قراءات نقدية

جبَّار ماجد البَهادليّ: مَظاهرُ دِيستوبيَا الوَجعِ المَريرِ لِصورةِ البَطلِ المَأزومِ

دِراسةٌ نَقديَّةٌ لِمُدوَّنةِ إبراهيم سَبتي الرِّوائيَّة (ضِحكةُ مُوزارتَ)

عَتباتُ النَّصِ: لَوحةُ الغِلافِ الأُولى

تشترك العتبة العنوانية الأولى للرواية مع وجه الغلاف الأوَّل بلوحةٍ صوريَّةٍ مرئيةٍ فنيِّةٍ أو رمزيَّةٍ تُسمَّى بلوحة الغلاف الأولى للكتاب شعراً أكان جنسه الأدبي أم نثراً سرديَّاً أو قصصياً، وتعدُّ واحدةً من بين أهمِّ العتبات النصيَّة التي اجترحها الناقد جيرار جينيت في عتباته النصيَّة، وأكدها لأهميتها الفنيَّة والموضوعيَّة في بيان صورة العمل الموازي للنصِّ الأدبي.

فحين تقتني رواية(ضحكةُ موزارتَ)، للكاتب العراقيّ القاصِ والروائيّ المثابر إبراهيم سبتي، والصادرة بطبعتها الأولى عام 2023م عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع في بابل- الحلة، ومن فئة القطع  المتوسِّط، وبحجمٍ نوعيٍّ وكميِّ عدديٍّ ورقي بلغ نحو(181) صفحةً، حتماً ستقعُ نظرات عينيك الثاقبة لأوِّل وهلةٍ على غلاف لوحتها الأولى أو صورتها الكليَّة الحمراء اللَّون التي تُنذر بكمية التشاؤم اللَّوني والخوف الُمُدمِي، وعدم الاستقرار النفسي الناجم عن وقع هيأتها.

وسيلفت نظرك جليَّاً وجود صورة تلك القبعة أو الطاقية السوداء البارزة الظهور من غير رأس إنسان يعتمرها، والتي تظهر في هرم الصفحة الأولى العُلوي، فضلاً عن صورة تلك البدلة الرجالية السوداء المنفصلة عن القبعة في أسفل الصفحة ذاتها. والتي ترمز موحياتها الدلالية إلى شخصٍ ما بعينه دون غيره ستتضح معالم هُويته وصورته الكليَّة بانتهاء سرديَّات أحداث الرواية.

ولكن الذي يجعلك أنْ تقف مُندهشاً ومتأمِّلاً فكرتها هو رمزية هذه الصورة التي تمثِّل العَلاقة الخطيَّة الأولى المباشرة أو غير المباشرة بين صورة لوحة الغلاف الأولى وعنوان عتبتها الرئيسة (ضحكةُ مُوزارت)، فتبحث عن المعادل الصوري الموضوعي الجامع بينهما، تلك هي الصورة الأيقونية السيميائية لثنائية شخصيَّة بطل الرواية(فؤاد)، والرمز الفنِّي الموسيقي العالمي موزارت.

أمَّا التَّظهير الصوري الآخر للكتاب أو ما يُسمَّى عُرفيَّاً بلوحة الغلاف الثانية ذات اللَّون الزهري أو الأزوردي الفاتح الدال على الأمل في المأمول بعد تجربة الألم، ففد اكتفى فيه التصوير بمجموعةٍ رباعيَّةٍ من جمع القبعات، أو ما يُسمَّى فنيَّاً بـ(طاقيَّات الإخفاءِ) المتداخلة أجزاؤها في ما بينها. فضلاً عن نصٍّ سرديِّ مُقتطع للراوي العليم(الكاتب) يتحدَّث فيه عن أساليب وطُرق المهرِّبين المحتالين لمن يروم الهجرة الشخصيَّة إلى دول أوربا خارج وطنه الأصلي العراق.

وذلك باعتبار أنَّ الرواية بُنيت فكرتها أو أكثر أحداثها السردية عن موضوع الهجرة والمغامرة السرابية الغرائبية في البحث عن الشيء المجهول، والَّتي قام بها بطل الرِّواية المدعو فؤاد من أجل إيجاد ضالته الذاتية في إثبات شخصيه القوية تُجاه مناوئيه وتَحديداً بشخصية المدعو علوان الَّذي يمّثِّل رمز الشرِّ ومصدره القمعي الموازي لشخصية فؤاد البطل المقموع الباحث عن منتجٍ ما.

عَتبةُ الرِّوايةِ العِنوانيَّةِ

(ضحكةُ موزات)، هي اللَّافتة العنوانية الرئيسة للمدوَّنة الروائية؛ كونها تمثِّل من الناحية الوظيفيَّة هُوية أوسِمة الدخول التعريفية، والهالة الضوئية اللَّافتة اسماً ورمزاً ودلالةً ومعنىً للنصِّ الموازي أو(المَتن) الحكائي، والتي تعدّ بوابة الدخول الخارجية الأولى إلى عالم الخير ليوتوبيا مدينة السرد المثالية الفاضلة، وهي أيضاً تُشير إلى واقع راهن صراع الشرِّ المِخيالي المرير وسلطة قمع فشله الجمعي الطوباوي القَصِي البعيد مع ديستوبيا الواقع الرفضي الحجاجي اليومي المرير للمواجهة مع الآخر.

فمن هذا المنطلق الدلالي الرمزي الكبير أكَّد الناقد الفرنسي جيرار جينيت أهمية العتبة العنوانية وأثرها المعنوي في تجسيد صورة العمل السردي الروائي، والكشف عن رؤى عوالمه االخفيَّة البعيدة المُضمرة الأخرى من خلال تفكيك شفراته اللُّغوية والدلالية الموحية الرامزة.فمن يتطلَّع لأول وهلةٍ روايةَ(ضحكةُ موزارتَ)، سيلفتُ نظره الفاحص بقوةٍ نظم تركيبها العنواني اللُّغوي السردي الجُملي الثنائي المتكوِّن من دالتينِ لُغويتين اسميتينِ.

الأولى الدالةُ الاسمية على معناها اللُّغوي الدلالي القريب الواضح البيان هي (ضحكةُ) الإنسان. وهي النكرة الاسمية الدالة لفظياً على مسمَّى غير معيَّن أو محدِّدٍ بما؛ ولكنَّها عندما أُضيفتْ تركيبياً إلى اسم علمٍ شخصي بعدها اكتسبت الصفة المعرفية الإضافية منه بالدلالة على إنسان معيَّنٍ ما، وهو اسم هُوية(مُوزارت) الفنَّان النمساوي.

أمَّا الدالة الاسمية الثانية لهذا التركيب العنواني القصير، فهي(موزارتُ)، اسم العلم الدالة على طابع هُويته الاسمية العالمية الموسيقية المحدَّدة وجودياً. فأصبح التركيب الصوري اللُّغوي والجُمَلي لعتبة المدونة الروائية(ضحكةُ مُوزارتَ)الدالة على هُوية موزارت الفنيَّة العالميَّة وضحكته الرمزية السيمائيَّة المعروفة.

ولكنَّ السؤال المُثير والمُهمَّ الذي لا بدَّ منه في مقام قراءة هذه الرواية وتتبُّعها فكريَّاً بدأً من مرفأِ عتبة عنوانها وانتهاءً بخاتمة أحداثها، والذي يمكن أنْ نطرحه آنياً، ما العَلاقة الخطيِّة الأولى الجامعة بين عنونة الرُّواية(ضحكةُ موزارت)، وبين مضمون ومحتوى سرديات الرواية للواقعة الحدثية الزمكانية؟ وهل هي عَلاقةٌ خطيَّة واقعيَّة سحريَّة قريبة أمْ رمزيَّةٌ تأمليَّةٌ فكريَّةٌ بَعيدةٌ؟ فمثل هذا التشاكل التعالقي الإشكالي المعنوي لفلسفة العتبة الروائية هو ما نَهمُّ بكل تأكيدٍ من خلال دراستنا النقدية التتابعية التكاملية بالكشف عنهُ وعن موحياته النسقية والبحث عن حمولاته الداخلية والخارجية.

إنَّ المعنى الدلالي القريب بين طرفي العنونة لا يَشي بعلاقةٍ واقعيةٍ بصريةٍ مرئيةٍ  مُباشرةٍ، ولا حتَّى تقريرية خطابية واضحة تدلُّ على الوحدنة والالتحام الفكري بين المعنيين القريبين، بل على العكس من ذلكَ أنَّها تُبعد المسافة بينهما وتشتت الفكر إلى مقاصد وتوقعاتٍ وتخميناتٍ لا تُفضي إلى نقطةٍ جوهريةٍ معيَّنةٍ يُستدَل بها على الطرفين المتماهيين رمزياً وإيحائياً وفنيَّاً وجماليَّاً في التعالق النصِّي بين العملين الروائي والفنِّي.

أمَّا المعنى الدلالي البعيد، فإنَّ جُلَّ موحياته الرمزية والسيمائيَّة المَفصليَّة بين الاثنين هي التي تدلِّلُ على نسقية ذلك السياق الفكري العنواني البعيد، ومن تلك القصدية في التسمية العنوانية لعتبة المُدوَّنة الروائية الشاخصة وظيفياً وإعلانياً. فعندما نغور بعمقٍ في بواطن النصِّ السردي ونشتبك فكريَّاً مع دلالة بنيته النصيَّة الداخليَّة، نصلُ معرفياً إلى نقطة الحقيقة الجوهرية الجامعةبين نصِّ العنونة ومضامين أحداث الرواية الجمعية.

والمشغل الحِفري النقدي لواقعة الأمر يتطلَّب مِنَّا نسقياً وسياقياً اللُّجوء ضمنيَّاً إلى ما أشار إليه كاتب أو مؤلِّف الرواية، أو الرَّاوي العليم إبراهيم سبتي بالرجوع سرديَّاً إلى فكرة أحداث الفيلم الأجنبي المأخوذ عن روايةٍ للكاتب الانكليزي(بيتر شافير)، والذي يحكي فيه مشاهد عن سيرة الموسيقار العبقري العالمي النمساوي المبدع الكبير(ولفغانغ أماديوس موزارت)، ويترجم فنياً ودراميَّاً لقصة حياته القصيرة جداً، والتي لا تتجاوز الخامسة والثلاثين عاماً من الإبداع الفنِّي، بداً من ولادته حتّى وفاته(1756- 1791م).

ويستعرض فيه قصَّة نظيره وعدوه الآخر المؤلِّف الموسيقي الإيطالي الشهير(أنطونيو سالييري). والمعروف عنه فنيَّاً بموسيقي البلاط الملكي وصاحب الحظوة الفنيَّة القريبة الشاخصة والمكانة الشخصية العالية في البلاد عند الملوك إبانَّ النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي، والتي تُشير توجُّهاته النسقية الخفيَّة المضمرة لموزارت إلى أنَّه:

"أولُ مَنْ حَاربَهُ وَغَارَ مِنهُ؛ لِأنَّ مُوسيقاهُ أخذتْ تَتلاشَى وَتُنسَى وَصَارتْ مِنَ المَاضِي. وَمُوسيقَى مُوزارتَ خَالدةً بًاقيةً رَغمَ صُغرِ سِنِّهِ. قَدَّم سَالييري أبغضَ مِثالٍ عَلَى المُبدعِ الَّذي يَغارُ غَيرةً عَمياءَ مِنْ صَاحبِهِ، أَيُعقلُ هَذَا أنَّنِي فِي سَالزبورغَ؟ أكادُ أسمعُ ضِحكةَ مُوزارتِ المُضطربةِ والمُتوترةِ فِي الفِيلمِ، والَّتي جَعلَ مِنهَا المُخرجُ مِفتاحَاً لِشخصيَّةِ بَطلهِ غَيرِ الاِعتياديَّةِ. إنَّها لَحظةٌ لَا تَتكرَّرُ فِي هَذَا الزَّمانِ. مَنْ يَدرِي رُبَّما لَا يُصدِّقنِي مَنْ أخبرَهُ بِذلكَ؛ لأنْ الحكايةَ لَا تَحدُثُ إلَّا فِي الأحلامِ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 130).

ونفهم من ملخص قصة هذا الفيلم الدلالية والرمزية(ضحكة موزارت) غير الطبيعية اللَّافتة التي لا يمكن أن تصدق واقعياً إلَّا في الأحلام كما يشير الكاتب، والتي حوَّلها مخرج الفيلم إلى علامةٍ أيقونيثةٍ فنيَّةٍ ودلالةٍ سيمائية رمزية. ثمِّ صارت إثر ذلك مفتاحاً شخصياً مهمَّا من مفاتيح المعرفة لبطل فيلمه غير المألوف.

فما بين شخصية بطل الفيلم الموزارتي وشخصية بطل الرواية الديستوبية الثائر ضد الظلم والقمع والاستبداد(فؤاد)،هو صفة التماهي الرمزي المُوحدن بين خطِّ الشخصيتين اللَّتين عانتا كثيراً في مسار حياتهما العملية من خلال هذه الرحلة الفنية عبر الزمان والمكان إلى الوجود؛ لتنفرجَ بعدها شدَّة الواقعة نحو الأفضل رغم قساوة الأمر ومشقته.

