قراءات نقدية

سمير الخليل: الأشجار بوصفها إيقونة مهيمنة في مجموعة سعد ياسين يوسف

(الأشجار تحلّق عميقاً )

يتخذ الشاعر (سعد ياسين يوسف) من أسلوب التمركز العلامي في مجموعته (الأشجار تحلّق عميقاً) الصادرة عن (دار أمل الجديدة- دمشق 2021) ممثلاً بالتركيز التكراري على موضوعة الشجرة، وتوظيف وجودها ورمزيتها وإحالتها في مختلف زوايا النظر، ومختلف المضامين الإنسانية متّخذاً منها أيضاً المرتكز الفني فضلاً عن الإشاري، فهي المرتكز الشعري الذي تتصاعد تجلّياته وإيحاءاته عبر إضمامة من النصوص، بل هي تتضافر لتشكّل ارتحالاً، وبحثاً وتأمّلاً في الحياة والطبيعة والمكان، والميثولوجيا، وتظاهرات تشرين ومناجاة الأم بوصفها الشجرة المباركة الأولى، ومناجاة الوطن والإنسان ووقائع الحياة الأخرى كالغربة ورثاء المرأة الباسلة (طوعة).

وهذه هي معالم الرؤية الشعرية المرتكزة على العلامة المركزية (الشجرة) التي ينطلق فيها الشاعر وهو يوظف ظواهر فنّية متعدّدة وصولاً إلى صياغة شعريّة تشكّل صوتاً منفرداً، وتجربة ترسم حدود مغايرتها بذكاء، واستلهام شعري يميل إلى استثمار الصورة الشعرية، والإيقاع وبراعة الاستهلال والخاتمة الدالّة وانتقاء المنظومة اللّفظية لتأسيس إرسالية تعبيرية منتجة.

لعل من الظواهر الفنية الأخرى القدرة المتجلّية في انتقاء العنوانات، وعدم الترهّل أو الملل من وجود مفردة الشجرة في معظمها بلا تكرار معيب بل إنَّ الشاعر تناول عناصر ومظاهر أخرى مرتبطة بالشجرة أو تعبّر عن مدلول موازٍ لها مثل الفسيلة والجذور والخضرة والغصن والزرع والنخل والألواح والأوراق و(اليابس والأخضر)!!، بل إن الشاعر يوسّع المدى الترميزي، إذ تتحوّل الأم إلى شجرة وإلى نخلة باسلة، وهذا المنحى يؤسس لموضوعة أنَّ الشاعر يفجّر المدى والبنية الدلالية ويجعل الشجرة تتّخذ معاني وتجلّيات رمزية وواقعية ممّا يجعل الخطاب الشعري ينفتح على طاقة التأويل وتعدّد المعنى، ولم يكن توظيف الشجرة مجرد وصف مورفولوجي محض مثل وصف الطبيعة لدى بعض الشعراء لاسيما الرومانسيون، وبذلك حقّق الشاعر انزياحاً دلالياً في الخروج من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، ومن التوصيف إلى الترميز، ومن الواقع إلى المتخيّل الرمزي واقترنت الشجرة بالمرأة بدلالة المشترك العطائي، بل إنَّ المعنى خرج إلى غرض ودلالة أخرى، حين تجسّد وجود العطاء على شكل شجاعة أسطورية أبدتها (طوعه) وهي امرأة عراقية من ناحية العلم في تكريت أنقذت عشرين شاباً عراقياً من موت حتمي على يد الدواعش وقوى الظلام والجهل وآوتهم في بيتها وقد لقّبت بهذا الاسم لشجاعتها الفائقة وموقفها الإنساني والوطني ووقوفها ضد الفكر الكهفي المتحجّر.

