفّر الطقس الذي يشكّل دالّة من دوال النسق الشعري، ورسم ملامح الصورة الشعرية، ولا يمكن لأي تفرّد للصورة الشعرية أن يحدث من دون استثمار المكان بكلّ أبعاده الهندسية والوجوديّة والسايكولوجيّة،  ومن الظواهر الفنية اللافتة توافر وفاعلية الاختزال الشعري، ولم يقع الشاعر في مزالق الفائضيّة والترهل والاسترسال المخل، فالقصيدة عنده محكومة بنسق داخلي وجمالي يبتعد عن الإفاضة والإطناب .4255 سعد ياسين يوسف

تكمن دلائل الارتكاز العلامي في الانطلاق من دلالة العتبة التي وصفها الشاعر في صدارة المجموعة وهي مقولة للرمز الصوفي العربي (ابن عربي) التي يعبر فيها عن المعنى العلامي المتمركز للشجرة الذي يحوّل الكون بكلّيته إلى صورة شجرة، ممّا جعل الشجرة فضاءً كونيًّا يحمل كثيراً من نسغ الوجود والطبيعة وتزاد الموضوعة عمقاً ودلالة من خلال العلاقة المتجذرّة والمثمرة بين الإنسان وعالم الشجرة الممتد، يقول (ابن عربي): "إنّي نظرت إلى الكون وتكوينه، وإلى المكنون وتكوينه، فرأيت الكون شجرة". (المجموعة: 5)، ففي نص (محاولة ليست أخيرة) يقول الشاعر:

كلّما هممت/ بكتابة قصيدة حب/ لك غاليتي

وقفت على حافة هذا الكون/ لأنادي اشجاري

أشجار الغابات من أقصى الأرض/ إلى اقصاها لتريني

هل ثمّة شجرة تطال سموّك/ فاسميها باسمك

تتمايل في حضرتك ملايين الأشجار"(المجموعة: 22).

إنّ هذا الاقتران بين الشجرة والمرأة يمنح الدلالة عمقاً ويجعل الكون حاضنة لخضرة وأنساغ الجمال بكلّ صوره، ومعانيه، كون الشجرة هي الايقونة للجمال في الوجود الكوني، واقتران المرأة بالشجرة يجسّد البعد الكوني لهذا التلازم.

ويمكن الاستدلال على طبيعة العلاقة المنتجة بين الأشجار والانسان لاسيما أنّها تمثّل مكانة قصوى لها بين الفقراء، فالفقراء أكثر التصاقاً بها كونها تمثّل رمزاً للعطاء والأمان بلا مقابل. وفي نص (يابس وأخضر) نجد هذا التلازم أيضاً:

الأشجار وحدها/ من تكسو أرصفة الفقراء/ بالذهب

حينما يحلّ خريف البلاد/ فؤوساً وكراسي/ بقوائم...

أصلها في بطون الجياع/ وفرعها في عتمة

حزن اغاني الأمهات!!!

"دللول يا البلد يا بني دللّول". (المجموعة: 63).

عبر هذا يتجلّى التلازم بين الطبقة المسحوقة وفقرائها، وبين الشجر وهم يلتصقون به كملاذ، وتجسّد الأم هذا الحزن الذي يكابدونه وهم يصنعون من الشجرة حياة لهم ولغيرهم.

ونجد الإشارة إلى العمل وتحويل الشجرة إلى مظاهر ووسائل أخرى لكي تستمر الحياة، ويستمر عمل الفقراء مقترناً بعطاء الشجرة، وبهذا تتآصر رابطة البشر والشجر، ومن تجليات الشجرة وأثرها في حياة الإنسان حين تحوّل إلى نوع من الأمان والظل، وتتحوّل إلى مرتع للطيور وهي التي تجعل البيوت مكتظّة بالاخضرار، ويمكن تأمّل نص (أوراق من شجر شتّى..!):

"الشجرة/ التي آبت إليها الطيور/ مع غروب الشمس

ها هي تنتصب بكلّ وهج خضرتها/ بعد أن استحال البيت

الذي نشرت ظلّها عليه/ ركاما يوم منحتْهُ نصف ظلّها

وهديل الطيور/ التي علت مع الدخان..". (المجموعة: 81).

فالبيت حين تغيب الشجرة عنه يتحوّل إلى ركام والطيور تهرب إذا لم تكن هناك شجرة تحتضن أعشاشها، وهي تؤوب مع الغسق، والشمس الآفلة لتنام في أمان أخضر، فحياة الكائنات والبشر مرتبطة ارتباطاً كلّياً بعالم الشجرة التي ترمز للطبيعة الحانية، وإنّها إيقونة الوجود، ويكفي النظر إليها لمعرفة أنَّ الحياة تورق مثل الشجر.

إنّ الشاعر يقدّم صورة أخرى لجمال الشجرة وغصونها المورقة الوافرة الظلال، ويحزن للبحر الذي يفتقد إليها، فيكون موحشاً كما في نص (ما زرعته البلاد):

موحش هو البحر/ لا أشجار تصطف على شاطئه

تشير بأغصانها لموج/ لن يعود..

إلاّ بحبّات رمل التوّجس/ ولا نوارس تعلو...

وتهبط/ خارقة فراغ صمت اللّحظة/ بنشيد اصطياد اللّوعة

تلك التي أثملتنا/ ونحن نحدّق في سطور

سمائها الباردة/ من قبل أن تتلفع/ بجمر ارتعاشات ذاكرة

هي كل ما زرعته/ فينا البلاد... (المجموعة: 85- 86).