فمن خلال هذه الضحكة الانفراجية (الموزارتية والفؤاديَّة) الجامعة بين دلالة الرمزين الموسيقي الفنِّي والرُّوائي السردي، والتي بها تكتمل مهمَّة فؤاد بطل الرواية الغالب وتنتهي بهدوءٍ ويُسرٍ وبساطةٍ بعد ذلك العناء والشقاء والنَّصَبِ الذي لاقاه في البحث عن ضالته في رحلته السرابية البعيدة خارج الوطن وعبر بحار الخطر الزمكانية من أجل الحصول على طاقية الإخفاء التي يحلم بها للقضاء على صنوه الآخر علوان وهزيمته.

فعلوانُ واتباعه الآخرون ممن كانوا ينظرون إليه نظرةَ ازدراءٍ دونيةً جعلت منه بطلاً ارتكاسياً نكوصياً متشائماً يبحث عمَّا في داخله من طُرق الخلاص منهم، حتَّى  وإن كلَّفه ذلك الأمر الجلل حياته الشخصيَّة؛لكنَّ الأمل بالانتصار عليه كان حليفه الأخر.

ولمَّا سمع فؤاد بخبر موت نظيره ومبغضه الأول علوان، كان وقع موت علوان في نفسه الهائمة وانتصاره النهائي عليه بعد أن لاقى أشدَّ الهزائم المرَّة منه أشبهَ بضحكة موزارت التاريخية التي انتصر فيها بطل الفيلم على حاسده ومبغضه الموسيقار انطونيو سالييري . فالألمُ والأملُ هما ثنائية المعادل  الموضوعي الرابط بين فؤاد وموزارت في ضحكته المتوترة التي  كانت تمثِّل علامة الفوز أو الانتصار الكبير على عدو الإبداع:

"مَاتَ عَلوانُ وَاختفَى مِنْ حَياتِي...إنَّهُ كَلامٌ خَطيرٌ. اِرتحتُ كَثيراً وَاِنتعشتُ وَزَادنِي الخَبرُ الصَاعقُ بِالثِّقةِ المَفقودةِ مُنذُ زَمنٍ. وَشَعرتُ بِنشوةِ الفَوزِ فِي المَعركةِ، وَلَمْ أَعُدْ أحتاجُ  إلَى القُبعةِ وَلَا حَتَّى البقاءُ هُنَا..." (ضِحكةُ موزارتَ، ص 169).

إذا كان بطل الفيلم الموزارتي قد ضحك في نهاية المطاف ضحكةً غيرَ مَعهودةٍ مَيِّزته فنيَّاً عن باقي وقع الضحكات الاعتيادية، فإنَّ البطل الروائي فؤاد قد ضحك في الأخير هذه المرة على نفسه من هول شدِّة صاعقة خبر موت عدوه علوان على الرغم مما عاناه  كثيراً في سفر رحلته السيرية التي كانت غرائبياً مُجردَ سرابٍ لا أساس له من الحُلم  سعى إليه كثيراً في الحصول على الطاقية.

أُسلوبيَّةُ الكاتبِ السَّرديَّةُ

ما بين مفهوم السردية الغرائبية القادرة على إنتاج الواقع الحدثي السردي في أكثر من نمط أو إطار أسلوبي إبداعي دون الالتزام بنمطٍ رتائبي مُعيَّن ما، طالما أن قوانين الواقع الحدثي الطبيعي تبقى سليمةً مُعافاةً دون تجاوز عليها، كما يذهب لذلك الرأي تودوروف. وما بين مفهوم العجائبية في السرد التي يُقدِّمُ لها تودورف أيضاً تعريفاً دقيقاً في عملية التردُّد الكتابي الإبداعي الذي يستشعره الكائن الإنساني الذي لا يعرف غير قوانين الطبيعة الكونية، وقد يواجه بحسب الظاهر له أو يجد نفسه أمام حدثٍ غيرِ طبيعي أو اعتيادي مألوف. أي يجد نفسه أمام ظاهرةٍ غريبةٍ لا بدّ من تفسيرها من خلال المُسبِّبات الطبيعية أو المُسبِّبات فوق الطبيعية، والتردُّد بينها هو الأثر العجائبي.

فما بين مفهومي الغرائبية والعجائبية يقف الأدب المخيالي الفنتازي السوداوي ماثلاً بوجوده الخطابي ذلك الأدب الذي سعى إليه الكاتب والروائي إبراهيم سبتي في مدونته الروائية (ضحكةُ موزارتَ).هذا الأدب الذي لا يخلو من شآبيب تمظهرات الواقع اليومي المألوف، والذي هو خليط منه ومن الخيال الأسطوري الخصب للكاتب. حتَّى تراه يقف في خطابه السرديِّ بمنطقة وسطى أكثر خطراً تجمع المفهومين معاً بطريقة فنيِّة تجذب القارئ إليها وتُسحِرُعقلَهُ بفرادتها في التواصل مع النصِّ الإبداعي عبر آليات الكتابة السردية الحداثوية في الميتا سرد الحداثوي وما بعده حداثياً.

لقد حاول إبراهيم سبتي كثيراً بأُسلوبه الوسطي السوداوي هذا عبر نافذة الأدب الفنتازي المحبَّب لنفس القارئ البحث جديَّاً لشخصية بطله الارتاكسي المأزوم والمقموع بعقدة مازوشيةٍ من التسلُّط والنكوص والتهميش وفق كَمٍ كبيرٍ من ضلالات الفشل والخيبة. وأوجدَ له طرق الحُريَّة الوعرة كصخرة سيزيف من أجل العيش بكرامة واستقلال بعيداً عن كلِّ أشكال الحقد والعداوة والبغضاء التي انتهت بالظفر والانتصار الذي انتظره البطل في رحلته الشاقَّة بعد أنْ مرَّ بمدن وبلدانٍ كثيرةٍ مثل، (تركيا وصربيا ومقدونيا والمَجَر والنمسا وصولاً لألمانيا)،تلك المحطَّة الأخيرة من هذه الرحلة الزمكانية.

كلُّ هذا الذي لقيهُ فؤاد الإنسان المهمَّش المهزوز، ومَرَّ به في حِلِّه وارتحاله التاريخي يمضي قُدُمَاً في جهةٍ الهجرة الطوعية الهادفة لمقصديات خاصَّة، ومروره الأثير بمدينة الفنَّان موزارت (سالزبورغ) يعدُّ نسقاً ثقافياً بمنتهى الفرح والسعادة الغامرة للنفس وهو يمرُّ مسافراً عبر مسارات الطرق العابرة بالقرب من بيت هذا الموسيقار العبقري الذي ألَّف أكثر من سبعمائة قطعةٍ موسيقيةٍ:

"مُبدعٌ  نَالَ الإِعجابَ وَهَوَ يَقودُ أولَ أُوركسترَا فِي حَياتهِ وكَانَ فِي السَّابعةِ مِنَ العُمرِ. يَا إلهِي أَيعقَلُ أنَّي أَمُرُّ بِالقربِ مِنْ بَيتهِ؟ وَطَبعَاً لَا يَمكنُ أنْ أنسَى فِيلمَ(أماديُوس) الَّذي أخرجَهُ مِيلوشُ فُورمَان وفَازَ بِثمانِي جَوائزِ أُوسكارٍ فِي عَامِ 1948 مِنْ أصلِ أَربعينَ جَائزةُ أُخرَى فَازَ بِهَا" (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 129).ومثل هذا الانطباع الثقافي الفنِّي لإرث موزارت وسيرته الفنيَّة الخالدة يُضفي على أسلوب الكاتب سبتي متعةً تفوقُ مُتعتهُ وهو يُؤرخنُ عبرَ الزمن لرحلة بطله المأزوم السرديَّة.

فكم كان شعور فؤاد البطل المقموع طافحاً بالأمل عند وصوله لمدينة سالزبورغ التي وصفها، "بِأَنَّهَا قِطعةٌ مِنْ الخَيالِ الَّتي تُحيطهَا جِبَالُ الألبِ وَسِلسلةُ البُحيراتِ المُدهشَةِ الَّتي مَنحتَ المَكانَ  سِحرَاً لا يُوصفُ." (ضحكة موزارت، ص 129، 130).

فهذه المراوحة الوصفية الأسلوبية التي استحضرها الكاتب أو الراوي عن متعلقَّات الحدث السردي الأخرى وإنْ كانت ثانوية تعطي القارئ أو المتلقِّي فسحةً نفسيةً من الراحة الثقافية والمعرفية الماتعة، وهي دليل على سعة المِساحة الثقافية للمؤِلَّف.

عبر معطيات هذه الأسلوبية الدراميَّة القصصية الواثبة الأثر البنائي لفاعلية الفكرة السرديَّة  يتجسَّد المعنى الدلالي البعيد لمدونته السردية(ضِحكةُ مُوزارتَ) التي طاف بها الكاتب بمدنٍ عديدةٍ وجالَ ببلدانٍ أوربيةٍ شرقيةٍ وغربيةٍ نائيةٍ بعيدةٍ كي يُعيد الثقة والثبات لبطله المقهور قمعياً، ويحقِّق له إرادته الذاتية المستلبة بدلاً من ذلك الاهتزاز الذي خيمَ على سجل حياته الدنيوية المتهالكة.

فهذه العنونة التصريحية المُكتنزة بوظائفها المتعدِّدة قد جمعت بين سيميائية الرمز الموسيقي موزارت وضحكته الفرائدية الغرائبية غير المكشوفة،والتي أسقط الكاتب فيها أثر وقائعها التاريخية والفنيَّة بهذه الترددات الحدثية المتصاعدة الصراع على سيرة شخصية بطله المهموم حياتياً من أجل تحقيق ما عزم النية عليه في هذا السَّفر العاتي الذي لاقى فيه أمرَّ ما لاقاه من مخاطر وأهوال عصية تهزُّ مشاعر الوجدان وتوقظ صحوة الضمير النائم لتحيا راية العدل والإنصاف الإنساني.

فما بين رحلة البطل الروائي فؤاد الوهمية، وضحكة موزارت الإيحائية، هو تحقيق للذات الحلمية وإثبات لوجود الشخصية التي صيرها الكاتب المؤلف مفتاحاً رئيساً في توجيه مسارات روايته التي جاءت أفكارها الفنتازية جامعة ما بينها وبين راهن الواقعية المعيشية وعقابيلها اليومية المألوفة في هذا الأسلوب الجمعي المثير للنظر، وإلَّا ما علاقة(ضحكة موزارت) بأحداث  الرواية؟

ويبدو أنَّ سعة الثقافة المعرفية السردية المُكتنزة لأُسلوبية لكاتب أو المؤلِّف، واتِّقاد موهبته الفنيَّة الألمعية الفذة هي التي وهبته شحنة هذا الخيط الرفيع الموصل من التواصل الفكري والرمزي في التناصِّ الموضوعي مع شخصية موزارت العالمية الفنيَّة لتكون لافتةً عنوانيةً لسرديات الرِّواية.

بدليل أنَّ مفهوم الضحكة الغرائبية المتفرِّدة التي أطلقها بطل فليم موزارت العالمي والتي تَمُتُ إليهِ بصلةٍ كبيرةٍ جدَّاً هي في الحقيقة كما تُشير الشبكة المعلوماتية العنكبوتية ليوكيبيديا مأخوذة من "إشارات في رسائل كُتِبَت عنه من قبل امرأتين قابلتاهُ" في حياته. والتي تصفُ صوت هذه الضحكة بأنه يضحك بشكلٍ (معدني)، أي بطريقة ما قد تُشبه صوت المعدن حينما يخدش الزجاج، فينطلق منه صوت شبيه بهذه الضحكة الموزارتية التي أضحت علامة أيقونية أو ماركة باسمه.

وفي واقع الأمر الحدثي أنَّ فؤاداً الذي هو شخصية الرواية الأولى البطولية، هو رجل عراقي جنوبيّ سومريّ كأيِّ إنسانٍ يرغب العيش بأمن ومحبَّةٍ وسلامٍ واستقرار دون أنْ يضمرَ إيذاءً للآخرين في عالمه المحيطي الكوني الإنساني، في حين أنَّ فولفغانغ أماديوس موزارت الذي ولد بالنمسا في السَّابع والعشرين من يناير عام 1756م، وتوفي بداء الحُمَّى في الخامس من ديسمبر عام 1791م، وهو في عزِّ شبابه وتوقده الفنِّي الكبير، ويعدُّ من أشهر العباقرة الموسيقيين عالمياً.

وعلم الرغم من عمره الزمني القصير وحياته المهنية العابرة للزمن من حيث عطائه الفنِّي الكبير فقد تمكن موزارت من تأليف ستمائة وست وعشرين قطعةً موسيقية ولحنٍ فني جبَّار. ومنٍ أشهر أعماله أو مؤلفاته اللَّحنية(الناي السحري)، و(وجوبتير)، وأعمال كثيرة أُخرى وسمت فنِّه.

