قراءات نقدية

طارق الحلفي: نصال الواقع وصليل الوهم

قراءة وتحليل لرواية الجيب "المقهى" للأديب قصي الشيخ عسكر

***

تنبيه

* ان قراءة ملخصات الرواية قد لا تغني عن قراءة نص الرواية (الرابط ادناه)

* ان ورود كلمة "قصة" في السياق لا يعني سوى اني عمدت الى قراءة فصول الرواية الخمسة كقصص منفصلة.. تسهيلًا لمتابعة قراءتي التحليلية والتقيمية والنقدية لمفاصلها / ولربما للقارئ ايضا.. دون الاخلال بسياقها العام..

* اضفت فصلًا ختاميًا لتناول شخصية محمود المنقذ

................

مدخل

في مجتمعٍ يئن تحت وطأة القمع السياسي، تُصبح القصص والروايات السياسية أكثر من مجرد حكايات تُروى، فهي نبض الوعي الذي يتسلل عبر الجدران السميكة للسلطة القمعية. هذه الروايات وتلك القصص، التي تحمل في طياتها آلام الأفراد وأحلام الشعوب، تتحول إلى مرآة تعكس حقيقة الظلم، وتفضح أوجه الاستبداد المخفية خلف أقنعة القوة.

إنها صرخات مكبوتة تجد في الكلمات طريقًا للهرب، ومن خلالها يُبَعث الوعي الاجتماعي من جديد، كأمواج لا تعرف الهدوء، تضرب سواحل الصمت المستسلم، وتثير تساؤلات عميقة في النفوس حول العدالة، الحرية، والكرامة. في ظل هذه القصص، تُضاء الزوايا المعتمة من التاريخ الجماعي، ليظهر جليًا أن القمع ليس قدرًا محتومًا، وأن الشعوب قادرة على استعادة صوتها.

كل قصة سياسية في هذا السياق تصبح بذرة تمرد، تزرع الشك في نفوس الناس إزاء شرعية الظلم، وتثير العزيمة لإعادة صياغة مصيرهم بعيدًا عن قبضة الاستبداد. إن الوعي الذي يولد من رحم هذه القصص لا يتوقف عند الرفض، بل يتجلى في العمل، في الصمود، وفي تحويل الألم إلى ثورة تقود إلى فجر جديد حيث يُعيد الشعب كتابة تاريخه بيده. والرواية التي بين أيدينا (" المقهى": للروائي المهجري/ قصي عسكر) تنحو هذا المنحى.. ولكن بأسلوب يقربنا من معناتنا ويبعدنا اليها بطريقته تتميز بالإدهاش.

* ملخص مكثف للرواية

يروي النص قصة "محمد العابد" الذي يجد نفسه فجأة متهمًا ضمن قائمة مشبوهين في مؤامرة لا علاقة له بها. يعيش في حالة من الشك والخوف، محاصرًا بين الرغبة في إثبات براءته وعجزه عن الهروب من مصير مشؤوم يلاحقه. مع تصاعد الضغوط والاضطرابات السياسية، يتخذ قرار الهروب كخيار وحيد، بحثًا عن خلاصه عبر لقاء السيد "محمود المنقذ" الشخصية الغامضة. في النهاية، يهرب تاركًا عائلته تواجه مصيرها وحدها.

يعيش البطل في غرفة متواضعة بمزرعة دواجن صهره، محاصرًا بصراع داخلي بين ما وصله عن براءته من اتهام خاطئ، وخوفه من خيانة صهره "ممدوح". وسط هواجس الهروب، يجد أن الواقع المشوه لا يترك مجالًا للخطأ. مع تعمق الصراع، يصبح الهروب عبر "محمود المنقذ" أمله الوحيد.

يلجأ البطل إلى منزل صديقه "نجاح" هربًا من المطاردة السياسية ورغبة بلقاء "محمود المنقذ"، لكنه يواجه توترًا بسبب أخت صديقه، "بدرية"، التي تبدي انجذابًا غير لائق نحوه. رغم صراعه الداخلي بين الانجذاب وحسه الأخلاقي، يتورط في لحظة ضعف معها. يتمكن نجاح من ترتيب خطة الهروب، تاركًا البطل في حالة ارتباك.

يكتشف الراوي أن "محمود المنقذ"، الذي تخيله قويًا، ليس سوى سائقًا نحيف يقوده إلى مخبأ آمن. تحت تعليمات محمود، يتقمص الراوي دور الأعمى بهوية جديدة، محاولًا الاندماج في مجتمع العميان. خلال عزلة المخبأ، يسترجع الراوي ذكريات علاقته ببدرية ويعيش أوهامًا متداخلة مع الواقع، في ظل تعليمات صارمة للحفاظ على سلامته.

في عالم من الظلام، يتقمص الراوي دور الأعمى ويستكشف الموسيقى عبر حواسه الداخلية. ينفذ اللحن إلى أعماقه، ليضيء عتمته الداخلية أثناء وجوده في مقهى مظلم. تتكامل أنغام المغني المجهول مع تأملات الراوي في الحياة. يتفاعل مع أصدقائه الجدد، "خليل والمغنية"، ليكتشف ملامح جديدة للوجود، حيث يصبح الصوت رفيقًا ومرشدًا في رحلة اكتشاف الذات وسط النغمات.