يتميز النص بوجود حركة مشهديّة لوصف البحر الموحش الخالي من الشجر، وعبر تدفّق صوري يعكس تداعيات وصخب البحر، ويحقّق الشاعر انعطافاً على مستوى الدلالة للربط بين البحر والبلاد وارتعاشات الذاكرة، عبر لغة وصور متواترة وجميلة على الرغم من مسحة الأسى والوجع، ويستوقفنا بعض التوظيف الدلالي والصوّري (نشيد اصطياد اللّوعة) وما فيها من صورة باذخة ودالّة، ونسق انزياحي، وتقديم الصورة المجازية المؤثرة بانزياحاتها اللافتة، (تلك التي أثملتنا...) جملة شعرية على تحليق تعبيري عميق الدلالة والتخييل.

فالشاعر يمتلك القدرة على تأسيس منظومة صوريّة (بيئية) أي إنّها تستثمر ملامح البيئة وعناصرها ومظاهرها وموجوداتها، ويمكن لهذا المنحى أن يؤسس لقصيدة يمكن تسميتها بـ(قصيدة البيئة) التي تعكس قدرة فنيّة للتوغل في المكان، ووصف تفاصيله والانفتاح على معانٍ ورؤى وإحالات صوريّة متعددة تمثّل ذاكرة الإنفعال بالمكان، ومرموزاته وهويته، والمعاني التي تترشّح عن وجود الإنسان فيه. وإذا كان البحر موحشاً بسبب فقدان الشجر فإنّ الوطن يتحوّل إلى خراب وعتمة، وقد اغتيل فيه الشجر، والشجر في هذا النص يمثّل المعادل الموضوعي للحياة بأسرها.

ويتميز نص (اغتيال الخضرة) بتدفّق صوري أيضاً وإشارات ودلالات تكشف عن محنة البلاد تحت سطوة وبشاعة القذائف وعويل الحرب، ويُعدُّ هذا النص من النصوص المتميزة لوصف الحرب بوصفها الخراب الذي يلتهم ويشوه البشر والشجر والحجر، وهذه التداعيات يؤشّر لها المنحى الإشاري والسيميائي للعنوان (اغتيال الخُضرة) وضمناً يشير إلى اغتيال الشجر بوصفه المظهر أو العلامة الدالّة على الحياة، وازداد المعنى جمالاً ودلالة بوجود الإشارة إلى اللّون الأخضر، وهو الدال الآخر المعبّر عن وجود الشجر كونه يجسّد وجود الحياة والبشر والجمال والبهجة والعافية، وقد برع الشاعر في الربط بين حياة الشجرة وبيئة الاخضرار وبين ضراوة وهمجيّة الحرب:

كم ربيعاً مرَّ/ بلا غيث يغسل الأشجار

في شارع دجلة؟ / يرسم شكل خطواتنا معاً/ على رصيفه/ الذي اغتالته السرفات/ وأرعبه صوت صفّارة الإنذار/ من فوق دائرة البريد

كم ربيعاً مرَّ من غير أن تلتقط/ صورة العيد الهارب من بين المقابر

وحزن الأمهات.../ كم ربيعاً قطعتْ رأسه

حماقات الحروب/ قبل أن يشرق فينا...؟ (المجموعة: 90).

ويبدو النص متماسكاً عميقاً في دلالاته، وانتقالاته وقد زاده جذباً الاستدلال الاستفهامي ووضع الألفاظ في سياق يتعمّق المعنى فيها، وكذلك براعة الشاعر وهو يقدّم صورة حزينة للشعر والنهر وموت المطر:

"بلا غيث يغسل الأشجار/ في شارع دجلة؟!"

وشارع دجلة في ميسان من المظاهر الجميلة يمتد مع النهر بأشجاره الباسقة ولكن للأسف اغتاله الجفاف والسرفات التي ترمز إلى (الاحتلال) ولم يكن في المكان نشيد الأطيار تحت سطوة صفّارة الإنذار، ويمكن الاستدلال على جمالية الصورة الشعريّة، وعمق دلالتها وتماسك عناصرها في الجملة الشعرية الآتية:

"كم ربيعاً مرّ من غير أن نلتقط صورة للعيد الهارب من بين المقابر....؟؟"

فهروب العيد وهي صورة مجازية تشخيصية مؤثّرة عمّقها التناقض الدلالي بين العيد والمقابر!! ثم اردفها كتتويج لهذا الخراب متمثّلاً بـ(حزن الأمهات)، وهي إشارة معبرّة عن فداحة الحزن عندهن، فالأمهات هنّ اللواتي يدفعن فاتورة الحرب بالحزن والانتظار والأنين والعيون الغائرة التي تنظر إلى طرقات الأبناء الذين ابتلعتهم الحروب بلا هوادة، وكم انطوت الصورة الشعريّة ومجازيتها الحاذقة التعبير على الربط بين الربيع والرب وما بينهما من تضاد وتناقض وتنافر:

"كم ربيعاً قطعت رأسه/ حماقات الحروب

قبل أن يشرق فينا...!!". (المجموعة: 90).