ويبدو من خلال أسلوبية الكاتب السردية المعمقة نسقياً، أنَّ ثيمة هذا التعالق الفكري الحميمي الأيقوني بين الرمزين المتناظرين البطل الروائي العرافي فؤاد المُهمَّش سلبياً، والمؤلف الأجنبي النمساوي موزارت المحسود إيجابياً كانت سبباً ثقافياً وفنيَّاً مُهمَّاً وناجعاً لمشروع كتابة هذه الرواية بخطى وئيدة وفق معطيات هذا الأسلوب الغرائبي العجائبي من إشكاليات الأدب الفنتازي المُدهش.

مُلخصُ أحداثِ المُدَوَّنةِ وشَخصياتُها

مدونة(ضحكةُ موزارتَ)، رواية بوليفونية متعدِّدة الأصوات تتألف من سبعة أقسامٍ أو فصولٍ تتابعية الأثر، وتحتوي أحداثها السردية الزمكانية الثابتة والمتحركة على سبعِ شخصياتٍ، أربع منها رئيسةٌ مؤثِّرةٌ نوعاً ما بمجريات واقعة الحدث السردية، وهم:(فؤاد، وحسن، وزوجة حسن، و د. يوهان هولمر)، وثلاث شخصيات أُخرى منها ثانويَّة فرعيَّة طارئة ومُكمِّلة لمجريات الحدث، وهم: (الفتاة غيداء ابنة حسن، وعلوان، والمهرِّب) النمساوي سائق السيَّارة ومرشدهم الذي أوصلهم إلى ألمانيا.

ولكنَّ الصوت الرئيس المهمَّ والغالب من شخصيات هذه الرواية، هو صوت فؤاد بطل الرواية وشخصها المقدام الأول والأخير الذي قام بأحداث الرواية التراتبية بدأً من مُستهلها الأول، وحتَّى مختتمها النهائي الأخير، والذي لم يعلن الكاتب عن ذكر اسمه الصريح وهويته الشخصية في النصف الأول من أحداث الرواية، وإنَّما اكتفى المؤلِّف بالحديث عنه بإنابة ضمير المتكلِّم(أنا) أو تاء الفاعلية في (قُلْتُ)،على لسان بطله (فؤاد)، ولم يُصرِّح بذلك علناً إلَّا في الصفة رقم(104).

وكان ذلك حينما قرَّرَ فؤاد الهجرة إلى ألمانيا للبحث عن طاقية الإخفاء في مختبر الدكتور الألماني يوهان هولمر؛ نتيجةً للظروف القمعية التي مارسها ضدها في العمل الأستاذ علوان الذي عمل له الدسائس والمكائد العديدة في دائرته من أجل تسقيطه ومحاربته لوظيفته بشتى الوسائل. وفؤاد بطل الرواية الذي يعمل موظَّفاً بقسم الإحصاء في وزارة التجارة في إحدى مدن الجنوب.

وقد لاقى  محاربةً حقيقيةً من قبل الطرف الآخر القاهر(علوان) الذي  أضمر له الشرَّ والعداء والبغضاء؛ لإزاحته عن وظيفته بِحُججٍ واهيةٍ باطلةٍ لا أساسَ لها من الصحَّة لغرض تنحيته من عمله الوظيفي من خلال ممارسته لسلطة القوة التي يتحلَّى به تُجاه مناوئيه من الموظفين الآخرين:

"بَعدَ أُسبوعٍ حَضرَ وَرَاحَ يَسألُنِي، وَكَانَ بِصحبةِ مُديري المُباشرِ أَسئلةً بَعيدةَ عَنْ اِختصاصِي وَعَنْ مُؤهلاتِي، وَيَبدو أنَّهُ اِقتبسَهَا مِنْ بُطونِ الكُتُبِ؛ لِكِي يُوصِي مُديرِي بِوضعِ عَلامةٍ مُتدنيةٍ لِي أوْ ضَعيفةٍ فِي سِجلِ تَقييمهِ السَّنويِّ؛ كَي أُعاقبَ أَوْ أُنقلَ مِنْ هَذهِ الدَائرةِ إِلَى دَائرةٍ أُخرَى أوْ يُدخلونَنِي فِي دَورةٍ تأَهيليةِ؛ لِكونِ مَعلوماتِي ضَعيفةُ ولَا أَصلحُ مُوظَّفَاً فِي الإحصاءِ كَمَا أَخبرنِي مديري." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 6) .

بهذه التهمة الكيدية المُلفَّقَة أُتِّهمَ الموظَّفُ فؤاد بأنَّه ضعيف المؤهَّلات، وبحاجةٍ ماسةٍ لتقويمٍ وتأهيلٍ جديدٍ لا بدَّ منه، بل الأكثر من ذلك عُدَّ فؤادُ زورَاً موظَّفاً فاشلاً لا يرقى لمثل هذا العمل.في مثل كهذا موقف لَا إنساني كُتِبَ على فؤاد الفشل والاستلاب والركوس الذي قلبَ موازينَ حياته رأساً على عَقِبٍ دون مسوغٍ أو مبررٍ حقيقيٍ. إنَّها سلطة العداء البغيض والحسد المقيت المُبَيَّت لهُ.

إنَّ مُعاداة علوان لفؤاد الموظَّف والإنسان البسيط كانت نقطةَ البداية التي انطلقت منها شرارة القطيعة العمياء والإقصاء الديستوبي المرير، والَّتي حفَّزت فؤاداً بالرحيل عن وطنه برغبته مرغماً على ذلك الأمر عندما ضاقت به الحيل من أجل أن يعيش حراً كريماً  بعيداً عن إيذاء الآخرين له ممن ينصبون العداء والتضييق على مساحة حريته الشخصية والعملية التي يتمتَّع بها في دائرته.

كلُّ هذه المسوغات الشريرة التي مورست ضده والتي تعتمل نفس فؤاد للتخلص من غريمه علوان، مصدر الشرِّ الذي يتربص به. فكانت الخطوة الأولى التي قام بها فؤاد عندما التقى مصادفةً بأسرة المهاجر حسن العراقي في تركيا الذي كان يروم الهجرة بصحبة عائلته إلى ألمانيا. ولأسباب شخصية واجتماعية وعائليةٍ خفيةٍ بحتةٍ. وقد عبر فؤاد عن ذلك الأمر الخفي الجلل الذي يختلج نفسه لرفيقه حَسَنِ إثر لقائه به لأول وهلةٍ، كاشفاً عن هويته الشخصية وعمله الوظيفي في العراق:

"أَعملُ مُوظَّفَاً فِي دَائرةٍ تَابعةٍ  لِوَزارةِ التِّجارةِ، وَتَحديدَاً بِقسمِ الإحصَاءِ، وَأنَا مَعَكُم الآنَ لِلوصولِ إِلَى ألمانيَا إنْ كُتِبَتْ لَنَا السَّلامةُ؛ لِمقابلةِ دُكتورٍ أَلمانيٍّ وَجهَاً لَوجهٍ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص104).

إبَّانَ هذه اللحظات المصيرية التي قرَّر فيها فؤاد بدء رحلته السرابية المليئة بالمفاجآت والمعاناة المضنية في البحث عن المجهول القصدي الذي يردُّ له الاعتبار الشخصي بألمانيا، بدأتْ أنساق الفشل والتأزم النفسي المرير وعقابيه الديستوبية تتوالى تترى عليه؛ مُعلِّلاً  نفسه الأمارة  بالآمال البعيدة. فما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأملِ المنشود التي تسوقه نواياه الراهنة نحو المجهول الضبابي! لتحقيق ما يسعى إليه قدره الحياتي في الحصول على بغيته السحرية من دكتور هولمر:

"أَحتاجُ مِنهُ شَيئاً، اِختراعٌ جَديدٌ، جِئتُ آخذهُ مِنهُ، سَيُغيَّرُ حَياتِي إِلَى الأبدِ، وَأعتقدُ أنَّه يَستحقُّ  المُعاناةَ وَالسَّفرَ الطَّويلَ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 105). وَقَدْ سوَّغ فؤاد أسباب رحلته الغرائبية لألمانيا قائلاً عنها: "نَعمٌ سَتكونُ لِي جَولاتٌ وَجَولاتٌ بِاستخدامِ هِذَا المُنتجِ النَّادرِ إِنْ وَفقَنِي اللهُ فِي الحُصولِ عَليهِ مِنَ الدُّكتورِ! سَآخذُ ثَأْرِي مِنْ شَخصٍ أهدَرَ كَرامتِي وَمَسحَ بِيَ الأرضَ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 105).

تُرى هل يستحق مثل هذا الثأر كلَّ هذه المغامرة التي كلفته الجهد والوقت والمال وراحة البال.  ولعلَّ هذا الثأر الذي يقصده فؤاد في حديثه لرفيقه في السفر حسن يعني به المدعو علوان رأس هرم الفساد بالدائرة وسبب مرجعه الرئيس في هذه المعاناة. وقد تقوض حُلُم فؤاد في الحصول على المخترع حينَ علم وهو في ألمانيا بخبر موت مُبغضه وصنوه في العراق علوان وطويت صفحة (طاقية الإخفاء) من سجله الشخصي مع موت علوان الذي كان السبب الأول في هجرته القسرية.

أَنساقُ دِيستوبيَا الوَجعِ المَريرِ وتَمظهراتهُ السَّوداويَّةُ

مارس فؤاد (البطل الموجوع والمقموع) أنساقاً عديدةً من مآلات الحُلم  والعمل القائم على بنية الأمل في تكريس جهوده الشخصية، وتطويع إرادته الذاتية من أجل تحقيق بغيته النفسية الذاتية البعيدة، وفي إثبات ذاته الأنوية القارَّة على المستوى الشخصي والعملي؛ لكنَّه للأسف الشديد على  الرغم من كل هذه المحاولات العملية الإجرائية الحثيثة الجادة لاقى شتَّى أنواع الوجع الإنساني المرير، وذاق كثيراً مرارة وطعم الفشل والتأزُّم والتراجع والانكسار النفسي والروحي الجمِّ المثير.

لم يلبث فؤاد من إنهاء خطوةٍ تشاؤميةٍ سوداويةٍ فاشلةٍ إلَّا وقد سعى مُجدَّداً إلى بناء خطوة جديدةٍ أخرى غيرها؛ لإثبات وجوده الكوني. ولم يترك وسيلةً ناجعةً يراها مناسبةً لمقصديات وجعه إلَّا وقد جرَّبها وسار في مركبها الصعب، مسرى البطل الآمل والطامع في تحقيق رميتها الهادفة. فلا وجود لشعور اليأس مكاناً ثابتاً في عزيمته الواثبة، ولا قرار قارٌ ثابت في لجم عنان استكانته وركونه.حتَّى وإنْ كلفه ذلك العزم الشيء الكثير للتغلُّب على حراكه من أجل هدفه البعيد المقصود.

كان نشيده الروحي والنفسي المثير بعد كلِّ عوامل الوجع والحزن والإحباط والألم المُضني ما كان يتغنَّى به الشاعر العربي إثر  الفشل: (لا تيأسنَّ إذا كبوتم مرةً     إنَّ النجاح حليفُ كلِّ مثابر). حتَّى كلفته مثابرته الفعلية وإقدامه  البطولي لا إحجامه الانهزامي في الوصول إلى ضفة المراد في أنْ يكون ثمناً باهضاً للانتصار على ثورة تأزمُّه ووجعه الديستوبي المرير الذي أوصله إلى هذا.

إنَّ فعل العامل البطولي والنفسي لفؤاد الإنسان يشي بأنّه شخصيةً غريبة وفريدة نادرة في هذا الزمن العجائبي تحمل صفات ثنائية النقيضين معاً(الألم والأمل)؛ لتخلق منها ناتجاً شخصيَّاً مُتحركاً في توجيه بوصلته الحياتية بدلاً من أنْ تدور في رَحى فَلكٍ نسقيٍّ واحدٍ مكررٍ لا جدوى من فعله. وهذا هو مكمن سرِّ مغامرته السرابية في السفر للبحث عن براءة اختراعٍ جديدة مثل قبعة الإخفاء تكفل له كرامته االمهدورة وشخصيته المعدومة، مُتخذاً نموذج(ضحكةُ موزارتَ) التاريخية الفريدة منهلاً روحياً وفكرياً في إنجاز مهمَّته الثأرية في من كان سبباً في كلِّ هذا العناء الفكري والحياتي.