وكل هذه الظواهر مرتبطة بموضوعة العنوان ودلالته وبُعده السيميائي الذي ينطوي على رؤية مغايرة وتقديم صورة خارجة عن المألوف لتشكيل البعد الرمزي والتأويلي (الأشجار تحلّق عميقاً) ولم يقل (عالياً) وفقاً للسائد والمتوقع بل كسر الشاعر أفق التوقع بهذه المفارقة وخلق استجابة جديدة لتأويل جديد يسير إلى الثبات والقوة والبسالة وأنَّ الشجرة في حقيقتها المورفولوجية ترتبط بالأرض وتستند عليها وهذا سرّ قوتها وربما يحيلنا العنوان إلى تناص مع عنوان لمسرحية إسبانية (الأشجار تموت واقفة)، وهي تحمل دلالة القوّة والثبات والبسالة والإخضرار وهي مقولة رمزية وإشارية تنطبق على كثير من وقائع ومواقف الحياة.

إنَّ المعاينة النقدية والتحليلية ستكشف لنا الأبعاد الجمالية، وبعض الأساليب التي عمّقت من الأداء أو الخطاب الشعري بتنوعها ولا يخفى اهتمام الشاعر بالمكان بوصفه الفضاء المعبّر عن الأحداث والرؤى بمعناها الشعري فهو يوفّر الطقس الذي يشكّل دالّة من دوال النسق الشعري، ورسم ملامح الصورة الشعرية، ولا يمكن لأي تفرّد للصورة الشعرية أن يحدث من دون استثمار المكان بكلّ أبعاده الهندسية والوجوديّة والسايكولوجيّة،  ومن الظواهر الفنية اللافتة توافر وفاعلية الاختزال الشعري، ولم يقع الشاعر في مزالق الفائضيّة والترهل والاسترسال المخل، فالقصيدة عنده محكومة بنسق داخلي وجمالي يبتعد عن الإفاضة والإطناب .4255 سعد ياسين يوسف

تكمن دلائل الارتكاز العلامي في الانطلاق من دلالة العتبة التي وصفها الشاعر في صدارة المجموعة وهي مقولة للرمز الصوفي العربي (ابن عربي) التي يعبر فيها عن المعنى العلامي المتمركز للشجرة الذي يحوّل الكون بكلّيته إلى صورة شجرة، ممّا جعل الشجرة فضاءً كونيًّا يحمل كثيراً من نسغ الوجود والطبيعة وتزاد الموضوعة عمقاً ودلالة من خلال العلاقة المتجذرّة والمثمرة بين الإنسان وعالم الشجرة الممتد، يقول (ابن عربي): "إنّي نظرت إلى الكون وتكوينه، وإلى المكنون وتكوينه، فرأيت الكون شجرة". (المجموعة: 5)، ففي نص (محاولة ليست أخيرة) يقول الشاعر:

كلّما هممت/ بكتابة قصيدة حب/ لك غاليتي

وقفت على حافة هذا الكون/ لأنادي اشجاري

أشجار الغابات من أقصى الأرض/ إلى اقصاها لتريني

هل ثمّة شجرة تطال سموّك/ فاسميها باسمك

تتمايل في حضرتك ملايين الأشجار"(المجموعة: 22).

إنّ هذا الاقتران بين الشجرة والمرأة يمنح الدلالة عمقاً ويجعل الكون حاضنة لخضرة وأنساغ الجمال بكلّ صوره، ومعانيه، كون الشجرة هي الايقونة للجمال في الوجود الكوني، واقتران المرأة بالشجرة يجسّد البعد الكوني لهذا التلازم.

ويمكن الاستدلال على طبيعة العلاقة المنتجة بين الأشجار والانسان لاسيما أنّها تمثّل مكانة قصوى لها بين الفقراء، فالفقراء أكثر التصاقاً بها كونها تمثّل رمزاً للعطاء والأمان بلا مقابل. وفي نص (يابس وأخضر) نجد هذا التلازم أيضاً:

الأشجار وحدها/ من تكسو أرصفة الفقراء/ بالذهب

حينما يحلّ خريف البلاد/ فؤوساً وكراسي/ بقوائم...

أصلها في بطون الجياع/ وفرعها في عتمة

حزن اغاني الأمهات!!!

"دللول يا البلد يا بني دللّول". (المجموعة: 63).

عبر هذا يتجلّى التلازم بين الطبقة المسحوقة وفقرائها، وبين الشجر وهم يلتصقون به كملاذ، وتجسّد الأم هذا الحزن الذي يكابدونه وهم يصنعون من الشجرة حياة لهم ولغيرهم.