***

الفصل الاول

* الهروب من مصير مجهول

يصور الكاتب ببراعة سردية حياة رجل يتعرض لمحنة وجودية وسياسية، حيث يجد نفسه فجأة في قائمة المشبوهين، متورطاً في مؤامرة ضد السلطة القائمة لا علاقة له بها. عبر وصف متوتر ومكثف، يرسم الكاتب صورة "محمد العابد"، الرجل الذي كان يعيش في حياد، محاولاً الابتعاد عن مشاكل السياسة وصراعاتها، ولكنه يجد نفسه محاصراً في دوامة الشك والخوف.

بينما كان يجلس "محمد العابد" مع عائلته، يستمع إلى المذياع الذي يعلن عن محاولة انقلاب فاشلة، يتفاجأ بذكر اسمه ضمن قائمة المشبوهين.. يسقط عليه الخبر كالصاعقة، حيث يجد نفسه محاصرًا بين تصديق الواقع الذي يفاجئه وكذبه. انه يعلم جيدًا أن ذكر اسمه ليس مجرد خطأ، بل هو مصير مشؤوم قد يجرفه إلى الهاوية.

الشك والخوف يتسللان إلى قلب عائلته، فتنطلق التساؤلات من حوله: هل هو المتهم حقًا؟ أم أن الأمر التبس على السلطات؟ وبينما يحاول الراوي إثبات براءته لعائلته ولذاته من أي جريمة، مع ادراكه أن البراءة وحدها لن تنقذه من شرك التهم الموجهة إليه. وفي لحظة حرجة، يكشف عن قلقه المتزايد من الأوضاع المحيطة به، فتدور في ذهنه فكرة واحدة: الهروب..

الهروب هو الخيار الوحيد امامه، من مصير مروع يلاحقه في بلد يعج بالفوضى والاضطرابات. لذا يتحدث الراوي عن رغبته الوحيدة: أن يلتقي السيد "محمود المنقذ"، الرجل الغامض الذي صار رمزًا للخلاص، والذي تتناقله الألسن كالأمل الأخير للهاربين من جحيم السلطة. السيد محمود، سواء كان حقيقة أم خيالًا، أصبح طوق النجاة الوحيد في عين الراوي، الذي يرى فيه الأمل للهرب من مطاردة لا ذنب له فيها.. إنه قرار صعب، لكنه يرى أن البقاء والمواجهة ليستا سوى طريقين يؤديان إلى الهلاك. فلا نجاة إلا في الهروب، ولا خلاص إلا عبر طريق مجهول يقوده نحو مصير غير مؤكد.

مع تصاعد الأحداث، يقرر الراوي الهروب إلى منزل صهره أو صديقه، ولكن حتى هذه الخطة تشوبها الشكوك. يتردد بين البقاء في مأمن نسبي لدى صهره صاحب النفوذ أو اللجوء إلى صديقه، لكن عقله المثقل بالهموم والقلق يدفعه نحو اتخاذ قرار سريع. يختار الهرب إلى المجهول، رافضًا فكرة تسليم نفسه للسلطات. فهو يعلم أن براءته لن تُسمع وسط الصخب والفوضى.

في نهاية المطاف، يخرج الراوي من الباب الخلفي للمنزل، تاركًا وراءه كل شيء.. وبعد هروبه، تصل الشرطة برفقة كلب مدرب للبحث عنه، إلا أنه كان قد غادر بالفعل، تاركًا خلفه عائلته تواجه العاصفة وحدها.

* قراءة وتحليل

1. الصراع مع السلطة:

الرواية تصور علاقة مضطربة بين الفرد والسلطة. بطل القصة، "محمد العابد"، يجد نفسه في مواجهة غير مباشرة مع النظام السياسي الحاكم بعد أن أُدرج اسمه ضمن قائمة المشتبه بهم في محاولة انقلاب أو حركة معادية. يظهر الصراع السياسي من خلال استخدام السلطة للمفردات القديمة مثل "زمرة حاقدة" و"خفافيش الظلام"، مما يعكس محاولاتها للحفاظ على السيطرة باستخدام القمع والترهيب. يثير هذا الموقف السؤال حول الحريات الفردية والممارسات الاستبدادية، حيث يصبح الأفراد المتهمون بلا ذنب ضحايا لآلة السلطة. تكشف القصة عن البارانويا التي تسيطر على المجتمع في ظل تلك الظروف السياسية الصارمة.

2. التشكيك في العلاقات البشرية:

العلاقات الاجتماعية هنا هشة وملتبسة، حيث يرى "محمد العابد" أنه، حتى الصداقة قد تصبح دليلاً ضده في أعين النظام. الرواية تستعرض حالة من الارتياب الاجتماعي، إذ يمكن للعلاقات الاجتماعية أن تشكل تهديدًا للفرد في مجتمع مضطرب. الانتماء الاجتماعي يصبح في هذه الحالة عبئًا وليس مصدرًا للدعم، وهو ما يجعل البطل يتردد بين الولاء لأصدقائه وخوفه من السلطة. يبرز هنا التضارب بين المفاهيم الجماعية للفرد والعائلة، وبين العزلة التي تفرضها الظروف السياسية والاجتماعية.