وتكمن جمالية النص في تعالقه مع عالم الشجرة، وهو الذي جعل الشاعر يختم النص في حضرة الشجر، ليعمّق الأثر السايكولوجي بين الشجر والحرب التي تمثّل الاغتيال الحقيقي والبشع لكلّ اخضرار وجمال يجسّد المعنى عبر سقوط الأوراق من أعالي الشجر كصورة لسقوط كلّ شيء تحت أقدام وبشاعة الحروب، ويتحول كلّ شيء إلى كتاب قديم، ومثل كسرة خبز على جدار قديم وتلك صورة بالغة التجسيد والتعبير وتحوّل كلّ شيء إلى يباس وعتمة وتلاش:

فإنّ ما مرّ/ ليس سوى ورقة تهبط ببطء

من أعالي شجرتنا/ إلى مستقرّها

في كتاب سيعلوه الغبار كثيراً/ ككسرة خبز

على جدار قديم؟!!". (المجموعة: 92).

وعبر توظيف الدال المرتبط بالشجرة يجد الشاعر المشهد المتوتر والمعبّر عن ثنائية الحياة والموت التي تجسّد صورة أو إحالة أو ايحاءً مركزياً ونسقاً مهيمناً فهو حين يصف الشجرة ونسغها، فإنه يوحي بالمعنى المضاد وهو الجفاف وانعدام الحياة، وبذلك فإنّ هذه الثنائية تتوافر على مستوى الحقيقي والمجازي والرمزي؛ أي أن هناك معنى حاضراً ومعنى غائباً، وكلاهما يحيل إلى الآخر.

وتتجلّى أبعاد أخرى ترتبط بوجود الشجرة من عناصر الجمال الأخرى إذ نجد الشاعر يميل إلى وصف كلّ أنواع الجمال والتناغم الذي يرتبط بالشجر، وهو ما يعمّق الدلالة الأيقونية المهيمنة وتداعياتها، وخلق نمط من التعالق والعلاقات بينها وبين مظاهر وإشارات وعوالم الجمال المختلفة.

ونلحظ في نص (حلول) تلك العلاقة الجماليّة بين الشجر والموسيقى، بإدراك تشفيري ضمني فالشجرة رمز للتجسيد المطلق، أمّا الموسيقى فهي علامة على التجريد المطلق، وكلاهما أيضاً يحيل على الآخر، وهذه الحركيّة التبادلية تؤسس دلالتها في ضوء المشترك الجمالي بينهما:

على غير موعد/ حفلها الموسيقي/ استيقظتْ قبل فجر التوقّع

أصوات هديل الطيور/ والعصافير.. / وهي تصطخب برأسي

المتلفّع بالغصون/ مددت يدي خارج السرير

تساقطت منها أوراق خريف/ واخضرّت أوراق أخرى..

قدماي تمتّد عميقاً/ بفصول الأرض..." (المجموعة: 93).

ويكمل الشاعر الصور الشعريّة المتوالدة بهذا المقطع المؤثر:

جناح الخضرة  / كي اتوحد بموسيقى رفيف الأجنحة

اللاتعرف  /  إلاّ التحليق  /  في أفقٍ كلّما أوغلتْ فيه

فإنّي أعانق دفء روحك..." (المجموعة: 94).

وعلى وفق المعاينة التحليلية يمكن الاستدلال على نسق الاختزال الذي يميل إليه الشاعر في خطابه الشعري، ومن خلال المقاطع الشعرية نلحظ هذه الظاهرة متجسّدة، ولم ترافق النصوص أيّة فائضية شعرية أو استرسال غير منتج.

يكتب الشاعر سعد ياسين بأسلوب (برقي) ويعتمد الجملة القصيرة والضربات السريعة على الرغم من أنّه كما يمكن استشراف ذلك يعتمد ويميل كثيراً إلى أسلوب الانتقالات والتحوّلات داخل النص، فالنص عنده بنية متصاعدة ومتحرّكة في كلّ الاتجاهات.

إنّ نص (مجرّة المجر) يرتكز على وصف تداعيات المكان متمثّلاً بمدينة (المجر) المعروفة في محافظة ميسان، ويمكن رصد أسلوب الانتقال والتحوّل في هذا النص متجسّداً بالانتقال من الواقعي إلى الميثولوجي ومن الحقيقي إلى المجازي، لكنّ النسق الصوري يبقى ثابتاً يحرّك البنية الشعرية ويزيدها عمقاً وجذباً للمتلّقي:

مذ خلق الله مجرّتها/ وأجرى على الأرض نهريها

شقّ بمرود أمّنا حواء/ عينيها فكانت مجرّة السماء

تلألأت النجوم في أعماقها/ فأضاءت مدى شاسعاً /  من سماء وماء

خزاماتٍ وأساطير ويُشن/ ترقص حوريات النور/ فوق قبابها..

من نهري عسل وحليب الجنّة../ استل عصاه المقدسة

رماها على جرفي نهريها/ وقال لها كوني.." (المجموعة: 95).

تتجلّى في النص ديناميّة الأسطرة والتعزيز بالأثر الميثولوجي، واعتمد في أسطرة المكان من آلية الإضفاء، والإنطلاق الميثولوجي، واستعارة بعض الإشارات أو المفردات القرآنية لجعل المكان مؤطّراً بنوع من التمجيد والقداسة:

"رماها على جرفي نهريها/ وقال لها: كوني" (المجموعة: 95).

واستعان بتوظيف الميثولوجيا الأنثوية ممثلة بـ(حواء): "شق بمرود أمّنا حواء" (المجموعة: 95)، وبهذه الوسائل والانتقالات استطاع الشاعر التحرّك والتحوّل من المكان الواقعي إلى المكان الميثولوجي (المؤسطر) وتشبيهه بالفردوس العالي، ولكنّ الشاعر لم يغادر تمركز خطابه الشعري حول الشجرة ومثيلاتها والإشارة إلى اللمحة الأنثوية:

ضفائر عمدّها المسك، القرنفل/ غابات يشاميغ سومر

تصهل الريح إذا ما تأزّروا بها/ للغزاة/ وهاماتٍ من نخيلٍ...

