قراءات نقدية

قراءات نقدية

كان ظاهراً منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث بدأ الكتّاب والمثقفون العرب يتعرفون على الأدب العالمي، وترجمة أعمال أدبية مهمة من لغات أخرى إلى اللغة العربية، تأثراً واضح المعالم في الكتابات الأولى للأدباء العرب. وكان تأثير هذه الروايات العالمية واسع النطاق، إذ أحدث تغييرات كبيرة في الرواية العربية وتطورها بشكل كبير، وكانت من بين التأثيرات الرئيسية التي أحدثتها الرواية العالمية على الأدب العربي والرواية العربية، تقنيات الكتابة والسرد، إذ أثرت الرواية العالمية على التقنيات السردية والأساليب الكتابية في الأدب العربي،  وقدمت أساليباً جديدة في السرد وبناء القصة وتطور الشخصيات، كما كان انتقال المواضيع أيضاً له دوره هوالآخر في التأثر، حيث عرّفت الرواية العالمية المثقفين العرب على مواضيع جديدة ومختلفة عن تلك التي كانوا يعتادون عليها في الأدب التقليدي من كتب التراث، مثل التحولات الاجتماعية والتغيرات النفسية والفكرية التي تتعلق بالوجود وماهيته.

لقد تأثرت الرواية العربية بالأدب العالمي، مما أدى إلى توسع مجال المواضيع في الكتابة العربية، وتعامل الكتّاب العرب مع مواضيع مختلفة، واستكشفوا قضايا جديدة بفضل التأثيرات المتنوعة، منها الأحداث والصراعات والاكتشافات المتسارعة وانتشار الايدلوجيات المتوزعة بين اليسار واليمين والحداثة وغيرها. كما كان توسع الآفاق الثقافية تأثيره هو الآخر، إذ ساهمت الترجمة وانتشارها في توسيع آفاق المثقفين العرب وزيادة تعددية المدارس الأدبية.

ومع انتشار الرواية العالمية، كان لتنوع الأصوات الأدبية فعله الكبير، حيث أصبح هناك تنوع كبير في الأصوات الأدبية العربية، وظهور مؤلفين جدد يمثلون تيارات فكرية ووجهات نظر مختلفة، بفعل الاطلاع والتلاقح الفكري أو ربما التقليد من البعض لينحو بالأسلوب الغربي الجديد الذي أطلعوا عليه، وسعي الكاتب العربي لأكتشاف أفكار جديدة يمكن أن تساعده في كتابة منهج جديد، أو سعيه نحو أتخاذ أسلوب يميزه عن غيره من مجايليه من الكتّاب.

لقدعرّفت الرواية العالمية المثقفين العرب على التراث الأدبي العالمي وأدخلتهم إلى عالم الأدب العالمي بشكل واسع، وذلك من خلال الانفتاح على التراث العالمي وتفاعله معه والأخذ بالعديد من سلوك الكتابة الفكرية والفلسفية والاجتماعية والنفسية.

ومن نافلة القول؛ إن التأثير كان شاملاً وأحدث تحولات هامة في الأدب العربي، حيث أثرت على المحتوى والشكل والأسلوب، وأدخلت تنوعاً جديداً وإلهاماً للكتّاب والقراء على حد سواء، وعليه فإن تأثير الرواية العالمية على الرواية العربية، كان ظاهرًا وملموسًا على مر العقود السابقة، وتتعدد هذه التأثيرات وتتنوع حسب الحقبة الزمنية والتحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي مر بها العالم العربي.

إن تبادل الثقافات بين الشعوب كان عمقه وتأثيره بلا شك،  فعندما يقرأ الكتّاب العرب روايات من جنسيات وثقافات مختلفة، يتم تبادل الخبرات والتجارب الإنسانية، وبالتالي فأن هذا التبادل يساهم في التعرف على الآخر، وفهم تفاصيل حياتهم وتقاليدهم، مما ينعكس على الرواية العربية ويثريها، والعكس صحيح، لذا فإن الرواية العالمية عملت على تعزيز التواصل الثقافي بين الشعوب وساهمت في تبادل الخبرات والمعرفة، ليس من خلال ترجمة الروايات العالمية إلى اللغة العربية فحسب، إنما كما اشرنا  الى التفاعل بين الشخصية العربية وأعني الكاتب والأديب العربي مع روح النص الغربي، مما جعل الأديب العربي أن يتمكن للوصول الى القراء العرب وآطلاعه على ثقافات وعادات وقيم أخرى.

كما شكل التطور العالمي والثورة الاتصالية أهمية بالغة، إذ أصبحت الرواية العالمية والأدب العالمي بشكل عام، أكثر توافراً للقراء العرب، حيث يمكن للقاريء الآن الوصول إلى الأعمال الأدبية العالمية بسهولة عبر الترجمة والانترنت في الوقت الراهن. مما يسهم هذا في إثراء المشهد الأدبي العربي، فعندما يتعامل الكتّاب العرب مع الرواية العالمية، يمكنهم استيعاب أساليب أدبية وهياكل قصصية جديدة ومستجدة، يمكن أن يؤدي ذلك إلى زيادة التنوع والأبتكار في الرواية العربية، ويمكن للكتّاب أن يطوّروا أساليبهم الكتابية من خلال الاستفادة من الخبرات الأدبية العالمية.

لقد شهدت الرواية العربية بعد الحرب العالمية الثانية تأثراً أكبر، وذلك لزيادة الترجمة من الأعمال الأدبية العالمية، مما أثر في تطور المشهد الأدبي في المنطقة العربية، وبدأ الكتّاب العرب في نهج أسلوب قصصي وروائي يقترب كثيراً من ازمات الحروب وانعكاساتها الاجتماعية السلبية، ومدى تأثيرها على الفرد مع الأخذ بتعزيز ثيمة النص بالجانب الرومانسي، فكانت اصدارات عديدة غزت الاسواق العربية ومكتباتها.

فكانت هذه الاحداث؛ مصدر إلهام للكتاب العرب والروائيين، مما شجعهم ذلك على التعبير عن آرائهم وقصصهم بطرق جديدة ومبتكرة، والذي يعتبرجزء من تحفيز الابداع والتنظير بتعدد اساليب الكتابة لدى الكثيرين من الكتّاب العرب.

كما استطاعت الرواية العالمية معالجة قضايا حديثة ومعاصرة تهم الإنسان المعاصر بشكل عام، وتدفع الكتّاب العرب للتعامل مع هذه القضايا وتناولها بأسلوب جديد وحديث، بما يناسب الواقع البيئي والاجتماعي والسايسي العربي.

فضلاً عن ذلك،  فقد شجعت الكتّاب العرب على تحدي القوالب التقليدية وتجاوز الحدود الأدبية المعتادة، مما يمكن أن يؤدي إلى تحفيز وإلهام الكاتب العربي بظهور تجارب أدبية مبتكرة وجديدة في الرواية العربية، أضافة الى اسهامها في تحسين مستوى الترجمة، إذ أصبحت الترجمة لهذه الروايات ذات أهمية كبيرة، من خلال مراعاة المستوى العالي في دقة الترجمة الادبية.

ومن الجدير بالملاحظة، أن هذا التأثير ليس بالضرورة دائمًا كان إيجابيًا، فهناك مخاطر لإحتمال تأثير الرواية العالمية على الأدب العربي بطرق تؤثر في تراثه وموارد تأريخه الانساني، وهوية الأدب العربي التقليدية، من خلال التلاعب بالنصوص التراثية القديمة وتأويلها الى النص الروائي الغربي. لذلك يعتمد الأمر على الكاتب في كيفية استيعاب هذه التأثيرات والاحتفاظ بالأصالة الثقافية والأدبية العربية في الوقت نفسه.

ومما لا شك فيه، فأن الرواية العربية اليوم لها موطيء قدم في التنافس الابداعي مع الروايات العالمية على مستوى الانتشار وجذب القراء، هذا التنافس يحفّز الكتّاب العرب على تطوير أعمالهم لتكون في مستوى المعايير العالمية، وقد احتلت مساحة واسعة بين الترشيح الى الجوائزالعربية والعالمية كجائزتي البوكر ونوبل، وقد تصدر منها الكثير بالفوز وجعلت لها موضع قدم عند ادباء العالم وباهتمام شعوبها وفضولهم بالقراءة والاطلاع عليها.

مع ذلك، ينبغي أن نلاحظ أن تأثير الرواية العالمية على الأدب العربي قد يختلف من كاتب إلى آخر، وقد يكون هذا التأثير إيجابيًا أو سلبيًا بحسب التعامل الفردي للكتّاب مع هذه التجارب الأدبية العالمية، كما ينبغي الأشارة أن تأثير الرواية العالمية على الأدب العربي لم يكن دائمًا إيجابيًا، فقد تسببت بعض التأثيرات في فقدان بعض العناصر الثقافية التقليدية والتراثية في الرواية العربية.

***

د. عصام البرام

للكاتبة صباح بشير

منذ أن فتحت شهرزاد مخيلة الرجل على السرد، أصبحت المرأة مصدر إلهامه في التعبير عن تصوراته للحياة، فقدّم المرأة كذات فردية تعيش في اطار الواقع الاجتماعي بكل سلبياته وإيجابياته، وتمكّن من اقناع القارئ بصدق الحياة المتخيلة في ابداعاته الروائية والقصصية التي تعيش في ظلّها المرأة، وشكّل بذلك الصورة النمطية للمرأة بأنها تابعة للرجل.

كان لا بد لتلك الصورة النمطية أن تتغير، وبفضل فتح آفاق التعليم، والتطور العلمي والتكنولوجي، ساهمت المرأة الكاتبة في تغيير الصورة فلم تعد المرأة تابعة بل نداً للرجل ونصف المجتمع، ولها حقوق كالرجل تماماً، تساهم في حركة المجتمع كالرجل، وأن حرية المجتمع وتقدّمه تبدأ من تحرر المرأة من سطوة الرجل. فخاضت المرأة الكتابة منذ القرن التاسع عشر للميلاد مؤكدة على ذاتها ووجودها في المشهد الأدبي تماماً كالرجل، ومدافعة عن حقوقها أمام هيمنة الذكورة. ورغم مرورها في حالات المد والانحسار نتيجة عوامل اجتماعية، إلا أنها كانت متواصلة، ولم تنقطع عبر كل السنوات إلى أن وصلت في القرن الحادي والعشرين إلى طفرة روائية نسوية.

تشهد الساحة الأدبية العربية ومن بينها الفلسطينية ظاهرة الرواية النسوية، وزخم روائي نسوي بدأ يفرض نفسه ويتميز في الساحة الأدبية وصل إلى حد المنافسة على الجوائز العالمية، ولكن الغالبية ما زلن أسيرات الذات، وأسيرات الرؤية الشمولية لقضايا المرأة، في منحي التحرر من سطوة الذكورة، وتعرية تشوهات الرجل العربي وفصاميته مع المرأة، ومن قيود المجتمع والانطلاق نحو آفاق أرحب وأوسع. وثمة من قاربن بين الرؤيتين بفتح آفاق وعوالم أخرى مستمدة من الواقع الاجتماعي، فخضن تجارب الكتابة عن الثورات والإرهاب والاستبداد السياسي، وتأثير ذلك على المرأة وعلى مصير الأوطان.

وفي سياق الدفاع عن الذات أمام سطوة المجتمع وهيمنة الرجل، وبلغة سردية متماسكة تأتي رواية الكاتبة الفلسطينية صباح بشير "رحلة إلى ذات امرأة" الصادر عن دار شامل للنشر في نابلس عام 2023. لنسافر معها في أغوار رحلتها الواقعية الاجتماعية للبحث عن ذاتها وسط عالم مليء بالتراكمات الراسخة التي يجب تغييرها وتجاوزها نحو رؤى مجتمعية تدفع نحو تطور المجتمع.

الكاتبة صباح بشير ابنة القدس، حاصلة على ماجستير في الدراسات الثقافية، ومختصة في قضايا المرأة حيث عملت في عدة مؤسسات انسانية وحقوقية واجتماعية، ومحاضرة أكاديمية في كلية بيت بيرل، تكتب المقالات الأدبية والثقافية في الصحافة العربية والمحلية، وتشارك في النشاطات والندوات الأدبية، وعضو فاعل في نادي حيفا الثقافي، وتقيم في حيفا. نشرت كتاباً مشتركاً مع الكاتب جميل السّلحوت بعنوان "رسائل من القدس واليها"، وهذه الرواية هي تجربتها الأولى في مجال الكتابة الروائية.

عتبة العنوان:

يأخذنا عنوان الرواية إلى فضاء من التساؤلات عن الدلالات التي تسعى الكاتبة إلى ترسيخها في ذهن القارئ منذ الوهلة الأولى، "رحلة إلى ذات امرأة"، فكيف تكون الرحلة إلى ذات امرأة؟ وما معنى الرحلة؟ وماذا تقصد بتلك الرحلة؟ ولماذا في ذات امرأة؟ ومن تكون تلك المرأة؟ وهل هي لسبر أغوار تلك الذات أم ثمة دلالات أخرى؟

هذه الأسئلة يثيرها العنوان، وحين التعمق في السرد يتفكك العنوان لصالح جمالية الرواية، وتعبيرها عن دلالات العنوان المتوافق مع السياق السردي. إن الرحلة تعني الشعور بالسعادة والانبساط الذي يشعر به المرء حينما يقوم برحلة سياحية إلى بلدان يجهلها، أو رحلة بين أحضان الطبيعة يستمتع بجمالها، ولكن رحلتنا مع هذه الرواية ليست بهذا المعنى، بل هي رحلة حياة لاستكشاف وسبر أغوار تجربة اجتماعية في أعماق الذات الإنسانية التي تمتلكها تلك المرأة التي تروي الرواية حكايتها، فيمنحنا العنوان القدرة والإرادة الذاتية المدفوعة بالفضول على الدخول في أعماق المتن السردي لتلك المرأة لاكتشاف ذاتها من خلال تجربتها الإنسانية الاجتماعية.

وذات المرأة تؤكد أننا أمام تجربة ذاتية واقعية، تنحو منحى السيرة الذاتية في قالب روائي، وتستمد عوالمها من مخزون الذات باستخدام ضمير الأنا المتكلم الذي يوحي بذاتية الأحداث وارتباطها بالأنا الساردة، بمعنى أن الساردة تكتب ذاتها لتشارك الآخرين في رؤيتهم لتجربتها، تلك التجربة التي تكون هي ذاتها ضحيتها، نتيجة هيمنة عادات وتقاليد بالية على مجتمع يعلي من قيمة الذكورة في مقابل انحطاط قيمة الأنثى، وهنا تكون رحلة الذات نحو انتقاد الواقع الاجتماعي والكشف عن اللازمة التي تستمد منها الكاتبة عنوان سردها أن المرأة هي ضحية الرجل والمجتمع معاً.

بناء الرواية ودلالات الزمان والمكان:

يستند بناء الرواية على عملية التذكر أو الاسترجاع الذاتي، تقول: "بدأت أرجع بالزمن إلى الوراء وأستذكر الماضي .. عاد بي سنوات إلى ذلك الماضي، لأنبش خباياه وما يجول في ثناياه". وتستخدم ضمير الأنا المتكلم الذي يشعر القارئ بصدق الأحداث لأنه صوت الشخصية المندمجة في ذات الساردة الذي يتقاطع أحياناً مع حوار الساردة مع الشخصيات، ولكن تبقى الساردة مهيمنة على السرد، والناطقة بلسان كل شخصياتها، فهي العليم بكل شيء، وهي صاحبة التجربة القادرة على التعبير عنها. ويتضمن البناء السردي تقنيات فنية وأسلوبية وظفتها الكاتبة في بناء روايتها، فجاءت متوافقة مع السرد ومعمقة للتجربة، حيث استخدمت المراسلات عبر الوسائل الالكترونية، وتوظيف الأمثال الشعبية، والأغاني الوطنية والتراثية، والنصوص الدينية، والحكايات المعبرة عن قسوة المجتمع، مثل حكاية "الجارة أم عارف وابنتها أسماء"، وحكاية (آنا) الفرنسية ذات الأصول العربية التي تخرج من قصتها بحكمة أن "الحياة مع الشريك المناسب أكثر اشراقاً وسعادةً"، مما ينعكس على ماضي حياتها في عدم اختيار الشريك المناسب. وكذلك نماذج التجارب الحكائية التي التقتها لإعداد تقرير عن تعدد الزوجات، ورغم أن هذه التجارب أسلوب تقريري، وسرد لا فائدة منه في العمل الأدبي، ولا يضيف لجمالية الرواية، إلا أن الكاتبة جاءت بهذه الحكايات لكي تؤكد مصداقية الأحداث وواقعيتها، وتعمق رؤيتها الانتقادية للمجتمع، وكان يمكن الاستغناء عنها دون أن تؤثر على مجرى الأحداث ومضمون السرد.

تبدأ الرواية من حيث ينتهي السرد، بعد أن تصل الساردة إلى ختام تجربتها واستقرارها في الوطن، نجدها في آخر سطر من الرواية تكتب "بدأت العمل على ترتيب أموري وأوضاعي، وها أنا أجلس على شرفتي الجميلة وأدون الذكريات"، كأن النهاية هي بداية السرد، حيث نجدها في بداية الرواية تصف ما تراه من عجيج الحياة أثناء جلوسها على الشرفة في البناية التي سكنتها حديثاً بعد عودتها من فرنسا، وهو ما يعرف بالرواية المدورة، وهو أسلوب من أساليب الرواية الحديثة. 

تكشف الذكريات عن الجزء المخفي من حياة الشخصية، الذي لا يمكن معرفته إلا من خلال ذكريات تلك الشخصية، فهي نوع من السيرة الذاتية التي لا تقول كل الحقيقة، بل تسلط الضوء على جانب من شخصيتها يجمع بين الواقع والخيال حينما يتم صياغتها كرواية في محاولة للتفريغ النفسي، أو نوعاً من تأنيب الضمير في حالة عدم رضاها عن أفعالها، أو تكون محاولة من الشخصية لتجاوز الواقع والهروب منه نحو الماضي. في هذه الرواية وذكريات الساردة هي محاولة للتفريغ النفسي بالحديث عن تجربة حياة عاشتها بكل ايجابياتها وسلبياتها، وتسعى لمشاركة القارئ في تفاصيلها، دون أن تمنحه الفرصة ليعبر عن رأيه في ذكرياتها وتجربتها ورؤيتها للواقع، وادانتها للرجل والمجتمع معاً، فهي صاحبة الحق في التعبير وتوجيه القارئ للإيمان بتلك الرؤية التي لم نشعر أن ثمة ادانة للشخصية الساردة، بل هي ضحية لكل من الأسرة، والمجتمع، والرجل، فجميعهم مدانون وسبب معاناتها وأزمتها الاجتماعية والإنسانية.

تتوزع الرواية على سبع عشرة فصلاً، في 273 صفحة. تحمل ذكرياتها ورؤاها وأفكارها والقضايا الاجتماعية التي طرحتها في سبيل كشف ما هو راسخ في المجتمع من عادات وتقاليد وأعراف سائدة منذ زمن قديم وما زال الأبناء يتوارثونها كأنها من مقدسات المجتمع، فأصبحت تلك الأفكار قيم راسخة دون تطور أو تجديد مع العصر. وكانت تلك القيم التي ناقشتها الساردة في روايتها ما زالت تطفو على سطح المجتمع، كالعنف الأسري، والتفريق المجتمعي بين الذكر والأنثى، والزواج التقليدي غير المتكافئ، وعقدة الخوف من عنوسة البنت، وقضايا الطلاق وأسبابها وآثارها، العلاقات الأسرية داخل البيت الواحد. وإلى جانب ذلك كانت ثمة قيم ايجابية حافظ المجتمع عليها: كالتكافل المجتمعي في الأزمات، والعلاقات الاجتماعية الحميمية بين المسلمين والمسيحيين. كما أبرزت الكاتبة تأثيرات الوضع السياسي (الانتفاضة الفلسطينية) على حياة الناس وأحلامهم ومصائرهم، ومشاعر الألم التي تنتاب الأم التي فقدت ابنها شهيداً، وكانت (أم إبراهيم) نموذجاً للأم التي فقدت ولدها (خالد) بما يخالف الصورة التقليدية التي يروجها الإعلام، بأن الأم تزغرد لاستشهاد ابنها، فهي تكشف عن الجانب الآخر لمشاعر الأم التي تعيش أياماً في حالة صدمة وحزن شديد على ابنها "فقد عقدت الصدمة لسانها وانهارت تماماً، فتراها تغفو لبرهة وتصحو دون تركيز". هذه كانت حالة أم إبراهيم. وتصف مشاهد من الانتفاضة وتأثيراتها على أحوال الناس "أزيز الرصاص، والغاز المسيل للدموع ملأ فضاء المدينة والمدن المجاورة، والدخان لون سماءها بالسواد"، كما حطمت الانتفاضة أحلامها في اكمال تعليمها الجامعي بسبب الاغلاق المتكرر للجامعات، واغلاق الطرق.

ونجد الساردة تستغل حدث الانتفاضة لتعبر عن رؤيتها في مسألة الكفاح والمقاومة كرؤية اجتماعية وليست سياسية، تقول: مسألة الكفاح والمقاومة كرؤية اجتماعية وليست سياسية، تقول: "البعض يظن أن الكفاح والمقاومة يكمن فقط في حمل السلاح، كم هو ساذج هذا التفكير، فكثيرون وكثيرات حملوا سلاحاً من نوع آخر، سلاح مقاومة الفقر والاستغلال لكسب لقمة العيش بشرف وأمانة". تحاول هنا التوازن بين الكفاح الوطني إلى جانب الكفاح الاجتماعي الذي يحفظ للإنسان كرامته من ذل السؤال.

يشكل الزمان والمكان عنصران متلازمان في العمل الروائي، فلا رواية دون مكان أو زمان. يتخذ الزمان أشكالاً متعددة في العمل الروائي تكون مرتبطة بأحداث الرواية، في هذه الرواية لم يكن ثمة زمان محدد لسرد الأحداث، فهي رحلة حياة ممتدة بدأت ملامحها من السنوات الأولى في بيت الأسرة، وصولاً إلى تبلور زمنها في الانتفاضة الفلسطينية سنة 1987، وتأثيرها على بطلة السرد وتشكل حياتها ومعاناتها.  فليس ثمة تقيد بالزمن في هذه الرواية، وإنما يخضع لترتيب الأحداث، فنجدها أحياناً تسرع الزمن "هكذا مضت الأيام بحلوها ومرها". وكذلك "تمر الأيام ثقيلة كالسنين". وأحياناً تسترجع الزمن "اليوم، وبعد كل تلك السنين".

وهنا تبرز التقنية الفنية الحديثة التي استخدمتها الكاتبة في سردها وهي تقنية المفارقة الزمنية في السرد، فسرد الأحداث يأتي بعد زمن طويل من وقوعها، فهو سرد قائم على الاسترجاع، فنجدها تقول أثناء تجوالها في القدس: "في طريق العودة سمعنا صوت الأغاني الوطنية الصادرة عن المحلات التجارية التي كانت تبيع الأشرطة الموسيقية آنذاك، لم تكن الأقراص المضغوطة (CD) معروفة بعد". وفي الماضي غابت التكنولوجيا وكانت ثمة وسائل أخرى للترفيه، فنجدها تعيد ذكرياتها عن العرض السينمائي الذي كان يستقطب الكثير من الناس على اختلاف أعمارهم، "لم تكن الأجهزة الحديثة المتطورة متوفرة آنذاك .. كانت أجهزة التلفاز والراديو ودور السينما تتربع على عرش الترفيه في حينها". كذلك تقنية استباق الأحداث بمعنى معرفة تفاصيل الحدث أو الموضوع لاحقاً بعد أن تشير إليه أثناء السرد. نقرأ ما عرفته لاحقاً عن دلالات المثل الذي قالته أمها: "البنت الحرة مثل الذهب بالصرة"، تعرف بعد ذلك كما تقول أن هذا الذهب (المهر) ما هو إلا قيد غليظ"، يكبل حرية المرأة. كأنها أرادت القول أن المهر هو الثمن الذي يدفع في تلك المرأة.

يتوزع الفضاء المكاني في سرد الأحداث من المكان الأكبر إلى المكان الأصغر. يتمثل المكان الأكبر في القدس بكل تجلياتها الجمالية والمكانية، ومنها يتفرع حي واد الجوز مكان ميلاد الساردة ونشأتها، ومنه إلى شوارع الحي وساحاته ومدرسته، ثم تنتقل منه إلى بيت الزوجية، وتخرج من القدس إلى باريس لتعيش جماليات المكان في الشوارع والمقاهي وشقتها والحدائق. وتتراوح هذه الأمكنة بين المكان المفتوح والمكان المغلق وفيهما تتشكل حياة الساردة ورحلتها.

ويتجلى وصف المكان عند الساردة بما يؤكد مصداقية ما ترويه من أحداث، فهي ترسم صورة بصرية تجعل إدراك المكان بواسطة اللغة ممكناً، وجاعلة من الوصف أداة لتصوير المكان وبيان جزئياته وأبعاده. نقرأ ما تصف به القدس أثناء تجوالها لشراء لوازم العرس مما يعمق انتمائها وارتباطها بالمكان: "رحت أتأمل المكان وكيف جمع ما فيه بانسجام بديع، من ماضيه العريق إلى حاضره الحزين، شعرت بعبق التاريخ يفوح من كل مكان، اجتاحتني نشوة المعرفة لكل ما هو حقيقي وأصيل يختبئ بين زوايا المدينة، فكل حجر فيها يسرد حكاية الزمان وأصالة الموقع والمقام".

وحين تصف بيت الزوجية تساهم دلالات اللغة في التعبير عن معاناتها في المكان بعد ما لاقته من زوجها عمر وتسلطه عليها، ومعاملة حماتها لها من ذل واهانة. إن ضعف الإنسان أمام الواقع يجعله يستسلم دون إرادة منه، إذا لم يكن لديه القدرة على التمرد تقول: "إنه الضعف، أجل ذلك الضعف والهشاشة التي تجعلنا نتحمل ونصبر ونتقبل الظلم ونتعود عليه"، وهذا الضعف حول حياتها إلى جحيم، وأمام هذا الواقع المرير فضلت العيش على هامش الحياة في بيت الزوجية، فلم تعد تهتم بشيء سوى تربية طفلتها، وأن تكون قدوة لها.

ولكن نظرتها للمكان تتغير عند وصولها لباريس بعد أن حصلت على حريتها بالطلاق من "عمر"، وقد ألقت عن كاهلها كل الذكريات الكئيبة، وانطلقت نحو الحياة الجديدة في باريس والتي رغم بردها إلا أنها شعرت بالدفء الداخلي الذي فقدته بين أهلها وأبناء جلدتها. باريس عالم يموج بالحركة والحياة فقد دهشت من جمالها وتعدد ثقافاتها فأحبتها، تقول: "شعرت بها مدينة للنور، فهي تحرص على وجود الحياة لساكنيها ومواطنيها، مدينة مبتكرة وجريئة، نابضة بالقلوب الخافقة على أنغام الحب".

إن الصفات التي أسقطها الساردة على المكان، تؤكد لنا مدى استثمارها لتلك الصفات لتجلية دلالات معينة تغذي نصها الروائي، وتمثل منعطفات مشعة في عالم النص، تكشف من خلالها عن مفهوم حرية الإنسان ودور المكان في بلورة هذه الحرية.

الشخصيات والساردة المهيمنة:

تعد الشخصية من أبرز المكونات الرئيسية التي يقوم عليها العمل السردي والعامل الذي يؤهل الرواية إلى النجاح والتميز والخلود. طفحت هذه الرواية بالعديد من الشخصيات التي كانت مساندة لبطلة السرد (حنان)، وهي: الأم، الأب، غادة/الأخت الصغرى، هبة/الأخت الكبرى، ماري/جارتها وصديقتها، رحاب/زوجة أخيها، سمية/إبنة الجارة أم عدنان، أم إبراهيم/أم الشهيد خالد، عمر/زوج حنان، أم عمر/حماة حنان، شروق/ابنة حنان، أم عارف/جارتها، أسماء/ابنة أم عارف، تغريد/جارتها وابنها عصام، أصدقاء العمل، ماتيلدا/صديقتها في باريس، آنا/عجوز باريس، نادر شعبان/زوج حنان في باريس.

وقد تميزت هذه الرواية بغياب التمايز بين الشخصيات، بمعنى وجود شخصيات رئيسية وثانوية، بل ثمة شخصية محورية تدور حول الشخصيات والأحداث، وهي التي تعبر وفق رؤيتها عنهم، كما تعبر عن ذاتها، لهذا تروحت نظرة الساردة البطلة إلى ذاتها وإلى الآخرين بما يشكل رؤيتها للعالم.

الأنا الساردة .. والذات:

تتبلور رؤية الذات إلى ذاتها من خلال نظرة الآخرين إليها، أو من خلال نظرتها هي إلى نفسها، حيث أن ادراك الذات لنفسها ومدى رضاها عنها، ونظرة الآخرين لها تعد من الدوافع الأساسية لأفعالها. حيث تبدأ بتقديم الثقافة التي تربت عليها من الموسيقى الأجنبية والعربية إلى الإذاعة البريطانية BBC حيث كانت تستمع وتتابع برامجها الثقافية والتفاعلية التي تناقش قضايا المنطقة والعالم، فأثرت على مستوى ثقافتها، إلا أن المكتبة بسطوة كتبها كانت متعتها الأهم، والطريق الذي سلكته لاكتساب المعرفة، لذا كانت تقتصد من مصروفها لشراء الكتب الثقافية والادبية وبعض المجلات.  

وقد بالغت الذات الساردة "حنان" في وصف نفسها لكي تثبت حضورها ووجودها أمام الآخرين الذين يحاولون التقليل من قيمتها، فقدمت صفاتها الجسدية أمام الحاسدين لها وخاصة أختها غادة تقول: "كنت يافعة حسناء، بملامح ناعمة متسقة، وشعر ناعم مسترسل طويل، صاحبة نفس نقية وروح صافية، عفوية مرحة صاحبة نكتة محببة، ولطالما شد هدوئي من ناحية وقوامي الأهيف الممشوق، ووجهي المستدير الممتلئ نضارة من ناحية أخرى انتباه سيدات الحي".

بعد انتهاء المرحلة الثانوية كان لديها الرغبة في استكمال دراستها الجامعية، ولكن أحداث الانتفاضة وفعاليتها منعتها من التسجيل، فجلست في البيت تواجه حالات أختها "غادة" المريضة بالغرور والحسد، ومواجهة الفتنة التي تزرعها بينها وبين والدتها. ودون سابق معرفة جاءها العريس "عمر" مع أهله خاطباً على الطريقة التقليدية التي ترفضها "كيف لي أن أتزوج من رجل لا أعرفه، ولا تربطني به أية عاطفة"، وترك لها والدها حرية إبداء رأيها في العريس بعد أن تجلس معه، من النظرة الأولى شعرت بالنفور تجاهه فلم تعجبها ملامحه، ولكنها خضعت لضغوطات أمها وتزوجته، وتصف نفسها ليلة العرس بما يتناقض مع شخصية "عمر" الذي لبس بدلة تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، "فتجهزت حتى غدوت مسرة للعيون ومبعث اعجاب لكل من يراني، كأني إحدى حوريات الجنة، شابة في العشرين ممشوقة القوام كالبدر بفستانها الأبيض، وشعرها المنسدل خلف طرحة بيضاء، تدلت على وجهها فلم تزده إلا جمالاً وبهاء". فقد خطفت الأبصار وكان الكل معجب بها.

تعبر الساردة عن ذاتها بكل ثقة من سلوكها وتصرفاتها، حتى أشعرت القارئ أن روايتها قائمة على طرف يخطئ والطرف الأخر وهو المرأة لا تخطئ. لقد خلقت الكاتبة من شخصية "حنان" بما يمثل الملاك أمام الشيطان، تحمل كل أنواع الفضيلة والأخلاق والجمال. فأين البعد الإنساني في هذه الشخصية، فالإنسان سواء امرأة أو رجل يخطئ ويصيب، والمرأة ليست كاملة في كل أبعادها الإنسانية، فلم نلمس خطأ واحداً ارتكبته حنان في حق "عمر" زوجها أو في حق أية شخصية من شخصيات روايتها، بل قدمت "عمر" بصورة تنفر القارئ منه، وكان "نادر" زوجها الثاني الذي أحبته مخادعاً وكاذباً. مما يضعف العمل الأدبي ويجعله ذو نظرة أحادية الجانب أو الرؤية الواحدة في ظل غياب الشخصيات الأخرى وهيمنة الساردة على السرد.

الأنا الساردة .. والآخرون:

تنفتح ذاكرة الساردة حنان على مخزون هائل من الذكريات عن الشخوص الذين مروا في حياتها وكان ثمة ارتباط مباشر معهم، فنجد: الأب، الأم، غادة، ماري، عمر، ونادر. وتعتبر العائلة هي سندها وبها تشعر أنها تقف على أرض صلبة وسماء تظللها، وكان (الأب) بالنسبة لها السند الحقيقي في الحياة، والمناصر لها في كل المواقف، فهذا الأب في رأيها "كان يغدق علينا حباً وحناناً، يشعرنا بتفردنا وتميزنا، كان عاقلاً متواضعاً محبوباً، حسن السمعة". وكان يجمعهم وهم صغاراً ويقرأ عليهم القصص، مما حببها في القراءة والثقافة لاحقاً. وبعد أن ضاقت الحياة المعيشية عليها في بيت زوجها وقف إلى جانبهما وساندهما بالمال. كما وقف إلى جانبهاً مدافعاً عنها أمام اعتراض والدتها على طلاقها، فلم يقبل ما حدث لها من ضرب واهانة، وعاتبها أنها أخفت عنه كل ما كان يحدث معها "كان عليك نبذ تلك الحياة التي تستباح فيها كرامتك، ورفض الضعف والاهانة، فذلك خير من استسلام لا يزيد صاحبة إلا مهانة". ورفع قضية طلاقها في المحكمة.

أما (الأم) رغم حبها لها وشعورها بحنيتها وعطفها، إلا أنها كانت على النقيض من أفكارها الموروثة، وتنتقد أمها في تفكيرها التقليدي الذي ورثته عن أمها قبل خمسين سنة رغم أنها "لم تكن جاهلة لكنها كانت صنيعة مجتمع لا يرحم، تردد الأمثال الشعبية ليل نهار، وتريدنا أن نعيشها كقوانين ملزمة لا نحيد عنها"، فأصبحت تلك الأفكار قيم راسخة دون تطور أو تجديد، لهذا تصف أمها بأن "كل شيء تطور من حولنا إلا تفكير أمي"، فهي مثل كل الأمهات يتوارثن القيم عن الجدات جيلاً بعد جيل": عدم لعب الفتاة مع الصبيان في ساحة الحارة، عدم أكل الفتاة خارج البيت فهذا عيب في العرف الاجتماعي، والفتاة يجب أن تزوج في سن صغيرة فقد حدد المجتمع سن الزواج وإذا تخطته الفتاة تصبح عانس، والطلاق عار يلاحق سمعة المرأة، وعلى المرأة أن تقبل بنصيبها ولا تتمرد على زوجها. وكذلك التعليمات التي بثتها لابنتها قبل أن تجلس مع عريسها "لا ترفعي صوتك، كلما كان صوتك رقيقاً هادئاً كنت أقرب وأجمل، ابتسمي لأية طرفة تسردها أم العريس مهما كانت سخيفة، اجلسي باعتدال وارفعي رأسك، انظري إلى الأرض باستحياء، وإن سئلت عن أي شيء فيجب أن تكون إجابتك مختصرة ومثالية، عامة لا خاصة".

 كما كانت ترفض أمثالها الشعبية التي ترددها باستمرار والمعبرة عن سلوك الفتاة في المجتمع، فكلام الناس وسمعة العائلة أهم لديها من سعادة ابنتها، فعندما عبرت لها "حنان" عن عدم رغبتها في الزواج من عمر، رفضت موقفها واعتبرتها متمردة، وأن فسخ الخطوبة يعد فضيحة أمام الناس، "ألا ترين في ذلك تقليلاً لقدرنا وقيمتنا، آه يا ويلنا، سيلوكون سيرتك وسيرتنا بالحق والباطل". وبعد الزواج والمعاناة التي عاشتها في بيت الزوجية من زوجها وأمه، لم تجد "حنان" من أمها دفاعاً عنها أو سنداً لها، إنما تدعوها إلى الاستسلام والصبر على ما هي عليه، وأن لا تفكر بالطلاق فهو عار يلاحق سمعة المرأة، بل عليها اصلاح الأمر مع زوجها، فهذا قدرك ونصيبك، وعليها أن تعيش في ظل الحيطة وانجاب الطفل لزوجها.

وكانت الأم في كل الوقائع التي تأتي فيها "حنان" باكية وشاكية من حياتها ومعاناتها، كانت توصيها بأن لا تقول لوالدها، حتى لا تشغل ذهنه بأمور ليست ذات أهمية كبيرة.

إن ما تطرحه الأم هو جزء من الواقع الاجتماعي في البيئات المحافظة التي تعلي من قيمة الذكورية وترسيخ سيطرة الرجل، كأنها تعيد سيرة ذاتها التي ورثتها من أمها، وتحاول أن تزرعها في بناتها دون أن تدرك متغيرات العصر، بل تبقى أداتها الأمثال الشعبية التي تعلمتها من أمها سلاحاً تقاوم به حالات تمرد ابنتها على الواقع وعاداته وتقاليده. كما تزرع فيها الخوف من الناس، فالسمعة وكلام الناس هي ثيمة العلاقات الاجتماعية والمكانة الاجتماعية، والكل مرهون بهذه الثيمة، التي ترسخت كعرف اجتماعي دون سند مكتوب بينهم. وتجد الكل متساوق مع هذه الأفكار، فهذه (رحاب) زوجة أخيها رغم تفهمها لموقفها إلا أنها ملتزمة بالقواعد الاجتماعية.

ورغم شعورها بالانسجام داخل الأسرة، إلا أن ثمة من كان ينغص عليها هذا الانسجام وهي أختها (غادة) التي تصغرها بعام، وتصفها بأنها تعاني من عقدة عدم الجمال، فهي بدينة وملامح وجهها صارمة غير متناسقة، إلا أنها ذكية ومتفوقة في دراستها، ولكنها فاشلة في علاقاتها الاجتماعية لعدوانيتها وغرورها وحبها للسيطرة، وعنيفة في حديثها وتصرفاتها، وهذا السلوك انعكس على علاقتها مع أختها "حنان"، فأصبحت العلاقة بينهما قائمة على الحسد والغيرة فخلقت أزمة حب بينهما، وترسم صورة سلبية للعلاقة بين أختين في بيت واحد. في المقابل نجد علاقتها مع صديقتها (ماري) أقوى من علاقتها مع أختها، وماري فتاة مسيحية تقيم بجوارهم ومنذ طفولتهن يلعبن مع بعضهن، وتصف من خلالها العلاقات الحميمية بين المسلمين والمسيحيين في الحي الواحد. وماري فتاة "تحمل فكراً واعياً، وعقلاً مستنيراً وقلباً من الحرير الأبيض"، كانت حنان تستشيرها في كل تفاصيل حياتها، فهي كانت لها بمثابة الحديث بصوت عالي لكي تخرج كل مكبوتاتها. تتزوج ماري من شاب تعرفت عليه، وتنتقل معه للعيش في فرنسا. وعندما تقرر حنان الانتقال للعيش في فرنسا تساندها ماري وزوجها في تسهيل كل الاجراءات، واستقبالها في بيتهم حتى تمكنت من ايجاد بيت مستقل.

كان حلم "حنان" أن تتزوج الشخص الذي يختاره قلبها، ولكنها لم تحقق حلمها، وكان (عمر) هو العريس الذي تقدم إليها، وتزوجته وفق الطريقة التقليدية في المجتمع العربي، وتشكلت مشاعرها السلبية تجاه "عمر" منذ فترة الخطوبة، إلا أنها لم تملك الشجاعة الكافية لمواجهة الأهل بما تحمله نفسها من مشاعر وأحاسيس تجاه "عمر"، فاستسلمت للواقع على مضض. وبعد انتقالها إلى بيت الزوجية تكتشف شخصية "عمر" الحقيقية، فهي شخصية ذكورية جاهلة بكل المشاعر الإنسانية والعاطفية، يستلذ بالحديث عن الناس، ولا يفهم من العلاقة الزوجية إلا الحق الشرعي "فجأة، تحول ذلك الرجل الجامد إلى بربري همجي عنيف، لا يتفهم ولا يراعي حياتي، يتقرب مني بخشونة وأنفاس لهاثه تلفحني، راح يمزق قميص النوم ويتصرف بوحشية بالغة".

تحملت كل تصرفاته السيئة على مدار سنوات من أجل ابنتها (شروق) التي لم تنجب غيرها، وهذا كان سبباً في حدة العلاقة السلبية مع زوجها بتحريض أمه أنها لا تنجب الصبيان. وبعد أن ترك عمر عمله وساءت أحوالهم المعيشية، وطلبت منه أن تكمل تعليمها كي تعمل وتساعده، إلا أنه رفض طلبها، لأن تعليم المرأة خروج عن سيطرة الرجل، ولكن حين عرضت عليه العمل مدرسة في روضة أطفال وافق، لأنها سوف تتحمل مسؤولية مصروف البيت. ورغم كل ما حاولت أن تفعله لإبقاء العلاقة حسنة بينهم، إلا أن عقدة النقص لديه كانت تدفعه إلى فرض سيطرته وتدمير كل محاولاتها.

تقبلت حنان الزواج كمصيبة واقعة، وقررت العيش لابنتها (شروق) التي أعادت لها نبض الحياة، ولكنها أصبحت تخاف عليها من مستقبل الأيام أن يصبح مصيرها كوالدتها، لهذا حاولت أن ترسخ فيها القوة لمواجهة الحياة والأزمات. وكبرت "شروق" وسافرت للدراسة في ولاية ميتشغان الامريكية، ثم تزوجت دون أدنى رعاية أو مسؤولية من والدها الذي تخلى عنها منذ طلاق أمها.

وتصف ملامح عمر حين رأته أول مرة بأنه "شاب أسمر اللون طويل القامة، بجبهة عريضة وعيون واسعة مستديرة، ملامح صارمة، شعره أجعد يتخلله بعض الشعيرات البيضاء في وسط الرأس، أنفه عريض، شفتاه رقيقتان، أذناه صغيرتان تلتصقان برأسه بشكل ملحوظ، وفي صوته خشونة واضحة". فلم يكن هذا فارس أحلامها، ولكنها أجبرت عليه برضاها. وبعد أن تزوجته تجد فيه شخصية غريبة الأطوار، حاد المزاج، يدخن بشراهة، سريع الاستفزاز والغضب، متناقض مع ذاته إذ يظهر أمام الناس بصورة الملاك، تلك الصورة التي تختلف اختلافاً جوهرياً عن حقيقته، ومستسلم وضعيف أمام شخصية أمه المتسلطة التي جعلت منه شخصية مهزوزة ومسلوبة الإرادة بما تمليه عليه من أفكار وتصرفات، وتصف هذه الحماة (أم عمر) بأنها "امرأة مخادعة، متسلطة خبيثة، قاسية القلب متحجرة المشاعر، لا تحفظ وعداً ولا عهداً، ولا تذكر صنيعاً طيباً لأحد". في هذه الأجواء تربى "عمر" ونشأ على الاصغاء لصوت أمه، فتملكت منه قسوة القلب وانعدام العاطفة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

قدمت الساردة صورة في غاية القتامة والسوداوية والسلبية لشخصية "عمر"، جعلت القارئ ينفر منها، ويتضامن مع حنان في كل مواقفها تجاه تسلط الرجل والمجتمع الذكوري. وهنا قمة الابداع أنها استطاعت التأثير على وعي القارئ واصطفافه إلى جانبها. فالمرأة/ حنان مثل كل امرأة تسعى للبحث عمن ترتبط به إلى التوافق الروحي والنفسي، وليس الاهتمام بالمكانة الاجتماعية بقدر اهتمامها بالقواسم المشتركة التي يمكن أن تجمعها مع زوجها المستقبلي.

ليس ثمة صراع بين الرجل والمرأة، بل ثمة تجسيد لعلاقة الملكية، من صاحب القرار، الرجل أم المرأة؟، في المجتمعات المتطورة القرار يكون مشتركاً وقائماً على التوافق وتبادل الأفكار، أما في المجتمع الشرقي الرجل هو صاحب القرار والمرأة تابعة له، وليس من حقها أن تقرر بعيداً عنه على قاعدة "المرأة ناقصة عقل ودين" لذلك عليها أن تخضع وتستسلم لمشيئة الرجل.

وحين فقدت حنان هذه القواسم المشتركة، رغم محاولاتها العديدة للتغيير من سلوكيات "عمر"، إلا أن ثمة قوة كانت تواجهها أكبر من أمنياتها وأحلامها وهي سيطرة الحماة على ابنها الذي لا يخرج عن طوعها ومستسلم لإرادتها، فلم يقبل التغيير. وهنا أصبحت الحياة بينهما مستحيلة التواصل خاصة بعد أن اعتدى عليها بالضرب الشديد، فغدت أيامها ساكنة عقيمة تكسوها الوحشة والخواء، وشعور بأثر القيم الراسخة على نفسيتها وحياتها، تقول: "فقد دمرتني مفاهيم والدتي المترسخة عن الزواج في مجتمعنا، وهذه هي النتيجة الحتمية لمفاهيم الرجولة الخاطئة المجحفة بحق الأنثى والأنوثة".

قررت حنان الانفصال والطلاق من ""عمر" ومواجهة الأسرة والمجتمع. وعاشت في بيت مستقل، وأنهت تعليمها الجامعي وعملت في مؤسسة اجتماعية كمرشدة نفسية. ولكنها لم تسلم من زوجها "عمر" الذي شوه سمعتها ونغص حياتها، وأثر على عملها، واصطفاف أختها "غادة" إلى جانب "عمر" وعائلته، فما كان منها إلا أن قررت الابتعاد بالسفر إلى فرنسا، وتساعدها ماري في اجراءات السفر.

وبعد وصولها باريس واستقرارها في شقة مستقلة، تبحث عن عمل حتى تجده في إحدى المؤسسات الصحفية، والتي من خلالها تتعرف على (نادر شعبان) رجل الأعمال الذي التقته أثناء تغطيتها لمؤتمر رجال الأعمال العرب بفرنسا، وتنشأ بينهما علاقة تنتهي بالزواج، بعد أن وجدت فيه "إنسان ذكي مجتهد في عمله، رجل مثقف مؤدب حلو القول واللسان، يملك ناصية الحديث ويأسر أذن المستمع". وعاشت أياماً سعيدة، لم تدم طويلاً. لقد خدعها بالكلام المعسول، وهي المحرومة نفسياً، فالحرمان العاطفي يدفع الإنسان إلى الانجرار وراء عواطفه أكثر من التفكير بعقله. فقد رسم نادر لها حياة مبنية على الكذب والخداع، بعد أن أوهمها أنه رجل أعمال ناجح ويمتلك عدة شركات ومؤسسات، وقد عملت صحفية مسؤولة في موقع صحيفته الالكتروني، لتكتشف أنه مقامر وكسب أمواله من القمار، ثم خسرها في القمار، ومطارد لرجال عصابة تقتله في النهاية ويسدل الستار على حياة عاشتها بالكذب والخداع، ولكنها جميلة فما زال حب نادر في قلبها، وتصاب بصدمة شديدة، تدخل على أثرها إلى المستشفى بمساعدة ماري، وقد انتابها شعور بالموت والوحدة والغربة، وتحاول أن تراجع نفسها لما أصابها للوصول إلى قرار، وكان القرار العودة إلى الوطن حصن الأمان بالنسبة لها.

الأنا الساردة .. ورؤية العالم:

إن العمل الأدبي، هو رؤيا فردية للعالم، وقد تختلف هذه الرؤيا الفردية، مع رؤيا المجموعة الاجتماعية أو تتفق معها، وتبقى والرواية بهذا المعنى هي رؤيا كاتبها للعالم، والمبدع عادة ما يصدر عن رؤيا متماسكة للعالم تنعكس بصورة مباشرة في نتاجه الأدبي.

في هذه الرواية منذ صورة الغلاف نلاحظ ما تنشده الكاتبة من روايتها، فالقفص يعبر عن السجن/ القيد، والباب المفتوح يعبر عن الحرية، والمرأة بالملابس المتحررة دلالة على الانطلاق نحو الفضاء الواسع أمامها. فنحن أمام الذات المقموعة والمسكونة بالبحث عن هويتها وسط عالم يحاول أن يلغي تلك الهوية لصالح رؤى تتناقض مع تطورات المجتمع، وعلى اعتبار أن الذات كينونة حوارية في النص الروائي فهي تستدعي الآخر القائم معها في نفس المكان لكي تثبت ذاتها في مقابله من خلال التمايز والخروج عن السائد بأفكار ورؤى مبتكرة.

أن الرؤية التي انطلقت منها الساردة الكاتبة هي انتقاد القيم والأعراف السائدة في المجتمع التي تضطهد المرأة وتحد من قيمتها الاجتماعية، ولا تنتقد المجتمع لمجرد الانتقاد، وإنما لإصلاح الخلل القائم على القيم الاجتماعية البالية لكي تتوازن مع تطورات العصر، فكانت تقدم أفكارها ورؤاها في العديد من المواقف لصالح المرأة. لهذا تلبست الساردة حنان شخصية الكاتبة التي اعتنت بها دون الشخصيات الأخرى لأنها تمثل وجهة نظرها في الحياة، ومعبرة عن أفكارها ورؤاها التي تسعى إلى بثها في المجتمع.

ورغم التجربة الأولية للكاتبة في مجال الرواية، إلا أن هذه التجربة تكشف عن امتلاك الكاتبة الموهبة السردية والثقافة المجتمعية التي صاغت من خلالها رواية واقعية رصدت الأفكار والرؤى الراسخة في المجتمع، وتمكنت من توصيل رؤيتها للقارئ بكل يسر وسهولة بجاذبيتها اللغوية وعنصري التشويق وحب الاستطلاع، وجعلته على اطلاع كامل بكل عادات وتقاليد المجتمع تجاه المرأة في محاولة لكسب صوته من أجل التغيير، كما تمتلك القدرة اللغوية في تشكيل جماليات السرد، وفي صياغة الحبكات والرؤى المتعددة والمتباينة في المواقف والشخصيات، مثل كل عمل أدبي إبداعي، يحتضن التناقضات في ذات كل امرأة. يقول جان بول سارتر في سيرته الذاتية (الكلمات): "لقد حان الوقت لكي أقول الحقيقة، أخيراً، لكن لا يمكن أن أقولها إلا في عمل تخييلي".

***

الكاتب والناقد: ناهــض زقــوت

غزة: 12/9/2023

المجموعة القصصية القصيرة جدا للقاص والصحفي حسين رشيد

"روشيرو" مجموعة قصصية قصيرة جدا، للقاص والكاتب الصحفي حسين رشيد، الصادرة عن دار شهريار البصرة / الرافدين بيروت. ضمت المجموعة قصصا قصيرة جدا، قسمت لأربع مجموعات؛ (تعال لأريك، تمعن بتلك، تحدث معك/ ثلاثيات، تخيل ذلك / مشاهد قصصية قصيرة جدا. إذ اختص كل عنوان بوحدة قصصية. وشكلت هذه القصص بمجموعها تجربة فريدة لهذا الكاتب، التي غلبت على قصصه جرأت التجريب وطرح التابوات المسكوت عنها، مثل الجنس والموت والله. من المعلوم أن القصة القصيرة جدا يمكن أن تظهر في مقطع واحد. ويمكن أن تكون جملة واحدة. كذلك يمكن لها أن تتوالى في شكل مقاطع متتابعة ومتوالية، بشرط أن تحافظ على وحدتها التجنيسية والسياقية. ويعتبر تقطيع النص السردي أو الخطاب إلى مجموعة من المقاطع الصغرى أو الكبرى عملية منهجية ناجعة للإحاطة بدلالات النص الظاهرة أو العميقة. وهي خطوة أولية ضرورية لاستخلاص البنيات الصغرى والكبرى التي تتحكم في بناء النص، والتي تعمل على تمطيطه وتوسيعه إطنابا وتكثيفا وإسهابا. وقد أولت السيموطيقيا/علم العلامات عناية كبرى لعملية التقطيع هذه، لما لها من فوائد عملية وعلمية ومعرفية، حيث تساعد السيميائي بصفة خاصة، والباحث والقارئ بصفة عامة، على تحليل وقراءة النص تحليلا علميا دقيقا، ومقاربة الخطاب تفكيكا وتركيبا، واستكشاف وحداته المعنوية، وتحصيل آثار المعنى المباشر وغير المباشر. وأن النص عبارة عن مجموعة من الكلمات والجمل والفقرات والمقاطع والمتواليات، التي تؤلف بدورها وظيفة التواصل والإبلاغ والتداول. وسنتناول ثلاث قصص في هذه المجموعة لقراءتها وتفكيكها وهذه القصص على التوالي:

1- (شقتان – ص 15) تتكون هذه القصة من مقاطع عدة: المقطع الاول أو الاستهلال، يصف لنا الحالة المزرية التي وصلت اليه حالة الشخص المعني، والسبب الذي اوصله لهذه الحال وما الذي فقده: "لم يتبق له ما يمكن العيش من أجله بعد أدمانه الخمرة ولعب القمار، فقدان عمله، وحبيبته، ثم رجولته، في إحدى المشاجرات، الأمر الذي ابقاه حبيس شقته". ويبين لنا القاص ما وصلت اليه حالة الرجل؛ "الدائنون يطرقون بابه، أخذ اثاث الشقة بالتناقص حتى خوت باستثناء فراش نومه المتهالك وكرسي مكسور". وهو بهذا الوصف يهيء القارئ لاحداث المقطع الثاني من القصة!

المقطع الثاني يصف لنا محاولاته للأنتحار وفشله في تنفيذ ذلك، بعد ان صنع أداة موته من فراشه حبلا "علقه في أعلى سقف الغرفة، ثم جاء بالكرسي، ربط الحبل حول عنقه، لكنه كلما حاول القفز عزت عليه نفسه" فيتراجع، بعدها يتذكر ما يمر به فيعيد المحاولة. حاول مرات عدة لكن دون جدوى. صورة التردد والخوف من الموت، والصور المؤلمة التي يعيشها لعدم تسديده ايجار الشقة واحتمال طرده منها بعد انتهاء مهلة مالك السكن له من جانب، وعدم قدرة هذا الشخص اليائس على الانتحار تضع القارئ في حيرة لنهاية هذا الشخص العاجز – هنا نرى قوة التحبيك الذي رسمه القاص من خلال المقطع الثاني واستنفار رغبة القارئ في معرفة ما ستؤول اليه الاحداث؟

المقطع الثالث: "حاول مرات عدة لكن دون جدوى، في المرة الأخيرة التي عزم فيها، خطفت نظره امرأة شبه عارية تتلوى بفراشها في العمارة المقابلة التي يقابل شباك غرفة نومها لشباك غرفة نومه. توقف عن التفكير بكل شيء، غير هذا المشهد... مرر يده بشكل عفوي على عضوه الذكري، استغرب الأمر حين لمس أن الحياة دبت فيه من جديد، أخرجه من زنزانته واخذ يطلقه بيده... وبحركتين او اكثر انتشى، انتشاء كبيرا حتى وصل مرحلة الذروة، وبلحظة القذف تهاوى الكرسي!". مفارقة ساخرة لكنها مؤلمة، سهلت عملية الموت بعد ان أحس ان بعض مما فقده يعود اليه، لكن هذه الفرحة او الراحة التي عاشها في لحظة سريعة كانت هي السبب في نهاية حياته!

- (حفلة – ص 23 ) "في إحدى الليالي الشتائية، وبعد أن انتهيت من كتابة نصي هذا، زارني أبي في المنام، وروى لي ما جرى وحدث في ذلك النهار الكانوني: "وهم يعدون العدّة لأستقبال جنازة شابين. وكيف كانوا يودون الاحتفاء بهما وطرد وحشة القبر عنهما وفراق ذويهما" حاول القاص هنا تشكيل فضاءات دلالية، من خلال اللعب بالفضاء الافتراضي الذي توفره اللغة، زيارة أبيه المتوفي له في المنام وحديثه عن الأموات، بهذا تم نقل القراء الى المقبرة التي يحمل لها كل واحد من القراء صورة ما ، وبهذا بدأت الاحالات التناصية التي تفتح مسارب واسعة للتأويل حول الحياة في المقبرة وكيف يعيشون الموتى.

وبلسان والده المتوفى نقل لنا كيف أنهوا استعداداتهم لاستقبال اموات جدد، اثناء ذلك كان هناك رجل غريب يحوم قرب المقبرة وكأنه ينوي شيئا: "كنا قد أنهينا استعداداتنا لاستقبال الشابين، وفجأة دخل الغريب الى المقبرة.. "الموتى جميعهم بدأوا بالصياح لتنبيه المشيعين، لم يسمع المشيعون صراخهم"عكسنا نحن الذين نعلم بكل من يأتي إلينا زائرا!

"دوى صوت هز كل أرجاء المقبرة، أجزاء متناثرة هنا وهناك من أيدٍ ورؤوس وأقدام مقطعة واصابع مبتورة، شابان أخوان امسك كل منهم الآخر بقوة حتى يحافظ عليه من هول الأنفجار، كانت يداهما ملتحمتين". حتى القبور التي تهدمت والموتى الذين تكسرت عظامهم لم تسلم من هؤلاء! القتلة "جُمعتْ الأجزاء المتناثرة إلا أجزاء ذلك الأهوج، فقد كانت نتنة، ورأسه كرأس حيوان بأسنان أمامية كبيرة، وحاجبين كبيرين شريرين وشفة متهدلة وانف كبير مدور. جمعنا اجزاءه وقمنا بحرقها إلا ان النار رفضت ان ترمى بها وقالت الأرض لا تلوموني وامتنعت ان يدفن فيها، حتى الضواري والكلاب رفضت اكلها". انهم منبوذين في حياتهم وفي موتهم.

3 -(داران – ص 101) "بعد رفضنا ان نكون معهم، ولأنهم وضعونا في خانة الطائفة الأخرى، دسوا من تحت الباب رصاصة لفت بورقة، كتب عليها: (عليكم الرحيل، وإلا فالقتل مصيركم)!.. عائلة تتعرض للتهديد في منطقتها ويطلب منها ان تترك بيتها وتذهب الى الطرف الآخر، ما الذي ستفعله العائلة غير الامتثال لهذا الطلب وباسرع وقت، فليس هناك رحمة في قلوب الذين فعلوا هذا الشيء في هذه المحلة، ومع الاضطرار للمغادرة كنا نمني النفس بعودة قريبة الى كل ما تركناه! المقطع الاول رسم صورة لما كان يجري قبل سنين في بعض محلات بغداد، وما زال الكثير من الناس يتذكرون تلك الاحداث! عمليات العزل الطائفي وكل طائفة افرغت مناطقها من الآخر.

"انتقلنا الى الحي المجاور، اذ كان بيت جدي فارغا. الايام الاولى مرت بسلام غير ان الأمور لم تستمر هكذا" الطائفة التي حُسِبنا عليها طالبونا بحمل السلاح معهم والدفاع عن الحي، ضد الجهة الأخرى، ولاننا لا نملك السلاح ولا المال الكافي لشرائه، "دسوا ورقة ورصاصة أيضا وأمرونا بالرحيل وأتهامنا بالعمالة!" الصورة التي ارادها القاص تصور ما كان يحدث للناس من قبل المتشددين! صورة تحمل الألم والخوف!

"في ذات اليوم فجروا بيتنا الأول متهمينا بنقل المعلومات الى الجهة الأخرى، وحين سمع الطرف الثاني ان بيتا فجر في الحي المجاور وهو في المعتاد يعود لأحد ابناء طائفتهم لم يتهاونوا بتفجير بيتنا الثاني لأننا كنا عملاء للجهة الأخرى وعيونا لهم مثلما جاء بالفتوى!!".

أكثر قصص المجموعة حملت في نهاياتها سخرية مريرة مثل هذه النهاية التي تصور المواطن العراقي وهو يتلقى الضربات من كل الأطراف فجميعهم يدعون دفاعهم عن الناس لكنهم في الحقيقة يسعون لتدمير العراق وتفتيت وحدة الشعب ليتسنى لهم الابقاء على مغانمهم واستمرار مصالحهم.

في فهرست المجموعة، التي قسمت قصصها الى اربع مجاميع، كل مجموعة تألفت من عدد غير معين من القصص القصيرة جدا، في واحدة من عناوين هذه المجاميع اضيف لاسم المجموعة صفة (ثلاثيات) فما الذي اراد ان يقدمه لنا القاص حسين رشيد في هذه الثلاثيات؟ وما هذا النوع من القصص؟ في نسق القصة القصيرة جدا هناك نوعا آخر من الكتابة السردية، تسمى القصة الشذرية تتسم؛ بالتقطيع، والتجزيء، والتشذير، واستعمال الفواصل والمقاطع والفقرات البصرية المركزة، والارتكان إلى الاختزال وتكثيف الوحدات القصصية بشكل من الأشكال. تعتمد الكتابة الشذرية على تقطيع النص الكلي إلى وحدات أو فقرات أو مقاطع أو قصيصات مستقلة بفواصل بصرية وفضائية، وهي عبارة عن نص متفرع إلى نصوص متعددة، قد تصل العلاقة بينها إلى حدّ التناقض! فالشذرات لها استقلالية تامة على مستوى الكتابة والتموضع البصري. كذلك تتوافر القصص الشذرية على معظم الخصائص التي تمتاز بها القصة القصيرة جدا، مثل: الحكائية، والحجم القصصي القصير جدا، وتنويع الفضاء المعماري، وانتقاء الأوصاف، والتوسل بلغة التكثيف والإضمار والحذف، وتوظيف الجمل الفعلية، واستخدام التراكيب الحدثية الديناميكية. من هذه القصص الثلاثية سنتكلم عن إحداها:

"تك، تك، تك

تك

تك، تك، تك، أميال الساعة المنضدية تلاحق بعضها البعض وهي تقف على الرقم سبعة، ما يعني الاستيقاظ. في المطبخ كانت تك، تك، تك، أخرى ترددها فيروز وهي تنادي على أم سليمان وزوجها الذي كان يجمع الخوخ والرمان، الزوجة تنادي على زوجها طالبة منه أن يأتي بالصمون والبيض أو القيمر من المتجر القريب!

تك أولى تعيد التنبيه، وتك ثانية تطلقها فيروز لكن (تك) ثالثة كانت تنتظر الرجل الذي أندمج مع الأغنية أمام الباب وما ان فتحه انتهت التك الأولى، صمتت (التك) الثانية بعد ان دوت التك الثالثة."

"تك ، تك

ظلت أغاني فيروز تدور معه وخاصة (تك) ، (تك، تك) يا أم سليمان حتى أصبحت نشيده الخاص، إذ رافقته مراحله الدراسية حتى تخرج من الجامعة إلا أن فرحة التخرج مسروقة، فالحرب الشرقية دائرة منذ سنين، ولابد من تأدية الخدمة الالزامية التي تمتد شهورا واعواما، الشهور الاولى التي قضاها في التدريب على السلاح. ومع اول معركة اندلعت شرق البصرة، زج مع جمع من الجنود في الصفوف الاولى، منهم من قضى نحبه، ومنهم من فقد، ومنهم من أسر. لكنه مع جندي آخر أضلا الطريق فعاد يردد نشيده الفيروزي ومع خطواتهم الحذرة، سمع (تك، تك) تحت قدم زميله وقضى نحبه و(تك) أخرى سرقت ساقه ليعود بعد سنين الى أمه متكئاً على عكاز موجوع بعدما وقع اسيراً."

"تك، تك، تك

وسط كومة من الساعات مختلفة الاحجام والأنواع والماركات، تمر ساعات يومه مع تكتكة عقارب الساعات ورقاصات البندولات، تدور حول ارقام وجهات تختلف الأوقات في مدنها، نال شهرة واسعة لمهارته ودقته في تصليح الساعات، كما اشتهر في انتقاء الساعات الانتيكة التي لم تعد تسعها جدران المحل.

كان يفتتح يومه بفيروز، وذات وقت جاءه رجل يحمل كيساً يحوي ساعة جدارية ثمينة، كانت خلفية عقاربها صورة الرئيس. وقبل ان يتحدث مع الزبون نادى عليه جاره، ليغلق صوت المذياع ويستعيض عنه بدعاء او قراءة مباركة من القرآن مثلما اسماها، لكنه تجاهل الأمر وعاد الى زبونه الذي طلب منه رفع صورة الرئيس وإبدالها بصورة أخرى كان يحملها معه هذا بعد ان اكد ما قاله جاره، الأمر الذي دفعه الى تجاهله في بادئ الأمر ومن ثم رفضه؟

ومر يوم وآخر وآخر، وذات صباح وهو يهم بفتح محله وجد كيسا عُلقت عليه ورقة بيضاء دون في أعلاها "ارجو تصليح الساعة" وبعد ان فتح باب المحل وهو يتفحص الساعة الثقيلة بعض الشيء، كان يسمع تكتكة أخرى بداخلها لكن عقاربها والرقاص متوقفان، الأمر الذي دعاه الى كشف السبب، إلا أنه لم يتمكن، فعقارب أخرى ورقاص كانا يتسابقان للتطابق فوق بعضهما".

أسم الثلاثية (تك تك تك) تتفرع منها ثلاث مقاطع او قصيصات/ شذرات. اسم الاولى (تك) والثانية (تك، تك) والثالثة (تك، تك، تك) وبالرغم من أن الثلاث تتسم بالتفكك والانفصال على مستوى الظاهر، لكنها تتميز، على مستوى العمق البنيوي، بالوحدة العضوية والموضوعية، والاتساق والانسجام والترابط والتلاحم الموضوعاتي والرؤيوي والمقصدي. وستجد في هذه الشذرات الثلاث المشتركات التالية: تكتكات الساعة وأغنية فيروز، فهذه التكتكة كلنا نعرفها لساعة البيت الكبيرة التي تعني للكثيرين وقت الاستيقاظ الصباحي للذهاب الى العمل او الدراسة بداية ليوم جديد، وهي التي تتعلق معها عيون الشخص الذي ينتظر موعدا مع الحبيب فيبات يعد تكتكتها بولهٍ كبير. لكن هناك تكتكة من نوع آخر هي على النقيض من كل ذلك: أنه الموقت الذي يستعمله الارهابيون في تفجيراتهم ليحصدوا ارواح البشر تكتكة تحمل الموت والدمار! والمصائب التي ابتلى بها الشعب العراقي في حروب النظام السابق العبثية التي دفع ثمنها الانسان موتاَ في ساحات القتال او اضاعة سنين عمره في الأسر او بتر احد اعضاءه في الألغام التي كانت تزرع في الحرب.

"روشيرو" حملها كاتبها حسين رشيد الكثير من الصور القاتمة التي رأيناها في ماضينا القريب ونراها الآن وسنراها في المستقبل لفترات طويلة، الكراهية التي بتنا نحملها للآخرين وباتوا هم يحملونها لنا ليس من السهل ان تتغير وتمسي بعيدة عنا، فنقول عنها "كانت" فنحن نميناها وننميها بثقافتنا التي جبلنا عليها ثقافة عدم قبول الآخر.

***

يوسف علوان

نتوقف طويلاً عند رواية حميد قاسم (ظهر السمكة)، على الرغم من قلة عدد صفحاتها،(119 صفحة)، لا نقول عنها قصيرة، انما رشيقة، بامكان القارئ أن يكمل قراءتها خلال بضع ساعات، منشداً لأحداثها، ولغتها، يتأملها بدهشة وتساؤل: كيف تكون الحرب عاملاً في الابداع، الحرب فعل تدمير، تدمير كل شيء، الحياة، والذاكرة، كل الحروب، التي مرّت على البشرية، أو شاركت فيها، هي ضد الانسان، والحرب اعتداء، مهما قدّمت له من مبررات.

من هذا المعنى للحرب، تبرز ضرورة التمييز بين من يصنع الحرب، أو بين من يتخذ من الحروب سبيلاً لقتل الآخر عندما لا تسعفه السبل الاخرى الأقل ضرواة.

حميد قاسم الشاعر، يقف حائراً أمام هذه التساؤلات، في لحظة شروع لكتابة نص، من أي جنس؟ انه لأمر يفوق التصور أن يكون الكاتب شاهداً على حرب يخوضها مكرهاً، مع الآلاف الذين ساقوهم لمحرقة ليست ذات معنى، الكاتب يريد أن يبوح بحكايات من أحترقوا في المواضع، أن يختزل العذاب، وترقب الموت، بلغة مكثفة، موحية، معبرة، صادقة" ماذا أفعل؟ أنا مصمم على كتابة رواية، رواية مثيرة، ليس لي سوى أن اكتبها بالطريقة الوحيدة التي أعرفها"،

بعد عقود من الزمن يستعيد حميد المشهد، منذ ان راح مسرعاً لبيت عمته في مدينة الثورة، وقد جيء بابنها (علي) ملفوفاً بالعلم العراقي، شهيداً في معارك شرق البصرة  عام 1982. كان حميد مندهشاً لتماسك عمته ورباطة جأشها، حين وضعت رأسه في حجرها، حدّقت في عينيه المغمضتين، سحبت رأسه صوب صدرها بهدوء مميت، أخرجت بيدها الاخرى ثديها الضامر الأعجف، واسندت رأسه الى صدرها، مدّت اصبعها الوسطى والسبابة الى فمه لتفتح شفتيه قليلا، انحنت على وليدها القتيل، ودسّت حلمة ثديها بين شفتيه المنفرجتين لترضعه.