3. الهروب والبحث عن النجاة:

الرواية تصور حالة من التوتر والقلق التي تصيب الفرد حين يشعر بأن حياته في خطر. الهروب يصبح الملاذ الأخير لمحمد العابد، فهو يشعر بأن خيار البقاء يضعه في مواجهة الموت المحتمل. هذه المشاعر تترجم إلى حالة من الانعزال والاضطراب الداخلي، حيث يتردد البطل بين الرغبة في الدفاع عن براءته ومحاولة إيجاد مخرج سريع. القصة تطرح سؤالًا عن جدوى المقاومة الشخصية أمام سلطة أكبر وأقوى، وهل يستطيع الإنسان الدفاع عن نفسه في مواجهة نظام غير عادل؟

4. الحقيقة والوهم:

يطرح هذا الجزء من الرواية تساؤلات حول الحدود بين الحقيقة والوهم. في ظل الظروف القاسية، يصبح البحث عن المنقذ وهمًا يطارد البطل، كما يتسرب الوهم أيضًا في تفسيراته للأحداث من حوله. على الرغم من الشكوك التي تراوده حول وجود السيد "محمود المنقذ"، يظل البطل متشبثًا بفكرة الخلاص عبر هذا الشخص. هنا يظهر الجانب الفكري في القصة، إذ يعكس واقعًا معقدًا يتداخل فيه الوهم مع الحقيقة، واليقين مع الشك، ويصبح الهروب نحو المجهول بمثابة الملاذ الأخير للبطل، حتى لو كان وهميًا.

5. المنقذ والمطارِد:

يمثل السيد "محمود المنقذ" رمزًا للخلاص والأمل، بينما يمثل النظام الذي يلاحق "محمد العابد" رمزًا للقمع والمطاردة. كلا الرمزين يتصارعان في نفس البطل، حيث يحاول العثور على مخرج وسط مطاردة غير مبررة. المنقذ يمثل الوهم الجميل الذي يتيح للإنسان الشعور بالأمان، فيما تمثل السلطة رمزا للرعب والخطر الذي يطارد الفرد بلا هوادة. هذا التصادم بين الرمزين يعكس التوترات العميقة في المجتمع الذي يتداخل فيه الأمل والخوف.

6. مسألة الحرية والاختيار:

الرواية تثير الأسئلة حول مفهوم الحرية. هل يملك الفرد حقًا حرية الاختيار في ظل القمع والاستبداد؟ "محمد العابد"، رغم براءته، يجد نفسه مضطرًا لاتخاذ قرار الهروب حفاظًا على حياته، وهذا ما يجعله يواجه سؤالًا وجوديًا: هل الهروب هو الخيار الصحيح؟ انه يشير الى صعوبة اتخاذ القرارات في عالم لا يترك للفرد مساحة للاختيار الحقيقي، إذ يصبح الهروب هو الخيار الوحيد المتاح، مما يجعله في النهاية قرارًا قسريًا، وليس حريةً حقيقية.

7. تواطؤ الإعلام

تتناول الرواية، دور الإعلام كأداة للسلطة في تضخيم الأحداث وخلق حالة من الهلع بين المواطنين. يظهر النقد بشكل واضح من خلال وصف المذيع الذي يعلن أسماء المتهمين بنبرة حماسية، ما يعكس دور الإعلام في ترويج المعلومات التي تخدم مصلحة السلطة وتزيد من حالة الخوف والارتباك. يشير النص إلى أن الإعلام ليس وسيلة لنقل الحقيقة، بل أداة سياسية تُستخدم لتعزيز سيطرة النظام على الأفراد، مما يعكس تواطؤ الإعلام في نشر الخوف وزعزعة الثقة بين المواطنين

8. البناء الدرامي والتشويق:

ان الرواية تتسم ببناء سردي مشوق يعتمد على تصاعد التوتر من خلال سرد متدرج للأحداث. بدايةً من حالة الهدوء التي تعيشها الأسرة، وصولًا إلى المفاجأة الكبيرة حين يسمع البطل اسمه ضمن قائمة المشتبه بهم، يتطور السرد بشكل تصاعدي ليبني حالة من القلق والترقب. الأسلوب الأدبي يعتمد على الوصف النفسي العميق، واستخدام الجمل المتقطعة التي تعبر عن حالة التوتر الداخلي للبطل. كما أن استخدام الرموز مثل المنقذ والهرب، يمنح القصة أبعادًا أعمق تتجاوز مجرد السرد الظاهري.

9. توظيف القلق النفسي لخدمة المعنى الفلسفي والسياسي:

الجوانب المختلفة للقصة تتداخل بسلاسة لتشكل رؤية شاملة عن الإنسان في ظل القمع. القلق النفسي الناتج عن المطاردة السياسية يعزز فكرة غياب الحرية والاختيار الحقيقي. كذلك، العلاقات الاجتماعية المتوترة تعكس انهيار الثقة بين الأفراد تحت وطأة التهديد المستمر. كل هذه العناصر مترابطة، حيث يوظف الكاتب القلق النفسي لبناء حوار فلسفي حول الحرية والوهم، ويطرح تساؤلات حول العلاقة بين الفرد والسلطة في سياق اجتماعي وسياسي مضطرب.