كلّما مرّ بها خائف.../ تساقط عليه رطب الأمان

حلّق في الأغنيات مع أسراب (الحِذّاف)/ المتسلّق نهر (العدل)

إلى صحن الله" (المجموعة: 96).

ويتوغل الشاعر في تفاصيل المكان وذكر أجزاء من مدينة (المجر) ونهرها وهو الصحين وغيرها من الأماكن، وأضفى على المكان سحراً وجسّده وكأنّه فردوس أرضي بدلالة أنّ الماء هو سرّ الحياة وسر الإخضرار وزهو الأشجار.

ويتخذ الشاعر من الأشجار رمزاً للثبات والكبرياء في جمالها ووقوفها سامقة تتجذّر على الرغم من تقلّبات الطبيعة والمتغيرات في نص (غصنان) وسيميائية العنوان وتنتمي إلى إشارة مرتبطة بالشجرة بدلالة الجزء على الكلّ:

"مذ كانت/ بذرة في رحم الفكرة/ أشجاري

ألهمتها أن لا تنحني للثلج/ كي لا يُقطف

وردَ الخضرة فيها/ وتضيعَ في عتمة/ البياض.." (المجموعة: 104).

نلحظ في الاستهلال التركيز على البعد الزمني، وقد أحال الفكرة إلى إرث ورسوخ، (مذ كانت)، ووصف قوّة وبسالة الشجرة لأنها ملهمة منذ القدم بأنْ لا تنحني للثلج كي لا يقطف أزهارها وثمرها، وتضيع في عتمة البياض، ويمكن ملاحظة التناقض والتضاد بين العتمة والبياض، وهذه الثنائية إيحاء بصراع الثنائيات، فالشجرة تصارع وتقارع كلّ الظروف والمتغيرات، والأنواء لكي تبقى واقفة ببسالة وهي ترتكز على جذورها الحية النابضة، ومن الظواهر الفنية في هذا الوصف والبحث عن الاكتمال الذاتي ما يحيل إلى طاقة من التأويل فقصدية الشاعر تنبئ بانزياح دلالي يشمل الشجرة، ويشمل الإنسان بوصفه يملك المشترك مع الكائنات أو النباتات التي تكافح وتبقى سامقة على الرغم من الخطوب والتحولات، وعلى وفق هذا تصبح نصوص المجموعة وهي تتمرأى وتتجسّد، وترتبط بما هو واقعي ورمزي، لكنّها ولطبيعة الطاقة التعبيريّة التي تستند إليها، تملك القدرة والخصائص للانفتاح على مساحة التأويل والترميز والايحاء، وتوافر الاستبدالية على مستوى المعاني والإحالات.

ويتمكن الشاعر من الخروج من العلامة المركزيّة، والشجرة المهيمنة إلى تداعيات وفضاءات أخرى لتنويع الأغراض والتوّجهات لكنّ النسق (الشجري) يبقى حاضراً وسائغاً في البنية الشعرية، فهو حين يصف جمالية وقدسيّة الأم يقرنها بالشجرة، وقد سمّى النص (شجرتها) وعبّر عن أنّها مصدر النماء والخضرة:

مع أوّل صرخة/ وأول إبصار للنور

كانت خضرتك تربت على صدري/ أن لا تخف

وكلما ادلهمّ ليل/ أضاءت أغصان شجرتك قناديل/ البهجة

فتنطلق الكركرات/ ناعمة بيضاء

مثل رفيف نوارس شط العمارة" (المجموعة: 106).

وليس من المتعذر اكتشاف أن الأم قد استحالت إلى شجرة مقدّسة، وهي التي منحته النور والبهجة، وربتت بالحنوّ على صدر الشاعر، بل تجاوزت كلّ المتوقع حين تنطق: "بأن لا تخف حين/ يدلهمّ اللّيل وتتوالى الأحزان.."

ويعود إلى المكان بوصفه الحاضنة التي جمعت بينه وبين الأم (الشجرة السامقة) والواهبة للعطاء على (شط العمارة)، وذكر الماء يحيل إلى العلاقة بين الخضرة والماء، والأم والأمان وتوامض جذور الحياة، حتّى يصل إلى ذروة التجلي الرؤيوي والشعري، ويرسم ملامح صورة التقديس والاحتفاء بالأم كونها النبع والجذر والشجرة الوارفة الواهبة:

"لم أكتب لك/ إلاّ الساعة بعد أن أدركتُ/ أنّ القصيدة التي

لا ترسم بريق عينيك/ يا أمّي/ صلاة باطلة

لن تبلغ السماوات..." (المجموعة: 109).