ولعل أول أنساق هذا الوجع والارتداد النفسي وتمظهراته الفكرية الطافية على سطح الرواية، محاولته اليائسة بعد عام التغيير السياسي للبلد وتحوِّلاته السريعة، وعزمه على اختلاق  قصة ذاتية محبوكة يقدِّمها افتراضاً لمفوضية حقوق اللَّاجئين بالعاصمة عَمَّان في الأردنّ؛ للحصول على سمة اللُّجوء السياسي من أجل الذهاب إلى ألمانيا رسمياً، أو أي بلدٍ أوربي أخر يؤهِّله بلوغ هدفه وتحقيق وجوده الخلاصي الذاتي الأخير. لكنْ حتَّى هذه المحاولة الافتراضية عُدَّت فاشلةً ولم تلقَ في نفسه أُذناً صاغيةً مجيبةً؛ لأسباب وعراقيل وصعوبات عديدة كان لها الأثر الباغ في نفسه:

"لَا أَعتقدُ قِصتِي إنْ رَويتَهَا لَهُم سَيقتنعونَ  بِهَا. مَاذَا سَأقولُ؟ هَلْ سُجِنْتُ فِي ذَلكَ العَهدِ فِي دَائرةِ الأَمنِ مَثَلاً؟ وَأنَا لَمْ أُسجنْ. هَلْ أَودَعُونِي التَّوقيفَ بِحَجةِ رَفضِ الحُروبِ والمَعاركِ وَالبطولاتِ الَّتي ذَهبتِ بالبِلادُ؟ أنَا لَمْ أَخدمْ فِي الجَيشِ أَصلَاً وَأعفونِي بِتقريرٍ مِنْ لَجنةٍ عسَكريةٍ مُشدَّدةٍ بِأنَّني أُعانِي مِنْ ضُعفِ البِنيَّةِ الشَديدِ جِدَّاً آنذاكَ وَهِي حَالةُ وِراثيَّةٌ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 20).

لقد علَّل فؤاد أسباب فشله ومحاولته في بطلان قصته بأنَّ موظفي المفوضية يسألون الشخص اللَّاجئ في لقائه الأول عدةَ أسئلةٍ ويُسجِّلونَ أجوبتها ثُمَّ يُكرِّرون الأسئلة ذاتها في اللِّقاء الثاني، ويقارنون بين الإجابتين الأولى والثانية. فإذا اختلفت الإجابة عنهما يُرفضُ الطلب المُقدَّم للجوء. فكانت هذه هي المحاولة الأولى التي عزم النية عليها، لكنَّه تراجع عنها خوفاً من تلقى فشلاً مريباً:

"إِذنْ سَأفشلُ وَأنتكسُ اِنتكاسةَ كُبرَى؛ لِأنَّنِي بِالتأكيدِ سَأستدينُ مَبلغَ السَّفرَ إِلَى عَمَّان أوْ أيَّةَ عَاصمةٍ  أُخرَى. الطَّريقُ الثَّانِي  لَمْ أُفكرْ بِهِ؛ لِأنَّنِي لَيسَ لَدَيَّ قَريبٌ ولَا بَعيدٌ أَعرفهُ هُناكَ. وَحَتَّى إنْ وِجِدَ فَلَا أَعتقدُ أنَّهُ سَيوافقُ عَلَى طَلَبِي؛ لِكثرةِ المَشاكلِ الَّتي أَحدثَهَا أَغلبُ مَنْ دَخلَ إلَى هُناكَ بِصورةٍ غَيرِ شَرعيَّةٍ، فَصَارَ الغَريبُ مُثيرَاً لِلشكِّ وَالرِّيبةِ والظَّنِّ وَالاِتِّهامِ." (ضِحكةُ مُوزارَتَ، ص 21).

وعلى الرغم من هذا الجَيشان الشعوري والقلق والاضطراب النفسي الناشئ المحتدم من عواقب الفشل الممزوج الذي لا بُدَّ منه. ولم يبقَ من هذه المكتبة إلَّا أربعة كتبٍ منها كان لها في نفسه محبَّة خاصَّة، ولها في قلبه وقع أثير لا يمكن التفريط بها مهما كان الأمر؛ لِمَا فيها من محتوى فكري إنساني وجمالي مفيدٍ وماتعٍ ومسلٍّ شائقٍ:

"أَوَّلُها كِتابُ(المَرايَا وَالمَتاهاتُ)، وَهوَ مَجموعةُ قِصصٍ كَتَبَهَا بَورخِس، وَهوَ أحدُ أَعظمُ كُتَّاَب القَرنِ العَشرينَ. وَثانيهَا كِتابهُ(ألفُ لَيلةِ ولَيلةٍ)، وَكتِابُ القِصصِ الغَريبةِ وَالعَجيبَةُ، وَصَارَ تُراثَاً عَربيَّاً كَبيرَاً. وَثاَلثها كِتِابُ(الطَواسينَ)، لِمؤلِّفهِ المُتصوِّفِ الإشكَالِي  الحُسينُ بِنِ مَنصورِ الحَلاَجِ، أمَّا الكِتاَبُ الرَّابعُ، فًهوَ رِوايةٌ قًديمًةٌ عنُوانُهَا،(مَسرحُ الدُّمَى)، وَقَد تَمزَّق َغِلَافُهاً وَلَا أَعرِفُ كَاتبَها." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 23).

ففؤاد برغم إصراره العجيب وهاجسه على السفر خارج العراق، وقراره النهائي بالرحيل السريع مهما كانت نتائجه السلبية أو الإيجابية المحتملة، فإنَّ شبح طريدة علوان وأعوانه بات أمراً مُلحَّاً وهاجساً مؤرِّقاً لنفسه يلازمه كظلِّه في قيامه وقعوده وفي حِلِّه وترحاله. على الرغم من أنه عقد العزم بالخروج من بغداد سِرَّاً خشيةَ أنْ يراه خصيمه علوان من أنْ يفشل مخطَّطه المستقبلي، ويقضي على آخر آماله الذاتية في التصدِّي له، والقضاء على مركز سلطته الاستبدادية المؤذية؟

لم يستطع فؤاد التخلُّص من ذلك الشعور بالفشل الضافي على نفسه  التشاؤمية، فغداً مُسيطراً عليه روحاً وفكراً وسلوكاً وعملاً. حتَّى حينما فكَّر قبل السفر بقضاء ليلةٍ واحدة يمكث فيها مع صاحبه في أحد الفنادق الرخيصة ببغداد، والتي تُديرهُ ثُلَّةٌ سيئة من  النساء المُبتذلات والرخيصات من بائعات الهوى اللَّيلي سلوكاً وعملاً والتي تقول إحداهن عارضةً بضاعتها الرخيصةله بسخريةٍ:

"هُنَا كُلُّ شَيءٍ تَحتاجانهُ، وَأطلقتْ ضِحكةً هَزيلةً بَاهتةً. لَا أَثرَ لِأيِّ جَمالٍ عَلى وَجهِهَا سِوَى  الرِّتوشِ والألوانِ الَّتي حَوَّلتهَا إِلَى اِمرأةٍ قَبيحةِ المَنظرِ. قَالَ صَاحبِي: بِأنَّنَا لَا نَحتاجُ غَيرَ المُكوثِ هَذهِ اللَّيلةِ وَلَا نُريدُ أيَّ شَيءٍ آخرَ. يَبدو أنَّ كَلامَهُ لَمْ يَعجبهُنَّ، فَراحتْ إحداهُنَّ تَتحدَّثُ بِصوتٍ عَالٍ  وأسمعتنًا بًعضً تًرانيمِ البًذاءةِ وَالكَلامِ المُنفلتِ،حَتَّى اِنتهتْ إلَى أنَّ هَذَا الفُندقَ لَا يَستقبلُ المُعقَّدينَ وَالخَوافينَ مِنْ نِسائهمَا أَخرجَا وَابحثَا عنْ فُندقٍ غَيرِهِ يَقبلُ بِتافهينَ مِثلكمَا!"(ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 29).

لا أدر ي لماذا كُلَّما حاولَ فؤاد التحرُّر من الصفة التي تلاحقه،اِستَجدت طارئة أخرى من مثبطات الفشل الموجع وقتل للعزيمة التي يُخطِّط لها من أجل تنفيذ مهمته بالانتقام من مناوئه علوان السيء.

وفي سابقة أخرى لصراعه المرير مع ديستوبيا الحياة المُذلَّة، حاول فؤاد التسكُّع ليلاً في إحدى مقاهي البتاوين ببغداد لقضاء بعض الوقت، فتعرَّض له شخص مدمن خمرٍ  واعتدى عليه في مكان ضيقٍ مع اثنين أخرين من الرجال النصَّابين والمُحتالين من الذين لهم صلة بهذا الرجل اللِّصِّ الذي أشبعه بالسُّباب والتعريض والتنكيل والكلام البذيءمن أجل ابتزازه والحصول على نقوده الخاصة:

"بَعدَ أكثرِ مِنْ دَقيقتينِ بِقليلٍ رَأيتُ ثَلاثةَ أَشخاصٍ يُهرولونَ بِاتجاهِنَا عِندَمَا سَكتَ عُنْ صُراخهِ، وَاستلمنِي أحدُهُم بِالسَّبِ الَّذي لَمْ أسمعْهُ فِي حِياتِي وَجَرجرنِي فِي الزُقاقِ المُظلمِ الَّذي يُؤدِّي إِلَى الشَّارعِ العَامِ، حَاولتْ التَّخلُصَ مِنهُ؛ لَكنَّنِي فَشلتُ وَاستسلمتُ لِرغبتِهِم فِي إجبَارِي عَلَى الذَهابِ إلى سَيارةِ الشُّرطةِ الوَاقفةِ فِي الشَّارِعِ العَامِ المُضاءِ جَيَّدَاً..."  (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 31، 32).

والأنكى من ذلك كلِّه أنَّ أفراد الشُّرطة الذين هم أصلاً وجدوا لحفظ النظام وخدمة أبناء الشعب قد تعاطفوا مع معطيات الباطل، أي مع اللُّصوص وساندوهم بعفويةٍ، وبمؤشرٍ سَيِّءٍ كأنَّ لهم الحقَّ الشرعي العادل في الحصول على أموال فؤاد الخاصة؛ وذلك تَرضيةً لهم، واتقاءً شرِّهم، وإلَّا لم يتركوا فؤاداً من قُبيل حلِّ المشكلة والارتضاء بطريقةٍ غيرِ قانونيةٍ أي عشائريةٍ،لا تحبُّ أنْ تسيطر على زمام الوقائع الحدثية لنزوات النظام وهفوات المجتمع التي لا تنصلح إلَّا بالاجتثاث والتام:

"دَخلتُ غُرفتِي الصَّغيرةَ والعَابقةَ بِالرطوبةِ وَالغارقةِ بِرائحةِ عُفونةٍ مُتجذِّرةٍ، حَزينَاً أُقلِّبُ مَا جَرَى لِي مَعَ المَخمورِ وَأفكِّرُ بِهزيمتِي الأولَى فِي رِحلتِي هَذهِ. ظَلَلتُ أَبحثُ عَنْ وَسيلةٍ أَستردُ بِهَا نُقودِي الِّتي اَستحوذُ عَليهَا السِّكِّيرُ دُونَ وَجهِ حَقٍّ. لَا أُريدُ الهَزيمةَ أمامَ أُولئكَ الأَوغادِ الَّذينَ يَتَكِّسبونَ  بِأسلوبِ الاِفتراءِ  وَالباطلِ والتَّلفيقِ عَلَى الآخرينَ."  (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 33، 34).

لم ينتهِ شعور فؤاد المأزوم بهؤلاء اللُّصوص الثلاثة الذين استحوذوا على أموال منه، بل راح يشعر بالخوف  والقلق حينما يتذكَّر فعلتهم بتلك الواقعة الحدثية التي جرت معه، ويخشى على نفسه منهم. حتى بات الهروب من الفندق والتسكُّع في الشوارع والأزقة هدفه في التخلُّص من شبحهم  الذي يتراءى له باستمرار. أليس هذا التصوُّر المُوجع الذي يعتمل فؤاداً يُعدُّ فشلاً ديستوبياً قاهراً:

"ُصُعقتُ عِندمَا تَذكَّرتُ الرِّجالَ الثَّلاثةَ الَّذينَ شَهِدُوا ضِدِّي أَمامَ ضَابطِ الشُّرطةِ، كُلُّهم رَأونِي وَعَرفُوا اِسمَ الفُندقَ الَّذي أنزلُ فِيهِ. فَكَّرتُ بِمغادرةِ الفُندقِ فِي هَذَا الوَقتِ، وَأتسللُ بَينَ الشَّوارعِ والأزقةِ؛ لِأختفيَ عَنَ المَكانِ تَمامَاً. بِرغمَ خَوفِي وَذُعري، خَطَّطتُ لِهُروبِي جَيِّدَاً لَأتفادَى الوُقوعَ فِي المَصيدةِ الَّتي لَا يُمكنُ الخلاصُ مِنهَا هَذهِ المَرَّةِ."  (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 36).

