قراءات نقدية

جبَّار ماجد البهادليّ: شَاخِصُ الفَاعليَّةِ الَّسرديَّةِ

تَقديمٌ: من بين حقائق المُسلَّماتِ والأبجديات النقديَّة في حركة الحداثة السرديَّة وما بعدها، عندما يكون الأديب ناقداً شعريَّاً أو سرديَّاً، يكون له كيانه النقدي الخاصُّ بذاته الوصفية التي يُشارُ إليها -تعريفاً وتشخيصاً- بِبَنَانِ النقديَّة، ويُنظر إليها بعين الاعتبار نظرةً مُستقلةً في فاعليته النقدية. وبالتالي يُعرف جهده الكشفي والتنقيبي الأثري الذي يَنماز به بهذه المَهَمَّة المعرفية غير العادية. ولكنْ عندما تكون الصفة الذاتية للأديب -مشتركةً إئتلافية- أي أنْ يوصف الأديب بكونه ناقداً وسارداً روائيَّاً فاعلاً، فتلكَ -وَأَيمُ اللهِ- نظرةٌ اعتباريةٌ أخرى تختلف في سياق مهمتها الفاعلية وسمتها النقدي وحدَّها التعريفي الوضعي الاتّحادي عن النظرة الاعتبارية التوصيفية الأولى المُنفردة الأثر.

ولعلَّ هذا المدخل التعريفي الموجز بمهام توصيف الذات الإبداعية الناقديَّة العامّةً، والناقديَّة الأدبيَّة الخاصةً يُحيلنا التمهيد فيها إلى ذلك الأديب الذي يجمع في مهام وظيفته الأدبية الإبداعية الثنائية، بين صفتي الناقد والسارد معاً. وهذا التفرُّد النوعي الأخير هو ما يُميِّز السيرة الأدبية الضَّاجَّة الفكر للكاتب العراقي علي لفتة سعيد بوصفه روائياً وقاصَّاً سارداً، وشاعراً، والناقدَ الأمهرَ الباحثَ في خطاب البنائية السردية على المستوى الروائي الفنِّي العربي والعراقي المَحلِّي.

ذلك الهاجس النقدي الذي يمكن أنْ نطلق عليه اعتباراً –لا تَرَفَاً أو بَطَرَاً أو تزلُّفاً مجانباً لغير الحقيقة الموضوعية-  صفة  (شاخصُ الفاعليَّةِ السرديَّةِ)، وأعني قصديَّاً بذلكَ  ما أقولُ مِنْ أنَّ عليَّاً  هو المِهْمَازُ الضوئي والحركي الباحث -صبراً وتأنيَّاً- في تجلِّيات البناء السري، والكاشف تأويليَّاً لمرافئ محطاته التكوينة في فنِّ الرواية.وذلك كون الرواية تعدُّ جنساً أدبيَّاً  يتَّسم بصفة العالمية من حيثُ السعةُ والانتشارُ الفنِّي، والمقبولية المُغريَة لجماليات التلقِّي القرائي عند جمهورٍ كبيرٍ ونوعيّ متفرِّدٍ في وعيه من القُرَّاء والمتلقِّين الذين يجدون فيها مرآتهم الحقيقية الضالة، ويرون فيها تجسيداً وتعميقاً حيَّاً لِهُويتهم الشَّخصية والذاتية المستلبة إمتاعاً وابتداعاً في شتَّى مجالات الحياة الكونية.

إنَّ نافلة القول بإطلاق مُصطلحين اثنين مُزدوجين على الروائي العراقي والأديب الناقد المثابر علي لفتة سعيد، مثل (شاخصٌ، ومهمازٌ) لا يمكن أنْ يأتيا جُزافاً انطباعياً تأثُّرياً أو إشهارياً إخوانياً من فراغين عابرين كَريحٍ موسميةٍ هابَّةٍ على وجه النقدية السردية.ذلك لأنَّ المعنى الدلالي الحقيقي القريب لدالة (شاخص)، تشي بأنَّهُ العلامة الأيقونية لمدلول (الرَّايَة) الدالة على رمزيتها الصورية الاعتبارية المعروفة سيميائياً في نظرِ العيَّان. وفي الوقت ذاته تعني من خلال معناها الذهني البعيد تلك النقطة الضوئية اللَّافتة النظر، والَّتي يركن إليها وعي القارئ النابه، ويهتدي بها عمليَّاً وفعليَّاً وإجرائيَّاً للوصول إلى ضفاف الغائية المنشودة في الإشارة إلى قصديتها الدلاليَّة والجمالية البعيدة.4203 علي لفتة