في النهاية، القصة تبرز عالمًا مليئًا بالشك والخوف، حيث يصبح الهروب هو الخيار الوحيد للبقاء، حتى وإن كان وهمًا..

***

الفصل الثاني

* بين الهروب والاتهام الخاطئ

في المزرعة، يجد البطل نفسه في غرفة متواضعة ملحقة بقسم تطل على مزرعة تربية الدواجن، بعيدًا عن فخامة منزل أخته. حيث استقبله صهره "ممدوح الراضي"، بتجهم واتهام، الامر الذي فجرّ الماضي المؤلم الممتد إلى الحاضر، والمرتبط برفضه الاندماج في مشاريع صهره ولومه على انخراطه في تنظيم سري يسعى لقلب الأوضاع في البلد.

ليال يقضيها البطل في غرفة مراقبة الدواجن، حيث سطوع الأنوار الكاذب يوهم الدجاج بوجود نهار دائم، فترى الدجاجات تلتهم الحبوب بنهم لا يشبع، مجسدةً لحظة التوهان والانفصال عن الواقع.

الصراع الداخلي يحتدم في نفسه، بين هواجس الهروب وخوفه من خيانة صهره، وبين تطلعاته للهروب بوساطة "محمود المنقذ". تتبدل مشاعر البطل من الانكسار إلى التردد، قبل أن يكتشف أن خطأً بسيطًا في الاسم جعله متهماً رغم براءته.

في النهاية، يجد نفسه مجبراً على مواصلة التفكير في الهروب، تاركًا وراءه أسئلة عميقة عن البراءة والذنب، في واقع لا يتسع للخطأ ولا يعترف به. فالهروب يصبح الخلاص الوحيد، وعليه ان يجد من يوصله الى السيد "محمود المنقذ".. ولم يجد سوى صديقه "نجاح" الذي سيتحمل معه ثقل هذا العبء.

* قراءة وتحليل

1. الاستبداد والحكومة:

في بداية القصة، نواجه صراعًا بين الشخصية الرئيسية والحكومة التي تمثل السلطة القمعية. الصهر "ممدوح الراضي" يعكس قوة الدولة التي ترفض أي محاولة لتغيير النظام، ويظهر موقفًا متغطرسًا تجاه البطل. هذا الصراع السياسي يطرح تساؤلات حول قوة السلطة المركزية وتضييقها على الحريات والحقوق الفردية، حيث أن الحكومة تُصور ككيان لا يعترف بالخطأ، مما يعكس فلسفة الأنظمة الاستبدادية التي ترفض تحمل المسؤولية أو الاعتراف بأخطائها.

2. قوة الأعراف والضغوط العائلية:

نرى هنا كيف تهيمن الأعراف العائلية على حياة الأفراد وتوجهاتهم. البطل مجبر على اللجوء إلى صهره رغم رفضه السابق للزواج من أخته، مما يعكس ضغوط المجتمع التقليدي حيث العلاقات العائلية تلعب دورًا كبيرًا في تحديد المصائر. هنا، البطل لا يملك خيارًا سوى الاستسلام للواقع الاجتماعي الذي يفرضه عليه محيطه. الأسرة تبدو حصنًا هشًا أمام السلطة السياسية، ولكنها أيضًا وسيلة للبقاء والحماية المؤقتة.

3. القلق والبحث عن الأمان:

القصة تكشف عن قلق وجودي عميق يعاني منه البطل. الشعور بالخطر والاضطهاد يطارد الشخصية الرئيسية، مما يدفعه إلى البحث عن مأوى ومهرب من الملاحقة. حالة التوتر تظهر من خلال مراقبة الدجاج والنوم المضطرب، مما يعكس اضطرابًا داخليًا عميقًا. الرمز النفسي للدجاج الذي لا ينام يعبر عن قلق البطل المستمر وشعوره بأنه مراقب ومطارد بلا نهاية.

4. ضوء الدجاج المخادع:

ان "ضوء الدجاج المخادع" يمكن ان يكون انعكاسا لخداع النظام والسلطة، حيث يوحي النور الكاذب للدجاج بأن النهار مستمر، فيمنعه من الراحة. هذا النور المخادع يرمز إلى الأوهام التي تصنعها السلطة للبشر لإبقائهم منشغلين وغير قادرين على رؤية الحقيقة. هنا، الضوء هو أداة للسيطرة مثلما يُستخدم الإعلام أو الخطاب السياسي في المجتمعات المستبدة لخداع الناس وإبقائهم في حالة من السبات الذهني.

5. الحرية والاستعباد:

تتناول القصة مفهوم الحرية والاستعباد. الدجاج الذي يلتهم الطعام باستمرار دون أن يدرك أنه محبوس يعكس الحالة البشرية في ظل السلطة، حيث يسلب الأفراد حريتهم بينما هم مشغولون بتلبية حاجات أساسية. كما أن الثعلب الجشع الذي يسعى للقتل بلا هوادة يرمز إلى السلطة المطلقة التي لا تعرف الشبع ولا التوقف، مما يثير تساؤلات حول طبيعة السلطة والجشع الذي يرافقها.