ونجد الإشارة إلى العمل وتحويل الشجرة إلى مظاهر ووسائل أخرى لكي تستمر الحياة، ويستمر عمل الفقراء مقترناً بعطاء الشجرة، وبهذا تتآصر رابطة البشر والشجر، ومن تجليات الشجرة وأثرها في حياة الإنسان حين تحوّل إلى نوع من الأمان والظل، وتتحوّل إلى مرتع للطيور وهي التي تجعل البيوت مكتظّة بالاخضرار، ويمكن تأمّل نص (أوراق من شجر شتّى..!):

"الشجرة/ التي آبت إليها الطيور/ مع غروب الشمس

ها هي تنتصب بكلّ وهج خضرتها/ بعد أن استحال البيت

الذي نشرت ظلّها عليه/ ركاما يوم منحتْهُ نصف ظلّها

وهديل الطيور/ التي علت مع الدخان..". (المجموعة: 81).

فالبيت حين تغيب الشجرة عنه يتحوّل إلى ركام والطيور تهرب إذا لم تكن هناك شجرة تحتضن أعشاشها، وهي تؤوب مع الغسق، والشمس الآفلة لتنام في أمان أخضر، فحياة الكائنات والبشر مرتبطة ارتباطاً كلّياً بعالم الشجرة التي ترمز للطبيعة الحانية، وإنّها إيقونة الوجود، ويكفي النظر إليها لمعرفة أنَّ الحياة تورق مثل الشجر.

إنّ الشاعر يقدّم صورة أخرى لجمال الشجرة وغصونها المورقة الوافرة الظلال، ويحزن للبحر الذي يفتقد إليها، فيكون موحشاً كما في نص (ما زرعته البلاد):

موحش هو البحر/ لا أشجار تصطف على شاطئه

تشير بأغصانها لموج/ لن يعود..

إلاّ بحبّات رمل التوّجس/ ولا نوارس تعلو...

وتهبط/ خارقة فراغ صمت اللّحظة/ بنشيد اصطياد اللّوعة

تلك التي أثملتنا/ ونحن نحدّق في سطور

سمائها الباردة/ من قبل أن تتلفع/ بجمر ارتعاشات ذاكرة

هي كل ما زرعته/ فينا البلاد... (المجموعة: 85- 86).

يتميز النص بوجود حركة مشهديّة لوصف البحر الموحش الخالي من الشجر، وعبر تدفّق صوري يعكس تداعيات وصخب البحر، ويحقّق الشاعر انعطافاً على مستوى الدلالة للربط بين البحر والبلاد وارتعاشات الذاكرة، عبر لغة وصور متواترة وجميلة على الرغم من مسحة الأسى والوجع، ويستوقفنا بعض التوظيف الدلالي والصوّري (نشيد اصطياد اللّوعة) وما فيها من صورة باذخة ودالّة، ونسق انزياحي، وتقديم الصورة المجازية المؤثرة بانزياحاتها اللافتة، (تلك التي أثملتنا...) جملة شعرية على تحليق تعبيري عميق الدلالة والتخييل.

فالشاعر يمتلك القدرة على تأسيس منظومة صوريّة (بيئية) أي إنّها تستثمر ملامح البيئة وعناصرها ومظاهرها وموجوداتها، ويمكن لهذا المنحى أن يؤسس لقصيدة يمكن تسميتها بـ(قصيدة البيئة) التي تعكس قدرة فنيّة للتوغل في المكان، ووصف تفاصيله والانفتاح على معانٍ ورؤى وإحالات صوريّة متعددة تمثّل ذاكرة الإنفعال بالمكان، ومرموزاته وهويته، والمعاني التي تترشّح عن وجود الإنسان فيه. وإذا كان البحر موحشاً بسبب فقدان الشجر فإنّ الوطن يتحوّل إلى خراب وعتمة، وقد اغتيل فيه الشجر، والشجر في هذا النص يمثّل المعادل الموضوعي للحياة بأسرها.