أمَّا لفظة (مِهْمَازٌ)، فهو ذلك المسمار الفَمِي الحديدي الرفيع المُوجِّهُ، والمِقوَد الرَّسَني الحَبلي البازُّ اللَّاسع الذي يعتمده الفارس أو الرائض في قيادته الواثبة. وأعني بذلك الناقد الهُمامُ والفارس المِقدَام الجَريء الذي يُحرِّك حمولات الأشياء الثبوتية، ويستنطقها معرفياً ونقديَّاً من فم واقعيتها الجمودية النسقية الساكنة، ويقودها من مثابات مصادرها وأنساقها الأساسية إلى مآلاتها التحوِّلية الآنية وفضاءاتها الحركية الناطقة بمتظهراتها الصورية العديدة (الصوتية والسمعية) البنائية الفاعلة.

وإنَّ الجمع التوحُّدي بين ثنائية جدلية قصديَّة (الَشَّاخصيَّة والمهمازيَّة) المُتعاضدتينِ فنيَّاً وتآلفيَّاً، ليس أمراً نقديَّاً يسيراً هيِّناً ومُتاحاً لكلِّ أديبٍ ناقدٍ أو روائيٍّ ساعٍ لتملُّك مثل هذه الوظيفة المهاميَّة الغالبة، والتي لا يُلقَّاها شاخصياً إلَّا ذو حظٍّ ٍعظيمٍ، وقدرٍ كبيرٍ من المعرفة الابستمولوجية النافذة.

والقارئ الواعي بصرياً وذهنياً ومعرفياً لصفحات كتاب علي لفتة سعيد النقدي الموسوم بـ (الفكرةُ وفَاعليةُ الحكايةِ فِي الرِّوايةِ العَربيَّةِ)، حتماً سيلحظ بتجلٍّ مرئيٍّ واضحٍ أنَّ الكتاب على الرغم من تكثيفه النوعي، وتحشيده الكمي الإنتاجي قد انقسم محتواه الموضوعي على جانبين مهمِّين، جانب نظري تنظيري أدبي، وهو الفصل الأوَّل منه، وجانب عملي إجرائي تطبيقي آخر لمثابات السردية الفاعلية، وهو الفصل الثاني من محتويات الكتاب، والأكثر مِساحةً وشمولاً واتِّساعاً في منهجه الإجرائي التأويلي الهرمنيوطيقي، والتحليلي المعرفي الابستمولوجي والثقافي لقواعد فنِّ السرديَّة.

وبطبيعة الحال أنَّ الفصل الأوَّل -على الرغم من اختزاله الكمي وتكثيفه النوعي المعرفي الدقيق، فإنَّه قد تضمَّن تنظيراً معرفياً لسرديَّات روايات ما بعد الحداثة العربية التي انفتحت بمضانها التكوينية المعصرنة على  خطى عقابيل الواقع الحياتي المُرتهن بتعدُّد تجليات مظهره، الأسطوري أو المخيالي ، والغرائبي أو العجائبي الفنتازي -الذي فيه شيءٌ كثيرُ من تجلِّيات الواقع وإرهاصاته التحوِّليَّة الحثيثة-والذي يُهيمُ بالفكرة متفوقاً في وقع أُسِّه على عنصر الحكاية في سرديات  الرواية.

فضلاً عن ذلك الانزياح المعرفي كلِّهِ فضيلةُ هاجس العروج التأمُّلي إلى أساس الرواية حينما يكون منطلق التسريد من أصل الحكاية إلى الفكرة؛ وذلك باعتبار أنَّ فنيَّة الرواية تعدُّ أساساً لُعبةً إنتاجيةً كتابيَّة مدهشةً. ثُمَّ  يتبعها التحوِّل إلى الحديث عن تجلِّيات البعد الإنساني واقتفاء أثره وتتبُّعه جمعياً، وارتباطه فنيَّاً وتكوينياً بالبعد الاجتماعي في الفضاء الكوني لعالم الرواية الواسع الرحيب.

