قراءات نقدية

جمعة عبد الله: تاريخ العراق مرسوم في رواية (قاتل أبيه) للروائي زيد الشهيد

عمل روائي بالغ الأهمية في المحتوى والمضمون الرمزي في شفراته السياسية، يسلط الضوء على الحقب التي تصدرت المشهد السياسي، في كل أبعاده السياسية والاجتماعية بلغة النقد السياسي، وفي اتجاه الواقعية الحديثة، أو بالأحرى الواقعية الرمزية الحديثة، في ظروف الواقع المتبدل والمتقلب، الذي فقد صوابه وبوصلته، واتجه في صوب معاكس للارادة عامة الناس والبلاد، البعد الرمزي السياسي يوجه رسالة انسانية في كل معانيها الى عامة الناس، بتسليط الضوء على هذه الحقب السياسية، التي اهتمت بصناعة الديكتاتور، بشفرات رمزية بالغة الدلالة والمعنى والمغزى في إيحاءاتها البليغة ، لكشف واقع الازمنة السياسية التي مرت بالعراق، انه مشروع روائي يمتلك المغامرة غير مألوفة، في الرصد الروائي بتقنياته الحديثة، في ابتكار الفكرة او الرؤية الفكرية بشكل خلاق وتطعيمها بالشفرات الرمزية الداله في مدلولاتها التعبيرية العميقة . فإن رواية (قاتل أبيه) صياغة وتقنية ورؤية مختلفة غير مألوف، لكنها تملك رصيد واقعي وفعلي، في الحدث الروائي يحمل المغزى، الذي قاد الى المعاناة القاسية للناس، ضمن وجودية المكان الثابت (السماوة) لجعله رمزية للعراق ككل، ان المنظور الروائي يثير احاسيس القارئ في التفكير والتأمل، وتحريك ذهنه لواقع الحال، وما جرى ويجري، اي ان عملية الخراب متواصلة لم تنقطع، يمتلك العمل الروائي سيمائية الجدل والنقاش الموضوعي الرصين، لكنه يحمل مغامرة في الطرح والتناول، في انطباعات وقناعات واقعية، اضافة الى اللغة المشوقة والمرهفة في السرد، إنها تسلط الضوء على المعاناة والحرمان بشكل صياغة معقولة ومنطقية، ضمن عقيدة النظام الحاكم الذي يؤمن في (أنا الدولة والدولة أنا) والشخوص الروائية تمثل عامة الناس المسحوقين والمعدومين، والشخصية المحورية (نوفل عرفان) هو يمثل المثقف الواعي والملتزم من عامة الناس، لقد دأب على عشقه وحبه الطاغي للأدب والفكر الثقافي والشعري العربي والعالمي، يؤمن في مقولة بودلير (لن يكون الرجل العظيم إلا اذا انتصر على أمته جمعاء) لكن ليس في غرس بذور الخير والعطاء والخصب، وإنما في غرس بذور الشر والهلاك لمعاناة البشر في البؤس والخراب، في الانزلاق الى النزوات الرعناء والحمقاء في شن الحروب العبثية المتوالية، التي قادت البلاد الى الهلاك . إن العمل الروائي ثمرة جهد متواصل يقوم به الكاتب بالتحري عن السيرة الذاتية لحياة (نوفل عرفان) من خلال بحثه الدؤوب والتقاءه مع عدة شخصيات رافقت حياة (نوفل عرفان) وبالاخص الشخصية المقربة (ساجد روضان) الذي صاحب حياة (نوفل عرفان) عن قرب وعرف أسرار حياته، لذلك يعطينا الكاتب، الضوء الكامل على هذه الشخصية التي اشتهرت بين الناس، بأنه القاتل أبيه .

ومن اجل تسليط الضوء على الشخصيات الرمزية وتحليل شفراتها الرمزية الدالة باختصار:

1 - شخصية نوفل عرفان:

الانسان المثقف الواسع الاطلاع في الأدب والشعر والرواية العالمية، احب وعشق شعر محمود البريكان وبودلير رامبو ومولر وغيرهم من الأسماء المتألقة في سماء الشعر والرواية والفن والموسيقى العالمية ، انه مثقف واعي وناضج ومدرك ركام المعاناة للناس، يحمل خزين واسع وغزير من المعارف الثقافية والادبية والشعرية، منذ صباه دأب في اقتناء وشراء الكتب، ويمتلك وعياً ناضجاً لمديات الحياة والواقع، يتعامل بحذر، رغم انه يعيش الحرمان والمعاناة، انه انسان مسحوق كغيره من الناس، تدوسه أقدام الواقع الثقيلة في معاناتها القاسية . ان حياته مليئة بالحزن والشجن، لذلك يجد مأواه الأمن من ثقل الحياة بالعزف على الناي، لكي يخمد هيجان روحه القلقة بالحزن،يواسي احباطاته المخيبة بالعزف على الناي، يزيح أثقال الحياة الوخيمة بالعزف على الناي، يجد بالعزف تهدئة جروحه النازفة كعامة الناس، الذي تتموج بشغف حزين بالشجن العراقي، اتهم بين عامة الناس وعرف بالتسمية المعروفة والمشهورة (بقاتل ابيه) لذا سيرة حياته مرتبطة بهذا الاتهام (أتعرفه ؟ / ومن لا يعرفه؟ّ / أنا لا أعرفه ؟ /من هو ؟! / يقولون عنه قاتل أبيه ؟ / ماذا ؟!) ص16 . عاش حياة مليئة بالحرمان والظلم، احب وعشق الكثير من النساء، لكنه لم يوفق، واخيراً زج في الحرب بعد هروبه، وعاد معوقاً مبتور الساق من جبهات القتال.