6. الصراع مع الذات والآخر:

من الناحية الفكرية، نجد البطل في حالة صراع داخلي بين مبادئه الشخصية وواقعه الاجتماعي. رفضه للعمل مع صهره أو الدخول في مشاريع مشبوهة يعكس صراعه مع التنازلات التي يفرضها النظام. لكن في الوقت نفسه، يضطر إلى قبول المساعدة، مما يثير تساؤلات حول مدى قدرة الإنسان على التمسك بمبادئه في مواجهة القوى الأكبر.

7. الرمز واللغة البصرية:

على المستوى الأدبي، تُستخدم اللغة بمهارة لخلق جو من التوتر والانعزال. العناصر البصرية مثل "الأفق الواسع"، "الضوء المخادع"، و"الدجاج الذي لا ينام" تعزز الشعور بالعزلة النفسية التي يعاني منها البطل. السرد الأدبي متداخل بين الوصف الحسي والتأمل النفسي، مما يخلق تجربة أدبية غنية بالرموز والتعابير الشعرية.

8. الهروب كحل نهائي:

في النهاية، الهروب هو الخيار الوحيد المتبقي للبطل، وهو يرمز إلى الفشل في مواجهة النظام الاجتماعي والسياسي. هنا تتداخل الفلسفة السياسية والاجتماعية مع التحليل النفسي والفكري لتبرز أن الهروب هو محاولة يائسة للبقاء خارج منظومة الظلم والقمع، لكنه أيضًا يعبر عن استحالة التغلب على قوة السلطة في هذه الظروف.

ان ترابط هذه المحاور يعكس واقعًا مأساويًا للأفراد في ظل أنظمة قمعية، حيث يظل الهروب هو الخيار الوحيد أمام الفرد المنعزل والمطارد.

***

الفصل الثالث

* بين الهروب والإغراء

حينما غادر منزل صهره لم يجد سوى بيت صديقه القديم "نجاح" مأوى مؤقتًا.. ورغم الترحيب الكبير الذي يلقاه من صديقه، يتجدد شعوره بالتوتر بسبب أخته "بدرية"، التي سبق وأن أبعدته عن زيارة البيت بسبب نظراتها وتصرفاتها غير اللائقة تجاهه. البطل الذي يحمل أعباء المطاردة السياسية، يعاني من صراع داخلي بين انجذابه المتردد لبدرية وحسه الأخلاقي الذي يحاول منعه من الوقوع في الخطأ، خاصة وأنه لا يريد أن يخون صديقه مع اخته بدرية..

بدرية، التي تتمتع بشخصية جريئة وصريحة، تستمر في إبداء رغبتها في البطل وتعرض عليه الهروب معه خارج البلاد، لكنها تفاجئه بجرأتها وطلبها المهر بشكل غير تقليدي. في لحظة ضعف، ينصاع البطل جزئياً لها ويقبلها، لكن صوت الباب يجعلهما يستفيقان من هذه اللحظة المحرجة.

"نجاح" ينقذ الموقف، الذي يدخل مباشرة فيما عاد به.. لإخبار البطل بأن خطة هروبه إلى الخارج جاهزة، والفضل يعود لمساعدة صهره الذي رتب له موعدا مع "محمود المنقذ".

رغم ارتباك البطل وشكه في أن "نجاح" قد لاحظ شيئًا ما، إلا أن النهاية تترك المشاعر متأرجحة بين الالتزام بالواجب الأخلاقي والخوف من تداعيات ما حدث، وسط تأكيد "بدرية" على التواصل في المستقبل.

* قراءة وتحليل

1. المطاردة والهروب كحتمية:

في بداية القصة، يتجلى الصراع السياسي الذي يطارد البطل، حيث يجد نفسه في مرمى السلطة دون رحمة. السلطة هنا ترمز إلى قوة سياسية قمعية لا تعترف بأخطائها ولا تسامح، مما يدفع الشخصية إلى الهروب كحتمية للبقاء. يعكس هذا المشهد حالة اللايقين واليأس التي يشعر بها الفرد المعارض في ظل نظام ديكتاتوري، ويعزز من فكرة انعدام الأمان الشخصي والسياسي في هذه البيئة.

2. الصداقة وثقل العلاقات الاجتماعية:

ينتقل السرد إلى تفاصيل علاقته مع صديقه نجاح، حيث يظهر التضاد بين العلاقة الشخصية والعلاقات الاجتماعية. "نجاح" هنا يمثل صديقا متفهما وهادئا، لكنه غير مدرك للعواصف الخفية التي تهز أركان علاقة البطل بأسرته، خاصة اخته بدرية. تبرز هذه النقطة الجانب الاجتماعي المعقد في المجتمعات المحافظة، حيث تؤثر سمعة العائلة والأخلاق العامة في علاقات الأفراد، وتتحكم في مصائرهم بطريقة خفية وقوية.