ويحشّد الشاعر مفردات الجمال ليتمكن من رسم الصورة الشعريّة بالغة التأثير، وإنّ القصيدة بوصفها الجمال لكنّها لا تكتمل إلاّ بذكر الأم، وإن لم تستطعْ رسم بريق عينيها فهي صلاة باطلة، وذلك أقصى التقديس للأم، والإحالة إلى الصلاة إشارة سيميائية لقداسة الأم بوصفها شجرة تنتمي إلى السماء، يوظف الشاعر العلامة المهيمنة متمثلّة بالشجرة في نص مؤثّر يتصدّى فيه لوصف مناخ ووقائع انتفاضة تشرين وقد وسم نصّه الشعري بعنوان (أوراق من شجرة التحرير)، إذ نلحظ الدلالة السيميائية بين مفردة الشجرة والتحرير كإشارة إلى المكان الذي شهد وقائع المواجهة والإيحاء بالمعنى الذي عبرّت عنه هذه الصورة باتّجاه الحريّة، والتصدّي للسلطة الجائرة، وشراسة عنفها وقد استهلّ النص بذكر الأشجار كرمز للحياة والثبات والبسالة، وتعرضها لأساليب القمع:

"حفيف الأشجار الذي/ أخفاه الدخان في ساحة التحرير/ صار صرخة...

حينما أدرك أنّ الهراوات/ التي انهالت على رأسه/ كانت من خشبها.." (المجموعة: 16).

تتجلّى في النص براعة لتوظيف الشجرة للشر وتحوّلها من أغصان زاهية ومعطاء إلى هراوات تلاحق الثائرين، وقد حققت الصورة الشعريّة إدانة لاستبداد، وبربريّة التسلّط الذي يشوّه الأشجار، ويحيلها إلى أداة للقمع، وليس أداة للحياة والجمال والأمان، تبقى مجموعة (الأشجار تحلّق عميقاً) تجربة شعرية فريدة وإنسانية تنتصر للجمال والتناغم وتدين القبح عبر نصوص دالّة ومنتجة للمعنى، وهي في اعتقادي تنتمي للشعر (البيئي) الذي لا يمجّد الطبيعة ويصفها إنّما يبين الشاعر أثارها في الإنسان والحيوان.

***

د. سمير الخليل

 

(قراءة في بِنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

أشرنا في المساق السابق إلى التخبُّط إلى أقصى اليسار للقول بعَرَبيَّة كلمات غير عَرَبيَّة، أو استدراج دوارج خالصة إلى الفصحى، الذي يذكِّرنا بتخبُّط معاكس إلى أقصى اليمين، يحاول أن ينسب كلمات عَرَبيَّة، بل قرآنيَّة، إلى لغات أخرى. ومن ذلك ما تقدَّم ذكره حول كلمة (زخرف)- التي وردت في «القرآن»، وبها سُمِّيت سُورةٌ من سُوره، هي (سُور الزُّخرف)- فجاء من زعمَ أنَّها من أصولٍ أجنبيَّة مستورَدة، وظلَّت جامدةً حتى العصر العباسي. وقلنا إنَّ (طَرَفةُ بن العَبْد)(1) قد صفع هذا المدَّعي ببيته:

أتَعرِفُ رَسمَ الدَّارِ قَفْرًا مَنازِلُهْ

كَجَفْنِ اليَمانِيْ زَخْرَفَ الوَشْيَ ماثِلُهْ

فاستعملها فعلًا مشتقًّا؛ فأين من عينيك ذياك الجمود؟! كما قال (المُرَقِّش الأكبر)(2):

تَنَزَّلْـنَ عَـنْ دَوْمٍ تَهِــفُّ مُتُـونُهُ

مُزَيَّنَـــةٍ أَكْنافُهــا (بالزَّخـارِفِ)

وقال (أَوس بن حَجَر)(3):

تَـذَكَّرَ عَيْنًـا مِـنْ غُمـازَةَ ماؤُهـا

لَهُ حَبَـبٌ تَسْتَنُّ فِيـهِ (الزَّخـارِفُ)

وقال (ثعلبة بن عمرو العَبدي)(4):

لِمَـــنْ دِمَــنٌ كَـــأَنَّهُنَّ صـَحائِفُ

قِفـارٌ خَلا مِنْهــا الكَثِيـبُ فَواحِفُ

*

فَمـا أَحْـدَثَتْ فِيهـا العُهُـودُ كَأنَّما

تَلَـعَّـبُ بِالسَّـمَّانِ فِـيهـا (الزَّخـارِفُ)

أتكفي هذه الشواهد من الشِّعر الجاهلي، أم نزيد؟!

غير أنَّ صاحبنا المدَّعي لم يسمع بكلِّ هذا الشِّعر الجاهلي؛ إذ ذهب إلى أنَّ مادَّة (زخرف) من أصولٍ غير عَرَبيَّة، ظلَّت جامدةً حتى العصر العباسي. كما زعمَ أيضًا أنَّ كلمة (سيمة) غير عَرَبيَّة؛ لأنه كذلك لم يعثر عليها في الشِّعر الجاهلي، وهو إنْ لم يعثر على لفظٍ في الشِّعر الجاهلي، فليس بعَرَبي، قولًا واحدًا، رُفعت الأقلام وجفَّت العقول!(5) ولا أدري أيَّ شِعرٍ جاهليٍّ يبحث فيه صاحبنا؟! لأنَّ (عَدِيَّ بن زيد العِبادي)(6) بدَوره سيخرج عليه ليصفعه ببيته:

بـانَ الشـَّبابُ فَمـا لَـهُ مَرْدُودُ

 وعَلَيَّ مِنْ (سِمَـةِ) الكَبِيرِ شُهُودُ

وهذا الشاعر من أقدم الشعراء في العصر الجاهلي، وليس من الإسلاميِّين، أو حتى من المخضرمين بين الجاهليَّة والإسلام. ولذا يبدو كذلك أن باحثنا المتبحِّر في تاريخ العَرَبيَّة لم يصله صوت ذلك الشاعر القديم في استعمال الكلمة، وقبل مجيء «القرآن»، بأمدٍ بعيد. ولن نشير إلى شعراء جاهليِّين آخرين أقل شهرة استعملوا تلك الكلمة، مثل (ابن زائدة التَّغْلبي)(7) القائل:

نُـقـارِعُ مِـنْ مَعَـدٍّ ما اسْتَطَـعْـنا

ونَحْمِي العِرْضَ مِنْ (سِمَةِ) الهَوانِ

أو قول (أُسَيْد بن عَنْقاء الفَزاري)(8):

غُلامٌ رَماه الله بالحُسنِ يافعـًـا،

لَهُ (سِيمِـياءٌ) لا تَشُقُّ على البَصَرْ

والكلمة، بعد هذا، على علاقة اشتقاقيَّة كُبرَى بمادَّتَي (وسم) و(سما). اللتين جاء منهما: الوسم، والاسم. يقول العَرَب: وسَمَ وَسْمًا وسِمةً، إذا أثَّر بسِمةٍ، بكَيٍّ وغيره. وتوَسَّم فيه الشيءَ: رأى فيه أَثرًا منه، وتَفَرَّسَه، من الوَسْم، والسِّمَة والعلامة. واسمُ الشيء، وسَمُه، وسِمُه، وسُمُه، وسَماهُ: علامَتُه.

-2-

على أنَّ الأمر في هذه الكلمة- كما ذكرتُ في بحثٍ لي قديمٍ في النقد الأدبي، بعنوان «الإشارة- البِنْيَة- الأثر (قراءة في «دلائل الإعجاز» في ضوء النقد الحديث)»(9)- يتعلَّق بمشترَك لفظيٍّ بين العَرَبيَّة وغيرها. ولذلك اقترحتُ في بحثي المشار إليه مصطلح «السِّيْمَوِيَّة أو عِلم السِّيْمات»، بديلًا عَرَبيًّا لمصطلح «سيميولوجيا Semiology»، أو «عِلم العلامات»، ونحوهما من المصطلحات المستعملة في الترجمات العَرَبيَّة؛ من حيث إنَّ «السِّيْمَوِيَّة» مطابقٌ عَرَبيٌّ أصيلٌ لمصطلح «سيميولوجيا»- ذي العلاقة بالكلمة الإغريقيَّة Semion- مبنًى ومعنًى. فـ«السِّيْمَوِيَّة» مأخوذةٌ من «سِيْمَة»، كما اتُّخِذت: «بِنْيَوِيَّة» من «بِنْيَة»، و«السِّيْمات»: جمع «سِيْمَة» أو «سِيْما» أو «سُوْمَة»، بمعنى علامةٍ أو «سِمَة». وقد استُخدِمت الكلمة في «القُرآن» بدِلالاتها المختلفة على أنواع العلامات، لكنَّه يشار بها إلى تلك العلامات ذات الدلالة الفارقة. وهنا تكمن ميزةٌ أخرى لمصطلح (سيما) عن غيره، كـ(علامة)، و(إشارة)، اللذين يُعجبان العَرَب والمعَرِّبين اليوم. مثل قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ، مِنَ النِّسَاءِ، والْبَنِينَ، والْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ، مِنَ الذَّهَبِ، والْفِضَّةِ، والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ»، (سُورة آل عمران: الآية 14). وقوله: «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِن طِينٍ، مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ»، )سُورة الذاريات: الآيتان 33- 34). وقال: «وعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ»، (سُورة الأعراف: الآية 46). كما قال: «سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ»، (سُورة الفتح: الآية 29).(10) حتى إنَّ عوامَّ (مِصْر) ما زالوا يقولون، مثلًا: «بين فُلان وفُلان سِيْم مُعَيَّن»، أي إشارة أو شِفرة. والمصطلَح بصيغته هذه يستقلُّ أيضًا عن إلباس المصطلحات العَرَبيَّة المستعملة الأخرى، في بعض الدراسات التطبيقيَّة، مثل: «السِّيميائيَّة Semiotic». من حيث إنَّ «السِّيميا/ السِّمياء» تُشير في تراثنا إلى ضروبٍ من الطلسمات والأعمال السِّحريَّة، تحدَّث عنها (أحمد بن علي البوني، -622هـ)، في الفصل السابع والثلاثين من كتابه «شمس المعارف الكُبرَى». قال (القرافي)(11): «السِّحر: اسم جِنسٍ لثلاثة أنواع: النوع الأوَّل: السِّيمياء، وهو عبارة عمَّا يركَّب من خواصَّ أرضيَّة...». وهو ما لا علاقة لموضوع السيمائيَّة في اصطلاح النقد الأدبي به! فأَولَى به أن يستعمل مصطلح (سِيمَويَّة)، أو (سيمائيَّة)، لا (سيميائيَّة).