ويتميز نص (اغتيال الخضرة) بتدفّق صوري أيضاً وإشارات ودلالات تكشف عن محنة البلاد تحت سطوة وبشاعة القذائف وعويل الحرب، ويُعدُّ هذا النص من النصوص المتميزة لوصف الحرب بوصفها الخراب الذي يلتهم ويشوه البشر والشجر والحجر، وهذه التداعيات يؤشّر لها المنحى الإشاري والسيميائي للعنوان (اغتيال الخُضرة) وضمناً يشير إلى اغتيال الشجر بوصفه المظهر أو العلامة الدالّة على الحياة، وازداد المعنى جمالاً ودلالة بوجود الإشارة إلى اللّون الأخضر، وهو الدال الآخر المعبّر عن وجود الشجر كونه يجسّد وجود الحياة والبشر والجمال والبهجة والعافية، وقد برع الشاعر في الربط بين حياة الشجرة وبيئة الاخضرار وبين ضراوة وهمجيّة الحرب:

كم ربيعاً مرَّ/ بلا غيث يغسل الأشجار

في شارع دجلة؟ / يرسم شكل خطواتنا معاً/ على رصيفه/ الذي اغتالته السرفات/ وأرعبه صوت صفّارة الإنذار/ من فوق دائرة البريد

كم ربيعاً مرَّ من غير أن تلتقط/ صورة العيد الهارب من بين المقابر

وحزن الأمهات.../ كم ربيعاً قطعتْ رأسه

حماقات الحروب/ قبل أن يشرق فينا...؟ (المجموعة: 90).

ويبدو النص متماسكاً عميقاً في دلالاته، وانتقالاته وقد زاده جذباً الاستدلال الاستفهامي ووضع الألفاظ في سياق يتعمّق المعنى فيها، وكذلك براعة الشاعر وهو يقدّم صورة حزينة للشعر والنهر وموت المطر:

"بلا غيث يغسل الأشجار/ في شارع دجلة؟!"

وشارع دجلة في ميسان من المظاهر الجميلة يمتد مع النهر بأشجاره الباسقة ولكن للأسف اغتاله الجفاف والسرفات التي ترمز إلى (الاحتلال) ولم يكن في المكان نشيد الأطيار تحت سطوة صفّارة الإنذار، ويمكن الاستدلال على جمالية الصورة الشعريّة، وعمق دلالتها وتماسك عناصرها في الجملة الشعرية الآتية:

"كم ربيعاً مرّ من غير أن نلتقط صورة للعيد الهارب من بين المقابر....؟؟"

فهروب العيد وهي صورة مجازية تشخيصية مؤثّرة عمّقها التناقض الدلالي بين العيد والمقابر!! ثم اردفها كتتويج لهذا الخراب متمثّلاً بـ(حزن الأمهات)، وهي إشارة معبرّة عن فداحة الحزن عندهن، فالأمهات هنّ اللواتي يدفعن فاتورة الحرب بالحزن والانتظار والأنين والعيون الغائرة التي تنظر إلى طرقات الأبناء الذين ابتلعتهم الحروب بلا هوادة، وكم انطوت الصورة الشعريّة ومجازيتها الحاذقة التعبير على الربط بين الربيع والرب وما بينهما من تضاد وتناقض وتنافر:

"كم ربيعاً قطعت رأسه/ حماقات الحروب

قبل أن يشرق فينا...!!". (المجموعة: 90).

وتكمن جمالية النص في تعالقه مع عالم الشجرة، وهو الذي جعل الشاعر يختم النص في حضرة الشجر، ليعمّق الأثر السايكولوجي بين الشجر والحرب التي تمثّل الاغتيال الحقيقي والبشع لكلّ اخضرار وجمال يجسّد المعنى عبر سقوط الأوراق من أعالي الشجر كصورة لسقوط كلّ شيء تحت أقدام وبشاعة الحروب، ويتحول كلّ شيء إلى كتاب قديم، ومثل كسرة خبز على جدار قديم وتلك صورة بالغة التجسيد والتعبير وتحوّل كلّ شيء إلى يباس وعتمة وتلاش:

فإنّ ما مرّ/ ليس سوى ورقة تهبط ببطء

من أعالي شجرتنا/ إلى مستقرّها

في كتاب سيعلوه الغبار كثيراً/ ككسرة خبز

على جدار قديم؟!!". (المجموعة: 92).