3. "بدرية" كمرآة للرغبات المكبوتة:

بدرية، شقيقة نجاح، تلعب دوراً رمزياً معقداً، فهي ليست مجرد شخصية ثانوية، بل تمثل الجسد والرغبات المكبوتة في نفس البطل. "بدرية" بجرأتها ووضوحها تمثل قوة مدمرة وشرسة تحاول اختراق قشرة المجتمع المحافظة، وهي في الوقت ذاته تعبير عن تناقضات البطل الداخلية. إنها الرمز للحرية الجنسية المكبوتة داخل مجتمع لا يتقبل مثل هذه الجرأة، وتزيد من تعقيد مشاعر البطل تجاه صديقه وذاته.

4. الصراع بين الواجب والرغبة:

تنشأ هنا مسألة أخلاقية مهمة، حيث يشعر البطل بضرورة الحفاظ على صداقته مع نجاح، لكنه يجد نفسه في صراع مع رغبته المكبوتة تجاه "بدرية". التوتر بين الواجب الأخلاقي والعلاقات العاطفية والرغبة الجسدية يمثل صراعاً نفسياً شديداً. "بدرية" تعبر عن رغبة لا تعرف الحدود، تتحدى القيم الاجتماعية السائدة، وتجعل البطل يشعر بالضعف والخوف من الانجراف نحو الممنوع.

5. الضعف والحرية:

في لحظة مهمة، يشعر البطل أنه غير قادر على مقاومة رغباته ولا يستطيع تبرير ضعفه أمام "بدرية". هذه اللحظة تطرح تساؤلات فلسفية حول ماهية الحرية والإرادة البشرية. هل نحن مسيرون برغباتنا، أم أن بإمكاننا التصرف بحرية كاملة؟ البطل يختبر هنا حدود حريته، حيث يدرك أن الهروب من "بدرية" قد يكون السبيل الوحيد للنجاة من ذاته. انه صراع ذاتي بأبعاد وجودية.

6. المرأة كقوة مدمرة ومنقذة:

"بدرية" تتجسد في هذا السرد كرمز للمرأة التي تحمل في داخلها تناقضات المجتمع، فهي في الوقت نفسه رمز للحب والجنس، وأيضاً للتمرد والهدم. تمثل "بدرية" القوة النسائية التي لا تتقبل الانكسار، والتي تعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية حولها، وتدفع البطل إلى اختبار نفسه أخلاقياً وفكرياً.

7. الأدب وتمازج الشخصيات/ اللغة المزدوجة:

أخيراً، تأتي هذه القصة لتُظهر البراعة في المزج بين السرد الأدبي العالي والرمزية العميقة. كل شخصية تمتزج ببعضها، إذ أن "نجاح" يمثل الاستقرار الاجتماعي الذي يتصدع تحت وطأة رغبات "بدرية" العنيفة، بينما يتأرجح البطل بين الرغبة والخوف، بين الضعف والقوة، وبين الهروب والانجراف.

8. اللايقين المصيري:

في النهاية، يكون المصير غير واضح، حيث لا يجد البطل نفسه هارباً فقط من السلطة السياسية، بل من ذاته ومن علاقاته المعقدة. تشكل النهاية حالة من الغموض والضياع النفسي، وهو ما يعكس بشكل عميق الحالة الإنسانية أمام الظروف السياسية والاجتماعية القاسية.

***

الفصل الرابع

* الوهم والحقيقة في مخبأ "محمود المنقذ"

يروي النص تجربة الراوي الأولى مع "محمود المنقذ"، الشخصية التي كان يتوقعها مختلفة تمامًا عن الواقع. الراوي، الذي كان يتخيل محمودًا كرجل قوي وضخم، يتفاجأ حين يراه كسائق سيارة أجرة نحيف وصغير الحجم. يقوده محمود إلى مخبأ آمن، ويطالبه بالتصرف كأعمى، مع توجيهات صارمة تعتمد على السمع لا البصر. الراوي يستجيب لتعليمات محمود، ويبدأ في تقمص دور الأعمى، حيث يرتدي نظارة سوداء ويعتمد على عصا.

في المخبأ، يتلقى الراوي تعليمات أخرى من محمود حول الحياة اليومية في هذا المكان، ومنها تجنب تشغيل الأضواء ليلاً، وتجنب لفت الانتباه، والاندماج في مجتمع العميان الموجود أسفل المخبأ. يمنحه محمود أيضًا هوية جديدة باسم "ضيف الله سرحان"، مع نصائح حول التعامل مع الآخرين، بما في ذلك كلمة سر خاصة لضمان سلامته.

تتوالى الأحداث حيث ينعزل الراوي في الغرفة، ويتأمل الحياة من نافذة المخبأ، ويستغرق في ذكريات الماضي، بما في ذلك علاقته ببدرية، الفتاة التي أحبها ولكن كانت لها جوانب قوية ومسيطرة. يعود إلى الحاضر ليرى مشهدًا خياليًا حيث تتعرى "بدرية" في السوق، ولكن عندما يرفع نظارته، يكتشف أن المشهد كان وهميًا، ويعود إلى واقعه في عزلة المخبأ.

