قراءات نقدية
فاتن جمعة سعدون: قراءة في مسرحية (من هي والدتي) وكسر أفق التوقع
قدم عرض (من هي والدتي) ضمن مهرجان مسرح الشارع في كركوك/ الدورة الثامنة لعام ٢٠٢٤.
إعداد وإخراج: هه ردي هادي.
انتاج: نقابة فناني كوردستان / فرع حلبجة.
يقول مارك توين (أن الجمهور هو الناقد الوحيد الذي يستحق رأيه شيء من الاعتبار والاهتمام بنقد النخبة من المفكرين والنقاد لا يلغي الاهتمام بنقد العامة فهو يمثل شريحة من المجتمع لهم علاقة بالفن ويتأثرون به ويؤثرون فيه).
استند المعد والمخرج (هه ردي هادي) في مسرحيته (من هي والدتي) على نص برشت، في حيث أصل النص الذي تناوله (برشت) مأخوذ عن نص صيني كتبه (لي شنغداو) باسم (دائرة الطباشير) في القرن الرابع عشر. تتلخص حكايته بالاتي: تتخلى الملكة عن طفلها الرضيع وتهرب خوفا ويظل الصغير في رعاية الخادمة حتى تمر الأعوام وتعود الملكة للحكم وتطالب باسترداد ابنها لكن الخادمة تتمسك به، وهذا ما بنص الكاتب برشت في مسرحيته التي جاءت بعنوان (دائرة الطباشير القوقازية) تسلط المسرحية الضوء على (أحقية الملكية لمن يحرص على رعايتها واحتضانها وأن يستثمرها لخدمة المجتمع، ومن يرعى الشيء هو الأحق بملكيته) وهكذا لخص برشت فكرة مسرحيته بصورة تختلف عما جاء في النص الأصلي الصيني وجعل الصغير للأم التي تربيه و تعتني به وترعاه، وليس للأم التي أنجبته.
تتحدث حكاية مسرحية (من هي والدتي) عن صراع بين الفتاة الغنية - جسدت الدور الممثلة (دينا كاوان) - التي تتخلى عن دميتها وأهملتها ولم تعتني بها ورمتها، والفتاة الفقيرة - جسدت دورها الممثلة (ديما كاوان) - التي وجدت الدمية مرمية وأخذتها واعتنت بهندامها أحببتها وتعلقت بها.
خاطب المعد/ المخرج الأطفال أوصل فكرة مفادها: (حافظ أيها الطفل على ما تملك واعتني بأشيائك، فإن أهملتها، سوف تفقدها). امتزجت الحكاية مع الأداء التمثيلي والغناء والرقص لتعلم المتلقي الصغير تذوق الحياة بحلوها ومرها وإدراك جمالها والتعرف على ذاته ووجوده ومواهبه، انطلاقا من أن للمسرح دورا في تنمية وتعزيز الثقة في نفوس المتلقين الصغار، ويساعدهم أيضا بالقدرة على الاختيار وتحقيق المتعة والتسلية وزرع القيم التربوية.
مخرج ومعد مسرحية (من هي والدتي) وظف الدمية واستعاض بها بدلا عن الطفل الصغير كما جاء في نص بريشت.
شخصيات المسرحية ليس لهم أبعاد نفسية، وإنما كانت هي المثال (مثال الأم، الأب، القاضي، المالك).
امتلك العرض الموجه للأطفال الجاذبية والمتعة والإثارة والبساطة في إيصال ثيمة المسرحية (من هي والدتي) الدمية لمن تعتني بهندامها ونظافتها وتهتم بها وتحافظ عليها، وليس لمن يمتلكها دون اكتراث لوجودها حيث تهملها وتتركها في العراء. المسرحية أكدت على قيم الخير والجمال والمحبة والبساطة والعدل والحق في حياة الإنسان (الأطفال والكبار)، وجاء العرض مغايرا من حيث الأسلوب فهو سار برحلة جمالية في بحث دائم عن ثيم مجتمعية بأسلوب إبداعي باعتماد التكثيف والاختزال والدهشة الاستجابة الجمالية.