هذه الصورة وحدها قادرة ان تنقلك الى الايقاع المأساوي لواقع الحدث، بابداع نمط سردي، بسيط غير معقد، في تعدد المشاهد، والانتقال من مكان الى آخر، لا يفقد فيه السياق السردي  تواليه، ولا ينغلق، في محاولة لبناء فضاء قائم على تكرار المشهد، ينعطف، يستدير، كما الرؤية، أو كما الرصاصة، وقذيفة المدفع التي تستهدف الجميع تقتلهم.3694 حميد قاسم

لحظة الكتابة تبدأ منذ ان عثر الكاتب مصادفة، على دفتر يوميات صديقه (سليم غانم سلطان)، ورفيقه في الراقم 684، اليوميات كانت منقذه الوحيد، لتحقيق حلمه القديم في نبش صندوق صديقه المهمل، وهو يتساءل: أترون انها لعبة ماكرة، لكنها لعبة ذكية لجأ اليها الكاتب، من دون ادعاء ان اوراق سليم، هي مذكراته، يمكن ان يقدمها كنص قابل للقراءة حسبما يعتقد، يقولها بتواضع، لانه الناجي الوحيد بين افراد فصيله من الجنود، لم يبق منهم سوى هذه الاوراق، بينما نجد في هذا النص بوصفه رواية، اللغة الشعرية المجنحة تعبيرها الأرقى، وشكلها الاسمى، يزدهر هذا النص الشعري على حساب السردي في أكثر من موضع، الجنود على مذبح الموت، ما من ملجأ يلجأون اليه تحاصرهم سيول الانهار، وهطول الامطار المتواصل، والريح العاصفة، ليس امامهم سوى الصعود الى قمة جبل يشغلها الخصم في الجبهات الامامية، يبدو مظهره من بعيد على شكل ظهر سمكة. في هذه اللحظة نفسها كانت القذائف تمشط الفضاء وسط سيول الامطار المنهمرة، واصوات الرعد التي تعقب البروق المتواصلة، يخرج سليم من الملجأ قبيل الفجر، يمم وجهه صوب بغداد، وكل المدن التي تمتد على خارطة البلاد، من هذه النقطة معلقاً بين المطر السماوي والطوفان الارضي:

" اواه يا بغداد المدينة التي تشبه أجمل النساء، نعم المدن نساء، نساء طيبات، أمهات في العادة، مع قليل من الاستثناءات، استعيد بغداد كمدينة نافرة لم تفلح الحروب في اخفاء اشراقة وجهها الحزين، او شعرها المتهدل المسترسل، مثل اغصان الصفصاف عى ضفاف دجلة."

ظهر السمكة، المكان الآمن الذي لجأ اليه الجنود الايرانيون، والعراقيون، في لحظة جنون الطبيعة، وفّر لهم الأمان، بعد ان كانا يتبادلان رصاص القتل قبل ساعات، لا معنى للموت، والقتل على ظهر السمكة، لا معنى للحرب كذلك، عشرون (مقاتلاً) من الجانب العراقي، وثمانية من الجانب الايراني، غاب عنهم السؤال عن الموت الذي كان يتربص بهم قبل حين، في موضع السلام الجديد، يتبادل بعضهم نفس اللغة مع الجنود العراقيين، يتشابهون، في اللهجة والسحنة، يحبون الاغاني، والشعر، تتشابه وجوه الامهات، ومشاعر حب للنساء، وحنين للأولاد، وربما الطباع والهوايات.

وسط حالات الوجوم والترقب، يسود القلق والخوف، وهم يواجهون مصيراً واحداً، يتقاسمون بقايا الخبز اليابس كأصدقاء، عيونهم لا تقوى على المسرات، فتدمع نزفاً كالمطر،  يرددون : كلنا لانتهاء، حين يأتي مخاض الحروب، وأثناء لحظات ضجر، وتساؤل عن المأزق الذي وجدت المجموعةنفسها فيه :

" توهمنا اننا في مملكة مستقلة بين جمهوريتين تتقاتلان على امتداد 1458 كيلو متراً، باستثناء مئات الامتار تحيط بموقعنا هذا، يجهل الطرفان الموجودان هنا، سببه أو نهايته."

تنسحب مياه السيول عن المواضع الاولى، فيترك الجميع ما في ايديهم، وبلا شعور، تفرّق 28 جندياً عراقياً، ايرانياً، عشرون منهم يحدقون في الافق الغربي، فيما يتطلع الثمانية المتبقون صوب الجبال المهيبة المتلفعة بالضباب من جهة الشرق، الشفلات تتقدم نحوهم من جهتين متعاكستين، صوب الراقمين، تتوجه الهاونات بوقت واحد صوب المكان، الاوامر واحدة، الهدف واحد، لا اختلاف سوى لغة ايعاز القتل (شليك كن)، بالفارسية، و(ارم) بالعربية. الموت والجحيم، يفغران، يا هولهما! هنا نهاية الرواية، اختزال الصورة الوحشية للآتي المثير، المرعب.

(ظهر السمكة)، تحريض ضد حرب لا حق واضح فيها، ولا باطل واضح، هل كانت نهايتها انتصاراً للحرب؟ أم ان الموت انتصر على الحياة والزمن؟ ولئن كانت الكتابة الابداعية هي، أساساً تعبيراً عن مأساة، بمعنى انها تعبير عن انتصار وهمي على موت حتمي، فان هذه المأساة تزدوج في الحروب، لان القتل موت يتقدم الموت، وان تواجه الكتابة الحرب، هي ان تواجه موتاً في موت، وأن تكون لغة لمأساة مزدوجة.

***

جمال العتّابي

أن يبدأ الكاتب روايته هذه من بين أسوار المقبرة فيه من الدلالة والرمزية الشيء الكثير فقد توزع مسارها بين مقبرة الأموات المكللة بصورة الزعيم وهو يبتسم وبين المدينة مقبرة الأحياء المصادرة من ميكروفونات الزعيم الكاتمة للصوت.

لم يكتفِ الكاتب بالسرد أو استخدام اسلوب “الفلاش باك” بل ترك لنا نحن القراء مكانا في الرواية، وهذا هو الابداع الفني لأي روائي يحترم قارئه. لقد استطاع تطويع الأحداث وتوجيهها على نحو من شأنه ان تزيد قناعة القارئ بها وتجعله جزء منها؛ ولا أجافي الحقيقة إذا قلت إني عِشتُ الرواية أو جزء لا بأس به من أحداثها، مُستحضراً الأيام الأولى التي وقفناها معاً في ساحة العلم في صور أو قرب السراي في النبطية قبل غزوة الميكرفون ليكتم صوت المتظاهرين ويشتت شملهم وحلمهم ويشكك في مقاصدهم.

رواية بمثابة الصرخة المدوية أطلقها "سلطان" الحائرفي وجه السلطان الجائر، هو ذاك الفتى الذي عاش سنين عمره وفترة شبابه بين القبور ودرس المحاسبة معتقدا أنها مهنة يسهل اكتساب العيش بها، لكنه بعد التخرج لم يحظَ بوظيفة ، علما أنّ بعض زملائه الأقل ّ اجتهادًا منه "توظفّوا وتزّوجوا وصار عندن ولاد، مستنتجًا أن الحياة كلا وسايط"(ص73).

امتازت الرواية بأسلوبها الشيّق وبلغتها الصادقة البعيدة عن أي تصنع او تكلف وجاءت مطعمة باللهجة العاميّة، وقد أبدع الكاتب في وصف الأماكن بحيث تخال نفسك وكأنك تعاينها برفقة سلطان وهو يتجول ببطء بين القبور ليستقر تحت أغصان شجرة الفيكوس؛ كما يأخذك إلى حفار القبور أبو الغضب وهو يدك الأرض ليخرج من جوفها رملاً رطبًا. كما أسهب الكاتب في وصف خان الأشقر وتاريخه ومن تعاقب على إشغاله إبتداءً بالأمير فخر الدين الذي بناه، ومن بعده جاء العثمانيون وانتهاءً بالفرنسين لتستقر ملكيته أخيرا باسم المطرانية واستأجره شخص من آل الأشقر فأصبح يعرف باسم خان الأشقر.

وفيما يشبه الكوميديا السوداء يصف الكاتب حفرة القبر بأنها "صارت ممهدة وأصبح بوسع الوافد الجديد وضع رأسه مطمئنًا علّه ينعم بنومه الأبدي" (ص8).وفي موضع آخر وعندما أغلق سلطان أنفه ليتحاشى روائح النفايات المنتشرة في كل مكان بادره صديقه حسن بالقول تهكماً:" شمْ ريحة المدينة حتى تعرف نعمة المقبرة". وعندما مرَّت سيارة حزبية فوق حفرة مياه ناثرة الوحول عليهما تندر سلطان قائلاً " كل شي عنّا بالعكس حتى الشتي بيطلع طلوع" (ص76).

هي رواية ربما يصُح فيها القول "مَا لهَذَه الرواية لا تُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصتها". نظرا لتنوع وتعدد المحاور والقضايا التي أثارتها ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1- معاناة المهاجرين وغدر المهربين بهم: تمثلت في الحال التي وصل إليها قاسم، صديق سلطان، والذي اختارالرحيل عن هذه البلد التي ما ضلّ فيها شي، علماً أنّ لا أحد يضع أبناءه في قارب موت إلاّ إذا كان البحر أكثر أمانًا من الوطن".

2- إستحضارُ الأمير فخر الدين ورغبةُ الساردِ في كتابةِ روايةٍ عنه، في محاولةٍ لإسقاط ِسيرتِه وما رافقها من تقييماتٍ مختلفة على الواقعِ اللبناني، لم يكن أبداً من قبيل الصدفة، بل ارادهَا روايةً رمزّيّةً تستلهمُ ماضيَ لبنان وحاضرَه، كونُها تظهِر إنقسامَ اللبنانيين حول مفهوم الوطن، وتآمرَ بعضِهم ضدّ بعض كما هو الحال راهنا . وليس أدلّ على هذا ما نشهدُه من تناتشِ وتكالبِ الجميعِ على هذا الوطن سواءٌ من الشرقِ القريبِ او الغربِ البعيدِ لتنفيذِ أجنداتِهم ممّا أدّى إلى اهترائِه وأصبح أشبهُ ما يكون بذاك العلمِ المهترىء الذي يترنّحُ على ساريةِ دوارِ العلم، بعد أن مزّقته رياحُ الشرقِ والغرب .

3 - ظاهرة الميكروفونات: إضافة إلى شخوصِ الروايةِ الطبيعيّين، كان الميكرفون الشخصَ المعنوي في هذا العمل الروائي، هذا الميكرفون الذي يُستخدمُ أساسًا لإيصالِ المعلومةِ إلى أكبرِ عددٍ ممكن، نجد أن أولي الأمرِ عمَدوا إلى تغيير رسالتِه، وأصبح بضجيجه وتُرَّهاتِه كاتمًا للعديد من الأصواتِ المعترضة ومبجّلاً للمعبودين من زعماءِ الأمرِ الواقع. وأصبحت المدينة ُ كغيرِها من المدن، محاصرةً بالميكرفونات فوق الأعمدةِ والمباني، ناهيك عن الميكرفونات الجوالة على السيارات ملوثةً السمعِ بأناشيدَ وخطاباتٍ لم تكن يوماً السبيلَ لخروجِ هذا الوطن من محنتِه الاقتصادية والمعيشية. . وفي هذا يصح قول غادة السّمان الذي أوردته الرواية: وطننا مقبرة بمكروفونات، ليس صالحا لغير الموت والتأبين وتطويب الخالدين وتمجيد المعبودين وكره الباقين".(ص65).

4 - أما صورة الزعيم على مدخلِ المقبرةِ، كأنها تُشيرُ إلى أن المواطنين لن يفلتوا من قبضةِ إبتسامةِ الزعيم المصطنعةِ حتى وإن ماتوا، وسيبقى الكابوسُ الذي يقُضُّ مضاجَعهم في مماتِهم كما في حياتِهم، هو دائمَ الإبتسامةِ عليهم وليس لهُم، ما دامت أصواتُ الأحياءِ والأمواتِ تصبُّ في أغلبها لصالحه في الإنتخابات. وكأني به يقول أين المفرُّ؟ فمهما حاولتم الفرارَ من سطوة إبتسامتي هذه، فإني ملاقيكم، وفي موضع آخر يعلق حسن على صورة عملاقة للزعيم تكدست تحتها كلُّ أنواع النفايات قائلاً:" إنّ الزعيم يبتسم للموت في المقبرة وللإنحطاط هنا". (ص77).

5- حركة 17 تشرين أو ثورة 17 تشرين كما يريدها سلطان: تطرّقت الرواية إلى ثورة 17 تشرين لتوثيق تلك الفترة فبعد أن تخلى المتظاهرون –ولو لفترة - عن عباءتهم الحزبية والمذهبية وتحرروا من سطوة الزعماء، حيث كانت الحناجر كلها تصدح محمّلة مسؤولية تردي الأوضاع الى كلّ الطبقة السياسية، كان للميكروفونات كاتمة الصوت الدور المؤثر في الإجهاز على ذاك الحراك؛ واستعاد ذئبُ الطائفيةِ عافيتَه ضارباً بمخالبِه في كلّ اتّجاهٍ ناهشًا ما تبقّى من لحمِ الوطن". . كانت هذه بداية النهاية لحركة 17 تشرين بالرغم من اتفاق الجميع واعترافهم بوجود الفاسد والأزعر ولكن اختلفوا فيما بينهم على المواصفات والتسميّة فكل فصيل يريد شطب إسم زعيمه من لائحة الإتهام لنصطدم بما يشبه تجهيل الفاعل.

6 - كما ان هذه الميكرفوناتِ كاتمة الصوت قد آتت أُكُلَها في تعزيزِ التحوّلاتِ الفكرية والإيدلوجيّات المستجدّةِ، ناهيك عن رغبة البعضِ وهم كُثُر في حفظِ مصالحِهم، فكان لا بدّ لهم من ركوبِ هذه الموجةِ العاتيةِ التي لا تُبقي ولا تذر، وفي هذا يقدّم لنا الكاتب نموذجاً عن تلك التحوّلات، تمثلت بعائلةِ ابي عباس اليساريّ، والذي سمع بشاعرِ إسبانيا لوركا فأعجبه الإسم واختارَه إسماً لوليده . لكن ومع تبدّلِ المناخِ السياسيِّ العام، إنقلب أبو لوركا على نفسِه وانحازَ للمقلبِ الآخرِ حفاظاً على نشاطِه التجاري. وانتقلت عدواهُ هذه إلى كل أفرادِ عائلتِه.وهكذا فعل ابنه لوركا – عازف الأكورديون - اختار لنفسه إسما بديلا هو "ساجد" وتحول إلى مُنشد دينيّ لا بل "مجاهد" ينتهي قتيلاً ِ في إحدى معارك تنظيمه وما أكثرها. أما شقيقته غيداء فقد أصبحت محجبة ترتدي عباءة سوداء لا تُظهر سوى اليدين والوجه مما دفع بسلطان للقول: سبحان مغيّر الأحوال". وأخيرًا يأتي دور الأم التي كانت دائمة المواظبة على صالونات التجميل وتصفيف الشعر، فها هي قد التحقت بالركب أيضا زاهدة في <حطام الدنيا>..

عائلة أبو عباس هذه هي عينة عن كثير من العائلات التي سارت في هذا الركب طلبا "للرزق الحلال وموفور المال"، ولكي يثبت أبو عباس ولاءه للزعيم وخلال نقاشه مع سلطان حول الوضع الاقتصادي المنهار ألقى باللائمة على ثورة 17 تشرين المدعومة أمريكيًا، واصفا مناصريها بالعملاء للخارج. وفي هذا السياق استعان الكاتب برواية "في إنتظار البرابرة" التي تحكي قصة دولة متخيّلة توهم فيها الحكومة المواطنين بغية السيطرة عليهم، بأن هناك برابرة يحاصرونهم. هذا يذكرني بمقولة لهتلر تقول : “إذا أردت السيطرة على الناس أخبرهم انهم معرضون للخطر وحذرهم من أن أمنهم تحت التهديد، ثم شكك في وطنية معارضيك". كما لم يسلم الناشطون من تتبع لصفحاتهم الفايسبوكية وهذا ما حصل مع سلطان حيث تعرض له احد الملثمين واضعاً إبهامه تحت ذقنه متوجها إليه بصوت رادع " اسمع يا خرا إذا بتنشر بعد أي بوست تحريضي ضد الزعيم رقبتك بقطعها". حدث هذا عندما شارك سلطان على صفحتة ما نشرته عريب المأمونية ومما جاء فيه: " مدينتي سجينة صرّافين وتجّار خرافة وسماسرة للموت، مدينتي إمرأة قيل لها كوني جميلة واصمتي، من ذا يقنعها أنّ أجمل ما في المرأة هوالصوت".

7- استحضرَت الروايةُ اكبرَ وأحدث جريمتين ارتكِبتا بحقِّ هذا الوطن، الأولى هي الإنهيارُ الماليّ، حيث لم تعُد الليرةُ بخير كما أوهمونا بعد إقفال المصارف وتحليقِ الأسعارِ عالياً وتفشّي البطالةِ واختفاءِ الموادِ الغذائيةِ وأيضاً الأدوية، وعادت طوابيرُ الذلّ – أو العزّ كما يحلو للبعض- امام الأفرانِ ومحطات ِالوقودِ والصيدليات . أضف إلى ذلك التوقف عن إصدار جوازاتِ السفرِ بسبب فقدان المواد اللازمة لطباعتِها.

.. الجريمة الثانية هي تفجيرُ المرفأ وفداحةُ الأضرارِ التي نجمَت وكان من ضحاياها وداد صديقةُ سلطان، حصل كل هذا تحت أعينِ الطبقةِ الحاكمةِ التي وجدَتها فرصةً سانحةً للانقضاضِ على ثوار 17 تشرين وتحميلِهِم مسؤولية هذا الانهيار. ونظرا لكثرة ما يمتلكون من ميكروفونات كاتمة لصوت الحق، استطاعوا استعادة المبادرة وإعادة كل قطيع إلى حظيرته –إذا جاز التعبير-

تبقى اشارة ولو بسيطة تطرقت لها الرواية وهي ظاهرة انتشار أندية القراءة التي انتشرت مؤخرًا في البلاد، واللافت أن الخلاف في وجهات النظر يفسد للوِّد قضية على عكس القول الشائع، بحيث أن بعض المناكفات بين أعضاء النادي الواحد أدت وتؤدي إلى تفرع هذا النادي إلى أندية، وهذه حقيقة لمستها من خلال تجربتي الشخصية حيث بدأنا اول الأمر كمجموعة متراصة ضمن ما يسمى بصالون الكتاب ونتيجة لبعض المشاحنات تفرع عن هذا الصالون ثلاث مجموعات. وهذا يشبه ما ورد في الصفحة43

بقعةُ ضوءٍ ولوخافتة، تضمّنتها الرواية وهي عدم امتثال القاضي للتشدّدِ في محاكمة حسن بناءً لرغبة من قام بتعيينه بل حكَم له بالبراءة، وفي هذا إشارةٌ الى مطلبِنا الدائم والحلم باستقلالية القضاء، وأيضا فإن انتفاضةَ سلطان الذي أفرغ جامَ غضبِه من خلال طريقة نعيِّه الأسطوريّ لصديقته وداد ، والذي أدان فيه الزعيمَ ومختارَ الزعيمِ، ومزّق صورتَه التي كانت تحجبُ العلم اللبناني المرسوم على الجدار.

وعليه، يبقى الأمل في أن يأتيَ اليومُ الذي يستفيقُ فيه هذا الشعبُ كم استفاق القاضي، ومن بعده سلطان، إنّه يوماً يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ونراه قريبًا.

***

عفيف قاووق – لبنان

(دراسةٌ بيئيَّةٌ في المُثُل والجَماليَّات)

لعلَّك لا تَجِد أحذق من (أبي نُواس) في تصوير (الكِلاب)؛ وكان، كما يذكر (الجاحظ)(1)،  «قد لَعِب بالكِلاب زمانًا، وعرف منها ما لا تعرفه الأعراب.»  وله في ذلك أراجيز استشهد منها (الجاحظ)(2) بعشر، كلُّها تدلُّ على تمام معرفته بهذا الحيوان.  يقول في إحدى طرديَّاته(3):

أَعددتُ كَلْبًا لِلطِّرادِ سَلْطا

مُقَلَّدًا قلائدًا ومَقْطا

*

فهْو النَّجيبُ والحَسيبُ رَهْطا

تَرَى لَهُ خَطَّينِ: خُطَّا خَطَّا

ويُصَوِّر طول جسمه، ورشاقته، ولينه، وسباطة لَـحْيِه، مشبِّهًا متنَيه، إذا تمطَّى، بشِراكَين من أَدَم، فيقول:

ومَلَطًا سَهْلًا ولَـحْيًا سَبْطا

ذاكَ ومَتْنَيْنِ إذا تَـمَطَّى

*

قُلْتَ: شِراكانِ أُجِيْدا قَطَّا

مِنْ أَدَمٍ الطَّائفِ عُطَّا عَطَّا

كما يرسم حركة رجلَيه السَّريعَتين، كأنَّما يُعجِلن شيئًا لَقْطًا.  ويُصوِّر ما يلقاه منه الصَّيد.  واختيار الشاعر وزن (الرجَز) في طرديَّاته قد زادها طاقةً تصويريَّة؛ بما لهذا البحر من خِفَّة، حتى ليكاد القارئ يشهد حركة (الكلب) من خلالها.  مع (الطاء) في الرَّوِي، وما تُضفيه من إيحاءٍ حركيٍّ، تزيده ألف الإطلاق في آخِر القافية اندفاعًا، يمثِّل في الصُّورة تدفُّق حركة الكلب.  ويُعنَى في صورٍ أخرى بوصف أدب (الكلب) وحُسن تربيته، كما في تصويره كلبًا اسمه (زنبور)(4). وفي نصٍّ آخَر يَفْتَنُّ في تصوير شِيات (الكِلاب).(5)  وقد كانت عناية العَرَب بـ(كلاب الصَّيد) معروفة، حتى إنَّ لها أنسابًا وأسماء وعلامات، كما (للخَيل) عندهم.(6)  وفي صورةٍ أخرى يُشبِّه (أبو نُواس)(7) التماعَ عينَي (الكلب) الحمراوين بفَصَّي عَقيق، فيقول:

كأنَّ عَينَـيهِ لدَى ارتيابِـهِ

فَصَّا عَقيقٍ قد تَـقابَلا بِـهِ

وهي صورةٌ تتكرَّر عند الشُّعراء، في تصويرهم تحفُّز (الكِلاب) للصَّيد.  كقول الآخر:

مُجَزَّعَـةٌ غُضْفٌ كأنَّ عُيونَها

إذا آذنَ القُنَّاصُ بالصَّيْدِ عِضْرَسُ(8)

وكلُّ هذه الصُّوَر، التي يحاول (أبو نُواس) استقصاء جَماليَّات (الكلب) بها، جِماعها: معنى الخِفَّة والجرأة.  هذا المعنى الذي كان وراء تصوير الشُّعراء (الذِّئبَ) أيضًا وإعجابهم به.  مهتمًّا في ذلك بتوافق أجزاء الصورة، وتناسبها، وتوازنها، بحيث تعبِّر في النهاية عن معناه. ولهذه القيمة الجَماليَّة أحبُّوا تشبيه خيلهم بالكلب السلوقيِّ الضاري الأجرد، تمامًا كما فعلوا في تصوير الذِّئب.  فقال (ابن مُقْبِل)(9)، مثلًا- مهدِّدًا خصومه، ضاربًا الكِلاب مثلًا للمضاء في حربهم-:

فإنَّا سنَبْكِيْهِ بِجُردٍ كأنَّها

ضِراءٌ دَعاها مِنْ سَلُوقَ مُكَلِّبُ

فجَماليَّات (الكلب) في شِعرهم، إذن، ليست بشكليَّةٍ حسِّيَّةٍ بمقدار ما هي معنويَّة، وإنَّما يوظَّف الشكل في خدمة تلك الجماليَّات.  وكذلك فإنَّ مَقابحه عندهم ليست بشكليَّةٍ حسِّيَّةٍ بمقدار ما هي معنويَّة، وقد يوظَّف الشَّكل في تصويرها.  لأجل ذلك فإنَّ (ابن الرومي)، في مقارنته بين مهجوِّه و(الكلب)، لم يذكر من مقابح الكلب الشَّكليَّة سِوَى طُول الوجه، الذي قد يتضمَّن دلالات معنويَّة، غير قُبح الهيئة.  بل لعلَّ الشاعر لم يهتمَّ بطول الوجه هناك إلَّا من حيث إيحائه بالدناءة واللؤم والخِسَّة.  أمَّا صفات القُبح المعنويَّة، فهي: عدم الحياء، والعِيُّ، والتعدِّي، والغُلول:

وَجْهُكَ ، يا عَمْرو،  فيهِ طُولُ

وفي وُجوهِ الكِلابِ طُولُ

*

فأَينَ مِنكَ الحَياءُ؟! قُلْ لِـي،

يا كَلْبُ! والكَلْبُ لا يَقُولُ

*

والكَلْبُ مِنْ شَأْنِهِ التَّعَدِّي

والكَلْبُ مِنْ شَأْنِهِ الغُلُولُ(10)

على أنَّ (الكلب) قد تزول عنه معايبه، ولا تزول عن هذا المهجو:

مَقابِحُ الكَلْبُ فيكَ طُـرًّا

يَزُولُ عنها ولا تَزُولُ(11)

وليس كلُّ ما في الكلب قبيحًا، بل فيه: الوفاء، وأمانة الحراسة، والمحاماة:

وفِيهِ أشياءُ صالحاتٌ

حَماكَها اللهُ والرَّسُولُ

*

والكَلْبُ وافٍ وفِيكَ غَدْرٌ

ففِيكَ عَنْ قَدْرِهِ سُفُولُ

*

وقد يُحامِـي عَنِ المَـواشِي

وما تُحامِي ولا تَصُولُ(12)

وقد اتخذ (أبو نُواس) من سباطة لَحي (الكلب) عُنصرًا جَماليًّا شكليًّا، في حين اتخذها (ابن الرومي) على العكس؛ ممَّا يؤكِّد القول بأن طول الوجه في كلب ابن الرومي رمزٌ، أكثر ممَّا هو معبِّرٌ شكليٌّ في لوحته الشِّعريَّة.  ولذلك أيضًا جاء هذا الربط بين عدم الحياء وطول الوجه: «وَجْهُكَ... فيهِ طُولُ.. فأَينَ مِنكَ الحَياءُ؟!»، كأنَّما ذاك يدلُّ على هذا ويوحي به.

وجَماليَّات تصوير (الكلب) عند (ابن الرومي) تتمثَّل في الموازنة بين الكلب والإنسان المهجوِّ من جهة، ثمَّ بين صفات الحُسن والقُبح في الكلب من جهةٍ أخرى.  بحيث أضاء زوايا متضادَّة، أو متفقة متوادَّة، بين طَرَفَي الصورة: «وبضدِّها تتبيَّن الأشياء».  إضافةً إلى هذا الإيقاع المعنويِّ العميق، والسِّجال الجَدَليِّ المحتدم بين شِقَّين، مرتبطَين منفصلَين، ممَّا يولِّد إيقاعًا ذهنيًّا متجاوبَ الاهتزاز في تلقِّي الصورة.  وهذه الموسيقى الداخليَّة- القائمة على التكنيك الفنِّي، المرتكز على إمكانيَّـتَي الالتقاء والافتراق، والاتِّحاد والتضاد- قد أكسبت الأبيات حيويَّتها الخاصَّة، ومنحت الصورة تأثيرها الفعَّال، في كُـلٍّ توحَّدت فيه المتناقضات.

[للحديث بقيَّة].

***

د. عبد الله الفيفي

........................

(1) (1965)، الحيوان، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (مِصْر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي)، 2: 27.

(2)  يُنظَر: م.ن، 2: 27- 69.

(3)  أبو نُواس، (1982)، ديوان أبي نُواس، تحقيق: أحمد عبدالمجيد الغزالي، (بيروت: دار الكتاب العَرَبي)، 627.

(4)  يُنظَر: م.ن، 633، والجاحظ، م.ن، 2: 30- 31.

(5)  يُنظَر: م.ن، 628- 629، والجاحظ، م.ن، 2: 37- 39.

(6)  ويُنظَر مثلًا: كشاجم، (د.ت)، المصايد والمطارد، تحقيق: محمَّد أسعد أطلس، (بغداد: دار المعرفة) ، 131- 142.

(7)  يُنظَر: الجاحظ، م.ن، 2: 41.  ولم يرد البيتان ضِمن أبيات قصيدته في الديوان: 631.

(8)  يُنظَر: الجاحظ، م.ن، 2: 201؛ ابن منظور، لسان العَرَب، (عضرس).

(9)  (1962)، ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم) ، 16/12.

(10)  ابن الرومي، (2002)، ديوان ابن الرومي، شرح: أحمد حسن بسج، (بيروت: دار الكُتب العلميَّة)، 3: 139.  ويُنظَر: جيدة، عبدالحميد محمَّد، (1974)، الهجاء عند ابن الرومي، (بيروت: مكتبة الحياة)، 376.

جديرٌ بالإشارة هنا أنها كانت للهجاء، كما للمديح- على بعض مقابحهما الأخلاقيَّة وابتذالهما الوظيفة الأدبيَّة- وظيفةٌ قِيميَّةٌ مهمَّةٌ في المجتمع العربيِّ، من لَـزِّ الناس، ولاسيما الكُبَراء، على التحلِّي بحُسنِ المعاملة، وبذل الأموال، وإنْ سياسةً، رغبةً في الصِّيت، من خلال الإعلام الشِّعريِّ الدعائي، ورهبةً من أن يسلقهم الشُّعراء بألسنةٍ حِداد.

(11)  ابن الرومي، م.ن.

(12)  م.ن.

كتّاب الرواية الجديدة لم تعد تستهويهم - مثلما كانت سابقاً - نصوصاً أرخت لعناوين كبرى عن حكايات العدالة الاجتماعية، وقصص الحب السامية وتحرير الأرض، وشحذ همة الشعوب، إذ أن حكايات هامشية وبسيطة أصبحت المعيار لنجاح الكثير من الروايات، وأضحت مظهراً من مظاهر التجديد في الرواية، ويقاس نجاحها بمقدرتها على التقاط هذه الحكايات البسيطة، وإعادة إنتاجها.‏ وقد لاقى هذا الأسلوب الكثير من الاهتمام.‏ وأصبح فعلاً إبداعياً ملموساً، قادراً على مواكبة الإبداع، واحداث أبلغ الأثر على روح الرواية وتألقها.‏

إن مكونات الرواية الحديثة - التي نحن بصدد تفكيك إحداها وهي رواية "الأسود يليق بكِ" لأحلام مستغانمي - تكاد تكون واحدة، إذ لا بد من توافر: المكان والزمان والشخصيات والصراع (العقدة). وبالتالي وجود تفسير ظاهر - أو مخفي - لسبب اختيار موضوع الرواية، حتى لو كانت هذه المكونات متفاوتة النسب من أجل الوصول لفهمها.

هذه الرواية تبتعد في صوغها الحكائي عن المنظور التقليدي المحض، (البداية، العقدة، النهاية) وعلى الرغم من ان صياغتها لا تخلو من جزئيات هذا البناء في عمومه، إلا انها لم تجعل من هذه التراتبية القواعدية منطلقاً لها، لذلك تبدأ الحكاية من نهاية الأحداث، منطلقاً لاستعراض بدايتها: "لن يعترف حتى لنفسه إنه خسرها.. سيدَعى إنها من خسرته.. وأنه من أراد لهما فراقاً قاطعاً كضربة سيف.. فهو يفضل على حضورها العابر غياباً طويلاً.. وعلى المتع الصغيرة ألماً كبيراً.. وعلى الإنقطاع المتكرر قطيعة حاسمة". ص11.

وعقدة الرواية ليست بجديدة، فبحث الرجال عن زوجة ثانية عندما تعجز الزوجة الأولى عن ولادة ذكر لهم؛ كثيراً ما تناوله الروائيون في أعمالهم، وبالأخص اذا كان ذلك الرجل ثرياً ويدير أعماله من مدن عدة خارج بلده، "- ما أريده هو صبي.. صبي يحمل اسمي، يرث ثروتي، يحرس شرفي.. لكنها أمنية مستحيلة. زوجتي لاتستطيع أن ترزق بطفل ثالث . وهذه قسمتي في الحياة. لن أطلقها، ولن ألجأ لذرائع دينية لأتزوج عليها. إنها أم بناتي وأنا أحبها"ص276. هذا ما كان يريده، ولم تتكلف الكاتبة لتوضح ما السبب الذي يمنع زوجته من عدم ولادة ذكر له.

لذلك استمرت محاولات طلال هاشم بطل الرواية، سنتين للايقاع بـهالة وافي. رجل غني يمتلك المال الذي يستطيع بوساطته أن يعمل كل ما يريده ويحلم به، استطاع أن يصل الى قلبها من خلال باقات الورد التي كان يرسلها إليها بعد كل حفلة تقيمها وكان صبوراً للايقاع بها.

وبدأ يستعيد ذلك اللقاء التلفزيوني الذي مضى عليه سنتان، ما زال يذكر كل كلمة لفظتها، احتفظت ذاكرته بكل تفاصيله، وكيف ذهب يبحث عن شريط لها وهو لا يعرف اسمها بعد. "ما الذي يريده منها؟ هذه الفتاة التي ليست أجمل من غيرها، والتي لا تهزه أغنياتها. لعله يريد حالة الشغف التي سكنته مذ رآها" ص31. هكذا تعلّق بها لاشيء يعرفه عنها جعله يتعلق بهذه المرأة "كان يحب الجاذبية الآسرة للبدايات، شرارة النظرة الأولى، شهقة الانخطاف الأول.. كان يحب الوقوع في الحب" ص43.. "ثلاثة أشهر وهو يتقدم نحوها بتأنٍ كما على رقعة شطرنج. تصلها باقات وروده في أي مسرح تغني عليه، وأي برنامج تطل فيه، كقناص يعرف كل شيء عن طريدته" ص44.

لم يكن ما يجري بينهما غير لعبة، لعبة شبيهة بلعبة القط والفأر، فهو يمتلك كل شيء، ويضع تفاصيل كل لقاءاتهما التي تحدث بينهما، يستلذ برؤيتها عاجزة عن أن تراه وهو يدير هذه اللعبة من وراء ستار يصنعه لنفسه بواسطة ماله، الذي يعده أهم ما في شخصيته، لذلك يغضب عندما لا تتمكن من معرفته وهما معاً في الطائرة ويغيظه: " أن تحدق في وجوه كل الرجال عداه، فقرر أن يثأر لذلك الخذلان العاطفي بموعد لن ترى فيه سواه. يومها، ولدت في ذهنه فكرة أن يحجز قاعة بأكملها، تغني له فيها وحده، ألا يأتيها وسط الحشود، بل يكون هو الحشد!" ص129.

وبرغم نجاحه في ادارة اعماله واعتزازه بنفسه إلا أن هناك ماضياً يؤلمه لا يستطيع أن يتحدث به لأحد! انه عانى من عجز عاطفي يمنعه من تسليم قلبه حقاً لامرأة. فبات طول عمره يشك في صدق النساء. "- أحب أن أنفق ثروتي في إغراء الحياة.. ما دام مالي سينتهي لدى رجال سيبرعون في إغراء نسائي!

- نساؤك؟

- أعني زوجتي وابنتيّ، زوجتي ما زالت جميلة. وستعاود الزواج من بعدي.. وكذلك ابنتيّ.. سيتدافع الرجال للفوز بأوراق اليانصيب الرابحة!

- ولماذا أنت واثق الى هذا الحد مما سيحدث؟

- لأنني لا أثق في النساء، لا أمي انتظرت أبي.. ولا تلك الفتاة التي أحببتها انتظرتني يوم سافرت الى البرازيل." ص270.

رجل لايرى في المرأة سوى غنيمة عليه أن يحوز عليها قبل غيره برغم ثقافته التي اكتسبها من عمله وسفراته في أكثر من بلد إلا انه لاينظر للأمور إلا من خلال ماله، الذي يحسبه كرامته وكل شيء، لذلك يثور عندما يطلب منها أن تأخذ مالاً منه لتشتري هدايا لها، فترفضه وتقول له أنها لا تحتاج الى مال! فيصرخ بها:

 من تكونين لتهينيني؟ -

 مذعورة تحت هول المفاجأة: ردت

 ما فعلت شيئاً يهينك. أنا فقط -

قاطعها:

- أنت تهينين مالي قصد إهانتي..

- من تكونين لتتجرئي على ذلك؟!"ص285

هكذا تنتهي حكايته معها، فيعود خائباً في تحقيق ما أراد أن يحققه: "الحب بالنسبة له كرنفال ومدارس تنكرية للبهجة، أنه المهرج الذي يخلو بنفسه ليحزن والساحر الذي يعود خاسراً بعد كل استعراض. ثمة حزن يعرفه، وآخر يتعرف إليه الليلة، حزن ما خبر من قبل صدمته" ص327.

*

اقترن ظهور اللغة الشعرية في الرواية، مع ظهور الرواية الحديثة، التي جعلت من هذه اللغة علامة من علاماتها البارزة، والتي ركزت على شعرية المجاز، وشعرية التفاصيل في لغتها السردية. ان التحول في لغة الرواية، حصل بشكل أحالت فيه الرواية لغتها من كونها مجرد وسيلة للتبليغ المباشر، الى نظام وظيفته التبليغ غير المباشر، وهو ما يسمى بالوظيفة الجمالية للغة. والتي تخلق مساحة واسعة للتأويل من دون أن تهمل لغة الرواية المألوفة. كذلك لا ننسى وظيفة شعرية عنوان الرواية "الأسود يليق بكِ" التي تأتي في طليعتها الوظيفة الاعلانية الايحائية عن محتوى العمل الروائي. وقد أرادت الكاتبة لروايتها، ان تكون قطعة موسيقية (سمفونية)، تعزفها بلغتها الشعرية التي دأبت على كتابة رواياتها السابقة بهذه اللغة؛ والتي شهد الجميع بجمال صياغتها وروعة تعابيرها وصورها الجميلة، فكانت هذه الرواية الجديدة من أربع حركات وكل من هذه الحركات بثلاث نقلات - تشبها بالسمفونيات - وقد اختارت لكل جزء من هذه الحركات جمل لمقولات مشاهير عصرنا هذا والعصور التي سبقتنا. اختارتها لتكون بداية لهذه التقسيمات، الموسيقية، التي عزفتها سرداً شعرياً رائعاً. وكانت صورها الرائعة تتقافز بين السطور لتشد القارئ ليستمر الى نهاية أحداث الرواية. لكن لغة السرد الجميلة هذه شابتها بعض نقاط الضعف، فالملاحظ ان الحوار الذي يدور بين شخوصها، هو ذلك الحوار العاطفي الأنيق نفسه الذي يفلسف الحب ويستعين بمقولات الفلاسفة والشعراء، وقد يلاحظ القارئ أيضاً ان شخوص رواياتها متشابهة في أغلب كتاباتها - بالأخص شخصياتها النسائية - بذات الأناقة والإبهار والغموض وبالحوارات العاطفية نفسها. وجملها المختصرة. وهذا ما تمتاز به مستغانمي، لأنها بدأت حياتها الأدبية بكتابة الشعر، الذي تجده قليلاً في لغتها الحوارية، لكنه واضح وجميل في الوصف الذي يطغى على أحداث الرواية: "كبيانو أنيق مغلق على موسيقاه، منغلق هو على سره" ص11. "وضعت من كل شيء أقله. ذهبت إليه بسيطة كفراشة السواقي" ص117. "في أسطورتها هي يقع عليها السحر مذ يضع ذلك الرجل العابر شفتيه على شفتيها. شفتان ألقتا القبض على قدرها، وتركتاها في غيبوبة النشوة، تحت تأثير الخدر العشقي، كما في نوم لذيذ" ص142.

***

يوسف علوان

يعتبر عنوان الرواية "مدخلا أساسيا في قراءة الإبداع الأدبي والتخيلي بصفة عامة، والروائي بصفة خاصة. كذلك من المعلوم أن العنوان هو عتبة النص وبدايته، وإشارته الأولى. وهو العلامة التي تطبع الكتاب أو النص وتسميه وتميزه عن غيره". لذلك رغبت ان اتحدث عن عنوان رواية "سيف يهوذا" وما يعنيه في احداث الرواية التي تتحدث عن ثلاث شخصيات نسائية تتمحور حولهن الاحداث؛ (جواهر) الشخصية الاساسية و(فرجين) الصديقة، ثم (فريدة). أحداث الرواية تدور اثناء الحرب العراقية الإيرانية وما تعرضت له المدن العراقية فيها من تغيرات، وكان لبعض المدن القريبة من الحدود معاناتها مع هذه الحرب التي لم يكن لتلك المدن يدا فيها!..

لقد اراد الروائي ان يرسم صورة لمعاناة البصرة اثناء الحرب العراقية الايرانية 1980-1988 من قصف وهجمات بالمدفعية والصواريخ بعيدة المدى (صواريخ ارض – ارض) من قبل الجيش الايراني في تلك الفترة التي اعتبرت اسوأ الفترات التي مر بها العراق لما خسره من ضحايا؛ ليس في افراد جيشه فقط، وإنما اعداد كبيرة من مواطنيه الآمنين في مدنهم وقراهم، وكان للبصرة الحصة الاكبر من هذا التدمير الذي استهدف البلاد والعباد خلال ثمان سنوات كانت بحقيقة الأمر سوداء وأليمة على ابناء الشعب العراقي.

وقد استطاع الروائي من خلال سرد حياة (جواهر) وما لقته من اعتداء جماعي (من الغرباء) من تصوير محنة البصرة خلال السنوات الثمان هذه. وحتى زواج جواهر من رجل يكبرها بالسن وهو مريض وعاجز، هي ايماءة لما كانت تعانيه البصرة، من قبل حكامها، والبصرة صورة مصغرة للعراق، الذين عجزوا عن توفير حمايتها بعد ان تورطوا في معاركهم العبثية. وما تعرضت له البصرة في هذه الحرب بسبب موقعها؛ ولكونها محاذية للحدود الإيرانية، ولقربها من المدن الإيرانية كان نصيبها كبيرا من عمليات التدمير وكانت المدفعية الإيرانية تضرب هذه المدينة الحبيبة بكل قسوة وبقصد تدميرها..

احداث الرواية تجري في فترة قصيرة جدا لا تتعدى الساعات، لكن الروائي استخدم طريقة الاسترجاع في استذكار الاحداث السابقة التي مرت بها (جواهر) وربطها بشكل محكم مع اللحظات التي كانت تعيشها على وقع القصف المدفعي الذي كان يقع على منازل هذه المدينة، فيدمرها بيت بعد بيت. "حين أفاقت من ذهولها بعد حين، تحوّل الانبهار الذي اصابها الى نوع من الهول والرعب، وهي تحملق على غير إرادة منها، بالجزء المصاب من الدار، والضرر البليغ الذي أحاق به كأنها تراه للمرة الأولى، فأدركت بأن الضوء الزائد المتفجر الذي يفيض على المكان ويغرقه بموجاته الطويلة الراجفة، هو الذي جعله يتجسد بهذا العري والوضوح.. كانت ستارة البيت الامامية قد أنهارت كلياً، وكان الضرر قد دخل الدار وأحاق اذى متفاوتاً في كل جانب من جوانبه، بينما تبططت وتفطرت غالبية جدرانه، فأرتاعت من تلك الفطور" (ص9)..

وظف المؤلف خروج جواهر في مثل هذه الظروف، للذهاب الى بيت فريدة لاعطائها الدواء الذي تحتاجه، ليصور لنا حال شوارع البصرة وأحيائها من تدمير وقصف. شوارع خاوية، لا تسكنها الا الاشباح، والموت الذي يتجول في هذه الشوارع.

كانت المسافة الفاصلة بين "حي صنعاء" الذي تقطنه و"حي عمان" الذي تقصده، تتكون من عدة شوارع فرعية، وعدة انعطافات حادة... ما إن قطعت من الطريق سوى مئات الامتار حتى برزت امامها كالاشباح المترصدة، الكثير من الانقاض والحفر والكثير من البرك الآسنة التي سببتها مياه الانابيب المتفجرة" (ص13).)

وقد اجاد الكاتب في رسم الصورة المؤلمة التي تعيشها المدينة من خلال متابعته ما تراه جواهر من مشاهد تثير فيها الألم، لما تتعرض له مدينتها: "شاهدت بعينها الكثير من سيارات "الايفا" العسكرية والحافلات وهي تجوب الشوارع والأزقة الخاوية في الجوار، ويتم التسلل الى البيوت المهجورة او اقتحامها ونهب ماهو ثمين فيها.. كما شاهدت الكثير من الغرباء يفعلون ذلك ايضاً؛ وهي لم تكن ترغب بالركض والضياع في المدن المجهولة الأخرى، وان تتيه وسط ناسها وأخلاقها وعاداتها التي لا تفقه منها شيئاً، لكنها تدرك الان بان اعتصامها في دارها لم يحفظها من هذه الاصابة الشنيعة وهذا الدمار (ص 10).).

وإضافة لهذا الخراب الذي اصاب المدينة بسبب هذه الحرب الهوجاء، التي لم تأت الا بالخراب على الناس وبيوتهم.. لكنها تحس الخراب الاشد ألماً وهو الخراب الذي تحسه في داخلها: "امرأة دائخة ممزقة وقد حطمتها الاخفاقات المتتالية وسحقتها الخيبات المتكررة" (ص11)، فشلها في زواجها من رجل يكبرها في السن ومريض، والذي لا يكف عن الانين والسعال، والذي لا يعيرها اهتماماً، ربما بسبب امراضه التي فتكت به وأنهكته كثيرا" (ص20).

وبألم تتذكر: "حين اقتيدت الى عش الزوجية وسط دوار العطر والهلاهل والزغاريد، ومرت بالصدمة المخدرة، وافاقت منها بعد حين، أدركت ورطتها الصعبة، ومأزقها الشائك، نشأت لديها تدريجياً علة (عدم الرضا) كالورم الخبيث ليس لها حل الا بالقطيعة.." (ص18).)

وبسبب هذه الحالة التي تعانيها مع زوجها المريض، تتعلق جواهر بـفريدة (صديقتها وقريبتها) وزوجها: "هذا الكائن الفلسفي الفريد ذو الحس المرهف والمشاعر الفياضة" (ص20). لقد احبتهم واحبوها، وهي التي بحاجة الى تعويض حقيقي يخفف عنها شعورها بالفشل.. "كانت تذهب اليهما عصراً ماشية على قدميها عبر الازقة الفرعية الأليفة حاملة في حقيبة كتف كتانية ذات حوض واسع، الكتب التي استعارتها والتي عليها اعادتها كي تأخذ بديلاً عنها. وبوجود غرفة مكتبته الحافلة دواليبها بمئات المجلدات، تعرفت على الكثير من الكتّاب وقرأت مؤلفاتهم، بينما تستمع في ذات الوقت الى وجهات نظره ونصائحه وتوجيهاته، فأتقنت الصمت والاصغاء وإبداء الملاحظات هذه المرة، ثم الجدل الرصين واتخاذ القرارات الصائبة" (ص20)،

"كان يؤجج في داخلها الفتيل الذي راح يخبو قليلا قليلا جراء فشلها الذريع، فيعيد اليها حماسها في الحياة ويدعوها الى التأمل والتفاؤل، وعدم الاعتراف بالهزيمة، والثبات في المواقف الصلبة، والعزيمة في الرأي، فصار بينه مكاناً روحياً تلجأ اليه وقت الضرورة، وصار مرشدها الروحي" ص21.

كان يخاف عليها من أناقتها المفرطة في مثل هذه الظروف التي تعيشها المدينة وكثرت الوافدين الذين أخذوا يملأون المدينة: "حين يفر الرجال خارج الحدود نتيجة الضغوط، فان هذا يصنع فراغاً ويترك الباب مفتوحاً، واذا وجد المنسقون لذلك فقد حلت المشكلة، حيث سيفدون للاستعانة بهم، وسيكونو اصحاب الارادة والشأن في جميع المجالات، ان وجود هؤلاء الغرباء يسبق الكوارث عادة. إننا مقبلون على كارثة حقيقية على المدى القريب، فقد تمت الاختراقات، وتم التفريط بالقيم، وتم التنكر للمبادئ والأعراف وبيعت بدراهم معدودة في السر، لقد تلوثت الينابيع، وماعادت مياهها صالحة للشرب، كوني على حذر من الغرباء والوافدين منهم يقاتلون بسيف يهوذا مع منسقيهم" (ص24).

في طريقها للوصول الى بيت (فريدة) تشاهد بيت صديقتها (فرجين) وقد طالته نوبات القصف التي تتعرض لها المدينة فتصاب بالذهول خوفاً على أم فرجين و(صهيب) اخ فرجين الذي يقترب عمره من عمر ابنها التي تخاف عليه من هذه الحرب اللعينة..

البصرة، التي يرمز لها الكاتب بـ(جواهر) الفتاة الجميلة السمراء التي تفقد صديقتها فرجين بشظايا القصف، والتي تعني لها كل شيء، التقتها قبل عشرين عاماً أمام واجهة احد المتاجر الذي يبيع ويؤجر بدلات الاعراس من الدرجة الراقية حين وقفت جنبها وهي تسأل بعذوبة ساحرة أخاذة:

أليست رائعة؟ -

فأجابتها وهي تلتفت نحوها مصعوقة -

- رائعة جداً، ولكن غالية الثمن"

وحين اقترحت فرجين ان تعيرها فستاناً لمناسبة زفافها -

ردت عليها جواهر -

"من أين لك ذلك؟ هل تزوجت سابقا وتطلقت؟"

- انه ثوب زفاف والدتي! لقد أرادت أن ارتديه عند زفافي ايضا"

ومن ذلك الوقت لم تترك فرجين كانتا متلازمتان دائماً.. غير ان الموت فرقهما فقد ماتت فرجين من اثر شظية طائشة اصابتها وهي تنتظر الباص الذي يقلها الى عملها..

جواهر، التي تتعرض لاعتداء بعض الاغراب عليها، بعد ان يطلب منها احد اصدقاء زوجها اثناء تواجدها في النادي الذي يجلسون فيه مع زوجاتهم. وبسبب الغيرة التي يثيرها جمال جواهر بين تلك النسوة، يطلب منها هذا الصديق ان تذهب الى عنوان معين لايجاد عمل لها. غير ان هذا الموعد لم يكن الا مكيدة: "فتسرب الى روحك شعور خافق بالقلق، وساورتك الشكوك من جديد، وبزغ في ذهنك على الفور، الطبيب ذو الكارت الأخضر وزوجته الساحرة "ثريا" والمشاورات والمنادسات التي جرت في السر واكتشفتها بعفوية بالغة، وفكرت بالهروب، إذ تصورت انهم قادوها الى مؤسسة مشبوهة او وهمية او غامضة المرامي والاهداف". (ص89).

"حين افقتِ بعد فترة، وعاد اليك الوعي تدريجياً، لم يتسرب في قاع ذاكرتك ما حدث بوضوح كامل. كان يتوزع على المقاعد الجلدية في الغرفة المستطيلة الواسعة، ثلاثة من الرجال، راحوا يتصايحون مع بعضهم البعض بأصوات عالية ولهجة غريبة عليك، فعرفت بأنهم غرباء" (ص92).

وعند المنعطف الأخير، القريب من المتنزه، والذي يمثل نهاية القوس الساحل والذي يقودها الى البيت مباشرة، اكتشفت بان الانارة في الشارع منعدمة، وعتمة الغروب شديدة؛ وأرادت تخفيف سرعتها والتريث في الجزرة الوسطية الهلالية قبل العبور الى الجهة الثانية من الشارع، لكنها لم تتمكن من ذلك، فقد ظل انعدام الاحساس وفقدان الشعور بالاشياء يلازمانها حتى اللحظة التي برزت امامها من شارع المتنزه المعاكس، شاحنة هائلة صفراء ذات هيكل ثلاثي واطارات لا حصر لها، واخذت تستدير معها كلما استدارت،.. وكانت نبوأتها، اللحاق بفرجين عما قريب، تكاد تتحقق الآن وهي ترتطم وتتهشم وتنسحق ويسكت صياح روحها العاوي الحزين الى الأبد". ص136.

لغة الرواية رائعة، لكن المؤلف عمد (وانا اتصور انه متعمد في ذلك!) الى استعمال بعض الكلمات الغريبة والدارجة في اللغة المحلية، وكانت تشكل نقطة ضعف في لغة الرواية التي كانت رائعة في سياقاتها اللغوية ومثل هذه الكلمات: "المطرطر، تبطبط، الفلكة، عافته، المنخب، فنترتها، مكاراة، تلم، تطلطل" وكان من المستحسن عدم استعمالها لانها لم تضيف للغة الرواية شيئاً جديداً. كذلك هناك افراط في استعمال اقواس التنصيص (") ووضعها في غير مكانها المناسب!

تتألف الرواية من 12 مقطعاً بعناوين مؤلمة، تصور الضياع الذي كانت تعيشه بطلة الرواية جواهر، لكن البعض من هذه العناوين لم توضع في مكانها المناسب مثل (انني آتية لاريب)، الذي كان من المفروض ان يوضع في أخير مقطع من الرواية والذي تنتهي فيه حياة البطلة!

***

قراء: يوسف علوان

.......................

* سيف يهوذا رواية للكاتب فاروق السامر صدرت عن دار تموز للطباعة والنشر والتوزيع / 2013 من القطع المتوسط بـ138 صفحة

صدر عن دار الساقي لعام 2022م للروائية الكويتية عائشة عدنان المحمود روايتها الموسومة (عباءة غنيمة) بواقع (224) صفحة من الحجم المتوسط، وتصدرت الرواية قائمة الستين للأعمال المشاركة في الدورة التاسعة لمؤسسة (جائزة كتارا للرواية العربية).

تمثل الرواية واقع حال الشباب الكويتي من العام 1948م وصولاً إلى عام 1990م، لا سيما هي الحقبة الزمنية بين تاريخ الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين وتاريخ الغزو للجيش العراقي للكويت يوم 2 آب 1990، حين استيقظ ابناء الشعب الكويتي عن مشهد منكسر لأحلام الشباب الحامل العروبة سمات الهشة، فيروا جيشاً عربياً لدولة جارة تحتل بلادهم، وهم كانوا في نشوة الحماس للعروبة والمبادئ العليا، كانوا يعتقدون أن هذا الجيش سيحمي أرض وشعب بلدهم في حال تعرض بلدهم إلى أي غاصب.

جعلت الروائية المحمود في هذه الرواية تاريخ السقوط الحتمي والساذج لما يحمل البعض من الشعور العروبي والحسرة اما حصل لهم، فوضعت الروائية شخصياتها في مواجهة القدار، فكانت عباءة الأقدار تحمل (الغنيمة، الهزيمة، الجهل، السذاجة)، كما أن الجهل وطيش الشخصيات بالحب، حب الزوجة أو حب الأشياء كان قد احالهم إلى السقوط والهزيمة وتداعي الذاكرة، فكان السرد من خلال روايتها قد افصحت عن شعور الصراع ومحطات الصفو ومحادثات الذات مع الذات، مما اتاح للقارئ الكريم أن يدنو من أزمنة الخوف للعائلة الكويتية التي تتكون من الشخصية الرئيسية كما ذكرنا فيصل الأبن الأصغر لغازي، وبدور وشيخة والأم مريم والجدة مزنة، ثم الزوجة الثانية أمينة وابنتها سها، لا سيما أن فيصل ابن غازي من الزوجة الأولى كان يحمل الهم العروبي، وقد سلطت الروائية الضوء على هذه الشخصية ليرى القارئ تهاوي احلامه من خلال الخديعة، خديعة الحب لشخصية (لين)، وخديعة العربي في القرن الماضي، الذي تشبع بنهد القومية المفرطة والشعارات الحماسية للجامعة العربية في التجمعات الجماهيرية، وفي الختام ادرك فيصل أنه كانت هناك غشاوة على بصره وبصيرته ضمن جوقة العميان، ضمن هزيمة الإنسان العربي المتكررة.

هكذا يمكن لنا أن نطل على رواية المحمود (عباءة غنيمة) من التوتر الدلالي لدى القارئ المفاجئ  أثناء القراءة بدهشة الصياغة السردية والرؤية الضدية التي تنتج من خلال ما حدث. فالرواية تشكل بفضاءها الدلالي لولادة شخصيتها.

الرواية تسلط الضوء على أسرة كويتية تسكن (الفريج) ويبدأ فيصل بسرد الحداث بتاريخ مفصلي معين، ثم الصدمة في الرواية تاريخ ميلاد فيصب يوم 15 آب 1948 وهو تاريخ نكبة احتلال فلسطين. فأهتمت الروائية بالبنية التاريخية للرواية بين آب 1948 وآب 1990، أي بين تاريخ احتلالين، نكبة فلسطين ونكبة الكويت، أي الزمن الماضوي المستمر الذي لم ينقطع، فضلاً عن بسط الأحداث التاريخية العربية بشكل عام، وعرض التحولات التاريخية للزمكان وسيرته، وسرد التحولات الشخصية للبطل والتركيز على الأمكنة بين الوطن الكويت وبيروت والقاهرة وباريس، وهو يصب في التوتر السردي من التنقل بين لحظة زمنية إلى لحظة أخرى، لذلك نجد الروائية بدأت بولادة البطل فيصل وانتهت برحيله. أما فصول الرواية فهي ثلاثة تتخللها احداث اجتماعية وعاطفية رومانتيكية واقعية.

جاء الفصل الأول بعنوان (شهقة بداية) واستهل الفصل بعنوان (مدينة قاصية) وتنقلت الروائية من الفصل الأول إلى عنوان آخر (سواد) وهو يؤرخ يوم 2 آب 1990، وبعدها تبدأ الذاكرة بالعودة لاسترجاع الحياة الأولى لعام 1948م، فالتواريخ لها دلالاتها إذ ترتبط بالتاريخ العربي والعدوان الثلاثي على مصر واستقلال الكويت.

فالروائية بعض الأحيان تعود للانتماء لفن السيرة الذاتية، هكذا فهمت من خلال الرواية، وقد أكون مخطأ، فضلاً عن أني لم اعرف الروائية عائشة المحمود شخصياً، لكن لكي اقرر بدقة أصبحت اعرفها من خلال روايتها (عباءة غنيمة)، فضلاً عن انها كروائية جمعت بيت الجمع الروائي والسيرة الذاتية.

ولا ننسى من خلال البحث عن روايات الروائية عائشة المحمود وجدت أن لها عدة روايات ومنها:

1-  آخر انذار، صادرة عن الدار العربية للعلوم- ناشرون عام 2014م.

2-  في حضرة السيد فوجي سان- مشاهدات سائحة في اليابان، صادرة عن دار نوفا عام 2016م.

3-  وطن مزور... وطن البن والحناء، صادرة عن دار سؤال عام 2018م.

4-  عباءة غنيمة، صادرة عن دار الساقي عام 2022م.

ولها تحت الطبع:

1-  كتاب متخصص في نقد الدراما التلفزيونية.

2-  عابرون، مجموعة قصصية.

3-  هوامش على خارطة السفر.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

العراق/ الحلة/ 23 آب 2023

لاغرابة إنْ كان الشعر البوّابة الكبرى لولوج العالم الرحيب للأدب الإبداعي بكل مجالاته لجلّ المبدعين الذين كتبوه أو أحبوا سماعه وقراءته؛ مادام الشعر الحقيقيّ مغامرة لإقتحام العوالم اللامطروقة واللامرئيّة، بل حتى الهلاميّة التكوين في أعماق خالقيه، ولاعجب إذا لمْ يفقه الفقهاء مدياته وأسراره،وإذا عجز العلماء عن حصر أبعاده وأعماقه بقوانينهم الرياضية واستقصاءاتهم الفيزياويّة ومعادلاتهم الكيمياويّة، شأنهم شأن الضالعين في نشدان الميتافيزيقيا...

أجل..لأن الصور الشعرية تجسّد إستلهام الشاعر للأصوات الخفيّة الموسوسة في أذنيه، والجمل والعبارات شبه الطلسميّة الآتية من مجاهيل الكون الأكبر وأغوار روحه، حيث تندسّ في قلبه ووجدانه وعقله؛ فتسومه سوء العذاب مؤرّقةً إيّاه في آناء الليل والنهار، لاتغمض له عين ويقرّ له قرار إلاّ إذا باحت بها ألسنة قصائده، مهما كلّفه البوح من عسف و قمع ونبذ...لاسيّما إذا كان شاعر حبّ بمعناه الإنساني الرحيب والعميق ، ومناهضاً للحرب بشتى صنوفها ومشتقاتها مثل شاعرنا جلال زنكَابادي (1/12/1951- كردستان العراق) والذي إلتقيته عبر قصائد مجموعته (ها هي معجزتي!) لقاءً تعجز الكلمات عن وصفه؛ فمددت يدي الملهوفة من قطبنا الشماليّ المنجمد عبر الأثير لأصافحه بحرارة لهيب بابا كَركَر مكبّراً فيه مبدعاً دؤوباً صموتاً منتبذاً خلوته الزاخرة بكنوز الرؤى ، منذ أن إندلعت نار الشعر في روحه ذات يوم من أيّام مطلع 1963 عام ابتلاء بلاد الرافدين بوباء الفكر القومي السلبي من العفلقيين وامثالهم، اقول  منذئذ ذاك اليوم راح شاعرنا اليافع يحلّق بين الأرض والسماء ملاحقاً معشوقته الحلميّة ؛ ليضفر جدائلها ويهنأ هنيهات في حضن حنوها .ولكن قارئي العزيز وتحت ظروف النظام الفاشي لمْ يبق لشاعرنا إلاّ أنْ يتعزّى بعدّ النجوم ويستأنس في ليالي السّهاد المديدة بلمعانها القصيّ  مناجياً معشوقته المكبّلة محرّضاً إيّاها في قصيدة مؤرّخة بـ (1965):

" تمرّدي

تمرّدي

مثل السّكارى

عربدي

.........................

...........................ِ

يا حلمَ ماضيّ، حاضري وغدي

يحسدُكِ النّصارى والإسلامُ في تعبّدي!

فلْـتدركي تودّدي

ولْتنبذي تشرّدي

هيّا بنا نمتزجُ في ألذ آياتِ التوحّدِ"

لكنْ هيهات أن تستجيب فارسة أحلامه الأسيرة وراء قضبان التقاليد البالية؛ فيحثه صمتها على التساؤل في(1966):

" حتى مَ

أحلم  بحوارنا المنتظر:

- أين أنا؟

- في نبضي الملهوف

- وأين نبضك؟

- في قلبك/هودجي

- مرحى

ما ألذّ تيهي

في روحك/كهفي؟!"

إلاّ أنّ نداءات هذه القصيدة وشقيقاتها الأخرى تظلّ بلا صدى من قلب معشوقة مجبولة بالخيال تتراءى في رؤيا شاعرنا الفتى، حتى أوائل سبعينات القرن الماضي؛ إذ تظهر فارسة أحلامه ملفعة سمات البحر في قصيدته ( يا لك من بحر!/1972):

" لابحر

في كردستان

ولي بحار!

فوقتي

بحرٌ من القارِ

وعشقيِ

بحرٌ بلاضفاف

بلْ قدري أنْ تكوني بحري الأعمق من البحرِ

فيا لكما من صنوين

في الجمال، المكر، البخل والإختيال

إذْ طالما يهتاج كغوره  قلبكِ

ويغضب كوجهه وجهكِ...

كمثله تتلقّـفين... ولاتمنحين بيسر!

ياه!

ما أخطرك!

لكَمْ يروّعني وسعك، عمقك وتصخابكِ !

أيتها الزاخرة بالكنوز والأهوال!

يا منْ اختطفَ سحرُكِ القرصان قلبي الغرير

وراح يمزّقه

شـ

ذ

ر         مـ

ذ          ر

وكل ذنبه عشقك الأخطر من الخطر!

فحتّى مَ يظلّ قلبي المسحور

يغرق في أغوارك ظمآناً

أما تشهدينه يغطّ

يستغيثُ:

" وكيف منجايَ وقد حفّ بي

بحرُ هوىً ليس له شطُّ؟!" *

بيت ممّا غنّته جارية حسب(أمالي الزجّاجي).

إذنْ فقد بزغت في قصائد الشاعر زنكَابادي معشوقة واقعيّة  سرمدية من لحم ودم وأعصاب ومعاناة وطموحات، حيث حصل بينهما إصطفاء متبادل قائم على التكافؤ بكلّ أبعاده العاطفيّة والفكريّة والإجتماعيّة ؛ فتبتديء قصة حبّ حقيقيّة تحيق بها الظروف اللامؤاتيّة؛ فتشوبها العذابات والأوجاع والمكابدات المريرة رهن (ديجور الإغتراب) بأجوائه المضادّة للحب، من حرب الإنسان ضدّ نفسه وضدّ أخيه الإنسان، حتى الحروب والخصام مابين القوميّات والعقائد الدينيّة والمذاهب والطبقات والأحزاب، ففي قصيدته (ماوراء الأحلام/1974) يقول:

" مابرحتُ عنكِ

أبحث

ماوراء سبعة بحار

وأنـــــت في

روحي!

لم تزلي

تبحثين عنّـي

ماوراء سبعة جبال

وأنا

في قلبكِ!

فمتى

ســـــــــــــــــتجدنا

هذه القصيدة في حضنها

ماوراء الأحــــــــــــــــــلام

وتنيرُ ديجورَ اغترابنا المستديم

في الأقاليم السبعة

وتكونين عروسَ لياليَّ وأصباحي؟!

وبعدها يتضح لنا بترميز حروفيّ اسما العاشق والمعشوقة (ج ، خ) وعلى مسرح قصّة حبّهما وهو ضفاف نهرسيروان (ديالى) في قصيدة (هيولى حرفين/1974):

" ظلَّ حرفا الـ (ح) والـ (ب)

مـ          فـ          تـ        ر       قـ        يـ    ن

آلاف السّـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــنين

حـتّـى اسـتحال قلبُـكِ

تحت الـ (ح) نقطةً

وقلبي فوقه نقطةً

و تحت الـ (ب) اندمجت النقطتان

ثمَّ راحت هيولى الإســــــــــــمين

تـجـهـــــــرُ بكلِّ الّلـغاتِ:

- ها قد إكتملت

دائرةُ نـــــورِ الحبِّ

كعناقِ الشَّـرقِ والغــــربِ

وتســـــرمدت؛

لِيَـــتَـبَـدَّد ســــــلطانُ الـزَّمان

فـــــطوبى لـمـلحــمةِ حرفينِ

على ضـــفافِ(ســــيروان) "

ثمّ راحت قصائد شاعرنا تتخذ كياناً ومساراً إنسانيّين، شأنه شأن الشعراء: لويس آراغون، ناظم حكمت وعبدالوهّاب البياتي، حيث تمتزج ثيمة الحبّ مع الهموم والشجون البشريّة، وتستحيل الحبيبة رمزاً للبلاد والثورة والحريّة والجمال وتصبح قصيدة الحبّ قصيدة مقاومة حافلة بهجو واقع الإغتراب والإستلاب والحلم بالثورة المغيّرة في آن واحد، فلنرَ في قصيدة (وردتي المستحيلة) بأيّ طريقة تصويريّة ترميزيّة وتناصيّة يجيب الشاعر عن تساؤل حبيبته:

" * حسناً .. إنّما أينَ ولو رسالة ....؟!

ومنذا كانَ سيحملها؛

فهدهدي قد شَنَقتهُ الفاشيّة

والريحُ تتيـــــــــــــــــه

والغيومُ تمطرُ متلاشيةً

والبلابلُ تغارُ منّي؟!"

ثمّ يطالعنا الحوار الآتي؛ لمّا تتساءل حبيبته:

" * ألم ترَ كيفَ شابت ذوائبك في غيابك عنّي ؟

بلى؛ مادام غبارُ الفاشيةِ يطغى" ..

ومن ثمّ  يتفرّد خطابه الشعري مغايراً للسّائد المألوف في محتواه و مبناه كليهما. حيث يقول انك تلتمّس في شعري تضاريس مختلفة جدّاً عن خطابات مشاهير شعراء الحب القدامى والمحدثين؛ فالشاعر الأشهر نزار قبّاني (مثلاً) يخاطب خطاباً إغوائيّاً نسوة كثيرات عابرات عديمات الملامح فكلّ واحدة منهنّ في عرف قبّاني مجرّد أنثى مشتهاة لتنضاف كرقم إلى قائمة المدجنات ؛ فيعنى بوصف مظهرها من أزياء و عطور وأصباغ شفاه..ولايني يصدر إليها أوامره الذكوريّة السّلطانيّة، بل يتهدّدها ويتوعّدها بالويل والثبور؛ إذا لمْ تستجب لنزواته، كجارية من جواريه العديدات، ومع ذلك عدّه (النقّاد الأفذاذ!) شاعراً محرّراً للمرأة وهو في الحقيقة داعية لتحريضها على الإنفلات الغرائزي البهيميّ حتى يتيسّر استغلالها واستعبادها من بعد!

في حين نرى ان شاعرنا الكردي زنكَابادي يخاطب حبيبته بصفتها إنسانة مساوية للرجل في كلّ شيء، وليست مجرّد أنثى مشتهاة، فيخاطبها بخطاب مختلف في أغلب قصائده، ومنها (يا أجمل من الجمال!/ 1984) وشتّان ما بين خطابيّ الشاعرين:

" ماكنت حلماً ماوراء الآفاق ولا

ملاكاً مافوق السماء

إنك لمجبولة بحقائق الدم/الثرى

لاقامة البان عندك،لا

الشعر الحريريّ،لا

عيون الغزلان،لا

شفاه من الياقوت،لا

أسنان من الدرّ،لا

حظوة،لا

عقارات ولا

أرصدة؛ لذا

فقد إصطفتك روحي

خابية للعسل الأزليّ لسنا الصلصال لخمرة اليقين المحال

أنّـى تميسي في عروق أشعاري

مبهمة كأوج الموت

تطفحين

بجوهر النار بزهو نخيل (خانقين)، بجموح الذرى،

بغرابة غابة عذراء،

بحكمة القلب، بسورات الصعلكة، بصبوة فراشة حرونة،

بكبرياء الدمع وبسالة الغجر؛

فتومض روحك التي إصطفتني

شامخة خلل اليباب تنوء بأوجاع الغرباء اللامرئيين

وتباريح وهواجس وأحلام شعب أجمل من الجمال!"

وفي القصيدة نفسها يرصد الشاعر زنكَابادي غياب الحبّ الحقيقيّ رغم شيوع المزيد من المظاهر الزائفة الخدّاعة ، والتي يستنكرها ويدينها على لسان العشق الحقيقيّ المتمرّد الرافض لواقع العهر والعسف الممارس ضد العشّاق الحقيقيين تحت وطأة الكابوس الفاشي:

" أوقفنا العشق  في موقف الزيف

وخاطبنا:

- أمن أجل الجثث الفاتنة الفريدة

أم أشباحها العجفاء

كل هذي الأغاني اللافحة كل هذي الحكايا المؤججة

كل هذي الأشعار المحتدمة

كل هذي الرقصات العاتية

وكل هذي الأنبذة الساطعة بينما

تسمل أرواح العشاق الفقراء

على مرأى ومسمع من العنادل،الأشجار،الفراشات والأنهار؟!