أخذت هذه الحادثة الانهزامية الأليمة من فؤاد مأخذاً كبيراً على مستوى  الفكر والوقت والجهد والإحباط النفسي وما صاحبها من خوفٍ شديدٍ،خَشيةَ العثور عليه، خاصة ًوأنَّ أحد هؤلاء الرجال الخمَّارين الثلاثة عَثَرَ عليه فؤاد مُضرجاً بدمهِ، فانتابه شعور بالهلع والريبة في أنْ تَشكَّ الشرطة أو أصحابُ القتيل من أنَّه هو من قتله طلباً للثأر واسترداداً لنقوده التي اغتصبوها منه. فكان فؤاد دائماً في هروبٍ وقلقٍ وإرباكٍ مُسيطرٍ على مشاعره الداخلية، ومدمِّرٌ لنفسه الأمَّارة بالفشل الذريع:

"دَوَّت صَافرةُ الشُّرطةِ وَهيَ تَسيرُ بِموكبِ مِنْ ثَلاثِ سَيَّاراتٍ بِسرعةٍ لَافتةٍ  رَغمَ الزَّحامَ. خَمَّنتُ أنَّهم يَبحثونَ عَنْ شَيءٍ مَا فِي المَنطقةِ، وَلَمْ يَدُرْ فِي خُلدِي وَلمْ أُفكرْ أنَّهم سَيذهبونَ إلَّى مَكانِ الرَجُلِ القَتيلِ البَعيدِ ويَعبرونَ الجِسرَ. فَثمَّةَ مَركزٌ للشُّرطةِ قَريبٌ مِنْ الحَادثِ وَتَحديداً في شَارعِ السَّعدونِ." (ِضحكةُ مُوزارتَ،  ص9).

ونتيجةً لهذا الشعور الغامر الذي حَزَبَه فؤادَ كُليَّاً وسيطر على رؤية تفكيره؛ بسبب الإرباك والارتجاف والخوف والانكسار الشديد من صُلب الواقعة وأثرها المُقرِف، لم يشعر فؤادُ غريزياً بجوعٍ أو عطشٍ؛ نتيجة الصدمة؛ ولكون الوقت الذي  يمرُّ فيه فؤادُ كما يصفه هو، بأنه جبَّار أغلى من حياته، بدليلِ أنْ  صَافرة الانذار حين دوَّت مرَّةً أخرى لاذَ بالفرار؛ بسبب ذلك التحذير خلف مجموعةٍ من  الشباب والجنود كي يتوارى عن  الشرطة ورجال الأمن الباحثين عن الفاعل القتيل.

وعقب الانتهاء من عقابيل الجريمة السوداء التي تعرَّض لها فؤاد جراء أولئك الرجال المتسكِّعين والبوهيميين،تتوالى صور الانتكاس والنكوص النفسي والارتكاس الرُّوحي المُرِّ بالعودة إلى مصدر الأذى الأول علوان الذي كان السبب في شقائه وهجرته وبُعده عن أُسرته ووطنه وعمله ومحبيه:

"لَمْ تَنفعْ كُلُّ وَسائلِ الرَّدعِ والتَّهديدِ والمُضايقاتِ والشَّكاوَى ضِدَّ المَدعوِّ عَلوانَ الجَشعِ الَّذِي آذانِي وَقلَّلَ مِنْ قِيمتِي، حَتَّى اِضطررتُ يَوماً لِتأجيرِ رِجالٍ ذَوي جَاهٍ وَهيبةٍ وَمَكانةٍ وأرسلتَهُم  إليهِ لِترطيبِ الأجواءِ بَينِي وَبَينَهُ، وَلَمْ يَحصلُوا مِنهُ عَلَى شَيءٍ سِوَى الضِّحكِ وَالوعودِ وَالسُّخريةِ. هَكذَا هُمُ حَديثُو النِّعمةِ لَمْ يُبالُوا بِأحدٍ وَيَرونَ النَّاسَ أقلَّ قِيمةٍ مِنهُم. إنَّهُ يَتصنَّعُ الكَلامَ بِغباءٍ  مُباشرٍ مُثيرٍ لِلسخريةِ حَقَّاً، رَجلٌ فَظٌ وَثَقيلُ الظِّلِّ، عَلَيَّ مُعاقبتهُ لَأُريه مَنْ الوَفي؟!" (ضِحكةُ مُوزارتَ، 47، 48).

ويُبرر فؤاد الموظَّف والإنسان الطبيعي موقفه العدائي هذا من شخصية علوان مصدر صراعه الأبدي معه بأنَّه إنسان مسالم وطيَّب، وليس من شيمته إيذاءَ شخصٍ آخر طيلة حياته؛ ولكنَّه حينما  سار في ركاب هذا الأمر الصعب تُجاه  نقيضه علوان كان مُضطراً لفعله هذا معه في الدفاع عن نفسه. وكان مُستغرباً من فيض شعوره الذهني  حياله، مُعلِّلاً إثر هذا الاستغراب بأنَّ وراء علوان قد تكون قصةٌ غريبة ما يَضمرُها عنه وربما تكون نتائجها مهلكةً له وتهدِّدُ وجوده. وفي انعطافةٍ  استذكاريةٍ أخرى  يُخبرنا الراوي العليم (المؤلِّف) بترجمان لسان بطله علوان الذي يقول متأكداً:

"عَلوانُ لَمْ يَبِعِ البَيتِ الَّذي اِستأجرهُ أَنَا مُنذُ سَنةٍ كَمَا يَدَّعِي، وَسَمعتُ أنَّهُ يُحاولُ إخراجِي مِنْهُ؛ لِيبنيَ عُمارةً عًلًى أرضِهِ. وَهوَ لَا يَبيعُ، بَلْ يَشترِي المَزيدَ، وَأعتقدُ أنَّ حَربَهُ ضِدِّي بَدأتْ مُنذَ لَيلةِ حَادثةِ الحَقيبةِ الَّتِي رَفضتُ إدخالها إلَى بَيتِي، وَكَانتِ التَّكهناتُ تَقولُ إنَّهُ يُتاجرُ فِي المَمنوعاتِ مَعَ عِصابةٍ تَابعةٍ لَهُ. مِنْ صَاحبِ مُقهَىً مُتواضعٍ إلَى تَاجرٍ كَبيرٍ ثَريٍّ مَغرورٍ وَأخرقٍ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 48).

ويبدو لي أنَّ سبب التوتر والكراهية والعداء بينه وبين علوان كان ناتجاً عن الحسد والغيرة وربَّما صفة النجاح الشخصي. كما أنَّ أقرانَ فؤاد وأصدقاءَه يَضمرُون له الحسد خلال سنوات الدراسة  عندما كانوا يختبرونه بأسئلةٍ صعبةٍ فَيتمنون زوال نعمته العلمية وذكاءَه وفطنته العقلية الشديدة.

لم تنمحِ صورة علوان المؤذية من تفكير فؤاد، وصارت تتراءى له حتَّى في خيالاته وأحلامه ويقظته.إنَّه شبح لا يمكن إزالته من تفكيره المشدود له وهو بعيد عنه خلال هجرته وسفره للخارج:

"مَرَّ وَجهُ عَلوانَ القَبيح ِأَمامِي سَريعَاً وَكِدتُ أَصفَعهُ وَأقضمُ كَتفَهُ بِملءِ أَسنانِي لَولَا اِنتباهِي فِي اللَّحظةِ الأَخيرةِ بِأنَّها خَيالاتٌ."(ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 58). هذه  صور الخوف التي تتراءى له باستمرار.

ومن أكثر صور التشاؤم والخوف والفشل والخذلان بشاعةً واستغفالاً وسوداويًة لِديستوبيا الواقع الإنساني المرير الذي مرَّ به فؤاد إثر سفره إلى تركيا، ومنه إلى مدينة أزمير التي تنطلق منها هجرته الدَّوليَّة إلى ألمانيا، ومنها الوصول لمختبر الدكتور يوهان هولمر. تلك الواقعة التي تعرَّض لها نتيجة وقوعه ومن معهُ بفخٍ مُعدٍّ من قبل فئة المُهرِّبين الذين احتالواعليه وعلى غيره من العرب  المهاجرين إلى أوربا، حينما أوصلوهم بسيارتهم المُهيَّأة للتهريب إلى البحر على أمل ركوب  الزوارق البحرية  بعيداً عن أعين الشرطة التركية؛ لكنَّها كانت مَكيدةً  ونَصبَاً واحتيالاً مُرَّاً عليهم:

"-أَلُو-ألُو،عَرفتهُ أنَّه السَّائقُ الَّذي تَركنَا مُنذَ سَاعةٍ.لَا تَتَحركُوا مِنْ مَكانِكُم حَتَّى العَامِ القَادمِ؛ لِأنَّني أَخافُ عَليكُم مِنَ النَّصبِ وَالاحتيالِ، فَالزورقُ لَمْ يَأتِ، لِأنَّه لَا زَورقٌ أصلَاً، وَلَا تَهريبٌ، عِيشُوا وَكُلوا غَيرَهَا حَبابينَا! وَأطلقَ ضِحكةً مَاكرةً ذَكرتنِي بِضحكتِهِ فِي المَرأبِ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 61).

هذه الواقعة الحدثية التسريدية المُوجعة الأثر، هي أوَّلُ غيثٍ من غَمام أمطار فكرة الهجرة التي أصابت فؤاد من ألاعيب وحيل المخادعين ثُلَّة المهرِّبين، والتي على إثرها ندب فؤاد حظَّه السيء العاثر حيال ما شعر به من خوفٍ وارتعاشٍ ونكوصٍ واستغلالٍ وفضيحةٍ لا يمكن إخبار عائلته بها بعد أن خسر أجرة التهريب لأوربا التي تسلَّمها المهربون منهم مُقدَّماً وأوقعوهم في المكيدة الكبيرة.

كلَّما ضاقت مِساحاتُ الفشل وصور القمع والاستبداد وروح الانكسار والخذلان التي تعرَّضت لها شخصية البطل المثابر الدؤوب فؤاد، اتسعت الرؤيا لمحاولات الإصرار والعزيمة في التغلُّب على الإخفاقات والنكوصات النفسية والعملية المريرة التي تفرضها وقائع القدر ونوازع المُسبِّبَاتِ الكيدية العارضة والتي تحول دون الوصول للهدف الموعود  في تحقيق آماد بُغيته للتغلب على علوان والقضاء عليه بالعزم على استمرار هجرته لألمانيا، وجلب تقنية الابتكار أو طاقية الإخفاء.

وإذا كانت  المحاولة الأولى  في الهروب قد فشلت في تحقيق هدفها، فإنَّ الإصرار القويَّ على تكرار غيرها بروحٍ وهمةٍ عاليةٍ هو منتهى الأمل الذي يُجدِّد عزيمته ويمنحها جلداً وصبراً وإقداماً:

"بِالرغمِ  مِنْ أنَّ الحَربَ الَّتي أَعلنَهَا ضِدِّي لَمْ تَكنْ مُتكافئةً. بَدأَ القَاربُ بِالتحرُّكِ فِي رِحلةِ البَحرِ  المُروعةِ بِالنسبةِ لِي، وَهذهِ أولُ مَرَّةٍ أَصعدُ فِي مَركبٍ فُوقَ المَاءِ فِي حَياتِي، وَبَدأتْ دَقاتُ قَلبِي تَقرعُ طُبولَ الخَوفِ. أولُ مَرَّةٍ أخطُو هَكَذَا خُطوةُ جَريئةً وَخَطرةً. هَؤلاءِ يَبحثونَ عَنْ مُوطنِ قَدَمٍ  فِي أُوربَا كَبديلٍ لَهُم وَأنَا أُغامرُ فِي هَذَا الخِضَمِ والقَلقِ كَيْ أفلحَ فِي مُعاقبةِ عَلوانَ البَشعِ الجشع. وَأتمنَّى أنْ يَتعاطفَ مَعِي الدُّكتورُ وَيُعطينِي القُبعةَ لِتجربتِهَا فِي مُهمَّةٍ لَمْ أدرِ تَحديدَاً مَدَى نَجاحِها وَتحقيقَ حُلُمِي. رُبَّما سَفرتِي هَذهِ لَنْ تَكونَ بِمستَوَى مَا فَعلتُهُ مِنْ أجلِهَا..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص72).

إذن الهدف الأساسي من كلِّ هذه الأهوال والصراعات هو القضاء على  نظيره علوان ومعاقبته مهما كانت  نتائج رحلة هذا البحث عن السراب غير الواضح الذي غامر من أجله لإعلان راية الانتصار عليه.ولكنَّ الأهم في كلِّ تلك المحاولات الديستوبية المريرة، هو شحذ العزيمة والإصرار وتكرار المحاولات الفاشلة بأخرى جديدة من أجل تحقيق مشروعه الإقصائي الذي هو بمثابة صرخةٍ للوجود الهاملتي (أكونُ أو لًا أكونُ)، وإلَّا فلا فليجلَّ الخَطبُ وليفدحَ الأمرَ الصارمَ ثورةً.