ومن ثمَّتْ الكشف عن حفريات المكان الزمكانية، وضرورة الجَيلان في فَلكِ تَمظهراته التكونية، ومحاور أنساقه الثقافية الظاهرة منها والخفيَّة المُضمرة التي يتطلَّبُها مشغل التحليل في بناء الفاعلية السردية في الرواية العربية تنظيراً وتطبيقاً. وإجمالاً خُتِمَ محتوى هذا الفصل بإشكالية وَأدِ النصِّ المحلَّي البيئي وقتله سرديَّاً أمام حركة وتفوق النصِّ الأجنبي الغربي الراسخ بنيةً وتفاعلاً وإحكاماً.

وجاءت مثابات كشوفات الفصل الثاني الموضوعية في مشاغل الكاتب النقدية البنائية السرديَّة؛ لِتُعلِنَ التعريف عن هوية نفسها الذاتية في منظومة الإجراء التطبيقي العملي لفاعلية البناء السردي في أربع عشرة روايَّةً عربيَّةً وعراقيَّةً. وكانت الغلبة في هذا الإجراء المفصلي للروايات العراقية التي تضمنت ثماني رواياتٍ لِكُتَّابٍ سَردَةٍ عراقيين ذكوراً لا إناثاً، يقابها في الطرف الشريك الآخر ستُ رواياتٍ لِكُتَّابٍ عَربٍ، اثنان منهما أردنيان، وآخران مصريان، وواحد تشاديّ،وأخرى تونسية.

أمَّا المشاركة الروائية النسوية فقد اقتصرت على الرِّوائيَّةِ التونسية حبيبة مِحرزي، والمصرية

مَرفت البربري، والأُردنيِّةِ بديعة النعيمي. ولا نجد أثراً يذكر للروايَّة الذكورية أو النسوية الخليجية أو السورية أو الفلسطينية أو الجزائرية أو المغربية التي تشكِّلُ نسبةً رواجٍ كبيرةً في العالم العربي. ولابُدَّ من التنبيه إلى أنَّ في نيَّة الكاتب أو مؤلِّف هذا الكتاب إضافة أسماءٍ روائيةٍ عربيَّةٍ مُهمَّةٍ أخرى لمتحويات الكتاب يُعزِّزُ بها دراسته النقدية لسرديات الفكرة والحكاية في الرواية العربيَّة.

واهتمت مشارط الدراسة وحفرياتها الأثرية في روافد هذا الفصل بمفاصل البناء السردي والفنِّي وانتقالاته السريعة، والبحث في كُنه مستوياتها، والوقوف بنيوياً على آفاق روافد مستويات الصراع السردي، وبيان حركة التصاعد الدرامي للرواية. وإجراء استنطاق لعنواناتها الرئيسة، وما بعد تلك العنوانات من أفكار تكمن ورؤىً وصورٍ لابُدَّ من إيصالها للمتلقِّي. كونها في الحقيقة تمثِّل البوابات المضيئة التي ينطلق منها عمل السارد الرائي في روايته إلى عتبات مدينته الداخلية في الرواية.

وكان اختيار الكاتب  الدارس لتلك العتبات النصيَّة لغاياتٍ ومقاصد فنيَّةٍ وبنائيةٍ وتركيبيةٍ عنوانيةٍ قارَّةٍ تُماهي اللُّعبة الإنتاجية في الكشف عن دلالاتها اللُّغوية والجمالية المُعبِّرة عن فكرة مستهلاتها الافتتاحية البعيدة والقريبة. لا لأنها (ثُريا النصِّ)، أو بؤرة هالته الضوئية اللَّافتة نصيَّاً، بل لأنَّها أُسُ الفكرة أو نصَّ الحكاية التي تتمخض عنها أفكار ورؤى أخرى جديدة واثبة الخطى قد تؤدِّي كثيراً هذه الخطوة إلى المصاهرة الزوجية والألفة والسكينة بين الحكاية وفكرتها بأيِّ شكلٍّ من الأشكال.

وكما يعول على ذلك الناقد الرائي علي لفتة نفسه في معرض تطبيقاته البنائية للرواية؛ فيرى أنَّ الرواية كعملٍ سرديّ متواصلٍ تعتمد أساساً وبالدرجة الأولى على الحكاية لإنتاج الفكرة التي تتوالد تدريجياً مع مستويات السَّرد إلى أفكارٍ أكثر نضوجاً وتعضيداً ومؤانسةً لها،ورُبَّماً تعقيداً لها.