فلتبددا عن الروح كل غشاوة كي تنتزعا

من محارتها لؤلؤة الحب وإكسير اللافناء

وتكونا ملتحمين كاللام والألف

في صرخة الـ (لا) "

ولنرَ بأيّ عمق وشفّافيّة يستحضر ويجسّد شاعرنا مشهداً إيروتيكيّاً إنسانيّاً مغايراً جدّاً لأغلب الشعراء والكتّاب المأسورين داخل دائرة حيونة الإيروتيكيّة، والعاجزين عن بلوغ السموّ بها سموّاً إنسانيّاً:

" وكان أن إقتحمنا  برزخ الخوف والحيرة

وامتزجنا كالماء والخمرة

نمحو(الواو) مابيننا ومابين الصحو والسكرة

بلغة مشبوبة الأبجدية/التخوم تغار منّا

حتى الأحرف المشددة

كلما نسرِ في لحظة مباركة فوق الأبد

تدوس جثة الزمن/ تترى فيها أبهى المواسم

يوحدنا سطوع عنفوانها الفسيح كعناق الـ (سين) والـ (جيم)

يدثرنا لظى جسدينا الشفّافين كانعتاق الأفق ينفضان

عن المستقبل غبار العصور المهلهلة

والحكم البائدة والقصائد الخؤونة حتى

يستئصلا زمهرير الدساتير/ يختزلا العمر  في لحظة مارقة

تعصف بعسف الخرائط والتقاويم لحظتئذ

نشيّد ملكوت الوصل رحيباً كعين الله

عميقاً كمرآة الجنون ضاجاً كالنحل

دان كالثريا/ ناء كسرير(بروكروست) حتى

نشهد الفجر حتى في روح الليل ناثراً شقائقه المقموعة

ثم لن تتحلّقنا الوجوهُ  جماجم مطفأة بعيون منخورة! "

إلاّ أنّ خطر الفاشيّة يحيق بمباهج ملكوت هذا العشق ، فلايلبث أن ينقض النسر على قلب المعشوقة التي لعبت دور بروميثيوس، ولكنّ روح المقاومة لن تندحر وتظلّ متأجّجة، ومع ذلك يتأسّى الشاعر لغياب الشهود الحقيقيين:

"   .........واملكوتاه!

واملكوتاه!

واملكوتاه!

ماانفك النسرُ ينقضّ على قلبك المليح

مادمت إنتزعت نار الحبّ...وها أنذا

أنحني كالخنجر و(الراء)

مابين النار والرمضاء

وذا هو غيابك الأقسى من اللاجدوى

مدية تتخبّط في قلبي فتغشى عينيّ غمامةٌ شعواء

كشقاء معلّميّ الأرياف المجهولة يستبيحني النشيج حتى

تستحيل روحي دمعة وآهة لكنما

تظل قصائدي المستميتة تتشبّث بمدى صوتك الأرجوانيّ

كـ

يد الغـ

ر

يق

في الر

مق ال

أخ

ير

يا أقرب من قلبي

يا أبعــــــــــــــــــــــد من نجمة

مهما

ترمّدت شموسنا،مهما

تحجّرت رياحنا،مهما

توحّلت مرايانا،مهما

تعربد الرساميل والسرابيل،مهما

يتناهشنا زعيق الديسكو،مهما

نرسف في الزمن الجذام

لعلّ شفرة الحقيقة تنهض من أفق صلباني

للروح أبجدية جديدة تجتاز أهوال العشق

لئلاّ نظل محض هوام وديدان

يستحيل قلبانا مومياءين نظلَّ نستغيث بالمحال

وتخذلنا اللغة المهذارة

فأيّ رعبٍ

حيث تزهق أظلاف حرائر(الستربتيز) النسوة الفارهات،البغايا المصونات،

حمأة الفنادق المعصومة والطقوس الشمطاء

روحينا الغريبتين في يوتوبيا العميان

بل ما أرعب إذ الشهود

صمٌّ

بكمٌ

عميان

وشعارير خصيان!"

ولكنْ حتى لو استطاعت الأنظمة الفاشية أينما تواجدت ان تحطّم العشاق الحقيقيين (وهم عشاق الوطن في الوقت نفسه) تبقى  دوما عاجزةً عن دحرهم، أي ليس في مقدور تلك الأنظمة  أن تهزم أرواحهم وتقضي على مبادئهم، ولقد طرح المبدع العظيم ارنست همنجواي  مثل هذه الثيمة في روايته الرائعة (الشيخ والبحر) وعندها يتناهى إلى أسماعنا صوت العاشق المقاوم راسماً مشهد الخلود الحقيقيّ المتاح للإنسان بصفته كائناً غير خالد جسديّاً:

" يامَنْ  ألفت خطاكِ دربي الذي

ليس متاهة

إنّـا اجترحنا معجزة الطين الذي

طالما يلتهب في الإشراقة القصوى

ويخبو، لكنما اللهيبُ

يتسرمد في أحشاء هذه القصيدة

فآه لو أن شهاب اللحظة الساطعة

يتأبّد قاهراً ديجور الأبد

وإذ العشق لايخون

سنكون

حيث لايفنى الجسد،

لاتتعفّن الروح

يا أجمل من الجمال حتى الأبد!"

وهكذا يسترسل شاعرنا جلال زنكَابادي ويقول بينما يطرح أغلب الشعراء والشواعر والكتاب والكاتبات (من دعاة تحرير المرأة! وهم في الحقيقة دعاة تعهيرها وتسليعها واستعبادها) بهوس شبه سعاري يطرحون دعاوى الإيروتيكيّة القاهرة لماهيّة الإنسان ومنها حرّيّة حيونة ممارسته للجنس ، بل وقوننة شواذ اللواطة والسحاق، وكلّها يؤدّي إلى دمار الجنس البشري وضياعه بسبب التفكك العائلي والإنحطاط الإجتماعي والأمراض الفتاكة الناتجة عن الإنفلات الجنسي الميكانيكي الذي يخلو من أيّ ضوابط ، بل من أيّ عاطفة وفكر إنسانيين، ولنا المثل السّاطع في الغرب(المتقدّم المتحرر!) نجد شاعرنا جلال زنكَابادي يتفرّد في خضم هذه اللجة بطرح إيروتيكيّة مغايرة تنطوي على القيم الإنسانيّة التي تسمو بالإنسان على أرومته الحيوانيّة، في العشرات من القصائد، حيث تحققت في آن واحد معجزته( البسيطة جدّاً /المعضلة جدّاً) لكونها مستندة إلى جوهر المساواة الحقيقيّة بين الرجل والمرأة، لا إلى القشور التي يتشدّق بها ذوو الشعارات البرّاقة في هذا المضمار، و ها هو في قصيدته(حلم لايذوي/1975) يتقشّف حدّ الإكتفاء بالحلم الطازج المؤبّد المسعد حتى أكثر من (المسيس/ النيك) ويقصد الشاعر الممارسة العابرة للجنس:

" أما تشهدينَ قلبي العفريتَ جارحَ الأشواكِ، كيف

تجرحُهُ  وردتُـكِ  بطيشِ كنوزِها، يناجيكِ:

-ما أسعدني إنْ تهبيني حلماً،لا

نظرة

نظرةً،لا

بسمة

بسمةً،لا

وردة

وردةً،لا

قبلة

قبلةً،لا

عناقاً

عناقاً،لا

مسيساً.......!

فماءُ يمّكِ  يعطّشني أكثرَ من أكثر،إنّما

لاأسعدَ منّا إنْ إستحالَ حلمُنا

في بحبوحةِ المستقبلِ كوكباً لايذوي!"

قارئي الكريم لانبالغ ولانجافي الحقيقة؛ إن قلنا بأنّ كلّ قصيدة من القصائد الإحدى والستين، التي تضمّها  المجموعة الشعرية (ها هي معجزتي!) المكتوبة خلال السنوات الأربعين(1965-2005) تستحقّ مقالة أو دراسة مستقلّة، ولكني أتساءل مع الشاعر  أين النقّاد الحقيقيّون المنصفون؟! فهذه المجموعة المعجزة حقاً لمْ تحظ (حسب متابعتي واطلاعي واستفسلري من الشاعر نفسه) بسوى عرض خبري للشاعر حسين علي يونس في جريدة (الإتحاد) الغرّاء (العدد2261 الأحد 8/11/2009) رغم صدور الديوان عن(دار الجمل) منذ مطلع صيف 2009.

ها هنا يعزي الشاعر الأسباب الموجبة لذلك قائلا:  ولاعجب في ذلك؛ مادام(نقادنا!) منشغلين بالإنحيازات الإخوانيّة والمحاباة والنفاق لكسب ودّ وعطايا ذوي المناصب والنفوذ و رضا الشواعر الدلّوعات عارضات الأزياء والكاشفات عن أوسع مساحة من مفاتهنّ الجسديّة. فنراهم يدبجون المقالات والدراسات عن هذا (الإمبراطور العاري) أو تلك(الإمبراطورة العارية).

بينما يتم تجاهل مثل هذه المجموعة الفريدة،التي تؤسس فعلاً أسلوبا لشعريّة جديدة، لاسيّما في المجال الإيروتيكيّ(الصوفيّ الحسّي) بثيماتها الإنسانيّة ولغتها وإزاحاتها الدلاليّة وصورها الشعريّة وطابوغرافيّة كلماتها على الصفحات وتدويراتها ودراميّتها وتناصاتها وبلاغتها الجديدة ووو...

وفي هذا الزمن العصيب الذي تشهده بلاد الرافدين؛ ولاغرو في ذلك، فالشاعر جلال زنكَابادي العصاميّ النشأة والموسوعيّ الثقافة النادر المثيل في مشاهد الثقافات المعاصرة، فهو متعدد الأوجه أدبيّاً(شاعر، مترجم وناقد وباحث) بل قاريء نهم لعيون الشعر العالمي ببضع لغات شرقيّة وغربيّة.

لعلّ خير مانختتم به هذه المقالة التعريفيّة بهذه المجموعة الشعريّة هو أوّلاً: إهداؤه المؤثر جدّاً والشبيه بقصيدة نثر في حدّ ذاته: " إليك يا نِعْم الحبيبة، الصديقة، الرفيقة، الحليلة، الأخت والأم؛ فلولاك لما أدركتُ رحموتَ الحبّ في رهبوتِ الصّلبان المعقوفة وأهوال الحروب والإحترابات، ولما صمدتُ وقاومت؛ بلْ  لما كانت هذه القصائد وغيرها...وأنتَ "يا مانح الحكمة للتراب"*أمن العدل والإنصاف أن تجازيها بالسرطان؟!(*للشاعر الهندي خسرو دهلوي، بتصرّف)

وثانياً: (برولوغ المجموعة) أي قصيدة(هـــــــــــــــــاهيَ معجــــزتي!/2005) والتي تعدّ مع (صوى= 13بيتاً مقتبساً من شعراء أغلبهم من المتصوّفة) بمثابة مانيفستو فلسفة الحب عند شاعرنا زنكَابادي،الذي يطرح معجزته كإنسان بسيط عاشق(بلا معجزات وكرامات منسوبة إلى الأنبياء والأولياء..) في زمن الحرب والدمار، ونكتشف أنّ معجزته الحقيقيية في نهاية المطاف ما هي إلاّ حبّه ومعشوقته الإنسانة النوعيّة:

" أبــــــــــداً لمْ

أشـــــــــــــعوذْ، لـمْ

أســــــــــحرْ، لمْ

أكشــــــف الغــــــيوبَ، لمْ

أمــــــــشِ على الـمـاءِ، لمْ

أحـلّـــقْ

في الهـــــواءِ، لمْ

ينبــــثقْ

من موطيء قـدمي نبـعٌ، لمْ

أســـتمطر الحــلوى في الصّــــحراءِ، لمْ

تنـطوِ أكنـــــافُ الأرضِ لــــي؛

كي أجــــوبَ الـمشـــــرقين والـمغــربينْ

في طرفــةِ عين، لمْ

يســـــتحل الـرّمــــلُ في كفَّيَّ

دنانــــــيرَ، لمْ

تـخاطــــبـني الـوحوشُ والطّـــيورُ، لمْ

يتناثر الحديدُ عـن ســـــاقيّ

كالـعجــــينِ، لــــمْ

يشـــــع الـنّــــورُ

من أطــــرافِ أناملـي، لـمْ

أسخّر الجان والغيلان، ولم

تبعثْ نفخـتي ولو نحلةً ميِّتة، إنّـــــــما

عشـــــــقتكِ ليــــــسَ إلاّ؛

فاســـــــتحلتُ

قلباً يحتـضـــــنُ كلّ الكـــــون،

يقارع الصّـــــلبانَ الـمعقوفة؛

حـتّـى تـرنّــمتْ قـلـــوبُ الـعشّــــاقِ الآتين

بملـحمــةِ أحلامي:

طــوبى لـمعشـــــوقتكَ الـمــــعجزة؛

إذْ إجتثّتْ معك (ر) الحربِ.."

فكمْ يا ترى قارئي الكريم ستدفع البشريّة من تضحيات جسيمة؛ حتى تجتثّ (ر) (الحرب) ليعمّ الحبّ؟!!!

وعن تساؤلي الأخير: - " هل انتهت قصائد الحبّ لديك بنشر هذه المجموعة؟" أجابني قائلا:

" كلاّ ؛ فهذه المجموعة قد لاتتعدّى نصف قصائدي في الحب ( باللغتين الكردية والعربية) منذ بداياتي شبه الناضجة(1965) حتى الآن "

شكرا لشاعرنا الذي أخذنا في غفلة من الزمن الرديء الى سياحة وسفر عبر الكلمة الطيبة في روح الإنسان الخالد في كلمات المحبة والتسامح من اجل حياة كريمة خالية من الخصومات والمنازعات والحروب عالم تسوده محبة الإنسان لأخيه الإنسان تحت ظلال حب (الوطن) المعبود.

***

أجرى اللقاء: د. توفيق رفيق التونجي

.........................

أشارات:

ها هي معجزتي! جلال زنكَابادي

منشورات دار الجمل/ بيروت-بغداد، ط1/2009

1- الاستهلال: في اكثر الاحيان تستهل الرواية بمقدمة أو بافتتاحية تسمى "الاستهلال" للدخول إلى عالم احداثها. ويعد الاستهلال من أهم عتبات النص الموازي التي تساعد في الدخول الى عالم النص الأدبي، وهو من العناصر المهمة للبناء الفني، وبمثابة مدخل أساسي لولوج عالم الرواية الحكائي، ويرتبط به بعلاقة تواصلية حقيقية؛ كذلك يساهم في استكناه النص الروائي، ويهيئ القارئ للخوض في عوالم الرواية الخيالي. ولهذا الاستهلال صفات تشترط فيه توفر الجانب الفني واللغوي والفكري، وكذلك يشترط أن تكون البداية مثيرة وقوية لكي تتمكن من جذب القارئ للعيش في عالم الرواية المفترض، كذلك يمهد له الطريق إلى أسرار هذا العمل الداخلية!

في رواية "مصل الجمال - اولاد كلب" للروائي عبدالزهرة علي، يقودنا الاستهلال الذي ابتدأ فيه الكاتب روايته، في اول مقطع منها (الرواية تكونت من 28 مقطعاً) حالة المدينة التي تجري فيها احداث الرواية، وتلك المدينة هي انعكاس لما مر به العراق بعد احداث 2003، وما جلبت هذه الاحداث من مآسي وويلات، اضافة للعذاب الذي كان يعيشه العراقيين قبل هذه الاحداث من جوع وعوز، بسبب الحصار الذي فرضه المجتمع الدولي بعد دخول العراق الى الكويت، هذا الحصار الذي لم يعاني منه النظام ورجالاته، بل كان تأثيره كبيرا على حياة الناس البسطاء العاديين، الذين لم يمتلكوا كسرة الخبز، فلجأوا الى البحث في مواقع النفايات ليقتاتوا على ما توفره هذه القمامة التي كبرت وامتدت حتى صارت مجتمعا قائما بذاته، هذا الحصار الذي لم يكن تأثيره على الاقتصاد واستيراد الحاجات الضرورية للانسان فقط، بل أمتد ذلك التأثير على قيم واخلاق الناس، فتوحشت الناس فيه وبدأ القوي يأكل الضعيف، حتى تحول هؤلاء البشر الى حيوانات ضارية، تعتاش على اصطياد الفرصة لسرقة بعضها البعض. الجوع والحاجة هي التي حولت البعض من هذا المجتمع، الى عبارة عن كلاب، تتمسح باسيادها حتى تصل الى مبتغاها للاضرار بالآخرين. وكان الترميز في هذه الحالة، لاشباه الناس الذين نشهد في هذا الزمن صعودهم وتسلمهم دفة ادارة البلد، والتصرف بامور البلد بشكل فاضح غير عابئين بأحوال الناس، التي وصلت الى اسوأ مما كانت عليه في ايام الحصار.

بدأ الكاتب الاستهلال بوصفه للمزرعة، التي تمثل العراق، في احداث العام 2003، وحالة الجو التي كانت ترمز لما كان يعيشه البلد آنذاك. وقد استعار في وصفه للمطر الذي يرمز به دائما للخير والبركة، الى سببا لحالة الطرق الموحلة التي يصعب الخوض / السير فيها. راسماً صورة بائسة للشخصية/الرمز في الرواية (الكلب الرمادي) الذي اصبح بعد فترة من هذه الاحداث صاحب شأن، بعد استيلائه على بعض الاراضي من خلال تقربه من النافذين الجدد في البلد، واصبح بعد بيعه هذه الاراضي من الاغنياء. وقد استعان في هذا التصور الرمزي ببعض الحيوانات التي كانت تسكن هذه المزرعة/ العراق، مصورا لردة فعل تلك الحيوانات على دخول "الكلاب" والاستيلاء على كل شيء فيها ومن ثم تخريبها؛ فكانت "القرود" اكثر استعدادا لقبول هذا الاجتياح، ومع ان الجميع في المزرعة: "الابقار والمواشي والغزلان وبحيرة الاسماك" التي بقيت بدون حراسة بعد ان غادر رجالها/ القوات الأمنية والجيش: "تاركين اسلحتهم ومعداتهم في اماكنهم" هاربين والبعض منهم، والذين كانوا يوصفون بالاقوياء (هربوا بملابسهم الداخلية). لم يكن لتلك الحيوانات القدرة على مقاومة ذلك الاجتياح!

اراد استهلال الرواية الذي سطر على صفحات المقطع الاول من الرواية، ان يصور الحالة التي كانت تمر بها المزرعة/ العراق، في ذلك الوقت، وحالة الهلع التي اجتاحت حيواناتها، بعد رؤيتها لاعداد الكلاب الكبيرة الراكضة باتجاهها والتي تحاصرها: "يثبون راكضين في اللا اتجاه". هذه الصور التي يرسمها الكاتب لحالة الفوضى التي عاشها العراقيون، في ذلك الاجتياح الذي وقفوا امامه عاجزين عما يقررونه! فالخلاص من نظام البعث كان امل الجميع، بعد ما عاشوا تحت ظلم ذلك الحزب وبطش اجهزته القمعية، وتحملوا حروبه ومغامراته الصبيانية، لذلك كان موقف الشعب العراقي من احتلال العراق، هو ترقب ما الذي سيحصل بعد ذلك، وبالاخص ان الهدف المعلن لقوات الاحتلال كان هو تخليص العراق من حكم صدام.

تكلم الاستهلال عن المكان/ المزرعة، وتكلم عن الزمان/ ايام دخول القوات الامريكية العراق في العام 2003 ، وتكلم عن الاشخاص/ الكلاب، التي كانت تجري مسرعة لتأخذ حصصها، عندما حان موعد انتقامها كمجموعة من الانتهازيين: "اليوم وطئت قوائم كلاب غريبة مدينتنا والتي جاءت من اللامكان"(ص7). فهل ساهم هذا الاستهلال، الذي شغل المقطع الاول من الرواية، في استكناه النص الروائي وهيأ القارئ للخوض في معالم الرواية الخيالي؟ والدخول في عوالم احداث ما بعد 2003، التي ما زلنا نعيش وقع احداثها، وما جرته علينا من ويلات اضافة لما كنا نعاني في نظام صدام؟

الذين عاشوا هذه الاحداث سيكونون معنيين بالاستمرار بقراءتهم لهذه الاحداث، لان الشخوص التي ذكرها الاستهلال او اشار الى مرموزاتها؛ "الكلاب" و"القرود" و"الابقار" سيعرفها القارئ الذي عاش فترة ما قبل احداث 2003. اما الذين ولدوا بعد هذه الاحداث، وهم اليوم جيل الشباب فسوف تجذبهم غرابة احداث "المزرعة" وحيواناتها!

2- الفضاء الروائي:

يشكل الفضاء الروائي، الحيز الزماني الذي تظهر فيه الشخصيات واحداث الرواية، وهو ضروري للسرد لكي ينمو ويتسع، ويحتاج الى عناصر زمانية ومكانية، كذلك يرتبط بزمن السرد ويقيم صلات وثيقة مع باقي مكونات النص، وفي مقدمتها علاقته بالحدث الروائي والشخصيات التخيلية. بل يمكن القول إن الفضاء الروائي هو مجموع الأمكنة والأزمنة في الرواية، والمدى الذي تتحرك نحوه الرواية عبر الشخصيات والأحداث ومسارها، وهو العالم الواسع الذي يشمل مجموع تلك الاحداث فـ(مكب الازبال وبناية المستشفى التي لم تكتمل، وبيوت التجاوز التي شيدها المواطنون الذين لا يمتلكون سكنا في المدينة التي تدور فيها أحداث الرواية، وما يعانونه من جوع وحاجة، واعتمادهم على ما يلتقطونه من تلك النفايات من حاجات بسيطة، لا توفر لهم الا النزر البسيط من النقود التي يحتاجونها في حياتهم اليومية: "اسراب النسوة الملفعات بالسواد يبحثن في النفايات المرمية في الساحات الفارغة بين البيوت عن العلب الفارغة والقناني واسلاك النحاس، ثمة جيش من القطط والكلاب والذباب يزاحمهن في نبش القمامة.."(ص21) كل تلك الصور التي اجاد الكاتب تصويرها لنا، ليرسم صورة مطعمة بالعوز والفقر، لما هو حال هؤلاء الفقراء سكنة هذه البيوت المتجاوزة، التي لا يصح تسميتها "بيوت"، لان اكثر هذه البيوت لا تمتلك ابوابا لتستر ساكنيها فاستعانوا ببعض البطانيات وقطع القماش لتكون ابوابا لبيوتهم! ما هي الا صورة بائسة لحياتهم! مع ان هؤلاء المساكين، لم يسلموا من اذى النظام السابق وافعاله. مثل (المخبول) الذي تبين انه قد تم اعطائه حقنة أدت به الى هذا الجنون الذي يعيشه، بعد ان تم اعتقاله بضعة اشهر. وقد تكلم عن معتقلين كانوا معه في المعتقل: "اشخاص اعرفهم تاجروا بايام اعتقالهم وملأوا كل الجلسات فخرا بنضالهم، كنت اسمع صراخهم بنفسي، بكاءهم، توسلاتهم"(103). اصبحوا فيما بعد احداث 2003، من رجال السياسة والمتنفذين. وكذلك ثائر (الاخرس) الذي فقد القدرة على النطق مثل الآخرين، وكان يستعين بالكتابة لما يريد ان يقوله او يعبر عنه في ورقة لصعوبة نطقه! فزع عندما عرف ان الضيف الذي دعاه (جلاب) لزيارة المنطقة واقام احتفال لاستقباله، محشدا كل المتواطئين والمتزلفين لـه، هو الذي كان سببا في قطع لسانه، وانهما كانا زميلين يشتغلان في صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة عسكرية. وكان شاعرا فاشلا، بعد التغيير اصبح محللا سياسيا، لانه عرف اللعبة وهو مثل الكثيرين "باعوا انفسهم في الزمن الماضي والان يتصدرون المشهد، ذلك الرجل الذي سرق مخازن الدائرة وسجن. وهناك اصبح عينا للحراس وكثيرا ما وشى على العديد من رفاقه السجناء"(113).

وحكاية التاجر الذي اشترط على زوجته ان تبقي كلبه بعد موته ليعيش معها، وما يحدث لهذه الزوجة مع هذا الكلب. وثيمة الجينات التي تولد او تتكون من ممارسة بعض النسوة للعملية الجنسية مع تلك الكلاب، وولادتهن لاشخاص يتحولون في بعض الاوقات لكلاب، رغم غرابتها، لكن الكاتب اراد ان يرسم لنا صورة للانحطاط القيمي الذي وصلت له الأمور بعد احداث 2003، وتغيير تلك القيم التي تربى عليها المجتمع العراقي الى سلوك نقيضها، فالسرقة والتملق ونسيان العهود، حتى اصبح من السهل ادعاء الأمانة والصدق في تعاملات الناس، وادعاء العفة والصلاح من خلال ارتداء ملابس رجال الدين، رغم ان حقيقة هؤلاء هي الاحتيال والضحك على الناس البسطاء، والتغرير بهم؛ وهذا ما أجاد فعله الشخصية السيئة في الرواية (جلاب) الذي كان يرمز له الكاتب بـ "الكلب الاقرع" الذي سار مع المد الاسود بعد أحداث 2003، وتمظهره بالطهر وبنائه لجامع وادعائه بالتدين، بعد ان استولى واستحوذ على الكثير من اموال الناس والدولة، بعد تقربه من السياسيين الذين جاءوا بهذه الاخلاق واصبح ديدنهم هو الاستيلاء على كل ما يستطيعون الحصول عليه، بعد غياب القانون وتقوية سلطة المال والسلاح والقيم المنحرفة التي عملوا عليها!

الرواية دعوة لاصلاح الامور، التي تدهورت في البلد، من خلال اعادة القيم الحسنة التي اضاعها المجتمع، بسبب السياسة التي لا تعير القيم والاخلاق أهمية تذكر. والعودة الى قيمنا العريقة والاهتمام بنواحي الأدب والجمال والفن ورفض الافكار الغريبة التي تريد ارجاع البلد الى القيم التي امست بعيدة وغريبة عن مجتمعنا، قبل ان تدفعه السياسة الى حافة الهاوية.

***

قراءة : يوسف علوان

يُدفئ الصقيع بنهدات العشاق

ويحمل النحلة إلى ثغر القفير

كم داهمتني بنات النسيم وأنا أطلّ على حديقة الضوء في خميله. وكم  أسدلتِ الأقباس أكواباً من لدن خوابيه الموسومة بالعطر.

ليس بالأرياش يطير، ولا بشذى النسائم يسافر، ولا بغبار الضوء يعلو، بل يحلق بأجنحة من حجر، هو الشاعر الساحر الذي حوّل الحروف همساً رقيقاً وجنحاً مرفرفاً وآهاً أرقً من قبلة الندى.

إنه يحيى السماوي، بغنج قصائدة وعمق مواجده وعشق عصافيره المزرورة على مدّ الفصول.

ينثر البخور يعجنه خبزاً للشقائق وريقاً للعنادل.

هو الهديل المخضّب بالشوق والإنتظار، هو المكان الذي يغادر مكانه ليحترق في صفاء العاشقين.

هنا أبسط راحي، وهناك أشق صدري، وهنالك أكحل عيوني وأنا أعبر بساتين يحيى السماوي وأرتوي من نمير دلفته الرمضاء..

نحّات مجنون يغربل رماد الغيم ليزرع نثاره على أهداب بابل.

يكشف إزار القريحة، يعرّيها، يعلّقها مزاراً لأهل الفتون ويرود أقاليم القحط ليشفي ظمأ السنابل.

يدلفُ الى المحابر بريشة عبقري، يصلب العناوين محجاً لتبقى أقواسَ قزحٍ في سجل حضوره الذهبي.3659 yahya1

في الليل والنهار، في الفرح والألم، في القسوة واللين، في اللمس والصراخ، حلّقتُ معك يا صديقي بأجنحةٍ من حجر،  لأجدَها أخفَّ من رفة النسيم.

لا تتوانى النراجس عن إلتحاف رفيفك الريان: هناك يأسر الأفق خصال بنات الموج، وهناك تفرد الأسحار خيوطها على مرامح قصائدك العصماء.

وهناك تغزل عشتار جدائل النخيل ويبلل دجلة شفاه الفصول وتدلف النجيمات إلى هزيعها العاشق، وهناك يسبر يراع يحيى السماوي مناجم الحب على أبواب أوروك ويغرف من معين الحبق أسرار الشبق.

شاعر يسقي نجاواه من عطش الأقاح، يغرس ظلاله في غابات الدهشة و "يرعى إبلَ اللذة في سهوب الحضَر" ويغزل فساتين الفصول من جديل النراجس..ويدقّ أبواب العراق كلما لاحت سنونوة تبشّر بربيع الصابرين.

فارس ينسج بردته من عشب المسرّة ويلبس القفار عباءة خضراء.

يحيى السماوي ايها الجرح النازف بلسماً، يا ريق الغدير اللاهث خلف غزالة القلب في مرعى الحياة.

مع تفاحة الإثم الحلال، تثور شفار الظمأ في قوافيك وفي الطريق الى السماوة تلملم الشموس أحداقها، ويضرب الجنون موعداً مع آلهة سومر.

دعني يا صديقي أسكب أنفاسي و أغمر ما تبقّى في جداولك، دعني أسدل ستارة الغسق قبل أن يداهم الصبح حرمة الأحلام.

وحدك يا صديقي تؤم الصلاة في كل المواقيت، تؤنس الآلهة بصفو الكلام.. تتوضّأ الندى وتغرف من موائد النعم.

وحدك تهدي الشموع رقصة اليراعات، وتٌدفئ الصقيع بنهدات العشاق، والى فتيل قنديلك تهجع سكراتُ الهوى.

وحدك تحمل الفراشة الى عرش الورود، والنحلة الى ثغر القفير، لأنك وحدك تحلّق بأجنحة من حجر.

***

أنطوان القزي- رئيس تحرير "التلغراف"

سيدني / أستراليا

تلقي رواية (نزيف المسافات) الضوء على جريمة (التهجير القسري للكورد الفيليين)*، التي جرت أحداثها الرئيسة في محافظة ميسان – العراق. أما أحداثها الثانوية فتجري في بغداد، وتروى براويين: الأول: الأكاديمي الإداري (نوح فرحان عبد الله)، والثاني هو الراوي العليم. وأما الشخصيات الثانوية فتتقاسم الأدوار حسب أهميتها فشخصية المسؤول الأمني (سليم الخماش) يمثل السلطة القمعية بأجلى مظاهرها، وشخصية (سعيد) اليساري أنموذج للماركسي، و(سيناء سبتي) الفتاة التي يجد فيها نوح الزوجة المناسبة، و( عبد الهادي) القاضي النزيه الملتزم بالقانون، و(موسى الكيال) الثري الذي لم ينفعه غناه في وقف تهجيره، و(عاشور) المجنون، و(الشيخ المندائي) الذي يتنبأ بحلول (الطرقاعة) أي المصيبة التي ستحل بالبلد ويطلق عليها (دولاب) حسب تعبير (أم سعيد)، ويتحقق ذلك بنشوب الحرب العراقية الإيرانية.. كل هذه الشخصيات لها أدوار محددة، ومسارات تلتقي، وتبتعد عن مسار بطل الرواية. يجعل الكاتب سبباً معقولاً لمجيء نوح إلى بغداد لمرافقة أمه المريضة للعلاج في بغداد، يقول: (لطالما كانت المسافة بين مدينتي الجنوبية وبغداد والتي قطعتها حتى هذه اللحظة مرات عدة لا تحصى تذكرني دائماً بدرب الآم المسيح، يؤرقني الطريق كثيراً كلما سلكته ذاهباً أو آيباً كنت أراه كل مرة ينزف دماً.. ) ص ١٢١ ويكون نوح شاهداً وراوياً لما حصل من التهجير القسري لعوائل عراقية مخلصة لانتمائها للوطن والناس بدعوى التبعية، والولاء للأجنبي الذي لا يوجد سونار لفحصه!

يصف الكاتب غياب بعض هؤلاء الناس بالتهجير بالموت المؤقت: (أفكر أنَّ غياب إنسان عن ناظريك هو موت مؤقت) ص ٢٤١. يكون الزمن الفعلي لأحداث الرواية نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، لكن التمهيد لما حصل يعود إلى العهد الملكي الذي يطلق عليه الكاتب (زمن الاسترخاء) معتمداً على وجود دفتر مذكرات. يقول نوح: (في دفتر المذكرة الذي يحمل اسم كنزي الثمين للزمن القديم،

انقلبت الأوراق على صفحة جديدة.. انقضى ذاك الزمن قبل ما يقرب العقدين وانقرضت معه المملكة الفتية وماتت معها إلى الأبد أمنية مدير مدرستنا بدوام بقائها (يا دار السيد مأمونة) .. يحلو لي عندما أسترجع ذاك الزمن، أن أسميه زمن الاسترخاء الطويل والاغفاءة الناعمة اللذيذة المستسلمة) ص ١٠٧

لم تعد الأمور كما وصفها الكاتب مع بداية تأسيس الدولة العراقية إذ يقول : كنا نعيد أخطاءنا عمداً أكثر من مرة لكي نطيل وقت اللعب أكثر من أجل المزيد من المرح والضحك لهذا كل منا الآن، يحب الطفل الذي يختبىء فيه لأنَّ أخطاءنا كانت مثلنا بريئة) ص ٣٥٨

لكنَّ العهد الجمهوري تصل دورة الحكم فيه إلى استفحال الديكتاتورية والخوف: (هذا هو الآن زمن الترقب والتربص الذي نعيشه، زمن سليم الخماش وجهازه البوليسي المرعب وتحت تأثير تلك النبوءة الغامضة التي كسر هلال يوماً ما أختامها، وأخرجها من كثافة الظلام إلى شفافية الضوء) ص ١٠٧

يشخّص الكاتب وجود مؤشراتٍ قويةٍ على استعداد المجتمع العراقي لدورة العنف والدم والدمار والظلم، وهي لم تأتِ مصادفةً. يقول نوح : (الأشياء التي قد تبدو تافهةً، ولا قيمة لها بنظر الآخرين، قد تكون على العكس بنظر غيرهم.. أذكر يوماً في مدرستي الابتدائية، كنت أبري قلم رصاص جديد، أثناء فترة الاستراحة، جاء تلميذ فخطفه مني وهرب، جريت وراءه، ولكن حين لحقت به لأستعيده، كسره نصفين ورماه للأرض.. كان الولد أكبر وأقوى مني، فلم أستطع أن أفعل شيئاً، شعرت بانسحاق قاهر.. كان قلبي تلك اللحظة يغلي بنار الغضب.. يا إلهي الرحيم لو أنَّ ذرة من عدلك تسود العالم لكانت كافية، ولما كنا نعاني كل هذا العذاب الذي لا ينتهي) ص ٢٢٦ ـ ٢٢٧

وبرغم أنَّ هذه هي أول رواية للكاتب بعد مجموعة قصصية عنوانها (أرشيف مدينة تحتضر) صدرت عام ٢٠٠٨م عن مركز الحضارة العربية في القاهرة إلا أنَّها تكشف عن مهارة في السرد والتشويق مع اعتناء واضح بالخط الفكري الذي يعلي من قيمة الإنسان، ويدعو إلى قيم المحبة والجمال، ونضم صوتنا إلى صوت الكاتب الذي يقول : (أتمنى أنَّ جميع مشاكل العراق تنتهي هكذا، بالحب فقط..) ص ٣٢٦

- الرواية: نزيف المسافات

- تأليف: صالح البياتي.

- عدد الصفحات: ٣٦٠صفحة

- الحجم: متوسط

الصدور: دار الورشة / بغداد / ٢٠٢١م

***

الناقد علي جبار عطية، رئيس تحرير جريدة اوروك العراقية.

.......................

* لم يستثنِ التهجير أحداً، والأدهى والأمر من ذلك منع المهجرين من أخذ ممتلكاتهم في أكبر عملية تسليبٍ علنيةٍ صارخةٍ تنبىء عن وحشية النظام .

وحسب الموسوعة الحرة فإنَّ حملة تهجير الكرد الفيلية بدأت في سنة ١٩٦٩ م بحملة ترحيل ونفي قسري، وفي عام ١٩٧٠م، جرى ترحيل أكثر من ٧٠ ألف كردي فيلي إلى إيران وتم سحب جنسيتهم، واستهدفت حملة التهجير التجار والأكاديميين البارزين ورفيعي المستوى في بغداد على وجه التحديد.

في السابع من آيار سنة ١٩٨٠ وقع صدام على المرسوم المرقم ٦٦٦ الذي ينص على: (استناداً الى أحكام الفقرة (أ) من المادة الثانية والأربعين من الدستور.. قرر مجلس قيادة الثورة بجلسته المنعقدة بتاريخ ١٩٨٠/٥/٧م ما يلي:

١. تسقط الجنسية العراقية عن كل عراقي من أصل أجنبي إذا تبين عدم ولائه للوطن والشعب والأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة .

٢. على وزير الداخلية أن يأمر بإبعاد كل من أسقطت عنه الجنسية العراقية بموجب الفقرة (١) ما لم يقتنع بناء على أسباب كافية بأنَّ بقاءه في العراق أمر تستدعيه ضرورة قضائية أو قانونية أو حفظ حقوق الغير الموثقة رسمياً .

٣. يتولى وزير الداخلية تنفيذ هذا القرار).

 هكذا صارت هذه الجريمة مشرعنة قانونياً.

شكل التغريب سمة بارزة في مجموعة (يوم عادي في بوينس اَيرس) للقاص احمد خلف والصادرة 2022 فقد اختاره القاص ليشكل الإطار العام لنصوص مجموعته، التي تنوعت ثيماتها وأساليبها والتقنيات السردية المستخدمة فيها، حيث تشظى التغريب اصطلاحاً الى ثلاث محاور رئيسية شكلت المفهوم العام للتغريب سرداً:

1- التغريب بمفهومه الاجتماعي والثقافي: يقول عالم الاجتماع الفرنسي لوسيان غولدمان (ان البيئة الدلالية لأي نص ادبي مرتبطة بشكل وثيق مع بنى اكبر واوسع، تمثل نظرتنا الى ما حولنا كالبنى الذهنية والثقافية والسياسية والاجتماعية، التي تنتجها حقبة تاريخية معينة). تميزت معظم نصوص المجموعة كون احداثها وشخوصها تحركوا في بيئات واجواء وثقافات بعيدة عن البيئة التي كتب فيها النص، حيث احتوت المجموعة على كم كبير من اسماء الشخوص والاماكن الاجنبية ودارت احداثها في مدن واماكن بعيدة وغريبة عن بيئتنا وثقافتنا العربية الشرقية، وهذا نراه جليا بدءاً بعنوان المجموعة (يوم عادي في بوينس ايرس) وهنا توجد مقاربة لغوية مأخوذة من كتاب للشاعر الامريكي (ويليس بارنستون) عن ذكرياته مع الشاعر الارجنتيني (بورخيس) يحمل نفس العنوان (مساء عادي في بوينس ايرس) والذي ضم هذا الكتاب حوارات ثقافية وفلسفية وادبية وقصص وجزء من سيرته الذاتية.. وحملت احدى قصص المجموعة عنوان الكتاب، والتي دارت احداثها في مدينة بوينس ايرس في الارجنتين، احتوت هذا النص على اسماء ادباء ومغنين واماكن وفنادق كلها صبت في التغريب بمفهومه الاجتماعي والثقافي.. في قصة (حلم يقظة) تبدء بهذا النص الذي يشير الى هذا النهج السردي للكاتب والذي من خلاله فتح للقارئ نافذة كبيرة عن ثقافة الاَخر وخلق مقاربات ومقارنات فكرية واجتماعية بين بيئته الأم والبيئات البديلة التي هيمنت على نصوصه (حدث ذلك قبل ايام من عودتي من بلاد العم سام في زيارة خاصة تلبية لدعوة تلقيتها من سكرتارية عارضة الازياء خارقة الجمال تايلور هيل في نيويورك لحضور حفل تتويجها اجمل عارضة ازياء في العالم).

2- النهايات المفتوحة: تشكل النهايات المفتوحة اسلوب سردي مغاير لما نعرفه عن القصة القصيرة والقصص القصيرة جدا، ذات النهايات الخاطفة والصادمة.. هذا الاسلوب الجديد في صياغة الخواتيم يضعنا امام منهجية سردية مبتكرة، ربما تساهم في تغيير بعض القوالب السردية التي نعتقد انها (تابو) يصعب الاقتراب منه او محاولة تجديده او تغييره.. حيث اوجد احمد خلف قنوات تواصلية بينه وبين القارئ عبر ترك بعض نهايات قصصه مفتوحة عائمة، مستخدماً (الوهم) كحالة نفسية مر بها وعاشها معظم ابطال نصوصه وكمفردة شكلت احدى عناوين قصصه، وتأثير هذا الوهم على حركة ابطاله، الذين طغى عليهم في تصوراتهم، وعاشوا احلاما ورؤى وخيالات وامنيات خلقت واقعاً افتراضياً وعالماً بديلا عن واقعهم المأزوم، نتج هذا الوهم عن اخفاقات عاطفية وحياتية وحرماناً مادياً ونفسياً، كما في هذا النص من قصة (هو وحده): (نهضت متجها نحو الباب منتظرا عودة الطرق عليه مرة اخرى، لكي افتحه، وحالما توجهت هناك نهضت امي الضريرة معي حالا، قالت انها لن تتركني اذهب وحدي بل ستكون معي في الليل والنهار، تلك اللحظة سمعنا معا صوتا خافتا يتردد بطرقات متسارعة، اتجهنا نحنو الباب لفتحه، خطت امي امامي اول الامر خطوتين اثنتين، ما لبثت ان تقدمتها نحو الخارج بخطوات ثلاث امسكت اكرة الباب وادرتها بقوة لكي اسحبها، حالا فتحته على مصراعيه اصغت امي بكل جوارحها لكي تسمع شيء وقد شاركتها الاصغاء والترقب لأي حركة تأتي من الخارج لم يكن ثمة احد هناك غير الليل والريح تعول في الطرقات).. هذا الوهم جعل بعض نهايات نصوص المجموعة مفتوحة عائمة.. وشهدت هذه النصوص حضورا للقاص بفكره وآرائه ومواقفه السياسية بشكل واضح، وهذا ما عبر عنه الكاتب البريطاني ديفد لورنس بقوله (رجل الدين يتحدث عن الوعظ والفيلسوف يتحدث عن اللانهائية والسياسي يتحدث عن التعبئة الجماهيرية اتجاه قضية ما، اما الكاتب فأنه يتحدث عنها جميعا في وقت واحد).. كان هذا الحضور من خلال ابطاله الذين كانوا بلا ملامح ولا مرجعيات ثقافية او بيئية، لكنهم كانوا مستائين ناقمين من خلال آرائهم السياسية ومواقفهم الفكرية اتجاه قضايا مجتمعهم، مثل الاحتلال الامريكي للعراق والفساد المالي والاداري المستشري في مرافق مؤسسات الدولة والواقع الاقتصادي والاجتماعي العراقي السيئ.. يبحثون عن متنفس للأدلاء بهذه الآراء والمواقف، ولجوؤهم الى الوهم كان احدى هذا الطرق البديلة للهروب من هذا الواقع الصعب، كما في هذا النص من قصة (مشهد توصيفي لممثلة عارية) الذي يعيش البطل فيه لحظة وهم وخيال مع صورة للممثلة الفرنسية صوفي مارسو: (ترى ماذا ستقول صوفي وهي تنظر حالة رجل في عزلة ؟ ها هي ترى كيف طوقني الاخرون حتى لو كانت ممثلة اجنبية عارية تجلس معي الان والوطن يحترق بشراسة الاعداء ومن خونة الامة وعملاء الاجنبي).

3-  الترميز: لجأ احمد خلف الى الترميز كتقنية تغريب سردية في بعض القصص القصيرة جدا من مجموعته، وهي تقنية تحتاج الى خبرة ودراية كبيرتين ليتمكن القاص من ايصال قصدية نصوصه وافكاره عبر حركة ابطاله ومجموعة من الشفر والرموز السيميائية وإثارة اسئلة جدلية تجعل القارئ في حالة تعالق من هذه النصوص، وقد اجاد القاص في ذلك من خلال استثمار خبرته الكبيرة والطويلة في عالم السرد وثقافته الاستثنائية ووعيه الحاضر، كما في قصة (الموقد): (شعر الجميع بالخدر والنعاس، التموا حول بعضه وتماسكوا امام هزيمة انتباهتهم، او وعيهم الذي راهنوا على يقظته في يوم مضى، يقظة لن يخترقها نعاس مفاجئ ابدا، كانوا صامتين يخزر بعضهم بعضا لا ابتسامة او نأمة ولا صوت، أهكذا تفعل نار الموقد بهم ؟ اتراهم حراس البيت ام هم ضيوفه الطارئين؟).. كما استخدم القاص انماط لغوية ذات طابع سيكولوجيي تصب في هذا المنحى السردي او ما يعبر عنها (المحتوى العضوي)، مثل افعال (الرغبة، الاعتماد، الامل) كما في هذا النص من قصة (طفولة): (كل مساء يغمره الحنين الى نفسه ويعتريه فيض الذكريات، هل تراه يستطيع ملامسة اطرافها ؟ بعض المشاهد والصور من تلك الذكريات المحطمة. ام تراه ينظر بعين كسيرة الى ماضي الايام المتداعية).

***

احمد عواد الخزاعي

الكتابة عزاء، وربما هي سلاح ضد الموت، وتساؤل وجودي عن ماهية وجودنا؟ وتفريغ شحنات كهربية، نفرغها من وطيس الذهن لكي لاتحرقنا وتحيلنا رماداً وفي ذات الوقت هي لذة لاتضاهيها لذة! النتاج الفني والأدبي حالة معقدة تحتكم الى عدة اشتراطات؛ ولايستثنى دور اللاوعي في النتاج الأدبي والفني! ولكن تبقى كل التفسيرات عاجزة عن ادراك مغزى الكتابة الابداعية وجدوى التعاطي معها.

هكذا يصف الكاتب ناصر قوطي الكتابة بالنسبة له، وأنت تجد هذا كله في مجموعته القصصية التي صدرت عن دار ميزبوتوميا للطباعة والنشر بعنوان "وهم الطائر" وبـ(102) صفحة من الحجم المتوسط، وقد ضمت المجموعة (14) قصة قصيرة و(7) قصص قصيرة جدا، ولكون القصة القصيرة تتميز عن الرواية بما يخلقه التكثيف والترميز الذي تتطلبه، بسبب حجمها، من اشباعات دلالية لدى المتلقي، ولذلك تكثف المعاني عبر فضاءات سردية متعددة، كالأمكنة والأزمنة، والأحداث والأشخاص، وما تنطوي عليه من أبعاد درامية مشحونة بالتوتر والقلق والاحباط. ولم تصل القصة القصيرة هذه المكانة، إلا عندما اقترن حكيها بالوعي الحاد الذي ينخرط فيه الإنسان، احتجاجا على واقع تملؤه أزمات حادة في شكله ومضمونه، كما يعود الاهتمام بها، لما تتميز به من تصوير لسرعة الإيقاع في الحياة العادية، الذي نعتبره من أكثر الإيقاعات انسجاما مع طبيعة العصر الحالي، وتمثيل شخصياتها للواقع المعاش والمتخيل، فنجد الشخصيات التي تحدث عنها القوطي سواء التي استمدها القاص من التجارب الحياتية الخاصة، أو التي من عالم الخيال: مأزومة ومغرقة في القلق والضياع وتبحث عن منفذ للخروج من واقعها الذي فرض عليها، ويتضح ذلك في قصته المعنونة "جدار..." إذ يصور حالة الصراع الداخلي الذي يعيشه شخص تهيئه تربيته للعمل على تفخيخ نفسه لتفجيرها بين الناس غير ان دايلوجاً داخليا يدور بينه وبين نفسه؛ "كيف ساقتك الظنون وأقنعتك تلك الفتاوى الجهنمية التي غرسها أبوك في وجدانك،...." ص 83 ان أكثر الأشياء خطورة تلك التي يرثها الأبناء عن الآباء، دون ان تعطى لهم فرصة الاختيار، لكي يناقشوها مع أنفسهم، في قبولها او رفضها. غير ان هذا التساؤل الذي يطرحه القاص ينقلب الى صراع لرفض ما أجبرت عليه الشخصية في هذه القصة: "ان تسألهم لم اختاروا الفناء بهذه الطريقة التي تأنف منها اخلاقيات عصور ما قبل التاريخ.... كيف طاوعتك نفسك ان تفارق الجانب المشرق من الوجود وتعانق الظلمة وتنصت لعواء الذئب فيك." ص84.

وقد أجاد ناصر القوطي تصوير هذا الصراع الداخلي للذات، وهو صراع شاق ومؤلم، لان على هذا الشخص ان ينقلب على افكار تلبسته منذ طفولته. فالانسان يولد؛ ليجد ان دينه وافكاره وقيمه التي سيعتنقها ولدت قبله، لذلك يكون غير مختار لهذه الافكارٍ التي يبقى يحملها طول حياته، وعندما يتمرد عليها، إذ ذاك، ليس ببعيد أن يصفه الآخرون بالمجنون او الشاذ:

 من حولك الى مسخ؟.. - 

- انت تعرف، لم تسأل؟ خلصني ان استطعت

 - سأفعل،

فليس سهلا التمرد على مسلمات قومه، انه صراع يبدأ داخل ذاته، يمنعه خوفه ممن حوله، ومن البوح بهذا الرفض، لكل ماهو غير صحيح برأيه!! لكنه اليقين بالنسبة لهم .. فكيف الخروج عليه؟ أنها محنة النبي في قومه فسيلقمونه بالحجر بكل تأكيد!: "حضرت الصحراء ثانية، ماذا أرى، همست بحيرة، تحركت ساقي المتصلبة والمسمرة من حول المشهد! حين غمرت الرمال وجه المدينة، والفسحة التي كنت اقف عليها، تقدمت صرخت صرخات متتالية، وقبل ان اقترب منه راح يتطوى، ويتلوى، تصاحبه عواءات طويلة وهو يحاول الخروج من جسدي، كان لسانه اللاهث يتحسس أثر الدماء في حبيبات الغبار، حين ذاك اندفع من صدري تركني خائراً، بعد ان تجسد امامي بكل هيأته، هيئة ذئب اغبر بأنياب يسيل بينها لعاب اصفر،.. انني  اعرف من غرس بذرتك فيّ.. اعرف!

ان قصة "جدار.." تصوير رائع لمسببات ما نعيشه من مآسٍ وقتل وتفجير يودي يومياً بحياة العشرات بل المئات من الناس الذين ليس بينهم من عداء مقنع سوى: "حسبنا ما وجدنا عليه اباءنا". وهنا يؤكد القوطي؛ ليس من الصحيح القول ان الانسان يولد حراً، بل الحقيقة أن الانسان يولد وهو مكبل بأفكار ومعتقدات وأخطاء وخطايا من سبقوه ومطالب بأن يسير على خطاهم.

وقد سعى القاص في تحميل اللغة سياقات لغوية حادة، لخرق المتعارف عليه في تركيبة القصة القصيرة، حيث لم يعد للعقدة او الصراع من معنى فلم نجد في الكثير من قصصه حلاً لما يطرحه من تساؤلات كما في قصة (ترنيمة قديس).. "حضارتنا لم تعط الإنسان حتى أبسط الحقوق بل تسحقه بشروطها القمعية المريعة، والكلام يطول يا صاحبي.. الكلام.. يطول". ص(50).. ليس هناك سوى الخيبة فلا منفعة من كلام في هذا الأمر رغم ان اول قوانين العالم التي سنت في بلدنا قبل آلاف السنين لم تغير عقول طغاتنا ونظرتهم للإنسان.

كذلك في قصة "ما حدث مع أقرب الناس..." ففي نهايتها يصل القاص الى خيبة أمل أخرى من جدوى الكتابة حيث يقول: "الكتابة هوّس، هروب من عالم وحشي نحو بياضات آسرة لا قصدية، تتصاعد من فوهاتها حمم من أخيلة لا يعرفها إلا من أكتوى بنيرانها، ولا خيار أمام من يتعاطاها.. فأما أن يكتب نفسه او يقتل نفسه، وفي الحالتين يكون قد ارتكب إثم الفعل والمكاشفة في عالم يحدث فيه كل شيء بعيدا عن هذه السطور البريئة التي لا تعني شيء" ص(80)، وقد حاول القاص الرهان على اللغة وإمكاناتها التدليلية، والعمل على فتح آفاق سردية مغايرة لانتاج نص مختلف تكون فيه ذات القاص محوراً للمعاني، كذلك ذوبان لغة القاص في ذاته.

في قصة "وهم الطائر" ص (87) التي سميت المجموعة بها يبدأها القاص باقتباس لابو حيان التوحيدي: "رحلٌ ضعيف، وهاجرة محرقة، وبرٌ قفرٌ، وعطش قديم، كيف الوصول الى الري والحال هذه.." ثم اهداء الى الشاعر سلام الناصر، مصحوب بتساءل: "لِمَ لا تطير؟"، في الموروث الشعبي يرمز الطائر الى الحرية والأنطلاق نحو ما تصبو اليه الأنفس، وهذا الرمز "الطائر" كثيرا ما يتمنى المرء ان يكون مثله، له القدرة على التنقل من مكان الى آخر، وهذه الأمنية؛ الطيران/ التنقل تراود المرء الذي لا يستطيع ان يتعايش مع ظروفه الشخصية التي تحيط به. لذلك تراه ينظر لقدرة الطائر على ترك المكان الذي يعيش فيه بسهولة ويسر. لهذا يرمز للطير بالحرية التي نفتقدها في حياتنا اليومية.

في هذه القصة يلجأ القاص لتكثيف الصورة الصغيرة المتتالية لاظهار الصورة الكبيرة التي يصف بها ما حوله، ويبدو ان هذا التكثيف في التفاصيل الصغيرة قد عبر الكاتب عن اعجابه بأسلوب ابو حيان التوحيدي في طريقة الوصف هذه؛ "أن تغدو جثة لا أكثر تألفك الديدان، تكفنك ذرات الغبار، تعد شيء فوق جبينك والعيون لتستحيل شيئاً صداً لا يُقهر يتمحور بين الجناحين، مسخاً صغيراً تكور بين الكتفين، شوه عنده وأُسقط غثر ولادات عسيرة وخذلان من طلق مستمر.. تحاول ان تجسه بحذر، تمرُ أناملك فوق التجاعيد الغائرة، عند الشفتين تلمس ظل ابتسامة فاترة كأنها تهمس اليك أن تصدح، أن تنعب كطائر ليلي وحيد.. شلواً هامداً رغم كل هذا الخفقان المضني ولا جدوى من هذه التحليقات المتصاعدة البلهاء".

إذا صورة الاحباط التي رسمها الكاتب؛ والتي تكونت من هذا العدد الكبير من الصور الصغيرة تعبر عن "وهم" الحرية الذي نرمز به للطير. لذلك جاء التساؤل الذي طرحه الكاتب في إهدائه الى صديقه الشاعر سلام الناصر "لِمَ لا تطير؟" محبطاً يائساً لكنه تساءل ليس إلا: "ما الطيران في مثل هذه السماء إلا محض هبوط نحو الهاوية!".ص 96.

ان عملية الخلق الأدبي يساهم فيها المتلقي، من خلال جمع الصور المتعددة التي يحملها النص ومن ثم ترتيبها وحتى تخيلها.. وهذه مساهمة في عملية الخلق التي يصورها الكاتب في نصه القصصي.

***

يوسف علوان

الكسندر تيريخوف كاتب روسي ولد عام 1966، وتخرج في كلية الصحافة بجامعة موسكو عام 1991. بدأ مسيرته المهنية صحفياً وكاتباً سياسياً، قبل أن يتجه للأدب في أواخر التسعينيات. نشر روايتين وعدة قصص قصيرة، لم تلفت الأنظار كثيراً.ثمّ فاجأ الأوساط الأدبية الروسية برواية " الجسر الحجري " عام 2009، وهي رواية طويلة تقع في ( 832) صفحة ومعقدة من حيث الأسلوب والبناء الفني، وتدور حول قصة " روميو وجولييت" العهد السوفيتي. وهي ليست قصة وثائقية، كما تبدو ظاهرياً، بل رواية يمتزج فيها الواقع بالخيال، وان كانت تتناول واقعة حدثت فعلا في ذروة الحرب الطاحنة بين الإتحاد السوفيتي وألمانية النازية في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي. لم تكن هذه القصة تثير الإهتمام لو تكن تتعلق بعائلتين من النخبة المحيطة بستالين.

في 3 يونيو 1943 وقعت على الجسر الحجري الكبير بالقرب من الكرملين، فاجعة صدمت النخبة السياسية في ذلك الوقت، وأصبحت نقطة الانطلاق للتحقيق في الحقائق التاريخية والسياسية الأخرى. ففي حوالي الساعة السادسة من مساء ذلك اليوم، عند نهاية السلم المؤدي من الجسر باتجاه المبنى الحكومي، الذي يسكنه كبار المسؤولين، وجد المارة فتاة أصيبت برصاصة في مؤخرة رأسها.، وفتى أصيب بجروح قاتلة - أصابته رصاصة في صدغه. كان مستلقيا على ظهره ويده اليسرى في جيبه. ولم تعثر الشرطة على مسدس في مسرح الجريمة. ولم ير أحد لحظة إطلاق الرصاص. من بين المتفرجين الذين جاؤوا راكضين، برزت سيدة جميلة جدا ترتدي ملابس أنيقة، تعض أصابعها في يأس.

تعرف الجمهور على الفتاة والفتى، وتبين أنهما من سكان المبنى الحكومي، تلميذان في المدرسة رقم 175 المخصصة لأطفال قادة الكرملين بضمنهم فاسيلي وسفيتلانا ستالين. الفتاة هي نينا أومانسكايا، ابنة كونستانتين أومانسكي، السفيرالسوفيتي لدى الولايات المتحدة، والذي تم تعيينه قبل ايام من الحادث سفيرا لبلاده في المكسيك. الفتى هو فولوديا شاخورين، نجل أليكسي شاخورين مفوض الشعب لصناعة الطيران. كان كلا الأبوين من بين المقربين لستالين. حاول أفضل الأطباء السوفيت إنقاذ حياة فولوديا دون جدوى، حيث توفي في صباح 5 يونيو دون أن ينبس ببنت شفة.

عهد بالتحقيق في الحادث إلى محقق سوفيتي بارع وهو ليف شينين، الذي سرعان ما خلص إلى إستنتاج مفاده: إن قتل الصبية نينا كان"بدوافع رومانسية"، وان فولوديا حاول إٌقناع صديقته بعدم السفر مع والديها إلى المكسيك والبقاء في موسكو.ولما فشل في مسعاه، أطلق النار على الفتاة، ثم على نفسه. اشتهرت الفتاة بجمالها، حيث درست ونشأت في أوروبا الغربية، وعندما كانت في واشنطن مع والديها دعيت للظهور في مجلات الموضة، حتى الرئيس روزفلت - الذي لم يعجبه أومانسكي كثيرًا، فقد كان يعتبره، ربما ليس بدون سبب جنرالا في المخابرات السوفيتية - أشار إلى جاذبية نينا غير العادية.

منظمة الرايخ الرابع

تبين من خلال التحقيق ان المسدس الذي استخدمه فولوديا في قتل صديقته ونفسه يعود إلى فانو إبن أنستاس ميكويان (أحد مساعدي ستالين) الذي كان معهما على الجسر. وان فولوديا أستعار المسدس منه لتخويف صديقته.وادعى فانو خلال التحقيق أنه غادر الجسر قبل وقوع الجريمة،ولكن سرعان ما أخذ التحقيق منعطفًا جديدًا بعد العثورعلى يوميات فولوديا، التي تحتوي على تفاصيل المنظمة النازية التي تشكلت في مدرسة النخبة واطلق عليها "الرايخ الرابع" بزعامة فولوديا وعضوية عدد من أولاد كبار المسؤولين في الحزب والدولة بينهم نينا (القتيلة) ووفانو ابن أنستاس ميكويان.وقد أطلقوا على انفسهم القاباً نازية. وكان هدفهم الرئيسي هو الإستيلاء على السلطة بمجرد إنتهاء الحرب. بعد أن قرأ ستالين نتيجة التحقيق قال عن هؤلاء المراهقين إنهم " أشبال الذئاب ". وينبغي معاقبتهم.

بعد استجوابات دامت ستتة شهور في سجن لوبيانكا وقع أعضاء المنظمة على اعترافات خطية، ما عدا فانو إبن ميكويان، ولكن والدته التي كانت حاضرة خلال إستجوابه، قالت لإبنها أن والدك يأمرك بالتوقيع على الإعتراف، فوقع بدوره. وحكم عليهم بالنفي لمدة عام إلى مدن نائية في سيبيريا وأوزبكستان.. ومع ذلك، فإن آبائهم ظلوا بمنأى عن الفضيحة. في ذروة الحرب ضد المانيا النازية، لم يجرؤ ستالين على القيام بأعمال انتقامية ضد هؤلاء الآباء الذين كان معظمهم أعضاء في لجنة الدفاع عن الدولة.

قال فانو لأبيه: " إنني برئ ". فرد ميكويان:" أعرف ذلك ولو كنت مذنبا لخنقتك بيديّ". غادر أومانسكي مع زوجته المذهولة في اليوم التالي لمقتل ابنته لتولي منصبه الجديد في المكسيك. وبعد عام وسبعة أشهر لقي حتفه مع زوجته  في حادث تحطم الطائرة التي كانت متجهة إلى كوستا ريكا. وأثار هذا الحادث تكهنات لم تتضح أبعادها حتى الآن. وواصل ميكويان شغل مناصب عليا في الدولة السوفيتية حتى عام 1965. أما إبنه فانو فقد أصبح مصمما شهيرا للطائرات، ومنها طائرات الميغ المعروفة.

لم تنشر نتائج التحقيق الرسمي حول قضية الجسر الحجري لعلاقتها بقادة الكرملين،وأدى ذلك إلى ظهور العديد من الشائعات والأساطير حول القضية. ولم تسمح السلطات لبطل الرواية –اليكسندر فاسيلييفيتش- وهو ضابط سابق في جهاز الأمن الداخلي تولى التحقيق في القضية في عام 1990- بالإطلاع على ملف التحقيق الرسمي. وظل لمدة عدة سنوات يقلب كما هائلا من المستندات القديمة عن تلك الفترة الزمنية ويحلل أقوال الشهود الذين ما زالوا على قيد الحياة ولهم صلة بالقضية. وفي النهاية، تبين أن عمله المضني بلا جدوى..

الموقف من الستالينية

وتركز إهتمام المؤلف أيضًا على التغطية الغامضة لموضوع الستالينية واستنتاجاته المخيبة للآمال بأنه " ليس من الضروري إثارة الماضي، فمن المستحيل إثبات الحقيقة، والتاريخ ما هو إلا ثمرة للتفسيرات المختلفة ". ربما لهذا السبب لا يوجد اليوم فهم مشترك للقيم عند الروس، ومن الصعب عليهم فصل الخيرعن الشر. وفقًا لاستطلاعات الرأي الأخيرة، يعد حوالي 40٪ من الروس ستالين شخصية تاريخية كاريزمية. وهذا يمكن تفسيره بجهل الروس لتاريخ بلدهم. ولكن " الجسر الحجري ليست رواية عن العهد الستاليني، بل عن بحث الروس بعد تفكك الإتحاد السوفيتي عن حقيقة ما حدث في حزيران عام 1943،وتقييم التجربة السوفيتية.

يحاول المؤلف، تبرير سنوات الإرهاب الستاليني، بطريقة غير متوقعة تمامًا - ويقول أن الأرستقراطيين الحمر كانوا أناسا "حديديين" وكل ما فعلوه كان مهيبًا. ويزُعم أن ستالين نفسه حارب هذه "الطبقة اللعينة".لكن تيريخوف يتجاهل مجمل القمع الذي مورس ليس فقط على الحاشية الستالينية، بل طال فئات اخرى من الأدباء والفنانين والعلماء والناس العاديين.

إن افتتان تيريخوف بعصر ستالين، واضح منذ فترة طويلة: فقد نشر عام 1993 مقالا في صحيفة " البرافدا" بعنوان "في ذكرى ستالين".قال فيه أن كل جهود الليبراليين لفضح "الغول الدموي" كانت بلا جدوى. سيظل ستالين في ذاكرة الشعب باعتباره زعيما ملحميا. في الوقت نفسه، لم ينكر تيريخوف إطلاقًا أن "الإمبراطور جوزيف ستالين" كان مصاصًا للدماء - مثل بطرس الأكبر و إيفان الرهيب." الجسر الحجري" رواية قاتمة ومناهضة للإنسانية في جوهرها، لأن المؤلف يبرر الإرهاب الستاليني، ولا يخفي إعجابه بالماضي المأساوي.

الجنس الجسدي

هناك الكثير من الجنس في الكتاب. البطل جذّاب في نظر النساء من شتى شرائح المجتمع (طبيبات، ممرضات، سكرتيرات، موظفات، أمناء مكتبات، نادلات،، سائقات ترام...إلخ)، كلهن يقعن في حبه، لكنه مع ذلك يشعر بأنه لا يستطيع إعطاء الحب الروحي المتبادل لأي منهن. الرواية مليئة بالجوانب الجسدية فقط للحب. كلمات وأفكار ومشاهد قذرة. البطل يعد النساء مجرد أداة لتحقيق الرغبات البيولوجية للإنسان. وقد أثار هذا الموقف الغريب حفيظة وإستهجان النساء في روسيا.

 يقسم بطل الرواية كل الناس في عصره إلى وقطاع طرق، ومرتشين. وعاهرات،ولكن حتى عند وصف هؤلاء، يبدو أنه لم يعد البطل، بل المؤلف الذي يقسم العالم وفقا لنفس المبدأ.

بين فترات ممارسة الجنس، يبحث البطل في الأرشيفات، ويذهب إلى المشاركين الباقين على قيد الحياة في تلك الأحداث ويصل إلى ما سمي ب"قضية الأشبال". هذا أيضًا هو ذلك الجزء المشين من التاريخ الذي لا يرغب الباحثون الروس في التطرق إليه، ولا يتم تضمينه في الكتب المدرسية.

الأرستقراطية الحمراء

أفضل ما في الرواية هو وصف حياة الطبقة السوفيتية الحاكمة أو الأرستقراطية الحمراء في العهد الستاليني. التي عاشت في بحبوحة ورخاء وحظيت بإمتيازات، لم يحلم بها كبار الرأسماليين في الغرب،وتخلى أفرادها عن كل ما هو إنساني في أنفسهم من أجل السلطة، و تستروا على الحقائق، حتى عندما كانوا يكتبون مذكرات فارغة مكونة من كليشيهات مبتذلة. ولكن اطفالهم لم يفهموا قط، بأي ثمن وصل الآباء إلى مواقعهم في السلطة. تيريخوف، الذي يصف الحياة اليومية للبطل وتداعيات الماضي في ذاكرته، يعطي القارئ مادة للتفكير في الموضوع: الحب مكلف، ويذبل بسرعة؛ التخلي عن الحب مكلف أيضاً - كيف يمكنك ملء الوقت المتبقي قبل الموت بدون حب؟ عليك أن تفكر في الأمر وتختار.

مآخذ فنية

"الجسر الحجري" رواية مطولة، فضفاضة من الناحية الهيكلية، ومربكة للغاية من الناحية الأسلوبية، وغير مؤثرة عاطفياً نظرا لوجود العديد من  القصص الفرعية، التي لا علاقة لها بالحبكة الرئيسية، ومنها الحديث الطويل عن السفير أومانسكي وإنتحارعشيقته الموظفة في وزارة الخارجية السوفيتية. أو تفاصيل الحياة الشخصية للقادة السوفيت: أندرية غروميكو،ومكسيم  ليتفينوف وأندريه غروميكو، ولافرينتي بيريا وجورجي مالينكوف، وأنستاس ميكويان،وهي قصص لا تؤدي إلى تطوير الحبكة أو إلقاء الضؤ على القضية.

في الصفحة 566 يتحول السرد الواقعي إلى خيالي محض: يدخل البطل إلى نوع من المصاعد ويجد نفسه في المكسيك في عام 1945، ويستجوب الشهود حول تحطم الطائرة التي كانت تقل السفير أومانسكي وزوجته، ويعود إلى روسيا في المصعد نفسه..

يبدو للقارئ المتمعن ان الرواية تتألف من قصتين مختلفتين تماماً – الأولى هي رواية إستقصائية عن الحادث عند سلم الجسر الحجري، والثانية المغامرات الجنسية المثيرة للبطل،، وقد نشرتا بين دفتي كتاب واحد. الأولى قصة مثيرة للإهتمام، يمكن الإحتفاظ بها في مكتبة بيتك، وإن كانت لا تخلو من المثالب.والثانية ينبغي إلقاؤها في سلة المهملات دون تردد.، لم يقسم المؤلف روايته إلى فصول أصغر. أحيانا يلتبس على القارئ مكان وزمان الأحداث الموصوفة. كان من الأفضل إختصار هذه الرواية االمترهلة وسرد مضمونها في مئة صفحة بأسلوب مشوق، وبناء فني محكم.

لغة العرض باهتة، غير مثيرة للاهتمام. يغرق المؤلف في تفاهات غير مهمة، وتفاصيل غير ضرورية، ويحول السرد جانبا، ثم يبدو أنه يفقد الاهتمام بما تم تقديمه. ويكاد يكون من المستحيل فهم معنى التحقيق في "قضية الأشبال" في فوضى العقل الباطن للمؤلف.

أثارت هذه الرواية ضجة في الأوساط الأدبية الروسية، ورشحت لأهم الجواهز الأدبية المرموقة في روسيا وحصلت على المرتبة الثانية لجائزة " الكتاب الكبير" (جائزة الدولة التقديرية) لعام 2009 ، وحولت إلى مسلسل تلفزيوني روسي عام 2020. الإهتمام المكثف بهذه الرواية الثقيلة والترويج لها من قبل دور النشر والإشهار الروسية التجارية دليل على مدى تردي مستوى الأدب الروسي بعد تفكك الإتحاد السوفيتي، فهذه الرواية المملة تبدو جادة لأول وهلة في خضم الأدب الخفيف المسلي الذي ساد المشهد الأدبي في روسيا الأوليغارشية.كما أن ترجمتها إلى الإنجليزية وإهتمام النقاد الغربيين بها يرجع إلى تشجيع هؤلاء النقاد لكل ما هو غريب ومثير في الأدب الروسي المعاصر، بصرف النظر عن قيمته الفنية والجمالية.