ويمضي فؤاد قُدُمَاً يَطرق وسائل الهجرة الخطرة المتاحة مرتحلاً بسفره إلى ألمانيا بصحبة رفيقه العراقي حسن وعائلته، وقد جال بخاطره وهو في السيّاَرة، ماذا سيحصل له عند الدكتور هولمر من مفاجآت صادمة؟  لكنّ الأمر المزعج في ما كان يدور بِخُلدِهِ، وهو غارق في الأحلام في غير وعيه ويقظته. فقد كان هاجس الرعب والخوف في عوالمه الداخلية مسيطراً على عقله الباطن تماماً ولا يمكن الفكاك من التفكير بعلوان وما فعله به وما سيفعله بعائلته مجدَّداً في غيابه:

"لَمْ أنَمْ كَمَا فَعلَ الرُّكابُ الآخرونَ، كُنتُ أَطوفُ بِعوالمِي وَمَا سَيحصلُ لِي عِندَ الدُّكتورِ هَولمَر. لَكنَّني فَزعتُ عِندَمَا جَالَ خَاطرِي بِعلوانَ المَعتوهِ المُزعجِ الَّذِي سَبَّبَ لِيْ قِلقاً وَهوَ يَفعلُ كُلَّ أنواعِ المسَاوِئ لِطرَدي مِنْ بَيتِهِ، تُرَى مَا سَيفعلُ مَعَ عَائلتِي إنْ عَلِمَ أنَّني مُسافرٌ؟ هَواجس ٌظَلَّتْ تَدورُ فِي عَوالمَ مِنَ الإحباطَ وَالفَشلِ وَبُلوغِ اليَأسِ، كُلَّمَا صَارَ شَبحُ عَلوانَ وَقريبهِ المَسؤولِ أَمامِي إنَّهُمَا خَارجُ نِطاقِ البَشرِ الَّذينَ عَرفتهُم وَقَرأتُ عَنهُ، وَخَاصةً عَلوانُ ..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 92، 93).

والملاحظ على الكاتب إبراهيم سبتي من خلال تسريده الحكائي الفاعل لصورعقابيل هذا الفشل الموجع وتكرار الشعور بالخيبة والانكسار والتراجع أنَّه ينكبُّ بذكاءٍ وحرفيةٍ واثبةٍ ووعيٍّ في استخدام وتوظيف تقنيات الاستقدام والاسترجاع السردي الحدثي(الفلاش باك)في الحفاظ على وحدة الرواية العضوية كسجد عضويٍّ واحدٍ لا يمكن تجزئة أعضائه أو التفريط به في فصول  الرواية. فضلاً عن مزيَّة التجديد والتنوع في أسلوبية السير بمسارٍ واحدٍ رتيبٍ قد يشعر معه القارئ بالمللِ.

فتراه تارةً يركن في تصويره لمشاهد رحلة البحث عن الابتكار أو المكنون الإخفائي إلى تقنية الاستقدام أو التقديم الحدثي كي لا يشعر معه القارئ بالسأم والملل والرتابة والخمول والإهمال، وتارةً أخرى يعود مُجدَّداً إلى تقنية الاسترجاع أو الرجوع إلى الترتيب الزمكاني الحدثي اعتماداً على وتيرة الاتصال من خلال تقنية الفلاش باك الفني لمجريات الحدث الموضوعي للرواية.

فإنَّ هذه التقنيات الفنيَّة تمنح الخطاب النصِّي السردي قوةً إشراقيةً موضوعية وتزيده تماسكاً  فنيَّاً وجمالياً يجعل من المتلقي مُتشوقاً  لمعرفة الآتي من الأحداث. ومثل هذه الآليات السردية التي يناور بها الكاتب في تخليق روايته تتطلَّبُ مَهارةً عاليةً ودِربةً فنيةً من كاتبها للإمساك بتلابيب نسيج الرواية وتوجيهها بشكلٍ سلسٍ دونَ عقبات تعرقل سيرها في استكمال بقية فصولها الأُخر.

والأمر الآخر الملاحظ على بوصلة أسلوبية إبراهيم سبتي السرِدية هو إيمانه الحقيقي والثابت بقضية تغيير الأمكنة الزمانية واستبدالها بأخرى على الرغم من حبّه لمنبتِ عَيشهِ الأرضي الأول:

"لَا بَأسَ بِالتَّغيُّر، نَحنُ بِالتالِي بَشرٌ وَاجبٌ عَلينَا اِستبدالُ الأمكنةِ بِأُخرَى أفضَل رَغمَ أنَّ المَكانَ الأوَّلَ هُوَ مَنبتُ جُذُوري وَحَنينِي وَلَا أُبدِّلهُ بِأيِّ مَوقعٍ فِي الأرضِ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص  104).

والأمكنة التي يتحدَّث عنها فؤاد في سفره لرفيقه المهاجر بمعيته حسن، هي في الواقع أمكنة أرضية محببة النفس، ولكن قد تكون وحدة هذه الأمكنة افتراضيةً معنوية وليست ماديةً مكانيةً بحتةً، فهو يتحدَّث عن البدائل الزمكانية ولو لفترةٍ قصيرة يقضي من خلالها حاجته الذاتية، ولا يهمُّه أيَّاً كان المكان. المهمُّ أنْ يصلَ إلى مُبتغاه الأنوي الذي بذل من أجله كلَّ غالٍ ورخيصٍ ماديٍّ.

ثانيةً يأخذنا فؤاد الراوي إلى العودة في التفكير القهري بما يفعله المهرِّبون من صور الاحتيال الكثيرة ووسائط الاستغفال المتاحة،وفرضية المكائد والخداع والريبة والجزع لجموع لمهاجرين. إنها صورة مؤلمة جِدَّاً تَظهر لهم بين الفِينةِ والفِينةِ الأخرى شوكة في تفكيره وتذهب به بعيداً مخاطرها ومآلاتها الضبابية غير الواضحة وما سيحدث لهم من مفاجآتٍ مُثيرةٍ وصادمةٍ مُذهلة:

"بَدأتُ أَسمعُ مِنْ حَسنِ كَلامَاً فِيهِ بَعضُ الرِّيبةِ في سِيرنَا، وَأنَّ الدَّليلَ المُتطوِّعَ إمَّا سَيُسلِمُنَا إِلَى الشُّرطةِ أوْ سَيأخذُنَا إِلَى التِّيهِ وَفُقدانِ الأثرِ، أوْ سَيبيعُنَا عَلَى تُجَّارِ الأعضاءِ البَشريَّةِ، وَهَذا مُمكنٌ جِدَّاً فِي مِثلِ هَذهِ الظُروفِ.. عَلينَا أنْ نَتأكدَ مِمَّا يَضمرُهُ فِي رَأسِهِ لَنَا. ضَحكتُ وَأجبتَهُ بِأنَّنا أُسوةٌ  بِالآخرينَ، نَسيرُ مَعَهُم وَنَتوقفُ معَهُم. َومَا يُصيبُهم سَيصيبنَا بِالتأكيدِ، وَلَو أَنَّ لا ثَوبَ أبيضَ فِي مَنجمِ الفَحمِ." (ضِحكةُ مَوزارتَ، ص 112). والعبارة الأخيرة بلاغتها تشير إلى سوداوية الأمر واستوائه.

ومن بين اللَّوافت الأخرى التي تثير حفيظة القارئ وتُمتِّعهُ بجمال حكاياتها الشائقة على الرغم من فداحة الرحلة وقساوتها، هي استدعاء الكاتب أو الراوي العليم واستحضاره على لسان راويه البطل فؤاد المشاهد التذكارية للمدن والرموز والشخصيات الفنيَّة العالمية من أمثال موزارت عند دخوله للأراضي النمساوية في رحلته التهريبية.وبالذات أثناء مروره بمدينة الفنَّان موزارت ومنبت أصله(سالزبورغ)،وَتَوقهِ الشديد لرؤية  بيته والاطِّلاع على معالم آثاره التاريخية والفنيَّة والجمالية:

"إِذنْ نَحنُ دَاخلُ الأراضِي النَّمساويَّةِ، وَلَنْ يَفصلَنَا الكَثيرُ عَنْ ألمانيَا. لِلأسفِ الشَّديدِ لَمْ أستطعْ رُؤيةَ مَنزلِ مُوزارتَ؛ خَشيةَ مُصادرةُ بَعضِ الوَقتِ المُهمِّ مِنْ رِحلتِنَا وَنَحنُ عَلَى عَجلٍ مِنْ أَمرِنَا، غَيرُ مُصدِّقٍ بَأنَّني فَي مَسقطِ رَأسَ العَبقريِّ الَّذي أتخيَّلُهُ كَمَا فِي الفِيلمِ وَهوَ يُؤلِّفُ مُوسيقاهُ فَتوجَّهَتْ إليهِ سِهامُ الحَاسدينَ وَالحَاقدينَ"(ضِحكةُ مُوزارتَ، ص130). والعبارة الأخير للنصِّ في تخيَّل الفيلم إشارة سيمائية واضحة وموحياتها دالة على الربط بين أحداثه والرواية، وما لَقيه بطله المِقدَام فؤاد من الحسد والحقد والعداوة والإقصاء السوداوي مثل ما لقيهُ بطل فليم موزارت من عداءٍ بَيِّنٍ.

إنَّ صيغة الاستدعاء والاستذكار هذه لموزارت ولموسيقاه ولإرثه الأرضي يشي  جيِّداً بأنَّ فؤاداً شخصية إنسانية ليست عاديةً كباقي المهاجرين الآخرين الذين لا يهمهم  الفنُّ والثقافة، بل كان من المهتمين جداً بفنِّ موزارت  وبموسيقاه وإرثه الثقافي الفنِّي. وهذا يعني بأنه قارئ ومتذوقٌ صاحب مشروع ثقافي وفكري. على الرغم من كونه مُهاجراً عادياً يروم بهجرته الوصول لمبتغاه الأخير. وقلَّما تَجدُ في الروايات البطل من صنف المثقفين المُهتمين بفنِّ المُوسيقى ورموزها الفنيَّة العالمية.

وقبيل الوصول لألمانيا وفي آخر محطَّة من محطات البحث عن السراب، وأثناء القيام بفترة أخذ استراحة قصيرة ليتمتَّعَ بها فؤاد مع صُحبة رفيقه المهاجر حسن العراقي وعائلته التي تضمُّ زوجتهُ وابنته الشابَّة الوحيدة، يتدخَّل فؤاد في نزع فتيل الخلاف الأُسري وإخماد حدَّتهِ بين العائلة. بيدَ أنَّ زوجة حسن تقمع فؤاد بردِّها المُفعم عليه وغضبها الحاد السريع اللَّافت منها في ممارسة سلطة الرفض الديستوبي والمجابهة المُباشرة معه. وهذا يعني أنَّ فؤاداً قد فشل حتَّى في إيجاد تسويةٍ أو وساطةٍ مؤقتةٍ لخلاف تلك العائلة الصغيرة المُحتَقَنة بالهمِّ والحزن، وبالتالي لقي رداً قاسياً منها:

"وَيَبدو أنَّ الزَوجةَ لَمْ تَدعْ تَدخلِي فِي إِخمادِ الفِتنةِ بَينهُمَا يَذهبُ مَعَ الرِّيحِ، فَتدخَّلتْ مُحاولِةً لَجمِي وَإسكاتِي حِينَ قَالتْ بِغضبٍ وَتوترٍ وَمِزاجٍ مُضطربٍ: وَفِّرْ كَلامَكَ لِنفسكَ، لَمْ نَطلبْ مِنكَ النُّصحَ والإرشادَ وَالتَّدخُلَ! لَمْ أَردُّ عَليهَا وَسَكتُّ أنظرُ إِلَى الطَّريقِ النَابضِ بِالجمالِ وَالدَّهشةِ، وَلَا أُريدُ أنْ أخرجَ مِنَ الحُلمِ الَّذي غَرقتُ فِيهِ. لَكنْ حَسنٌ وَبَّخَهَا وَطلبَ مِنهَا الاِعتذارَ لِي، لَمْ تَعتذرْ فَظلَّتْ تَضمرُ لِي بُغضاً كَمَا خَمَّنتُ. عَذرتُها لأنَّها لَمْ تَحفلْ وَتعِشْ اللَّحظةَ التَّاريخيةَ وَهيَ تَمرُّ فِي بَلدةِ مَوزارتَ. رُبَّما أَنَّهَا بِبساطةٍ لَمْ تَسمعْ بِهِ إطلاقَاً فَلَا طَائلَ لِلكلامِ مَعهَا..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 131) .