والحقيقة إننا اليوم أمام دراسٍ وناقدٍ مثل، (علي لفتة سعيد) مُغرمٍ جدَّاً إلى حدِّ الهوس الفكري والهُيام العشقي بمفردة (اللُّعبة) السرديَّة؛ لِما لهذه الدالة اللُّغوية الواسعة من حمولاتٍ فكريَّة ناهضةٍ، ودلالاتٍ معنويةٍ خاصَّةٍ وعامةٍ تشي بها على حدٍّ سواء،ولها في منظومة الدراسة النسقية الحداثوية والمعصرنة مآلاتٌ إثرائيةٌ فنيَّةٌ قريبةٌ وبعيدةٌ ضاجَّةٌ في معجم الكاتب على مستوى النقديَّة السرديَّة.

وقد تعدَّدت موحيات استخدامات هذه اللَّفظة المُبَأَّرَة ذهنياً وفكرياً عند الكاتب الرائي سعيد حتَّى أنَّ توظيفاتها الإجرائية جاءت كعتباتٍ عنوانيَّةٍ موازية لثنايا متن النصِّ في اشتغالاته النقدية للرواية العربيَّة على الوجه التعدُّدي المتواتر الآتي:  (اللُّعبةُ الحكائيةُ)، و (لُعبةُ الحوار)، و (اللُّعبةُ السَّرديَّةُ)، و (لُعبةُ التقطيع السيناريوي)،و (أبعادُ اللُّعبةِ والتدوينِ السَّرديّ)،و (لُعبةُ الصّراعِ في الروايةِ)، و (لُعبةُ المَتنِ وإنتاجيةُ الحكايةِ)،و (لُعبةُ المَكانِ)، (اللُعبةُ التدوينيةُ بينَ الواقعِ والمُخيّلةِ)،فـ (لُعبةُ المستويات).

فضلاً عن مواضع تردُّدها التَّكراري المتجدِّد في معرض تحليلاته النقدية للسرديات الروائيَّة. ومَزيَّة هذا الأمر المعرفي المُتراتب تُدلِّل باتقانٍ لافتٍ على أنًّ اللُّعبة كمدلول نقدي دقيقٍ فضفاض أخذت مأخذها اللَّساني اللُغوي، والتحليلي الثقافي الفنِّي الراسخ، وبثَّتْ صداها الواسع في اشتغالات الكاتب الموضوعية نتيجةَ هيمنة فلستها ورؤاها الدلالية الكبيرة على وقع تجربته النقدية والسرديَّة.

أّمَّا المفردة الدلالية الأخرى التي كان لها نصيب وافر من الحظِّ الواسع والقبولية المحبَّبة عند الكاتب في سرديات مشغله النقدي وفي نهج رؤاه الفكرية العملية لفنِّ الرواية، فكانت لدالة (اللُّغة)، وأثرها وأهميتها الحيوية الفاعلية في مشاكلة البناء السري للرِّواية. وقد بنى علي لفتة سعيد على مدلولاتها الفكرية التركيبة، وأثر سياقاتها الفنيَّة والمعجميَّة والنسقيَّة المتواشجة في منهجه النقدي التحليلي تردُّدات العنوانات الرئيسة الآتية:

 (اللُّغةُ السرديَّةُ وقائمةُ الحُوارِ)،و (اللُّغةُ ومفهومُ الحُوارِ)، و (لُغةُ الرَّاويّ)، و (مَحمولاتُ اللُّغةِ ومَحمولاتُ الوصفِ)، و (اللُّغةُ وانتقالاتُ الحَدثِ)، و (اللُّعةُ ومِعياريةُ المَشهدِ). ويُلاحظُ جليَّاً على تردداتها التواترية ثمَّة ارتباط فكري رؤيوي وفلسفي عميق بين هذه اللُّغة كمحتوى موضوعي فكري  وبين نظائرها السرديَّة الأخرى التي تشترك معها بنائياً.

وبحث الرائي السَّارد والناقدُ نفسيَّاً وسايكولوجياً في إنتاجية معطيات اللُّغة السرديَّة المحلية، أو ما يُعرف باللَّهجة العامية، كَمَا وَفَهمَ أبعادَها، ووقعَ دلالاتها الإنسانية والجمالية التوقعيَّة المؤثِّرة في حياة الناس مجتمعياً. وكانت اللُّغة -في هندستها المعمارية- عند علي لفتة الناقد صوتاً فكرياً واثباً لا أثراً أو صدىً عابراً في بناء فاعلياته السرديَّة. لكونه يتذوَّق هذه اللُّغة تذوِّقاً فكرياً وحسيَّاً ويستمع بإنصاتٍ وتَأنٍ لحركة صداها الذهني في عقله، فَتُحيلُها مخيلتهُ الفكريَّة إلى حقائق إجرائية بنائية.