***

د. جودت هوشيار

ترجمة: صالح الرزوق

طبعا لم ير كافكا نفسه كما لو أنه حزب، ولم يتظاهر أنه ثوري، مهما بلغت درجة تعاطفه مع الاشتراكيين. وكان يعلم أن كل الخطوط تربطه بآلة تعبير أدبية، وكان هو بالمثل مكونا فيها: الميكانيكي، المشغل، والضحية. ولكن كيف تواصل مع هذه الآلة المفردة التي لم ينتفع من نقدها الاجتماعي، ولا كان بمقدوره الانتفاع منها؟. كيف يمكنه صناعة ثورة؟. كان يشغل اللغة الألمانية وهو في شيكوسلوفاكيا. وباعتبار أنها، لعدة اعتبارات، لغة دون أرض، كان عليه دفع فقدان الأرض نحو الأمام، ليس من خلال الكثافات، والالتواءات، وزيادة سمك اللغة، ولكن من خلال الوعي الذي يدفع اللغة لترحل بخط مستقيم، وتأمل أو تنتج جزئياتها. على التعبير أن يجرف المضمون، ويجب أن يحصل ذلك مع الشكل. ويؤدي هذا الدور إكثار (أو توغل) السلسلة في "المحاكمة". بما أن تاريخ العالم ناجز فعليا، ليس بسبب العود الأبدي، ولكن بسبب ضغط جزئيات هي دوما جديدة، ودوما قاسية، سوف يزيد من سرعة التجزيء، سرعة إنتاج الأجزاء هذه. وسوف يشكل سلسلة مقطعة، وسوف يضيف إليها. وبما أن الآليات الاجتماعية والجماعية تقود إلى إلغاء أرض الإنسان على نحو كبير، دفع كافكا هذه السيرورة لمسافة أبعد، حتى نقطة إلغاء مطلقة لمجال الجزيء. فالنقد عديم الفائدة تماما. والأهم أن ترتبط بالحركة الأخيرة والتي هي فعليا حقيقية، حتى لو أنها غير موجودة ولم نصل إليها (يوقف المحافظون والبيروقراطيون دائما الحركة في هذه النقطة أو تلك). وهذا ليس تشاؤما سياسيا، ولا هو مبالغة أدبية أو نوع من أنواع الخيال الفني). وهذه الطريقة في تسريع الأجزاء أو التوغل والإكثار تربط المتناهي، والمتماسات، والمتواصل، وغير المحدود بعضها ببعض. ولها منافع عديدة. فأمريكا موجودة في تطور صلابة ونشر رأسماليتها. وتفكيك الإمبراطورية النمساوية وصعود ألمانيا مهد الطريق للفاشية. والثورة الروسية أنتجت بسرعة بيروقراطية جديدة وغير مطلوبة.

طرق قادت إلى محاكمات جديدة

nouveau proces dans le processus.

"معاداة للسامية انتشرت بين أفراد الطبقة العاملة"، وهكذا. إنها رغبة رأسمالية، رغبة فاشية، رغبة بيروقراطية. ثاناتوس أيضا - كل شيء يدق على الباب. وبما أننا لا نستطيع الاتكال على الثورة الرسمية للتخلص من الترابطات المترسبة بين الأجزاء، علينا أن نتكل على الآلة الأدبية التي تنتظر التكاثفات، والتي ستتغلب على السلطات الشيطانية قبل أن تنوجد. الأمركة، الفاشية، البيروقراطية - كما قال كافكا: هي ليست مرآة ولكنها رقابة سريعة (6). وبما أنه ليس في أيدينا طريقة لرسم تمييز واضح بين القامع والمقموع أو بين الأنواع المختلفة للرغبة، علينا أن نمسك بها كلها في مستقبل محتمل جدا، ونحن نأمل كل الوقت أن هذا العمل سيقدم إلينا خطوط الهرب، خطوط الموكب الزاحف، وحتى لو أنها متواضعة، ولو أنها مترددة، وحتى وبالأخص حتى، أنها ذات معنى. وهذا يشبه قليلا الحيوان الذي يكون فقط نتيجة الحركة التي تضربه، وتدفعه لمسافة أبعد، كي تحثه على العودة إليك، وليواجهك، وليجد مخرجا. ولكن في الحقيقة لقد دخلنا عالما مختلفا تماما عن التحول إلى حيوان. من المؤكد أن التحول إلى حيوان هو طريقة لتحفر بها مخرجا، ولكن التحول إلى حيوان ليس قادرا على المثابرة القلبية الصادقة. ومن المؤكد أن التحول إلى حيوان يفرض ضياعا للأرض بشكل مطلق، ولكن ببطء بالغ ومن طرف واحد فقط. فهو يسمح لنفسه لاحقا باسقوط في الأسر، واستعادة الحيز، والعودة إلى المثلث. وتبقى الحيونة قضية عائلية. بقوة السلسلة أو الأجزاء، نرى شيئا آخر، أكثر غرابة. فحركة فقدان الإنسان لأرضه، حتى تشعر به الآلات الضخمة، ونتجاوز به الاشتراكية والرأسمالية أيضا، سوف يضع السلطة بيدها لتكون بأقصى ما يمكن وهي تتحرك على طول السلسلة. وبعد ذلك تعمل الرغبة بحالتين متعايشتين: من جهة سوف تسقط في ذلك أو في تلك الجزئية، في هذا المكتب أو ذاك، هذه الآلة أو تلك، أو في حالة الآلة. ستكون ملحقة بشكل هذا المحتوى أو ذاك، وتتبلور بشكل هذا التعبير أو ذاك (رغبة رأسمالية، رغبة فاشستية، رغبة بيروقراطية وهكذا).  من جهة أخرى وبنفس الوقت، تتحرك للهرب على كامل الخط، محمولة بتعبير متحرر، وحاملة معها محتويات مشوهة، حتى تقترب من عالم غير محدود قوامه حقل محتم وجاهز، أو حقل عدالة، بحثا عن مخرج، بالضبط باب للخروج. وتكتشف في هذه الأثناء أن الآلات هي ترسبات رغبة أوجدها التاريخ، وأن تلك الرغبة لا تتوقف عن إبطالها، فترفع رأسها (الصراع ضد الرأسمالية، الفاشية، البيروقراطية - صراع أقوى مما لو أن كافكا أنفق وقته ليكون ناقدا). حالتا الرغبة المتضامنتان هاتان هما حالتا القانون.

من جهة هناك القانون المتسامي المصاب بالبارانويا، والذي لا يتوقف عن تحريض جزئية متناهية حتى تصبح موضوعا كاملا، ومتبلورة في كل أرجاء المكان. من جهة مقابلة هناك القانون الشيزوفراني الملح الذي يعمل مثل العدالة، وضد القانون، وهي "عملية" سوف تفكك كل تركيبات القانون المصاب بالبارانويا. ولأن ذلك، والكلام مكرر، هو كل شيء بخصوص اكتشاف تركيبات المحتم وتفكيكاتها. ولتفكيك تركيب آلي عليك أن تصنع، وفعليا أن تأخذ خط هروب لا يمكن للحيونة أن تأخذه أو تصنعه. فهو خط مختلف كليا. فقدان أرض مختلف كليا. ولنتفق أن أحدا لا يقول بوجود هذا الخط في الروح فقط، وكأنه يقرر أنه ليس آلة فقط، وأنه ليس فعلا، حتى حينما يكون مستقلا عن النشر. كما لو أن آلة الكتابة ليست هي أيضا آلة (وليست بنية متفوقة على غيرها، وليست أكثر إيديولوجية من غيرها)، وأحيانا تأخذها الآلات الرأسمالية أوالفاشية أو البيروقراطية، وأحيانا تتبع أثر خط ثوري متواضع. والآن لنلاحظ فكرة كافكا المستقرة: حتى بالنسبة للميكانيكي المنعزل، تكون آلة التعبير الأدبي قادرة على توقع أو تكثيف الموضوعات في ظروف، بأسوأ وأفضل الحالات، تهم الجماعة كلها. إنها ضد الغنائية - "تفهم العالم" وتقوده ليباشر بالرحيل. وعوضا عن أن يهرب منه يحتضنه ويحتويه (7). ويمكن رؤية حالتي الرغبة أو القانون المذكورتين في عدة مستويات. وعلينا التأكيد على حقيقة هاتين الحالتين المتعايشتين لأننا لا نستطيع أن نقول مسبقا "هذه رغبة شريرة، وهذه رغبة طيبة". فالرغبة مزيج، خليط، لدرجة تكون فيها الأجزاء البيروقراطية أو الفاشية في قبضة القلق الثوري فعليا أو أنها دفينة فيه. وحين تكون متحركة فقط يمكننا تمييز "شيطانية" الرغبة و"قوتها"، لأن أحدهما يكون موجودا في أعماق الآخر. ولا شيء يسبق بالوجود أي شيء آخر. وبقوة توجهاته غير النقدية يكون كافكا خطيرا. ونستطيع القول ببساطة هناك حركتان متعايشتان، وكل منهما متورطة مع الأخرى. إحداهما تتضمن الرغبة ضمن تركيب شيطاني ضخم يجرف معه بحركة واحدة الخدم والضحايا، الرؤساء والتابعين، ولا يتولد عنه سوى ضياع كاسح لأرض الإنسان، وذلك بواسطة إعادة توطينه أيضا، إما في مكتب أو سجن أو مقبرة (قانون البارانويا).

وتدفع الحركة الأخرى بالرغبة لترتحل عبر كل التراكيب، ولتحتك بكل الجزئيات دون أن تستقر بأي واحدة منها، وتحمل معها دائما براءة سلطة الأرض المنتزعة والتي هي نفسها الهروب (قانون الشيزو). ولذلك يكون ل "أبطال" كافكا هذا الوضع الفضولي المتعلق بالآلات الضخمة وبالتركيبات: ومع أن ضابط "المستعمرة" كان في الآلة، أولا ميكانيكي يعتني بها، ثم ضحية من ضحاياها، ومع أن الشخصيات في الروايات تنتمي لحالة الآلة هذه أو تلك وإذا خرجوا عنها يفقدون كل وجودهم، يبدو أن كاف وعددا آخر من الشخصيات الذين يضاعفونه (قرائن له) هم دائما شكل من أشكال التجاور مع الآلة، ودائما بتماس مع هذه الجزئية أو تلك، ولكن أيضا دائما مرفوضون، ودائما هم في الخارج، ويتحركون بسرعة فائقة ولا يمكن "إمساكهم". على سبيل المثال كاف في "القلعة": حينما يكون صحيحا أن الرغبة بلا معيار مسبق، لا تمنعه رغبته المتوحشة لجزئية القلعة من احتلال وضع مستغرب يضطره للرحيل على طول خط مجاور.

التجاور - ذلك هو قانون الشيزو. وبنفس الطريقة، إن بارناباس الرسول، قرين كاف في "القلعة"، هو رسول فقط بطريقة معينة تلقائيا ولا بد أنه ينقل الرسالة بسرعة ملحوظة حتى لو أن هذه السرعة تلفظه من الخدمة الرسمية ومن وزنها الجزئي. وبنفس الطريقة، الطالب، قرين كاف في "المحاكمة"، لا يتوقف عن توجيه الحارس الرسمي باتجاه خاطئ، ويأخذ زوجته حينما ينقل الحارس رسالة ("مجددا بسرعة قصوى بالإضافة إلى أن الطالب كان هنا أمامي"). تعايش حالتي الحركة الاثنتين هاتين، حالتي الرغبة، حالتي القانون، لا تدلان على التردد، ولكن على تجريب عاجل سيفتح كل عناصر الرغبة ذات الأصوات المؤثرة، وبغياب معيار متسام. الاتصال والتماس هما بحد ذاتهما خط هروب نشط ومتواصل.

وتبدو حالتا التعايش بوضوح في الفقرة المنشورة من "المحاكمة" تحت عنوان "حلم". من طرف يوجد حركة انزلاق سريع ومرح أو فقدان للأرض ليصبح كل شيء مجاورا، حتى في اللحظة التي يبدو الحالم قد سقط في الهوة ("الممرات هناك كانت ملتفة جدا، وممهدة دون براعة وغير عملية، ولكن الانزلاق في أحدها يجعلك كأنك تنجرف بسرعة في تيار دون أن تفقد وضعيتك وتوازنك"). ومن طرف آخر هناك هذه الممرات، والتي هي جزئيات سريعة بالتساوي وتقودك لحظة بعد لحظة إلى إعادة توطين مميت للحالم (كومة التراب البعيدة - تقترب فجأة - وحفارو القبور - فجأة، الفنان - وارتباك الفنان - وكتابة الفنان على الضريح - والحالم الذي يحفر حفرة في الأرض - وسقطته).

بلا شك، هذا النص يلقي بعض الضوء على النهاية الزائفة لل "المحاكمة"، إعادة توطين كاف في جزئية قاسية، مثل "صخرة منفلتة".

حالتا الحركة هاتان، حالة الرغبة أو القانون، تظهران مجددا في المثال الذي بدأنا به، صور ورأس منكس. وبما أن الصورة شكل من أشكال التعبير وتعمل على نحو جيد بصفة واقع أوديبي، وذاكرة طفولية، أو وعد بالشراكة، فإنها تمسك الرغبة في تركيب يعمل على تحييدها، ويعيد توطينها، ويبترها من كل ترابطاتها. وتؤشر لخسارة التحول. وعليه شكل المحتوى الذي يترادف معها. وكان الرأس المحني علامة على الاستسلام، إشارة تدل على من وقع عليه الحكم أو حتى من يصدر أحكاما. ولكن في "المحاكمة" نواجه سلطة صورة متوغلة ومتكاثرة، سلطة البورتريه، سلطة الخيال. ويبدأ الإكثار في البداية، من صور غرفة فراولين بورستنير (السيدة بورستنير) - صور لديها السلطة لتحول من ينظر إليها (تحتوي الناس في الصورة أو البورتريه، لأنهم عرضة لسلطة تحويلهم). من صور السيدة بورستنير، ننتقل إلى صور فاضحة في كتاب القاضي، ثم إلى صور إلزا التي يعرضها كاف على ليني (كما فعل كافكا بصور فيمر في أول لقاء مع فيليس)، ثم السلسلة غير المحدودة لتصاوير تيتوريلي، والتي يمكن لنا أن نقول عنها، على نمط بورغيس، وأنها تتضمن العديد من الاختلافات فيما بينها لأنها متطابقة بشكل مطلق (8). باختصار البورتريه أو الصورة التي تؤشر لنوع من أرض الرغبة الصناعية أصبحت الآن مركزا لقلق حالات وشخصيات، ورابطا يكثف حركة فقدان الأرض. تعبير يتحرر من شكله الخانق ويأتي بتحرير مشابه للمحتويات. في الحقيقة استسلام الرأس المنكس يرتبط بحركة الرأس الذي ينتصب أو الذي يندفع إلى الأمام - من القضاة، الذين تنحني ظهورهم تحت السقف ويعملون على طرد العدالة من الصورة، وحتى فنان "حلم" الذي لا "ينحني مع أنه عليه أن ينحني نحو الأمام" بمحاولة كي لا يمشي على تراب القبر. وتكاثر الصور والرؤوس تفتح سلسلة جديدة وتكتشف مناطق غير مصورة تمتد إلى حقل المحتم غير المحدود.

***

.....................

الهوامش:

6- يانوش. 143.

7- مرجع سابق. 45:"يمكنك أن تقول المزيد عن الانطباعات التي تلهمك إياها الأشياء بالمقارنة مع الأشياء والذوات نفسها. هذا شعر غنائي. أنت تعانق العالم، ولا تقبض عليه".

8- بالمثل، في "القلعة، بارناباس يقارن "عدة لوحات عن كيلمان"، وتجليات مظهره المفترضة، ويرى الفروق أنها كلها مقلقة لأنها بحدودها الدنيا ولا يمكن ملاحظتها ولا وصفها.

ملاحظة من المترجم:

يتبع غوتاري ودولوز في قراءة كافكا نفس الأسلوب الذي اتبعه أندريه بروتون في تحرير "البيانات السريالية"، وهو أسلوب لا يخلو من القفزات، وإعادة كتابة أدب كافكا. وأول ما يلاحظ على هذا الأسلوب إبعاد كافكا عن أزمته الروحية، وأزمة يهود القرن العشرين، والمشروع الصهيوني. وركز غوتاري ودولوز على نا يلي:

1- ابطال كافكا هم كافكا ذاته. ضحية لمجتمع رأسمالي وبيروقراطي، خيمت عليه الدعاية الفاشستية.

2- لم تكن لأبطاله أوطان خاصة بهم. ولكن لم يبحثوا عن إقامة وطن دائم. ولذلك كانوا بحركة دائمة - وهذا يرمز لفقدان الأرض.

3- وكل الشخصيات ضحايا لقوة مجهولة وغير واضحة ولم يعمدوا لتحديها وانتقادها واستسلموا لها وأصبحوا جزءا منها. ويرمز الباحثان لذلك بصورة الرأس المنحني. أما الرأس المرفوع فهو بدافع الفضول وليس التحدي ولا القتال.

4- هذه المعاناة تسببت بصدع روحي ومادي أهل كل الشخصيات لتعاني من الشيزوفرانيا.

5- لم تكن الشخصيات خارج أرضها فقط، ولكن غريبة عن لسانها. فكافكا شيكوسلوفاكي ويكتب بلغة ألمانية. وكان يهوديا ويعيش في مجتمع مسيحي.

6- هرب من هذا الوضع المعقد بالتخلي عن إنسانيته والتحول إلى حشرة ضخمة. وبذلك أصبح غير مسؤول عما يجري. وبنفس الوقت أصبح العالم كله وطنه ولم تعد هناك ضرورة للاختصاص ببلد له حدود سياسية أو جغرافية. ويؤازر هذا الهروب قوة الاستحواذ أو الامتلاك التي تفرضها البورتريهات ومشاهد الطبيعة الخلابة. فهي تستهلك الناظر وتمنعه من اتخاذ قرار أو موقف شخصي وتفرض عليه سلطتها (وكأنهما يبرئان أوديب من الذنب، ويقترحان أنه نفذ أوامر رغبة لاشعورية، فرضتها عليه أمه. وكن المؤكد أن الأم من تحتضن ابنها وتغذيه - الجنس الفموي - قبل أن يستقل عنها ويذهب بطريقه).

* ترجمة الفصل السادس من كتاب (كافكا: نحو أدب هامشي). ص53-62.

هي ليست رواية بما تعنيه الرواية من توفر لعناصر مألوفة، بل هي أقرب إلى مجموعة قصصية تضُم بين دفتيها حكايات مستقاة من داخل السجون وعلى لسان الأسرى ومعظمها تدور حول إنزلاق البعض منهم وعن سوء تقدير ونتيجة للثقة المفرطة بالآخر والإفصاح عن بعض المعلومات وطبيعة نشاطهم.

وقد كانت إشارة معبرة من الكاتب عندما صدّر كتابه هذا بمقولة للمفكر المصري محمد الغزالي تقول :"ليس من الضروري أن تكون عميلاً لتخدم عدوك، يكفي أن تكون غبيًا".

يوضح لنا الكاتب المغزى من توثيقه لتلك الحكايات وأهمية أن يوثق الأسرى عذاباتهم في كتب ورسائل لتبقى الشاهد والشهيد على ما لاقوه من ظلم وقهر فيقول:"هذا التحدي يشحذ قلمي، خلف كل أسيرقصة وحكاية تجربة وعبرة وسأجعل من هذه الحكايات خلف ستائر العتمة فرصة لكتاب يخترق سجونهم ويكشف مُكوِن دولتهم ويُعرّي ألاعيبهم أمام القادمين إلى مرابض الأسود ومصانع الرجال".

يلاحظ إعتماد الكاتب في بعض الفقرات على ما يعرف بالتناص وكانت النكهة القرآنية والدينية ظاهرة في بعض العبارت مثل:

- البرزخ الذي يفصل الحريّة عن السّجن.

- كنتُ كمن يغرق في جبّ يوسف ولكن دون أن يكون هناك سيّارة.

- وفي وصفه لتوحش المحتل يقول: " لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا"

- وفي موضع آخر وأثناء التحقيق مع الاسير عزيزيقول المحقق أبو داوود " نحن عندنا ثبت العيد أنت فقط تدير وجهك عن الهلال".

- وأخيرا وفي الصفحة 34 يصف الأسير المحقق بالقول " جاء كبيرهم الذي علمهم السحر".

بالعودة إلى مضمون هذه المجموعة القصصية فهي كما تبدو تحمل في طياتها رسائل تحذيرية وتوعوية لكل الشباب الفلسطيني حيث أن كل شاب منهم هو مشروع أسير حتى لا نقول مشروع شهيد، وبالتالي لا بدّ من التنبيه للألاعيب القذرة التي يعتمدها المحتل لأجل إنتزاع المعلومة والإعترافات. حيث لغرفة العصافير التي يشغلها البعض من المتساقطين والتي إبتدعها العدو الدور الكبير في عملية الإيقاع ببعض الأسرى. من هنا يورد الكاتب نصيحته لهؤلاء الأسرى بالقول" إياك أن تقع ضحية البطولة الكاذبة، سرّك لا يوجد ما يدعو لكشف ستره أمام أحد".

نماذج عدّة ومتنوعة أوردها الكاتب تبرز ما يمكن أن يلجأ إليه المحتل للإيقاع بفريسته ومن هذه النماذج والأساليب:

1- إختراق صفحات التواصل الإجتماعي عبر قيامه باستخدام أسماء وهميّة وصفحات مضللّة كما حدث مع سناء في قصة "عصفور على الفيسبوك" حيث إستطاع منتحل الصفة أن ينتزع منها كمية من المعلومات المهمة عن رفاقها في النشاط الطلابي. وتكرر هذا الأسلوب مع سالم نور الذي بتتبع صفحته على الفيس بوك ونتيجة لخطأ من بعض أصدقائه إعتبرهذا الخطأ بمثابة غلطة الشاطرأدت إلى إكتشاف المجموعة بكاملها والإيقاع بها.

2- كما أن أجهزة التنصت المزروعة في الغرف وساحات الإعتقال ساهمت بشكل لافت في الإيقاع بالأسرى وهم يتبادلون أطراف الحديث فيما بينهم معتبرين أنهم في منأى عن الآذان الصاغية للعدو.

3- الوسيلة الأكثر إيلاما ومهانةً التي اعتمدها المحتل كانت في إبتزاز الأسرى والشباب الفلسطيني في حاجاتهم حيث يتم إستغلال حاجة البعض للحصول على تصريح بالسفر لمتابعة العلاج او الدراسة خارج البلاد فيجابه بالشعار الرائج "ساعدنا حتى نساعدك".

تظهر الرواية أيضا بروز طبقة من الإنتهازين والمستفيدين الذين رضخوا لمشيئة الإحتلال وقبلوا التعاون معه لقاء حصولهم على بعض المكتسبات والإمتيازات تخولهم حرية التنقل والعمل داخل البلاد وخارجها، ويطلق عل هذه الطبقة لقب ال V I P .

يصف لنا الكاتب عملية نقل الأسير من لحظة إعتقاله لحين وصوله إلى السجن بالموكب الجنائزي حيث الجنازة مصفحة بالحديد، صمّاء لا تعرف سوى لغة القهر ودقّ الالم في ضلوع الأسرى. كما يشير في أكثر من موضع إلى الإعتقال التعسفي الذي يمارس تحت مسمّى "الإعتقال الإداري" الذي يخول الإحتلال عدم فتح ملف الأسير قبل مرور خمسة سنوات على الإعتقال.كما يشير إلى التمييز العنصري الذي يعتنقه المحتل فمثلا وفي قصة تحقيق في فيلا مع الأسير أبو محمد يجري الحديث عن العدالة الإنتقائية التي يمارسها المحتل يقول أبو محمد: " لم نسمع يومًا محاكمة لإسرائيلي قتل فلسطيني وإذا تمت المحاكمة تكون أقصى العقوبة حرمانه من الإجازات لمدة أسابيع أو شهور على الأكثر.

لم يشأ الكاتب إنهاء مؤلفه هذا دون التطرق ولو لمامًا للوضع السياسي وعملية السلام المزعوم، يقول الأسير أبو محمد في حواره مع المحقق "أتريد سلامًا يقوم على إعادة الحقوق لأصحابها أم سلامًا يكرس الإحتلال والظلم والطغيان؟". وكذلك يحاور الأسير محمود جابرالمحقق قائلا له:" هل أنتم مستعدون للإعتراف بحق اللاجئين وعودتهم إلى ديارهم وأن تكون القدس عاصمة لفلسطين؟".

كما كانت اوسلو بتداعياتها حاضرة في هذا الحوار بقول أبو محمد:" لقد تم التنازل حسب أوسلو عن ثلاثة ارباع فلسطين وبقيتم تحاولون سلبنا الربع الذي تبقى لنا.

ختاما وبعد كل هذه الحكايات وكما بدأ الكاتب كتابه هذا بالتحذيرمن مغبة الركون لألاعيب العدو وخزعبلاته ينهي كتابه بخلاصة مفادها أنّ منسوب الوعيّ والحذر الواجب إعتماده من قبل الشباب الفلسطيني لا يزال متوضعا ولذلك يختم بالقول: "أن الإحتلال يصر على ذات الاساليب وكثير ممن وقع في شباكه يصر على ذات الأخطاء".

إشارة أخيرة حول تسمية الكتاب "وهكذا أصبح جاسوسا" قد يجده بعض القراء غير منسجم كثيرا مع محتوياته ولو قدر لي اختيار العنوان البديل لإخترت على سبيل المثال "وكرالعصافير او السنافر".

***

عفيف قاووق - لبنان.

أولاً- نص قصيدة (عصفورة القلب)(1)

1- يا منْ بلغتِ من الجمالِ فصولا

ومهدتِ في أدبِ الغرامِ حقولا

2- هيا اغرسي عشقاً بقلبِ قصيدتي

فالشعر يغدو بالعشيقِ جميلا

3- تمسي الحروفُ كواكباً بل أنجماً

وتعيشُ في كبدِ السماءِ طويلا

4- فوحي بعطركِ في الصباحِ تألقي

وتلبَّسي نجمَ الضحى إكيلا

5- عصفورُ قلبي تائهٌ في عشهِ

والغصنُ يشكو في الفلاةِ ذبولا

6- حوريتي أنت الحياةُ وجنتي

وبغير هذا أهملُ التعليلا

7- مُدِّي ذراعَكِ تحت رأسي حلوتي

أوليس لمسك بالشفاءِ كفيلا

8- أولستِ من أحيا فؤادي كلما

وقعَ الفؤادُ على يديكِ قتيلا

9- طلّي وغذي مهجتي بأناملٍ

ببنانِ سحرٍ ترفضُ التأجيلا

10- وتوضئي بالحبِّ صلي للهوى

وضعي لدين العاشقين أصولا

11- أوليست الأعمارُ إلا كذبة

تلهو بحلمٍ يعتريكِ قليلا؟

12- تباً لعمرٍ دونَ حبٍ ينتهي

والعمر يهوى في الورى التنكيلا

13- هيا إلى بحري تعالي موجة ً

وتعمدي للسابحينَ وصولا

14- إني اعتنقتُ الحب في مهدي وقد

أصبحتُ للحب الكبير رسولا

15- عيناكِ آياتُ الجمالِ وإنها

من ربنا قد أنزلتْ تنزيلا

16- فسرحتُ أهذي غارقاً في وصفها

لغة الهوى بدَّلتها تبديلا

17- دوَّنتها وقرأتها فعشقتها

وبمعبدي رتلتها ترتيلا

18- والفجرُ عند بزوغه لما يجد

إلاك في قهرِ الظلام سبيلا

19- فسعى إليكِ مع النسيمِ بشمسه

حتى تكوني للضياءِ دليلا

20- وتفتحت مهجُ الورود بفجرها

وتناغمت قممُ الخيالِ صهيلا

21- فهممتُ في وجه الصباح مقبلاً

ثغر الحبيبةِ والسنى تقبيلا

22- أيقنتُ أنك في الحياةِ منارتي

لما أضأتِ بصدري القنديلا

23- أحسست قلبي للحبيبةِ دوحة ً

غرستْ بها فوقَ الوريدِ نخيلا

24- شغفٌ بها عند الأصيلِ تمايلتْ

همساً وجفناً ساحراً مكحولا

25- وعزفتُ ألحاني  بروحِ قصيدتي

فسمعتُ في بيت القصيدِ هديلا

26- وغسلتُ أوجاعي بآهاتي وما

وجدَ الفؤادُ مع الغرامِ حلولا

27- (هلي) إليَّ بكل حسنكِ أنعشي

قلبي الجريحَ واستبظئي التهليلا

28- هيا اشرئبي كالحمائم للسما

ماكانض فجركِ في البزوغِ خجولا

29- وتفتحي وردَ القلوبَ بواحتي

ماكان وردكِ بالعطورِ بخيلا

30- في بحري اغتسلي ليغدو ملحُهُ  عسلَ الشفا لايقبلُ التأويلا

31- أيقولُ حسادي بأنكِ خمرتي

ماهمني في سكرتي ما قيلا

32- خمر الدوالي ما أطاحَ بصحوتي

لكن كأسكِ يرفعُ المفعولا

33- طرزتُ حرفي بالبلاغةِ متقناً

ألبسته لحبيبتي منديلا

34- شمس المحاسن من جبينكِ أشرقتْ

وأحبُّ فيكِ قوامكِ المصقولا

35- لاتطفئي ناراً بقلبي أشعلتْ

بل أضرميها بكرةً وأصيلا

علم الجمال الشعري:

قد يختلف معنا الكثيرون، هل ثمة علم يدعى علم الجمال الشعري أو النصي، وإذا كان ثمة علم يدعى علم الجمال الشعري، من هم أبرز النقاد أو العلماء الجماليين الذين ربطوا الجمال بالشعر، والذين ربطوا فن الجمال بعلم الجمال الشعري؟ نقول: إن علم الجمال الشعري علم قديم، بحث فيه النقاد القدامى كأفلاطون وسقراط ضمن ما يسمى علم الجمال، ومؤثرات الفن، وفلسفة الفن، ولما كان فن الشعر من الفنون القديمة كل النقاد ربطوا الفلسفة بالشعر وربطوا الشعر بالفلسفة، وأهمها بفلسفة الجمال الشعري، وهذا يدلنا على أن الفكرة موجودة منذ القدم، لكن انشغل الفلاسفة بقضايا عامة ما التفتوا إلى المسائل الخاصة، لاسيما علم الجمال الشعري، وقد حاولنا في دراستنا النصية أن نمهد لهذا العلم الجديد بشقه التطبيقي عند شاعر جمالي هو وهيب عجمي، شاعر استطاع أن يقرن الجمالية بالعلم والفن بالفكر، والفلسفة بالرؤيا، ويعد الشاعر وهيب عجمي من الشعراء المؤثرين الذين أثروا الساحة الشعرية بقصائد لوحاتية غاية في الفهم والإدراك والحساسية الجمالية من حيث بلاغة الرؤيا وعمق المنظور الفني أو الجمالي، لتأتي قصائده غاية في الاستثارة والبلاغة والتأثير.

وبمنظورنا: إن الشعرية – عند وهيب عجمي- مثيرها دائماً كل ماهو جمالي في الرؤيا والتشكيل والهندسة اللفظية وعمق المتخيل الشعري، فالقصيدة لديه دائماً كمسرح جمالي يشكله العجمي بإحساس واقعي عياني مباشر، يحرك الجماد ويؤنسن الأشياء المحيطة أمامه لتمثل في تجربته وكأنها شخوص حية، وهو ينظر للشعرية من منظار كل ماهو حي، ومن منظار كل ماهو متحرك ومتبدل كما وجه الحياة، إذ يقول: " كل شيء في عيني الشاعر يموج بالحركة لايوجد في رؤى الشاعر ماهو ثابت، كل يوم في حياة الشاعر عالم جديد منفتح على الحياة، فالشعر لعبة من ألاعيب الحياة واستبطان لمعالم الوجود، فما دام الوجود متحركاً بالتأكيد أن مخيلة الشاعر متحركة كما هي الحياة في الواقع العياني المباشر، وأبداص ما عشت القصيدة رهين محبس الوجود كما المعري أعيش الحياة بمتنفس الحياة ذاتها، فكما أعيش يومي الحياتي أعيش حساسية القصيدة وكونها وهواءها ونفسها في داخلي، فأنا مسكون بالقصيدة والقصيدة مسكونة في روحي أشكلها بطينة التجربة وعصارة الخبرة والمهارة والوعي الجمالي، ما كنت يوماً رهين المحبسين كما المعري، فأنا رهين فضاءات الرؤيا وحداثوية المنظور الجمالي للحياة في أدق تفاصيلها"(2).

وبتقديرنا: إن العجمي يدرك سر الحداثة وعصر الحداثة، فالحداثة ليست أيقونة ثابتة أو رمزاً ساكناً؛ إن الحداثة روح وثورة معرفية ورؤيوية وحركة تصويرية انقلابية تعزف على وتر لمتغيرات الدائبة وسيرورة الحياة المتجددة، ولايمكن للشاعر أن يكون شاعراص مؤثراً إن لم يكن حراص في فكره ورؤاه ومتخيلاته الشعرية، ومن هنا من أهم فواعل الرؤيا الجمالية عند شعراء الحداثة بلاغة الرؤيا الشعرية وبلاغة المنظور الجمالي للقصيدة، فالشاعر المبدع يشكل القصيدة بجمالية وبلاغة آسرة يبني النص الكتلة أو النص اللحمة الذي يحتاج مزيداً من الانفتاح والوعي الجمالي والتخطيط الجمالي في تشكيله؛ يقول وهيب عجمي: " ما عشت القصيدة كواجب أو فرض، القصيدة تتغلغل في مسامات روحي، وأحاسيسي العميقة، أنا أتنفس في قصائدي عبير الحياة ونكتها الطازجة، والفكرة لشعرية وليدة لحظتها المتوترة وسخونة الأحداث والوقائع اليومية؛ أنا أكتب القصيدة بفاعلية وجمال وحياكة عالية في التشكيل والتركيب ولهذا أتصيد الصور الحساسة التي تفيض بشعريتها ورؤيتها الخلاقة بالمعاني والدلالات الجديدة."(3).

بهذه الرؤية التي يطالعنا بها العجمي نؤكد أن وعيه الجمالي وقدرته الفائقة على ابتعاث وخلق الصورة التشكيلية الجمالية جعلاه يهندس القصيدة هندسة لفظية وجمالية غاية في الاستثارة والبلاغة والتأثير، وكما قلنا: إن عنصر الاستثارة الجمالية التي تحفل بها قصائده ترتكز على فواتحها أو عتباتها الاستهلالية من حيث القيمة الجمالية المحكمة التي يستهل بها قصائده لتأتي ذات قيمة عالية في الحراك الجمالي على مستوى الأنساق والتشكيلات الشعرية المراوغة، كما في هذه الفاتحة التي استهل بها قصيدته (عصفورة القلب) المهداة إلى زوجته، إ ذ يقول فيها:

1- يا منْ بلغتِ من الجمالِ فصولا

ومهدتِ في أدبِ الغرامِ حقولا

2- هيا اغرسي عشقاً بقلبِ قصيدتي

فالشعر يغدو بالعشيقِ جميلا

3- تمسي الحروفُ كواكباً بل أنجماً

وتعيشُ في كبدِ السماءِ طويلا

4- فوحي بعطركِ في الصباحِ تألقي

وتلبَّسي نجمَ الضحى إكليلا

5- عصفورُ قلبي تائهٌ في عشهِ

والغصنُ يشكو في الفلاةِ ذبولا

6- حوريتي أنت الحياةُ وجنتي

وبغير هذا أهملُ التعليلا

لاشك في أن الشعرية قيمة تحولية غاية في الاستثارة والحساسية والجمال، لاسيما عند بعض الشعراء الذين يهندسون الصور والكلمات هندسة بنائية تشكيلية محكمة؛ فالشاعر وهيب عجمي يتلاعب باللفظ والكلمات تلاعباً فنياً مغرياً في استهلالاته، لتأتي جمالية التراكيب من جمالية المعاني والدلالات التي تفجرها في النص الشعري؛أي ثمة تفاعل حقيقي بين اللفظ ودلالاته، وهذا التفاعل من أهم فواعل الاستشراف الجمالي في ربط الأنساق الشعرية بعضها بعضاً وامتياز البلاغة الجمالية التي أغرت النص الشعري ليثمر برؤيته للقارئ، فالقيمة الجمالية قيمة تحفيزية للنسق الشعري، فهاهو الشاعر في استهلال تراكيبه الشعرية يستدعي الملفوظات الموقعة صوتاً ودلالة: [عصفور قلبي تائه في عشه والغصن يشكو في الفلاة ذبولا]؛ فالقيمة الجمالية للأبيات استشرافية للمعاني والدلالات الجديدة لتأتي موقعة بلاغياً؛وهذا دليل أن العجمي يبني النص التفاعلي، نص الرؤيا البليغة والمعاني المتجددة.

ولو دققنا في مغريات هذه القصيدة على المستوى الجمالي لتبدى لنا أن المستوى الجمالي منبني على الدلالات المكثفة والرؤى الصادمة ؛لتأتي ذات قيمة إيحائية بالتكثيف والرؤى البليغة، كما في قوله:

7- مُدِّي ذراعَكِ تحت رأسي حلوتي

أوليس لمسك بالشفاءِ كفيلا

8- أو لستِ من أحيا فؤادي كلما

وقعَ الفؤادُ على يديكِ قتيلا

9- طلّي وغذي مهجتي بأناملٍ

ببنانِ سحرٍ ترفضُ التأجيلا

10- وتوضئي بالحبِّ صلي للهوى

وضعي لدين العاشقين أصولا

11- أو ليست الأعمارُ إلا كذبة

تلهو بحلمٍ يعتريكِ قليلا؟

12- تباً لعمرٍ دونَ حبٍ ينتهي

والعمر يهوى في الورى التنكيلا

13- هيا إلى بحري تعالي موجة ً

وتعمدي للسابحينَ وصولا

14- إني اعتنقتُ الحب في مهدي وقد

أصبحتُ للحب الكبير رسولا

لاشك في أن الشعرية –أساسها- دقة اختيار الملفوظ الشعري، وبداعة الدلالات والرؤى الغزلية، لتبدو الرؤية الشعرية ذات قيمة ائتلافية تضافرية بين الجملة والجملة؛ والدلالة والدلالة، كما في قوله: [ مدي ذراعك تحت رأسي حلوتي أوليس لمسك بالشفاء كفيلا]؛ولو دقق القارئ في المخزون الجمالي للكلمات ومستوى تفاعلها وتضافرها في النسق الشعري لخلص إلى نتائج موضوعية، وهي أن القصيدة تشكل منعطفاً مهماً في تحفيزها النسقي؛ مما يجعلها غاية في المباغنتة والحنكة الجمالية: (وتوضئي بالحب صلي للهوى/ تباً لعمرٍ دون حبٍ ينتهي)، وهكذا يؤسس الشاعر الدلالات الشعرية على حراك الرؤى البليغة، لدرجة أن الجملة تقتضي الجملة وتشكل معها فاعلية آسرة، والكلمة تقتضي الكلمة بسيرورة نسقية متضافرة لفظاً ودلالة، وهكذا تتناغم الدلالات الشعرية لتحقق أعلى مستوى تفاعلي مؤثر في النسق الشعري من خلال تفاعل الدلالات والرؤى الشعرية، وهذا ما يلحظه القارئ في تتابع الدلالات والصور الشعرية على هذه الشاكلة من المواربة والاختلاف والتنوع والاستثارة الجمالية.

والملاحظ إبداعياً أن الحنكة الجمالية التي تربط البيت والبيت حنكة دلالية ترسيمية، إذ إن البيت يقتضي جمالية البيت السابق وجمالية البيت اللاحق دون أن تنفصل الرؤى أو تتشظى، مما يدل على بلاغة خاصة في رسم الصور الشعرية لتحقق مبتغاها ومقتضاها الجمالي الحقيقي، كما في قوله:

15- عيناكِ آياتُ الجمالِ وإنها

من ربنا قد أنزلتْ تنزيلا

16- فسرحتُ أهذي غارقاً في وصفها

لغة الهوى بدَّلتها تبديلا

17- دوَّنتها وقرأتها فعشقتها

وبمعبدي رتلتها ترتيلا

18- والفجرُ عند بزوغه لما يجد

إلاك في قهرِ الظلام سبيلا

19- فسعى إليكِ مع النسيمِ بشمسه

حتى تكوني للضياءِ دليلا

20- وتفتحت مهجُ الورود بفجرها

وتناغمت قممُ الخيالِ صهيلا

21- فهممتُ في وجه الصباح مقبلاً

ثغر الحبيبةِ والسنى تقبيلا

22- أيقنتُ أنك في الحياةِ منارتي

لما أضأتِ بصدري القنديلا

23- أحسست قلبي للحبيبةِ دوحة ً

غرستْ بها فوقَ الوريدِ نخيلا

24- شغفٌ بها عند الأصيلِ تمايلتْ

همساً وجفناً ساحراً مكحولا

هنا، يأتي المقتضى الصوتي والنسقي بلاغياً، لدرجة أن الكلمة تقتضي جمالياً الكلمة التالية لتحقق مبتغاها النصي، وهاهنا أعتمد الشاعر بلاغة الكلمة الفعلية في نسقها لتثير النسق الشعري، وتعبر عن الحراك أو التحول في الحدث الفعلي، كما في التحولات الفعلية النسقية التالية: "سرحت- بدلت- دونت- قرأت- رتلت- هممت- أحسست) وناهيك عن بلاغة الفعل المخاطب، وما تصاحبه من حركة للمشاعر(تفتحت- تناغمت- أيقنت- غرستْ- أضاءت- تمايلت)؛ وهذا دليل الحراك الشعوري في الأحداث والمشاعر الغزلية المتوالية التي تبعث الصورة والصورة، والدلالة ومثيلها الشعوري الغزلي في كشف الحالة الشعورية وما يصاحبها من أحاسيس متوترة غاية في الشفافية والغزل الروحي والصوفي المحتدم بالأنثى الكمال أو أنثى الجمال.

والملاحظ جمالياً أن الحراك الفعلي جاء متواشجاً مع كثافة الصور والدلالات والمشاعر المحتدمة التي تباغت القارئ في نسقها الجمالي، بالانتقال من نسق تصويري جمالي إلى آخر، لتبرز الدلالات الشعرية المتوترة، كما في سلسلة الصور التالية: [فهممت في وجه الصباح مقبلاً]، فهذه الصورة العغزلية تقتضي بلاغة الصورة الفعلية المتحركة بإيقاعها: [أيقنت أنك في الحياة منارتي لما أضاءت بصدري القنديلا]؛ وهكذا تؤدي الأفعال دورها الحركي التحولي في نقل المشاعر الغزلية المصطهجة بالمشاعر الغزلية المكثفة التي تعبر عن بلاغة مقتضاها التصويري، ليكون الفعل الرابط أو الفاعل المؤثر في أإصابة المقتضيات الشعرية والعاطفية والدلالية البليغة في نسقها الشعري.

ومن هنا، يمكن القول: إن شعرية القصيدة في شعر وهيب شعرية مكونات أسلوبية ومتغيرات أسلوبية بالانتقال من صورة إلى صورة، ومن دلالة إلى دلالة لتحقق أعلى قيمة في منتجة الصور التشكيلية وليست البصرية فحسب، أي ثمة تفاعل رؤيوي خلاق بالمؤشرات الجمالية التي يؤسسها العجمي على الباعث الاسمي ومقتضاها التشكيلي ضمن سيرورة نسقية تفاعلية تدللب على شعرية الكلمة وتفاعلها في نسق الجملة لتثير القارئ بأنغامها وأصدائها الدلالية الموقعة لفظاً ودلالة، كما في قوله:

25- وعزفتُ ألحاني  بروحِ قصيدتي

فسمعتُ في بيت القصيدِ هديلا

26- وغسلتُ أوجاعي بآهاتي وما

وجدَ الفؤادُ مع الغرامِ حلولا

27- (هلي) إليَّ بكل حسنكِ أنعشي

قلبي الجريحَ واستبظئي التهليلا

28- هيا اشرئبي كالحمائم للسما

ماكانض فجركِ في البزوغِ خجولا

29- وتفتحي وردَ القلوبَ بواحتي

ماكان وردكِ بالعطورِ بخيلا

30- في بحري اغتسلي ليغدو ملحُهُ

عسلَ الشفا لايقبلُ التأويلا

31- أيقولُ حسادي بأنكِ خمرتي

ماهمني في سكرتي ما قيلا

32- خمر الدوالي ما أطاحَ بصحوتي

لكن كأسكِ يرفعُ المفعولا

33- طرزتُ حرفي بالبلاغةِ متقناً

ألبسته لحبيبتي منديلا

لاشك في أن الشعرية تأسيس كلمات، وحرفنة نسقية في رسم أبعادها ورؤاها الشعرية، إذ إن الشاعر يتلاعب بالنسق الشعري جمالياً، بالانتقال من صورة إلى صورة، ومن رمز دلالي إلى آخر، لتبرز الدلالات برؤاها المكثفة، ومؤثراتهاالبراقة: [طرزت حرفي بالبلاغة متقناً- في بحري اغتسلي ليغدو ملحه عسل الشفاه لايقبلُ التأويلا]؛وهكذا، يؤسس الشاعر إيقاع قصائده على بلاغة الدلالات الشعرية، وقيمة مؤثرها الجمالي، لتأتي القفلة شاعرية ذات إيقاعات تصويرية متلاحمة، وكأن العجمي يرسم الكلمات رسماً بريشة فنان يعي جمالية الكلمة وإيقاعها الصوتي الخلاق، كما في قوله:

34- شمس المحاسن من جبينكِ أشرقتْ

وأحبُّ فيكِ قوامكِ المصقولا

35- لا تطفئي ناراً بقلبي أشعلتْ

بل أضرميها بكرةً وأصيلا

36- أنا من تشظى بانفجار قصيدتي

وغدوت في نعشِ الهوى محمولا

إن الخاتمة النصية تحقق جماليتها بإيقاع تحفيزي من خلال دهشة ما تشير إليه من دلالات ومعانٍ غاية في التحفيز والتفاعل النصي، وهذا دليل حنكة جمالية وترسيم جمالي في هذه القصيدة التي تعد من الدرر الجمالية في متحف الشاعر وهيب عجمي الغني باللوحات والصور والتحف الفنية، مما يجعلها ذات قيمة جمالية عالية تؤسس شعرية النسق وتحفيزها الاستشرافي الجمالي.

وهكذا تحقق القصيدة قيمتها الجمالية عبر مؤثراتها التشكيلية لترقى أعلى مستويات الاستثارة والبلاغة والتأثير؛وهذا إن دل على شيء فيدل على روح شاعرية مؤثرة باتجاهاتها كافة.

***

د. عصام شرتح

....................

الحواشي:

(1)عجمي، وهيب، 2020- وردة العشق، دار البنان، ط1، ص33- 37.

(2) شرتح، عصام، 2020- حوار مع وهيب عجمي، الفيس بوك

(3) شرتح، عصام، 2020- حوار مع وهيب عجمي، الفيس بوك.

للكاتب والروائي حنون مجيد  

استطاعت (القصة القصيرة جداً) ان تبرهن على أنها جنسا أدبيا مستقلا بذاته، وقد تحقق لها ذلك بعد هذا الكم الهائل من الإصدارات، والدراسات النقدية، والمهرجانات الأدبية المحتفية بها، والجوائز التي أنشئت ونظمت تقديرا لروادها. ويعتبرها البعض جنس المستقبل، لأن الحياة بجميع نواحيها تنحو للاختزال والتكثيف والسرعة، ولا ريب إن التطور الهائل في وسائل الاتصالات، والتغيرات الاجتماعية والسياسة والثقافية العميقة، ساهمت في ولادتها لتماشي إيقاع الحياة المتسارع. اضافة لدعائمها القوية، التي تتمثل في المفارقة المدهشة والعمق الكشاف، والرمز النفاذ والكثافة الخصبة، واللحظة الزمنية البارقة ودقة التقسيم المدهشة، والطاقة الإيحائية الممتعة والأساليب الشاعرية الشفافة، ومكوناتها السردية.

ونستطيع ان نقول عن القصة القصيرة جدا بانها السرد الصعب، من بين جميع الاجناس السردية الاخرى، فهي صعبة الكتابة وصعبة القراءة! لان كتابتها تستوجب سردية موجزة حاذقة وقدرة كبيرة على استشفاف اللغة وتوظيفها بأقل الجمل وأجملها، بالرغم من ان المساحة الأفقية والعمودية المتوفرة لها اقل مساحة مما تتوفر للاجناس الأخرى. وهي صعبة القراءة لان هذه الجمل القليلة والصغيرة جدا في اغلب الاحيان، تستوجب من القارئ جهودا كبيرة للمساهمة في هذا العمل عبر الرجوع على قراءاته السردية السابقة، لاستكشاف الصور التخيلية التي يبعث بها القاص. علاوة على اختزالها للكثير من أدوات الرسم التي يهبها الراوي او القاص لقرائه، مثل الوصف والحكي والاسترجاع، التي تساعده في اكتشاف المعنى المحدد لتلك الصور المطلوبة! لا شك ان كاتب القصة القصيرة جدا عند الانتهاء من كتابة قصته الصغيرة جدا وتسطيرها على الورق، يحس بالراحة والخلاص من ثقل المهمة التي كان يقوم بها! بينما يدوم هذا الثقل والتعب لدى قارئها لفترة طويلة بعد انتهائه من قراءتها للبحث عن معاني الجمل والكلمات، والتنبه لجميع علامات الترقيم، ليستشف العوالم الخيالية التي اراد ان يُوصلها الكاتب، من خلال هذه الصور اللغوية الصغيرة والمختصرة، والتي سطرها بدراية ومهارة لا يملكها الا من تمكن من سلاسة لغته وحبكة قصته وعمق جمله وسعة افقه الفني. وإن الحدث في هذا الجنس الحديث يجب أن يكون متنامياً يومئ ولا يوضح، وأن يكون مكثفاً دون إفراط في استخدام الكلمات التي لا تفيد القصة، ويستند على فكرة عميقة، ويتصف بالسمات الدرامية من فعل وحركة وتوتر اللازمة لنمو الحدث وإحداث الصدمة وصولاً إلى النهاية في حبكة محكمة ومتقنة. وهي معنية بتناول حدث محدد في لحظة توتر، بأقل عدد من الكلمات، ولابد أن يكون نصا سريع الإيقاع، فعلي الجملة، مكثف الهوية، وهذا هو الفارق بينها وبين القصة القصيرة الاعتيادية.

ومثلما في جميع اجناس السرد الاخرى يكون للعنوان أهمية كبيرة، كذلك في القصة القصيرة جدا، فللعنوان اهمية كبيرة لانه نص مواز للمتن القصصي القصير جدا، يظهر مدى الارتباط و الصلة التي تجمع بين العنوان والنص، ويساعد من خلال استفزاز القارئ وإثارة انتباهه، واستمالته وإقناعه لتقبل موضوع القصة والتعاطف مع ثيمتها، والعنوان بوابة القصة، ومفتاحها لضبط النص، ووسيلة تحديد هويتها، به نبتدأ وبفضله يدفعنا الفضول لقراءة ما يضمه النص وطبيعة الموضوع الذي نحن بصدده، وبداية لحوارية المتلقي مع هذا النص!

في "بصيرة البلبل" المجموعة القصصية القصيرة جدا التي صدرت عن دار غراب للنشر والتوزيع القاهرة 2018، للكاتب والروائي حنون مجيد، الذي مارس كتابة الاجناس السردية جميعها؛ الرواية والمسرحية والقصة القصيرة والقصيرة جدا وقصص الاطفال. وقد نشرت اعماله السردية في الكثير من الصحف العراقية والعربية وتُرجم الكثير منها للغات اجنبية عديدة. نستشعر باهمية العنوان في مجموعته القصصية هذه، ومن خلال تلك العناوين يدخل القارئ إلى صلب محتوى ومضمون النص. وسنستعرض البعض من هذه العناوين التي نستمد من مغزاها، أو من طبيعتها الإيحائية، والتناصية، والساخرة ما ابتغاه وسعى اليه القاص في قصص مجموعته هذه:

العنوان الايحائي

يساعد الايحاء القارئ في التخييل واشراك الفكر بحثا عن مدلولات المفردات والتراكيب مما يمنح النص جمالية ويمنح المتلقي لذة البحث والتقصي بما توحي به هذه المفردات..

(صوت الآخر...)

استطاع القاص هنا ان يوظف اسم المجلة التي يعمل فيها الصديق (صوت الآخر) في العنوان الذي رمز له بالموت (الصوت الآخر..) الذي بات ينادي صديقه بسبب الداء الخبيث الذي يستعصي شفائه. عنوان هذه القصة يقود الى ما يخشاه كل انسان يلازمه ذلك الداء الخبيث، و(الآخر) هو رمز الى عالمنا الآخر، الذي من المحال ان نبعد عنه الى ما لا نهاية فكلنا راحلون! وقد اشارت الجملة التي تحت العنوان "الى روح صديقي عبدالستار ابراهيم" للايحاء للقارئ ان الصديق لابد من رحيله: اما مقاومته للمرض واصراره على الحياة فلن تجدي، لذلك رفع ذراعيه قائلا؛ كفى.. كفى.. ها انا قادم إليك" ص8.

(عجلات)

في قصة (عجلات)، نلاحظ مجموعة افعال الجمل السردية المتوالية والمتعاقبة، التي ينبني المقطع السردي عليها في القصة ورسم صورة لما يعانيه هذا الطفل، بتنقله بين اكشاك الصحف والمجلات لاكمال قراءة مجلته المفضلة، لعدم امتلاكه النقود لشرائها وقراءتها، فيضطر للقيام بالوقوف امام كشف بائع الصحف ليقرأ مجلته. ولا يكتفي عن ذلك عندما ينهره البائع وينصرف متألما الى كشك آخر، ليعود لتصفح المجلة ثانية، فإذا نهره البائع الاخر ذهب محزونا الى غيره. محاولة قراءة المجلة ونهره من قبل بائعي المجلة لاكثر من مرة واصراره على اكمال قراءتها ومن ثم نهره من جديد، يشبهه القاص بدوران العجلة، في لا نهائية دورانها المستمر! لكنه ازاد على ذلك بتشبيهه بعجلات العربة المتعبة في طريق صعب!: "تدور عجلات هذا الصبي مع المجلة عينها كما تدور عجلات العربة المتعبة مع الطريق العسير" ص9.

(طيور "السايلو")

"على ريح عاتية هبت فجأة انهار "سايلو" المدينة.. طيوره التي استباحت قمته من قبل وعاشت وتكاثرت بين مفاصله، تشتت في البعيد والقريب وطفقت تراقبه..." القصة توحي لـ(السايلو- مخزن الحبوب) كأنه البلد الغني الذي كان يسكنه اهله وهم متنعمين بخيراته لكن رياح عاتية هبت عليه واسقطته وابعدت اهله عنه. وهذه المحنة (انهيار السايلو) دفع بالطامعين من الغرباء (طيور غريبة)! غزت خيراته المسفوحة على الارض لتستبيحها، وبسبب شقاق هذه الطيور الغريبة واختلافها فيما بينها وتحولها الى صيد سهل للصيادين؛ "يحزن السايلو (البلد) على حبوبه (خيراته) تتبدد وتنفد، "فيلقي بلومه على الريح ولم تكن اي ريح" ص34.

العنوان التناصي

تقنية التناص، يلجئ اليها القاص في بعض الاحيان لانها تتيح له حرية في الحركة أو القول لا تتوفر خارج التناص .. فالإشارات اللغوية من ترتيب الكلمات أو الاقتباسات أو التلميحات الثقافية بأنواعها المختلفة، كلها علامات تحفز التخييل على استنطاق الموجودات النصية .

(البرهمي)

هنا يحضر تناص النصوص مع العنوان وما يحيل إليه من مضمرات كامنة في ذهن القارئ، حيث يشترك المرسل والمرسل اليه في تشكيل الرؤية إلى عالم هذه القصص، فالعنوان يثير في المتلقي الرغبة في التأويل في قصة (البرهمي) عنوان القصة وما كتب تحته: "بتصرف"، هيئ القارئ للبحث في قراءاته السابقة فالحكاية التي تدور بين البرهمي الذي عطف على النمر المحبوس واطلق سراحه، وتصرف النمر غير المتوقع ورغبته لافتراس هذا الرجل الذي انقذه من قفصه! وهي تشير الى المثل الذي يقول: "خيرا تفعل شرا تلقى". ولولا ذكاء الثعلب الذي طُلب منه التحكيم في هذه الحادثة، والذي استطاع ان يعيد النمر الى القفص مرة ثانية، بعد ان طلب من النمر والبرهمي ان يحكوا له الحكاية من اولها؛ فادخل النمر القفص واعاد غلقه وانقذ الرجل. واستغراب الرجل من انقاذ الثعلب له بدون اجر، وعندما سأل الثعلب عن سبب انقاذه؟ اجابه الثعلب بفخر وخيلاء؛ "هذا لانك برهمي مني!" معلوم ان هؤلاء القوم يعتبرون انفسهم الطبقة الافضل في مجتمعهم.. ص7.

(بئر يوسف)

في هذه القصة يوحي العنوان واستهلال القصة الى فضاء قصة اخوان النبي يوسف وتآمرهم للخلاص منه بالقائه في البئر: "في النهار يستمع الى حداء الركبان يطرقون أرضه فيطرب ويسلو وحدته، في الليل يسترخي على قصصهم حين يؤون اليه، ويتزودون من مائه". غير ان البئر يشح بمائه رفقا بالنبي يوسف حين يلقوه اخوته في البئر: "ليستقبل جسده الكريم بترف ولين، وليحميه من موت"! ص66.

(حجر ماتا)

القصة تحكي حياة امرأة اتهمت بالتجسس المزدوج تدعى ماتا هاري، هذه المرأة الهولندية التي فتنت جماهير باريس برقصاتها التي كانت تؤديها كراقصة في معبد هندي، والتي أشعلت الخيال الجامح للبوهيميين في أوروبا أثناء العهد الجميل الذي سبق الحرب العالمية الأولى. وهناك عدد لا يحصى من القصص، ليست كلها حقيقية، تدور حول حياتها البراقة والغامضة. اعتقلت ماتا هاري، واسمها الحقيقي مارجريتا جرترودا زيلي، في مداهمة أثناء الفجر لفندق فخم في باريس. أدينت بأنها عميلة مزدوجة وبتهمة الخيانة العظمى، .

وفي 15 تشرين الأول 1917، تم إعدامها رميا بالرصاص في فينسين على مشارف باريس، وكانت تبلغ من العمر حينذاك 41 عاما، رفضت ماتا هاري وضع عصبة على عينيها وصارت توزع القبل على جلاديها. استطاع الكاتب حنون مجيد ان يلخص حياة هذه المرأة: بهذه الكلمات القليلة وهي ترمي حجرا مسننا بعد تودعه وصيتها: "ابتعد ايها الحجر، واحمل ماضييّ معك، كل عاري، وكل اخطائي التي ارتكبتُ". وتدفن كل ماضيها. ص71.

العنوان الساخر

وهو يوجه توقعات القارئ لموضوع معين، إلا ان هذه التوقعات تتغير اثناء قراءة النص:

(البطل)

"عندما قابلته تراخت اعصابي وكاد يُشلُّ لساني، ومع ذلك جرؤتُ وسألته؛ سيدي العظيم" كلمة العنوان؛ (البطل) واستهلال القصة يشيران الى الصورة المهيبة التي يرسمها لنا الكاتب عن شخصية هذا المصارع؛ الذي استطاع الفوز على كل خصومه، فهو الجبار الذي لم يستطع ان يقف بوجهه احد؛ فالاعصاب التي تراخت والشلل الذي اصاب لسان السائل والجرأة التي تطلبتها عملية السؤال، وصفة السيادة والعظمة التي اطلقت عليه!. وعندما تجرأ السائل وسأل اجابه البطل بشكل غريب؛ "ما قابلتُ رجلا إلا وساعدني على نفسه، اما انا نفسي فلا اعلم!" فالعنوان هنا جيء به للسخرية من هذا الرجل المصارع الهيبة والفخامة، لان جوابه كان نقيضا لصورته، فهو لا يعلم كيف يصرع الاخرين! لكن الاخرين هم الذين يساعدونه للانتصار عليهم لانهم يتهيبون منه! فيخشونه ليصرعهم! ص5.

(السحرة ونحن)

القصة تتحدث عن واقعنا الذي نعيشه الان؛ "صديقي؛ عندما حدثته عن ان امس، خدعنا ساحر بألعابه الماهرة حتى بتنا نتذكرها كل حين، فنحزن علينا او نضحك منا ثم نغضب عليه..." فلم يشر العنوان (السحرة ونحن) الى الساحر الاول وسحرة الوقت الحاضر، بل اشار الى السحرة والى المتأثرين بسحرهم (نحن) كناية الى مصيبتنا، التي استمرت منذ الساحر الاول الى وقتنا الحاضر؛ فنحن كنا نحزن على انفسنا او نضحك منها، معه؛ غير ان ما شاهدناه من هؤلاء السحرة الجدد اشد وطئة من ذاك الساحر الذي مضى منذ زمن بعيد؛ "لا نحزن ولا نغضب وكأننا اموات" اذن السحرة الجدد اوصلونا الى الموت. فهل السبب امتلاكهم للفطنة والذكاء، أم غفلتنا وغباءنا؟ تساءل يحمل السخرية والمرارة بما نعيشه الان، ودوام هذه الحال التي نعيشها؛ "يبدو الامر كذلك!"(ص38).

(قسمة عادلة!)

"ليرتوي.. أمر الشيخ احد عبيده ان يسقيه ابريق لبن مباشر من ضرع البقرة التي نسي اسمها من بين اسماء مئةٍ مثلها، قبل ان ينهض الى صلاة الفجر.. الى قريب من بيته الكبير، كوخ فيه طفل ملتاع، يشاكس منذ اول الليل ثدي امه الذاوي على قطراتٍ لكي ينام". جمل هذه القصة جميعها مملوءة بالسخرية من القسمة غير العادلة في هذه القصة التي يروي احداثها القاص، فالحليب الذي يشتهيه الشيخ، وشرط ان يكون من ضرع البقرة؛ من اي الابقار التي يمتلكها ويبلغ عددها المائة يحضره له أحد عبيده؛ الذين من الأكيد أنهم اكثر من عبد يتملكهم الشيخ، صاحب البيت الكبير ليذهب الى الصلاة ليقف بين يدي ربه ليشكره على هذه النعم التي يعيش فيها! بينما الكوخ الذي يجاور بيته او قريب عليه طفل ملتاع من الجوع بسبب ثدي امه الذاوي بسبب جوعها هي الأخرى لذلك جف الحليب لديها! كل ذلك وهي (قسمة عادلة!) نشهدها في كثير من الاحيان وبمختلف الصور! ليس هناك من سخرية مؤلمة وموجعة بسبب هذه القسمة! ص51.

***

يوسف علوان

من هزائم رجل

أينَ سأجدُ ملامحِي

في غياهبِ النسيان

جِئْتَ

أبحث عن ذاتي

عن حبِ مرأةٍ

تَضحكُ طهراً

تبكِي غدراً

تلوذُ بقلب يحنو

كل حنوٍ

يعشق بكل ما يؤتى

من ودٍ

بضميِر تعفّفٓ عن كُلِ قبيح

يعتقد أن جمال الكون حبيبة

ضحكتها من صور الجنة

عفتها  مفاتن هذا الكون

لم أعتقد  أن الحب

جريمة نكراء

ترفع عن جنسِ الأنثى

حتى تعثَر بكِ صدفة

زلزلتِ كل قناعته

ليعشَق بكل مَكامنُ قَلبه

ثُمَ يعوُد مهزوماً

مهزوماً

ما أقبحه

من مكرٍ وخيانة

***

كامل فرحان ....

....

مِن هزائم رجل

عنونة تبدأ هنا وفي هذا الحلول الرؤيوي بحرف جر / مِن / يفيد التبعيض في إسقاط على الانتقاء حسب أهمية  الأثر المتروك في النفس من تلك الهزائم، مع منحها حلولية الذكريات مع محاولة مستترة للتجهيل وشت بها حضورية لفظ / رجل / مجهلة بدون الألف  واللام وتلك عادة أو لنقل صفة يتوارى خلفها المرء عندما يطيب لنفسه التعري وكشف بعض المستور هنا يفور الموروث الذكوري الذي لا يريد بأي حال من الأحوال أن ينشر عورة الهزيمة على الملأ  فيضع الحقيقة العارية  مجهلة وهي  تحمل نبرة الإشارة للأخر،

وفي تأويل أخر قد يصبح الزج بمفردة رجل كناية عن التفخيم ومنح الأمر نكهة تحيط الأمر بتورية رؤيوية تحمل النصر بجوار الهزيمة فلفظ رجل تحمل الأنفة فهي صفة لا تمنح لكل ما هو ذكر ولكن تمنح لمن يملك القدرة على تحمل أعباء المسؤولية ومن هنا يصبح التأويل الثاني به جوانب من الصواب كونها مجهلة لتحمل حضورها الوصفي وليس المشخصن،

مادام هناك رجولة فهناك هزيمة يعقبها نصر يفرضه الجلد والصبر،

العنونة رغم بساطتها وخلوها من الفلسفة إلا أنها حملت الكثير من الرسائل الموجهة ما بين الشجن وبين الانتقاء الذي يعني مراجعة ما كان حتى لا يقع في براثنه من جديد،

في تحوير مشهدي تم به وضع حلولية صاحبة تأثير وأثر مع تنحية الزمان والمكان،

ومن حضورية حرف/ مِن / كأداة جر تفيد التبعيض ها هنا ولدت تلك الصورة التي تحمل مشهد الانتقاء ليتحول المعنوي / هزائم/ صاحب الأثر إلى مجسدات مختلفة العظم والصغر يتم المفاضلة بينها والانتقاء ثم تحوير تم توريتة في عمق المعنى به تحول المجسد إلى حلقات زمانية - ذكريات - يتم انتقاء بعض منها للتدبر والنقاش،

مشهد مركب والبديع فيه أنه من جملة سلسة جدا،

وفي عودة مع العتبة ...

نرى هذا التصوير المولود بعنفوان يحمل تحول زماني مكاني من المعنوي،

/ أين / ظرف مبني على الفتح يتم الإستفهام به عن المكان،

من تلك الحضورية لعكاز الإستفهام بكيفية مثولة والتي أصابت منتصف جبهة الحوارية ما بين الأنا العليا والعميقة نحن على موعد ومشهد تصويري تم به تحوير صفة بشرية معنوية ملموس أثرها على أرض الواقع بعنف / النسيان/ إلى حلولية مكانية غارقة في العمق السحيق أورثها الحضور تعبير / في غياهب / والذي بدأ بحرف جر  / في / يدل على  الظرفية المكانية أودع المعنى التجسيدي المكاني حلول راسخ مع  حلول معجمية غياهب التي أتت في ماهية الجمع كدليل على الكثرة والتي تعني الغفلة الشديدة والتي اجتمعت ولفظ نسيان لتضع النسيان في أشد بل أقصى حالاته وكأنه زهايمر،

وقد منح هذا الغيهب والنسيان حضورهما المكاني ضربة مزدوجة تم استخدام حروف الجر فيها  التي تسقط على حلولية مكانية ليتم التحول ما بين المجسدات بقوة في مشهد يحمل في ظاهره البحث عن ملامح بطل الحبر وفي إسقاط على ما توارى خلفها من رمزية مفردة /  ملامح / والتي تسقط على ما تركت  يداه من التجربة على وجنات الحياة،

فحلقات عمر الإنسان هي ملامحه بالفعل التي يتركها عرضة لعوامل تعرية الزمان،

في توافق تام مع ما يتركه الزمان على ملامح وجودنا،

أبحث عن عن ذاتي

عن حب امرأة

تضحك طهرا

تبكي غدرا

تلوذ بقلب يحنو

كل حنو

يعشق كل ما يؤتى

من ود

توحد تام ما بين الذات وهذا العشق الذي مس الكيان،

في تناغم ....

.... في حضورية إيحاء المفردات مع حضورها من خلال عتبة في الزمان الماضي،

من خلال العنعنة التي ربطت ما بيت:

عن ...ذاتي

عن حب مرأة

وكأنه يبحث في المجهول فهو يبحث عن عشق وليس امرأة بذاتها ولكنه عشق امرأة كحد صفة في توافق مع حضورية صفة الرجولة في العنونة،

مع إنزياح بديع/ تضحك .. تبكي/ و/ طهر .. غدر/ مع هذا الملاذ - رجل الحبر - القلب،

ثم هذا التعبير الذي يبدوا أنه يحمل كينونة واحدة / يعشق .. ود /

ليحدث هذا المزج ما بيت الشغف والولع الذي في العشق والذي يتوافق مع حضور المفردة في زمان المضارع كون العشق حالى تزداد مع صدور الأشواق وتأججها،

وما بين الود الذي يحمل معنى المحبة  هو الذي قرنه عز وجل مع الرحمة فهو الحب الحليم الذي يخلق في الوجدان فيستمر بذات الكيفية،

في إسقاط على عشق جامع في طور التطور- الفعل المضارع دليل الاستمرار- يعقبه هدوء يحمل النضج مع المودة والرحمة،

في سيناريو بديع الحلول الرؤيوي،

يؤكد هذا تعبير/ بضمير تعف، ضحكتها في صورة الجنة، عفتها مفاتن هذا الكون / في فوران مع إنزباح داهش ما بين العفة والمفاتن المكملة بتعبير / هذا الكون / والذي تحول فيه الإنزياح إلى مشهد مركب يحض على الاخلاق العالية التي ترافق العشق كتمهيد لنتيجة/ اعتقدت يوما ان الحب جريمة نكراء / كسؤال تقريري لا يحتاج إجابة فهو حد إجابة تعني انه عاد ليؤمن بالحب من جديد عقب صدفة اللقاء،

ثم ختام يحمل لحظة الإفصاح عن هذا البعض من الهزائم الذي تحدث عنها في  العنونة وتلك الهزيمة التي لا تعني وأد الحب بقدر ما تعني وأد الأمل فيه،

النص حمل خواص السهل الممتنع وابتعد عن التأمل التكثيف ليخرج لنا عبر الدفق نص وجداني راق ينساب بين شعاب وجدان القراء .

مودتي وضوع نيل دياري

***

هشام صيام ..