وعبر توظيف الدال المرتبط بالشجرة يجد الشاعر المشهد المتوتر والمعبّر عن ثنائية الحياة والموت التي تجسّد صورة أو إحالة أو ايحاءً مركزياً ونسقاً مهيمناً فهو حين يصف الشجرة ونسغها، فإنه يوحي بالمعنى المضاد وهو الجفاف وانعدام الحياة، وبذلك فإنّ هذه الثنائية تتوافر على مستوى الحقيقي والمجازي والرمزي؛ أي أن هناك معنى حاضراً ومعنى غائباً، وكلاهما يحيل إلى الآخر.

وتتجلّى أبعاد أخرى ترتبط بوجود الشجرة من عناصر الجمال الأخرى إذ نجد الشاعر يميل إلى وصف كلّ أنواع الجمال والتناغم الذي يرتبط بالشجر، وهو ما يعمّق الدلالة الأيقونية المهيمنة وتداعياتها، وخلق نمط من التعالق والعلاقات بينها وبين مظاهر وإشارات وعوالم الجمال المختلفة.

ونلحظ في نص (حلول) تلك العلاقة الجماليّة بين الشجر والموسيقى، بإدراك تشفيري ضمني فالشجرة رمز للتجسيد المطلق، أمّا الموسيقى فهي علامة على التجريد المطلق، وكلاهما أيضاً يحيل على الآخر، وهذه الحركيّة التبادلية تؤسس دلالتها في ضوء المشترك الجمالي بينهما:

على غير موعد/ حفلها الموسيقي/ استيقظتْ قبل فجر التوقّع

أصوات هديل الطيور/ والعصافير.. / وهي تصطخب برأسي

المتلفّع بالغصون/ مددت يدي خارج السرير

تساقطت منها أوراق خريف/ واخضرّت أوراق أخرى..

قدماي تمتّد عميقاً/ بفصول الأرض..." (المجموعة: 93).

ويكمل الشاعر الصور الشعريّة المتوالدة بهذا المقطع المؤثر:

جناح الخضرة  / كي اتوحد بموسيقى رفيف الأجنحة

اللاتعرف  /  إلاّ التحليق  /  في أفقٍ كلّما أوغلتْ فيه

فإنّي أعانق دفء روحك..." (المجموعة: 94).

وعلى وفق المعاينة التحليلية يمكن الاستدلال على نسق الاختزال الذي يميل إليه الشاعر في خطابه الشعري، ومن خلال المقاطع الشعرية نلحظ هذه الظاهرة متجسّدة، ولم ترافق النصوص أيّة فائضية شعرية أو استرسال غير منتج.

يكتب الشاعر سعد ياسين بأسلوب (برقي) ويعتمد الجملة القصيرة والضربات السريعة على الرغم من أنّه كما يمكن استشراف ذلك يعتمد ويميل كثيراً إلى أسلوب الانتقالات والتحوّلات داخل النص، فالنص عنده بنية متصاعدة ومتحرّكة في كلّ الاتجاهات.

إنّ نص (مجرّة المجر) يرتكز على وصف تداعيات المكان متمثّلاً بمدينة (المجر) المعروفة في محافظة ميسان، ويمكن رصد أسلوب الانتقال والتحوّل في هذا النص متجسّداً بالانتقال من الواقعي إلى الميثولوجي ومن الحقيقي إلى المجازي، لكنّ النسق الصوري يبقى ثابتاً يحرّك البنية الشعرية ويزيدها عمقاً وجذباً للمتلّقي:

مذ خلق الله مجرّتها/ وأجرى على الأرض نهريها

شقّ بمرود أمّنا حواء/ عينيها فكانت مجرّة السماء

تلألأت النجوم في أعماقها/ فأضاءت مدى شاسعاً /  من سماء وماء

خزاماتٍ وأساطير ويُشن/ ترقص حوريات النور/ فوق قبابها..