ومن اللَّوافت النقدية المثيرة لنظريات المعرفة الإنسانية في جماليات القراءة وآليات التلقَّي الذهني المعرفي الحداثوي لـ (نقد النقد)، أنَّ المتتبع النابه بعينٍ نقديةٍ ثالثةٍ  (القارئ الناقد) لكتاب،  (الفكرةُ وفاعليةُ الحكايةِ في الروايةِ العربيَّةِ)، سيلفت نظره في قراءته التأمُّلية الإمعانية المُتَّئدة أنَّ (علي لفتة سعيد) لم يهتم إهْمَالَاً في حفرياته النقدية التسريدية وكشوفاته المعرفية وتحليلاته الروائية بعناصر الرواية وأركانها الأساسية الأربعة المعروفة في السرد (الحدث، والشخصيات، والزمان، والمكان).

ومما يُلاحظ أنَّ الكاتب من خلال تحليلاته الدلالية وتطبيقاته الإجرائية العملية في خطابه النقدي لم يشتبك مع حركة شخصيات الرواية (الفواعلية) التي تُعدُّ ركناً أساسياً ومهمَّاً في بناء الرواية. ولم يتفاعل فنيَّاً مع أحداث الرواية (الفعليات) الحدثية البالغة الأثر فيها؛ كونها تعدُّ العنصر الأهَّم في الواقعة الحدثية للرواية. ولم يقف على جوانبها الموضوعية، ويكشف عن تجلِّيات حبكتها العقدية.

أمَّا وحدتا الزمان والمكان فلم يتعرَّض لهما الكاتب بوصفهما عنصرين مرتبطين جدلياً بزمكانية الفضاء المكاني المحدَّد بزمان ومكان ما الذي تقوم عليه أحداث الرواية وتجري هرمياً وأفقياً. فكان حضورهما النقدي محصوراً من خلال ارتباطهما النقدي بفاعلية الحدث البنائي السردي ِللرواية.

ولأنَّ الكاتب علي سعيد يبحث في الميتا سرد الحداثي وما بعد الحداثي، فإنَّ كلَّ هذه العناصر الإثرائية للسرديات الروائيَّة لم تلقَ حضوراً إجرائياً لازماً لافتاً للنظر. حتَّى وإنْ كان وجوده فيها انطباعياً في أولويات أقانيم مشغله النقدي السردي الحداثوي. فقد كان مناط اهتمامه النقدي مُنكبَّاً فكرياً على التجنيس الأدبي للرواية، سواء أكانت الرواية العربية أم العراقيَّة على وجه الخصوص.

مما جعل اهتماماته الإجرائية مُنصبَّةً على أثر التسريد الحداثي، فشغلته في بنية الكتابة السرديَّة للرواية مسألة (الحكاية)، أو الثيمة وإشكاليتها البنائية على أرض الواقع في تخليق الإنتاج الفكري. وذلك باعتبار أنَّ (الحكاية) تسبق جدلياً الفكرة، وأنَّها كثيراً ما تقود إليها فكرياً مع تنامي الحدث وتتابعه فنياً. ويخلص الكاتب سعيد في جوهر اشتغالاته العملية إلى القول بأنَّ الرواية إمَّا أنْ تكون حكايةً تؤدِّي إلى فكرةٍ،أو تكون فكرةً جوهريةً تقود إلى حكاية أو ينصهر الاثنان تُوحدُنَاً في  بوتقة.

والإشكالية الحداثوية الأخرى التي شغلت فكر علي لفتة سعيد قضية ما يُسمِّيه (الأدبُ الغاضبُ) أو الأدب الثائر الحركي الناهض، والتي ظهرت مسامع أصواتها الناطقة المحكية والمُنادية للتحرَّر بعد عملية التغيير، وعلاقتها الجدلية بالأدب  (الخائف) الصامت الخانع الذي يخضع لسلطة الرقيب.

ومن بين الموضوعات الإثرائيَّة المُهمَّة الأخرى التي بحثها كتاب الناقد المؤلِّف في متن سجل تمظهراته النقدية ورؤاه الفكرية المستويات السَّرديَّة في الرواية العربيَّة وعلاقتها البنائية الفاعلية في الفضاء السردي لجسد الرواية. وأعني بذلك المستويات اللُّغوية الستة، (الإخباري، والتصويري، والقصدي، والتحليلي، والتفاعلي، والتأمُّلي)،التي بها تتكشف مكنونات العمل الروائي وتزدهر فنياً.