ما يميز الرواية السياسية عن غيرها من الروايات ويكشف عن نوعها هو الموضوع السياسي الذي يلعب فيها دورا محوريا ورئيسيا، واذا كان القسم الأكبر من الأعمال الروائية لا يكشف عن هوية الرواية الا بعد ان يطوي القارئ صفحات طويلة منها ويغور في اعماقها فان بعض الروايات تأخذ القارئ الى عالمها مباشرة متجاوزة التمهيد والمقدمات وهو ما لمسناه في رواية (منازل العطراني) لمؤلفها الكاتب جمال العتابي والصادرة عن منشورات اتحاد الأدباء والكتاب في العراق 2023، فمنذ السطور الاولى تجد نفسك امام رواية سياسية بامتياز حيث ترد فيها (السجن، المتظاهرين، سيطرة الإنقلابيين على السلطة، المجلس العرفي) وهي مفردات تنتمي الى عالم السياسة كما تكشف عن تاريخ احداثها الذي يعود الى السنوات الاولى من ثورة تموز 1958، فشأنها شأن العديد من الروايات السياسية التي تتناول قضايا المجتمع الحساسة مثل الحرية والسجن والسلطة والعدالة الاجتماعية  ترصد رواية (منازل العطراني) سيرة عائلة عراقية ثورية تختار طريق الحرية المحفوف بالمخاطر والعذابات سبيلا لتحقيق أمالها بالعيش الكريم، وبسبب هذا الخيار تعيش رحلة عذاب مضنية تستغرق نحو عقد من الزمن يمتد من 1958 الى 1968 تتحمل العائلة خلالها صنوفا من المعاناة الاجتماعية والنفسية والمضايقات السياسية وتدفع ذلك ضريبة انتماءها الوطني الصادق والمبدئي، فالأب " محمد الخلف " معلم شيوعي نزيل سجن الكوت بتهمة شتم الزعيم والتحريض على التمرد ضده ينتهي به الحال الى السجن بعد محاكمة غير عادلة يرفض فيها المساومة على شتم رموز انتمائه السياسي مقابل الافراج عنه ويستغل الفوضى التي أعقبت انقلاب شباط 1963 ليهرب من السجن ويتلقفه من الشارع " صالح كيطان " ــ صديق قديم ــ لتبدأ من بيت الصديق رحلة الاختباءات المتعددة.

.يظهر البطل "محمد الخلف" شخصية وطنية يسارية تتحلى بالهدوء والحكمة، كما انها وبسبب مبدئيتها تظهر ايضا شخصية عنيدة عصية على الترويض، فـ " محمد الخلف " يفضل ان يعيش مطاردا ومتخفيا عن انظار السلطات على ان يستسلم للظلم، وبسبب موقفه المبدئي يعيش سلسلة من الاختباءات تبدأ من السجن عام 1959 وهو اختباء قسري مرورا بالاختباءات الطوعية في بيت صديقه "صالح كيطان " الذي تلقفه من الشارع بعد هروبه من السجن ثم في بيت "زامل" الرجل الذي قام بإيصاله الى بيت "نوار الناهض" زوج شقيقته "رضية" في قرية العطرانية التي يتخذ منها لاحقا لقبه الجديد ثم مختبئا خلف هوية مزورة للعمل امين مخزن في شركة في الرمادي وتمتد فترة اختباءه لمدة تقارب العقد من الزمن وهو عمر احداث الرواية الذي يبدأ من تموز 1958 الى تموز 1968 حيث تسرد الرواية خلال هذه المدة الاحداث والتقلبات التي مرت بها الحياة السياسية العراقية ممثلة بانقلاب شباط 1963 وانقلاب تشرين من نفس العام ثم حركة حسن سريع وقطار الموت وتشكيل القيادة المركزية التي تتخذ من الاهوار ساحة لممارسة نشاطها وصولا الى تموز 1968 .

خلال أحداث الرواية يكشف المؤلف عن التربية الراقية التي نشأت عليها العائلة بسبب الافكار التقدمية التي تربت عليها ومنها المشاركة الجماعية في اتخاذ القرارات المهمة وكذلك الواقعية التي يتحدث بها الابن الأكبر " خالد " مع والدته بخصوص حاجات المرأة وأهمية الرجل في حياتها عندما يظهر حماسه لعودة والده الى احضان العائلة في قوله (ثمة سبب اخر لهذا الاجراء أمي، من غير المنطقي ان نهمله، هو طيف الزوجة الذي يظل عالقا في وجدان الرجل، ولا يبارحه لحظة واحدة، المرأة لا تغادر قلبه ص102) وتظهر ايضا في طبيعة الحوار الطويل الذي يدور بينه وبين ابيه عن فكرة التضحية والدافع الذي يجعل المرء يموت من أجل فكرة، حيث يكشف الحوار عن مستوى عالي من القيم والتربية الوطنية سادت حياة هذه العائلة .

كما تقدم الرواية "محمد الخلف" بطلا ايجابيا يتسم بالواقعية فهو ينتقد اساليب واخطاء الجماعة السياسية التي ينتمي اليها بعيدا عن التعصب والشعارات فهو خلال فترة اختباءه في بيت اخته التي دامت عام كامل يقوم بتعليم الأطفال القراءة والكتابة ويرسم ويدوّن يومياته في أوراق يتركها في بيت اخته والتي تكشف عن مواقفه السياسية وآراءه بالأحداث التي عاشها ومنها قوله (أخطاؤنا السياسية والميدانية أسهمت في تبدد الآمال وفشل التجربة ص 118) ولكنه في مكان اخر من هذه الاوراق يكشف عن صلابته وثباته على المبدأ الذي يبقى مؤمنا بأفكاره وأمينا عليها مستعينا بقول غاندي (يمكنك ان تقيدني، او تقوم بتدمير هذا الجسد لكنك لن تنجح في احتجاز ذهني) .

لقد قدم لنا المؤلف عائلة تمثل جبلا من المعاناة والصبر، فبسبب موقف الأب السياسي واختباءه اضحى وضعها المعيشي مزريا، فالابن الأكبر خالد انقطع عن الدراسة خشية الاعتقال وظل جليس البيت بعيدا عن عيون العسعس ومحسنة البنت الكبرى انصرفت للخياطة ليل نهار بأجور توفر بعض الاحتياجات اليومية للعائلة، عامر الابن الاصغر يلف الأزقة في دراجته منذ الصباح الباكر يبيع الصمون قبل الذهاب الى المدرسة اما عادل الصغير فتولى بيع السمسمية والأشد حزنا في تضحيات العائلة وما انتهت اليه من مصير محزن هو استشهاد " خيون " ــ عم العائلة ــ في الاهوار جراء مواجهة مع السلطة وكذلك اختطاف الابن "عامر" ومعاناة البحث عن مصيره وموت الام " زهرة " كمدا جراء ما عانته من ضغوطات نفسية وما واجهته من تحديات نالت من صحتها وقوتها .

واللافت للنظر في هذه الرواية هو انك لا تشعر بانها التجربة الأولى في ميدان الرواية لكاتب عرفناه مبدعا في مجال التدوين والنقد الفني فقد نجح الكاتب في تقديم رواية واقعية ذات بنية فنية عالية وبناء محكم رسم فيها المؤلف معالم شخصياته بدقة مقنعة وحافظ على السياق التاريخي الذي كان مليء بالصراعات الايدلوجية .

رواية (منازل العطراني) هي مرآة للمتغيرات الساخنة التي طفت على سطح الواقع السياسي العراقي خلال عقد من الزمن وحققت أهم هدف تنشده الرواية السياسية ذلك هو التحريض فهي رواية تستنطق الضمير الانساني  وتقود القارئ الى التعاطف مع تضحيات ومعاناة عائلة عراقية دفعت ثمنا باهضا بسبب ايمانها بقيم التحرر والانعتاق . 

***

ثامر الحاج امين

للروائي زيد الشهيد

 يكشف المتن الروائي بانوراما محنة الحصار على العراق، ومعاناته المتشظية في نيرانها على كل بقعة من الواقع العراقي، وهو يشهد اتعس مرحلة متأزمة و مأزومة في تاريخه السياسي الحديث، في حكم بشع ومتوحش في تسلطه واستبداده الطاغي، في الاضطهاد والعسف السياسي والفكري في النهج والسلوك والأخلاق، حين تسلم (عريان/ تسمية تشير الى صدام حسين)، حكم لا يرحم لا البشر ولا الحجر ولا الشجر، هذه التراجيدية المأساوية جثمت على صدور العراقيين على مدى ثلاثة عقود عجاف في لوعتها وقسوتها في الظروف الصعبة والقاهرة التي جعلت الوطن يئن بآهاتها الموجعة. سجلت هذه بانوراما المأساة في الحدث الروائي ببراعة وسعة الرؤيا والافق، ومن شهود عيان احترقوا بنار لوعتها من خلال ثلاثة من المثقفين، يتميزون بالحس الثقافي والوطني والثوري، يمتلكون اطلاع ومعرفة واسعة بالإرث الثقافي والأدبي العالمي في مجال الشعر والرواية، التي سجلت حضورها العالمي وأصبحت من مخلدات الثقافة الانسانية الحرة العالمية،في نظرتها المنفتحة على الحياة ومجابهة الصعاب والتسلط الاهوج، كما أنها تمثل الضمير الإنساني الحي، أحداث السرد سجل من خلال تفاعل ثلاثة من المثقفين هم (رسام وناقد وشاعر) ورابعهم الكاتب أو شخصية السارد المتكلم، وجدوا أنفسهم محاصرين ومخنوقين داخل اربعة يسمى الوطن، وما عليهم إلا كسر ارادتهم وطموحاتهم، ورفع راية الاستسلام والخنوع والذل والانصياع كالببغاوات الى دولة (عريان) التي شيدها في العراق، وهي عبارة عن سجن كبير يمارس فيه نهج الارهاب السياسي والفكري، ولكن هؤلاء الشباب المثقفين، يملكون الحلم والطموح بالتغيير، يرفضون الانصياع والدخول في قطيع الخرفان التي يقودها (عريان) وأعوانه، هذا الصراع القائم في صوره المتوحشة، في سبيل ان تكون الحياة مغلفة بالاحباط والهزيمة، هذا الوصف والتسجيل والتصوير في فصول السرد الروائي، الذي توزعت فصوله المتداخلة بين الحصار داخل الوطن، والتشتت في المنافي الغربة، والعودة بعد سقوط نظام (عريان) كناطحة سحاب تسقط كأنها مشيدة من الرمال، اصبح (عريان) عارياً كالجرذ بعدما خلع ثياب الاسد، وبان حقيقته كجرذ مرعوب عارياً من الثياب. ويعتبر السرد الروائي وثيقة تاريخية تسجل تلك الأحداث العاصفة في تلك المرحلة التي احترقت بنفسها ولنفسها، بسبب نهج التهور والحماقات السياسية الخرقاء، والوقوف بالضد طموحات الوطن في الأمان والحياة الكريمة، التي تحترم فيها قيمة وكرامة الإنسان، ويغور المتن الأحداث في اعماق الحصار الدولي، والحصار من قبل النظام نفسه في نهج آلة القمع والارهاب، المعجونة بالمعاناة القاسية، لقد عانى هؤلاء الشباب الثلاثة (عبدالرحمن / نقد. كمال / رسام تشكيلي. مبدر / شاعر) لوعة الانسحاق الإنساني، من اعوان النظام في دولة المخابرات والأمن، عانوا السجن والاعتقال، والظلم والتشرد من أجل تجريدهم من إنسانيتهم، ليدخلوا في قطيع كالببغاوات، وان تكون وظيفتهم مقتصرة على التمجيد والتعظيم لشخصية (عريان) هذه النخبة المثقفة تمثل مزايا المثقف الملتزم الاصيل، رغم الإرهاب المتوحش والبشع. (كمال / رسام). لم يتحمل وزر المعاناة وثقلها الجسيم، فانهى حياته بالانتحار بالغرق في النهر، تاركاً زوجته وعائلته في مهب الريح والمجهول و(عبدالرحمن / الناقد) لم يتحمل الواقع المأزوم بعد الاعتقال، أخذ طريق الهجرة والرحيل خارج العراق أول محطة اسطنبول لينتهي به المطاف في السويد، وتبعه الشاعر (مبدر) والكاتب بطل السرد الروائي طفر الى خارج الحدود الى عمان / الاردن لينتهي به المطاف في طرابلس / ليبيا. وأعوان (عريان) يمارسون دورهم القذر وهم يمثلون اقذر حثالات في المجتمع، جاءوا من حضيض القاع البئر العفن، ليصبحوا أصحاب الجاه والمقام والنفوذ، يتحكموا في مصير الناس دون محاسبة وعقاب، ليمارسوا أفدح الاساليب الوحشية في دولة الأمن او العين الكبيرة، التي تحصي وتراقب وتتصيد حتى أنفاس ولهاث الناس، في سبيل الإيقاع بهم في سراديب السجون وزنازين الموت، مما يتركوا الناس في حيرة وارتباك والقلق على مصيرهم من هذه الحفنة من الذئاب الوحشية، هذه التساؤلات المربكة والحائرة والقلقة: الى أين مصير وماذا بعد؟ (ما هذا الذي حدث ؟ لماذا؟.... وكيف تسببَ الجناة في تشويه وجه الوطن السمح الجميل؟ وماذا جنت مدننا الحبيبة حتى ترتفع على جدرانها حواريها لافتات الكدر؟ ولماذا غدت الشوارع صحفاً يومية يقرؤها الأتون إما بحزن مرير أو سادية موغلة بالتشفي) ص15. لكن الواقع ينحدر الى لهيب نار المعاناة القاسية، تحت رحمة القتلة والسفلة، لا يعرفون سوى لغة الشتائم والسباب باقبح اوصافها، وهم يعطون شهادات حسن السلوك، وتقسيم الناس بين الخونة لا يستحقون الحياة، وبين  أبناء الملائكة والامهات العفيفات والطاهرات، وليس هم من ابناء امهات عرفت بالبغي والعهر، حتى لا يعرفون من هم آباؤهم واسمائهم، وفي مقدمتهم (عريان) وهذه بديهية منطقية بأن العاهر يوصف الشريف بأنه ابن العاهرة والزنى، وهم في واقع الحال يقصدون انفسهم بالتسمية، وليس وصم الناس الابرياء (لقد رمونا في رحم المنافي ثم راحوا ينهالون علينا بهروات شتائمهم ونعوتهم الجاهزة، فتارة نحن الخونة وهم صومعة العفة! نحن القمامة على قارعة الطريق وهم ساحة الروض العاطر المفعم بالورود! نحن أبناء العاريات اللاتي لا يسترن عوراتهن وهم أبناء الناسكات الطهورات حافظات فروجهن وساترات مؤخراتهن! نحن الكلاب السائبة وهم أولاد الملائكة! وكأنهم لم يأتوا من أوجار الثعالب العفنة وبيوتات العهر التي ضمت أمهاتهم، وتوزعوا بين آباء لا يعرفون أسماءهم) ص48. ومنذ استلام (عريان) زمام مقاليد السلطة، زاد ممارسة النهج الإرهابي يتصاعد وتيرته أكثر في دولة الارهاب لقمع حرية التعبير، بحجب الصحف شكاوي المواطنين، بحجة أنها تعطي صورة سلبية للسلطة، وفتح النيران اكثر على المثقفين في نهج الإرهاب والترغيب، لمن لا يمجد القائد الاوحد (عريان) لا يستحق الحياة، نصيبه السجن والتعذيب والتشريد والابعاد.بهذا النهج المتسلط يقودون العراق (أيُّ خرابٍ قادوا إليه أولئك القتلة ؟.. واية فجيعة يتجرع أهلنا مرارتها يومياً؟.. ما معنى أن نظل نتطلع من بعيد ونراقب حارقين مهجناعلى اكتواء تتابعي، تدريجي سيقودنا حتماً الى الفناء ؟!) ص162. هذه الأحاديث تدور بين العراقيين والمثقفين، في وجعها المؤلم على الدوام، و تتوارد إليهم الأخبار بتشدد القبضة الحديدية في الغوص في الإرهاب والتعالي والغطرسة المتوحشة. كأن المواطنين دمى يلعبون بهم لعبة الموت والحياة، لكي يتسلوا بانتشاء متوحش (تتبري صورُ الصحافة تعرض أجساداً ممزقة وجثثاً متفحمة، ونيراناً تلتهم أحياءً برمتها، وفي المقابل نرى صورة لاحد قادة عريان آمر أحد الجحافل العسكرية برتبة كولنيالية يشرب (الكوكا كولا)  أمام جثث بشرية ممزقة جمعت القتلى العراقيين والإيرانيين على السواء، عارضاً ابتسامة انتشاء أمام عدسة الكاميرا كما لو أنه ينتصب بين حقل زهور، لتؤخذ له لقطة تذكارية باحتفالية واحتفائية مزدوجة بينه وبين ازدهاء الطبيعة) 212. هذه حقيقة السلوك لمن يدعون انهم ابطال الامة العربية وحصنها المنيع، وحراس البوابة الشرقية، ومحرري فلسطين عبر عبادان، وهم بنهجهم يمثلون عار للأمة العربية وفلسطين، فقد دفعوا الوطن من حرب الى حرب، ومن جهنم يليه جهنم آخر، والحياة تتعمق في ازمة مأساتها الدراماتيكية و (عريان) لا يكف عن ارتكاب حماقات خرقاء، واكبر الحماقات العبثية المهلكة، التي لم يحسب لها حساب، هو دخوله الأحمق الى الكويت، كان فخاً منصوباً له، ليتحول العراق الى الضياع والتيه (- في زمن الضياع يغدو الموت مجاناً.

- زماننا كله ضياع

- الصابرون نفذ لديهم صبرهم فاستعانوا باليأس أمنية للموت) ص285. قدر العراقيين السيء، هي المعاناة في الداخل العراق، والتشتت في منافي الغربة. والسرد الروائي يتعمق في محنة العراقيين في الغربة عامة، وخاصة في عمان / الأردن، ويصبح الوطن لوعة الذكريات للاهل والاحبة والحبيبات والعاشقات، في حنين الشوق (آ..... أتذكرين ؟!

عند أزقة كفيكِ خبأت لثمي.

وعلى سهوب عنقكِ أودعت انفاسي.

أتذكرين ؟!

مستعيناً بخفقة صدركِ

جابهت الرحيل، ضممتهُ في ثنايا معطف

الصبر

رحلت وفي كفي قسمٌ من فم عينيكِ

بحتمية احمرار الورد، وشفاء الوطن

أتدرين بغيابكِ تناسل عسس السلطان،

وتوالدت جحافل المستحيل

صارت الشوارع متاريس) ص220.

وعن معاناة العراقيين عامة، والعراقيات خاصة في عمان / الأردن، في حياة صعبة في ظروفها القاسية بالقهر، وكان تجمع العراقيين عند الغروب في الساحة الهاشمية في عمان، يتبادلون إخبار الأهل والوطن، والظروف المتعبة للعراقيات الوديعات بالطيبة، يكافحن من اجل رغيف الخبز (عراقيات بوجوه موحلة أرى، يفترشن الأرصفة ويلذن من قلقٍ يتوقعن حدوثه أية لحظة، يبعن السجائر ويفترشن الورق المقوى، ثم يتخذن من منعطفات سلالم الفنادق ملاذاً لاجسادهن المتعبة، يرمينها عقد ساعة نوم هادئة وليل ينأ عن الهموم) ص276. ويفتش عن حبيته (نجاة) ربما تكون بين العراقيات. ولكن الطامة الكبرى تأتي لتقصم ظهر الوطن، بعد انهيار نظام (عريان) كان امل كل العراقيين، بأن العراق سيقف على قدميه ويمحي الماضي البغيض،وترجع الحياة من جديد في إشراقتها وكنس قمامة نظام عريان، ولكن هذه الامال تحطمت بالفشل والخذلان. فقد جلب المحتل اقذر نخبة سياسية عفنة، من النفاقيات والقمامة التي جمعها المحتل وسلمها مقادير العراق، وهي لا تملك ذرة من الانتماء الى العراق، واطلقت العنان لعصابات القتل والجريمة والسلب والنهب، ان يتحكموا بالشوارع وفي مصير العراقيين، واصبح القتل والخطف والسلب بالمجان في غياب الدولة. والذين هفوا إلى حنين الرجوع من الغربة إلى الوطن، تجرعوا علقم الفشل والخذلان والهزيمة (- أخطأت كثيراً يا أخي بعودتك.

وأخطأ تقديرات الحال، فتصور أننا نعيش كأحياء) ص323.

هكذا قدر الوطن من السيء الى الاسوأ، والعراق يرقد على فراش المرض، دون أن يجد طبيب يداويه من علته

(الليلة

وطني يذهب الى السرير

يرمي رأسه المتعب على وسادة القلق

فلا ينام!

..........

............

غداً تبدأ الحرب!!!) ص 348.

***

جمعة عبدالله

إذا ما تجاوزنا مقولة (الأدب يتحدث عن نفسه)، الساذجة الطرح والأفق، فإننا نخلص إلى جملة أسئلة: ما هو الأدب؟ لماذا الأدب؟ بماذا ينشغل الأدب؟ هل الأدب يعقد الحياة أم يبسطها؟

ولتقريب الصورة، سنفترض أن ملكاً ما، أراد أن يمارس أقصى تصور لسلطاته، فأهدى أحد رعاياه حماراً، حماراً عادياً جداً، وقال له إنه حصان، فمن سيجرؤ على أن يصور هذه الحالة ويسخر منها، دون أن يُشعِر الملك ويثير غضبه؟ بالتأكيد لا يستطيع تصوير هذه الحالة غير الأدب، وعليه فإن مهمة الأدب هي مهمة إشكالية في ذاتها، لأنها تبتدع طرقاً وصوراً استثنائية للتعبير عن الحالات الاستثنائية من مماحكات وتصورات الأفكار، التي ينتجها وعي وإدراك الإنسان (وعذراً لهذا التبسيط) بعد فراغه من إشباع بطنه وارتداء بدلة مكوية وجلوسه لشرب فنجان قهوة ترف الاسترخاء.

أهكذا وفي هذه اللحظة يولد الأدب؟ لنقل في هذه اللحظة - التي وصفنا آنفاً - يبدأ التفكير فيما يلي إشباع الغرائز، أي يبدأ النظر الواعي في أنفسنا وما حولنا وتبدأ عملية إنتاج الأفكار، وبالتالي يبدأ الأدب وباقي الفنون، والفلسفة أيضاً.

إذن الأدب هو عملية تحويل الأديب لأفكاره إلى مادة مكتوبة بجمالية، أما مهمة الناقد، وكما يقول تودوروف، فهي (تحويل فكر الأديب إلى اللغة المشتركة في عصره، وليس مهماً أن يكشف لنا عن الوسائل التي يبلغ بها هدفه). وهذا يعني أن مهمة الممارسة النقدية هي الكشف عن فحوى ومدى فضاء فكر الأديب، وليست مهمتها عملية استعراض الأدوات التي يستخدمها النقد في هذا الكشف، كما هو حاصل، مع كبار المنظرين للمدارس النقدية وتلاميذهم الذين يتبنون أدوات ورؤى تلك المدارس، ويحيلوها إلى مناهج ومقررات دراسية مقدسة، حتى صارت أهم، في الدرس الأكاديمي حول الأدب، من الأدب ذاته، بل صارت هي الأولوية في التدريس على حساب الأدب وعملية الاستمتاع به، في ذاته، كمنتج فكري وتخيلي، يمثل المنبر الأول في بناء فكر الإنسان.

إنها عملية إيلاء الاهتمام لأدوات الطبخ على حساب المادة المطبوخة وجودة مكوناتها ونكهتها... أليس هذا ما يحصل فعلاً؟ 

الحقيقة المرة هي أن أغلب النقاد وأساتذة الأدب المنظرين، يجوزوّن لأنفسهم اتخاذ دور هذا الملك في ممارساتهم التنظيرية والتطبيقية النقدية حول الأدب، ويطالبون الأدباء والمتلقين، على حد سواء، في قبول (حمار نقودهم) هذه على إنه حصان!

لماذا وعلى ماذا يستندون، في منح أنفسهم مثل هذا الحق؟ لا أحد يعرف من الأدباء!

أصحاب المناهج أو المدارس النقدية يتصرفون كأنهم هم من اخترع الأدب، وإنهم يعرفونه أكثر من مبدعيه، بأي حق؟ بحق تصنيف تكنيكاته وتقانات كتابته وإيجاد المسميات الاصطلاحية لها! وطبعاً، هم ومن تتلمذ على أيديهم، فرضوا هذه المناهج على الجامعات، للتدريس لطلبة الأدب، حتى أزاحت الأدب وحلت محله في الدرس الأكاديمي وشهاداته. من يصدق هذا؟

السؤال المهم هو: هل خدمت هذه المناهج الأديب المنشئ فعلاً؟ 

وبسؤال أكثر دقة: هل يهتم أو يلتفت الأديب المبدع لكل هذه المناهج وهو يكتب نصه الإبداعي؟

***

قرود مُدربة:

بعيداً عن نظرية التطور والتوقعات التي افترضت أن يكون القرد أخانا الأكبر، لكن واقع الحياة ونهايتها تعاملنا على إننا لسنا أكثر من قرود مُدربة، وبتأريخ صلاحية محدد تماماً.

الحياة - ومنذ اكتشاف أول أثر للحياة الأولى على هذا الكوكب - لا تدخر لنا إلا القليل من العواطف الطيبة التي توزعها بين مساحات واسعة من المعاناة والألم، هذا إضافة إلى معاملتنا بعدم احترام، وكأننا بالفعل قرود بلا قيمة، وهذا ما ألجأنا إلى ابتداع الآداب والفنون، من أجل منح أنفسنا بعض القيمة وتخفيف وطأة شعورنا بقلة الاهتمام.

هذه المشكلة أصيلة في تكوين الحياة، ولا تتعلق بالحالة التي يكون عليها الوعي وتوقده، التي يتحكم بها مزاجنا الشخصي وحالاته، كما ظن الفيلسوف الإنكليزي (كولن ولسن) في أغلب كتبه الفلسفية، رغم أن لا أحد ينكر تأثر مستوى الوعي الإنساني وحدة التفكير بالحالة المزاجية لكل شخص منا. فقدرة إعادة انتاج العملية العقلية المتوقدة لا ينتجها زر يرافق المزاج الطيب أو الهادئ بطبعه، بل تتعلق بقدرة الفعل العقلي وقدرة العقل على تحريكه، وهذا الفعل لا يشترط المزاج الطيب بالضرورة، وإلا لكان أصحاب المزاج الطيب أكثر قدرة من غيرهم على انتاج الأفكار.

حقيقة الأمر هي أن الأفكار العظيمة والأدب الجيد لا ينتجه المزاج الطيب (غالباً ما يكون هذا المزاج بارداً)، بل المزاج القلق المتوتر، وأغلب أصحاب هذا المزاج يشعرون أنهم مهمشون، بل ومقصيّون، لأسباب لا يمكن تبريرها، ولهذا فإنهم يلجؤون إلى عقولهم التي تنتج الأفكار والأدب والفنون الجميلة. وبعد كل شقاءهم في انتاج أفكار ورؤى هذه الأعمال، يأتي دور أصحاب الأمزجة الصقيعية، من الأكاديميين ليمارسوا دور الميزان الحساس (التنظير والنقد والتقييم)، بكل ما يحمل حديد الميزان من برودة فجة ومزعجة، ومن هنا نشأت الشقة بين الأفكار والابداع (الأدب على وجه الخصوص) وبين المدارس النقدية، التي يجنح قسم كبير منها إلى التعامل مع النتاجات الإبداعية على إنها نظريات علمية.

النتاج الأدبي وبكافة أجناسه، لا ينطلق من مزاج رومانتيكي يملأه شعور ساذج بالشفقة على الذات، بل من أرضية حقائق مكرسة بأن الحياة لا تعامل الإنسان بحب وإنها تمارس معه دور زوجة الأب الحقود، التي لا يلين قلبها في جميع أحوالها (الفكرية) والمزاجية.

الأدب والفلسفة (قبل أن يدجنها الدرس الأكاديمي) لا ينطلقان من مزاج رومانتيكي رافض للعالم، فقط لأن حوادثه لا تطابق أماني أصحابها أو منتجيها، بل من سلسة عوارض ممضة عاملتنا ومازالت تعاملنا على إننا مجموعة قرود غير مدربة أو غير مهذبة، لا هم لها غير المطالبة بالمزيد من مزارع الموز وأن تترك لتأكل منها، كما تشتهي، وعلى ألا ينفد موزها أبداً. والطريف أن الحياة تطالبنا بالتدرب على الخنوع لها ولقلة عطائها، من دون أن تقدم لنا منهاجاً لهذا التدريب، ومن دون أن تحدد بمن يجب أن تناط مهمة التدريب هذه.

***

الفلسفة هي أقدم وأعرق مدارس النقد، ورغم أن المناهج النقدية التي تُدرس في جامعاتنا الآن، سعت لأن تُجذر نفسها في طروحات ومفاهيم فلسفية، إلا أنها ظلت، وخاصة على مستوى التطبيق، شاحبة وضبابية ومصابة بفقر دم رؤيوي في جانب مطالبها من النص الإبداعي.

إن التركيز على دراسة النص عبر لغته، نحواً وصرفاً وإشارات صوتية وعلامات، عملية اجتزاء مريعة ولا يمكن أن تقف على فحوى النص ومقولته. بل هي تحيل النص إلى هلام لغوي شاحب، وتظهره كأنه مقصور بذاته وعلى ذاته، وكأنه كتب ليضاف إلى متحف اللغة لا لأن يقول لنا شيئاً جديداً من صميم رؤية الكاتب ورؤاه لما نعانيه على الأرض من مشاكل وجودية، بلغة ومقصد الفلسفة الوجودية بالذات.

ما من نص أدبي ولا بحث فلسفي أوصلنا للحظة الإيمان بأننا على الأرض في نزهة، بل أن معظم الجاد منها يقول إننا أمام إشكالية، عسيرة الفهم والهضم وبأوجه متعددة، وعليه فنحن بحاجة لأنساق نقدية تساعدنا على تحديد مواضع تمظهر تلك الإشكالية وتأطيرها، ومن ثم إضاءتها، تمهيداً لفهمها، على أقل تقدير. أما ترك هذه الإشكالية ومساربها وتفرعاتها والبحث في شكل اللغة التي توصلها إلينا، فلا أظن أنه خدم معاناتنا منها بشيء.

والحقيقة فإن المناهج أو المدارس النقدية المتداولة في جامعاتنا الآن، وبدل أن تعمل على إضاءة النصوص وتحقيق فتوحات معرفية فيها، فإنها تسعى إلى خطف روحها وتبديد الوانها وحشرها في زاوية ضيقة لا يراها غير أصحابها، بل وتحشر منشئي النصوص في ملابس شديدة الضيق، من أجل أن يناسبوا مقاسات قراءاتهم.

لا أدري لم لا يتوقف أصحاب المدارس النقدية امام حقيقة أن النص الأدبي لا يحتاج إلى أدوات تعقد فهمه، بل لأدوات تضيء مكنوناته وإشاراته وتساعد المتلقي على فك شفراته ورموزه، وبالتالي تفكيكها، من أجل مساعدة من لا يملك أدوات التفكيك على القبض على مقولة أو رسالة النص؟

المدارس النقدية الحديثة أرهقت نفسها بتعقيد تفاصيل بناء هياكلها الخارجية إلى حد تيهها في أنفاق من الغموض، لم يعد أصحابها ذاتهم (منظروها) قادرين على تلمس طرقها والخروج منها بشيء واضح ومفهوم، وخاصة على صعيد التطبيق. وهذا ما وضع المتلقين (وبينهم قسم من ذوي الاختصاص ذاتهم) أمام تساؤلات من مثل: هل تحتاج قراءة وفهم النصوص لكل هذا التعقيد؟ ماذا لو اعتمد كتاب النصوص الإبداعية ذات التعقيد في كتابة نصوصهم، ألن يضج النقاد والمتلقين العاديين بالشكوى من ذلك التعقيد؟ ألن يتهموهم حينها بافتعال الغموض من أجل إضفاء الأهمية والفخامة على نصوصهم؟ أليس في البنيوية والتفكيكية والاسلوبية والسيميائية تعقيدات عجز حتى واضعوها عن إيصالها لطلبتهم ولزملائهم، فما بالك بالمتلقي العادي؟

ولأقرب الفكرة فقط، هل التعقيد الذي كتب به جيمس جويس، رواية يولسيس، مستحب وخدم المتلقي بشيء وتركه يستمتع بها بهدوء وشغف يماثل استمتاعه برواية وداعاً للسلاح أو رواية إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك؟ أو رواية مائة عام من العزلة؟

هل يستطيع القارئ العادي، غير الأكاديمي المتخصص في دراسة المدارس النقدية ومناهجها، قراءة كتب البنيوية والاسلوبية والتفكيكية؟ والسؤال المهم: كم سيفهم منها فيما لو قرأها؟

ولنصل الآن للنقطة الأهم: المواضيع أو النصوص المعقدة، أليست تحتاج وسائل قراءة مبسطة وواضحة ومباشرة من أجل فهمها؟ موضوع معقد وغامض مثل الموت، ألا يحتاج لوسائل قراءة وشرح مبسطة من أجل سبر غموضه وفهمه؟

وفي النهاية، فإن علينا أن نقبل وننطلق من مسلمة أن أول متطلبات النقد، سواء كان فلسفياً صرفاً أو أدبي فقط، هو تحقيق ما تتطلع إليه مليارات العقول البشرية حول مصيرها الذي يتربص به الموت، سواء إذا تحركوا إلى الأمام أو سكنوا في أماكنهم، لأنه لا يكل عن التقدم باتجاه مصادرة وجودهم، في كل الأحوال، كقاطرة عمياء، زودت بطاقة رهيبة لدعس الجميع.. لماذا؟ أ لأنه قانون فطري أم لعجز عقولنا عن إيجاد وسيلة لإيقافها؟

والسؤال هو: هل ساعدتنا أدوات النقد الحديثة على فك شفرة فعل الموت وفهم آلية اشتغاله، قبل تشخيص وفهم أسباب اشتغاله وهدف اشتغاله وبم يخدم الإنسان؟

أليس من مهام النقد أن يوضح لنا، لم وكيف ولماذا يعمل الموت على كياناتنا، عندما توضع في نص أدبي، وأن يوسع ويطور فهم المنشئ لفكرته، كي يساعده على طرح المزيد من الأسئلة حول موضوعته؟

ألم تترك المناهج والمدارس النقدية الحديثة، النص الإبداعي في العراء وتمضي وقتها في بناء هياكلها الخارجية، موهمة إيانا مع الكتاب، بإلقاء عظمة، بين الفينة والأخرى، قريباً من سياج النص الإبداعي؟

ألم يكن سيتغير الأمر، فيما لو كانت موضوعة الموت قد أوليت المزيد من التحليل والتشريح والتفكيك والنظر في البنى، كموضوعة أدبية وثقافية وكمعضلة فلسفية، تحيط بها الأسئلة من كل الجوانب، وخاصة الجانب الذاتي في الكيان الإنسان، المتضرر الأول من فعل الموت؟

وأخيراً، كم نص أدبي، في تاريخ الثقافة الإنسانية ككل، عرض لفكرة الموت وناقش جوانبها وأشبع زواياها بالأسئلة، رغم أن الأدب الإنساني كان قد بدأ حركته الأولى، بهذا الموضوع بالذات، من دون سواه، كما تعرض له ملحمة كلكامش، كأول نص أدبي ملحمي في تاريخ الثقافة الإنسانية ككل؟

***

د. سامي البدري – كاتب وروائي

دراسةٌ بيئيَّةٌ مقارنةٌ في المُثُل والجَماليَّات

على الرغم ممَّا كان يتَهَدَّد العَرَبيَّ ويتَهَدَّد مالَه من (الذِّئاب) فقد رأى في هذا الحيوان جَماليَّاتٍ أُعجِب بها فصوَّرها في شِعره، كما أضفى عليه أحيانًا، أو منحه، بعض عواطفه الإنسانيَّة. ولئن كانوا يصفون (الذِّئب) بالغَدْر- وهي صفةٌ ذميمة- فإنَّ الشُّعراء، حتى في مقام وصف غَدْره، لا يُخفون الإعجاب به، في خِفَّته، وجُرأته، وصرامته، وصَبره، وتمرُّسه. وهي قِيَمٌ كان لتجذُّرها في شِيَم العَرَب ومثاليَّاتهم الأثرُ في الإعجاب بها في الذِّئب، حتى لقد أحبَّ أحدهم أن يُسَمَّى ذِئبًا، أو يوصف بصفة الذِّئب، كما رأينا في مقالات سابقة، ممَّا دفعَ شعراءهم إلى تصوير جَماليَّات تلك المُثُل والقِيَم من خِلال الذِّئب. إضافةً إلى طبيعة العَرَبيِّ، الحفيَّة بالجسارة والبطولة، التي كانت تحمله على تمجيدهما، في أيِّ صورةٍ كانا، حتى لو جاءا من ألدِّ أعدائه؛ فالفكرة نفسها هي ما تُعجِبه، صارفًا النظر عن مصدرها أو ضحاياها. حتى إنَّ الأعرابيَّ الذي عدا الذِّئب صباحًا على غنمه، فأكل منها شاةً- اسمها (وردة)، وكنيتها (أُمُّ الورد)- فقال أبياتًا يرثيها، لم تَخْلُ أبياته من لُـمَع الإعجاب بحركة الذِّئب، وعَدْوُه في الصُّبح كطالب الوِتْر الذي يُريد اتِّـآرًا:

أودَى بِوَرْدَةَ أُمِّ الوَرْدِ ذو عَسَلٍ

مِنَ الذِّئابِ إذا ما راحَ أو بَكَرَا

*

كأنَّما الذِّئبُ إذ يَعْدُو على غَنَمِي

في الصُّبْحِ طالبُ وِتْرٍ كانَ فاتَّأَرَا

*

اعتامَها اعتامَه شَثْنٌ براثِنُهُ

مِنَ الضَّوارِي اللَّواتي تقصِمُ القَصَرَا(1)

-2-

على أنَّ الشاعر الفرنسي (ألفرِد دي فيني Alfred de Vigny، -1863)(2)، في قصيدته عن الصِّراع مع (الذِّئب)- التي يُشبِه سياقها كثيرًا قصيدة (البُحتري)، المذكورة في مقال سابق- كان يهتمُّ بتلك الحِكمة الروحيَّة البالغة التي يستنتجها من موت الذِّئب صابرًا صامتًا دونما شكوَى أو خَوَر، مُعْرِبًا عن إعجابه العظيم بكبرياء الذِّئب الرُّواقية. ذلك الإعجاب الذي ينبع كذلك من مثاليَّة دي فيني وفلسفته الرُّواقيَّة، التي ترى «أن الألم مُطهِّرٌ للنفس، وأنَّه دعامة الشِّعر الأُولَى». حيث يذكر «أنَّه ذهب مع جماعة من الصيَّادين يقتنصون ذِئبًا(3)، فرأوا في ضوء القمر جراميز (=صِغار الذِّئب) ترقص ثمَّ رأوا الذِّئبة ثمَّ الذِّئب...»(4)، فأنشأ يُصوِّر صراع الذِّئب مع (كلاب) الصيَّادين، واحتماله طعنات الخناجر وطلقات الرَّصاص، ولم يصرخ خلال ذلك صرخةً واحدة. غير أن دي فيني في قصيدته هذه لا يأبه كثيرًا بهيئة الذِّئب، كما كان الشاعر العَرَبيُّ يفعل، بمقدار ما ظلَّ يدور حول المعنَى الفلسفيِّ المشار إليه، في لوحةٍ فنِّـيَّةٍ رائعة، تشترك مع قصيدة (الفرزدق) في نفحتها الإنسانيَّة، وإنْ اختلفَتا في وجه الاستنتاج الحِكْمي. يقول:

«أقبلَ الذِّئبُ فأقعَى، ناصِبًا يدَيه،

اللَّتين غَرزَهما في الرَّمل بأظافرهما المقوَّسة.

وقدَّرَ أنَّه هالك؛ لأنَّه بُوغِت،

وقُطِع عليه خَطُّ الرَّجْعَة، وسُدَّت عليه الطُّرُق؛

وحينئذٍ أمسكَ بفَمه المتوقِّد،

أجرأَ الكِلاب، مِن حُلقومِه اللَّاهث،

ولم يُرِحْ فَكَّه الحديديَّ-

على الرغم من طلقاتنا الناريَّة، التي كانت تخترقُ لَـحْمَه،

وخناجرِنا الحادَّة، التي كانت تتصالب،

كالكمَّاشات، وهي تغوصُ في خاصرتَيه العَريضتَين-

إلَّا في آخِر لحظةٍ، حينَ رأى الكلبَ المخنوق

يسبقه إلى الموت بزمنٍ طويل، ويتدحرج (مُعَفَّرًا) تحت أقدامه!

تركه الذِّئبُ حينئذٍ ثمَّ نظرَ إلينا.

وقد بقيتْ الخناجر (مُغمَدةً) في خاصرته حتى المقابض،

تُسَمِّرُهُ في الكلأ المغمور بدمه،

على حين كانت بندقيَّاتنا تحيط به على هيئة هلالٍ مشؤوم..

أعادَ النظرَ إلينا، ثمَّ عادَ إلى الاضطِجاع،

وهو (لا يَـنِـي) عن لَعْق الدَّمِ المنتشِر حول فمه،

ودون أن يَعْبأ بمعرفة كيف هلك،

أغلقَ عينَيه الكبيرتَين، وماتَ من غير أن يصرخ صرخةً واحدة...

وا أسفاه! لقد فكَّرتُ بأنَّني، على الرغم من «الرِّجال»،

أخجلُ ممَّا نحن عليه، فما أشدَّ خَوَرَنا!

كيف يجبُ أن تُودَّعَ الحياةُ وشُرورُها كلُّها؟

أَنْـتُنَّ فقط تَعْرِفْنَ ذلك، أيَّتها الحيوانات المحترمة.

فلدَى رؤية ما يصير إليه الخَلْقُ على الأرض، وما يتركونه،

(يُعلَم) (أنَّ) الصمت وحده عظيم، وأنَّ كلَّ شيءٍ غيره خَوَر.

- آه لو عرفتُك جيِّدًا أيُّها الراحل المتوحِّش!

فإنَّ نظرتك الأخيرة نفذتْ إلى قلبي!

كانت تقول:

- «إذا استطعتَ، فاعمل على أنْ تصِلَ نفسُك،

بفضل بقائها مُجِدَّةً مُفِكِّرةً،

إلى هذه الدرجة السامية من الكبرياء الرُّواقيَّة

التي بلغتُها منذ لحظةٍ قصيرةٍ بفضل ولادتي في الغابات!

إنَّ الأنين والبكاء والاستعطاف هي أيضًا جُبنٌ وحقارة؛

فاعمل دائبًا واجبك الثقيل الطويل

في السبيل التي أراد القَدَر أن يناديك إليها،

ثمَّ تجلَّد مثلي بعد ذلك، ومُتْ من غير أن تفوه بكلمة!»(5)

-3-

ومن خلال التأمُّل في جَماليَّات تصوير (الذِّئب) في الشِّعر العَرَبيِّ تتبيَّن بعض المقاييس الجَماليَّة المشترَكة بين الشُّعراء في تصويرهم الذِّئب: في لونه، وحركته، وسائر هيئته. وكذلك في: حِدَّة طبعه، وتصميمه، ودهائه، وصَبره، وشِدَّة مِراسه، وحيلته، وتمرُّده، إلى غير ذلك من الصِّفات، التي أُعجِبوا ببعضها، فاستلهموه في رسم صُوَرهم، مستوحين منه التعبير عن المُثُل والقِيَم العَرَبيَّتَين. وفي المقارنة، يتَّضِح، من خِلال قصيدة (دي فيني)، استلهام المعنى الروحيَّ نفسه الذي لفتَ العَرَبيَّ إلى الذِّئب، المتمثِّل في الصبر والتصميم وكبرياء الروح، مع تعميقٍ مميَّز، منحَ الصُّورة لديه أبعادًا إنسانيَّة أرحب.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود

.................................

(1) الجاحظ، (1965)، الحيوان، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (مِصْر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي)، 2: 203، 277.

(2) يُنظَر: الحمصي، نعيم، (1979)، الرائد في الأدب العَرَبي: بين 132- 1325هـ، (دمشق/ بيروت: دار المأمون للتراث)، 213- 214.

(3) لا ندري لماذا يقتنصون الذِّئاب أصلًا؟! لكنها الوحشيَّة البَشَريَّة المعروفة، والاستمتاع بسفك الدماء والإفساد في الأرض! وما زال هذا العبث، من الصَّيد والقنص، ديدن الإنسان في العالم، منذ آدم إلى اليوم، مع انتفاء الضرورات والحاجات!

(4) الحمصي، 213.

(5) م.ن، 214.

الذات في النص الشعري تمثل الفكر والوجدان بينما يحيل الموضوع الى الواقعي والمعيش ..

أي ان الموضوع بهذا المعنى لا يكون موجوداً في الاساس وانما توجد الذات عبر جدالها مع الكون داخل القصيدة.

ان الطبيعة البشرية تسعى دائما وراء التجديد والتغيير ولعل مفهوم الحداثة لا يخرج عن هذا الاطار..

مع شعرية الحداثة تتماهى العلاقة بين الذات والموضوع وهذا ما نلمسه في النصوص الشعرية الحداثية وجهة لناي مهزوز للشاعر الحسين بن خليل الصادرة عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق في طبعتها الاولى 2023 .

حضور العنوان (وجهة لناي مهزوز) بوصفه بنية نصية لها اشتغالها الدلالي في النص وبناءه الدرامي وانزياحه الانفعالي المكثف ودوره في انتاج المعنى لدى الشاعر، والذي عبرّ عنه بلغة شعرية.

استهل نصوصه في نص نثري تناصا مع موضوع الصواع في قصة النبي يوسف لتحمل تجربته الشعرية بين الذاتية والموضوعية وهذا ما يعبر عن وجود علاقة بين التجربة الانسانية والرؤية الذاتية للشاعر.

أيتها العير .... مواعيد الرحيل يطوقها مؤذنو الملوك1

ما من سرقة...

الأصوات بيضاء،

وغنائم الصدفة

لا تبارح ساحة القتال....

*

أيتها العير من منكم حمل الخطيئة لتبرك الأرض؟

من سرق الصواع؟

اشتبكت نواياه مع فتيل يتهيأ رويدا رويدا ؟

من قضم الطريق

وأسرج العرش معه

ومن ثمة تأتي نصوص المجموعة العنونة الداخلية، جمل مركبة وبثنائيات ضدية، ومتقابلة ومفارقات لفظية مدهشة لأكثر من خمسين نصاً التي جاءت معظمها بصيغة بنى نصية يغلب عليها التركيب الانشائي والهاجس السردي، والميل الى الطول لذلك يستعين حتما الاغراق في السردية، تخلق حالات شعرية:

ندى وظواهر تشيع مخبوء/ بين بياس النهر وبلل الصحراء/لا تكبّل نهرك فضيلة السريان/ من يسرج روحا بين كماشتين/ بابل يصفر لها الارث/ سیل جاف وثوب يتجعد/ تلويحه بحاجبين مقطوبين/ بقي القداس جائعا/ وله على اكتاف الفزاعات/ ولوجي شهقة ممشوقة/ نَهِمةٌ وجُوهُ الأجوبة/ تغزلك المفارقات بدلا عني/ شبق دوّار رأسك/ وانذر سمرتي للبياض/ إلى عصفورة المنافي/اذلت ولم يصدقها نبي/ فعلة المزامير/ زهرة عاقرة ونوايا ماجنة/......

اعتمد الشاعر التجريب بالاعتماد على المفارقة بوصفه انزياحا وانحرافا دلاليا بقصد كسر الالفة المعتادة والخروج الى غير المعتاد

منطلقة منذ بدايتها من هذا الوعي نلمس ثمة علاقة بين اطراف ثلاثة، التجربة الانسانية، رؤيا الشاعر الذاتية، المتلقي، وهذا ما يميز الشعر الذاتي كما في المقطع من نصه (ندى وظاهر نشيج مخبوء)ص6:

لست كالندى أعصر من النعاس صبحا لأول ريق

يغرد خارج مسار نجمك

لست ليلا لتنضج تعابيري وقت المنتصف

هذي وجه زنبقة

خطوي كحصار

أسواري من غبار

غباري من خيوط التجاعيد التي تتدلى المرايا منها

محاولا الكشف عن المظاهر الذاتية وتجليتها في نصوصه الشعرية، نلاحظ ان خطابه الشعري يتحرك بمنطق الكشف عن الذات وتمثيلاتها عن طريق تفكيك النص واحياناً عن طريق السرد تارة أخرى يتجلى ذلك في مقطع لقصيدة بعنوان (من يسرج روحاً بين كماشتين) ص16:

كل ما حولي

يتناقض بطريقة لا يمسك برأس خيطها جوع...

أفول أبيض على غير العادة

تصحر يبحر على غير مشيئة الرمال

روح تحتضر بطريقة لم تعد مثالية للمعلولين مثلي

من يأخذ بيدي لي من القرارات الاكثر رعبا

يحيل منذ البداية الى الذات الفاعلة التي تمثل مركزية النص، كذلك ينطلق الشاعر حسين بن خليل في مجموعته (وجهة لناي مهزوز) راصد لذوات متعددة في نهاية الامر ذات واحدة هي ذات الشاعر التي تتداخل مع المشهد المحيط النهر، المدينة، بابل، نبوخذ نصر، عشتار، القرية، الصديق و... كما في مقطع منص له (بابل يصفر لها الارث)

لا تعني الخرائب شيئا

حول هذا النهر الحلي

وهو يلتف كبطون الحيات وبابل عطشى

لا يعني شيئا وجه عشتار ولا ابوابها

حين لا تكون بلا مسامير

تشد جنونها حين ينتهي عمر الموكب حزناً

أو يوقف نبوخذ نصر غزواته رعباً

كيف يرتجف الموكب هذا

وهو يحمل بين كفيه الغنائم بعد الحرب

يعتمد الشاعر مفارقة الموقف عبر الذوات الفاعلة بين المدينة وحاضرها وبين الذكريات المرتبطة بالطبيعة وماضيها..

اعتمد الشاعر الحسين بن خليل المفارقة بين حالتي الصوت والصمت صوت المآذن وصمته المستكين بما تصبح معه ذاته مسلوبة الارادة ويصبح الالم والمعاناة هما موضوعة الشعري نلمس ذلك في نصه (مئذنة عقيم): ص58

المآذن تمد وجهها للسماء

تشهق أنفاس المؤذنين

وتزفرها أصواتاً هستيرية في آذان الآلهة

تدق أبواب المصلين متى ما تشاء

الا مأذنتي

عقيم

لا تحدث عشقها للغارقين في خواصر النشيج

يا آلهة المرايا

ابتلعي انيني واسكبيه بين شفاه مترفة

أبلغي العاشقين

فالذاتية في شعره كانت نتاجاً لتردي الاوضاع السياسية والاقتصادية، والاجتماعية فتولد عن تلك الاوضاع المعاني التي اتصفت بالذات، فانتشر الحزن والاحباط والانكسار والتشاؤم و كما برزت معاني أخرى كالتفاؤل والثورة والاستعلاء والرفض الى غيرها من الاتجاهات، وجدت في نصه (هزائم لم يعرفها قروي) بعض ما يفصح عن مشاعره: ص73

أتهرب كعنق الريف وهو ينفلت من مئذنة المدينة

مكبرات الصوت

خالية من هفهفة النوايا على رأس النخيل

 حين يدفع بها الربح

ومرآتي

اسفنجة تراب

تمتص الملامح متى ما نزفت الجادة

أتهرب

کمشط عجوز تمر بين أسنانه صراخات ازقة مكتظة

وهو يرخي لها أسماعه

دون إفصاح عن ضجر لم يعده العمر القديم

كم يلزم

لرأس بدائي فهم الثورة بمنظار أزرق

 أو سماع الهتافات ليس من أعلى شجرة شائخه.

فالذاتية في الشعر هي حصيلة اتحاد ذات الشاعر بالعالم الخارجي والباطني،

وانها في الاخر هو تعبير عما يدور في الذات أولا وفي نفوس الغير ثانياً.

ان الذي يميز الشاعر الصادق من غيره هو ذاتيته، يقول محمد غنيمي هلال الذي قال :" ان العمل الفني ليس نتيجة الشعور فحسب وانما هو ذكاء وفكر وارادة، ويعتمد على الشعور والعاطفة ومن ثم يتخذ منهما الشاعر موضوع تفكيره)2 فموضوع الشعر في نظر غنيمي هو الصدق والاصالة فالشاعر الحق هو الذي يكون لديه ما هو جوهري في ذاته يميزه عمّا سواه وبفضله يكون هو ذاته وليس انساناً آخر.

نستخلص من ذلك أنَّ أي موضوع لا وجود له ولا قيمة فنية له الا اذا كانت هنالك ذات تدركه، كما ان الذات لا توجد من غير موضوع يظهرها لذاتها.

"لا يمكن لأي موضوع ما خارج ذواتنا مهما كانت قوته أن يكون في ذاته أو بذاته أكثر.."3

هذه الرؤية الجديدة للموضوع (الموضوعية) هي التي تتمثل فيها عملية الابداع الفني وهي نفسها التي تلتقي فيها الذات بالموضوع بحيث يصبح الذات موضوعاً والموضوع ذاتاً ويزول هذا التناقض..

وباللغة التي اعتمدها الشاعر تتحقق الذاتية في نصوصه الشعرية،  تدل على رؤية الشاعر الذاتية وقدرته على الصياغة الموضوعية صياغة تدهش القارئ وتلفت انتباهه الى امكانيته في استخدامه للغة .

وعلى هذا النحو تأتي النصوص عبر مجموعته(وجهة لناي مهزوز) محتفيي بذاتها في علاقتها بالواقع فيعبر عن آلامه وهزائمه والملل والضجر واحباطات العالم .

***

طالب عمران المعموري

.................

المصادر

1- خليل، الحسين: وجهة لناي مهزوز، بغداد، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، 2023 .

2- محمد غنيمي هلال: النقد الادبي الحديث، دار الثقافة، دار العودة، بيروت لبنان، 1973 ص315

3- محمد زكي العشماوي، قضايا النقد الادبي من القديم والحديث، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، 1984، ص24

من خلال قراءتي لرواية "فاطمة" للكاتب محمد الزيود، من إصدارات الآن ناشرون وموزعون/2021، وجدت العديد من الأبعاد النفسية للشخصيات. ومن المعروف بأن الشخصية لها الدور الفعال في تحريك العمل الفني ودفع أحداثه. كما أنها تشكل عنصرا مهما ينبني عليه نجاح هذا العمل.

ويؤدي عنصر الشخصية في الرواية أدوارا عدة في بنائها وطريقة عرضها للأحداث. كما أن لها دورا مهما في عرض رؤى الروائي، ومن خلالها أيضا يوصل رسالته للمتلقي.

وللشخصية أبعاد جسمية واجتماعية ونفسية ،لكن ما يهمنا في دراستنا هذه الأبعاد النفسية كون البعد النفسي يتعلق بالمزاج والميول وما يعتري الإنسان من مركبات تؤثر على كيانه الاجتماعي أو الجسماني كما يقول شكري عبد الوهاب في كتابه النص المسرحي-دراسة تحليلية وتاريخية لفن الكتابة المسرحية.

والشخصيات الروائية من وجهة نظر علماء النفس إما سوية أو مرضية. والبعد النفسي يساعد على تبيان ملامح الشخصية في أي عمل روائي.

لكن ما يلفت النظر في رواية فاطمة أن الشخصية المحورية فاطمة/ الراوي سوية ظاهريا ومريضة معذبة داخليا. وفاطمة تعيش في بيئة بسيطة لأناس يعانون شظف العيش في منطقة المسرة في أربعينيات القرن العشرين حيث يمارسون مهنة الرعي وزراعة القمح والشعير ،همهم توفير مؤونة الشتاء لهم ولمواشيهم. فمن سيتنبه لما تعانيه هذه الشخصية من انكسارات داخلية واغتراب نفسي وأحزان وخسارات منذ ساعة ولادتها وحتى شيخوختها.

كما أن هذه الشخصية لم تجد فيما بعد من تفرغ مكبوتاتها النفسية له وما تعانيه من وحدة وفراغ. وعادة ما تكون الأم هي الملجأ الأول للفتاة حيث تشكو همها وآلامها ،لكن فاطمة تختلف فأمها ماتت عند ولادتها وتركتها وحيدة تعاني الغربة والعذاب، حيث تتجلى مشاعرها منذ الصفحات الأولى للرواية ص١٤ على لسانها" قالت لي النسوة عندما سألت عن أمي وكنت أتصفح وجوههن ولا أجد وجهها بينهن إن أمي ذهبت إلى الجنة ،لم تمكث طويلا بعد ولادتي ربما حمى النفاس اختطفتها ،وتركتني يتيمة في بيت الحاج يعقوب أبي".

ورغم مرور سنوات على موت أمها إلا أنها لا تزال جائعة لحنانها مع أنها لم تتذوقه أبدا لكنها الفطرة والرحم الذي يتعلق به الجنين.

 وفاطمة التي حرمت أيضا من أبيها باكرا حيث لم يمهله الموت كثيرا قبل أن يختطفه ويتركها تعاني فقده ،نجد مشاعرها تفيض بعد سنوات من المعاناة وتصف موت الأب وما يشكله هذا الموت بالنسبة للفتاة ص١٥" عندما يموت الأب ينهار جبل جليد بسبب الحزن،وينطفئ سراج الفرح في البيت ،عندما يموت الأب ،تشعر بطعم المرارة التي لا تتغير في فمك مع مرور السنين. عندما يموت الأب يسقط آخر الجدران التي يستند ظهرك عليها!"

ويتضح من خلال هذه المشاعر جوعها الداخلي لأمان الأب والفراغ الذي يتركه غيابه.

 وحتى بعد احتواء حمدان الأخ الوحيد لها إلا أنها ظلت تعاني الغربة بسبب قسوته عليها وعدم إظهار مشاعر المحبة لها بالرغم من وجودها بداخله،فنجدها تقول بحزن وانكسار ص١٨" رغم قسوته علي ،إلا أنه يبدو حنونا عندما يلاطفني كأب". وتظهر انكسارها أيضا عند عودته من عمان بعد غياب ص٥٠ على لسانها" هز رأسه وأداره للجانب الآخر، كانت هذه إشارة لي بالعودة إلى البيت .كنت اتمنى أن أحضنه،أن أقول له إني اشتقت لك بعد هذه السفرة لكنني عدت إلى بيتنا مكسورة الخاطر".

وتتواصل انكساراتها النفسية بعد خسارتها لحمدان الذي يموت ليلة عرسه فيترك موته أثرا كبيرا في نفسها وحرقة على فقدانه ويحول هذا دون استقرارها النفسي عندما تنتقل لتعيش عند خالها حسين في بيته فتفقد خصوصيتها التي يوفرها البيت للإنسان وخصوصاً عندما يكبر ابن خالها علي.

ويتضح تأزمها النفسي عندما تقول بعد موته ص٦٧ "أخذوا قلبي وأهالوا عليه التراب" وص٦٨ "إذا مات أخي انكسر ظهري" فهذه عبارات مجازية للتعبير عن شدة ما تشعر به من تمزق وضغط نفسي بسبب موت أخيها.

والمدقق لانفعالات فاطمة يجد بأنها إنسانة متشائمة والتشاؤم ظاهرة تقضي على حياة الإنسان فيرى من خلالها أن الموت أفضل له من الحياة. وهناك العديد من المواقف في الرواية التي يستطيع المتلقي رصدها لفاطمة وهي تتمنى الموت سواء في الواقع أو في الحلم، ذلك الذي كانت تلجأ إليه فتنفصل من خلاله عن واقعها القاسي وهذا الانفصال ما هو إلا تعبير عن اغترابها عن كل ما هو حولها.فها هي تتمنى الموت بسبب عدم قدرتها على الإنجاب حيث يتسبب هذا الأمر لها بالحزن والتمزق فما يكون من زوجها عندما يرى حالتها وقد تردت إلا أن يقترح عليها الذهاب لزيارة الولي زيدان من أجل العلاج، فتذهب مع عمتها صبحا إلى مقام الولي. فنجدها تصف زيارتها تلك وما حصل معها بعد أن غابت في الحضرة ص١٨٢ " أخبروني أن كل الأدوية دون أمر الله لا تنفع، فلا أتعب نفسي. بقيت أبكي وأنادي على حمدان أن يأخذني معه" وهنا نستشعر التمزق العاطفي الذي تعاني منه هذه الشخصية عندما يخبرها أولياء الحضرة أن لا تتعب نفسها بالبحث عن العلاج ،فتدرك أنها لن تنجب أبدا فيدفعها شعورها بالحرمان من عاطفة الأمومة لتمني الموت ويتمثل ذلك بمناداتها على أخيها الميت ليأخذها معه علها ترتاح من عذاباتها حيث الموت يشكل لمثل هذه الشخصية الخلاص والتطهر من الألم والعذاب .

وما يزيد أيضا في شعورها بعدم الاستقرار حتى وهي في بيت زوجها أنه بني على بقايا بيت روماني، وأنها طالما شعرت بانعدام الأمان لأن أرواحا أخرى تشاركها السكن فيه ويتضح هذا ص١٦٢ على لسانها" بيتي الجديد مع صالح وبقايا الرومان ،وخرزهم وذهبهم وأشياء كثيرة جعلتني أفتقد وأشتاق لبيت خالي حسين الهادئ،شعرت أن هذا البيت مسكون بأرواح لا تشبه روحي".

وتستمر المعاناة.. ومما يزيد أيضا في عذاب نفسية فاطمة شخصيتها الهشة فاقدة الإرادة فعندما ضاقت الحال على زوجها أخبرها بأنه قرر الرحيل إلى الزرقاء لطلب الرزق لم تستطع الإعتراض على هذا القرار واستكانت له برغم ما شعرت به من اغتراب وعذاب. ففي ص٢٠٨" كل كلام صالح لم يرق لي، لكني سأتغرب وأترك هذا المكان الذي تفتحت عيوني عليه" وفاطمة بالرغم من عدم اقتناعها بالرحيل إلا أنها رحلت مما زاد في قهرها الداخلي ومعاناتها بسبب تركها للمكان الذي ولدت فيه.

وجاء بعد ذلك موت خالها ليضيف خسارة جديدة إلى خساراتها حيث تقول حينما جاءها خبر وفاته ص٢١٤" مرة أخرى ينهار آخر حائط كنت أستند عليه، خالي حسين كان كل شيء لي".

وتبدأ الحكاية مع فاطمة عندما انتهت في حي الغويرية أحد أحياء مدينة الزرقاء وحيدة ترقب المارة بعد موت صالح كل غروب على درجات بيتها تعد المارين وخرزات سبحتها كما تعد وحدتها بعدما غاب الأهل والأحباب.

بعد الغوص في أعماق رواية فاطمة قد يشعر المتلقي بأن شخصياتها شخصيات واقعية بالرغم من الملاحظة التي دونها الكاتب في بداية العمل من حيث أن شخصياته هي خيالية. وهنا قد يعترف بمهارة الزيود في صنع شخصيات حقيقية إلى أقصى درجات ممكنة ،استطاع من خلالها عرض واقع تجربة إنسانية منذ أربعينات القرن الماضي وحتى بداية الثمانينات.

بقي أن نقول أن محمد عبد الكريم الزيود ولد في مدينة الزرقاء عام 1973. حاصل على درجة الدكتوراة في أدارة الأعمال من جامعة شمال ماليزيا. عمل في القوات المسلحة الأردنية وتقاعد برتبة مقدم ركن.

يعمل أستاذا مساعدا في قسم إدارة الأعمال في جامعة الزرقاء الخاصة.عضو رابطة الكتاب الأردنيين. أعد وقدم برامج إذاعية في إذاعة التلفزيون الأردني

صدر له عدد من المؤلفات:-

مجموعة من النصوص الدرامية من بينها الفيلم التلفزيوني الشهيد راشد الزيود والفيلم القصير غريسا..حكاية زمن.

مجموعتان قصصيتان ضو جديد و وحيدا كوتر ربابة.

***

قراءة: بديعة النعيمي

مقدمة البحث

تهدف الدراسة إلى الكشف عن مثيرات الشعرية ومحركاتها الرؤيوية في بنية القصيدة عند وهيب عجمي، من خلال قصيدته الموسومة بـ(وردة العشق)، ولهذا سيسعى البحث إلى الكشف عن مغريات الشعرية ومؤثراتها الفنية في هذه القصيدة على المستويين الإيحائي والجمالي؛ دون الإغراق بالتفاصيل الجزئية ومتابعتها داخل النسق الشعري.

ومن هنا، ستقوم الدراسة بملاحقة الكلمة في تركيبها الجمالي وحياكتها النسقية المميزة، تبعاُ لمؤشرات البنى الدالة ومحركاتها ضمن النسق الشعري الجمالي؛ وهذا يعني أن الدراسة تفصيلية رؤيوية تسعى إلى تحريك الرؤية الجمالية ومثيراتها ضمن النسق الشعري وكشف المثيرات الجمالية التي تتضمنها القصيدة على المستوى الفني الجمالي.

أولاً- نص القصيدة (وردة العشق)

صباحكِ وردة ُ العشقِ الجميلِ

وعينُ الحبِّ في  شمسِ الأصيلِ

*

وأشعارٌ تُفتشُ عن رموشٍ

لتسكنَ رقة الرمشِ الكحيل

*

وإشعاعٌ تسللَ في عيونٍ

ليكشفَ سرَّ حسنٍ مستحيل

*

وأنوارٌ تلاقت في جبينٍ

تعانقُ قمة العشقِ الجليلِ

*

وأنغامٌ وألوانٌ ودفءٌ

بأجنحةِ الحمائمِ والهديلِ

*

وقدٌّ ماسَ يهمسُ في نسيم

يميلُ تلاطفاً حتى تميلي

*

وطيرٌ في خمائلهِ تعافى

يدندنُ فوقَ أجراسِ النخيلِ

*

فعيشي في غرامكِ كلَّ حينٍ

ليبقى العشقُ يهدرُ كالسيولِ

*

فدينُ الحب عندك كل دينٍ

يغذي القلبَ في كلِّ الفصول

*

أجافي ذا الهوى لكن قلبي

بدنيا الحب لايخلي سبيلي

*

أتيتُ إليكِ تحملني رياحٌ

وتلقيني على أحلامِ ليلي

*

فأغرقُ في بحارٍ باتْ فيها

شراعٌ غارَ في الجسدِ العليلِ

*

أيا شمسَ الصباحِ وعين حبي

وأفراحي لما بعد الرحيل

*

جنوني في هواكِ يثير ظني

فيصلبني على قلقي الثقيل

*

أغني في هواكِ طوالَ ليلي

وليلي غصَّ في ليلي الطويل

*

ووحي الشعرِ لايأتي ببرقٍ

ووعد ماطرٍ فوق السهولِ

*

بدونِ قصيدةٍ تلتاعُ شوقاً

فشعري في معاناتي دليلي

*

يجيءُ الشعرُ مهراً دونَ وعدٍ

يحييني بحمحمةِ الصهيلِ

*

فأشربُ من يديهِ الكأس مُرَّاً

فأشفي في مرارتهِ غليلي

*

ففي عشقي لمن أهواهُ نارٌ

هي الجناتُ مادامتْ مقيلي"(1).

ثانياً- البحث:

قد يظن القارئ أن الشعرية كتلة متحولات ومؤثرات فنية يمكن أن تتواتر عند الكثير من الشعراء بالقيم الجمالية نفسها والحياكة الإبداعية ذاتها؛ وهذا ينافي الحقيقة الإبداعية التي تجعل لكل نص شعري قانونه الجمالي الخاص به، تبعاً للمثيرات الجمالية التي يمتاز بها شاعر عن شاعر آخر؛ وتجربة عن أخرى؛ ومن هذا المنطلق تختلف التجارب الشعرية عن بعضها البعض؛ من خلال الحياكة الجمالية والحنكة التشكيلية الإبداعية في ربط الكلمات واستثارتها الجمالية.

ومن هنا يمكن القول: إن لكل نص شعري مثيراته النصية،ومحمولاته الإبداعية ومحفزاته النصية،لأن الشعرية – بالأساس- كتلة متحولات ومتغيرات ومحمولات جمالية تبثها القصيدة على مستوى  الكلمة والكلمة ،والجملة والجملة، ناهيك عن إيقاعها التآلفي الترابطي الذي يدلل على أن البنية النصية الشعرية بنية متكاملة إحساساً وفاعلية رؤيوية تحفيزية نصية ترتقي درجات من الاستثارة والتحفيز النصي.

وتختلف شعرية المحمولات الجمالية من شاعر إلى شاعر، ومن نص شعري إلى نص شعري آخر، تبعاً لفاعلية المحمولات الجمالية، ومؤثرات النسق الشعري؛ وهذا يعني أن فاعلية المحولات الجمالية متغيرة في حد ذاتها ومختلفة من نص إلى آخر، ومن رؤية نصية إلى أخرى تبعاً لمثيرات التوابع النصية التي ترتبط بالأثر الجمالي الذي تخلفه المحمولات النصية فيما بينها، وبما أن المحمولات الجمالية كتل متغيرات ومؤثرات مختلفة فيما بينها، فإن ما يثيرها على المستوى الجمالي تفاعل هذه المحولات فيما بينها لتحقق قيمة جمالية تملك مؤشرها الجمالي البليغ، وخصوصيتها الإبداعية الخلاقة. ومن هنا يمكن القول:

تختلف مجالات البحث في علم الجمال الشعري اختلاف التجارب الشعرية التي تتنوع في دلالاتها ورؤاها ومؤثراتها النصية، ومحفزاتها الجمالية وقيمها الفنية، وهذا يعني أن لكل تجربة  شعرية مقتضياتها الفنية التي تجعل البحث في علم الجمال الشعري يعني البحث عن الآلية الجمالية التي جسدت مغامرتها اللغوية الجمالية لخلق بؤرة تأثيرها في المتلقي، وكما هو معروف فإن لكل نص  شعري إبداعي  سطوته الفنية؛ هذه السطوة تختلف من نص لآخر اختلاف التجارب الشعرية نفسها في ارتقاء أسهمها الجمالية أو انحدار المستوى الجمالي لقيمها وأسهمها الجمالية.

ومن هنا تختلف فاعلية الدراسات الجمالية بمقدار اقتناص النصوص الجمالية التي تتضمن الكثير من القيم الجمالية التي تشكل ممانعتها النصية، وبتصورنا: إن القيم الجمالية في نص من النصوص تزداد بالقناة البلاغية الأولى، وهي الصورة المتحركة التي تشتق معانيها المحفزة للشعرية من خلال براعة الشاعر في نقل الأفكار والدلالات والمشاعر بالصورة المبتكرة والمعاني الخلاقة، والمحفزات اللغوية الأخرى كالتكرار والتوازي والتفاعل والتماسك والمناورات التشكيلية والدلالية وغيرها من المؤثرات التي تخدم شعرية الجملة في انفتاحها  النصي؛ وما إلى ذلك من المؤثرات التي تجعل النص الشعري غابة من المؤثرات الجمالية في الصورة والرمز والإيقاع والمتجانسات الصوتية، ومحركاتها الضمنية ضمن النسق الشعري.