عِلمًا أنْ ليست كلُّ لُغة العَرَب مذكورةً في شِعرها، بحيث يسوغ احتجاج بعضهم بهذا لأنَّه لم يعثر على كلمةٍ فيه. ولو افترضنا وصول الشِّعر العَرَبيِّ قبل الإسلام إلينا كاملًا غير منقوص؛ فإنَّ للشِّعر لُغةً منتقاة من اللُّغة في كُلِّ عصر، وله سياقاته الفنيَّة الخاصَّة. أترى لو أنَّ أحد الناس جاء اليوم وأنكر وجود بعض الكلمات في معجم التداول في عصرنا لأنَّها غير مستعملة في شِعر الشعراء- أو حتى في أدب الأدباء عمومًا- أكنتَ ستُجلسه في غير مقاعد الحَمْقَى والمغفَّلين؟! ليت شِعري، أ لأجل هذا غالى من غالى في الشكِّ في صِحَّة الشِّعر الجاهلي؟ ذلك أنَّ ثمَّة من إذا لم يجد كلمةً قرآنيَّةً في الشِّعر الجاهلي، قال، بفهاهة: إذن، هي غير عَرَبيَّة الأصل، وإذا كشفت له عن الكلمة في الشِّعر الجاهلي، قال: هذا شِعرٌ منحول، صُنع بعد الإسلام! منطقه منطق ذلك الأعرابيِّ المكابر صاحب «عنز ولو طارت!» وهذا التيَّار- المغالي في نِسبة ما جَهِل إلى غير العَرَبيَّة من الألسنة- في تنطُّعه، وجرأته على الهَرْف، كسابقه، من أولئك الذين يتعسفون في نسبة كلمة غير عَرَبيَّة إلى العَرَبيَّة. وبين الفريقين لافتة تقول: إنَّ العلاقة بين اللُّغات أمرٌ طَبَعي، ولا يتأتَّى الجزم بأصلٍ لُغويٍّ أوَّل، إلَّا بقرينةٍ عِلميَّةٍ حضاريَّة. وفيما عدا هذا فإنَّ الأشباه والنظائر شائعةٌ بين اللُّغات، كما هي الأشباه والنظائر شائعةٌ بين ملامح البَشَر.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

........................

(1) (2000)، ديوان طَرَفة بن العَبْد، شرح: الأَعلم الشَّنْتَمَري، تحقيق: دُريَّة الخطيب ولُطفي الصَّقَّال، (البحرين: دائرة الثقافة والفنون- بيروت: المؤسَّسة العَرَبيَّة للدراسات والنشر)، 126.

(2) (1998)، ديوان المُرَقِّشَين: المُرَقِّش الأكبر، عمرو بن سعد (-57ق.هـ)؛ والمُرَقِّش الأصغر، عمرو بن حرملة (-50 ق.هـ)، تحقيق: كارين صادر، (بيروت: دار صادر)، 60/ 10.

(3) (1979)، ديوان أوس بن حجَر، تحقيق: محمَّد يوسف نجم، (بيروت: دار صادر)، 69/ 36.

(4) الضَّبِّي، المفضَّل، (1979)، المفضَّليَّات، تحقيق وشرح: أحمد محمَّد شاكر وعبدالسلام محمَّد هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 281/ 1- 2.

(5) جاء هذا في ندوة «فرانكفونيَّة»، أيديلوجيَّة غير عِلميَّة، تحدَّث فيها أحد الباحثين «المرموقين»، فقال ما قال، بكلِّ ثقة، وكأنه ذلك البحَّاثة اللُّغوي الذي جاء ليكشف للعالم عن كلمات غير عَرَبيَّة في «القرآن»، إلى درجة أنه توصَّل إلى أنَّ الكلمات العَرَبيَّة نفسها، وغير المعَرَّبة، يحوم حول عروبتها الشكُّ أيضًا. والدليل؟ ليس أكثر من أنه لم يعثر عليها في الشِّعر الجاهلي! ولأنه متبحِّر في هذا الميدان، فإنه ربما يقصد بالشِّعر الجاهلي السبع المعلَّقات، لا أكثر! وإلَّا فإنَّ ما يزعمه غير صحيح، كما بَيَّـنَّا. ولا شكَّ أنه لم يكلِّف نفسه بفتح معجم في العَرَبيَّة، أو ديوانًا في الشِّعر، قبل أن يهرف بما قال؛ لأنه لو فعل، لخجل من زعمه الذي زعم. ولست أدري أهو أوَّل القائلين بذلك؟ أم هو يردِّد قول غيره كالعادة؟ وعمومًا، لا غَرْوَ أن تسمع مثل تلك الأحكام اللُّغويَّة «الرصينة» في ندوةٍ تتطرَّق إلى لُغة «القرآن» من عَرَبٍ لغتهم حين يتحدَّثون غير عَرَبيَّة أصلًا، بل خليطٌ من العاميَّة الأفريقيَّة والفرنسيَّة المشوهة، من خلال مؤسَّسة ذات تسميةٍ ماكرة ساخرة «بلا حدود»، لا تكاد تجد فيها طرحًا محترمًا، لا بمعيار المنهاج العِلمي المتجرِّد، ولا بغيره، وإنما هو «رَدْحٌ» أيديولوجي مكرَّر، من أسماء معيَّنة مكرَّرة، ينضح من وجهة استشراقيَّة واحدة، فتعرف نتائج ما سوف يقال قبل مقدماته، وكأن الشعار المشار إليه في التسمية «الإيمانيَّة بلا حدود» ما جاء إلَّا على سبيل المثل العَرَبي، الذي ضمَّنه (ابن سهل الأندلسي) في بيت دالِّ:

هيهات لا تَخفَى علاماتُ الهوَى ::: كاد المُريبُ بأن يقول خُذوني!

(6)  (1965)، ديوان عَدِي بن زيد العِبادي، تحقيق: محمَّد جبَّار المعيبد، (بغداد: شركة دار الجمهوريَّة)، 123/ 1.

(7)  (2014)، حرب بني شيبان مع كِسرَى أنوشروان، برواية: بِشر بن مروان الأسدي، تحقيق: عارف أحمد عبدالغني، (دمشق: دار العراب/ دار نور حوران )، 95.