2 - رمزية الناي:

يمثل رمزية سمفونية الحزن والشجن العراقي منذ الأزل، والحزن مرادف لحياة العراقي كظله، يجد في عزف الناي الوسيلة الوحيدة، لتهدئة وسكينة انفعالاته من قسوة المعاناة الحياتية، فالناي الملجأ الأمن لتهدئة أزماته ومشاكله التي لا تنتهي بل تتفقس بالكثير من المعضلات، من الأخبار السيئة التي تتزاحم على رؤوس عامة الناس، صوت الناي يمثل الوجع العراقي الذي لا يهدأ ولا يكف، فهو يخاطب النفوس النبيلة في صوت الشجن، لذلك يتخذ عازف الناي (نوفل عرفان) زاوية من الجسر الذي ضرب من قبل طائرات التحالف الدولي في حرب الخليج عام 1991 .، الوقت المناسب للعزف على الناي هو في جنح الظلام، رغم ان المكان موحش لكن (الامكنة الموحشة باعثة على التطير صانعة غيوم الهواجس . الوحشة ترعب المتهجسين) ص6 . و(صوت الناي الشجي أربك منظومة رغبة ترجل أرتأيتها تمنحني سكينة يفتقدها كل من حرم من لذة الهدوء وسط جنون حياتي لحياة لا تطاق لذوي النفوس النبيلة) ص7 .

3 - شخصية ساجد روضان وشخصية الكاتب:

الاول من خلال قربه ومصاحبته المستمرة عن قرب لحياة صديقه (نوفل عرفان) استطاع ان يوصلها الى الكاتب، بمعنى ايصال الحقيقة وكشفها على الملأ، تعتبر جريمة لا تغتفر في الانظمة الطاغية، من يكشف الحقيقة عقوبته الموت والقتل والاغتيال، وهذا ما حدث في قتل (ساجد روضان) . أما شخصية الكاتب هي ايصال السيرة الحياتية وكشفها الى العلن أو النشر وهو يمثل بأن الأحداث التاريخية، لا تسقط مهما بلغ قوة الجبروت الطاغي، بمعنى هذا الثنائي احدهما يكمل الاخر . الحقيقة والتاريخ والكشف والتواصل، من خلال السعي والجهد المرهق لتحري على حقيقة قاتل أبيه (نوفل عرفان) من خلال التقاء بالكثير من الأصدقاء والشخصيات التي تعرفه عن قرب، من اجل اكمال سيرة حياة (نوفل عرفان) وتسليط الضوء عليها .

4 - رمزية شخصية عرفان: صناعة الديكتاتور

عندما تنفتح ابواب الحظ على مصراعيها بدون موعد أو سابق أنذار، يشبه التتويج للملوكية بالملك، بأن (طير السعد) حط على رأسه ونقله من حياة الفقر البائسة، الى حياة الغنى والثراء والنفوذ والجاه والسلطة، بقفزة لم يتوقعها حتى في احلامه، وصار يحكم بالمطلق بالقبضة الحديدية وحياة البذخ الفاحشة، يعني المطر الغزير للخيرات والنعم، تستهلك على نزواته الذاتية، وليس لصالح العام، ولا في البناء والتطوير والاعمار لرفاهية عائلته وأهل بلده، بل حرموا منها كلياً، في تشطي المعاناة والحرمان، استهلكت في نزواته الرعناء والجنونية في شن الحروب في وباء مرض العظمة والعبادة الفردية . ان يصبح اول المقاولين في البلد لتكريس العبادة الذات (وصار الأب من عداد الأغنياء والمتنفذين .. غنى ليس لصالح الاسرة وتطويرها وتحديثها وإنما لتحقيق نزوات متعة فردية للاب حرمان ومعاناة من الام وابنها نوفل وسهيلة) ص58 . وتسليم مقاليد البلد الى الغرباء والمقاولين الطامعين بشراهة إلى الاستحواذ على الخيرات والموارد المالية للبلد . والحروب التي شنها لم تجلب سوى الخراب والدمار، وكانت نهايته الحتمية، كما انهزمت النازية الهتلرية، وشيعت الى مثواها الاخير بالموت والعار.

5 - رمزية المملحة:

ترمز إلى بلد الرافدين، الذي يعج بالخيرات والثمار الوفيرة، من شأنها ان تسعد الناس في حياة كريمة مستقرة، ولكن منذ ان استولى (عرفان) على المملحة (السلطة)، استغلها في تمجيد نفسه بالعظمة، وسلم مقاليد البلاد الى الغرباء والمقاولين الجشعين وكانت النتيجة المأساوية، ضاع البلد والعباد (أزمة نوفل عرفان بالشعور بالحيف الكبير من سلوك أبيه الشائن تجاه العائلة . ذلك السلوك الذي أدى الى ضياع المملحة باندفاع المقاولين الطامعين وكل من هب ودب لنهبها واقتسامها) ص128 .

***

جمعة عبدالله

 

في المثقف اليوم