وبتصورنا: إن البحث عن جمالية الشعرية في قصائد وهيب عجمي يعني البحث عن الأصالة الإيقاعية والموسيقا الداخلية التي تغني جماليات قصائده في جرسها الصوتي وبلاغة الصورة المعبرة عن عاطفة مشبوبة بالمشاعر المفعمة بالإحساس والحساسية الجمالية؛ فالشاعر وهيب عجمي يمتلك مخيلة شعرية وهاجة في صورها خلاقة في معانيها ورؤاها الجمالية، إذ يعيش الحالة الشعورية بإحساس جمالي يجعل كلماته عذبة تسير بإيقاعها المزركش بالألوان والدلالات والمعاني التي تفيض استثارة وحساسية جمالية مرهفة بالمعاني والدلالات الوهاجة، فهو يمتلك الرؤية الشعرية والحساسية الجمالية في رصف الكلمات وتشكيل الصور بإيقاع رومانسي غزلي ليصوغ من لغته الشعرية لغة خاصة لا يقلد فيه أحداً سوى العجمي،أي ترى في قصائده نكهة الحداثة ونكهة المعاني القديمة التي تسبح في تجليات الفكر والتصوف والغزل الجاهلي باختيار الجمل والتراكيب الفياضة التي تشبه الشعر الغزلي القديم بموجات حداثوية يقارع فيها الزمن ويدق ناقوس الجمال الشعري المتوحد بالحالة الشعورية والإيقاع الروحي الذي يتغور أعماق التصوف بالحدث وحالة الوجد القصوى، وما قصيدة وردة العشق إلا صورة من صور التجسد والتفاعل على مستوى الكلمات وإيقاع التراكيب التي تشبه في مدها وحراكها الشعوري قصائد بدوي الجبل  هذا العملاق السوري، أي يعيد العجمي بناء قصيدته الحداثوية بإيقاع رومانسي لا يبتعد عن إيقاع بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي ، ليبنني الصورة الجمالية التي تخلق معانيها بجلال وجمال بارعين.

ومن يعتقد أن البنية التركيبية أو الهيكلية النصية لقصائد وهيب عجمي  متشابهة فقد أخطأ الحكم النقدي الجمالي على الآلية البنائية أو الهيكلية البنائية لقصائد العجمي؛ إذ إن العجمي ينوع في نسيج خلايا قصائده، تبعاً لمسار الحركة الشعورية أو الموقف الشعري؛ فالعجمي يبني النص الآني، أو نص اللحظة الشعورية الحالية، يعيش الواقع الشعري بمسبباته الشعورية فهو لايعيش اللحظة الماضوية إلا باللحظة الحضورية الطازجة، ولهذا تسبح قصائده بفيض دلالاتها وإيحاءاتها الشعرية المتوترة؛ فهو يتنفس الجمال الشعري دون أن يتغيب عن إيقاع العاطفة المتقد ونبع الثراء الوجداني الذي يغلف قصائده بالغنائية الشفافة التي يستقي وهجها من حرارة الموقف العاطفي أو اللحظة الشعورية التي يعيشها في واقعها الحالي ولو استرجع لحظة ماضوية أو حدثاً ماضوياً أو رؤية ماضوية أراد أن يحياها في واقعه الراهن؛ إنه يبني النص الجمالي الخلاق بكل مستجدات اللحظة الشعورية الراهنة والواقع الراهن.

وما قصيدة (وردة عشق) إلا استرجاعاً حقيقياً لعالم غزلي أراد أن يجسد لحظاته في واقعه الشعري الراهن؛ ولعل أبرز ما يجسده في هذا العالم أنه يعيش الواقع الشعري باستثارة وجمالية  وحراك شعوري ظهر شعرياً من خلال الفاتحة الاستهلالية التي يقول فيها:

صباحكِ وردة ُ العشقِ الجميلِ

    وعينُ الحبِّ في  شمسِ الأصيلِ

*

وأشعارٌ تُفتشُ عن رموشٍ

   لتسكنَ رقة الرمشِ الكحيل

*

وإشعاعٌ تسللَ في عيونٍ

   ليكشفَ سرَّ حسنٍ مستحيل

*

وأنوارٌ تلاقت في جبينٍ

  تعانقُ قمة العشقِ الجليلِ

*

وأنغامٌ وألوانٌ ودفءٌ 

   بأجنحةِ الحمائمِ والهديلِ

*

وقدٌّ ماسَ يهمسُ في نسيم 

 يميلُ تلاطفاً حتى تميلي

*

وطيرٌ في خمائلهِ تعافى

يدندنُ فوقَ أجراسِ النخيلِ

لا شك في أن أية قيمة جمالية مكتسبة في قصائد العجمي تتبدى في دفقتها الاستهلالية أو فاتحتها الاستهلالية الموفقة التي  غالباً ما يجعلها جملاً اسمية راسخة، ومن طبيعة الجمل الاسمية أنها تحمل الديمومة والثبات في الحدث والموقف الشعوري، وهو يريد أن يكون غزله تأسيسياً وحبه راسخاً كرسوخ الجبال أو ثابتاً صامداً كما راسيات الجبال، فابتدأ الفاتحة الاستهلالية بأوصاف راسخة تدلل على جمال المحبوبة، ورقي أوصافها، وحيازتها على أكبر كم من الصور الاسمية الراسخة في تبيان أوصاف الحبيبة، ومصدر جمالها؛ فصباحها ورود حب ،وقصائد وأشعار، وجمالها الوديع إشراقات ملائكية  تسكن رقة الرمش الكحيل، وهي ينابيع حسن، وأنوار ولآلئ وأنغام وهديل حمام، تتسامى في الخمائل لتقرع أجراس النخيل، إنه يبني الصور المشتقة من جمال الطبيعة بكل أنسها وخصوبتها ومصدر ائتلافها المشهدي على مستوى وحدة الرؤيا وشاعرية الموضوع.

وهنا نتساءل: هل العجمي كان مدركاً أن شعريته متنوعة في مشاربها الفنية كما تنوع الهيكلية النصية لقصائده؟ هل يؤمن أن الغنائية التي بنى عليها قصائده متنوعة في إيقاعها من الشكوى وبث النجوى والحنين ، هل كان يدرك أن لقصائده جرسها الصوتي الخاص وإيقاعها المختلف؟ هل كان يدرك أن شعريته متماوجة متناغمة كتناغم الإيقاعات الدافئة في خميلة غناء؛ إن قصائده تسبح في ملكوتها الشعري الخاص وفضائها الصوفي المؤثر.

هل استطاع العجمي أن يبني القصيدة الجوهرة أو قصيدة الحياة بكل ما تتضمنه هذه الكلمة من معانٍ ورؤى ودلالات؟ وكيف يستطيع الشاعر وهيب العجمي أن يحرك القارئ بهذا الكم من الصور، لابد قبل الإجابة عن هذه التساؤلات المتتابعة من الوقوف على حقيقة صرح بها العجمي قائلاً:" الغنائية في قصائدي لحنها الواقع المعيش والحياة التي أتنفسها في صباحي الريفي المنتعش برائحة الأشجار والحقول وأنسام الطيور المهاجرة والطيور المغردة على أشجار النخيل، لقصائدي حرارتها الواقعية التي تعيش في داخلي في يومي والحدث اليومي"(2).

وهذا القول يدلنا على أن العجمي يعيش يومه شعرياً وهو في أحضان الطبيعة، يتنقل كالبلابل بين الخمائل والورود، يعانق صباحه الريفي بلذة، وانتشاء جمالي ، يظهر من خلال إيقاع القصيدة ، ليجمع الحس والحركة والرؤية والشعور؛ وما ألذ هذه الصور الموحية بدلالاتها ورؤاها الماثلة في قوله:

فعيشي في غرامكِ كلَّ حينٍ 

  ليبقى العشقُ يهدرُ كالسيولِ

*

فدينُ الحب عندك كل دينٍ 

 يغذي القلبَ في كلِّ الفصول

*

أجافي ذا الهوى لكن قلبي 

 بدنيا الحب لايخلي سبيلي

*

أتيتُ إليكِ تحملني رياحٌ  

 وتلقيني على أحلامِ ليلي

*

فأغرقُ في بحارٍ باتْ فيها  

 شراعٌ غارَ في الجسدِ العليلِ

*

أيا شمسَ الصباحِ وعين حبي  

 وأفراحي لما بعد الرحيل

هنا يعيش الشاعر اللحظة الشعورية بجماليتها ورؤاها مخاطباً محبوبته أن تبادله هذه المشاعر لتعيش الحب ،وتدين بدين الحب أنى توجهت، حتى بعد رحيله ليبقى حبها خالداً كخلود الحياة  لتعيش اللحظة السرمدية بالحب، وهنا جاءت الصورة (أيا شمسَ الصباحِ وعين حبي  وأفراحي لما بعد الرحيل) دالة بقوة عن مقصودها وإحساسها الجمالي ليؤكد العجمي أن الشاعر ليس فقط ديدانه اللغة والصورة فحسب؛ وإنما ديدانه الهيكلية الجمالية التي تخوله الانتقال من مثير جمالي إلى آخر، لاسيما إذا كان شاعراً رؤيوياً يتنفس الشعر إيقاعاً روحياً يخرج من الصميم.

والملاحظ أن الشاعر وهيب عجمي يشكل القصيدة اللحمة أو القصيدة المتآلفة في نسيجها من بابها إلى محرابها، يتنفس الشعر بوحي فني وبلاغة شاعرية آسرة، ومن هنا تتسامى الرؤى والصور الشعرية وتتآلف لتحقق هذا التألق والارتقاء بها من نسق شعري إلى آخر؛ وهذا يدلنا على أن الوعي الجمالي في التشكيل والحرص على تكثيف اللحظة المشهدية من محفزات الرؤية الشعرية في قصائد وهيب عجمي.

2- المناورة الأسلوبية:

لاشك في أن الشاعر المبدع يمتلك أساليبه الشعرية وطرائقه في التشكيل الإبداعي، ولا يمكن للشاعر الحقيقي أن يعيش اللحظة الشعرية دون مناورة في طريقة التشكيل وحرفنة في تشعير النسق الشعري وخلق متغيره الجمالي، والشاعر وهيب عجمي يمتلك مناوراته التشكيلية البراقة التي يشكلها تبعاً لحساسيته الجمالية وطريقته في الانتقال من نسق شعري إلى آخر؛ ومن هنا نلحظ أن الحنكة المشهدية أو المناورات الأسلوبية ذات قيمة بالغة في إبراز فنية الرؤى الشعرية التي يمتلكها العجمي؛ وهذه المناورات ليست وليدة المصادفة، وإنما وليدة الإحساس الجمالي، والبراعة في التقاط الصور الجديدة وترسيمها بدقة للقارئ كما في قوله:

جنوني في هواكِ يثير ظني

 فيصلبني على قلقي الثقيل

*

أغني في هواكِ طوالَ ليلي  

وليلي غصَّ في ليلي الطويل

*

ووحي الشعرِ لايأتي ببرقٍ 

ووعد ماطرٍ فوق السهولِ

*

بدونِ قصيدةٍ تلتاعُ شوقاً  

فشعري في معاناتي دليلي

إن الدهشة الجمالية تطالعنا في هذه الأسطر من مناوراته الأسلوبية الخلاقة؛ فالشاعر يبني الجمل بناءً فنياً موحياً يشير الشاعر من خلالها إلى أعلى مستويات وقيم الجمال في التشكيل، فينقلنا من زاوية إلى زاوية ومن رؤية جمالية إلى رؤية أكثر استثارة وجمالية ، محققاً ارتقاءً جمالياً في هذا التوليف المناور جمالياً لخلق الصورة الجمالية والإحساس الجمالي بها: (ووحي الشعر لا يأتي ببرقٍ   ووعدٍ ماطرٍ فوق السهول)؛ وهذا البيت اقتضى بمناورته الأسلوبية البيت التالي وشكل لحمة جمالية معه:"بدون قصيدة تلتاعُ شوقاً  فشعري في معاناتي دليلي)؛ وهكذا استطاع الشاعر أن يخلق مناوراته التشكيلية بإيقاع جملي مؤسس على الحراك الدلالي والرؤيوي الكاشف عن دلالات ومعانٍ جديدة لا يمكن أن يسمو الشعر ويرتقي الشاعر إلا بها لاسيما في القفلة.

 النصية الختامية للقصيدة:

يجيءُ الشعرُ مهراً دونَ وعدٍ

 يحييني بحمحمةِ الصهيلِ

*

فأشربُ من يديهِ الكأس مُرَّاً

فأشفي في مرارتهِ غليلي

ففي عشقي لمن أهواهُ نارٌ

هي الجناتُ مادامتْ مقيلي

هنا تأتي القفلة الختامية قمة في الاستثارة والمناورة الجمالية التي تدلل على شعرية بليغة في إشراقاتها ومناوراتها التشكيلية،كما في قوله: (ففي عشقي لمن أهواه نارٌ هي الجناتُ مادامت مقيلي)، وهكذا، يؤسس الشاعر وهيب عجمي قفلاته النصية على المناورات التشكيلية الأسلوبية التي تبين براعته في صوغ جمله الشعرية لترتكز على الجملة المحور التي تزيد فاعلية الحراك الرؤيوي والدلالي، وتكون القصيدة قوية في إيقاعاته الدلالية ومناوراتها التشكيلية الخلاقة بمعانيها ورؤاها.

نتائج أخيرة:

1- إن الشعرية ومتحولاتها في بنية قصيدة (وردة العشق) تتأتى من ثراء القيم الجمالية التي تضمرها بالانتقال من صورة إلى صورة، ومن كلمة إلى أخرى ضمن النسق الشعري الواحد؛ أي ثمة هندسة جمالية تلاحمية في ربط الكلمات وإثارة إيقاعها الجمالي والترسيمي الخلاق؛ على مستوى النسق التكاملي المفرداتي الذي يربط الكلمات فيما بينها؛ وانتقالا الى سياق الجمل ووظائفها التركيبية وغنى محمولاتها الشعرية والرؤيوية الخلاقة.

2- إن الشعرية ومحمولاتها الجمالية – في بنية قصيدة (وردة العشق) شاملة للكثير من القضايا والرؤى الجمالية؛ وهذا يعني أن ارتقاء الشعرية في هذه القصيدة يعود إلى ممكناتها الإبداعية وحراك الرؤى الشعر ية التي تجعل القارئ يسبح في فضائها الجمالي وحياكتها النسقية البليغة.

3- إن المهارة الإبداعية التي تمتاز بها قصيدة (وردة العشق) تعود إلى الحياكة النسقية وقوة الرابط  الجمالي الذي يربط العبارات فيما بينها وجمالية الرؤية الشعرية؛ التي ترتقي بالنسق الشعري الجمالي إلى أقصى درجات الفاعلية والتأثير؛ وكأن العجمي يعيدنا إلى زمن الرومانسية البراقة والمتخيلات الجمالية التي تسمو وترتقي بالنص الشعري إلى آفاق السحر وألإدهاش والإمتاع الجمالي.

وصفوة القول:

إن شعرية العجمي تختلف من قصيدة لقصيدة في توثباتها الشعرية، لتدلل على أن الحداثوية -لديه- تطال قصائده جميعها في فضائها الرؤيوي التخييلي؛،لتؤكد أن  الحداثوية لديه ليست  حداثوية صياغة فحسب؛ وإنما حداثوية رؤيا جمالية خلاقة مبدعة في الروح والمعاني والدلالات والمضمون الجمالي؛ وهذا ما يجعل القصيدة –لديه- تتنفس إبداعها بجمال وحساسية فنية عالية المستوى على الفضاء النصي الدلالي ؛ وهذا إن دل على شيء فيدل على فاعلية الرؤيا الشعرية- لدى العجمي- وبلاغة ما تصيبه قصائده من صور ومعانٍ ودلالات جديدة  تجعل نصه الشعري  قابلاً للكشف والتنقيب الإبداعي أكثر من مرة ؛وهذه سمة النصوص الإبداعية التي تحرك القارئ وتثير حساسيته الجمالية بامتياز. فالنص المثير يبقى دائما مغرياً لكشفه ومحاورته من العمق.

***

د. عصام شرتح - ناقد سوري

.....................

الحواشي:

(1)العجمي، وهيب، 2020-وردة العشق،دارالبنان، بيروت، ص44-45.

(2) شرتح، عصام ، 2020- حوار مع وهيب عجمي، الفيس بوك.

للكاتبة المبدعة كنانة حاتم عيسى

أن تعنون الكاتبة قصتها بكلمة واحدة وهي بالضبط "الندم"، وتستهلها بالحديث عن "مدينة قديمة"، يثير لدى القارئ سؤالا عريضا معقدا للغاية، يصعب عليه أن يجد له جوابا شافيا. الزوار في رواح وغدو بآلاف الخطوات في الأزقة الحجرية الداكنة يعبرون عن عشق ذاكرة لا يلتئم. في زمن ناطحات السحاب والتكنولوجيات الحديثة والأسلحة الإلكترونية الدقيقة ووسائل النقل السريعة بذكائها الاصطناعي، لا يجد العربي سبيلا للتعبير عن هويته إلا البحث عن اكتشاف التراث والاعتزاز والتباهي به، بل الاستعداد من أجل التضحية من أجله، وترديد ميوله للرجوع إلى الوراء المرادف للهلاك. الزائرون لا ينتبهون لفقر الأجزاء الأخرى من المدينة وهشاشتها. العودة كل عام للأمكنة المقدسة في اللاشعور المتنامي تاريخيا، كما عبر عن ذلك السارد، هي بمثابة إرادة نفسية لمسح الوجوه المتعبة الزرقاء بنور هو في حقيقة الأمر قد تشظى في القلوب. النور لا يتشظى في طبيعته. وما حققته الشعوب المتقدمة يتجبر بسلمية قاهرة فارضا نوره على النفوس متحديا كل أشكال المقاومة. تَصَوُّرُ تشظي النور لا يرقى أن يكون سوى انعكاس لعقدة نفسية تاريخية تستدعي التأمل وحل رموز المنطق السائد والاستعداد للمستقبل.

بعد مسار في المدينة القديمة بجدرانها العتيقة، يقف السارد البطل أمام الواجهة الزجاجية. لا محالة إنها واجهة مغرية بملذات الحياة. تأثر بالقديم وأصابته التخمة (تناول وجبة ثقيلة: إفطار دسم). تَعَمَّد التعبير عن عدم الندم، وَوَلَّد الرغبة في تناول المزيد منها. لقد قابل شراهته بحزنه وهو يعي كامل الوعي أنه ساخط على انتمائه لوطن خذله أبناؤه (هذا عقابي وأستحقه).

لم يكن بمقدوره مقاومة إغراء الجديد المعروض على الواجهة الزجاجية التي ترمز للحداثة ونمط الإنتاج الغربي. تلقف الصحن البلاستيكي، نظر بشراهة لقطعة العجين المقلية والمحشوة بالشوكولاته السائلة، وبدأ بالتهام ما قدّم له بأنفاس متقطعة لزجة. سمع أحدهم يهمس من خلف ظهره متفوها بعبارتين مدويتين "شره قميء" و"بدين أحمق". ازدرد السارد بفطرته من ثقافة انتمائه حتى تجاوز حد الإشباع لكن نفسيته لم تثنه عن التهام المزيد من المعروض في الواجهة الزجاجية.

بمنطق الاستدلال السخيف (raisonnement par l’absurde)، يلاحظ السارد نفس الميول النفسي لدى السياح الأجانب. وصفهم بشخوص بلا أرواح ولا أفئدة، يتلذذون بقلب المدينة التي أعفنتها الحرب من مرارة الاحتراق ولم تعفنها من مرارة الموت والدمار والجوع. بإيحائه هذا، يقر السارد باستفحال تخبط عالمي، فاتحا آفاق التفكير للغوص في آفاق معرفية قد ترسو على مرافئ نمط حياة جديد.

هم يستهلكون بمنطق السائح الباحث عن كشف الماضي العربي (المشرق العربي، المنطقة المغاربية والأندلسية)، والسارد يستهلك بمنطق العربي الحائر المثقل بالماضي بدون أن يجد السبيل الصحيح لفرض الذات في المستقبل. الندم جعل السارد يعاتب نفسه بدون قدرة على تعبيد طريق تقوده للبدء في منافسة الآخر. السارد نموذج الشخصية العربية الواعية بواقعها، لكنها في نفس الوقت تعترف بعدم قدرتها التملص من مخالب الزمن المضني بتقنياته وسلوكياته وتغييراته الاجتماعية السريعة. انعدمت الطمأنينة بسبب إدمان الشراهة في كل شيء، بدون أن تتاح الفرصة للعربي أن يفكر في الرجوع بخطوة إلى الوراء من أجل التقدم خطوتين إلى الأمام. لقد اختزل السارد هذا الواقع المفروض نفسيا بعبارة "فليذهبوا إلى ذلك الجحيم".

وحتى وهو متخم بما طلبه وتناوله من الواجهة الزجاجية، أخذ يحملق فيما تبقى (نصف قطعة الحلوى ملتصقاً بالصحن البلاستيكي في يده). ميزة الحلوى هي إثارة الشهية (رائحة الفانيلا وخبيز الحلوى تثيران فيّ الغثيان). لم يتجرأ على رمي الجزء المتبقى في الحاوية بالرغم من شعوره بالإشباع والتخمة. لام نفسه لعدم قدرته التحكم في نفسيته ولذاته (الندم). ابتلعُ كلّ شيء بشراهةٍ. نظر إليه الصحن الفارغ الدبق بفتاته ضاحكًا ومستهزئا وهو لا يغادر كفه المتعرق. استند بيده على الجدار ريثما تصل سيارة مستأجرة فارهة لتقلّه لأهم فنادق المدينة المكلومة.  حثت خلفه خطوات ضيقة، شدته يدٌ بائسة صغيرة، إلتف للخلف، آتاه صوتها مغلفًا بآذان حزين بعيد بعبارة "هل ستأكل هذه يا عم؟". قدم لها الصحن بفتاته، مسكته ببؤس وغادرت....حملق فيها ورق قلبه لها. إن جسدها ناحل وثوبها متسخ قديم، مرتحلًا مع جوقة من الأطفال المشردين الباحثين في حاويات القمامة البعيدة عن ندم يشبه ندمه.

استهلك الفاعل العربي من صحون ثقافته حتى أصيب بالتخمة والتيه. حملق في وجبات الواجهات الزجاجية العصرية، وتعسف على نفسه لاستهلاك المزيد بشراهة. وحتى وهو تائه مشبع مصاب بالبطنة، التهم ما تبقى في الصحون المقدمة له من الواجهات الزجاجية العصرية. لقد سمح لنفسه إراديا بتقديم فتات الصحون الفارغة إلى الأجيال الصاعدة الجائعة المشردة. لم يترك لها ولو قطعة طعام تستجيب لشغفهم للشعور باللذة دون إشباع. ترك لهم فتاتا لا منفعة من وراءه.

قصة حزينة للغاية، كلماتها مرتبة بعناية قصوى. بعباراتها يزداد التركيز شدة من أول كلمة إلى آخرها. لغة سلسة مشجعة على القراءة والتأمل. عتبة العنوان غير الفاضح تكاد أن تجعل من "الندم" شعورا لا يثنى عن تكرار المآسي. ندم بدون ثوبة كما في الدين الاسلامي. ندم اعتقله الانحراف وهزم النفوس فارضا آفة الاستهلاك المتكرر. يزدرد الفاعل ما لذ وطاب من ثقافته، وتزداد شراهته أمام ما تقدمه الواجهات الزجاجية. يزدرد كل شيء بشراهة بعيدا عن العقلانية، وتبقى الأجيال الصاعدة عرضة للمجهول. العبرة في القصة تدعو بشكل مبطن إلى قهر النفس وإحداث توقف زمني لمراجعة مقومات الأنا، ومن تم التفكير في نسق يمكن من الاعتزاز بالهوية العقلانية (غربلة التراث)، والغوص بدون تردد في اعتناق الكشوفات العلمية المحققة والبحث للوصول إلى أخرى جديدة ترمز إلى عبقرية الإنسان العربي. إنها خلاصة بمثابة وصية جيل لجيل.

***

الحسين بوخرطة

...............................

نص القصة: الندم

في الأزقة الحجرية الداكنة، ُتبتلعُ آلاف الخطوات.

وحدها الظلالُ والجّدران تتنفس وقعَها المتفاوت في رّواح وغدو، ككلِّ مدينة قديمة في العالم، لجانبها الأثري نصيب من العشق لا يلتئم، ولا يعرف فقر الأجزاء الأخرى وهشاشتها. إنّه ذلك الوقت الرّصين من كل عام... قدسية تمسح الوجوه المتعبة الزرقاء بنور قد تشظى في قلوبهم ولم يلامسني حفيفه.

فليذهبوا إلى ذلك الجحيم..

أقف عند تلك الواجهة الزجاجية مثقلاً بوجبة ما كان يجب عليّ تناولها بعد إفطار دسم، ورغم ذلك أنا أرغب في المزيد منها.

لا يعلم أحد حولي، أنّ حزني أكبر من شرهي، وأنّ سخطي أقسى من انتمائي لوطن خذلناه جميعًا.

وها أنا أتلقف الصحن البلاستيكي، أنظر بشراهة لقطعة العجين المقلية والمحشوة بالشوكولاته السائلة، وأبدأ بالتهام ما قدّم لي بأنفاس متقطعة لزجة، أسمع أحدهم يهمس من خلف ظهري

شره قميء

بدين أحمق

لكن ذلك لا يثني عزيمتي عن التهام المزيد.

كثر هم سياح المكان الَمحملقين فيّ، سياح يشبهونني، شخوص هائمة بلا أرواح ولا أفئدة، يتلذذون بقلب المدينة التي أعفتها الحرب من مرارة الإحتراق، ولم تعفها من مرارة الموت والدمار والجوع، بقي نصف قطعة الحلوى ملتصقاً بالصحن البلاستيكي في يدي، رائحة الفانيلا وخبيز الحلوى تثيران فيّ الغثيان. أقف بجانب حاوية القمامة، لكنّها تبتعد عني. أنظر حولي، لن أجرؤ على رميها، هذا عقابي، وأستحقه، أبتلعُ كلّ شيء بشراهةٍ، ينظر إلي الصحن الفارغ الدبق بفتاته ضاحكًا وهو لا يغادر كفيّ المتعرق، أستند بيدي على الجدار ريثما تصل سيارة مستأجرة فارهة لتقلّني لأهم فنادق المدينة المكلومة.

تحثو خلفي خطوات ضيقة بينما يغلق الشارع دوني أضواءه الخافتة، تشدني يدٌ بائسة صغيرة، ألتفّ للخلف، يأتيني صوتها مغلفًا بآذان حزين بعيد

-هل ستأكل هذه يا عم؟

أقدّم لها الصحن بفتاته، تمسكه ببؤس وتغادر....أراقب جسدها الناحل وثوبها المتسخ القديم، مرتحلًا مع جوقة من الأطفال المشردين الباحثين في حاويات القمامة البعيدة عن ندم يشبه ندمي.

***

كنانة حاتم عيسى

بقلم: جيل دولوز وفيليكس غوتاري

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

يمكن تفسير عمل هذا التركيب فقط اذا عزلته وفحصت كلا من العناصر التي تكونه، وطبيعة ترابطاتها. تبدو الشخصيات في "المحاكمة" جزءا من سلسلة كبيرة لا تتوقف عن الاستطالة. وكل واحدة منها في الحقيقة نشيطة أو تمثل العدالة (وفي "القلعة"، لدى كل إنسان شيء ما يجب أن يقوم به تجاه القلعة)، ليس القضاة فقط، والمحامين، والمحققين، والشرطة، ولكن حتى المدان، وعلاوة على ذلك النساء، والبنات الصغيرات، والرسام تيتوريللي، و كاف نفسه.  ثم تنقسم السلاسل الكبيرة إلى تحت سلاسل. وكل تحت سلسلة منها تمتلك توسعة شيزوفرانية لا محدودة خاصة بها. وعليه يستعمل بلوك في نفس الوقت ستة محامين، ومع ذلك هذا لا يكفيه. وينتج تيتوريللي سلاسل من رسومات متماثلة تماما، وطيلة مغامراته، يقابل كاف نساء فضوليات شابات من نفس النوع (إلزا صديقته الحميمة قبل المحاكمة، النادلة في الملهى الليلي، الآنسة بورستنير، "وهي طابعة آلة كاتبة لا تمانعه لفترة طويلة"، والمرأة الغسالة*، وعشيقة القاضي وزوجة المحقق، وليني وصيفة الممرضة وسكرتيرة المحامي، والبنات الصغيرات في بيت تيتوريللي). ولكن أول مواصفات هذه السلاسل المتكاثرة أنها تعمل لتزيل وضعية كانت تمنع المرور في مكان آخر. ومرارا ما استعمل كافكا الثنائيات والثلاثيات. وبقيت متمايزة عن بعضها البعض. ويتكون مثلث الذات، وهو عائلي بالأصل، من تثبيت موضع طرف بالعلاقة مع صورة الطرفين الاخرين الموجودين (أب - أم - ابن). وتعبر ازدواجية الذات، بشكل ذات النطق وذات العبارة**، عن حركة الذات في واحد من ممثليها أو في كليهما معا: أحيانا هي أكثر أخوية من كونها أبوية - وتتأسس على الشعور بالعار. وأحيانا أكثر مهنية من كونها عائلية- وتتأسس على التنافسية. وتتركز معظم مزدوجات كافكا على موضوعة الأخين أو البيروقراطيين، سواء تحرك أحدهما وبقي الثاني ساكنا، أو إذا تحرك الاثنان بحركة واحدة (1). ويصح أيضا أن نقول إن المزدوجات والثلاثيات ثاقبة وتتعمق. وحينما يبقى أحد المزدوجات ساكنا ويكون جاهزا لنقل الحركة إلى الآخر، يبدو أن لهذه الطاقة البيروقراطية المتكاملة أصولها في المثلث العائلي الذي يحتفظ بالابن ساكنا ويورطه بأحلام اليقظة. بهذا الخصوص يقول كافكا إن للروح البيروقراطية فضيلة اجتماعية تنبع مباشرة من الثقافة العائلية (2). وفي الحالة الثانية حينما يتحرك الزوجي معا، يفترض نشاطهما وضعا ثالثا، وليكن مدير مكتب يعتمد الزوجي عليه. وبهذه الطريقة يقدم كافكا باستمرار ثلاثيات، لمثلثات بيروقراطية رسمية. يتفرع البيروقراطيان الاثنان بالضرورة من ثالث متفوق عليهما، ويخدمانه بصفة ذراع يمينية ويسارية. وعليه بالمقابل لو أن الزوج البيروقراطي يعيدنا إلى المثلث العائلي، فإنه يمكن للثالث بدوره أن يستبدل بمثلثات بيروقراطية.  وكل هذه الخطوط معقدة جدا في كافكا. وأحيانا، بوجود المثلث العائلي كمعطى، كما هي الحال في "المسخ"، يجب إضافة أو استبدال شيء يشبه وضعا ثالثا: يصل رئيس الموظفين إلى أمام باب جورج ويقدم نفسه للعائلة. ولكن أحيانا، أيضا، يأخذ الثلاثي البيروقراطي شكل حاجز يدخل ويتحكم بأحوال العائلة، وحتى لو أنه داعم: وتقديم رئيس الموظفين في "المسخ" يخدم فقط التهيئة والتحضير لهذه اللحظة.

وأحيانا، كما هو الحال في بداية "المحاكمة"، لا يوجد مثلث عائلي سابق الوجود (الأب ميت، والأم بعيدة)، ولكن لا يزال هناك تطفل من الظرف الأول ثم آخر يعمل مثل قرين رقابي (يعمل عمل الشرطة على نفسه)، ثم التثليث بطرف ثالث، وهو المحقق. ويمكننا ملاحظة تحول هذا المثلث غير العائلي، والذي بدوره سيكون مثلث عمال المصرف البيروقراطيين، ومثلث السيدة بورستنير وصديقاتها في الصورة، وهو مثلث إيروتيكي. لهذه الحالات المعقدة التي وصفناها هدف واحد - أن تبين أنه يبقى شيء مسدودا في الزوجيات وكذلك في المثلثات وما بينها من تلامس وتأويلات مشتركة.

لماذا اثنان أو ثلاثة وليس أكثر؟. ولماذا اثنان يحيلان إلى ثلاثة والعكس بالعكس؟. ماذا يمنع علاقة أخرى، كما هو حال "المسخ" من التضاعف والتثليث برأيه؟. فشل الرسائل بهذا الخصوص، بالرغم من محاولة كافكا تقديم كريت بلوخ ثم الهرب من ما يشبه العلاقة الثنائية. وهو فشل القصص الحيوانية في هذا المجال، رغم محاولة جورج أن يهرب من التثليث. هذه إحدى المشاكل الرئيسية التي حلتها الروايات: فالثنائيات والمثلثات التي بقيت في روايات كافكا تعود للظهور في بداية الروايات. ومنذ البداية هي متذبذبة جدا، وكثيرة ومتحولة جدا، وجاهزة لتنفتح بشكل سلسلة تكسر شكلها وتغجر بعلاقاتها شروطها. وهذا عكس ما يجري تماما في "المسخ"، حيث تجد الأخت، وكذلك الأخ، نفسها محكومة بعودة منتصرة لما يشبه مثلث العائلة الحصري. ولا تجزم المشكلة إذا كان "المسخ" عملا رائعا. من الواضح أنه كذلك، ولكن هذا لا يفيد كافكا، لأنه بمقدار ما ينبئنا أن الأشياء بحالة ممتازة، يمنعه، أو هكذا هو يعتقد، من كتابة رواية. وهو لن يغامر بكتابة رواية عائلية أو رواية زواج، ساغا الكافكاوات، أو "ليلة العرس في الريف". مع ذلك لمس في "أميركا" كيف يمكن للسلسلة الطويلة أن تكون حلا، وتمكن، في "المحاكمة" ثم في "القلعة" من الإمساك بزمام هذا الحل***.  ولكن من هذه النقطة وما بعد، لن يكون هناك أي سبب لكي تنتهي الرواية. (إلا إذا فعل فعلة بلزاك وفلوبير وديكنز، ومهما كان إعجابه بهم قويا، فهو لم يكن يريد شيئا مثلهم. لم يرغب بخلق جينيالوجيا، حتى لو أنها اجتماعية، على خطا بلزاك. ولم يرغب أن ينصب برجا عاجيا، على خطا فلوبير. وكذلك لم يكن يريد "بيوتا"، على خطا ديكنز، لأنه بذاته يحمل مفهوما شديد الاختلاف عن البيت. ولم يحب أن يقتفي أثر أي معلم سوى كلايست، وحتى كلايست كان يمقت التبعية. مع ذلك إن كلايست موضوع مختلف حتى في مؤثراته العميقة التي تركها على كافكا. وعلينا أن نتكلم بشكل مختلف عن هذا التأثير. وسؤال كلايست ليس "ما هو الأدب الثانوي، وبعد ذلك ما هو الأدب السياسي والجماعي؟"، ولكن عوضا عن ذلك سؤاله كان "ما هو أدب الحرب؟". وهذا ليس غريبا تماما على كافكا، ومع ذلك هذا ليس سؤاله بالضبط).

وبدفع المثلثات للتحول حتى تكون لا متناهية، وبتكثير المزدوجات حتى تكون غير محددة، يفتح كافكا حقل المحتم الذي سيلعب دورا تفكيكيا، تحليليا، ومبشرا بقوى وتيارات اجتماعية، بقوى هي في رأيه بداية فقط لتدق على الباب (للأدب معنى فقط إذا كانت آلة التعبير تسبق وتخمن المضامين). ولدرجة معينة هي ليست ضرورية بعد الآن للاستفادة من المزدوجات والمثلثات، وأي شخص مركزي سيبدأ بالتكاثر مباشرة - على سبيل المثال، كلا klamm، أو على نحو أوضح، كاف نفسه. وعليه تميل الحالات لتوزيع نفسها على طول خط الهروب، ولتتحرك على هذا الخط، مع الإشارة إلى محطات تلامس - محطة الشرطة، محطة المحامي، محطة القاضي، محطة الروح الديني. وفي نفس الوقت الذي يفقدون فيه شكل قرينهم أو مثلثهم، لا تظهر هذه الحالات أو أنها لا تظهر فقط على انها تمثيلات هرمية للقانون وانما تصبح وسائط، نقاط تماسك لتركيب العدالة، وكل نقطة تقابل حالة من حالات الرغبة، وكل النقاط وكل الحالات تتواصل مع بعضها البعض من خلال استمراريات متوالية. ومن الأمثلة على هذا الشأن مشهد أول تحقيق وفيه تفقد اللجنة شكلها المثلثي، وبوجود القاضي على رأسها ينقسم الجانبان إلى طرف يساري وطرف يميني، ةيصطف الجميع على طول خط مفرد ومتواصل لا يوحد الطرفين فقط ولكنه يطيلهما بواسطة تجميع "محقق أخرق و قضاء فاحص... ولكنه أيضا.. هرم قضائي مرتفع، وعمليا من أعلى المستويات، مع عدد كبير ولا بد منه من الخدم، والموظفين، ومساعدين آخرين، وربما جلادين". وبعد أول تحقيق، يحل تلامس المكاتب، على نحو مضطرد، محل هرمية المثلثات. وكل العاملين هم "منحرفون"،"فاسدون". وكل شيء هو رغبة، كل الخط رغبة، وكلاهما من بين أعداء السلطة والقمع، ومن بين المتهمين والمطلوبين للسلطة والقمع (على سبيل المثال الرجل المدان، بلوك": فقد توقف الرجل عن أن يكون موكلا وأصبح محاميا عن الكلب"). على الإنسان أن يكون مخطئا جدا لو قرأ الرغبة هنا بمعنى أنين الرغبة، أو قمع الرغبة، أو أن تكون مقموعا، لرغبة سادية ورغبة مازوشية. لا علاقة لتفكير كافكا بذلك. لا يوجد رغبة بالسلطة، ولكن السلطة نفسها هي الرغبة. فموضوع الرغبة ليس ناقصا،  والرغبة عارمة، وهي تجربة، فعل، وهذا صحيح حتى لدى معظم العمال التابعين. أن تكون تركيبا، الرغبة هي بالضبط ما يتساوى مع مكونات الآلة وأجزائها، وما يتحد بسلطة الآلة. والرغبة التي يمتلكها أي شخص بالسلطة هي فقط افتتانه بهذه المكونات -العتاد، رغبته أن يجعل بعض هذا العتاد يعمل، أن يكون هو نفسه جزءا من هذا العتاد، أو الأفضل، أن يكون المادة التي يقع عبء العتاد عليها، مادة هي عتاد بأسلوبه الخاص. إذا لم أكن المدون على الطابعة، أنا على الأقل الورق الذي تضرب عليه المفاتيح. واذا لم أكن أنا الميكانيكي الذي يتحكم بالآلة، أنا على الأقل المادة الحية التي تتعامل معها الآلة. وربما هذا مكان أكثر أهمية، وهو أقرب إلى العتاد الذي هو الميكانيكي (على سبيل المثال ضابط المستعمرة المأمور والتابع، أو الشعب المدان في "المحاكمة"). والسؤال لذلك أكثر تعقيدا من سؤال مبسط عن الرغبتين التجريديتين، رغبة لتكبت ورغبة أن تكون مكبوتا، وهو ما يمكن التعبير عنه تجريديا بسؤال سادي وآخر مازوشي.  ويتدفق الكبت، في من القامع والمقموع، من تركيب السلطة - الرغبة هذا أو ذاك، من حالة الآلة هذه أو تلك - ما دام أيضا هناك حاجة للميكانيكي، والمواد العاملة بانسجام غريب، تتحكم بالكبت علاقات بين المكونات وليس تراتبية هرمية. يعتمد الكبت على الآلة، وليس العكس. ولذلك ليس هناك سلطة كما لو أنها تعال لامتناه وله علاقة بالعبيد أو المدان. السلطة ليست هرمية كما يريد لنا القانون أن نعتقد. وهي مجزأة وليست خطية، وتتطور بالتماس، وليس بالارتفاع نحو الأعالي أو الابتعاد (وهذا يحدد أهمية التابع)(3). كل جزئية هي سلطة، سلطة وكذلك صورة للرغبة. وكل جزئية آلة أو قطعة من الآلة، ولكن لا يمكن تفكيك الآلة دون أن يشكل كل جزء متآلف فيها آلة بدوره، لتحتل مساحة أكبر من المكان. خذ على سبيل المثال البيروقراطية، لأنها تفتن كافكا، ولأن كافكا نفسه بيروقراطي المستقبل، ويعمل في التأمينات (وكانت فيليس تعتني بالآلات الكاتبة - وهي جزء يتقابل فيه مكونان). ولكن ليس هناك رغبة بالبيروقراطية، لتكبت أو لتكون مكبوتا. هناك جزء بيروقراطي، له سلطته الخاصة، وشخصياته، ووكلاؤه، وآلاته. أو بالأحرى هناك كل أنواع الجزئيات، المكاتب المتراصة، كما هو الحال في وضع بارناباس. كل مكونات العتاد، وهو في الحقيقة من نفس المرتبة، بالرغم من تعدد المظاهر، والتي تتضمن البيروقراطية بشكل رغبة، يعني، أن هذا العتاد تمرين للتركيب نفسه. وأقسام القامع والمقموع، الذي يقمع ويكون مقموعا، تتدفق من كل حالة من حالات الآلة، وليس العكس. وهذه عواقب ثانوية. وسر "المحاكمة" أن كاف نفسه هو أيضا محام، وأيضا قاض. البيروقراطية هي الرغبة، ليس الرغبة التجريدية، ولكن رغبة مقررة في هذه الجزئية أو تلك، بحالة الآلة هذه أو تلك، في هذه اللحظة أو تلك (على سبيل المثال الجزئية الملكية لعهد عائلة هابسبورغ). والبيروقراطية التي لها شكل رغبة تكون متحدة مع عمل ووظيفة عدد معين من المكونات، ونشاط عدد معين من السلطات التي تحدد، باعتبار أنها وظيفة مركب الحقل الاجتماعي الذي هي فيه، المهندسين وكذلك تصميماتهم. قالت ميلينا لكافكا:"بالنسبة له الحياة شيء مختلف تماما عما تمثله للآخرين. النقود، سوق البورصة، الاستثمارات، الطابعة الكاتبة، هي أشياء غامضة عليه.. وقد أبدى إعجابه بعدد كبير من العواطف السرية بسذاجة مؤثرة، لأن لها قيمة تجارية"(4). السذاجة؟. لا يعجب كافكا بآلات تقنية بسيطة، ولكنه يعلم جيدا أن الآلات التقنية هي مؤشر على المزيد من التراكيب المعقدة التي تجمع ما بين المهندسين والأجزاء، المواد والشخصيات المميكنة، الجلادين والضحايا، القوي والضعيف، وفي تركيب تراكمي مفرد - أو رغبة تتدفق من نفسها وتحدد بالضبط كل لحظة ودقيقة. وبهذا المعنى، هناك بالتأكيد أيروس بيروقراطي هو جزء من السلطة وموضع للرغبة. وأيروس رأسمالي. وأيروس فاشي. وكل الجزئيات تتواصل مع بعضها البعض من خلال احتكاكات مماسية مختلفة. أمريكا الرأسمالية، روسيا البيروقراطية، ألمانيا النازية - في الحقيقة كل "سلطات المستقبل الشيطانية"-  تدق على باب لحظة كافكا بضربات متتالية منفصلة ومتوالية متصلة. الرغبة: آلة تتفكك إلى أجزاء عتاد، والعتاد يكون بدوره الآلة.  توالي الجزئيات ووفرتها، وانزياح الحواجز. والرغبة أساسا متعددة الأصوات، وتعدد أصواتها تحولها إلى رغبة مفردة ومتمايزة تتدفق وتغمر كل شيء. والمرأة المبهمة في "المحاكمة" لا تتوقف عن صناعة القضاة، والمحامين، والمتهم يظهر في فصل متعة يتيم. وصياح فرانز، وعقوبة الحارس على سرقاته، والصيحة التي يسمعها فرانز في غرفة الحطب التي تتلامس مع صالة مكتبه في المصرف، يبدو "كأنها تأتي من أداة شهيدة"  ولكنها أيضا صيحة تدل على المتعة، ليس بالمعنى المازوشي، ولكن لأن آلة العذاب هي مكون للآلة البيروقراطية التي لا تتوقف عن انتاج متعتها (المتعة الذاتية). لا يوجد بعد ذلك رغبة ثورية تعارض السلطة، أو آليات السلطة. ونلاحظ الغياب المتعمد للناقد الاجتماعي في أعمال كافكا. في "أمريكا" لا تحرض أفظع ظروف العمل النقد عند كافكا، ولكنها ببساطة تجعله خائفا من الطرد من الفندق. ومع أنه يعرف الاشتراكيين وحركات الفوضيين الشيكيين، لا يسير كافكا في مسارهم. ويمر بموكب عمالي، ويظهر لنا لامبالاته نفسها كما يفعل كاف في "أمريكا":"فهم يحكمون الشوارع، ولذلك يعتقدون أنهم يحكمون العالم. وفي الحقيقة هم على خطأ. ووراءهم سكرتيرات، وموظفون، وسياسيون محترفون، وكل المزربانات المحدثين الذين يمهدون لهم الطريق للوصول إلى السلطة".  تبدو الثورة الروسية لكافكا وكأنها نتاج جزئية جديدة، وليس انقلابا ولا تجديدا. وتوسع الثورة الروسية تقدم، اندفاعة جزئية إلى الأمام، زيادة لا تظهر دون فيضان عنيف. "ويتبخر 'فيضان' الثورة ويترك وراءه فقط رواسب البيروقراطية الجديدة. وسلاسل البشرية المعذبة تكون مصنعة من شريط أحمر". بين بيروقراطية هابسبورغ والبيروقراطية السوفييتية الجديدة، لا يوجد مجال لإنكار التبدل، وأن هناك قطعة جديدة في الآلة، أو بالأحرى، قطعة صنعت آلة جديدة بالكامل. "'مؤسسة تأمينات حوادث العمال' معيار للحركة العمالية. وعليه يجب أن يمتلئ بروح التقدم المشعة. ولكن ماذا جرى؟. المؤسسة عش أسود للبيروقراطية، وفيها أعمل مثل يهودي عروض منفردة"(5).

***

........................

هوامش:

1- الحالتان غالبا تبرزان في أعمال كافكا: الاثنان اللذان يقومان بنفس الحركة معا - على سبيل المثال، ظهور آرثر وجيريمي في الفصل الأول من "القلعة"، والزوجان الساكنان اللذان أرسلا زوجيه للتجول في الأرجاء. انظر إلى موضوعة "المفقود"، "المحاكمة"، وفي "القلعة" سورتيني وسوروديني ("'سوريديني' يكشف التماثل بحجة إلقاء الأشياء على كتفي سورتيني،  وبالأخص  الواجبات التي تقع عليه بصفته النائب، وهكذا يمكن تركه دون إزعاج ليتابع عمله"). ويبدو أن أول حالة هي مجرد تحضير للثانية: حتى آرثر وجيربمي يفترقان، يعود آرثر إلى "القلعة" ببنما يتجول جيريمي في أرجاء البلدة ويفقد شبابه. وعن الصفة البيروقراطية للمزدوجين، انظر رائعة دستويفسكي: القرين.

2- كافكا، اليوميات، 27 آل، 1916، 2:164.

3- قدم ميشيل فوكو تحليلا للسلطة أعاد فيه النظر بكل المسائل الاقتصادية والسياسية. ومع أن أسلوبه مختلف تماما، تحليله ليس محروما من نبرة كافكاوية ملحوظة. ألح فوكو على جزئية السلطة، وتماساتها، وجاهزيتها في الحقل الاجتماعي (وهذا يعني أنها ليست باطنية روحية أو ذات على طول خط الأنا الأعلى). وبين أن السلطة لا تعمل إطلاقا من خلال بديل العنف أو الإيديولوجيا، الإقناع أو الخنق. انظر لفوكو كتابه: الرقابة والعقاب. ترجمة ألان شريدان (نيويورك: بانثيون، 1977): حقل الجاهزية ومضاعفات السلطة في "المجتمعات الرقابية".

4- مذكور في كتاب "فرانز كافكا" فاغينباخ. ص169.

5-غوستاف يانوش. محادثات. 174. وبالنسبة لتوثيق المؤتمر، ص 102-103. يخبرنا يانوش، كيف أنه في أحد الأيام، عند مدخل مكاتب تأمينات العمال، أحنى كافكا رأسه، وكان يبدو أنه يرتعش، و"رسم علامة الصليب بحدة بصليب روماني كبير". (ص102).

هوامش المترجم

* المراة الغسالة واحدة من الثيمات المتكررة في أدب يهود أوروبا الشرقية. وترمز للغيتو. ولكنها بنفس الوقت ترمز للغضب الإلهي على الشعب اليهودي. ويمكن بكل بساطة إعادة تفسير رمزية الغسالة بالسلطة الأبوية المفروضة على يهود العالم - أو رقيق أوروبا التاريخية باعتبار أنهم يتماهون مع أشكال نساء رقيقات وكادحات في بيت الأب المظلم والقاسي والبارد كما فعل اليهودي الأمريكي إسحاق بوشفيز سينغر الحائز على نوبل. وأنا أنظر لمعنى المزدوجة والمثلث في أدبيات كافكا من هذه الزاوية. فاليهود مقاتلون أشداء ولكنهم أيضا محبون للأرض الطيبة ورحماء نحوها. يستأنسونها دون إنهاك. وهذا أول تعارض بين البيروقراطية الانتاجية والنظام الربوي الرأسمالي.

** ذات النطق هو الحروف والألفاظ وذات التعبير هو المعاني والموضوعات وليس تمثيلاتها فقط.

*** برأيي لا توجد سلاسل مفتوحة في أدب كافكا، ولكنها حالات منضبطة ومغلقة على نفسها. أو ما نقول عنه تدوير المربع، وتدوير المثلث. إلا "أمريكا". فهي مفتوحة، وأحداثها تراكمية، ويحكمها روتين الصدفة، وليس الصدفة المشروطة التي لها معنى درامي وملحمي يشبه القدر عند الإغريق. والسبب وراء انفتاح رواية "أمريكا" أنها مكتوبة من الخيال. فكافكا لم يذهب إلى أمريكا في كل حياته. أضف لذلك أن العمل ليست له صبغة نهائية وصدر بعدة عناوين منها: المفقود، الرجل الذي اختفى، أمريكا...

- ترجمة الفصل السادس من كتاب (كافكا: نحو أدب ثانوي).

للكاتب وائل فهمي البيطار، من إصدارات الآن ناشرون وموزعون/2018

ركز الكاتب في روايته موعد مع الشيطان على الذات عن طريق البطل الذي اختاره ليبرز انشطارات هذه الذات وخصوصيتها، ثم أفسح المجال لها للبوح وإفراغ ما في داخلها في مجتمعات تعاني من انهيار القيم والهيمنة والتسلط وامتهان كرامة الإنسان ضمن مشاهد مشحونة بحقائق استشفها الكاتب من ثورات الربيع وتحديدا الثورة السورية وقد قرا وائل البيطار المستقبل في ضوء إعادة كتابة التاريخ وتوظيفه في تشييد عوالمه التخييلية.

جاءت رواية موعد مع الشيطان كأي رواية جديدة بوصفها فعلا مقاوما يعيد النظر في كل شيء ثم تأسيس وعي جديد. وقد عبر الكاتب من خلال هذا العمل عن ألم الإنسان ومعاناته بشكل خاص والتي تتسبب بها أزمة من الأزمات وسبر أغوار الذات الداخلية بصراعاتها الشخصية والنفسية والفكرية. فكيف وإن كانت هذه الذات ذاتا منكسرة ومنشطرة ،ذات تسعى إلى المعرفة وتحديدا معرفة ما هو مسكوت عنه.وفي رواية موعد مع الشيطان يأتي  جزء من هذه المعرفة والكشف عن الخفايا عن طريق إبليس الذي يظهر للبطل فجاة. فبينما الثاني يحاول إيجاد وضع مناسب لقفاه على مقعد في حديقة ما ليبدأ في قراءة كتاب إذ برجل يرتدي بدلة سوداء يجلس إلى جانبه وقد ظنه البطل من رجال المخابرات ،إلا أن الرجل أخبره بأنه إبليس ص١٩ وقد اختاره من بين الكثيرين ليبث له همومه التي تتبلور بالضجر وتعطله عن العمل بسبب تغلب الإنسان عليه وتفننه بصنع الشر لأخيه الإنسان. فما كان منه (إبليس) إلا أن اقترح أخذه( البطل) جوله ليثبت له صحة ما يقول ص٢٩ من خلال تعريفه بالحياة والناس على أرض الواقع على حقيقتها دون تزييف. فاصطحبه إلى القصور المتخمة بموائد الطعام والتي تكفي لإطعام مدينة من الجياع. ثم اصطحبه إلى أحد الملاهي حيث ممارسة المحرمات انتهاء بالأهوال تحت أقبية السجون العربية وتتابعت الرحلات لتزداد معرفة ذات البطل أكثر فأكثر فكيف وإن كانت ذات ممزقة بالأساس!

والذات من وجهة نظر مارتن هيدجر هي سمات الشخصية النفسية والاجتماعية وكذا العمليات الموحدة التي ينطلق منها الفرد في تعامله مع كل ما يحيط به من البيئة المحيطة وأي اختلاف أو بعد عن هذا الإطار الموحد السوي هو انشطار فإن ذات بطلنا هي ذات منشطرة ممزقة تشكو الوحدة والعزلة منذ مرحلة الطفولة بسبب نبذ الأب والأخوة لها ومن المعروف أن هذه المرحلة هي مرحلة تكوين شخصية الطفل ويتجلى هذا ص٤٨ على لسان البطل" رضعت الحنان والمشاعر من أم ضعيفة لا حول لها ولا قوة. كانت ملاذي الوحيد في فترة الطفولة من بطش وجبروت أب لا يعرف المشاعر والأحاسيس ،حتى إنه كان يعتبرني نقطة ضعفه وخزيه أمام الآخرين ،وقدم إخوتي علي،لأنتهي منبوذا منه ومنهم، ومع كثرة مشاغل والدتي صرت أقترب من الوحدة والعزلة أكثر فأكثر حتى صارت زاوية الغرفة المظلمة عالمي ومتنفسي" فهذه الوحدة التي عاني منها البطل في طفولته تسببت في دخوله حالة من الاغتراب ومع توغلنا في أحداث الرواية نجد هذا الاغتراب منبثا في أرجاءها فبدءا من نبذ أب إلى فقدان حببيبة أصبحت ملجأ له وانتهاءا بدخول المعتقل وامتهان كرامته عن طريق تعرضه لأقسى أنواع العذاب وفقده لرجولته ثم موته ميتة لا إنسانية بانتهاء جثته في كيس قمامة.

والبطل بعد فقد حبيبته سراب يفقد الشغف والاهتمام بما يدور حوله ،فحينما يدخل المعتقل نجد أن وعيه بالصراع القائم بين ذاته وبيئته الجديدة (المعتقل) بما فيهم من كان مسؤولا عن تعذيبه.

أولئك الذين وصفهم بأنهم لا يستلذون بسماع صراخ السجين. وعندما لم يحقق لهم بطلنا مرادهم وقهرهم بصمته برغم قسوة التعذيب جاء مسؤولهم لمعاقبته برجولته وآدميته . ويتجلى هذا ص٩٠ على لسان البطل" وضعوا الكهرباء على مناطقي الحساسة كلها ،وهنا عرفت معنى الألم الحقيقي ،معنى الجنون، معنى أن تخرج الروح ولا تموت، أن تقهر وتذل" في هذا المشهد اللا إنساني يتجسد ذلك الصراع الذي يدخل البطل في حالة من عدم الانتماء والسخط فيتولد شعور بالاغتراب والرفض لما تنتهكه الأنظمة في حق السجين السياسي مع أن بطلنا لا علاقة له بالسياسة.فانفصاله عن الواقع وعن ذاته دفع به إلى شتمهم وسبهم بل والهجوم على المسؤول وركله على مناطقه الحساسة. وهذا الشعور يتسبب له بحالة من التشظي والانشطار في ذاته فمرة يعرف من هو وأخرى لا يعرف ويتضح هذا ص٩٣ على لسانه" وبعد كل جلسة كانت الأمور تزداد سوءا بحيث صرت بالكاد أعرف من انا،أو ما الذي حصل معي ،ولم أنا هنا أصلا" وبعد ذلك  يتقوقع البطل داخل نفسه ويهيمن عليه شعوره بالوحدة ليبدأ باجترار ذكرياته ولوم نفسه لأنه لم يمنع حبيبته من الذهاب إلى دمشق فيشعر بالإحباط بسبب فشله في إقناعها.

ففي ص٦٤ على لسانه" مفاجأة أنني لمستها ولم نتوحد أو نتبخر ومفاجأة أنه في الغد لن أرى سراب،لن أتنفس،لن أحيا،لن ينبض قلبي،بل سأكون فتاتا من جديد" وهنا يتضح بأن طريقه للتوحد مع سراب أصبح مغلقا فيتأزم ولا ينجح في التكيف مع صعوبة الموقف وخصوصا عندما بحث عنها في أرجاء الجامعة ولم يجدها فيعرف من إحدى قريباتها خبر موتها الذي لم يكن موتا طبيعيا فهي لم تمت إلا بعد تعرضها للعذاب والاغتصابات المتكررة وعندها ركض كالمجنون ص٦٧ وراح يهتف "تسقط الأنظمة العربية" وهذا الفعل إن دل على شيء فإنما يدل على عدم نضجه الانفعالي والعقلي لأنه بهذا الفعل مهد الطريق لنفسه دخول المعتقل الذي لا يرحم بتهمة السياسة.وهنا. يكون البطل قد مر بصراعات نفسية وشعور بالذنب تجاه ما حصل مع سراب بعدم تحقق رغبته بالتوحد معها مما أدى إلى انشطار في ذاته وتشظ بسبب هذا الإحباط. وتزداد قسوة هذا الشعور كلما زاد شعوره بأن كل ما حوله يعيقه عن بلوغ هدفه.

ويبلغ الانشطار وتشظي الذات ذروته مع صنع ثنائيات ضدية وخاصة بعد تعرفه إلى سراب وما نتج عن سد فراغ روحي كان يعاني منه. والتذبذب بين أمرين متقابلين ينتج عنه تحير الذات بين هذين الأمرين بالتالي تتشظى الذات وتنشطر فنجد ذاتا في اتجاه وأخرى عكسها ،ليكون مؤدى الأمر في النهاية إلى تمزق السلام النفسي للشخصية ويتجلى هذا ص٥٤ عندما احتار البطل في سراب وهل تكن له الإعجاب أم لا " وبقي ترددي سيد الموقف،حتى أنني تناسيت فكرة الاقتراب منها ،فجمالها حارق ولا يمكن التعامل معه ولا الانصهار والذوبان فيه،وأنا أفكر بمستقبل أصنعه لنفسي ،عدا عن صعوبة التعامل مع المرأة الذكية،مع أنني أفضل المرأة الذكية على الساذجة" ففكرة الاقتراب والابتعاد وصحة إعجابها به من عدمه ظلت تؤرق ذات البطل.

كما برزت ثنائية مهمة قامت برصد الجمال الدمشقي المشهور بزراعة الياسمين من خلال إطلاق اسم الياسمينة الدمشقية على حبيبته سراب وما حل بهذه الياسمينة على يد أولئك الذين لطخوا طهارتها واستباحوا حرمة بياضها ثم أذبلوها. فيصدم البطل عندما يعلم ما حصل لها ويبلغ حزن ذاته واغترابها ويبلغ مداه في هذه الصورة ص٦٦" وقعت كلماتها علي كحمم بركانية ،جعلتني أركض كالمجنون في شوارع الجامعة ماسكا رأسي من النار التي اشتعلت فيه ورحت أصرخ: سراب..سراب..سراب"

وتبرز الثنائية الضدية أيضا عندما اشتاق للقهوة والسيجارة وانتفاء شعوره باللذة عندما حصل عليهما لعدم تواجد سراب معه فعلى لسانه ص٧٩" وحضرت القهوة ولكن لم أشعر بلذة مرارتها ولا بنشوة السيجارة لأن سراب ليست معنا" فنفسه التي طلبت القهوة والسيجارة لم تستسغهما مما زاد اغترابه وتشظي ذاته وللخروج من هذه الحالة صمت وانفصل عن واقعه وسرح في خياله ربما ليستحضر سراب من ثم تحصل له اللذة التي يسعى إليها.

كما أن من مظاهر الاغتراب هيمنة حالة من الشعور بغياب المنطقية عن كل ما حوله، وأن ما يجري أمامه عبث وفوضى ومن الطبيعي بأن يتسبب ذلك بتشظ وانشطار في ذات البطل لين ما يجب أن يكون من معايير أخلاقية وبين ما يسود من عبثية وامتهان لكرامة الإنسان ليؤول ببطلنا إلى حالة من التمرد والرفض من ذاته اللاواعية فترفض كل ما يحيط بها لتكون الخاتمة هي أن تتملكها حالة من الكره لهذه المظاهر التي تسبب انشطار الذات وتشظيها.

بقي أن نقول. بأن وائل فهمي البيطار من مواليد ١٩٦٤/ الأردن حصل على بكالوريوس في تخصص اللغة الإنجليزية من جامعة اليرموك/ إربد وماجستير نفس التخصص من. الجامعة الأردنية ،حاصل على شهادات في اللغة الإنجليزية من جامعة شيلر الدولية في لندن يعمل منذ عام ١٩٩٨ كمحاضر متفرغ غي قسم اللغة الإنجليزية واللغويات في جامعة

العلوم والتكنولوجيا الأردنية.صدر له عدد من المؤلفات:

شهداء ولكن/ كتاب فلسفي

صرخات صامتة/ مجموعة قصصية

موعد مع الشيطان/ رواية

***

قراءة بديعة النعيمي

في الأدب الدنماركي، يُظهر الانتقال من نهاية القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين اتجاهاً واضحاً هو التحول من الجمالية المنغلقة والمؤكدة دينياً إلى الواقعية اليومية الجديدة.

اجتمع الشعراء والكتاب الرمزيون في تسعينيات القرن التاسع عشر، في وقت قريب من تغيير "تارنيت" Taarnet 1893-1894 مع الشاعر "يوهانس يورجنسن" Johannes Jørgensen 1866-1956، ودافعوا عن شعر يرى الحياة في مجملها الصوفي وليس فقط في الأدب مجرد المظهر. لقد كان الواقع دائماً رمزاً لشيء آخر وأكثر مما يبدو. هذه النغمة الميتافيزيقية حيث تُرى الحياة في طبقة مزدوجة، هي ما تم التخلص منه في العقود الأولى من القرن الجديد، وكان حامل لواء الشعرية اليومية الجديدة هو يوهانس آخر، وهو "يوهانس ف. جنسن"  1873-1950 Johannes V. Jensen الذي نشر قصائده في عام 1906، والتي لا يمكن المبالغة في تقدير أهميتها بالنسبة للأدب الدنماركي بشكل عام والحداثة بشكل خاص.

باستخدام شكل النثر المستوحى من الشاعر الأمريكي "والت ويتمان" Walt Whitman 1819-1892، بشرت القصائد عام 1906 بثورة في الشكل، حيث كان الإلقاء وبناء الجملة أقرب إلى الكلام اليومي من الأشكال الإيقاعية المقفّاة بإحكام التي اعتاد المرء عليها حتى ذلك الوقت. ولكن لم يقتصر الأمر على الجانب الشكلي فقط، فقد تخلص يوهانس ف. جنسن من الرمزية، وحقق أيضاً نغمة جديدة إلى حد كبير، وهو ما تم التأكيد عليه من خلال القصيدة الختامية في المجموعة بعنوان "كل يوم". هنا، من بين أمور أخرى، يمكنك قراءة السطور التالية:

 "دعونا ندخل في الحياة اليومية دون خوف / نحن الذين ليس لدينا ما نكسبه/ دعونا نجعلها لعبة لاذعة / اجتماع صلاة صعب / للملونين من سكان المدينة المشهورين.

مرحلة الاختراق الشعبي

في نفس الوقت الذي حدث فيه تغيير النظام السياسي في الدنمرك عام 1901، حدث انقطاع في الرسم وتأسست مجموعة  Fynboerne للفنانين التشكيليين الذين تأثروا بالرسام "كريستيان زهرتمان" Kristian Zahrtmann.

وفي الموسيقى أيضاً حيث كان "كارل أوغست نيلسن" Carl August Nielsen مؤلفًا موسيقيًا وقائدًا موسيقيًا وعازف كمان دنماركي، معترف به على نطاق واسع باعتباره أبرز ملحن في الدنمرك.

 وفي الأدب كان ما يسمى بالاختراق الشعبي في الأدب في الواقع اختراقًا للواقعية المعاصرة التي التبشير بها في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر. هذا الاختراق تم بتفاوت على نطاق واسع اجتماعيا وعقائديا.

أصبح "يوهانس فيلهلم جنسن" Johannes Vilhelm Jensen المخترع اللغوي العظيم في تلك الفترة ومبادرًا للابتكارات في الأدب في القرن العشرين بشكل عام. وهو أحد أعظم الكتاب الدنماركيين في النصف الأول من القرن العشرين. حصل على جائزة نوبل في الأدب عام .1944

 أعلن كتّاب متنوّعون مثل "توم كريستنسن  Tom Kristensen، والكاتب "ألفريد مارتن جينس هانسن" Alfred Martin Jens Hansen الذي اشتهر بكتاباته كعضو في حركة المقاومة الدنماركية أثناء الاحتلال الألماني للدنمارك في الحرب العالمية الثانية. وكذلك "كلاوس ريفبيرج" Klaus Rifbjerg الذي ألّف أكثر من 170 رواية وكتابًا. وجميعهم شكلوا جبهة أيديولوجية متحدة.

وبخلاف ذلك، استمر الاختراق الحديث، أي في أجزاء من الأدب النسائي الجديد، حيث أثارت "أغنيس هينينغسن" Agnes Henningsen غضبًا من تصويرها وعيشها وفقًا لمعايير أكثر حرية لعصر جديد. وكانت هينينغسن كاتبة دنماركية وناشطة في مجال الحرية الجنسية. تركزت كتاباتها على الحب والجنس، وكذلك على حياتها الخاصة.

كما أصبحت "ثيت جنسن" Thit Jensen شقيقة يوهانس في جنسن  مؤلفة الروايات التاريخية والمعاصرة، شخصية بارزة في النقاش حول النساء والجندر، والزواج، والشبقية، ومنع الحمل، والإجهاض. أدت حقيقة أنها تحدثت عن مثل هذه الموضوعات المحظورة إلى معارضة كبيرة لدى معاصريها، ولكنها ساعدت أيضًا في تغيير موقف المجتمع.

فترة الحروب العالمية

لقد تركت المذاهب العالمية ـ وبعضها له صلات بالرسم في ذلك الوقت ـ بصماتها في الأدب الدنماركي بدءًا من الحرب العالمية الأولى فصاعدًا عبر المذهب التعبيري المستوحاة جزئياً من "يوهانس فيلهلم جنسن" Johannes Vilhelm Jensen. وفي الشعر والروايات التي كتبها "إميل بونيليكي"Emil Bønnelycke، و"توم كريستنسن"Tom Kristensen.

أعقب التعبيرية لمسات متفرقة من السريالية عند الشاعر "ينس أغست شاد" Jens August Schade، والشاعر والرساّام "غوستاف مونش بيترسن" Gustaf Munch-Petersen.

على الرغم من أن هذه المذاهب كانت رائدة في الحداثة اللاحقة، إلا أنها أصبحت مع ذلك ظاهرة هامشية في أدب ذلك الوقت، والتي تميز بشكل أساسي بتيار متعدد الأوجه من الواقعية الوصفية على نطاق واسع: من عالم الطبيعة البرجوازي "جاكوب بالودان"Jacob Paludan إلى الأدب الاجتماعي أو الاجتماعي النقدي. الروايات، وروايات الصراع الطبقي، والتصويرات الاجتماعية الواسعة للحياة، إلى التصوير النفسي الجديد المستوحى من فرويد من قبل.

تميزت الثلاثينيات على وجه الخصوص بالانقسام بين الخط الراديكالي ثقافيًا، وأحيانًا الاشتراكي، ومجموعة غير متجانسة تمامًا من الكتاب الذين استمروا في أشكال التعبير التي تمت تجربتها جيدًا مع جذب جمهور واسع ومحافظ.

بالنسبة للجناح الراديكالي ثقافيًا، كان الشخصية الرئيسية هو المهندس المعماري ومصمم الإضاءة والكاتب المسرحي والمحاور الثقافي "بول هينينغسن"Poul Henningsen.

وعلى الجبهة المحافظة  أثار الكاهن والكاتب المسرحي "كاج مونك"Kaj Munk  ضجة. احتلت البارونة الكاتبة كارين "بليكسين" Karen Blixenموقعًا خاصًا، حيث بدأت بنشر كتبها منذ منتصف الثلاثينيات في الولايات المتحدة أولاً ثم في الدنمارك.

تم تقويض النزعة المحافظة الأرستقراطية من قبل الأنوثة المتمردة في قصص بليكسن وكانت في الواقع تعبيرًا عن نقد ثقافي مستوحى من نيتشه والذي حدث منذ تسعينيات القرن التاسع عشر. تم ترشيحها عدة مرات لنيل جائزة نوبل للآداب. اشتهرت بروايتها " خارج افريقيا"Out of Africa، وهي عبارة عن سيرة ذاتية لحياتها أثناء إقامتها في كينيا. ورواية "عيد بابيت"  Babette's Feas، وكلا الروايتين تم تحويلهما إلى فيلمين نالا جائزة الأوسكار. 

الفترة الهرطقية

في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، اتخذ الشاعر والناقد الدنمركي "بول لا كور" Paul la Cour خطوة نحو إحياء الرمزية، والتي كان بيانها عبارة عن أجزاء من مذكراته عام 1948. جمعت مجلة "هرطقة" Heretica  مجموعة من الكتاب بقيادة "مارتن أ. هانسن" Martin A. Hansen، و"أولي ويفيل" Ole Wivel، و"ثوركيلد بيورنفيج" Thorkild Bjørnvig، الذين انفصلوا عن المذهب الواقعي ونظرته للإنسانية.

بدلاً من ذلك، استخدموا قضايا الدين والأخلاق والفن والشكل والطبيعة العالمية كأساس لكتاباتهم. كانت هذه القضايا مشتركة لدى العديد من المؤلفين والكتاب في الفترة أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة. كانت تجربة تعبر عن أزمة ثقافية عميقة، والتي بناءً على التعايش مع الحداثة الفنية المرئية، وجدت تعبيراً ملموساً بلمسة دينية في شعر أولي سارفيج.

الحداثة والتقليدية بعد الحرب

في سياق الهرطقة ظهرت الحداثة من خلال: قصص قصيرة تجريبية لـ "مارتن أ. هانسن" Martin A. Hansen وتجارب "برانر" Branner الفردية في القصص القصيرة والمسرحيات والروايات، وشعر "سارفيج" Sarvig، لكنها كانت حداثة "معنية" أخلاقياً. في الخمسينيات من القرن الماضي اندلعت الحداثة على أنها أمر مسلم به ووجدت أشكالًا مناسبة للتعبير عنها.