* قراءة وتحليل

1. السلطة والتحكم:

الرواية تعكس بنية السلطة التي تعتمد على الإخفاء والتضليل في سبيل التحكم في الأفراد. شخصية "السيد محمود المنقذ" تمثل نوعاً من القادة الذين يسيطرون على الآخرين من خلال التلاعب بهم وإعطائهم شعوراً زائفاً بالأمان. فالتأكيد المتكرر على العمى والتجاهل يعكس رمزية السلطة التي تفرض الحجب على الحقيقة والواقع السياسي، حيث يتعين على الناس الاعتماد على "السمع" لا الرؤية. هذه السيطرة على الحواس تعكس بيئة سياسية خانقة، حيث يتم توجيه الناس دون رؤيتهم الكاملة للعالم من حولهم.

2. العمى الجماعي والخضوع:

العلاقة بين الفرد والمجتمع تتضح هنا عبر مفهوم "مقهى العميان"، حيث يتحول المجتمع إلى جماعة من العميان، تتجمع في مكان مغلق، معزولة عن الواقع الخارجي. تشير هذه الرمزية إلى حالة الخضوع الجماعي، حيث يتم توجيه الجميع دون وعي حقيقي. الشخصية الرئيسية تحاكي العمى حتى لا تكون شاذة عن هذا النمط الاجتماعي، مما يعكس الامتثال الكامل للقيود الاجتماعية التي تفرضها الظروف السياسية، إذ يجد الفرد نفسه جزءاً من نظام يعزله عن ذاته وعن الآخرين.

3. العمى الداخلي والصراع الذاتي:

تمثل القصة صراعاً داخلياً بين الرغبة في التحرر والخوف من المخاطر التي قد تواجه البطل. تجسّد شخصية "المنقذ" الظاهرية عملاقًا مهيبًا، لكنها تتقلص إلى مجرد سائق تاكسي، وهو ما يعكس فشل الأوهام المرتبطة بالقادة أو الشخصيات التي يتوقع الناس أن تكون قوية. الصراع النفسي بين الاعتماد على "السمع" بدلًا من "الرؤية" يعكس فقدان الثقة في الحواس الخاصة، والاعتماد على الآخرين في اتخاذ القرارات الشخصية.

4. الحقيقة والوهم:

تسلط القصة الضوء على التوتر بين الوهم والحقيقة. النظارة القاتمة التي يعطى البطل إياها تمثل عجز الفرد عن رؤية الواقع كما هو، وهي إشارة إلى الطرق التي يُعزل بها الفرد عن الحقيقة في المجتمعات القمعية. الفكر الذي يبثه "المنقذ" هو فكر النجاة من خلال الخضوع للقيود والتوجيهات، مما يطرح تساؤلات حول مدى إمكانية إدراك الفرد لحقيقته الذاتية.

5. العمى كرمز للجهل والاستسلام:

العمى هو الرمز الأساسي في القصة. يستخدم "المنقذ" العمى كوسيلة لحماية البطل، لكنه في الوقت نفسه يجسّد رمزية الجهل والاستسلام، حيث يطلب من البطل ألا يعتمد على عينيه. العمى هنا ليس فقط بصرياً، بل يمثل انقطاعاً عن الفهم والإدراك الكاملين. بقاء البطل في هذا الوضع يرمز إلى حالة التسليم للظروف المحيطة به، والانقياد وراء رموز السلطة دون تفاعل واعٍ.

6. الخلاص والحرية المشروطة:

ان التساؤلات العميقة التي تتجلى في القصة حول معنى الخلاص والحرية ازاحة فلسفية ذكية يقوم بها القاص. والسؤال الادق هنا هو: هل يمكن للمرء أن يكون حراً إذا كان أعمى؟ الحرية التي يعد بها "المنقذ" مشروطة بالعمى والطاعة، وهي حرية وهمية. هذه المفارقة الفلسفية تدفع القارئ للتفكير في ماهية الحرية الحقيقية، وعما إذا كانت تعتمد على الوعي الكامل أم على الانصياع والتكيف مع القيود.

7. الواقعية الرمزية والتشويق:

القصة تستخدم لغة رمزية عميقة الدلالة وهي تصف العالم من خلال عيني البطل الذي يرتدي النظارة القاتمة. استخدام الأبيض والأسود، غياب الألوان، والصور المرتبطة بالعمى تعزز الجو المشوق والغامض الذي يسيطر على السرد. الحبكة تتطور ببطء، مما يزيد من حالة التشويق، حيث ينتقل البطل من مرحلة الاعتماد على "المنقذ" إلى نوع من التأمل في مصيره الشخصي. الحوار المكثف بين الشخصيات يعمّق الصراع الداخلي ويضفي أبعادًا جديدة على القصة.

* الترابط بين الظواهر:

تتداخل هذه الأبعاد جميعها لتقدم رؤية شاملة عن المجتمع المقموع، حيث السياسة تتداخل مع العمى الاجتماعي والنفسي. القصة تحاكي رحلة البحث عن الذات والحرية ضمن عالم مظلم، حيث يعتمد البطل على السمع والخيال بدلاً من الرؤية المباشرة، مما يعزز من رمزية العمى كحالة ذهنية واجتماعية تنتشر في أرجاء المجتمع.