من نهري عسل وحليب الجنّة../ استل عصاه المقدسة

رماها على جرفي نهريها/ وقال لها كوني.." (المجموعة: 95).

تتجلّى في النص ديناميّة الأسطرة والتعزيز بالأثر الميثولوجي، واعتمد في أسطرة المكان من آلية الإضفاء، والإنطلاق الميثولوجي، واستعارة بعض الإشارات أو المفردات القرآنية لجعل المكان مؤطّراً بنوع من التمجيد والقداسة:

"رماها على جرفي نهريها/ وقال لها: كوني" (المجموعة: 95).

واستعان بتوظيف الميثولوجيا الأنثوية ممثلة بـ(حواء): "شق بمرود أمّنا حواء" (المجموعة: 95)، وبهذه الوسائل والانتقالات استطاع الشاعر التحرّك والتحوّل من المكان الواقعي إلى المكان الميثولوجي (المؤسطر) وتشبيهه بالفردوس العالي، ولكنّ الشاعر لم يغادر تمركز خطابه الشعري حول الشجرة ومثيلاتها والإشارة إلى اللمحة الأنثوية:

ضفائر عمدّها المسك، القرنفل/ غابات يشاميغ سومر

تصهل الريح إذا ما تأزّروا بها/ للغزاة/ وهاماتٍ من نخيلٍ...

كلّما مرّ بها خائف.../ تساقط عليه رطب الأمان

حلّق في الأغنيات مع أسراب (الحِذّاف)/ المتسلّق نهر (العدل)

إلى صحن الله" (المجموعة: 96).

ويتوغل الشاعر في تفاصيل المكان وذكر أجزاء من مدينة (المجر) ونهرها وهو الصحين وغيرها من الأماكن، وأضفى على المكان سحراً وجسّده وكأنّه فردوس أرضي بدلالة أنّ الماء هو سرّ الحياة وسر الإخضرار وزهو الأشجار.

ويتخذ الشاعر من الأشجار رمزاً للثبات والكبرياء في جمالها ووقوفها سامقة تتجذّر على الرغم من تقلّبات الطبيعة والمتغيرات في نص (غصنان) وسيميائية العنوان وتنتمي إلى إشارة مرتبطة بالشجرة بدلالة الجزء على الكلّ:

"مذ كانت/ بذرة في رحم الفكرة/ أشجاري

ألهمتها أن لا تنحني للثلج/ كي لا يُقطف

وردَ الخضرة فيها/ وتضيعَ في عتمة/ البياض.." (المجموعة: 104).

نلحظ في الاستهلال التركيز على البعد الزمني، وقد أحال الفكرة إلى إرث ورسوخ، (مذ كانت)، ووصف قوّة وبسالة الشجرة لأنها ملهمة منذ القدم بأنْ لا تنحني للثلج كي لا يقطف أزهارها وثمرها، وتضيع في عتمة البياض، ويمكن ملاحظة التناقض والتضاد بين العتمة والبياض، وهذه الثنائية إيحاء بصراع الثنائيات، فالشجرة تصارع وتقارع كلّ الظروف والمتغيرات، والأنواء لكي تبقى واقفة ببسالة وهي ترتكز على جذورها الحية النابضة، ومن الظواهر الفنية في هذا الوصف والبحث عن الاكتمال الذاتي ما يحيل إلى طاقة من التأويل فقصدية الشاعر تنبئ بانزياح دلالي يشمل الشجرة، ويشمل الإنسان بوصفه يملك المشترك مع الكائنات أو النباتات التي تكافح وتبقى سامقة على الرغم من الخطوب والتحولات، وعلى وفق هذا تصبح نصوص المجموعة وهي تتمرأى وتتجسّد، وترتبط بما هو واقعي ورمزي، لكنّها ولطبيعة الطاقة التعبيريّة التي تستند إليها، تملك القدرة والخصائص للانفتاح على مساحة التأويل والترميز والايحاء، وتوافر الاستبدالية على مستوى المعاني والإحالات.