أسس "فيلي سورنسن" Sørensen grundlagde فن سردي جديد، استندت فلسفته وشعره على وعي متزايد للغة. ويمكن أن يصور فقدان الهوية من خلال الاختلاف الذاتي والانقسام. بالنسبة لـ "كلاوس ريفبيرج" Klaus Rifbjerg تحول المسار من موقف "الشاب الغاضب" الطبيعي إلى اتجاه تجريبي متزايد، وبلغ ذروته في مجموعة الشعر الحداثية القوية "مواجهة" Konfrontation، ومجموعة "تمويه" Camouflage. ومنذ سبعينيات القرن الماضي فصاعدًا، انتقلت كتاباته المكثفة إلى اتجاهات أخرى أكثر توجهاً للجمهور، ولكن في شعره يتحد كسر الحدود المشبعة بالواقع مع الطاقة اللغوية التي جعلته مبتكرًا على قدم المساواة مع "يوهانس ف. جنسن" Johannes V. Jensen، و"آدم أولينشلاغر" Adam Oehlenschläger.

كانت للكتابات الدرامية للروائي الدنمركي "ليف ثورمود باندورو" Leif Thormod Panduro التي تحولت إلى أعمال تلفزيزنية تأثير شعبي كبير ضد مجتمع الطبقة الوسطى المنظم ومعاييره.

خلال الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، يمكن ملاحظة تطور نزعة من العبث في شعر الشاب "بيني أندرسن" Benny Andersens وقصصه القصيرة، وفي نثر "بيتر سيبيرج" Peter Seeberg الذي نوقشت أعماله كثيرًا في ذلك الوقت، وفي شعر "إيفان مالينوفسكي" Ivan Malinowski، وفي كتابات الشاعر والمسرحي "جيس أورنسبو" Jess Ørnsbos ضد الحداثة البنائية أو الشكلية، وضد الحداثة الأدبية.

كانت هناك اتجاهات أخرى تؤكد نفسها في نفس الوقت مع الحداثة/ مثل الوجودية من خلال  فيلم وثائقي وجودي – تاريخي لـ "ثوركيلد هانسن" Thorkild Hansen بثلاثية مقتبسة من رواياته الثلاث عن تجارة الرقيق الدنماركية والتي تتكون من "ساحل العبيد" و"سفن العبيد" و"جزر العبيد". والواقعية النقدية والوجودية الواسعة من خلال الأديب الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1917 "هنريك بونتوبيدان" Henrik Pontoppidan.

وكذلك السيرة الذاتية، ومعها الاجتماعية والنفسية، ووجهات النظر التي تصور حياة المرأة من قبل الشاعرة والروائية "توف ديتليفسن" Tove Ditlevsen. الواقعية المعاصرة لـ "أندرس بودلسن" Anders Bodelsens، و"كريستيان كامبمان" Christian Kampmann، و"هنريك ستانجروب" Henrik Stangerup.

الدعاية والخصخصة

أدت انتفاضة الطلاب في عام 1968 إلى ازدهار عنيف للجدل الأيديولوجي، وبالتالي تراجع الاهتمام بالتجارب الأدبية. ظهر خلال السبعينيات أدب عمالي جديد وخاصة الأدب النسائي، على سبيل المثال كتابات "جيت دروسن" Jette Drewsen، و "فيتا أندرسن" Vita Andersen، و "ديا ترير مورش" Dea Trier Mørch اللواتي أثرن نقاشاً واسعاً حول أعمالهم.

ساعد النقد الأيديولوجي القاسي لوظيفة الأدب وأشكال التعبير، والذي ازدهر في بيئة النقد الجامعي، في دفع اهتمام المؤلفين في اتجاه الحياة اليومية غير الأيديولوجية، والخاصة، والاعترافات، والعلاقات الحميمية. أصبحت النصوص الشعرية الدنيوية والعامية التي كتبت بأسلوب يسمى "النثر المتصدع" Knækprosa شكلًا غنائيًا شائعًا ومقروءًا على نطاق واسع. وهو نثر بمثابة قصيدة ملفوفة في سطور من الشعر. غالبًا ما يكون المحتوى ملحميًا وقصصيًا، في حين أن اللغة تكون سهلة تذكرنا بلغة النثر والقصص القصيرة أكثر من الشعر التقليدي.

الأساطير وما بعد الحداثة والخرافة الجديدة

في الثمانينيات والتسعينيات أصبح الناس مشبعين بالاعترافات حول الحياة اليومية الحميمة وبأشكال لا شكل لها من الأدب. وفي نفس الوقت الذي كانت فيه الماركسية الطلابية متعبة أثناء الانتعاش السياسي البرجوازي، سعى الأدب للعودة إلى جذوره كأدب.

ظهر جيل جديد من كتّاب الحداثة على سبيل المثال الشاعر "مايكل سترونج"  Michael Strunge، والأديب والناقد "بو جرين جنسن" Bo Green Jensen، والشاعرة والروائية "بيا تافدروب" Pia Tafdrup، والشاعر"سورين أولريك تومسن" Søren Ulrik Thomsen. وعادت الأشكال الأدبية الرومانسية والرمزية مرة أخرى.

انتقلت الواقعية التي كان يمثلها على سبيل المثال الكاتب والمخرج "هنريك ستانجروب" Henrik Stangerup إلى المشهد الثقافي عبر المواجهات الأيديولوجية والشخصية.

استأنف عدد قليل من الشعراء شكل الترنيمة  الذي كان أحد الركائز الأساسية للأدب الدنماركي المستوحى من الحداثيين الأقدم مثل "أولي سارفيج" Ole Sarvig، و"يورجن جوستافا براندت" Jørgen Gustava Brandt.

شكّل التدين الجديد إلى جانب ـ الانشغال بالكون والطبيعة ـ الخلفية لهذا الاهتمام بالترنيمة. واكتسب الوعي البيئي النقدي أبعادًا عالمية وأسطورية في أعمال الشاعر "ثوركيلد بيورنفيج" Thorkild Bjørnvig مؤسس محلة "هرطقة" كرد فعل ضد الموجة الحداثية والواقعية في الأدب الدنماركي، التي سادت في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية. والشاعر والمخرج "فاغن لونبادي" Vagn Lundby. وأعاد الأديب والناقد والفيلسوف "فيلي سورنسن"Villy Sørensen تفسير الأساطير الكلاسيكية والاسكندنافية وأعاد سردها.

ظهر فن سرد القصص النابض بالحياة خلال هذه العقود. كتبت "كيرستن ثورب"Kirsten Thorup عن عوالم أنثوية من الخبرة في النثر الذي يوازن بين الواقعية المتماسكة اجتماعيًا والواقعية الواسعة النطاق، والجانب النفسي الداخلي.

وازدهرت كتب الأدب النثر إلى حد كبير بأشكال مختلطة، بين الرواية والمذكرات، على سبيل المثال أعمال الشاعرة والروائية "سوزان بروجر"Suzanne Brøgger، وبين الواقعية الأدبية مثل كتابات الروائي والمسرحي الوجودي "بيتر سيبيرج"Peter Seeberg  والشاعر والروائي "جينز سميروب سورينسن"Jens Smærup Sørensen.

صوّرت الأديبة "دوريت ويلومسن"Dorrit Willumsen الأشخاص المعاصرين في صور مخيفة كنماذج ميكانيكية وضحايا لنظام اجتماعي مشوه. تم استعراض الحياة كمختارات من مصائر الإنسان في العزلة المشتركة بأعمال الكاتب والمحلل النفسي "بير هولتبرج"Peer Hultberg، كما تم انتشار أدب الشكل المختلط واسع الانتشار عالميًا بين الواقعية والسرد الخيالي، فيما سمي حينذاك "الواقعية السحرية" بسمة دنماركية خاصة وبطرق مختلفة بأعمال الروائي والشاعر "إب مايكل" Ib Michael، والكاتب الروائي "بيتر هوج" Peter Høeg.

حقيقة أن الكاتبة البارونة الدنمركية "كارين بليكسن"  Karen Blixen كانت واحدة من أكثر المؤلفين قراءة ومناقشة لأعمالها في الماضي القريب خلال تلك الفترة، وقد تركت بصماتها الواضحة على الأدب الدنمركي.

على الرغم من أوجه التشابه في الاختيارات، كان هناك قفزة كبيرة من التدرج الإلهي لفهم العالم في سرد بليكسن إلى ما بعد الحداثة اللامركزية والوعي الجسدي الذي يكسر الحدود بصورة لافتة في الأدب الدنماركي في النصف الثاني من الثمانينيات والتسعينيات.

تميز الأدب الدنماركي في أواخر القرن العشرين بالتنوع في كل من أشكال التعبير والأنواع واختيار المواد. في عام 1987 تم افتتاح مدرسة الكتّابForfatterskolen  برئاسة الشاعر والناقد "بول بوروم"  Poul Borum. وفي عام 1996 تمت الموافقة على برنامج الدراسة من قبل وزارة الثقافة الدنمركية كبرنامج تعليمي عالي لمدة عامين.

أسس المدرسة عدد من الطلاب أنفسهم. تم تقديم روايات في فترة التسعينيات غالبًا ما تكون مبسطة، وانفصلت عن التفسيرات السببية التقليدية والاجتماعية مثل كتابات الأديبة "سولفج بال" Solvej Balle. ومع ذلك رأى الروائي "ينس كريستيان جروندال" Jens Christian  Grøndahl إمكانيات جديدة في الاستكشاف النفسي للتقاليد الواقعية.

الواقعية الجديدة للأدب والشعر والنقد الاجتماعي

ذهب الجيل الجديد من الكتاب، على حد تعبير جنسن، "بلا خوف إلى الحياة اليومية" وانتشروا في أرجاء الدنمارك بأكملها ولم يقتصروا على العاصمة كوبنهاغن. غنى جنسن لحبيبته "هيمرلاند" Himmerland  وسجل "مارتن أندرسن نيكسو"  Martin Andersen Nexø خريطة أرض بورنهولم، كما تناول "يوهان سكجولدبورج" Johan Skjoldborg  و"جيبي أكيار" Jeppe Aakjær   الإرث من أوصاف "ستين ستينسن بليشر" Steen Steensen Blichers لجزيرة يولاند في نسخة أقل رومانسية.

وفيما يتعلق بوصف الواقع، كان هناك أيضاً التزام اجتماعي ظهر بوضوح في الأعمال. كان المؤلفون واحدًا مع مادتهم. وذلك لأنهم لم يصفوا بيئاتهم من الخارج، بل من الداخل.

الأديب "يوهان سكولدبورج" Johan Skjoldborg الذي أصبح معروفاً باسم المدافع عن المزارعين، كان يعمل كعامل يومي وكان والده هو نفسه مزارعاً، وكان لدى الشاعر " جيبي أكيار" Jeppe Aakjær أيضًا معرفة مباشرة بظروف المزارعين ولم يكن أحد يعرف محنة العمال بشكل وثيق أكثر من "مارتن أندرسن نيكسو" Martin Andersen Nexø، الذي نشأ هو نفسه في بيئة فقيرة للغاية.

بالنسبة لهؤلاء المؤلفين، كان لتربيتهم  والظروف التي هم، الأثر المهم في إصدار سلسلة من الأعمال الساخطة اجتماعيا، حيث شكل وصف ظروف الطبقة العاملة -سواء في الريف أو في المدينة- نقدا اجتماعياً لاذعاً.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

صدرت للمبدع محمد محضار مجموعته القصصية "لحظة شرود" عن مطبعة دار الوطن في طبعتها الأولى، سنة 2013، وتضم في ثناياها سبعة عشرا نصا، يمكن تقسيمها إلى قسمين بحسب تاريخ كتابتها: القسم الأول ويشتمل على نصوص ما قبل سنة 2000 وعددها ثمانية، والقسم الثاني يتضمن نصوص ما بعدها وعددها تسعة، بمعنى، أن العدد يكاد يكون متساويا، مع العلم، أن القاص قد اختار أن يكون نص الافتتاح ونص الختم من القسم الأول؛ وكأنه يخبرنا أن النفس واحد، وأن الانشغال بقي واحدا؛ وأن الواقع المزري مازاد إلا استفحالا؛ غهوالمولد للاكتآب وأن التقنية نفسها، أي الاعتماد على البداية والوسط والنهاية، مع تكسير لتتابع الأحداث بالاسترجاع؛ وهي تقنية تضعنا أمام نصين اثنين، يقرأ أحدهما الآخر، وكأنهما متقابلان، ومتضادان. كما أن القاص لا يسعى إلى الجريب من أجل النجريب، لأن في ذلك خراب للكتابة، وتنفير للمتلقي، بل يؤمن بالتجديد بنسب لا تجعل خيط التواصل مع القارئ ينقطع.

وتجدر الإشارة في هذا الخصوص أن نصوصا جاءت مذيلة بتاريخ كتابتها كاملا، وأخرى اكتفت بالسنة لا غير، وأخرى عرفت بمكان الكتابة، وهما نصان: مراكش، وخريبكة، ونص واحد أثبت الجريدة التي قامت بنشره على صفحاتها. وباعتماد الشهور، سنجد أن فصل الخريف قد حاز ستة نصوص، أما فصل الشتاء فحاز نصا واحدا، وفصل الربيع حاز ثلاثة نصوص، وكلها ارتبطت بشهر أبريل، أما فصل الصيف، فقد حاز أربعة نصوص استحوذ شهر يونيو على معظمها، فيما ظلت ثلاثة نصوص خلوا من الشهر. وهذا يقودنا إلى الاستنتاج التالي: إن المبدع لا ينثال قلمه إلا في فصلين؛ وهما، فصل الخريف وفصل الصيف، أما في فصل الشتاء، فيعتمد استارتيجية الدب. ويستعيد القلم حيويته في فصل الربيع، وبخاصة في شهر أبريل، دون بقية شهوره.

عنوان المجموعة يعتمد بناء الجملة الاسمية، وينبني على حذف المبتدأ مكتفيا بالخبر ذي الكلمتين؛ وهما: لحظة، وشرود؛ فاللحظة فترة قصيرة من الزمن بمقدار لحظ العين؛ أما الشرود فهو التيهان، وعدم الانتباه إلى ما يجول حولنا. والجمع بين الكلمتين يفيد أن هناك فترة زمنية تعاش خارج اللحظة الراهنة؛ إنها خارج الزمن الحاضر؛ فقد تسير باتجاه الماضي، وهو الغالب؛ وقد تتجه صوب المستقبل، كنوع من الاستشراف. المهم أنها لا تمت للحاضر بصلة من حيث التسلسل؛ فهي خرق له، واستدعاء لزمن مختلف. والبين أن فعل الحزن هو المحرك لمثل هذا السلوك النفسي، إذ إن السفر إلى زمن مختلف يرتبط بالنفس لا بالجسد.

والمجموعة حافلة بقاموس الوجع، وهو قاموس موزع بالتساوي بين النصوص، يحضر بكثافة في النص الأول، حيث يمكن تلمس ذلك من خلال المعجم الموظف؛ وهو معجم يرخي بظلاله الحزينة على العمل ككل، ولعل العناوين خير دليل على هذا الأمر. فالحزن يعتري الأب رغم انه يعيش لحظة فرح، لكنه يرى القادم بنوع من السوداوية، كونه أقام عرس ابنته بواسطة الاقتراض، ويستوجب عليه أن يعيده أقساطا؛ وهو أمر قد تعود عليه، فحياته مجرد عمل متواصل لا مجال فيه للراحة والاستمتاع.

والأمر نفسه بالنسبة للمومس التي وجدت نفسها تبيع جسدها بعد أن طلقها زوجها، لكنها، رغم كم المرارة التي عاشتها؛ فقد شعرت بقليل من المتعة استلتها من وقتها المزدحم بالخيبات؛ وهي تمشي قرب البحر تتنفس هواء نقيا، نص "خلوة" ص 23.

ويبلغ الوجع أقصاه، في نص "الغاية تبرر الوسيلة"ص 27، حيث تختار شخصية النص الانتحار حرقا، اقتداء بالمكفوفين الذين يهددون بإحراق أنفسهم إن لم يحصلوا على وظيفة في القطاع العمومي. والاقتداء بالمكفوفين يعني، أيضا، الاختيار الأسوأ؛ إذ كان على الشخصية أن تبحث عن وسائل أخرى لإثبات ذاتها بشكل إيجابي، يسمح للكل بالحديث عنها بفخر، لكن، أن تنقذف باتجاه النار لن يحقق لها البطولة.

ما الذي يدفع الإنسان إلى وضع حد لحياته إن لم يكن الظلم والإقصاء واللاجدوى، ونجد في نص "لعنة الليل" ص13

إن السفر إلى الماضي يتحكم في العديد من النصوص، وما استعادته إلا بغاية قراءة اللحظة الراهنة، ونقد ما تحقق، على اعتبار أن ما تحقق لا يتساوق ورهانات تلك الفترة؛ فما تمخض لم يكن في مستوى التطلعات، بل يمكن القول: إنه أصاب النفوس بالخيبة والمرارة. ففي نص "لحظة شرود" ص 17، نجد السارد يستعيد الماضي حيث الصراع بين المستعمر والخونة من جهة، والمقاومين من جهة ثانية، ويتمخض هذا الصراع العنيف غالي الثمن، بالاستقلال المخيب للآمال. لقد كان تعرضه لحادثة سير فرصة استعادة فترة من فترات زمن المغرب إبان الاستعمار، بقصد مقارنته بالزمن الحاضر، إذ لا معنى للاستحضار إذا لم يكن بغاية مقارنته بالآن. والخلاصة أن التضحيات أثمرت بؤسا. وعليه، يمكن القول: إن الصدمة كانت ذات بعدين؛ حقيقي ورمزي؛ فقد صدمته السيارة حقيقة، كما صدمه الواقع رمزيا.

ترى، ما أسباب الحزن والقتامة الحاضرين بكثافة في نصوص المجموعة؟

قبل ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحزن الذي لون الشعر والقصة والرواية، وكل نصوص مجموعة "لحظة شرود" ليس بغاية إنبات اليأس في النفوس، بل من أجل رفع منسوب وعي القارئ بواقعه، بغاية إصلاحه؛ إنها نصوص تحتفي بالحياة، ولا تقبع في قعر اليأس أبدا، بل تفتح نوافذ لتهب رياح السعادة، المحققة للتغيير الإيجابي.

من أسباب شقاء الإنسان العربي بعامة، والمغربي بخاصة، نجد: القمع السياسي البوليسي، نص "الخطو الشارد" ص 62، والقمع الاجتماعي نص "مالكة" ص 67، والوصولية والانتهازية، والخذلان، نص "الفرصة الأخيرة" ص 64.

ولم تقف النصوص عند هذه التيمات، بل وسعت من دائرة اهتمامها، للحديث عن بعض المهرجانات الصاخبة والمعبرة عن تدني الذوق، من مثل نص "الحفرة" ص57.

وقد اعتمد القاص على تقنيات عدة في تشكيل معمار نصوصه، من مثل الاسترجاع الذي لعب دورا في بناء الأحداث، وخلق المفارقات الدالة؛ إضافة تنويع في الضمائر، والسراد، زائد السخرية المرة من واقع متعفن، رفع درجات الفن الهابط على حساب الجاد والممتع؛ فضلا عن الحوار بشتى أنواعه، حيث قدم معرفة للقارئ عن وضعيات الشخصيات، ومواقفها من الأحداث، والشخصيات الأخرى، وعرى نواياها وطموحاتها، إضافة إلى المقابلة البانية، حيث التعارض بين الجميل والقبيح.

مجموعة "لحظة شرود" عمل يحتفل بالحياة بالرغم من اكتساح الحزن لكل مفاصيل النصوص، لكنه لم يدفع بالقارئ إلى اليأس، بقدر ما كان الهدف التعبير عن الرغبة في إصلاح أسباب الخيبات، وبناء عالم تسوده العدالة الاجتماعية، والمساواة، وتتحقق فيه الكرامة بكل أبعادها، مع احتفاء بالتجديد المدروس وإن بدت النصوص تقليدية، لكنها وظفت الكثير من التقنيات لخدمة أغراضها، كالاسترجاع، والمقابلة، وتنويع الضمائر، مع حضور السخرية المرة، كل ذلك بلغة بسيطة وسهلة، لكنها تمتلك عمقا، وتعبر بصدق عن معاناة الإنسان في ظل القهر والفقر والاقصاء.

***

بقلم عبد الرحيم التادلاوي

مقدمة: يعد الناقد الجزائري وحيد بن بوعزيز من الأسماء النقدية المعاصرة التي تملك رؤية معرفية متعددة، تقوم على مبدأ انفتاح الدرس الأدبي على المعارف المجاورة، فهو يعمل منذ سنوات داخل حقلي الأدب المقارن والدراسات الثقافية، محاولا خلق وعي نقدي جديد يهدف من خلاله إلى توطين الدرس الثقافي وربطه بالشواغل الثقافية في الجزائر، مستدعيا الثقافة الجزائرية عبر أسماء كل من مالك بن نبي وعبد القادر جغلول ومصطفى الأشرف وعلي الكنز وغيرهم، دون أن يغفل عن جهود فرانز فانون وادوارد سعيد وهومي بابا وغياتاري سبيفاك وإعجاز أحمد وجوديت بتلر وجوزيف مسعد ...

لقد فتح بن بوعزيز بحوثه على آفاق جديدة، دون نسيان واقع الجزائر وعلاقته بتاريخه الثقافي، خاصة بعد الاستقلال، ومن بين الملفات التي يشتغل عليها مع طلبته وفي كتاباته ومشاريعه البحثية هو "ملف الذاكرة" وعلاقته بمقولات الاعتراف والنسيان و أسئلة التاريخ من أسفل...

يتعامل بن بوعزيز من جهة أخرى مع موضوعات الأنا الجزائرية وعلاقتها بالنضال الثقافي الذي رافقها طيلة عقود وصولا إلى الراهن وتطوراته، كاشفا عن تحيزات الخطاب الكولونيالي وباحثا عن أنماط وسبل الهيمنة الثقافية.

ينخرط الباحث في حقل الدراسات الثقافية منذ سنوات، وذلك انطلاقا من جهوده المختلفة؛ تدريسا وتأليفا وترجمة وتأطيرا أكاديميا، حيث يملك رصيدا ثريا يغطي باقة من الدراسات المتنوعة في هذا الحقل المعرفي، بداية بكتاب حدود التأويل قراءة في مشروع إمبيرتو إيكو النقدي ثم كتابه الرائد "جدل الثقافة" مقالات في الأخرية والكولونيالية والديكولونيالية 2018.

ويجمع هذا الكتاب بين دفتيه مقالات نقدية تخص مباحث الآخرية والكولونيالية وتفكيك الكولونيالية، الأمر الذي جعله يتقاطع منهجيا ومعرفيا مع مجال الدراسات الثقافية، والسبب أنه اجتهد في تغطية مجموعة من المباحث والموضوعات الثقافية التي قد تظهر أنها منفصلة ولا رابط منهجي بينها . لكن المسوغ المنهجي الذي جعلنا نجمع هذه المقالات ضمن حدود الدراسات الثقافية هو تبني مفهوم المظلة (the Umbrla term)، والذي يفيد على مدى قدرة هذا النوع من الدراسات على تغطية مباحث وموضوعات عديدة ومختلفة، يجمع بينها الاشتغال على فكرة الثقافة، وتسربها إلى الخطاب بمختلف أنواعه.

ويظهر من خلال كتاب جدل الثقافة أن الباحث يملك دراية معرفية ومنهجية دقيقة في التفريق بين المفاهيم والمصطلحات، إذ يستعمل في العنوان الفرعي للكتاب مفهوم الديكولونيالية، الذي يحيل على التخلص من الكولونيالية، أو تفكيك الاستعمار وهو الكشف عن جميع أشكال القوى الكولونيالية وتفكيكها، بما في ذلك تفكيك الجوانب الخفية للقوى المؤسسية والثقافية التي حافظت على القوى الكولونيالية، وتستمر إلى أيام الاستقلال السياسي

يعني هذا أن وحيد بن بوعزيز يعلن للقارئ منذ عنوان كتابه انخراطه في عملية "إعادة" قراءة موضوعات ثقافية، محاولا الكشف عن مواطن الخطاب الكولونيالي والبحث في جوانبه المضمرة، وكيفية تشكلها داخل الخطابي الأدبي.

وقد أشرف وحيد بن بوعزيز أيضا على دراسات جماعيّة أهمها كتاب ثقافة المقاومة وهو كتاب جماعي من منشورات الجمعيّة الجزائرية للدراسات الفلسفية. وقد تضمن مقالات متنوعة تجمع بين منظورات فلسفية واجتماعية وأدبية نقدية، لينتمي بذلك إلى حقل الدراسات البينية. و قد كتب له الأستاذ وحيد بن بوعزيز مقدمة هي بمثابة "بيان نقدي" أساسيا لما يسمى بثقافة المقاومة.

وكتب وحيد بن بوعزيز أيضا تقديما لكتاب: العين الثالثة، تطبيقات في النقد الثقافي وما بعد الكولونيالي الصادر عن دار عام 2017. وهو كتاب جماعي يتضمن على باقة من المقالات النقدية الجادة أنجزها أساتذة من مختلف الجامعات الجزائرية، حيث اشتمل على قراءات نظرية وأخرى تطبيقية ركزت على مدونة أدبية تغطي روايات عربية وجزائرية وعالمية، معتمدة في مقاربتها على مقولات النقد الثقافي والنقد ما بعد الكولونيالي.

وأهم ما ورد في مقدمة الكتاب قول بن بوعزيز: " لقد اثبت تاريخ الأفكار والعلوم والنظريات بأن التطبيق معيار أساس في قياس مدى نجاعة مقولة تفسيرية أو تحليلية، فشهرة النظرية وانبعاثها الأثيري الكبير لا يدلان على قدرتها الإجرائية وستكف على الخفقان بمجرد اختبار لها أمام العملية التأويلية؛ التي تعد حالة فينومينولوجية وواقعية بامتياز. في حين أثبت هذا التاريخ نفسه بأن قوة نظرية ما لا تكمن في غطرسة تجريدها أو في عنان تخييلها الذي لا تحده حدود، بل تكمن فيبعدها العملي ومدى واقعتيها وإيجابيتها في التجارب مع تحيينات العملية التأويلية والتفسيرية " العين الثالثة ص5.

ويسجل بن بوعزيز في كتابه بؤس النظرية، مساءلات في الدراسات الثقافية الصادر مؤخرا عن منشورات ميم. بعض الملاحظات الهامة منها ما يخص مفهوم الثقافة وحقل الدراسات الثقافية ومنها ما يتعلق بموضوعات الذاكرة والغفران وغيرها. وسنكتفي في هذه الورقة بالتطرق إلى ملاحظاته عن الثقافة والدراسات الثقافية.

فالثقافة عنده لم تعد " بشكلها الإيديولوجي والمادي معا مطية لتفكير ثوري يطال الحياة العامة، بل أصبحت موضعا محظيا به في عالم السوق، وأسهم في خلق هذا البراديغم الجديد التطور المذهل للتقنيات التواصلية في العالم، فلا تصبح الثقافة حكرا على فئة اجتماعية معينة بل أصبحت جماهيرية." بؤس النظرية، بؤس النظرية ص56.

صحيح لم تعد الثقافة حالة ثورية كما عرفت عند النقاد الماركسيين، بل تحولت مع بروز مجتمعات الاستعراض إلى نوع من السلع التي تتحكم في الأفراد وتوجههم كما تريد، خاصة مع تلك الدعوات إلى مجتمع الوفرة والرفاه. إن الثقافة في هذا السياق خاضعة لعالم السوق من جهة وجماهيرية من جهة أخرى. هذا النوع من الثقافة الذي يتداخل

ويواصل وحيد بن بوعزيز حديثه حول فكرة " دمقرطة الثقافة" والتي لا "تعني بأي حال من الأحوال أنها أصبحت فاعلية في تغيير الأشياء؛ لأنها كغيرها من العناصر التي اعتلجت بالدائرة الاقتصادية أصبحت عبارة عن منتوج اقتصادي تتدخل فيه جدلية العرض والطلب. " بؤس النظرية ص 56

يستبطن هذا القول نقدا لفكرة دمقرطة الثقافة التي تنتشر في جملة من الكتابات وكذلك الدعوات إلى هذه الفكرة، حيث لم تعد الثقافة إلا منتوجا اقتصاديا يتحكم فيه السوق. خاصة وأن الذراع الثقافي قد أصبح أحد أذرع الهيمنة الجديدة رفقة الذراع المالي والذراع التقني ... ينظر محمد فرج، الرأسمالية وأنماط الهيمنة الجديدة.

كما يناقش وحيد بن بوعزيز بعض القضايا التي ترتبط أساسا بالدراسات الثقافية، ومن هذه القضايا ما جاء في قوله: " وقد يتعجب المتابع لحقل الدراسات الثقافية من تلك الانتقائية الموجودة في مسألة التمرجع la référenciassion إذ تحضر الكثير من المفاهيم والمصادر التي قد تصل إلى حد التناقض لكي يدلل فقط على فكرة واحدة أو تحليل مقطع نصي واحد." بؤس النظرية ص 57

تعد هذه الفكرة من العواضل التي تواجه حقل الدراسات الثقافية وهي الكثرة المفرطة للمراجع والمفاهيم والمصطلحات والأسماء النقدية والفكرية التي صارت مع مرور الوقت عبئا ثقيلا على كاهل هذا التخصص النقدي. ويكفي أن نعود إلى كتابا من كتب الدراسات الثقافية عند الغرب أو عندنا حتى تواجهنا هذه المعضلة المنهجية .

كما يعتقد بن بوعزيز أننا عندما نقرأ لكثير من النقاد الثقافيين ينتابنا بعض الغموض والالتباس ليس بسبب عمق الفكرة مرات، بقدر ذلك الانتقاء/ التلفيق الذي يأخذ بتلابيب التحليل." ص57

وليثبت وحيد بن بوعزيز ذلك يستحضر حالة الناقد الهندي في كتابه "موقع الثقافة" حيث نجد فيه "حضورا للكثير من المقولات من مجالات شتى، فيحضر دريدا مع مع فرديريك جيمسون ولاكان مع ريموند ويليامز وفرويد مع ماركس وف. س نايبول وفرانز فانون مع سليمان رشدي ووالتر بنيامين مع ميشيل فوكو..." ص57

ربما يقع القارئ في حيرة معرفية تخص هذا الناقد الهندي الكبير الذي يعد أحد أقطاب النقد ما بعد الكولونيالي في العالم، ومبرر هذه الحيرة هو كيف له أن يقع في مثل هذا التلفيق، حيث إن كل تلفيق في الأسماء يؤدي لا محالة إلى تلفيق في المعارف والمفاهيم النقدية.

غير إن وحيد بن بوعزيز سرعان ما يفسر ذلك حين يربط بين الجمع بين هذه الأسماء المتباينة وبين "نظرة ما بعد حداثية ترفض كل الثنائيات والتجاذبات بحجة أنها ثنائيات ميتافزيقية، لهذا لكي يتم بطبيعة الحال الجمع بين هذه التجاذبات من ضفة يسارية ومن ضفة يمينية ليبرالية يتوجب على الناقد الثقافي التضحية بالمقولات الأساسية التي تفصل بين توظيف هذا الجمع وبين الكتابة." ص 58.

تبقى هذه الملاحظات بمثابة إحالات على جهد نقدي يستحق مساحات أرحب للنقاش. ومن المواصفات التي يمكن أن نسجلها عن هذا الجهد وحيد الآتي:

- يهدف وحيد بن بوعزيز إلى الاشتغال بروح جماعية؛ أي عدم الاكتفاء بالمحاولات الفردية، لأن هذا الحقل يستدعي وجود وعي نقدي جماعي، وهو ما نلمسه في مجموع مراكز الدراسات الثقافية العالمية التي تأسست في بريطانيا وأمريكا واليابان وهونغ كونغ وأستراليا وغيرها.

- محاولة منح صبغة جزائرية لجهوده وجهود طلبته من خلال التركيز على القراءات النقدية ذات التوجه ما بعد الكولونيالي والبحث في مواطن العلاقة بين الأنا بالأخر.

-الانفتاح على معارف مجاورة للظاهرة الأدبية وعدم سجنها في القراءات النصية والحرفية، والتعاطي مع مباحث ثقافية وسياسية وتاريخية وإعادة استدعاء السياقات التي امتصتها النصوص الأدبية.

***

د. طارق بوحالة - الجزائر

رواية "سبع رسائل إلى أُمّ كلثوم" للكاتب علاء حليحل، الَّتي صدرت حديثا عن دار الأهليّةِ للنّشر والتّوزيع في عمّان (2023)، وتقع في مئتين وست وخمسين صفحة من الحجم المتوسط، تدور أحداثها في بداية الإنتفاضة الفلسطينيّة الأولى.

نجح الكاتب في وصف القرية آخذا القارئ إلى مسارات جميلة؛ ليعيش بين دفّتي روايته، حكاية مغايرة في مدار البيت والأسرة، في عالم حيكت سطوره من بساطة الحياة الرّيفيّة، ومن طبيعة المكان وأهله، من مواسم الشّتاء والصّيف، ومن دروب تعانقت فيها القلوب، وتلَّة عاشت خلفها الأحلام والرّغبات، وصغار يقرعون بأقدامهم الصّغيرة طريق الدّهشة.

ثمّة إحساس لا يمكننا القبض عليه ونحن نقرأ، إحساس بحنين غامض، وشوق مخبّأ لتلك الألفة المفتقدة، لبيتِ الطُّفولة الأوّل، للأحباب والجيران وعتبات البيوت المطلَّة على الخير.

نقرأ هذه الصّور الفنيّة فتأخذ الرّؤية صورتها الأبهى والأكمل، وتأخذ الأفكار والكلمات معناها العميق، وكلَّما قلَبنا صفحة وطوينا أخرى، نتوق شوقا إلى تلك السّكينة البعيدة؛ لنعود أطفالا نعبث ونلهو بتلقائيّة تاقت لها النّفس كثيرا.

شّخوص وأحداث ودلالات عدّة:

يسكن مصطفى وهاجر على تلَّة البلّوطة، قُبالةَ قرية جليليّة نائية، وهو يعمل في مَحجرِ والده ويجسّد شخصيّة الإِنسان المسالم، زوجته هاجر مغرمة بالقراءة والكتابة، تصطدم بعودة حبيبها السّابق "جمال" من غربته زائرا، بعد أن هاجر البلاد متخلّيا عنها بعد تطوّر العلاقة، فتُحدِثُ عودته المؤقّتة في نفسها بعض الارتباك، تعاودها الذّكريات الماضية وتنغّص عليها الحاضر، وتندفعُ إلى تقييم حياتها ومراجعة علاقتها بزوجها الَّذي لم تحبه ولم تنسجم مع طباعه، فهو صامت جامد يتعذّر عليه البوح بمشاعره، يتردّد بالحديث عن احتياجاته ورغباته، ذلك الخلل في شخصيّته أدّى إلى اتّساع الفجوة بينهما، ممّا دفع بزواجهما إلى الانهيار، فهو يعاني ملل الحياد والصّمت، لم تكن لديه القدرة على مواجهة الواقع، الَّذي اعتبره حتميّا لا يمكن تغييره أو التّمرّد عليه.

تقع الشّخصيّتان في الوحشة والجفاف العاطفيّ، وكأنّ أحدهما لا يرى الاخر جيّدا ولا يدرك معاناته، مع الوقت ينقلبان على موقفهما الصّامت، فيتنامى إحساس هاجر بالتّمرّد على الواقع فتطلب الطَّلاق، ويتنامى إحساس مصطفى بالتّمرّد على الحياديّة والامتثاليّة فيقرّر المشاركة بالانتفاضةِ بما استطاع إليه سبيلا.

تبدأ الأحداث في تطوّرها إلى أن تتعقّد، فيتأزّم الوضع بين الزّوجين أكثر، يزرع مصطفى الغيرة دون قصد بين طفليه يزن ونور.  يأتي ذلك عبر المقارنات الدّائمة بينهما، فيزداد الأمر صعوبة. وكما تنتقل الصّفات الجسديّة بالوراثة، تنتقل الصفات الخُلقيّة بالوراثة أيضا، فيزن شبيه لأبيه في طِباعه، ونور شبيه لأمّه في طباعها.

تُدوّن هاجر خواطرها ومشاعرها الدّفينة، لم ترغب أن يكون حزنها الكبير مشاعا؛ فحبسته في دفترها الصّغير، ولتتفادى مشاعر الهزيمة كتبت عن خيبة الحبّ والأمل، ووصولا إلى التّوازن النّفسيّ والسّلام الدّاخليّ بدأت تسطّر بعض الرّسائل إلى سيّدة الغناء العربيّ "أمّ كلثوم"؛ لتحكي عن أخبارها وأسرارها وتجاربها الذّاتيّة.

سِمات فنّيّة ومشاهد:

دُمجَ النّصّ بسرد السّيرة الغيريّة للسيّدة أُمّ كلثوم، الَّتي تناولها الكاتب فتحدّث عن حياتها وإنجازاتها الفنّيّة. أمّا الأحداث فانطلقت ضمن تسلسل منطقيّ مشَوّق، وُظَّفَت التّقنيّات السّرديّة وتضمّنت بعض الرّسائل وبعض الحوارات الدّاخليّة الَّتي أطلعَتنا على مشاعر الشّخوص وخفاياها، وكذلك الحوارات الخارجيّة الَّتي ساعدتنا على الإمساك بالحبكة وفَهمِ مُجرياتِها، كما حملتنا اللُّغة بسلاستها وصورها ومشاهدها التّصويريّة إلى لقطات منوّعة عاشها الأشخاص، يصاحبها أحاسيس مختلفة، لتنسكب الحالة الشّعوريّة في هذا التّنوّع، في الفكرة والسّرد والوصف وكلّ التّفاصيل، وصفحة بعد صفحة، تخرج العبارات من ثوبها المُنمَّق؛ ويتوَشّحُ معناها بالحزن.

في مشهد موجع ولافت، يختبئ نور خائفا وراء تنكة معدنيّة كبيرة في المخزن، يحتضن جرّوهُ الصّغير "ركس" ليُخفِيهِ عن والده الذي يرفض الكلاب ويعتبرها نَجِسة، يضع يده بقوّة على فمه لكتم صوته، لم ينتبه أنّه يضغط على أنفه، يحاول الجرو الإفلات من قبضته، منتفضا محرّكا جسده ورأسه، وفجأة تلتقي نظرة نور بنظرة والده فيرتجف، يتمكّن الجرو من التّحرّر للحظة وسحب أنفاسه، لم يتمالك الطّفل نفسه لشدّة خوفه؛ فبال على نفسه دون إرادته، انهمرت دموعه بغزارة، وتسارعت دقّات قلبه فغدَت موجعة.

يقطع نور حبل الوصف المتّصل ويتساءل: لماذا لا يسحبه والده من وراء التّنكة ليعاقبه؟ أغمض عينيه وانتظر العقاب بتوجّس، فكانت المفاجأة حين فتح عينيه ووجد أنّ والده قد غادر المخزن متجاهلا ما رأى.

يكشف هذا المشهد مع مشاهد أخرى عن علاقة الأب مصطفى بطفليه، وهي علاقة تربويّة مبنيّة على الهيبة والعقاب، أفقدته دور الصّديق لأطفاله، تماما كما علاقة المعلمة روز بطلّابها.

كانت علاقة يزن بأبيه علاقة طاعة وولاء، أمّا علاقة نور بأبيه فكانت علاقة خوف ومحاولة تحرّر، من هنا نجد أنّ رمزيّة الأب كانت فوقيّة، تجاوزت التّربية والإعالة، فهو الأب السُّلطويّ التّقليديّ، ينتهج أساليب الأمر والقوّة رغم حُنُوِّه، وفي مشهد آخر نجده يخاطر بحياته؛ لأجل استرداد الجرو الضّائع من المستوطنين "الفراكش" وإعادته إلى طفله نور الذي فرح به فرحا عظيما.

في مشاهد أخرى نرى جانبا مختلفا من شخصيّة مصطفى، الَّذي يركب الصّعاب غير مبال بالتّعب، وذلك لمساعدة المتظاهرين بسرِّيّة تامّة، يُكَسّر الصّخر الكبير في المَحجَر، ويحمل الحجارة في صندوق سيّارته، ينطلق إلى شوارع جنين ويلقيها هناك، ويعود أدراجه بسرعة كبيرة.

كان يعتزّ بهذا العمل السّرّيّ الَّذي أخفاه حتّى عن زوجته، لكنّه قرّر أَخيرا اصطحاب ابن عمّه وجدي لمشاركته في ذلك، وفي طريق العودة راح وجدي يردّد قصيدة توفيق زيَّاد:

"هنا باقون، على صدوركم، باقون كالجدار، وفي حلوقكم، كقطعة الزّجاج، كالصّبّار".

هذه المشاهد كانت ضروريّة بكلّ تفاصيلِها؛ للكشف عن مبادئ مصطفى وطبيعة أفكاره، والقيم الّتي يؤمن بها ويعمل لأجلها، فهُوِيّته الوطنيّة تَلُحُّ عليه، وهي غير مفصولة عن قوميّته الَّتي استشعرناها في وصف القرية والتّلَّة والوادي، وفي اللَّهجة الفلسطينيّة الَّتي نَبَتَت من عمق الأَرض وجذورها، وكأنّي بالكاتب يقول: هنا باقون لأنّ أقدامنا تمتدّ جذورا في تراب هذه الأَرض، نحمل حجارتها بيد لا تعرف التّردّد، ونعاهدها أن لا نأبه ببطش العابرين.

مشهد آخر ينساب من واقع المكان، يملأُ القارئ بشعور الفقد والحسرة حين يتساءل نور: "شو يعني النّكبة؟" وذلك حين حدّثتهُم هاجر عن تاريخ القرية وهم يسيرون عائدين من بيت والديها، كانت تتحدّث عن الأزّقة والأشجار وعن بيت المختار، الّذي اختبأ فيه الفارّون من القرية المجاورة، حين دمِّرت وشُرّد أهلها وقُتل من قتل. توقّفت الأمّ عن المشي ونظرت إلى السّهل المُنبَسِط أمامها، أشارت بيدها ثمّ قالت: "شايفين بيوت الحجر الكبيرة اللَّي حواليها الصّبر"، نظر الولدان بتعجّبٍ إلى بعضهما البعض، قال يزن: "لا.. مِشّ شايفين"، هَزّت هاجر رأسها، وربَّتت على رأْس يزن قائلة: "هاي هيي النّكبة".(ص18)

بِهذه الإِشارة ترسلُ الأمّ رسالة لطفليها؛ أنّه لا يمكنهما التّجرّد من الجذور والذّاكرة الجمعيّة، الّتي تُشكّل في مُخيّلتِها نسيج القرية برمزيتها للوطن، فهي تستحضره ليبقى حاضرا في وجدان الأبناء وذاكرتهم، وذاكرة الأجيال القادمة، والأمّ برمزيتها أَيضا تُمثَّل صوت الأرض والذّكريات والتّاريخ، صوت القلب المبلول بالحزن، وصوت الضّمير والذّاكرة الشعبيّة الحيّة الَّتي لا تموت.

رسائل من فيض اللّغة:

الرّسائل فسحة ومُتنفّس لمن يكتبها، يضع فيها أكثر الأفكار والعواطف صدقا وحميميّة، والرّواية الرّسائليّة معروفة، ولو بحثنا في النّماذج الرّوائيّة الفلسطينيّة لوجدناها حاضرة فمثلا: رواية "الجرجماني" للأديب حسن حميد، التي بُنيت أحداثها على شخصيّة محوريّة، تكتب الرّسائل التي احتشدت فيها الحكايات.

خصّص الكاتب حليحل لأمّ كلثوم مساحة عريضة في السّرد؛ لنلمس إعجابه بفنّها صوتا وأداءً ولحنا وكلمة. تكتب هاجر رسائلها المُتخيّلة إلى أمّ كلثوم كمذكّرات وحوارات ذاتيّة ومناجاة؛ لتتغلَّب على حزنها، تكشف عن خفاياها وانشغالاتها العاطفيّة والإنسانيّة، فتستحضر الماضي والحاضر، وتكتب عن الوطن والقهر والعُنف، من زاوية أخرى تتوحّد هذه الرّسائل مع المتن الرّوائيّ، تحمل شكل الذّكريات المخبّأة، وتفاصيل الأحلام والرّغبات والأسرار السّاكنة، وتُلخّص الأحداث وتجعلها متَّصلة متماسكة، وتأخذ القارئ إلى محطَّات كثيرة.

كتبت رسالتها الأُولى فقالت: أيُّ جنون أن أكتب لك؟ فأنا أكتب لنفسي فقط، أملأ الدّفاتر بكلمات تعني لي شيئا ما. (ص40)

تحدّثت عن طفليها وذكرت زوجها قائلة: أحاول استحضار الطّفل الَّذي كانه، عَلّيْ أحرّك في داخلي رغبة أو ودّا له. (ص42)

تعاود استذكار جمال فتقول: تَتموّجُ الذّاكرة في الرّأْس كبحر عكّا، في اليوم التّالي لسفره تفجّرت فيّ الأفكار وتبعثر البصر والبصيرة، وعندما علمت بعودته هرعت إلى المرآة، نظرت إلى وجعي وجسدي وشعري، وكأنّ عمري مئة سنة! (ص45).

في رسالتها الثَّانية هنّأت أمّ كلثوم بذكرى ميلادها، وفي الرّسالة الثَّالثة تحدّثت عن الانتفاضة فكتبت: شعبي ينتفض، ما أجملكِ حين غنيتِ لفلسطين: "أَصبح عندي الآنَ بندقِيّة"، وقالت: أقرأُ الآن روايةَ "المتشائل" لإيميل حبيبي، وأعتقدُ أنّ المقاومة تتجسّد في الفكرة البسيطة، وهي أن نتذكّر كلّ يوم أنّنا على قيد الحياة (ص109).

وكتبت في الرّسالة الرّابعة (ص134): رأيت نفسي في الحلم، أردّد بأعلى صوتي ما كتبه راشد حسين: جميلة كانت ّكأنّها مدينتي.. مهدومة كأنّها مدينتي.

في الرّسالة الخامسة، تحدّثت عن اختفاء الجرو "ركس"، وحزن طفلها نور وبحثه عن جروِه الصّغير.

في الرّسالة السّادسة، كتبت عن قرارها بالعودة إلى العمل، ومواجهة مصطفى وطلبها للطّلاق، وعن تحطيمه وتقطيعه لأشرطتها الموسيقيّة، وتمزيقه لدفاترها التي تكتب فيها المذكّرات والخواطر، وقالت: أفردتُ في قلبي مكانا للمأساة المقتربة، وبدأت تعلّم العيش معها (ص209).

أمّا الرّسالةُ السّابعة؛ فتعبّر فيها عن شعورها بالألم تجاه ما يحدث بينها وبين زوجها.

في هذه الرّواية:

تَجنحُ هذه الرّواية الاجتماعيّة إلى المنحى السّياسيّ، فقد رصدت تحوّلات الحياة وتقلّباتها، تطرّقت إلى الآثار السلبيّة للنّكبة من فقدان للّهُوية والمعاناة والتّشتّت، طرحت الواقع المُعاش لفلسطينيّي الدّاخل، والصّراع القائم بين مدنيّتهم المستحدثة وبين قوميتهم التي يحملونها في شرايينِهم، فشعورهم بما يجري على الأرض من أحداث ليس ببعيد عنهم، وذلك ما يدفعهم إلى التّمسّك بالأرض والجذور، والإصرار على البقاء وكسر الحواجز.

تناول النّصّ مفهوم الحبّ والأسرة والتّعاون. أمّا المكان فقد حظي باهتمام كبير، مثَّل المحوّر الأساسيّ الذي دارت حوله العناصر الرّوائيّة، كما لعب الواقع الاجتماعيّ دورا في توطين صورته وما دار فيه من أحداث، جاءت أهميته من دلالاته التي قرّبته إلى القارئ فبيّنت خصائصه، ومن اللّغة الحميميّة الدّافئة المطعّمة باللّهجة الفلسطينية، التي أضفت على العمل خصوصيّة وواقعيّة. رافق ذلك الدّمج جمالا في التّخييل والوصف التّصويريّ، مما أُغلق الفجوة التّعبيريّة في الخطاب الرّوائيّ بين الفصحى والعاميّة.

النّهاية:

لديَّ ما يكفي من الماضي وينقُصُني غَدٌ "م.د".

تكتب هاجر عن مشاعرها تجاه زوجها فتقول: الكراهيّة في بساطتها ووضوحها أقوى من الحبّ، فهي على عكسه، قوة دون ضعف. (ص175)

كانت ترى في زوجها جمودا وجُبنا وضعفا؛ لحياده وصمته وعجزه عن التّعبير، كان يقول: "أنا بعرفش أحكي وبعرفش أكتب". وهي تقول: أرتعش وهو يأتيني برجولته، أعرف أنّها رجولة مزيّفة، يخفي خلفها خوفه من الشّرطة والمخبرين، وتعاليم والدِه والحياة برمّتها. (ص109).

تذكّرني كلماتها بما كتبه الشّاعر أمل دُنقل حين قال:

كيف تنظرُ في عينيّ امرأة؟

أنتَ تعرفُ أنك لا تستطيعُ حمايتها في الظّلام!

كيف تصبحُ فارسها في الغرام؟

كيف ترجو غدًا؛ لوليد ينام؟

كيف تحلم أو تتغنّى بمستقبلٍ لغلام؟

وهو يكبرُ بين يديك بقلبٍ منكّس!

يحاولُ مصطفى استرضاء زوجته؛ فيهديها صندوقا خشبيّا جميلا، يحتوي على مجموعة كبيرة من شرائط السّيدة أم كلثوم، لكنّ هديته تلك لم تجلب له النّهايّة التي توقّعها، فقد أصرّت هاجر على الطّلاق سعيا إلى التّحرّر من الماضي والحاضر. وفي نهاية تراجيديّة مؤلمة، ينشب شجار حادّ بينهما، ويقع عراك عنيف بين يزن ونور على الجرو الصّغير، يغلق نور باب الغرفة، يقترب من يزن ليخلّص الجرو من يديه، لكنّ يزن يمسك به ويجرّه إلى السّرير محتضنا إيّاه من الخلف، واضعا يده على وجهه وأنفه، راح نور يركل السّرير ويتلوّى، لكنّ يزن أحكم قبضته على فم نور وأنفه.

يستمر الوالدان بالصّراخ والشّجار فلم يسمعا صوت استجدائه، فظلّ نور يتلوّى حتى ارتخى جسده الصّغير وتوقف عن الحركة والمقاومة، أطلق الجرو نباحا متقطّعا، ثم خفت حّتى صمَت، ليغدو ذلك الصّمت مرادفا للموت في معناه ودلالته.

نهاية مبهمة وقاتمة كما الواقع الفلسطينيّ! نهاية صادمة تترك العديد من الأسئلة، فهذا المشهد العنيف مختلف في أجوائه عن المشاهد السّابقة، إلا أنه يرتبط بها ارتباطا خفيّا يصبّ في جوهر العمل وفكرته، يحمل أبعادا رمزيّة وتحليلات عديدة، فالأب الخاضع المُمتثل للقوانين الحياتيّة والمجتمعيّة والسّياسيّة، يمثّل السّلطة الحاكمة المسيطرة في بيته، يتَّبِعُ سياسة "فَرِّق تَسُد"، فرَّق بين أبنائه بتفضيله أحدهما على الآخر، ومنحه بعض الامتيازات على حساب أخيه، مما ولَّدَ الضّغينة والخلاف بينهما. هكذا نجد أنّ السّياسة تُدخِلُ كلّ ما حولنا في نطاقها، تقرّر حياتنا ومصائرنا، تأكل وتشرب معنا في ذات الإناء، تصادر عقولنا وتنام وتصحو بيننا، وبالتّالي فهي تَدخُل إلى أعمالنا الأدبيّة.

من أحد الجوانب تشي هذه النّهاية بالعبثيّة والهُوّة بين وعي الإنسان وعقلانيّته، وبين العالم العبثيّ غير المنطقيّ من حوله، تجسّد أيضا مشاعر القلق واليأس والخوف والإهمال، وغيرها من المشاعر المؤلمة، التي تحوّل الضّحيّة إلى جلّاد.

من جهة أخرى وفي إطار سرديّ تفرضه تعقيدات الحياة وطبيعة الواقع المعاش، تُضفي هذه النّهاية متاهة ما، تعيد على نحو صامت تأمّل الماضي والحاضر، لتقدّم رؤيّة ثانيّة، مفادها أنّ الحبّ لا يترعرع إلا في ضوء الحريّة والإحساس بالأمن والأمان، والوعيّ الذّاتيّ والنّفسيّ، وفي ظلّ الأحداث السّياسيّة المأساويّة وغياب الحريّة، لا يمكننا الحكم على النّاس، فالأحكام المسبقة تميل إلى تبسيط الواقع الاجتماعيّ، كما أنّ شخصيّة الإنسان متغيرة، تتأثّر بتّغيّرات مُحيطه السّياسيّة والاجتماعيّة، وكأنّ النّصّ يقول: إنّ الظّروف التي يعيشها الإنسان هي مبعث سلوكه ومُسَوِّغٌ لكلّ تصرّفاته، أمّا تغيّر تصرّفاته فمرهون بما يتعرّض له، فلكل فعل ردةُ فعل، والمطلوب هو أن نمتلك رؤيّة وبعدا فكريّا لا علاقة له بالمؤثّرات، وذلك لتدارك المصائب والعمل على درء وقوعها.

ختاما.. أبارك للكاتب هذا الإنجاز، وأتمنى له المزيد من التّقدّم والنّجاح.

***

صباح بشير

....................

- ورقة مقدّمة إلى نادي حيفا الثّقافي.

24-8-2023

يتمتع الشعر الشعبي في عدد من البلدان العربية بجماهيرية واسعة ويستحوذ على اهتمام عدد من الكتاب والادباء الذين يكتبون باللغة الفصحى حتى ان بعضهم يلجأ في كتاباته السردية الى الاستعانة بالعامية لإيصال فكرته بشكل أسهل وأدق، وليس هناك شهادة ذات قيمة وانصاف بحق الشعر الشعبي توازي قول الأب الروحي والمنظر لحركة الشعر الحديث الدكتور لويس عوض عندما وصف شعراء مصر العاميين البارزين بأنهم الأخطر في الشعر المصري، فهم استطاعوا ان يؤسسوا لنمط جديد من الكتابة يقوم على كسر اللغة الرسمية والأخذ بالذائقة الى فضاءات اكثر بلاغة وجمالا من أمثال جاهين والأبنودي واحمد فؤاد نجم وسيد حجاب وغيرهم، وهذا الرأي باعتقادي ينسحب على جغرافيات اخرى ومنها الساحة العراقية التي افرزت تجارب مهمة ومؤثرة وفي مقدمتها تجربة الشاعر مظفر النواب التي تعد من التجارب القليلة التي حققت انتشارا واستقطبت جمهورا واسعا وتمكنت من تخطي المحلية الضيقة الى العربية الواسعة لما اشتملت عليه من ميزات فاقت في بعض جوانيها ما قدمته الاجناس الأدبية الاخرى من حيث جمال الصورة وكثافة المعنى والجرأة في التعبير والتحدي.

ان ساحة الشعر الشعبي في العراق قدمت اسماء شعرية مهمة وباحثين ودارسين افذاذ للأدب الشعبي وهذا العطاء لم ينقطع طيلة عقود من الزمن بل ظل الشعر الشعبي ارثا انسانيا متواصلا قد لا تكفي هذه الصفحات لاستعراض اسمائه وفرسانه، ومن بين المدن العراقية التي اسهمت بشكل ملحوظ وفعال في هذا العطاء هي مدينة (الديوانية) التي يشهد لها في هذا الميدان حجم الاسماء الشعرية الكبيرة التي قدمتها لساحة الشعر الشعبي العراقي ومن اجيال متعددة، لذا ليس بالمهمة السهلة التصدي للكتابة عن هذه المدينة المعطاء التي عُرفتْ بإرثها الثقافي والاجتماعي ذلك من الصعب الإحاطة بكل ما قدمته هذه المدينة من عطاء فكري وأدبي عبر أجيال وأسماء مهمة ومؤثرة في مسيرة الإبداع العراقي، وما تزال إلى اليوم ترفد الساحة الإبداعية بعطائها المتميز في جميع الحقول الإنسانية والمعرفية حيث لم يجف او ينقطع عن الجريان نهر الشعر النابع من الديوانية المتخمة بالطيبة والشعر والابداع، فما ان يمضي جيل من المبدعين حتى يظهر جيل أخر يتولى إكمال المسيرة بهمة وأمانة كبيرتين. فعلى صعيد الشعر أجد الديوانية منجم شعري اينما تضرب بمعولك على أرضها تقدح بوجهك قصيدة.

فبعد الثراء الإبداعي الذي تميز به المشهد الشعري الديواني خلال عقدي الستينات والسبعينات وتعدد التجارب الغنية والأشكال الشعرية المتعددة، ظهرت أصوات شعرية جديدة  حاولت الحفاظ على ألق وتفرد ذلك المشهد، إلاّ ان الكثير من منجز هذه الاصوات وللأسف غاب وسط دخان الحروب ولم يوثق بالشكل الذي يتيح للدارس التعرف عليه عن كثب باستثناء تجربتي الشاعرين (عباس رضا الموسوي) و(عماد المطاريحي) حيث عمل كل منهما على توثيق منجزهما بدواوين شعرية، فالشاعر الموسوي الذي كان مغتربا في سوريا اصدر هناك ديوانه الأول تجوال عام 2001 ثم أصدر في العراق ديوانه الثاني أغاني الجن عام  2008.

في ديوانه الأول " تجوال " نقرأ الموسوي شاعرا حمل بين جوانحه هموم المنفى، حيث تهيمن على قصائد ديوانه المذكور أوجاع الحنين الى ارض الوطن ومرابع الطفولة والصداقات النبيلة ويصور شراسة الغربة واوجاعها بالوحش الذي ينهش بجسده ويحاول النيل من صبره وثباته واقتلاعه من جذوره ولكن بالأخير يأبى الشاعر الهزيمة ويخرج من النزال منتصرا ثابتا على مبادئه:

بالغربة داهمني الحزن

كشر بوجهي نيابه

حسباله

اطيحن بالعجل

ثاري غلط بحسابه

وندرك ان الحنين عاطفة انسانية صادقة يرتبط بتجربة الغربة ويزداد وقعا على النفس كلما امتدت المسافات وطال الزمن، وهو ما جسدته اغلب قصائد الديوان التي كُتبت معظمها تحت  تأثير ظروف المنفى حيث ظل ملمح الغربة والاغتراب واضحا ومهيمنا عليها، حتى انه في بعض القصائد تشعر بالخدوش التي حفرتها الغربة على خارطة الروح، وفي اخرى تعيش معها اللوعة المقرونة بالحزن التي يهمس بها الشاعر الى ليل الشام يشكو فيها حالة التمزق التي يعيشها نتيجة مرارة البعد عن الوطن والاحباب:

مجبورة روحي اتعنتك.. والوكت فايت

.......

لا يروحي

عمر الاصبّي من تذوگه الغربة

طعمه يصير باهت

.........

.........

الليلة من ثكل الحزن

جن روحي متوزعه ليالي

اسطورة مكتوبة على دروب الدرابين الغريبة

والقصيدة عند الشاعر "الموسوي" تمتاز بالبساطة المستندة الى جمالية الوضوح وصدق الانتماء، فهو لا يميل الى استخدام الاقنعة والرموز في التعبير، انما تتدفق المشاعر من اعماقه سلسة، خالية من التصنع، تكشف عن طبيعة ذاته المبدعة لذلك تخرج كما هي صافية مشحونة بالثبات والتحدي:

علمتني لو حرگ عيني الدمع

ارفع الكأس واغني

علمتني اشلون اضمن

روحك ابروحي واگولن هذا مني

كما نقرأ في قصيدة " أحوال " الاثار النفسية التي تركتها الغربة على حياة الشاعر في المنفى حيث القلق والسهر المضني والشعور بالضياع والخوف من المجهول بانتظار الفرج الذي يراه بعيدا:

من كثر السهر البعيوني

شفت الفجر الأبيض

ليل

مجرور وي النجم الداير

صافن.. حاير

ما من فرحه تجول افكاري

غير الوحشة وحزني الدايم

غير الغربه

وسطوات الخوف من الجاي

وفي قصيدة " واحة ندى " يحاول الشاعر الخروج من شرنقة الاحزان والتخلص من هموم الغربة الى فضاء ينعش الروح ويمنحها دفقة أمل لمواجهة واقعه المر، فضاء يحلم فيه بالورد والأمل بالغد الأجمل فيعمل في هذه القصيدة على احداث كوة في جدار احزانه من أجل ان يتسلل منها نور التفاؤل، لكن يجد نفسه أسير ظلمة واقعه المر حيث سرعان ما يطل من هذه الكوة شبح اليأس ليطرد كل أمل بالتغيير:

اعصر لي خمرة من ورد

خليني اسكر بالورد

حد السكر

ولا تستحي من الفجر

وين الفجر ؟

جذاب كلمن حدثك عن الفجر

لو جان بالدنيا فجر

ما نام ليلك ع الصدر

ان الموسوي في قصائده التي ضمها ديوان " تجوال " فجّر سنين غربته بأشعار تنضح حبًّا، وشوقًا، وحنينًا، وتكشف عن محاولة جادة وناضجة لتقديم تجربة شعرية مميزة.

أما الشاعر عماد المطاريحي الذي ظهر مميزاً منذ أول إطلالته على المشهد الشعري مطلع 2001 والذي أصدر ديوانه البكر (المأذنة والبحر الأخضر) عام 2008 فإننا يمكن ان نصفه بشاعر الجوائز وذلك لكثرة ما حصد منها خلال مشاركاته المتعددة والتي أستحقها عن جدارة لما تميزت به أشعاره من مهارة في اقتناص الصورة الشعرية المقرونة بنبل الأفكار إضافة الى لغته الشعرية التي حاولت بشكل ملحوظ تقليص المسافة ما بين العامية والفصحى فهو يتعامل مع اللغة بدرجة من الرهافة دون ان يسقط في المباشرة والسطحية متجاوزا بهذا التفرد انتاج الأنساق القديمة حيث قدّم تجربة شعرية تحتكم الى وعي جمالي مغاير وأفق معرفي يشير الى رؤية مبدعة للواقع:

آني احس روحي نبي هذا الزمان

معجزاتي ثيابي بيض بوسط عالم ثوبه غيم

رغم تاريخ الدوائر.. والخطوط الجانبية

والارقام المستحيلة

وانا عايش مستقيم

المطاريحي يحاول في شعره ان ينفض عن كاهل القصيدة كل ما هو ثقيل على اللفظ وإدراك عمق النص وذلك عندما يختار في خطابه الشعري وعيا مغايرا، خطاب يتجه نحو تقويم الاعوجاج في المفاهيم لدى الاخر فهو لا يسعى الى تحديث اللغة كأداة للكتابة فحسب انما يحاول ايضا  احداث هزة في الوعي تجاه عدد من التقاليد المغلوطة والراسخة في اذهان الكثير وذلك من خلال الهزة في المسلمّات الذي تحدثها جملته الشعرية المكتنزة بالدلالة والاثارة والدهشة والبعيدة عن الأنساق المتوارثة، ومن بين افكاره اسبقية تحرير الفكر من قيود الجهل والخرافة عند الشروع ببناء الأوطان :

انريد نبني وطن؟

نحتاج نبني فكر.. يستوعب المطرقة

بعدين نبني جسر!

هكذا نجد انفسنا أمام شاعر مرتبط بالواقع والتاريخ والمعطى الاجتماعي، شاعر يحرث في الوعي والوجدان ويسعى من خلال هذه اللغة المهذبة والفكر الانساني النير السمو بالشعر الشعبي الى مستوى خطاب النخبة ويقاوم الاسفاف الذي يسود بعض نماذجه، يضاف الى ما تحمله روح الشاعر من أحلام بريئة هي الاخرى تنشد الدعة وترفض الخنوع والخرافة:

اتمنى عدنه شعب ما يقبل بموته

وأتمنى عدنه

كمر ما تاكله الحوته!

كما انطوت تجربة المطاريحي على مواقف إنسانية ووطنية ترفض التعالي المقيت والنيل من كرامة الإنسان، فهو يؤمن بالعدالة والمساواة  وينبذ التفرقة الاجتماعية وكل هذه المعاني والقيم الانسانية النبيلة تتدفق عبر خطاب شعري هادئ يكشف عن الروح الشفافة التي يحملها هذا الشاعر المنذور للجمال والحب والذي يناصر المظلوم ويقف بوجه محاولات استلاب حريته:

ما أحب بالمدرسة ينادون وين ابن الوزير

ما أحب قصر الامارة يشيل خشمه عله الفقير

آني كائن من حرير ينذبح عصفور أموت

ينولد عصفور أطير

المطاريحي شاعر يعيش واقعه وينصهر فيه حتى يصبح الواقع جزءا من وجدانه اليومي، كما هو شاعر تحريضي بذكاء يدعو الى التغيير ورفض مظاهر القبح والعنف ليس بالهتاف العالي ولا بالشعارات الرنانة انما بطريقة ناعمة من خلال طرح قيم الجمال واحلامه البريئة بواقع أجمل للإنسان وبعلاقات افضل بين الناس:

أحلم وطن بلون الناس

ما بي ناس تموت اعله بعيرة جساس

ما بي واحد يهدم بيته

ويعمر بيت الترباس

احلم بيت لكل مسكين

بطعم الماي

احلم وطن بلون الناس

بي باجر احلى من اليوم

وطن ترابه نجوم

اطفاله نجوم

تبقى الديوانية مدينة ولادّة للإبداع والمبدعين من خلال ما نشهده من حركة شعرية شبابية تواقة لتقديم الأفضل لمسيرة الشعر الشعبي العراقي.

***

ثامر الحاج امين

في رواية "قطط إسطنبول" للروائي زياد كمال حمّامي.

"ما أصعبَ أن تعيش لاجئاً في بلاد تكره الغرباء".

يطلُّ علينا الروائي زياد كمال حمّامي مع روايته الصادرة حديثاً عن دار نون 4، بعد أربع مجموعات قصصية وأربع روايات،. يتناول فيها قضايا اللجوء وما يعانيه اللاجئون من ظروفٍ حياتية قاسية تُشعِرهم بأنّهم أناسٌ غير مرغوبٍ بهم، ليصبحوا أشبه بالقطط الشاردة في الشوارع والأزقة، ولهذا ربما كان اختيار الكاتب لعنوان روايته هذه تحت مُسمى" قطط إسطنبول".

إنطلق الكاتب في روايته من الشخصية الرئيسة، الشاب الملقّب باللولو، وهو لاجئٍ سوري في إسطنبول اختبر أزقّتَها المليئة بالأسرارِ والتناقضات، وعرف التشرّد والتنقّل من مهنة إلى أخرى على أمل أن يحظى مع الكثير من اللاجئين بالحصول على بطاقة الحماية الدوليّة "الكيميلك"، لتضفي على لجوئه الصفة القانونيّة وتضمن له حماية مؤقّتة يمكن من خلالها الإقامة والعمل وفق الاتّفاقيّات والمعاهدات الدوليّة، ولكن صعوبة الحصول على مثل تلك البطاقة نتيجة تشدّد السلطات التركيّة في منحها، جعلته يعيش حالاً من اللااستقرار كبقيّة رفاقه اللاجئين الذين غادروا بلادهم مكرهين، ينشدون الأمن والأمان والعمل ليجدوا أنفسهم أشبه ما يكونون بقططٍ شاردة في إسطنبول، في حين أن المضحك المبكي هو أنّ للقطط في إسطنبول هويات رسمية مسجلة لدى الدوائر الحكومية، وأنّ لها أيضا شجرة نسب كاملة، وسجلَّ لقاحات طبّيّة وصحّيّة، وهي تُباع وتشترى ومحلّات تجاريّة لا تخلو حتى من الإعلانات عن طلب زواج قطّ من قطٍّة أخرى. وهذا هو الفرق بين قطط إسطنبول"الوطنية" وقططها الوافدة والشريدة.

الرواية تسلّط الضوء على الممارسات الشاذّة التي شهدها اللولو فتطرّقت فيما تتطرّقت إليه إلى عدة مشاهد أبرزت من خلالها العنصريّة والكراهية التي أبداها جزء لا بأس به من المجتمع التركيّ تجاه اللاجىء السوريّ واعتباره عنصراً طارئاً ومضرّاً ببنية المجتمع ومستهلكاً لموارده على حساب أبناء الشعب التركي.

كما أشارت الرواية إلى رواج الإتجار بالبشر وانتشار تجارة البغاء نتيجة لاستغلال الفتيات العربيّات اللاجئات بعد إيهامهن بتأمين فرص عمل لائقة لهنّ، ولكن لا مناص بعد أن تكتشف هذه الفتيات أنّ أوراقهن الثبوتيّة وجوازات السفر الخاصّة بهنّ قد صودِرت وجعلتهنّ سلعاً في سوق البغاء تحت إدارة عصابات منظّمة ومنها بيت الشابّات الوارد ذكره في الرواية.

تتمحور الرواية بشكل أساسي حول مسألة اللجوء والعذابات النفسيّة والجسديّة التي رافقت المهاجرين، إذ "ليس لدى المشرّدين مأوى في ليالي البؤس، غير ظلام الحدائق بعد منتصف الليل أو مقابر المدن أو تحت الجسور الرَّطبة أو الأماكن المهجورة، وإنّهم بذلك يتشابهون مع الكلاب الضالّة وقطط الليل".

وفي سياق متّصل تبرز الرواية المهانة والإذلال المنظّم للمهاجرين أمام مديريات الأمن والهجرة وهم يستجدون بطاقات الحماية الدولية" الكميلك" وتُشير كيف أنّ اللولو "وقف بالدور أمام مبنى مديرية الهجرة، وكيف كان حُرّاس "المعبد" ينهرونهم ويشتمونهم وهم يصطّفون وراء بعضهم، خروف أمام شاة ٌ وجدْي خلف نعجة لأجل الحصول على بطاقة "الكيملك" وهي بطاقة حماية دولية مؤقتة أي لاجىء مؤقت".

الصعوبة لا بل الاستحالة في الحصول على تلك البطاقة الملعونة كان لها التداعيات المأساوية على حياة المهاجرين ودفعت ببعضهم للانتحار وإنهاء حياته بعد أن سُدّت الأبواب في وجهه كما حصل مع الشاب "عمرو الأشقر" الذي رمى بنفسه من الطابق السادس لأنّ عدم حصوله على الكميلك كان المانع الوحيد لعدم ارتباطه بمن أحبَّ وهي الفتاة "غفران" حيث اشترط والدها الحصول على تلك البطاقة لإتمام الزواج.