وعلى الرغم من اقتراب هجرة فؤاد القسريَّة من منتهاها الأخير بصحبة عائلة حسن رفيق دربه الشفيف في السفر، بيدَ أنَّ فؤاداً لم يتخلَّصْ من  شبح علوان المُفزع  ومن صورته البشعة المؤذية التي يستحضرها في أحلامه وكوابيسه وسيطرتها على  فكره وخواطره. وهذه يدلِّلُ بوضوحٍ على أنَّ فؤاداً لم يكن مرتاحاً من المدعو علوان ومن فعل سلوكياته المُضمرة والظاهرة بالقضاء عليه:

" هَدأتُهُ وَلَمْ أُبالِ بِمَا قَالت وَأخبرتُهُ إِنَّنا الآنَ دَخلنَا فِي الأراضِي الألمانيةِ وَمَا عَليكُم سِوَى الصَّبرِ وَالرَّاحةِ وَرُبَّما لَا أَراكُم مَرَّةً أُخرَى،كَانتْ تَجربةً شَيِّقَةً لَمْ أحسبْ حِسابَهَا وَبِرغم ِالجُهدِ الَّذِي بَذلتُهَ فإنَّ الكوابيسَ لَمْ تَأتنِي، ويُمكنُ لِأَنَّني لَمْ أنمْ كِفايةً. بَاغتنِي حَسنٌ:كوابيسٌ!- نَعمٌ كَوابيسٌ ذَلِكُم المَدعوعلوانُ الَّذي لَمْ تُفارقنِي صُورتُهُ وهَيْأَتُهُ القبيحةُ فِي حِلَّي وَتِرحَالي؟"(ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 137).

ومن المفارقات اللَّطيفة التي يُوثِّق فيها فؤاد ويؤرخن زمكانياً لأنظمة تلك الدول والأمكنة، وحرص أفرادها على تطبيق القانون والالتزام به من خلال مرور سيارتهم بنقطة تفتيشٍ على الحدود الألمانية لم تكن في فكر الحسبان. والَّتي غاب عنها عنصر الشرطة لِلحظاتٍ طارئةٍ وتركها لأمر مفاجئ وسيعود بعدها لمكانه المخصَّص له.

ولكونهم مُهاجرينَ غيرَ نظاميينَ، فقد استغلَ فؤاد وحسن عدم تواجد الشُّرطي في النقطة وطلب لحظتها من المُهرِّب الشاب سائق سيارتهم التكسي التي تَقلُّهم لألمانيا انتهاز الفرصة والإفلات منها بتجاوزها طالما الشُّرطي لم يكن حاضراً فيها،غير أن المُهرِّبَ برغم كونه مخالفاً رَفضَ الاستجابة لطلبهما؛لكونه مُتقيِّداً بلائحة النظام والقانون؛لكنَّه خضع لهم أمام سلطة المال وتجاوز النقطة حالاً:

"أَشرنَا لِلسائقِ بِالتقدُّمِ وَالخروجِ مِنَ النُّقطةِ. رَفضَ خَائفَاً وَتَعجَّبَتُ مِنْ مُهرِّبٍ يَخافُ مِنْ نُقطةٍ خَاليةٍ مِنَ الشُّرطةِ.  فَأخرَجنَا لَهُ وَرقتينِ مِنْ فِئةِ مَائةِ  يُورو هَزَّ رَأسَهُ مُوافقَاً  وَانطلقَ  مُسرِعَاً. يَا لَهُ مِنْ مُهرِّبٍ يَتقيَّدُ بِالقوانينِ! تَنفستُ الصُّعداءَ وَشَكرتُ مُهرِّبِنَا الَّذِي لَمْ يَفهمْ مَا بَدَرَ مِنِّي..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 143، 134).

وعقب انتهاء رحلة فؤاد إلى ألمانيا ووصوله إلى مختبر(المستفبل القريب) للدكتور يوهان هولمر الذي يبحث فيه عن ضالته الأخيرة، راح فؤاد يُبرِّر تَعبه وتعرضه الشديد لكثير من المخاطر الجمَّة والأهوال الصعبة في البحث عن السراب مآله الذي ينقذه ويُنجيه ويُحدِّد مُستقبله الحياتي مَعَ مُبغضهِ المدعو علوان الوقح، لا لغرضٍ ترويحي ذاتي أخرَ مثل بقية الناس المُهاجرين الذين ينشدون الحياة الحُرَّة الكريمة  والعيش الرغيد، بل كان هدفه الأول والأخير هو كيفية القضاء على  وجود علوان في مدينته الجنوبية، والِّتي حرمه من العيش فيها بأمان  دائم بدلاً من التهديد:

"هَذَا الوَغدُ الَّذي أُسلوبُهُ مَعِي عَلَى رُكوبِ الأهوالِ والمَخاطرِ في أَرضِ اللهِ الوَاسعةَ. بَعدَ عَشرِ  دَقائقَ حَضرتِ المَرأةُ وَأشارتْ لِي بِالدخولِ إلَى غُرفةِ الدُّكتورِ أو مُختبرهِ بِصراحةٍ لَمْ أَرتحْ لِهذهِ الحَركةِ، وَهَلْ أنَّ كُلَّ مَنْ يَأتي  لِلدُّكتورِ يَدخلُ مَشغلَهُ؟" (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 147).

هذا الموقف الذي واجهه فؤاد كان سبباً من أسباب فشل مهمته في ألمانيا، والذي ستعقبه إحباطات ونكوصاتٌ  كثيرةٌ أخرى غير متوقِّعة في التفاوض من أجل الحصول على ضالة هدفه الأساس:

"لَقدْ تَحمَّلتُ كُلَّ تِلكَ الطُّرقِ المُوحشةِ وَغَيرِ قَانونيةٍ فِي السَّيرِ لِساعاتٍ كَي أَقابلَكَ. قَرأتُ أَنَّكَ تَقومُ بِتصنيعِ قُبعةِ الإخفاءِ وَهوَ الاِختراعُ الأولُ فِي العَالمِ!" (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 148).

هذا الكلام الإقراري لفؤاد موجَّهاً مباشرةً للدكتور يوهان هولمر، ولتقرأ كمية الامتعاض والنفور منه وعدم الارتياح لما لاقاه منه. في الوقت الذي كان هدف فؤاد من رحلته المضنية واضحاً في الحصول على سلاح تقنية قبعة الإخفاء السحريَّة التي يمتلكها صاحب الاختراع الأول الدكتور يوهان هولمر، ليس لفؤاد في الواقع هدف شرير آخر يبغي من الحصول على فائدة مادية أو إبداع:

"عَاهدتُ نَفسِي أنْ لَا تُستخدَمَ فِي غَيرِ مَحلِّهَا وَلَا أُريدُ إيذاءَ النَّاسَ، وَلَا اَستخدمُهَا فِي إهانتِهُم أوْ  سَرقتَهُم أوْ أبغِي النَفعَ المَادِي مِنْ وَرائِها. (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 150). هكذا دار فحوى الحوار بين فؤاد والدكتور هولمر . ومع كل  ذلك تعرَّض الحوار بينهما إلى انتكاسات عدةٍ وفشل ذريع في كلِّ مرَّةٍ يصلان لنقطة اتفاق ما بينهما، وكان النكوص والتلاشي ضالتهما الأخيرة دون حصول اتّفاق تامٍّ:

" لَقدْ خُدِعْتُ وَتَحمَّلتُ السَّفرَ المُذلَّ، وَفَشلتُ فِي نَيلِ مَطلبي الَّذِي صَارعتُ القَدرَ حَتَّى أَحصلُ عَليهِ. مَدَّ الدُّكتورُ يَدَهُ لِيسحبَهَا مِنِّي بِقوّةٍ وَقَدْ تَجَهَّمَ وَجهُهُ وَبَانَ عَلَى قَسماتِهِ الاِضطرابُ والاِنزعاجُ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 154).

هكذا يسير مؤشِّر المفاوضات الجارية وتنحرف بوصلتها عن الاتجاه الصحيح بين فؤاد والدكتور هولمر بخطواتِ فشلٍ مُتعثرةٍ.فكُلَّما وصلت إلى نقطة اتفاقٍ مُهمةٍ ظهرت الخلافات وبانت شُقَّةُ  الخلاف بينهما في إبرام العقد بسبب حساسية المنتج الجديد على الرغم من أنَّ فؤاداً يّعدُّ هذا الاتفاق الذي سار من أجله حلمَ الأحلامِ منذ نشوء الخلق، وسيخلِّدهُ التاريخ، وسيقول لكلكامش العراقي أنَّك لم تحصل على الخلود، بل أنا الذي  حصلت عليه في هذه التماهي  التاريخي الأُسطوري الذي  يرمز  إليه فؤاد في إفشال مُهمَّة كلجامش في البحث عن عشبة الخلود الأبدية لأنكيدو بطل ملحمته:

"قُلتُ فِي نِفسِي: أَيعرفُ هَذَا الدُّكتورُ جِلجامِشَ؟ هَلْ سَمِعَ بِهِ  مَثَلاً؟ أَعتقدُ أنَّ مَلحمتَهُ قَدْ قَرَأَهَا كُلَّ العَالمِ بِكُلٍّ اللُّغاتِ، إنَّها المَلحمةُ الِّتي أَخبرتَنَا بَأنَّ الأفعَى قَدْ قَضمتْ عُشبَةَ الخَلودِ وَحَرمتُ جِلجامَشَ مِنهَا يَا لِسوءِ الأقدَارِ!" (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 156).

هكذا يُفكِّر الراوي العليم بإدارة فكرة الحوار الحكائي في أسلوبه الأسطوري التاريخي؛ لإدامة  حركة الرواية وإسناد عناصر فاعليتها السَّرديَّة بمثل هذا البناء  التناصِّي  مع أساطير الشعوب.

وليس كُلُّ هذا ما يدور في فكر إبراهيم من أساليبَ سرديةٍ تُغذِّي فكر المتلقِّي بالنافع الجميل  والمًفيد من فنون العالم وآدابها السامية لإدامة  الزخم  الفكري  للقارئ خلال آليات التلقِّي المعرفي  السردي. وهذا يقودنا للحديث عن عتبة عنوان الفيلم العربي(طاقيةُ الإخفاءِ) لبطله المُثِّل العربيِّ المصري عبد المنعم إبراهيم؛ لكونِ محتوى الرواية له عَلاقة فنيَّة وموضوعيَّة بعنوان الفيلم وأحداثه الشائقة  لتحويلِ فيوضات حُلمهِ إلى حقيقةٍ مدهشةٍ على فضاء الواقع الإنساني الحدثي:

"إذنْ فَأنَا حُرٌّ طَليقٌ بَعدَ إجراءِ التَّجربةِ لَأرتديهَا وَأخرُجُ مِنْ هُنَا قَافِلَاً إلَى بِلادِي؛ لَأُنفِذَ مَا وَعدْتُ  نَفسِي بِهِ تُجاهَ عَلوانَ وَقَريبِهِ المَسؤولِ. ثُمَّ أعيدُهَا لِصاحبِهَا بَعدَ أنْ أُحَوِّلَ الحُلُمَ إلَى حَقيقةٍ وَلَيسَ خُدعةُ سِينمائيَّةً كًمًا فِي الفِيلمِ الَّذي مَثَّلَهُ عَبدُ المُنعمِ إبراهيمَ، وَلَا خُرافةٌ كَمَا يُشاعُ عَنهَا، وَلَا خَزعبلاتٌ. سَأثبتُ أنَّهَا أصبحتْ وَاقعَاً ملموسَاً أَمسكُ بِهِ..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 156، 157).

لقدْ فَشلَا نتيجةً لفقدانِ الثقة بينهما واتِّساع هوَّة الخلاف في من يكون من الطرفين صادقاً بوعده وفيَّاً بالتزامه إثر إتمام التجربة من قبل فؤاد والاطمئنان عليها في مدى صلاحيتها المستقبلية الناجزة:

"إنَّهُ أمرٌ صَعبٌ. ظَلَّ الرَّجلٌ يَلحُّ كَثيرَاً بِأنْ أَسرعَ فِي إجراءِ التَّجربةِ، وَأنَا غَارقٌ فِي تَفكيرِي لإيجادِ وَسيلةٍ تَقنعهُ بِأخذِهَا مَعِي[أي طَاقيةُ الإخفاءِ]. الرَّجلُ العَجوزُ مُستميتٌ بِانتظارِ نَجاحِ تَجربتهِ الَّتي أفنَى كُلَّ عِمرِهِ فِي صُنعِهَا كَمَا يَدَّعِي. كَانتْ أفكارِي تَنثالُ عَلَيَّ وَلَا أستفيدُ مِنهَا؛ لأنَّها لَا تَجعلهُ يَقبلُ بِإعطائِي القُبعةِ ذَاهبَاً بِهَا إلَى بِلادِي." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 160، 161).

وعلى وفق ذلك الاتفاق المُتعثِّر بالفشل لما جَرى ويحدثُ من مفاوضاتٍ وئيدةٍ صارمةٍ، وصلت فيها  الأمور بينهما إلى آخر مَحطَّةٍ من محطَّات التعقيد والفشل الموجع التي لقيها فؤاد في سلسة مفاوضاته الساخنة مع دكتور هولمر، والتي انتهت بالفشل المرير دون الوصول إلى اتفاق نهائي.