(8) ابن منظور، لسان العَرَب، (سوم).

(9) شارك به الباحث في (مؤتمر ‏جَرَش للنقد الأدبي، جامعة جَرَش، الأردن، 2000م). ثمَّ نُشِر في (سبتمبر 2000)، في (مجلَّة «جذور»، (النادي الأدبي الثقافي بجُدَّة)، العدد 4، المجلَّد 2، ص7- 32).

(10) ويُنظَر في دلالة هذه المادَّة اللغويَّة: ابن منظور، لسان العَرَب، (سوم)، (سما)، (وسم).

(11) (2007)، كتاب الفُروق: أنوار البُروق في أنواء الفُروق، تحقيق: مركز الدِّراسات الفقهيَّة والاقتصاديَّة: محمَّد أحمد سرَّاج وعلي جمعة محمَّد، (القاهرة: دار السلام)، 4: 1288.

 

الهجاء الهوراتي والجوفينالي والمينيبي هي ثلاثة أنواع مختلفة من الهجاء الذي كان سائدا عبر التاريخ. كل أسلوب له خصائصه الفريدة وأساليبه في انتقاد المجتمع والسياسة والطبيعة البشرية. في هذا المقال، سوف نستكشف أوجه التشابه والاختلاف بين النقد الهوراتي والجوفينالي والمينيبي.

يتميز الهجاء الهوراتي، الذي سمي على اسم الشاعر الروماني هوراس، بنبرته الخفيفة والمرحة. ويهدف إلى تسلية وترفيه الناس بدلا من إثارة الغضب أو الإساءة. غالبا ما يستخدم الهجاء الهوراتي السخرية والذكاء والمبالغة للإشارة إلى عيوب المجتمع وحماقاته. إنه شكل ألطف من الهجاء يسعى إلى استفزاز السلوكيات البشرية والأعراف بلطف والسخرية منها. الهجاء الهوراتي أكثر دقة ودقة مقارنة بالهجاء الجوفينالي والمينيبي.

على النقيض من ذلك، فإن الهجاء الجوفينالي، الذي سمي على اسم الشاعر الروماني جوفينال، أكثر قسوة ومرارة في نقده. الهجاء الجوفينالي هو شكل مباشر لا يقبل المساومة من أشكال الهجاء يهدف إلى فضح وإدانة الرذائل والظلم في المجتمع. غالبا ما يستخدم الهجاء الجوفينالي السخرية والشتائم والسخط الأخلاقي لمهاجمة أهدافه. إنه أكثر مواجهة وعدوانية مقارنة بالهجاء الهوراسي. غالبا ما يُنظر إلى الهجاء الجوفينالي على أنه شكل من أشكال الاحتجاج ضد الأمراض الاجتماعية وإساءة استخدام السلطة.

الهجاء المينيبي، الذي سمي على اسم الفيلسوف اليوناني مينيبوس، هو شكل أكثر تعقيدا وانتقائية من أشكال الهجاء يجمع بين عناصر الهجاء الهوراسي والجوفيني. يتميز الهجاء المينيبي ببنيته غير التقليدية وأسلوبه السردي. غالبا ما يتميز بمزيج من النثر والشعر، بالإضافة إلى أصوات ومنظورات متعددة. الهجاء المينيبي أكثر فلسفية وفكرية مقارنة بالهجاء الهوراسي والجوفيني. إنه يستخدم السخرية والمحاكاة الساخرة والعبث لتحدي التفكير التقليدي والتشكيك في طبيعة الواقع.

على الرغم من اختلافاتهم، فإن السخرية الهوراتية والجوفينالية والمينيبية تشترك جميعها في هدف مشترك: انتقاد عيوب وحماقات الطبيعة البشرية والمجتمع والتعليق عليها. وهي تعمل كوسيلة لتسليط الضوء على عبثية وظلم العالم من حولنا. ولكل شكل من أشكال السخرية نقاط قوته وضعفه، ويمكن استخدامه بفعالية في سياقات مختلفة ولأغراض مختلفة.

غالبا ما تستخدم السخرية الهوراتية للسخرية من الأعراف والمعايير الاجتماعية وانتقادها بلطف. ويمكن أن تكون طريقة مرحة وخفيفة الظل للإشارة إلى سخافة السلوك البشري. من ناحية أخرى، فإن السخرية الجوفينالية أكثر مواجهة واستفزازية. فهي تسعى إلى إثارة استجابة عاطفية قوية من جمهورها وتحريضه على التغيير. أما السخرية المينيبية فهي أكثر تجريبية وغير تقليدية. فهي تتحدى القارئ للتفكير النقدي ومناقشة المعتقدات والقيم الراسخة.

إن السخرية الهوراسية والجوفينالية والمينيبية هي ثلاثة أشكال مميزة من النقد استُخدمت عبر التاريخ للتعليق على المجتمع والسياسة والطبيعة البشرية. ولكل شكل من أشكال السخرية خصائصه الفريدة وأساليبه في انتقاد العالم من حولنا. وسواء من خلال الفكاهة أو الغضب أو العبث، فإن السخرية تعمل كأداة قوية لكشف عيوب المجتمع وحماقاته وإحداث التغيير. ومن خلال فهم الاختلافات بين السخرية الهوراسية والجوفينالية والمينيبية، يمكننا أن نقدر بشكل أفضل ثراء وتنوع الأدب الساخر.

***

محمد عبد الكريم يوسف

في المثقف اليوم