وجه آخر من وجوه المعاناة التي رافقت المهاجرين تمثّلَ في رغبة العديد منهم بالهجرة والهروب من تركيا باتجاه أوروبا لعلّ الوضع هناك يكون أفضل نتيجة تصديقهم لمقولة حقوق الإنسان التي أوهمنا بها الغرب على مرّ العقود، فكانت قوارب الموت هي الوسيلة الوحيدة المتوفرة للقيام بهذه المغامرة الخطرة، كون "الذين استطاعوا الهروب إلى أوروبا عبر قوارب الموت شربوا المياه المالحة في كؤوس من ذلٍّ ومهانة، ولكنّهم غامروا بحياتهم، منهم من مات كأيّ سمكةٍ ابتلعها قرش ومنهم من وصل بعد مشقة ومعاناة".

عندما يتقن الكاتبُ وصف القُبح أوالمستنكَر للدرجة التي تثير اشمئزاز المتلقّي، فهذا يعتبر من الجمال والإبداع، حيث يصبح الوصفُ في هذه الحالة جمالًا بحد ذاته. وهذا ما قام به زياد كمال حمّامي بأن حوَّل القبح إلى جمال عندما أجاد في وصف المراحيض الصدئة يغطيها الماء الأصفر، وتسبح فيها أنواع البكتيريا والفيروسات الضارة كافة، ناهيك عن الروائح التي لا يمكن تحمّلها. وكيف أنّ عربًا وأفارقة ممدّدين على الأرض بشكل فوضويّ وقد اختلط الرجال مع النساء والأطفال، وإذا احتاج أحدهم أن يتبول ففي صفيحة معدنية فتح الصدأ فيها ثقوبًا، وسرعان ما يسيل البول على أرضيّة ساحة السجن، راسماً خطوطاً دموية من عارٍ ومن ذُلّ.

كما تطرّقت الرواية إلى النظرة العنصريّة ومستوى الكراهية التي قوبل بها هؤلاء المهاجرون قسراً من بلادهم، وكيف أن الشحن الإعلامي والسياسي فعل فعله، فبعد خطاب الكراهية لمرشّحة حزب الوردة، توجّهت كتائب من المعارضين لوجود الغرباء واللاجئين صوب المحال التي تضع أسماء عربية، وبدأت بتحطيمها وكسر أبوابها الزجاجيّة، والاعتداء على أصحابها ضربا مُبَرِّحاً. ولسان حالهم يقول:" سنطردهم، البلد لنا، وليس لهم، ليرجعوا إلى بلادهم".

كما أن وجود المهاجرين على بقعة اللجوء المر أصبح مادة دسمة للمرشّحين السياسيّين الذين عملوا على شدّ عصب المتطرفين والعنصريين تجاه هؤلاء "الغرباء" وليس أدلّ على هذا سوى تلك اللوحة الكبيرة التي رفعت في إحدى الساحات بتمويل من أحد المرشحين المتطرّفين، ولإضفاء نوعٍ من المصداقيّة، فإنّ الكاتب امتلك من الجرأة والشفافية ما جعله ينشر صورة فوتوغرافية عن تلك اللوحة التي جاء فيها بالحرف:

"أنادي اللاجئين، قلتم قبل 11 سنة بأنكم أتيتم إلى بلدنا ضيوفاً، ولشعب التركي يحاميكم بضيق استطاعته منذ سنوات، والآن تطوّلت هذه الضيافة كثيرا، وتشاهدون الأزمة الاقتصادية في بلدنا. شبابنا بدون عمل، وتعيش العوائل تحت حدّ الجوع. بهذه الشروط لم يبقَ لنا خبز ولا ماء حتى نتشارك معكم، حان وقت سفركم إلى بلدكم كما أتيتم، ارجعوا إلى بلا دكم".

ونتيجة لتلك النظرة العنصريّة فقد نشطت عمليّات القبض على المهاجرين وسجنهم بغية ترحيلهم خارج "الجنّة"، فالسجناء الذين قُبِض عليهم وهم يعبرون الحدود الدوليّة تهريبًا أُجلِسوا على الأرض العارية حيث لا شيء يقدّم لهم، لا ماء ولا أكل، بعد نهب كلّ ما يملكونه من مالٍ وذهب مخبوء كانوا يخفونه بطرقٍ شتّى كي يساعدهم على الحياة، حتى أوراقهم الثبوتية وجوازات سفرهم وهويّات الحماية الممنوحة لهم قد مزِّقت وأحرقت أمام أعينهم.

في موضع آخر أظهرت الرواية الأثر النفسي والاضطراب السلوكي لدى بعضهم، والذي مورس بحقّ المهاجرين فنجد مثلاً كيف أن طفلة سوريّة في العاشرة من عمرها تتعرّض لعمليّة اغتصاب من قبل مواطن في الخمسين من عمره.. وكيف يتمّ إطلاق الرصاص على شاب لم يتعدَ الخامسة عشر فقط لأن سيادة الشرطي طلب منه التوقف، فركض الصبيّ خوفاً من الترحيل.

لا بد من الإشارة إلى أنّ المآسي والأزمات الاجتماعيّة غالباً ما تترافق مع ظهور حفنة من المستفيدين وضعاف النفوس الذين يسعون لتحقيق مكاسب زائلة ولو على حساب كرامتهم وكرامة أبناء جلدتهم من المهاجرين، وكيف أن أحد ألشُبّان وفي بداية حضوره إلى حي "أسنيورت" حظي برضا رئيس المخفر في المنطقة، وصارَ عيناً سرّيّة له، ثم ترقّى إلى رتبة مترجم خاص، استطاع من مهنته هذه ابتزاز المهاجرين في أموالهم التي يتقاسمها مع رئيس المخفر.

وهذا "فصوع الجزار" يدّعي أنه طبيب للأمراض الجلدية، ومعالج فيزيائي، ومدلّك مسّاج متخصّص في فرنسا وفي الحقيقة ما هو إلا ممرّض فاسد كان يعمل في المشفى الوطني وطرد منه لاتهامه بالسرقة.

وأيضا يذكر الكاتب "صفوح الهدلة" الذي ادعى أنه شيخ جليل، وقد افتتح جمعيّة خيريّة أسماها "برّ الشام"، وجمع حوله نفر من المريدين وبدأ بجمع الزكاة والصدقات والمساعدات الإنسانية بحجّة إيصالها للاجئين حسب زعمه. وما هو في الحقيقة سوى انّه كان يعمل كاتباً لدى مختار قرية "الضبع" الحدودية، وهو مثل الكثير من جماعته لا يُحسن حتّى تلاوة دعاء دفن الميت.

وفي إشارة إلى جشع بعض المهاجرين الميسورين والذين لا يردعهم وازع من ضمير أو أخلاق تحدّثنا الرواية عن "عبد الحق" الذي يرفع شعار الحقّ والصدق والأمانة دائماً، ويعتبر نفسه مدافعاً عن حقوق اللاجئين، وبعد موافقته على تعيين اللولو أمينا لمستودعه القريب من محل "السوبر ماركت" الذي يمتلكه وأسماه ّ "شط العرب"، يكتشف اللولو أن المستودع مليءٌ بأصناف المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك الآدمي والمتلاعب بتواريخ صلاحيّاتها مما جعله يتخيّل أنّه يواجه عبد الحقّ بما رآه ويعلمه بأن المخزن بمحتوياته كله فاسد، وتخيّل عبد الحقّ يجيبه بالقول "أتريدني أن أخسر وأعلن إفلاسي؟

بالعودة الى اللولو، وهو كما ذكرنا إحدى شخصيّات الرواية الرئيسيّة، فقد عاش متنقّلاً بين مهن مختلفة، إلى جانب رفيق تشرّده عبّود الأقرع، وها هو يتذكّر أو يحاول أن يستقرئ الأسباب التي أوصلت بلاده إلى ما وصلت إليه فلم يجد سوى الفساد الذي بدأ يتغلغل في بنية المجتمع بحيث أصبحت ثقافة الفساد هي السمة التي تغلب على تصرفات الكل مجتمعٍ وأفراد. واستذكر بعض النماذج الدالة على هذا الفساد فقدّم لنا على سبيل المثال لا الحصر كل من الخضرجي الذي يحتال على أهل الحارة، حيث كان يوافق على بيعهم كل ما تحتاجه مطابخهم ويسجّل ذلك على دفتره بالقلم الرصاص، ثم يتلاعب بالحساب كما يريد. وكذلك الفرواتي، جزّار الحارة الذي كان يغشّ في بيع لحوم الغنم إذ كان يشتري بالسرّ بعض الأغنام المصابة بأمراض فتّاكة لا يقبل المسلخ الوطني بذبحها لأنّها تضرّ بصحة الحيوانات وبصحة البشر أيضا.

ولم ينسَ مختار الحارة ِ النسونجي "مطيع الزرقا" هذا الرجل المتصابي، المدعوم من أحد أبناء عمومته، والذي لا يضع ختم على أية وثيقة بحاجة للتصديق إلا بالدفع أضعاف ما يأخذه المختارون الآخرون.

ولأنه يصعب على المرء أن يتنكر لجذوره، فمهما اغترب أو تهجّر يبقى الوطن في القلب، ها هو اللولو في بوحٍ ٍ وجداني يتذكر مدينته حلب التي غادرها قسرًا، فيقول  "أعشق حلب وأبوابها التسعة يا أمي، باب الجنان المؤدّي إلى بساتينها وأشجار الفستق الحلبي الأحمر الممزوج بالأخضر، وباب النصرالذي تعود منه الجيوش منتصرة، وباب "أنطاكية" الكبير المؤدّي إلى ولايات حلب والذي عرف بطريق الحرير واليوم صارت حلب تأكل أولادها، تتخلى عنهم وتهبهم بلا ثمن، أصبحنا فيها مجرّد قطط تائهة، وحين رحلت أوبالأصحّ هاجرت ُ مظلومًا وعشتُ لاجئاً ممقوتاً بلا وطن وبلا حبيبة، بلا عائلة، بلا أهل، عندها أدركت يا أمي أنّ روحي ما زالت في حلب، وأنها لم تهجرني".

الشخصية الثانية الرئيسية في الرواية كانت شخصية "شام" هذه الفتاة السوريّة التي غرّر بها زوج أمّها واغتصب طفولتها، مما جعلها تبحث عن ملجأ تخفي فيها فضيحتها فكان أن صدّقت الوعد المعسول الذي قدّمه لها عضو عصابة الإتجار بالبشر واسمه "تاجار" كان يراسلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد عرض عليها الزواج، وقام بتسهيل هروبها والمجيء إلى إسطنبول، لتبدأ معاناتها وتكتشف انّها وقعت ضحية عصابة تتاجر بالنساء وتحولهن إلى سبايا و داعرات، ولكن " شام" تحاول التمرّد وتصرخ بأعلى صوتها بعد أن تلتقي اللولو "أنا شام.. أنا لستُ داعرة.. أنا.. شام".

وفي إشارة لافتة ورمزية في أن الكاتب أشار إلى أنّ بيت الشابات الذي من خلاله تمارس أعمال الاضطهاد والدعارة ضمّ بين جنباته فتيات عربيّات من جنسياّت متعددة توزّعت بين السوريّة، اللبنانيّة، اليمنيّة والعراقيّة، وربّما في هذا التنوع إشارة من الكاتب إلى المآسي والحروب التي تعصف بهذه البلدان مع اختلاف الأسباب والمطامع ولكن ما يجمعها ربّما مؤامرة واحدة بوجوه متعدّده، وكان لافتًا اختيار الكاتب لاسم "شام" ليطلقه على الفتاة السوريّة ليشير من هذا الاختيار إلى ما تتعرّض له شام البلد من عمليّات اغتصاب بواسطة العديد من الجيوش والجماعات الغريبة الطامعة بالشّام وبياسمينها. ولذا نجد الفتاة "شام" تصرخ وبلسان حال الوطن ربما وتقول:" كلُّكم ضد امرأة واحدة، يا لعظمة النساء، إنّ روحي وجسدي لم يقبل أن ِأكون داعرة، لقد خدعوني واحتالوا عليَّ، الموت أشرف لي من أن أكون داعرة".

وإذا أردنا الانطلاق من الحوار الذي جرى بين شام وزميلتها ياسمينة المغربية في بيت الشابّات، حيث جاءت ياسمينة لتعلن تضامنها مع شام وتخبرها قائلة: "اصبري، لا تخافي، كلّنا معك. سنعلن الإضراب عن العمل حتى يتمّ إخراجك. هذا المقتطف من حوار شام وياسمينة ربّما يعيدنا بالذاكرة إلى بيانات التضامن العربي التي ما كانت يوماً تسمن او تغني من جوع، فالتضامن الكلامي لا يكفي وهذا ما عبّرت عنه شام عندما قالت لياسمينة " الإضراب فقط؟! ياسمينة، الإضراب؟!" .

يبقى أن نشير إلى أن اللولو الذي عُرف بأنه يركن كثيراً إلى تخيّلاته، استطاع الكاتب أن يجعله يتخيّل الحلّ المنشود لأزمة المهاجرين واللاجئين من بلاده، فتخيّل نفسه وزيراً للمغتربين في حكومة بلده، بعد انتهاء الحرب، وأنّه رفض العمل في المكتب الفخم،ً وبدأ يطير من بلد إلى آخر. ها هو يعود معهم تباعاً، وحين تهبط طائرتهم على أرض الوطن، ومعهم سيادة الوزير اللولو ينزل بشموخ، يجثو على الأرض ويقبّلها بقدسيّة وطهارة، ومن خلفه يجثو الملايين ويبكون فرحاً بالعودة الظافرة، وفي هذا إشارة واضحة من الكاتب إلى ما يجب القيام به لأجل حلّ أزمة النازحين وضرورة العمل على إعادتهم لموطنهم بمبادرة جدّيّة وصادقة من قبل دولتهم بالدرجة الأولى.

اللافت أنّ الكاتب جعل نهاية روايته مفتوحة بعد أن قرّر اللولو إنقاذ الفتاة شام مهما كان الثمن غالياً، متسلّحا بالتصميم القويّ على ألا يخذل نفسه وألا يخذلها أيضاً فهذه هي حربه الأخيرة، تاركاً للقارىء تخيّل النهاية التي يرتأيها . فهل سينجح اللولو في إنقاذ شام الفتاة ومن خلالها شام الوطن؟ الأيّام والممارسة كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.

***

بقلم: عفيف قاووق – لبنان

من وصايا مخيلة تنتهك النوع السردي وتتلاعب في ضوابط التنصيص

توطئة: تنمو آليات و أشكال الأنواع السردية، طرقا تواكب مناحي الواقع الوجودي، معبرة عن ما يتحقق في تجليات التشكيل الذاتي لمختلف الارهاصات التخييلية التي تحدثها الوحدات الصغرى من المشاهدات والآفاق التي تلتقطها تخيلات إطلاقية الملكة الحسية والتصورية لدى القاص.وعبر هذا الصدد تشكل تجربة فن القصة القصيرة جدا، ذلك الابتداء في مزاعم التقاط العوالم الصغرى المستقلة عن نوعية فن القصة القصيرة، اقترابا منها نحو تصوير عين اللحظات العابرة من شواغل كاميرا المخيلة التي تصارع الخيال في شكله المهمش والأكثر تندرا على رصد سياقات حكائية لها رائحة اللقطة المغمورة من زمن نسبية الاختزال والإيحاء المقيد بشروط إحالات الصناعة النصية للقصة القصيرة جدا .

ـ القصة القصيرة جدا بين إشكالية التسمية والنوع:

لعلنا مؤخرا تعرفنا على تزايد ما يسمى بـ (القصة الومضة؟!) أو ما قد أستقر عليه حالها من التسمية أخيرا (القصة القصيرة جدا) فكل ما عثرنا عليه في مكونات وآليات هذا النوع الهش من التخييل، ذلك النوع من حالات الإقامة اللاموضوعية واللاجمالية في بنيات هذا الحجم (الخواطري!) من الأخبار وسلاسة الحضور الحدثي الذي يقترب من بناءات غير قويمة من التنصيص الفاعل.قلنا سلفا في بداية قراءتنا إن الساحة الأدبية غاصة ومشحونة بإشكاليات الأنواع الأدبية إلى درجة وصول ما يسمى بـ (قصة الومضة ــ القصة القصيرة جدا) وهذا النوع السردي في الحقيقة لا يشكل بذاته خروجا كاملا من جسد القصة القصيرة، بل هو مخاطرة تستوجب مراعاة حدود الضوابط والخصوصية القيمة في مجاهيل البنية القصصية القصيرة التي هي الأصل في النوع الأدبي السردي (ارتكازا ـ جنسا) في الحقيقة وأنا أطالع تجربة هذا النوع الانفصالي من السرد أثار حفيظتي النقدية ما قرأته في مجموعة (ألواح .. من وصايا الجد) للقاص الصديق علي السباعي، خصوصا وأن للقاص تجربة متماسكة في مجال فن القصة القصيرة، ولها من الأدائية والخصوصية في طموحها الفني والجمالي.ولكن ما عثرت عليه عبر هذه المجموعة ما راح ينهل من معين كتابة تقترب من النثر والأخبار والهايكو في نصوص القصيدة التقريرية اليابانية.فرحت أقرأ قصة تحت عنوان (شباك عبد الرضا عناد) وأخرى وكأنها خاطرة جاءت بعنوان (رسالة منسبة لأبي ذر) وأخرى (كوكب اليابان) و لا أظن من جهتي بأن ما قرأته يعد بالتجربة الفنية أو الجمالية أو الأسلوبية المقرونة بأدنى الوسائط التشكيلية في تقديم حدود مشروعة خصائص هذا النوع الخواطري: (صدح هاتفي الجوال بموسيقى أغنية القيصر كاظم الساهر ــ أنا وليلى ـ تعلمني بورود رسالة لي، فتحتها، قرأتها: ــ ستعيش وحيدا وتموت وحيدا كأبي ذر.الرسالة كانت من حبيبتي ليلى التي هجرتني وتزوجت بآخر غني./ومضة : رسالة منسبة لأبي ذر./ص13) كمثال هذه الومضة وغيرها، واجهتنا نصوص مجموعة (ألواح..من وصايا الجد) وكأنها (سوالف؟) لا تخلو من روح النكتة والتبعثر في عبارات رسالة غرامية.كذلك الحال في ومضات كمثل (كوكب اليابان ــ إفطار عراقي ــ كاسيت سعدي الحلي ــ استهزاء ــ إعلان تمرد بطريقة عصرية ــ مجنون برتبة رفيعة) ونصوص أخرى عديدة من تجربة نثرية لا تحكمها أدنى مقومات التكثيف والإيحاء الفني أو على الأقل جمالية التشويق في الضربة المضمونية كما الحال في الفن القصصي القصير جدا المتعارف عليه في التجارب الغربية والعربية.

ــ الومضة الحكائية بين التهكم الذاتي واللحظة المتمردة.

إذا كان المطمح الفني والاعتباري من وراء تصنيفات الشكل من التنصيص بـ (فن الومضة القصصية) جاء حسما لاعتبار أن إمكانية الحسم الدلالي في هذه القوالب يشابه حالة من حالات الانتقادية المبطنة حول قضايا و أوضاعية تختص بها مساحة كبرى من متعلقات مصيرية كبرى من حياة الأفراد ومطالبهم المتكررة من قبل الحكومات اللصوصية الراهنة.ولكن هذا الأمر بحد ذاته لا يخول القاص من تقديم نصه بطرائق لا تسندها رصانة الأسس وشرائط الصنعة الفنية المؤثرة بذائقة التلقي، فقط للأسف واجهتنا محض دعوى تهكمية لا تثير فينا سوى الاشمئزاز والقرف، كما لاحظنا ذلك عبر حكايا (تمثال ــ موقف ــ درس بليغ ــ عقاب) يمكننا أن نتفق مع القاص السباعي بأن هناك في بعض رؤى ومضاته النثرية، ما يحمل ملامح تكوين حس الانتقاد حول مهاترات الزمن، وذلك بعدم إمكانية الفرد بـأنتظار ما هو أفضل إلى حد الآن.ولكن من الصعب تصوير هذه الحالات عبر هذا النوع الهارب من الصياغة والكتابة، خصوصا وأن هذا النوع لا يتصل بقدرات وسائطية وفنية شيقة من ممارسة القبول المشروط في الكتابة القصصية المتفق عليها فنيا وذوقيا ومعياريا .

ــ تعليق القراءة:

إجمالا أقول لا يمكننا وضع معايير تصنيفية جادة لمثل هذا النوع من النصوص المتعثرة في مسمياتها وخصائص إشكالية إدراجها في النوع القصصي بأية حال من الأحوال، لأنها ببساطة لا تحقق الأسباب الإمكانية عبر مسوغات البنية والشكل للنوع الأدبي القصصي القويم، ولا من جهة ما غاية في الأهمية أن نعتبر هذا النوع من القص، سوى حالة شبيهة بالهذيانات والهلوسات المعبئة في ملفوظات هجينة لا تمتلك من هوية رائحة القص الجميل غير ملامح هزيلة من المسمى الذي هو خارج حدود تراكيب وأدوات الطابع النوعي لمقومات الفن القصصي في الدور والبنية والسياق والتوليد الدلالي.وختاما أود أن أضيف مثل هذا القول الوجيز مني:إن الإشكالية الكبرى في هذا النوع المسمى بـ (القصة القصيرة جدا = الومضة القصصية) هي كونها لا تتحلى بمعايير الكفاءة الإجرائية التي نجدها في مسوغات القصة القصيرة جدا أو ما يسمى بالأقصوصة في المصطلح النقد الغربي، فنحن عند قراءة مثل هذا الأنواع الهجينة ننسى أن من قام بكتابتها وهو بطبيعة الحال من أروع كتاب الفن القصصي الصاعد وله العديد من الأعمال الساحرة في حبكتها ولغتها ومواضيع إبداعها، لذا فإن مثل هكذا (هايكوات؟!) لا تناسب حصيلة عوالم تجارب هذا القاص السابقة سوى لا نملك سوى التأشير في حق خاصية تجربته التي نحن بصددها سوى بالمزيد من علامات الاستفهام والتعجب والألم الذي يصاحبه غلق دفتي مجموعة هذه النصوص الناشزة من الابداع والتخييل الفاعل والجاد.ولأجل أن لا نتغافل عن تجارب حقيقية منجزة في مضمار إبداع فن الأقصوصة ــ وليس الومضة القصصية ـ فهناك نصوص مخصوصة ذات بنيات موزونة ومتوازنة من علامات (الإيحاء ـ التكثيف) تمتاز بها تجارب خاصة في هذا المجال من فن كتابة الأقصوصة، إذ يبدو السارد من خلالها داخل لعبة ماكرة من الشد بالوصف المنصب على موصوف الحالات، فكلما بدت الأشياء واضحة في مسرح النص، كلما زادت حجب صفاتها بإظهار دلالات تعاكس تصورات القارىء الانتظارية، وإذا بالنتيجة الختامية تتحقق جملة من الأفعال التي لم تكن في الحسبان القرائي تماما.بهكذا خصوصية تكون مراحل اللاملموسية في الأعمال الخاصة بفن الأقصوصة .. عين السارد في علاقات تشكلها اللحظات اللامعلنة من الكشوفات الدلالية، لا أن تقدم لنا حكاية ومضية على لسان الحكواتي وكأنها خواطر شفاهية تنتهك النوع السردي وتجحف حقيقة وهوية وملكة التسمية الانواعية للفن القصصي القصير المحفوف بالرمز والإيحاء والتداعيات التأويلية. وعلى هذا النحو يمكننا إضافة عدة خلفيات وظيفية مثمرة وصحية، تدعمنا وتدعونا إلى توطين حقيقة ومصدرية الأسس المحكمة في صياغة فن القصة القصيرة جدا، والتي للأسف لم تتوافر منها ولو تقنية واحدة في مشروع وتجربة (ألواح .. من وصايا الجد) ولعل أهمها إجمالا وتخصيصا (الحذف ــ الإيحاء ــ التكثيف ــ المفارقة الفنية ـ فعلية الجملة ـ الرمز ـ اللجوء إلى الأنسنة ـ الخاتمة الواخزة) لربما واجهتنا العديد من دراسات النقاد والأدباء ممن يسعى كل واحد منهم إلى إرساء عدة قواعد إلى هذا الفن الذي راح منهم يطلق عليه مسمى (اللقطة السريعة) و الآخر ممن أطلق عليه بـ (الومضة القصصية) ولكن حقيقة الأمر لا تستقر لا على هذا ولا ذاك، رغم يافطات المبررات الطويلة والعريضة التي تحاول إخضاع هذا النوع الهجين إلى مجال النوع السردي من فن القص نوعا وتجنيسا. وتبعا لهذا أقول مجددا: إن ما يعرف بالبنية الصغرى من فن القصة القصيرة، هو فن الأقصوصة، شكلا فنيا أصغر حجما من القصة القصيرة، ولهذه الأقصوصة ثمة قواعد وخاصيات انتقائية من البؤرة والوحدة الزمنية والمكانية والضربة الملازمة لعناصر إيحائية جاذبة من التشخيص والتركيب والتماسك عبر زوايا السرد بصورة أكثر فجائية ومخالفة في المعنى المؤول للمقروء .أما في ما يتعلق بالخاتمة فغالبا ما تنتهي الأقصوصة بطرائق لاذعة فنيا ودلاليا وأكثر تحولا في تمثيلات روح المفارقة الفنية، ولا أعني هنا التهكمية الذاتية الفجة التي جاءت بها أغلب نصوص القاص علي السباعي .أنا شخصيا ولا يعني لي أي حالة مفهومية أو حجاجية من أراء النقاد (كبارا وصغارا) لذا أقر بعدم وجود ما يسمى بالومضة القصصية، بل وأنفيها في ذائقتي ومعرفتي النقدية، فهذه التسمية والتجربة قد تصح إمكانا في عوالم قصيدة الهايكو، ولكن عندما يتعلق الأمر في مجال السرد فلا يمكننا القبول بهكذا اطروحات مغالطة وخالية من أي معيارية موضوعية وذائقية تماما.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

على اثر حصولي على رواية الكبارية، التي فاح اسمها في الاوساط الثقافية، ونالت شهرة ورواجا وصدى في الاحياء وخاصة الوردية وابن سينا وجبل الجلود، والكبارية بالذات، كيف لا وهي تحمل اسمها وتتحدث عن متساكنيها بجميع اصنافهم وخاصة الكادحين منهم. تشوّقت لقراءتها، والغوص في مكنونها، لا لشيء، الا لتسميتها بالكبارية، واما صاحبها، فلم تكن لي به صلة او صداقة مسبقة، ولكن، حين تعرفت على الكاتب مراد الشابي، تيقنت ان الرواية ستكون في مستوى مميز، ابداعا، واسلوبا، ومضمونا ومجازا، وتأويلا…

مراد الشابي هو ناقد، وكاتب، دكتور في اللغة والاداب والحضارة العربية، أصيل مدينة تستور الموريسكية ذات الطابع الاندلسي الشهيرة بمهرجان المالوف والرّوحانيات وفرق الذّكر والتْصوّف، مدينة الفنّ الاندلسي والتاريخ والحضارة،

صدر لمراد الشابي من قبل مجموعة قصصية سنة 2010 بعنوان الطـيف وهي لا تقلّ تميَزا وابداعا عن روايته الكبارية والتي بقي يشتغل عليها حسب قوله قرابة العشرين سنة، الى جانب الدراسات والمقالات والقراءات النقدية المتنوعة في كل ما يخص الحضارة والادب والثقافة عامة.

مدينة الكبارية، في الاصل هي امتداد لاحياء العاصمة، مباشرة بعد باب الفلة، وسيدي البشير، وباب عليوة، ولاكانيا، وجبل جلود، بين الوردية والمروج، وهذه الاحياء بدورها توسعت فصارت وردية واحد، واثنين، و …، كذلك مروج واحد، واثنين، وثلاثة،… الاخ…،وهذا ليس غريبا عن احوال العواصم والمدن الكبرى، التي تتسع رقعتها بفعل الزحف السكاني، والنزوح، من القرى والارياف والمدن الاخرى، فتضطر العائلات الى التمركز حولها فتنشئ أحياء، بدورها تكبر وتتسع الى ان تأخذ سيادتها ويصبح لها مركز، بل مراكز ادارية، اقتصادية، تربوية، ثقافية، صحية، وما الكبارية الا انموذج، من حيّ بسيط تصبح معتمدية وتتفرع الى كبارية واحد واثنين وثلاثة واربعة، وابن سينا المجاور لها، ايضا واحد واثنين، والمروج المتصل بها، وحيّ النور وغيره…

ما معنى الكبارية واصل الكلمة؟

حسب اطلاعي ّفي قوقل، اصل كلمة الكبارية يعود الى انتشار نبتة الكبار فيها قبل تحولها الى حي سكني، وبسبب النزوح الكثيف في فترة ما بعد الاستقلال والتعاضد، صارت الكبارية بحجم المدينة، اذ تضم 18 مدرسة ابتدائية، 6 مدارس اعدادية، ثلاثة معاهد ثانوية، مركز تكوين مهني للبناء، خصوصا ان في اطرافها يوجد، مقطع للصخر والرمل…

عتبة العنوان

كتب عنوان الرواية بالاسود يتوسط النصف العلوي من غلاف الكتاب، كانها تتصدره بمثابة تاج فوق جبين الصورة المصاحبة لمدينة الكبارية، ووضع التضعيف على حرف الباء للتشديد، الذي رسمت نقطته باللون الاحمر القاني، ولا نعرف ما هي نيْة الكاتب او المصمّم للغلاف من ذلك، هل لدلالة ان هذه البقعة منطقة ساخنة، شبيهة بمنطقة تواجد الالغام، ام علامة انها ارض النضال والكفاح،… او هو يريد تمييز اسم مدينة الكبَارية كمنطقة جغرافية عن فضاء او مكان خصص للهو والسهر وهو ملهى ليلي للرقص والشرب والقمار، شبيه بالخمارة، او الحانة، cabaret، يؤمه الناس ذوي الجاه، وسمار الليالي، واصحاب الاقداح، والمجون والفساد، من قمار، ونساء، ومن رقص واستمتاع وترفيه وترويح عن النفس من أعباء النهار والحياة، العامل المشترك بينهما، هو ان كلاهما منطقة او فضاء ساخن، كلاهما ناشط على الدوام، الحركة فيهما لا تهدا ولا تكل، ولا تنام الليل، كلاهما يتواجد فيه المثقف والجاهل، واصحاب المشاريع، والمفلس، والتائه والباحث عن هوية، واللاجئ، والهارب من مشاكله،… هذا وجه الشبه بين التسميتين هو الحركة الدؤوبة والنشاط الليلي الذي لا يفتر والكبارية هي كباريه ليلا، نهارا

عتبة صورة الغلاف

هي صورة فوتوغرافية ملتقطة من مكان عال، او من قمة لمدينة الكبارية، فترى امتدادها واتساعها، ومبانيها وسطوحها وازقتها وانهجها وحالة الفوضى المعمارية و تلاصق الشقق وضيق الاحياء والانهج، تتوسطها صومعة، واقفة شامخة

عتبة محامل الرواية

انطلق الكاتب مباشرة بنهاية الحكاية، بحيث جعل منها البداية، يقول في ص 5

سامية…

هل كانت تدري وهي تموت تحت التعذيب انهم سوف يقتلونها من اجل كلمات مسالمة؟

آه سامية، اتقتلين بسبب ذلك ؟ سامية…

ثم يقول الراوي في ص 6 وهو المخبر الذي كلّف بمراقبة بريد سامية الالكتروني، واخترق حسابها لينقل حركاتها وسكناتها لرؤسائه في العمل،وهو يعترف أنه ما كان يدرك ان نهاية سامية الكاتبة لرواية الكبارية ستكون التعذيب والقتل…

أهدي هذه الصفحات وفاء لروح سامية التي ماتت لانها حملت اسمها داخل الرواية وخارجها …

هكذا اختار الروائي ان تكون بداية قصة الكبارية، نهايتها، موت سامية موت حلم طمحت له، وسعت لتحقيقه، والنهاية كانت نهاية لذلك الحلم او بترا له، بوضع نهاية لأصحابه، غير ان هذا الحلم لم يمت، بل حلق، وعرج من الضفة المقابلة جنوب المتوسط، الى الضفة الاخرى، حيث تربض جنوة، تنتظر حلم الكبارية واهاليها…

الى جانب المخبر الذي تولى سرد الرواية من خلال التقارير، نجد الكاتب مراد الشابي، قد جعل كل من سامية بطلة الرواية ابنة الكبارية، تتقاسم مع يوسف الشريف، سرد الاحداث، التي تتصاعد، وفقا لحركة المخبر، وعملية الجوسسة التي يقوم بها في مواقع كل من سامية، ويوسف الالكترونية، فجعل اول فصل من الرواية بعد التقرير الاول من المخبر يأتي على لسان سامية التي ترسل أجزاء روايتها لصديقها يوسف الشريف المقيم بروما، اذ تعنون روايتها بالكبارية وتستفتح بالفقرة الاتية

ذلك المطر وهو يهطل خارج فصله لم يكن يدرك ان جدولا صغيرا يشق مجراه سيأخذه الى مكان لا يعلمه،

هل كنت تدري وانت تحمل الي كتبك انني سآكتبك؟

وتبدأ روايتها بالجملة الاتية ص 9 التي لفتت انتباهي، لانها تتكرر في اخر فصل مع اخر تقرير من الرواية

على الضفة الاخرى من جنوب المتوسط كانت جنوة تنتظرنني .

وفي اخر صفحة من الرواية 182 تقابلها الجملة، نفسها من البطلة سامية وهي تخاطب حبيبها يوسف بعد ان انكسر خاطرها،

اسدلت الستائر وأضأت نورا خافتا بجانب السرير كان كافيا لأتهجى تفاصيل حب رسمته بأناملي وقبلاتي

أمازال في العمر بقية للحلم؟

نحن نحب بقدر ما نحلم

على الضفة الاخرى هنالك في جنوب المتوسط كانت الكبارية تنتظرنا.

عتبة التقارير

قسم الكاتب روايته الى إحدى عشرة تقريرا، قدمها المخبر بصفته الراوي لهذه الرواية، وبصفته المكلف بمراقبة حساب سامية كاتبة رواية الكبارية، ووضع لهذه التقارير تاريخ دخوله موقعها وارساله التقرير لرؤسائه في العمل، وكانت متتالية، على امتداد احد عشر يوما اولها بتاريخ 01/ 01/ 2011، اخرها 11/ 01/ 2023

ما لفت انتباهي واستغربه لماذا تكرار الرقم 1 في هذه التواريخ، كذلك الرقم 11 في السنة، 2011 نحوصل، 11 تقريرا، 11 يوما، الى غاية يوم 11 من الشهر الاول من سنة 11 بعد الالفين

هل لهذا الرقم دلالة ومعنى لدى المخبر، والكاتب مراد الشابي؟

هل هذا التكرار كان صدفة؟

من المعلوم ان تكرار رقم معين لدى شخص يعني علامة جيدة تدل على النضج والوعي الكبير لما يحيط به ولما يراه في الواقع، وتعني اقتراب الشخص من الذات العليا ومشارفتها على الكون فتخاطبه ويخاطبها، ويتحقق الانسجام والتكامل بينهما، يقول كارل يونغ عالم النفس :

هو القدرة على التوليف بين الماديات والروحانيات ورؤية ما وراء السطح

وهنا تتقاطع الامور مع اكتشاف الذات واقتحامها مدينة الكبارية ومعرفة اسرارها بصورة غلاف الكتاب، اقتحام البيوت من الفوق، من السطوح، فهو من وقفته هنالك في الاعلى، يرى الكبارية واحوالها واسرارها ويكشف دهاليزها، يدخل غرفها وازقتها الضيقة وشارعها الشهير الذي أطلق عليه بشارع المرشي أي السوق حيث الحركة لا تهدأ ولا تنام…

ومدلول تكرار العدد ايضا كونها رسائل خفية من الكون توجه الشخص الى طريقه المرجو، عبارة عن ملاك حارس لصاحبه، وهنا نتقاطع مع جمل المخبر الذي يقدم الرواية اذ يقول على لسان الراوية سامية

"هل كنت تدري وانت تحمل الي كتبك انني سأكتبك يوما "، وكذلك الجدول الصغير المتكون من المطر اذ يشق مجراه ليأت المطر الى مكان لا يعلمه، ولكن الوعي الغظيم بالكون وما يوجد في مكنونه هو الذي يحمل الذات، الى حيث تريد، وحيث اكتمال النضج،

فهل يمكن القول ان الكاتب مراد الشابي بلغ درجة كافية من الوعي، واصبح في مرتبة عليا ما يؤهله على فهم ما حوله ومن حوله من الوجوه، وليرى الكون وما خلف السطح وليصبح الكون موجها له، بوصلته، دليله، بحكم بلوغه ما يكفي من الرشد والعلو واغتراف المعرفة والفهم المعمق لذاته، بالتالي يصبح مدلول تكرار الاعداد ليس صدفة، بقدر ما هو وعيا وحكمة.

ونعود الى الرواية التي قلنا ان ثلاثة رواة اشتركوا في سرد احداثها ووقائعها

أولا: المخبر

هو الذي اخترق البريد الالكتروني للمدونة سامية البركاتي وللمثقف يوسف الشريف المقيم في روما وهو صديق وحبيب سامية، وهو الذي كتب التقارير الاحدى عشرة وارسلها لرؤسائه ذاكرا مدى خطورة تلك التقارير على أمن الدولة واستقرار الوطن او نافيا عنها ذلك

تأتي التقارير على النحو الاتي:

تقرير واحد

يخبر عن اختراق موقع سامية وانه سيقوم بتلخيص محتوى المراسلة مع تحديد مدى خطورتها على امن الدولة واستقراره

تقرير 2

يخبر في مراسلة ان في موقع سامية ما يفيد تواجد تحريض على امن الوطن وانتهاك حرمته من خلال تخاطبها مع جهة اجنبية وترويجها لاخبار عن جهة الكبارية فيها افشاء لسر اخبار الوطن وان المواطن يعيش حالة من التضييق في حريته

تقرير 3

مراسلة تخبر بتاريخ مراسلة من يوسف الشريف الى المراقبة سامية البركاتي

تقرير 4

مراسلة تخبر ان يوسف الشريف على تواصل مع المشبوه لمدونة سامية وانه على إهتمام بتفاصيل الحياة اليومية لمتساكني حي الكبارية وتقصي اخبار بعض الشباب وفي ذلك خطر على امن الوطن واستقراره

تقرير 5

ارسالية تخبر عن اختراق موقع يوسف الشريف المقيم بروما لمراقبة نشاطه وتفحص النصوص الثلاثة التي ارسلها لسامية التي اطلعت عليها سبع مرات(الخروبة، اللقلق، الديك)

تقرير 6

يخبر عن مراسلة الكترونية من سامية الى يوسف وتخبر عن القاء القبض على سامية وعلى مواصلة البحث في مدونتها وما تتضمنه

تقرير 7

يخبر عن مراسلة من يوسف الى سامية، تثبت تواصل سامية مع مجموعة من شبان ذوي التوجه الاشتراكي وهولاء يشكلون خطرا على امن الدولة واستقراره

تقرير 8

يثبت مراسلة ثالثة لسامية البركاتي الى يوسف الشريف

تقرير 9

يثبت تواصل يوسف الشريف في مراسلة ثالثة مع سامية يخبرها بتواصله مع فتاة ايطالية تدعى لارا ويحدثها عن حي الكبارية وشواغل شبانه وفي هذا ما يفيد خطرا على امن الوطن واستقراره

تقرير 10

تخبر عن مراسلة من سامية الى يوسف وليس فيها ما يثبت او يشكل خطرا على امن الدولة

تقرير 11

تخبر عن مراسلة أخيرة من يوسف الى سامية يقيم فيها المراسلات السابقة، كونها لا تشكل خطرا على امن الدولة، ويقر في هذه المراسلة الاخيرة ان ما وقع تبادله من رسائل بين سامية ويوسف في شباك موقعهما ليس الا فصول من رواية تكتبها سامية

خلاصة التقارير

عند قراءتنا لهذه التقارير بصفتنا قراء للرواية، نلاحظ ان خمسة من احدى عشرة تقرير تقول ان المراسلات بين سامية ويوسف تشكل خطرا على امن الدولة واستقرار الوطن

نستنتج اذن ان البوليس عند التحري والبحث في بعض المسائل وخاصة تلك التي تتعلق بأمن الدولة أو ما يفيد تواجد خطر يهدد استقرار الوطن لا يتريث، ولا ينتظر النهاية، بل يستعجل في اصدار الاحكام على الضحايا، وقبل اثبات وتواجد الادلة الكافية، وذلك تخوفا من العاقبة، وفي المثل الشعبي المتداول الخوف من وقوع الشيء يعلم السبق والباب اللي يجيبلك الريح، سدو واستريح، لذلك الحكم يصدر ظالما، ويعاقب الابرياء بسبب تسرع في اصدار الاحكام بحيث لا ينفع بعد ذلك الرجوع الى الوراء، ولا عزاء للنساء، والقانون احيانا يصدره الطّغاة على الابرياء، وكم من بريء وقع تعليقه في حبل المشنقة، وكم مظلوم، جز به فيه السجون، وذلك دأب الاقوياء منذ الاولين، البوليس هو يمثل السلطة الحاكمة وهو الامر والناهي وصوته يعلو ولا يعلا عليه، سواء صائبا او خاطئا

فهل هذا المخبر الذي نجده يروي لنا قصة سامية ويوسف، أحس بظلمه ومشاركته جريمة ذهبت ضحيتها امراة بريئة كانت تكتب رواية، فعجلوا بالحكم والقبض عليها وتعذيبها ما جعلها تنتهي تحت ايادي الطّغاة، ويريد ان يوجد له عامة الناس العذر، كونه مجرد عبد مأمور، قام بواجبه المهني، ولكن من يملكون السلطة يملكون الحقيقة، والمخبر هنا يعترف انه بريء من دمها، تأسف حين علم بموتها وان الامر ليس بيده وخارج عن سيطرته لكي يقع الاشفاق عليه

الراوي الثاني يوسف الشريف

يوسف الشريف الرجل المثقف، الذي قطن بحي الكبارية، شارك اهله الفرح والترح، ودخل بيوتهم وعرف اسرارهم، فنجده من خلال مراسلته لسامية، يسترجع الماضي وذكريات الطفولة وحياة القرية التي نشا فيها وحركة سكانها وعاداتهم وطيبتهم، بساطتهم وسذاجتهم، وتضامنهم وتعاونهم، فيأخذ يوسف دور شهريار فيروي على شهرزاد سامية قصصا عنه وعن ابيه واهله وسكان قريته المتحابين ويذكرها ببداية قصة تعرفه عليها حين زار حي الكبارية وهو طفل مع خاله، وبالمناسبة يروي عليها ثلاثة قصص، كي يضعها في الاطار، لتعيش معه قصته وتنسجم معه من خلال الحكي والوصف، والسرد، وهذه القصص هي مترابطة، منسجمة، لها مدلولاتها، وهي

الخروبة

اللقلق

الديك

ثلاثة قصص، سرح فيها الراوي مع المعاني والمباني، فكان الحكي شيقا، مسترسلا، جميلا، شيئا، يشبه بما جاء في كليلة ودمنة حين يتحدث على لسان الحيوانات فجعل منها شخصيات، كذلك اللقلق نجده في القصة عنصرا فاعلا وقع تجسيده، وتجنيسه بما في السّرد من حكم وأمثال ووقوف على الاطلال ووصف لمحاسن الاخلاق ومكارم القيم، التي يفسدها المجتمع حين يصير الانسان مدنيا، متحضرا، فينسى جذوره وأصوله…

سامية البركاتي

ابنة الكبارية النشيطة، المجتهدة مثال الامراة الكادحة، المناضلة، الفتاة البسيطة، هي الراوي في هذه الرواية الى جانب المخبر ويوسف حبيبها، وهي ايضا تمثل الحلم والامل، والتحدي والصمود، وهي بطلة الرواية في الرواية وفي المراسلات التي تبعثها لصديقها يوسف عن تفاصيل الرواية التي تكتبها عن حي مشترك عاش فيه كل من يوسف ورفاقه وسامية وعائلتها واصدقاء اخيها والجيران، فكانوا عائلة واحدة، يفكرون بصوت عال، عند حل مشاكلهم وهذا انموذج من الحياة بين البسطاء في الاحياء الفقيرة، يحلمون بالخبز، ويعيشون على رائحة الحطب حين خبزه، وسامية هي مثال يقتدى به في التصدي للظلم، في الصمود على الفقر، في العزم على تناول وشرب المعرفة، فهي انموذج المبدع العصامي، الذي يكون نفسه بنفسه، ويحقق من الانتصارات والنجاحات ما لم يحققه اصحاب الشهادات، مثل محمد استاذ الجغرافيا، ذلكوبفضل العزم والحلم اللذان لا يموتان

موضوع المراسلات

هي تفاصيل لفصول رواية تكتبها سامية وترسلها لحبيبها يوسف الذي اصبح يقيم في ايطاليا، ليطلع عليها ويبدي رأيه فيها، خصوصا انه هو الذي كان سببا في ظهور موهبتها وابداعها بتحفيزها وتشجيعها واهدائها الكتب للاطلاع، وتروي فيها تعلق البطلة بيوسف فكانت سامية وكان يوسف في الواقع وأنا في الرواية، فيوسف هو حب، نما في الكبارية منذ نعومة الاظافر ومنذ قطعة شوكولاتة ترسلها له سامية مع خاله، في المقابل يرسل لها يوسف قصة هدية، وهي التي انقطعت عن الدراسة بسبب مشاركة امها في الحصول على لقمة العيش، سامية ابنة الكبارية، الحي الكبير، المليء بالحكايا والاسرار، فلكل واحد فيه قصة، حي يعيش الفقر والبطالة، فيلجأ اغلب شبابه الى الانقطاع عن الدراسة والانصراف اما للبيع في نصبة في نهج المرشي الشهير، او السرقة، او البطالة وشرب الخمر، في حين تتحمل الامهات المسؤولية، فتشتغلن بدل ازواجهن لتوفرن اللقمة لصغارهن بينما اغلب الازواج يهربون الى الحانات المتواجدة هنالك … أليست الكبارية الحي هي الكباريه الملهى الليلي؟

الخلاصة

الرواية استطرادات، مرواحة بين استحضار الماضي والحاضر، بما تتضمنه من انزياحات ومجاز وتأويل ولا تخلو من التناص مع النص القراني والاسطورة والخرافات من خلال السرد وفن الحكي، نجد على سبيل الذكر

1 اقتباس اسم يوسف الشريف وما يتصف به من صفات حميدة، الانسان المثقف، الهادئ، الخلوق، الذي يحبه كل الجيران وتحترمه سكان الكباريه وتودعه اسرارهم، ويطلعونه اخبارهم، ويطلبون احيانا رايه … الا يشبه يوسف التبي في خصاله؟

2 قصة البقرة الصفراء، الشهباء في النص القرآني، في الرواية تعمد الراوي اختيار نفس الصفة والتشبيه للبقرة وجعلها حجة ودليلا قاطعا ان ابنها واصل دراسته في المدينة بفضل ثمن تلك البقرة التي وقع بيعها، ليلتحق بالجامعة وليتْبع طريق الهدي واليقين،

3 حكاية اللقلق، في سرد بديع، مشوّق، تحيلنا على قصة سيدنا يونس وحكايته مع الطير الذي يفهم لغته

4 تناص مع قصة الميداني بن صالح، قصة قرط امي، يبدو ان الكاتب اراد الاشارة ان هموم سكان الريف واحدة، متشابهة، فالام تبيع قرطها وما تملك من مصوغ لأجل ان يكمل ابناؤهم دراستهم لكن، هل هؤلاء الابناء جديرون بتلك التضحيات ؟ وفي الرواية الشاب يشري لجدته قرطا مقابل بيعها للبقرة الصفراء ليحرز حفيدها على رخصة سياقة، وتبيع بقرة ثانية ليتزوج…

باختصار، الام والمراة التونسية، حريصة على طلب العلم واكتساب المعرفة، والتزود بالثقافة،، قبل اي شيء اخر…

5 التناص مع الاساطير والحكايات مثل حكاية الف ليلة وليلة، يوسف في الرواية يحلّ محل شهرزاد في القص، فروى لسامية ثلاثة حكايات على غاية من الامتاع والتشويق والترغيب، حكاية الديك الاسود الذي ذبح من اجل فك التابعة، هنا اشارة للمعتقدات والخرافات والتبارك بالاولياء الصالحين

6 تناص مع قصة « حدث ابي هريرة قال « من خلال الحكي عن شجرة الخروبة، المتواجدة في اطراف الريف، التبارك بها، جعلها مكانا مقدسا واخرى مدنسا، الاعتقاد في ما يحدث انه من سحر الشجرة، تجسيد وتشخيص الشجرة وانسنتها، تُبصر وتسمع وتشاهد، وتنتقم وتحكم و و …

الرواية في مجملها جامعة بين الواقع والتخييل، اعتمدت اسلوبا شيقا في الحكي،جميع أحداثها توهم القارئ انها قصة حقيقية، تعالج اليومي من الحياة الاجتماعية وما يعاني سكان حي الكبارية المجاور للعاصمة من قضايا مختلفة، وهموم وتهميش وتضييق، وتطرح قضايا الانسان الحالي ومعاناته من أجل ان يعيش حياة كريمة، لكنه يجد البطالة تستقبله، والفقر يقصيه، فيلجأ البعض للسرقة، او العمل في الحظائر باجرة ضئيلة، او الهروب الى الزحلة والخمر لنسيان الشقاء، كما تعالج قضية المراة الكادحة، وتحملها عبء الاسرة، اهتزاز صورة الزوج بسبب الاحباط والاكتئاب الذي يصيبه، وعجزه في مواجهة المصير وتوفير الكرامة المطلوبة، تهميش المثقف صاحب الشهادات وتعجيزه في ايجاد عمل لائق به، فيعمل عاملا يوميا يبيع الغلال في الشارع، واذا وفّق في فتح مشروع خاص تقع محاصرته وتشديد الرقابة عليه، وايجاد تهم ضده لايداعه السجن كي لا يمارس حريته ولا يعيش في كرامة، ظاهرة الهجرة الممنوعة، والحرق، الزواج بالاجنبيات تفوق سن من اقدم على الهجرة لاجل الحصول على الاوراق والاقامة في بلاد المهجر، اللجوء الى العمل في التهريب والممنوعات والمخدرات من اجل البقاء، التعرض للعنف، والجرائم بسبب التشرد، والفساد والارهاب،

الكبارية هي انموذج القرية المهمشة، بكل تفاصيلها الصغيرة والدقيقة هي العالم مصغْر، مختزل في اسم الكبارية، الذي يجمع بين الخير والشر، القبح والجمال، الجهل والتعلم، يتواجد فيها العصامي وصاحب الشهادة، والمثقف، والمبدع، هنالك لعبة السواد والبياض، الموت والحلم…

الخاتمة

كاتب الرواية، الناقد مراد الشابي، لم يكتب سيرة حيّ، ولا قصة متساكنيه، بل كتب تأملات، واشراقات أدبية، ابداعية، تحثّ القارىء على التأمل، ترسم له قبس نور في الاقاصي كي يتبع ذلك الخيط النوراني حيث الحلم ينتظره وحيث الامل لا يموت، فقط على المرء التشبث بحلمه، ويدرك ذاته ويدرك الكون ويعمل لاجل البقاء، وان لا شيء مستحيل امام ذكاء الانسان العقلي، فوحده قادر على الابداع واكتشاف المعجزات والتنبؤ بالمستقبل بذلك الوعي الباطني والانصهار مع الوجود في الوجود، في سبيل الخلود، وما سامية في الرواية الا رمز للانسان الواعي، الطموح، الذكي، المتفائل، المثابر، الصامد، يكفي ان يحلم، يكفي ان يعيش الحب، يكفي ان يحب، فبالحب تتحقق المعجزات و بالحب تتحقق الانتصارات، وبالحب ينتعش القلب ويزهو العقل،

الكاتب يؤمن بالثقافة ويؤسس لفكر عقلاني مثقف، بشرط توفر الحلم والحب والرغبة، وتواجد المشاعر المرهفة والحساسة، بالتفاصيل الصغيرة، فعليك ايها الانسان ان تكون واعيا بما يكفي لتكون ايجابيا ومبدعا …

واختم مقالي بهذه الشواهد و الادلة من الرواية، التي تتقاطع مع فكر الكاتب وايمانه بالتعلم والثقافة والابداع، وان جاء ذلك على لسان يوسف الشريف الانسان الذي يؤمن بالعلم والثقافة انها السلاح القاهر لكل مشكل وبعض الشخصيات الاخرى محمد، و…

جاء في ص 31 من الرواية

… اعني ان تقبل وضعك وتنخرط فيه دون ان تفقد ذاكرتك دون ان تنسى أحلامك من هنا تولد الرغبة في الاصلاح والقدرة على المواجهة والتحدي عن وعي وبكل ثقة في النفس لن تكون مطالبنا زائفة لن تكون شخصية، ستكون مطالب وطن…

ص153

بإمكاننا ان نتعلم في كل وقت المعرفة لا سن لها …

وفي ص 156

كثير من المبدعين لم يدخلوا الجامعات بل لم يكملوا دراستهم الثانوية، توماس ايدسون لم يدخل الجامعة مثلا …

وهو صاحب اعظم المخترعات … رامبو الشاعر الكبير انقطع عن التعليم في سن مبكرة وكتب اروع

القصائد

ص 158

الحياة تشبه المتاهة، لا نعلم اين تقودنا، تسلمنا من حلم الى حلم، ربما بمحض الصدفة … ويوما فيوما يخبو الحلم ويصير ذكريات …

الحلم هو ما يميز أحدنا عن الاخر، يتمسّك الواحد منا باحلامه او يستسلم للواقع فيصير مجرد انسان ينخرط في الحياة اليومية فيتلاشى شيئا فشيئا كلما تلاشت أحلامه وفي النهاية يموت عندما يموت الحلم بداخله ويبقى مجرد كائن، …

ص 167

الجهل هو الحافز على الابداع…

انا لم افهم معنى ان يصير الجهل معرفة، ولكنني اكتشفت مع هذا الفيلسوف (سقراط ) ان المعرفة الحقيقية تستقر بداخلنا …

ص 181

نحن نحب بقدر ما نحلم

بهكذا احلام، وهكذا محبة صادقة، ترفرف تحت اضلاعها، نستطيع ان نحلق و نجعل الحلم حقيقة والحب رفيقا …

***

سونيا عبد اللطيف

تونس، 22 جوان 2023

 للروائي شوقي كريم حسن

 أسلوب سردي مختلف في ابتكاراته وصياغته خارج عن نمطية المألوفة في السرد الروائي والقصصي، هو نتاج ثمرة طويلة من الخبرة والكفاءة في ناصية التألق في الإبداع في ثنائية (السرد / الدراما)، أن يحمل السرد فضاء واسع، يضم كل الالوان والاجناس السردية، وان يكون السرد هو لسان الواقع ومرآته الظاهرة والمخفية، أي أنه سرد الواقع نفسه بنفسه، بكل تجلياته في المعنى و الإيحاء والرمز الدال، في اعادة تقييم صياغة الموروث الديني الى جادة الحقيقة والصواب، ونزع ثوب الكذب والزيف في الغلو والمزايدة في مفهوم المقدس الذي لايخدم سوى كروش الكهنة بالفساد والاحتيال، هذا ما تدلل الرؤية الفكرية الهادفة والرصينة في مساراتها في الكشف الشجاع للحقائق الجارية في أرض سومر في الزمن الحاضر. والسرديات تضم 21 لوحة سردية هي فعلاً لوحات حياتية تنطق بنفسها لنفسها، هي من الواقع الفعلي، في ظهور ظواهر هجينة في المقدس المزيف على سطح الاحداث، هي نتاج صناعة الدجل والأكاذيب، وهي تعطي صورة مشوهة للدين ألم تكون سوداء، يخلقها الكهنة وأرباب الأرض، باعتمادهم بشكل أساسي، على الخرافة والاوهام، يلبسونها جبة الدين، لكنهم في حقيقة الأمر يدفعون الواقع الى الخراب، يدفعون الحياة أن تكون محصورة بين الحروب والموت وطوابير التوابيت بالمعاناة القاسية، ولكي يسهل عليهم عمليات النهب المال العام بأسم الدين بكل بساطة وفي وضح النهار، حتى يجلسون على كرسي العرش المرصع بالذهب والدولار، والصولجان مرصع بالدرر والجواهر، ويخلقون واقع مشوه ومشبع بالخرافات، على ايقاع التراتيل والصلوات على تمجيد وتعظيم كهنة الدين، أي تعظيم أنفسهم بالقدسية، على شقاء ومعاناة الحياة، التي تغوص في الإهمال والحرمان والشذوذ عن المعقول والمنطق، محاولة تخدير العقل بالخنوع والطاعة العمياء، وعندما تشتد وتيرة الأزمة الحياتية والمعيشية بالتذمر والتململ، يتذرعون الكهنة بالتوهيمات المضحكة، لأنهم ببساطة متناهية لا يسمعون صوت الأنين والآهات لآنهم في بروج عاجية ضد الصوت،ويتمادون أكثر في صخبهم وضجيجهم المدوي في منابرهم في إعطاء حقن التخدير (عيشوا فقراء ومعدومين لكي تكتسبوا الجنة في الآخرة) (قال الكركدن - عند تمثالي الاعظم.. ضعوا هتاف ينادي بما يتوجب على المداحين إشاعته كل برهة زمن.. الدنيا دون ذكر ما كنت عليه، وما يجيء معي لا يسمى دنيا، هي فراغ تافه !!

قال الكاهن / - هذا ماهو حاصل!!

قال الكركدن / - كرسي عرشي.. اجعلوه مزاراً.. لتباهوا به الأمم والشعوب !!3601 شوقي كريم

قال الحارس / - هو ما نحلم به.. قبة من ذهب الديار القصية.. ومرجان آت من أقدس البقاع واكثرها حباً) ص14. وجعل الناس تدور في حيرة وارتباك مثل حمير النواعير (ملثمة بهالات من الحكايات والخرافات، والابهام، قال حنين أمراً - ألقي بعينيك بعيداً.. الموتى لا يحتاجون الى ابصار.. الضوء لا يمنحهم سوى الإحساس بالغربة) ص33. الطاعة العمياء واجب الطاعة اولياء الامر، الكهنة أرباب الأرض. حتى يسدون باب الاحتجاج والتذمر من مشاق الحياة القاسية، حتى لا يتعالى الانين في نفوس مقهورة من الظلم الذي ابتلت به حياتهم و ضاعت أحلامهم ادراج الرياح، في حياة جافة ومخنوقة بالرايات السوداء والخضراء، يلفهم التيه والضياع. حتى يسدون باب العقل من طرح الاسئلة الحرجة. لماذا جئنا الى الحياة؟ أين سنمضي في مسيرة موت العقل في تمزيق كبد الحقيقة (كفاك أيها المهزوم ضجيجاً !! (داء وقاحة مواجهة الموت)... أيها الموت.. وجودك ضد الابدية.. فلم التمسك بصداقة الأرض.. كاذب أنت حين ادعيت انك الحقيقة الوحيدة التي يجب أن يقرها الإنسان.. أيها الموت.. هناك.. وهناك.. وهناك الكثير من الحقائق التي قتلتها بخناجر حقدك وكبريائك ومجونك) ص50. كهنة يقرعون طبولهم بالخراب والحروب، وقراراتهم نافذة المفعول بدون مناقشة، هذا الفرق الوحيد بين كهنة اليوم عن كهنة الأمس (نفذ ثم ناقش) النقاش محرم ومعصية من رب العالمين والدين، لان النقاش والمجادلة يدخل في نفوس الناس الشكوك والظنون وهي أولى المحرمات، يريدون الانسان مدجن بثقافة القطيع يردد كالببغاء بالخنوع وانحناء الرأس بخشوع وتقبيل أيدي الكهنة، بدعوة انهم يحملون العصمة والوصايا من رب العالمين، يريدون الإنسان أن يكون لعبة تحركه الحكايات مشبعة بالأوهام والخرافات، ويحشرون ثقافة إبليس في عقول الناس، حتى يتبخترون بفخر وغطرسة انهم ارباب الارض وأصحابها الشرعيين، وينفخون في أنفسهم مثل (علي شيش) في محيط مليء بالفقر وبيوت الطين والأزقة المنسية بالإهمال والبيوت العشوائية، لا تصلح للسكن حتى للحيوانات السائبة، لا شتاءاً ولا صيفاً، ولكن منابر الكهنة زاخرة بالصلوات والتكبير، في هذيانات القحط الحياتي تلف المدن المغضوب عليها (المدن هذيانات ليالي موغلة بالقحط.. تشبه مواقد جهنم، كلما أخذت اعمارنا لترمي بها الى طرقات قاسية. سمعنا صراخها الراعد - هل من مزيد؟ !!) ص 101. هذه عمق الرؤية الفكرية البليغة، في التجلي في مفهوم المقدس، بين الاصالة والزيف والكذب، كما يراهن عليه كهنة الزمن الحاضر، في تأسيس دولة قائمة على العويل والنحيب والنواح ولطم الصدور والخدود، في مملكة البكاء والنواح (آه أيتها الملكة التي ابتكرت النواح

مركب النواح سيرسو في أرض معادية

وهناك سأموت.. أنشد الاغنية المقدسة

أوه إنانا المجد لكِ) ص 112. بهذا الشكل صبغت أرض سومر بالسواد، من اجل عروش الكهنة العظام. ولكن بعض المجانين يرهقون راحة الكهنة بالقلق، حينما يصرخون بأعلى صواتهم (لسنا موتى.. لسنا موتى) وبكل بساطة لو تنكشف الحقائق لاهتزت عروش الكهنة وزعزعة حصونهم العاجية، وانقلب عاليها سافلها، وبالتالي ستتصدع دولة الكهنة، وتضيع التيجان والصولجان (لو اكتشفت الحقائق لتغير كل شيء، وسارت الامور على درب متوهج واضح المعاني) ص 147.

- بعض الحكايات السردية:

1- سردية: أوتار الكركدن:

كم هو حجم المآسي والمعاناة الهائلة بوجود كهنة الزور والزيف وهم في قمة الجاه والنفوذ، نصبوا انفسهم حماة الدين والمذهب ويدعون يحملون وصايا من رب العالمين، وحقيقة امرهم كل واحد منهم مصنوع على شكل الكركدن (وحيد القرن أو يرون الاشياء بنصف عين) يتحكمون في مصائر الناس، ويخدعون البسطاء في صناعة الأكاذيب المشبعة الى قمة رأسها بالخرافات والأكاذيب وبيع الاوهام دون رصيد، نصبوا انفسهم في مجلس الحكماء الالهي أو مجلس الارباب تحت مظلة رب العالمين، في تكوين دولة الكاهن الأعظم أو دولة الكركدن الاعظم والمقدس (لا أدري وانا المتابع المعروف لكل حركات الكركدن وحركاته، حتى أصبحت واحداً من صناع تاريخها، المليء الاكاذيب وبطولات مزيفة) ص9، ولكن غبار الغموض وضبابية الرؤيا، تدفع الناس الى الحيرة والارتباك والبلبلة في دور الكركدن الكاهن: هل هو مخلص فعلاً بوصايا الله والدين والمذهب، ويكون اللجوء إليه شفاعة من العلل والامراض، حتى يشعر الفرد أنه أمين على الحياة السالكة إلى رفاه العيش، يوقف مسلسل الكدر و الهموم والأشجان؟ أم أنه يبيع فقاعات هوائية او يزمجر بالرعود دون مطر، لا تنفع بل تضر، ولا تضمد الجراح وتسكت الوجع، ولا وتروي الظمآن، ان الكهنة الكركدن، شركاء أساسيين، في الإحباط والخيبة والانهزام في الحياة، كل مساعيهم الشرهة هي امتلاك صولجان مرصع بالدرر والجواهر، وكرسي العرش مرصع بالذهب والدولار، هؤلاء الكهنة هم غربان الشؤوم السوداء، يدفعون الحياة إلى الموت والحروب، تحت صلوات وتكبير حواشيهم وخدمهم واعوانهم، كلما بزغ بالظهور الكركدن لعامة الناس، تعلو صلوات والتكبير، وكلما عطس الكركدن، تعالت صيحات المجد والتعظيم (- لتبقيك الالهة ذخراً، بك ومن اجلك تخضر الأرض وتتدفق المياه ويغني الرعاة !!) ص12، ولكن من المفارقات هناك بعض المجانين يسخرون من الكركدن (بضحكات هسترية من هذا النفاق السريالي الممجوج والهزيل .

2- سردية: عباس الحافي:

 يقول عباس (كلما رأيت، ذاك الذي نسجت، عنه الحكايات المليئة بالعجائب والغرائب، حتى اوصلته الى مستويات تقديس رفيعة، ايقنت ان التقديس رغبة تلاحق الإنسان) ص17. وعباس مجبول على الشيطنة والمشاكسة لكل شاردة وواردة، مجبول على العصيان والتمرد، ويبحث في الوجوه عن الملامح المخفية، ويعرف ان رعود الأقوال الرنانة، هي فقاعات هوائية بدون رصيد، مصحوباً بالأسئلة التي تسبب الصداع بالوجع، يلاحقها منذ خطواته الأولى منذ ان اصبح يتيماً، حروفها من نيران الحرمان والاهمال: الى ماذا يمكن أن نصل؟ وكيف ومتى؟ هذا ابن الطين السومري الاصيل، مشبع بالحزن والعذاب منذ سنوات عمره الاولى، غارقاً في حمامات الفقر، من دولة الكهنة العظام، الذين يتربعون على كرسي العرش المرصعة بالذهب والدولار.

3 - سردية: الديك وسام يستحقه

كل الحروب التي اجتازها (مزهر عواد) لم يقدم اية خسائر تذكر، انه مثل الديك المتيقظ على الدوام، وتشغله الحكايات والسوالف المعجونة بالاكاذيب وهذر والهذيان، ويدرك أن الدروب صعبة المسالك، ولم يشعر بالندم والإحباط (الدروب التي سلكها (مزهر) والتي ما كان يعرف، لمَ وضعت بين يديه بندقية عتيقة، وأمر بأن يطلق الرصاص ما ان يسمع دبيب حشرة تبحث عن زاد، أو نباح كلاب ألتمت من اجل افتراس وليمة بشرية، بدأت تتفسخ، دون اعتراض، الأجساد تنغمس بتراب احزانها، حاسة بغرابة وجودها غير المجدي، يقف (مزهر) لائذا باذيال خيبته، متسائلاً عن كيفيات الخلاص من انتظار، لا يحبذ الجلوس مثل ولد صغير)ص47. يشعر أنه في غابة متوحشة بين نباح الكلاب وعواء الذئاب، يتيقن أن لا خلاص ولا مخرج من الدهاليز المقفلة، وما عليه إلا أن يجر اثياب الهزيمة، فنهايته في تابوت مثل أي كلب سائب في الطرقات، في دولة الكهنة العظام، أو دولة الحمار الديموقراطية الحرة !!، لا اوسمة ولا نياشين، ليس مثل ديك الشاعر نزار قباني، في قصيدة: في حارتنا ديك:

في حارتنا

ديك يصرخ عند الفجر

كشمشون الجبار

يطلق لحيته الحمراء

ويقمعنا ليلا ونهارا

يخطب فينا

ينشد فينا

يجرح فينا

فهو الواحد وهو الجبار.

4 - سردية: أكاذيب أنخيدونيا المقدسة !!.

معابد ومنابر كهنة مرصعة بالنفاق والكذب، لا تصنع الحياة البشر، وإنما تنتج براعة الشيطنة والحيل والألاعيب مقرونة بأسم الله والدين والمذهب، وهذا الثالوث براء منهم، مثل براءة الذئب من دم يوسف. يتصورون بقناعة ذواتهم انهم مرسلين من قبل الخالق الاعظم، ان يكونوا أرباب الأرض ويتحكمون بمصير البشر والحياة، وتتطلع إليهم (انخيدونيا المقدسة) وتعرف ما هم إلا شياطين الكذب والخداع، يضحكون على العقول بأن وجودهم الخلاص والنجاة للبشر واخذه الى بر الأمان، مثلما يصدحون بضجيجهم وصخبهم في منابرهم. يتقمصون بشكل مدهش دور الثعالب الماكرة، ووجودهم هو الخراب والموت والمعاناة، انهم يريدون من البشر، احياء اموات، أو اموات احياء. يكنزون الذهب والدولار، وتدرك (انخيدونيا المقدسة) حجم الضرر والتلف للحياة والبشر (المعابد لا تنتج ارباباً، بل تعمد الى استعباد الالهة،وجعلهم وسائل رغبات الكهنة الموشومة بالانحطاط، وتمجيد شهواتهم العارية التي لبسوها مسوح التقديس، موهمين العيون الباحثة عن خلاص يوصلهم الى بعض رغيد العيش، بأن المعبد وكهنته هما الطريق الأسلم والوحيد) ص109، بهذا الدرك الأسفل من الهذيان يسوسون في صدور الناس، بأن التعويذات والحجاب والتراتيل على رائحة البخور واللطم والنواح، هي كافية ان توصل البشر الى بر الامان. تدرك (انخيدونيا المقدسة) حجم الرزايا والمعاصي والموبقات التي يمارسونها في أيديهم الناعمة والملساء كالحرير على معاناة البشر (تجلس انخيدونيا، الغريبة الأقوال والشاهرة سيوف الأسئلة، أينما حط بها طائر الوقت، متأملة الساحات المحاطة بنصب وتماثيل الأرباب، وهم يهشون بأعصيتهم الملساء على غنم ومواشي الكهنة) ص109. كأنهم يتقمصون دور البلهوان في المسرحيات هزيلة الاعداد والاخراج، وحين يخرجون الى خشبة المسرح أو المنبر، يتعالى النباح والعواء، في مشهد دراماتيكي. سريالي / فنتازي في هوس مجنون (الاضوية انطفأت.. وتعالت الصرخات.. يبوووووووووي

المبتهج يضحك.. الرصاص يتصاعد.

البهلوان وعلى حين صدفة يجلس فوق العرش، منشداً (أنا الآلهة فغني بذكري يا بقايا البلاد !!) ص127. يتصورون هؤلاء الكهنة هم الصفوة المختارة ارسلها رب العالمين الى البشر، لذلك يجب ان تقام لهم التماثيل والنصب من الذهب الخالص، وإذا أخذ الله تعالى أرواحهم الى جهنم، ان تكون مراقدهم مرصعة بالذهب. حتى تكون مفخرة لكل الشعوب والأمم. ولكن المجانين يداومون على صيحاتهم (لسنا موتى.. لسنا موتى !!).

***

 جمعة عبدالله

في المثقف اليوم