وقد حدث ذلك الفشل وبانت مواجعه التَّأزُّميَّةُ الخاسرة لحركة البطل السوداوية من خلال حلِّ حبكة الصراع الدائر بين الخير والشرِّ، والتي انتهى إليها الكاتب إبراهيم سبتي في خواتيم روايته حينما تلقَّى البطل فؤاد في معرض اتِّصاله الهاتفي الذي أجراه مع أهله وأسرته بالذات خبراً صاعقاُ مَفاده مقتل غريمه وعدوه أسّ الحكاية في العراق المدعو علوان؛ وذلك من خلال ظروفٍ غامضةٍ كان صداها المدويُّ على نفسه أشبه بالنصر البعيد الذي تحقَّق له بعد أنْ فشل في جميع مباحثاته وخاصةً الأخيرة مع الدكتور هولمر، الأمر الذي سبب له الإغماء نتيجة وقع أثر الصدمة:

"وَلكنَّنِي وَاصلتُ اِتِّصالِي بِعائلتِي فَانسابَ صَوتُ زَوجتِي لِتطمئنَ عليَّ. تَكلَّمتُ مَعهَا بِكُلِّ جَوارحِي  وَاشتياقِي إلَى بَيتِي وَسمعتُ صَوتَ اِبنِي؛لَكنْ صَوتُ زَوجتِي عَادَعَاليَاً:-اسمع.. رَاحَ صَوتُها يَتقطَّعُ ..عَلوانُ.. مَا لَهُ عَلوانُ؟ -قُتِلَ .. مَاذا.. قُتِ..لَ .. قَتلوهُ.. كَيفَ؟ مَنْ قَتلَهُ؟ اِنقطعَ الاتِّصالُ لِنفادِ العُملةِ المَعدنيةِ. شَعرتُ بِالإغماءِ  وَالرعشَةِ تَسرِي فِي عُروقِي..." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 169).

وبعد سماعه لنبأ مقتل علوان سببُ وجعه وضياعه وتشتُّته وَتِيهِهِ وتَغَرُّبه في بلاد الهجرة، ومروره  بحالةٍ من الذهول والارتعاش والصدمة غير المتوقَّعة لِمَا تَلقاه مِن خبرِ مَقتله الصادم، استعادَ فؤاد وعيه بالكامل جرَّاء المكالمة، وتنفس الصُّعداءَ، وشعر بأنه  لم يعد هناك حاجة لطاقية الإخفاء التي جنَّد نفسه لها وراح يبحث عنها في مسرى رحلته السرابية المُوجعة التي كلفته مَالاً وجهداً كبيراً:

"إنَّهُ لِكلامٌ كَبيرٌ وخَطيرٌ. اِرتحتُ كَثيرَاً وَانتَعشتُ وَزادنِي الخَبرُ الصَّاعقُ بِالثقةِ الَمفقودَةِ مُنذُ زَمنٍ. وَشَعرتُ بِنشوةِ الفَوزِ فِي المَعركةِ وَلَمْ أعُدْ أحتاجُ إلَى القُبعةِ وَلَا حَتَّى البَقاءِ هُنَا. لَمْ تَسمحْ لِي دَقائقُ الاتِّصالِ، بِإخبارِ زَوجتِي أنَّ الجَامعةَ التُّركيةَ سَتردُّ عَلَيَّ بَعدَ أُسبوعٍ حَولَ قُبولِ طَلبِي أوْ رَفضَهُ. مَعَ أنَّي لَمْ أُقَدِّمْ لِأَيةِ جَامعةٍ وَلَكنَهُ العُذرُ الَّذي سَافرتُ بِهِ." (ضِحكةُ مُوزارتَ، ص 169، 170).

وأخيراً أيقن فؤاد كلَّ الإيقانِ بأنَّ مُهمته التاريخية ومعضلته العسيرة الكبرى بالحصول على شبح قبعة الإخفاء المُنقذ من هواجس علوان وتربصاته العدائيَّة، انتفى شرط الحصول عليها، وما عاد لها أثر مُهمٌّ في تاريخ سجِّل نفسه المُتأزِّمة بِعُقدة علوان إثرَ هذه النهاية التي توفِّر له الأمن والسلم والاستقرار والعيش بحريَّةٍ كرامةٍ دونَ عدوٍ يتربَّص به كلَّ يومٍ من أيام حياته المتجدِّدة:

"فَكَّرتُ بِالأمرِ وَاِنتابنِي الفَزعُ بَأنَّ مُهمتِي قَدْ فَشلتْ وَدَخلتْ نَفقَاً مَسدودَاً خَاليَاً مِنِ بَصيصِ الضَوء.الُّدكتورُ العَجوزُ لَا يَستسلمْ بِسهولةٍ. هَكذَا هُمُ الألمانُ،التَّاريخُ أخبرنَا بِعنَادِهم  وَمُفاجآتِهُم، الحَربانِ العَالميتانِ أَحسنُ دَليلٍ عَلَى أنَّهم قَومُ لَا يُهادنونَ ولَا يَرتَضونَ التَّنازل..." (ضِحكةُ مُوزارتُ، ص 170) .

في الوقت الذي يَقرُّ فيه فؤاد إقراراً تامَّاً بوقع فشله وهزيمته المتكرَّرة في الاتفاق مع الدكتور العجوز هولمر، يََنقل لنا  الكاتب على لسان حال بطله المنكسر فؤاد حقيقةً  تاريخيةً عن مواقف الألمان وثباتهم الصعب إبَّان الحرب وعدم، قبولهم بالهزيمة، وكأنَّه يقول هذا هو خطر قائدهم العظيم (هتلر) الذي غزا العالم تَلقَّى الموت ولم ينهزم أو يقبل بالهزيمة والتراجع عن موقفه التاريخي الحربي في المعارك التي خاضها في الحربين العالمتين. إنًّهم هكذا الألمان أصحاب مواقف شاخصةٍ ليست من السهل النيل من قلاع  حصونهم المتينة، وكسر شوكتهم الحربية عالمياً.

وحسن التخلُّص الموضوعي يشير إلى أنَّ فؤاداً قد عاد مُقيداً بسلاسل الهجرة وتعليماتها الصارمة إلى وطنه بعدَ أنْ تمَّ نقله إلى تركيا عن طريق مركز إيواء العائدين إلى بلادهم  قسراً. وبعد تلك العودة السريعة والمفاجئة غير المخطَّط لها في قصَّة هجرة البطل الهارب من شرر العدو، أعلن  فؤاد عن وقع فرحة انتصاره على نقيضه الشرير علوان، وهو ينتظر بشغفٍ لحظات  نقله  إلى الأراضي  التركية  بعد منع من دخول أراضيهم  ثانيةً  خلال التفكير  بذلك مَرَّةً أخرى.

تَجلِّياتُ الخِطابِ السِّرديِّ

لقد أثبتت كلُّ مشاهد هذه الرواية بأنَّ فؤاداً هوَ رجل ُالرواية الأول وبطلها الافتراضي المهزوز،  وعلى الرغم من ثقافته المعرفية الشخصية المكتسبة فأنَّه شخصيةٌ اجتماعيةٌ مازوشيةٌ طيِّعةٌ لتلقي  سلطة القمع والاستبداد النفسي والتلذُّذ بالفشل الذريع، وهذه الشخصية المتفرِّدة تجدُ في وجع هذه النكوصات الارتكاسية المأزومة ميلاً شديداً في تنميتها وتثميرها لتتعايش بتوحدنٍ تامٍ مع معطيات الحدث.

وهي على الرغم من أنَّها تسعى دوماً إلى التحرُّر والاستقلاليَّة عن كلِّ عناصر الشرِّ التي مارسها الآخرونَ ضدها مثل علوان وغيره من فئات المجتمع ذي الصلة المتنفذة والجاه الكبير في سير العلاقة بين الحاكم والمحكوم،أي(أكونُ أو لا أكونُ).فقد تمكَّنت هذه الشخصية السلبية في نهاية  الأمر مُصادفةً لا بإرادتها من التحرُّر الوجودي من قيدها الآسر وقامت حياتها على رماد غيرها.

تعدُّ رواية(ضحكةُ موزارتَ) لمُدَوِّنَها الكاتب الألمعي إبراهيم سبتي رحلةً استكشافية شاقةً الأثر في أدبيات حداثة الميتا سرد الروائي الفنتازي للبحث عن عوالم الذات الأنويَّة الإنسانية الموَّارة. ومحاولة استنطاق مكنوناتها النفسيَّة غير القارَّة، والقابعة في تواترها الفعلي الحدثي المُتراتب عبرَ تجلِّيات القمع ومَجسَّات الألم ومشاهد التِّيهِ ومخرجات الضياع الرُّوحي والاجتماعي بشتى تمثُّلاتها ومظاهرها الديستوبية للوصول إلى ضفاف الحقيقة المغيّبة عبرأثيرأنساقها الثقافية القريبة والبعيدة.

إنَّ ثنائية العوامل المحيطية الخارجية لبنية فاعلية السرد الحكائي لهذه الرواية، والمُتمثلة بالبيئة الزمكانية ورؤية المؤلِّف وموقفه المُحايد في توزيع مشاهد الواقعة على جسد الرواية ومُتغيِّرات العصرنة وإسقاطاتها. مُضافاً لها العوامل الداخلية التي تهتمُّ بالدرجة الأولى ببنية النصِّ السردي وتماسك لغته ومنهجيته النقدية، لقد لعبتا دوراً مُهمَّاً في رسم هندسة الخطاب السردي وإخراجه إلى المتلقِّي بهذه الصورة الفنيَّة، ودعوته إلى الاقتراب منه والولوج في فضاءاته السحريَّة والواقعية والسياحة في عوالمه المعرفية الإبستمولوجية والوجودية الأنطلوجية والأكسيولوجية القيمية الثلاثة.

لقد حاول الكاتب سبتي في اللَّحظات الأخيرة من خواتيم هاوية السقوط الذاتي في بئر مستنقع الفشل المرير، أنْ ينقذ بطله (فؤاد)، ويجعله شمساً متجدِّدةً الإشراق على الآخرين بعد أنْ كان يظنُّ كلَّ الظن أنَّه يعيش على هامش الحياة القاتلة التي لا وجود لها أمام براثن الشرِّ التي تتصيَّدُ حياته.

تستمد رواية(ضحكة موزارت) قوتها الموضوعية وثيمتها الفكرية من رمزية شخصيتها الارتكاسية المرتدة عبر أحداث الرواية الزمكانية، والتي تستدعيها وتوظف فكرتها في ثنايا متنها الحكائي، وهي شخصية(فؤاد) التي لا يعرف عنها الآخرون سِرَّاً إلَّا القليل القليل من النزر اليسير. فجاءت ثيمة هذه الرواية لتعيدَ ترميمَ بناء شخصيتها القلقة المأزومة والمحتشدة بطاقةٍ كبيرةٍ من الخيبات والانكسارات الروحية والنفسية المتلاحقة، والتي أخذت من موزارت ضحكته الإشراقية.

تتميِّز هذه الرواية بخاصيةٍ فنيَّةٍ متوحدةِ وبمرونة إجناسية سرديَّة متعدِّدةٍ مرنةِ تتسع لشتى فنون السرد من رواية واسعة المساحة وقصة طويلة وأدب رحلاتٍ وسيرةٍ ذاتيةٍ أدبيةٍ ونفسيةٍ واقعيةٍ وخياليةٍ متواشجةٍ. وتسعى بتجردٍ جاهدةً للقيام بدور توثيقي بشكل مباشر أو غير مباشر لحياة كثير من المهاجرين العراقيين والعرب ممن تقطَّعت بهم سُبل حرية العيش والنجاة في واقع بلدانهم المضطهدة. وأعطت صورة واضحة عن واقعية ذلك العالم الغربي الذي تسعى إليه هذه النفوس.

لقد تَمكَّن الرائي الكاتب إبراهيم سبتي من خلال قُدرته التعبيرية والفنيَّة الإدهاشية على الإقامة الطوعية داخل أقانيم جسد الجنس الأدبي السردي الروائي والمكوث به معايشة لاِكتمال الأحداث لحين انتهاء مهمَّة البطل القناعية الفاصلة بين عنصري الخير والشرِّ.

وحرصَ المؤلِّف بعنايةٍ واجتهاد كبيرٍ على تأصيله وتأثيثه موضوعيَّاً، وثابر بتؤدةٍ فكريةٍ على تكثيف مشاهد الخطاب النصِّي الدراميَّة السوداويَّة وإبراز وقائع صوره التراجيدية التشاؤمية معنوياً ودلاليَّاً. وكان هدفه الأول في إنتاج هذا العمل التخليقي السردي الشائق هو إبراز السمات الفنيَّة والجماليَّة والإنسانية الفاضلة. واستطاع من خلال المعادل الموضوعي ضحكة موزارت التاريخية والفنيَّة أنْ يصنع لشخصية بطله ضِحكةً كوميديةً فارقةً تخلِّد اسمه البطولي وترفع من قيمة رسمه الانطلوجي الوجودي كبطلٍ قائم بذاته الإنسانية عاش أحداث الرواية الإيجابية والسلبية.

***

د. جبَّار ماجد البَهادليّ / نَاقدٌ وكاتبٌ عراقيُّ

 

في المثقف اليوم