فضلاً عن ذلك التأسيس اهتمَّ عليٌّ في تأثيثه البنائي النقدي بفاعلية الحركة الدرامية في السرديَّات الروائيَّة العربيَّة ومدى ارتباطها الوثيق بعنصر (الحوار)الذي يمثِّلُ صوت الشخصيات الروائية المتحركة الناطقة،وعلى وجه الخصوص في الروايات البوليفونية المتعدِّدة الأصوات الفاعلة الأثر.

ولم يغفل الكاتب في فِهرستِ موضوعاته النقدية شخصية (الراوي العليم)، بطل الرواية، وعلاقته النسقية المضمرة أو الظاهرة بالكاتب المؤلِّف الراوي صاحب العمل أو المنتج المُبدع  في تماهيه السردي. وبما أنَّ العتبات العنوانية هي من الموضوعات النقدية المهمَّة الأثيرة، والفواعل السرديَّة البنائيَّة الحديثة التي أكَّدها الناقد الفرنسي جيرار جينيت في تنظيراته الأدبية لكتاب العتبات النصيَّة.

فقد اهتمَّ بها علي لفتة سعيد اهتماماً بالغاً وملحوظاً باعتبار أنَّ العتبات العنوانية الموازية للنصِّ  تشكِّلُ في أيقونيتها الصورية السيميائية في سرديات ما بعد الحداثة بواباتٍ فناريةً رئيسةً قائمةً بذاتها، وتُعدَّ شواخصَ محطَّاتٍ ضوئيةً نافذهً تقود مسالكها الإرشادية ودلائلها الفنيَّة للدخول إلى العالم الأرحب للرسالة النصية في أقانيم يوتوبيا المدينة الفاضلة للرواية الحداثوية الآخذة بالانتشار.

في مُتبنيات كتاب (الفكرةُ وفاعليةُ الحكايةِ في الرِّوايةِ العربيَّة) يأخُذُك الكاتبُ السَّاردُ والناقدُ المُبهرُ علي لفتة سعيد في مضان شواخصه النقدية لسرديَّات ما بعد الحداثة إلى تحوِّلات النصِّ السردي الجديد،والكتابة بصدقٍ عن عوالم المسكوت عنه، والنبش أثرياً في مُعميات المُغيِّب النقدي الفاعل في بناء السرديَّات الروائيَّة العربيَّة المعاصرة فكرةً وحكايةً. فالكشف عنهما حفرياً يمثل في النقدية السردية نتاجَا لثقافةَ ما وتمثيلاً لثقافة ما شكَّلت هاجساً إبداعياً نقديَّاً مُلحَّاً في أَوَّليَات الكاتب.

وفي الوقت ذاته يرغُمُك المؤلِّف عليٌّ لفتة سعيد في أسلوب معجمه السَّردي النقدي الشائق المَكين، ومِهْمَاز لغته الاستفزازيَّة التي تتحايل عليك فنيَّاً وجمالياً في الاستمرار معها -دون فكِّ الاشتباك منها- على رُكُوبِ مخاطرِ موجتها للإبحار عميقاً في مرافئ شواطئها النقدية. لاستكشاف أغوار صدفاتها القَارَّة الخفيَّة في سرديَّات هذا اليَمِّ الواقعي المتلاطم، والمُتخيَّل الأسطوري غير المرئي والعجائبي الفنتازي الذي هو جزء من ظلال الواقع الراهن المعيش بكل تناقضاته المتعدِّدة.

لترى فنيَّة تلكَ الإحالات المتنوِّعة والانتقالات النقدية، والالتقاطات الصُّورية التي يُصدِّرُها لِمُتلقيه في استنطاق تلك الشِّفرات السرديَّة الثابتة في كشوفاته النقديَّة، وسياحته المعرفية المضيئة. والإفادة من وقع حمولاته الفكرية المتجدِّدة التي يمكن أنْ نضعها إضافةً نوعيةً حافلةً في تاريخ سجل سرديَّات المكتبة العربيَّة عامةً والعراقيَّة خاصَّةً على حدٍّ سواءٍ؛ لدراسة السرديَّات الروائيَّة العربيَّة في سياقٍ ثقافيٍّ مُغاير آخر ومُختلفٍ في أقانيم النقديَّة الحديثة التي تحتفي بهكذا فتوحاتٍ.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ

آذار  2024م

 

في المثقف اليوم