ويتمكن الشاعر من الخروج من العلامة المركزيّة، والشجرة المهيمنة إلى تداعيات وفضاءات أخرى لتنويع الأغراض والتوّجهات لكنّ النسق (الشجري) يبقى حاضراً وسائغاً في البنية الشعرية، فهو حين يصف جمالية وقدسيّة الأم يقرنها بالشجرة، وقد سمّى النص (شجرتها) وعبّر عن أنّها مصدر النماء والخضرة:

مع أوّل صرخة/ وأول إبصار للنور

كانت خضرتك تربت على صدري/ أن لا تخف

وكلما ادلهمّ ليل/ أضاءت أغصان شجرتك قناديل/ البهجة

فتنطلق الكركرات/ ناعمة بيضاء

مثل رفيف نوارس شط العمارة" (المجموعة: 106).

وليس من المتعذر اكتشاف أن الأم قد استحالت إلى شجرة مقدّسة، وهي التي منحته النور والبهجة، وربتت بالحنوّ على صدر الشاعر، بل تجاوزت كلّ المتوقع حين تنطق: "بأن لا تخف حين/ يدلهمّ اللّيل وتتوالى الأحزان.."

ويعود إلى المكان بوصفه الحاضنة التي جمعت بينه وبين الأم (الشجرة السامقة) والواهبة للعطاء على (شط العمارة)، وذكر الماء يحيل إلى العلاقة بين الخضرة والماء، والأم والأمان وتوامض جذور الحياة، حتّى يصل إلى ذروة التجلي الرؤيوي والشعري، ويرسم ملامح صورة التقديس والاحتفاء بالأم كونها النبع والجذر والشجرة الوارفة الواهبة:

"لم أكتب لك/ إلاّ الساعة بعد أن أدركتُ/ أنّ القصيدة التي

لا ترسم بريق عينيك/ يا أمّي/ صلاة باطلة

لن تبلغ السماوات..." (المجموعة: 109).

ويحشّد الشاعر مفردات الجمال ليتمكن من رسم الصورة الشعريّة بالغة التأثير، وإنّ القصيدة بوصفها الجمال لكنّها لا تكتمل إلاّ بذكر الأم، وإن لم تستطعْ رسم بريق عينيها فهي صلاة باطلة، وذلك أقصى التقديس للأم، والإحالة إلى الصلاة إشارة سيميائية لقداسة الأم بوصفها شجرة تنتمي إلى السماء، يوظف الشاعر العلامة المهيمنة متمثلّة بالشجرة في نص مؤثّر يتصدّى فيه لوصف مناخ ووقائع انتفاضة تشرين وقد وسم نصّه الشعري بعنوان (أوراق من شجرة التحرير)، إذ نلحظ الدلالة السيميائية بين مفردة الشجرة والتحرير كإشارة إلى المكان الذي شهد وقائع المواجهة والإيحاء بالمعنى الذي عبرّت عنه هذه الصورة باتّجاه الحريّة، والتصدّي للسلطة الجائرة، وشراسة عنفها وقد استهلّ النص بذكر الأشجار كرمز للحياة والثبات والبسالة، وتعرضها لأساليب القمع:

"حفيف الأشجار الذي/ أخفاه الدخان في ساحة التحرير/ صار صرخة...

حينما أدرك أنّ الهراوات/ التي انهالت على رأسه/ كانت من خشبها.." (المجموعة: 16).

تتجلّى في النص براعة لتوظيف الشجرة للشر وتحوّلها من أغصان زاهية ومعطاء إلى هراوات تلاحق الثائرين، وقد حققت الصورة الشعريّة إدانة لاستبداد، وبربريّة التسلّط الذي يشوّه الأشجار، ويحيلها إلى أداة للقمع، وليس أداة للحياة والجمال والأمان، تبقى مجموعة (الأشجار تحلّق عميقاً) تجربة شعرية فريدة وإنسانية تنتصر للجمال والتناغم وتدين القبح عبر نصوص دالّة ومنتجة للمعنى، وهي في اعتقادي تنتمي للشعر (البيئي) الذي لا يمجّد الطبيعة ويصفها إنّما يبين الشاعر أثارها في الإنسان والحيوان.

***

د. سمير الخليل

 

في المثقف اليوم