تأرجحت المسرحية ما بين المشاهد الكوميدية والتراجيدية في البحث عن الأجدر والأحق بامتلاك الدمية، فهي لامست الواقع المعاش اليوم المشحون بالطمع والأنانية والتسلط وحب الامتلاك والكراهية، وبالتالي يتناقلها الأجيال.
جاء العرض معبر لكل ما يحصل من أحداث (هنا والآن) فهي تصلح لكل زمان ومكان.
هدف المسرحية تغيير العالم من خلال نظرة جمالية جديدة، تعتمد النظر إلى الواقع كونه عالما متفاعلا مؤكدا إنسانية الإنسان.
أراد (المخرج) أن يقول إن معرفتنا للأحداث والحكايات قابلة للنقاش، ولا يمكننا تقبل الواقع كما هو، فهو نقل دائرة اهتمامه من خلال ما قدم أمامه، جعله الطفل يفكر بما موجود داخل عقله وما تعود عليه من أفكار سلبية، فهو أراد من المتلقي أن يراقب عن كثب ليكشف الواقع المرير الذي نعيشه متمثلا بصراع قطبي المسرحية في إطار من القيم الثابتة نقبلها كمتلقين، وكذا الحال مع بقية الشخصيات المسرحية ليصبح صراع وجهات نظر، وليقول لنا المخرج (هه ردي هادي) أن الدمية تمنح للتي تعتني بها، فالملكية الحقيقية تعمل ما هو مفيد لما تريد امتلاكه.
أراد (هه ردي) أن يحدث تغييرا في العلاقات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية بفعل إدراك العرض فهو حقق متعة عملت على ازاحة الاغتراب عن كاهل المتلقي ليمارس بتلقائيّته وإدراكه للواقع المعاش، وتغييره بفعل الوعي لما يشاهد ويعرض أمامه في فضاء المسرح، حققت المشاهد ذات الطابع الكوميدي الكثير من المتعة والدهشة بوساطة حركة اللاعبين الممثلين (ديما ودينا كاوان / كاوان علوان / ئه رده لان رمزان) من خلال الحركة المعبرة، والإيماءات الموحية، التي كانت هي اللغة السائدة في العرض المسرحي، يرافقها حوار الشخصيات التي كانت بشكل انسيابي اتّبعت نسق امتاز بإتقان وسلاسة حيث تألق الجميع في العرض بتناغم حواراتهم مع فعل الشخصية المؤداة، فهناك نضج في روئ كادر العرض ابتداء من المخرج وممثليه ومعرفتهم بدورهم وعمقه في التعبير لما يلعبه أثناء أداء للشخصية.
تناول عرض مسرحية (من هي والدتي) وجودنا الاجتماعي بتناقضاته البشرية، في نطاق عالم الطفل اليومي، الشخصيات بأدائهم الممتع كشفوا للمتلقي الصغير المعنى الحقيقي للتضحية والقيم الأخلاقية والنصح والإرشاد والتوجيه والتعليم، باستخدام اللغة المحلية (الكوردية) حيث جسد الممثل الحكاية من خلال حوارات ذات لغة بمفردات محلية متداولة، بعيدة عن المبالغة في اختيار المفردات.
لذا علينا الاهتمام وعدم الاستخفاف بالعالم الديناميكي المتغير باستمرار بجعل عقله متيقظا متفتحا، أراد (المخرج) للمتلقي الصغير أن يمارس دوره الحقيقي في التغيير، فهو عكس الواقع الموضوعي بشكل ذاتي من خلال قراءتنا للأحداث والحكاية التي عرضها لنا حيث جغرافية مكان (مجمع أوف كركوك) مكان متحرك غير ساكن، كجزء من جغرافية المدينة عمل على استقطاب المتلقي.
انطلق (المخرج) من الواقع إلى الإنسان وبالعكس، فطبيعة الإنسان متغيرة باستمرار، وكذا الحال مع بقية الأمور والقضايا، عمل على تفعيل دور الإدراك والفهم واليقظة ليؤكد إنسانية الإنسان، فالإدراك قد غيب بفعل حب التسلط والتملك والجبروت والابتعاد عن الحق والعدالة.
تعد عروض مسرح الفضاء المفتوح فقيرة في امكاناتها الفنية من حيث المعدات المادية المستخدمة والمأخوذة من الواقع الحياتي، والاكتفاء بالاكسسوارات واللوازم القليلة المقتضبة والفقيرة في إمكاناتها الفنية، وهي خفيفة سهلة الحمل تمثلت بصندوق بسيط يحتوي أدوات ولوازم خياطة، إضافة إلى عربة بائع البالونات وحلويات ولعب الأطفال، أزياء الشخصيات بسيطة موحية معبرة بشكل سلس وانسيابي ابتعدت عن صيغة المبالغة مما جعلها مصدر جاذبية واستجابة شعورية للمتلقي الصغير، حيث كانت دلالة الألوان في زي الشخصية كانت تحمل قيما نبيلة وسامية، ساهمت في جعل المتلقي قريب إلى تلك الشخصيات، انه مسرح متقشف بسبب إمكاناته الفنية كونه مسرح يبحث عن التجمعات البشرية، ويقدم لهم العرض. كانت لغة الموسيقى والغناء حاضرة في تحريك مشاعر المتلقين، لأن الغناء والموسيقى أقوى تأثيرا، ومن ثم التفاعل معهم بشكل كبير، هذا من ناحية التقنيات المستخدمة في العرض، وعلى النقيض من ذلك نجد أن الممثل على درجة عالية من التمكن من أدواته (الصوت، والحركة، والانفعال) في بث رسالة العرض المسرحي الموجه للأطفال، فضاء العرض تحلى بالجاذبية والمتعة والإثارة والبساطة في إيصال ثيمة المسرحية، وارسال المعلومة للمتلقي من خلال لعب التمثيل، كون اللعب هو عملية التقليد والمحاكاة، حيث يعتمد الطفل اللهو واللعب بقصد المتعة وبعث السرور في نفسه وحيازة إعجاب من حوله، والذي تشكل جانبا مهما من حياة الصغير.
حقق العرض تفاعلا كبيرا من قبل الأطفال، وما جذب انتباه المتلقين الكبار والأطفال ايضاً طفلة شاركت اللاعبين في مساحة التمثيل حيث كانت تغادر مكان جلوسها مع عائلتها (كون مسرح الفضاء المفتوح هو مسرح عائلة بامتياز) لتدخل فضاء الفعل وتشارك الممثلين، فهي في حركتها وانتقالاتها أصبحت جزءا من العرض، ثم تعود أدراجها إلى مكان جلوسها ثانية، فهي كانت المثال الذي جسد جميع المتلقين الصغار. الجمهور خليط غير متجانس من الناس، والعرض لم يتوجه الى فئة محددة، ولا إلى شريحة عمرية معينة من الأطفال والكبار، وفضاء العرض هو نفسه فضاء المتلقين، ثمة توحد بين المؤدي والمتلقي، واقتلاع تام للفواصل التقليدية مما جعل المتلقي مشارك فعال في العرض الموجه إليه. بناء عليه يمكن الجزم على أن مسرح الشارع أو مسرح الفضاءات المفتوحة، ومسرح الطفل يعد مدخل للعمل على إعداد وصناعة المتلقين.
تسهم مثابرتكم و إخلاصكم وتفانيكم بالعمل اهتمامكم الكبير والمهم لعروض مسرح الشارع الموجهة للأطفال، فقد كانت لكم تجربة سابقة قدمت في مهرجان كركوك لعروض مسرح الشارع / الدورة السابعة لعام ٢٠٢٣ بعرض مسرحية تربوية تعليمية موجهة للأطفال، قدمت النصح للصغار وكيفية تعاملهم مع الأشياء، بعنوان (العمل سحرية كاتي وكالي)، نهنئكم جميعا معد / مخرج / ممثلين وجميع كادر العمل، ونشد على ايديكم، وننتظر منكم التواصل وتقديم الأجمل.
***
أ.د. فاتن جمعة سعدون الربيعي