***

الفصل الخامس

* سيمفونية في متاهة الظلام

في متاهة الظلام، يخطو الراوي وهو يتقمص دور الأعمى متلمساً الطريق بصمت ووجل.. متلمساً خطواته إلى عالم الموسيقى التي لا يرى ألوانها، بل يراها بأذنه. مع كل هبوط على الدرج، تنفذ الموسيقى إلى أعماقه، وكأنها تنير عتمته الداخلية. في المقهى المغمور بالظلام، تتكامل معزوفات الحياة مع صرخات الأمل، والمغني الذي لا يُعرف يصدر لحنه كنبع شجي يروي ظمأ الروح. يتلمس "ضيف الله سرحان" خيوط موسيقى القدر، فيحاكي عالم العميان حيث ينصهر السمع في سحر الأنغام، ويتناول كأس الشاي دون سكر، كرمز لمشقة اكتشاف الذات وسط النغمات. في الحوارات مع "خليل والمغنية"، تتكشف ملامح جديدة عن الوجود، حيث يتلاقى الجمال والإلهام في عالم يقود فيه الصوت كل شيء، وينبض الحياة رغم العمى.

في هذا النص الذي يشبه سيمفونية متقنة من الأحاسيس والتجارب، نعيش مع الحواس الداخلية لعالم غارق في الظلام، حيث يكون الصوت هو الرفيق الوحيد والمرشد في دروب الليل

إنها قصة عن الخوف من المجهول، وعن اليأس الذي يحول الوهم إلى حقيقة، وعن التمسك بأمل واهن في عالم يضج بالفوضى.

النص الذي بين أيدينا يعد سردًا فلسفيًا نفسيًا، يتناول أزمة وجودية وفكرية يعانيها الراوي في إطار اجتماعي وسياسي متوتر. فهو يمزج بين الواقع والخيال، وبين الحقائق المتعارف عليها والأوهام التي يختلقها الفرد في محاولة للهروب من أزماته النفسية والاجتماعية.

* قراءة وتحليل

1. الصراع بين البصر والعمى:

فتح الكاتب هذا الجزء بتلميح واضح عن الصراع النفسي بين الرغبة في استكشاف الواقع والخوف من مواجهته. بطل القصة، الذي يتخذ من العصا والنظارة رمزين، يعاني من عدم القدرة على مواجهة العالم بعينيه، مما يجعله يعتمد على حواسه الأخرى، خاصة السمع. هذا التردد بين استخدام العينين أو التخلي عنهما يعكس قلقاً وجودياً حول القدرة على التعامل مع الحقائق الصادمة للعالم. تزداد قوة هذا الصراع النفسي مع تقدم الرواية، حيث يصبح الغناء رمزًا للخلاص أو الانغماس في عالم آخر يتجاوز القيود الحسية.

2. العمى كواقع مجتمعي:

يمثل المقهى في القصة مجتمعا بديلاً، حيث الجميع عميان. هذا العالم يعكس المجتمع الكبير ولكن بقوانينه الخاصة؛ حيث الحواس الأخرى، خاصة السمع، تتفوق على البصر. النظام الاجتماعي في المقهى يشير إلى تساوي الناس بغض النظر عن قيودهم، ولكن هناك تميّزات خفية بين الأدوار (المغني، العازف، المستمع). هذا البعد يعكس عالماً يُقدَّر فيه الأداء الفني والحسي أكثر من القدرة الجسدية، ويعيد صياغة فكرة العدالة الاجتماعية في سياق مختلف.

3. العمى كنور داخلي:

العمى في القصة يتجاوز المعنى الحرفي ليمثل النور الداخلي أو البصيرة. الشخصية التي تتردد بين عالم المبصرين والعميان تبحث عن "النور الداخلي" الذي يمثل قدرة الإنسان على الفهم والإدراك بعيدا عن الحواس الخارجية. هذا ما يُظهره التحول الذي يمر به البطل عندما يقرر في النهاية الانغماس في مجتمع العميان والاستغناء عن حاسة البصر. هذا الرمز يمثل رحلة البطل نحو الإيمان بأن الإدراك الحقيقي لا يرتبط بالعينين.

4. الوجودية وخيارات الحرية:

تتطرق الرواية في هذا الجزء إلى مسألة الحرية في اختيار الهوية. البطل يختار أن يعيش وسط العميان، برغم قدرته على البصر. هذا الخيار يعكس رؤية فلسفية عميقة تتعلق بالوجودية؛ فالفرد ليس مقيداً بما يُفرض عليه، بل له الحرية في اختيار العالم الذي يناسبه. قرار البطل في النهاية بأن يرتدي النظارة ولا يخلعها يبرز فلسفة الوجودية، حيث الإنسان هو من يحدد معنى حياته من خلال اختياراته الذاتية.

5. التجريبية في السرد:

تعتمد الرواية على التجريب الأدبي حيث يُمزج بين الحوار الداخلي والمشهد الخارجي بشكل ديناميكي. الوصف الدقيق للمكان، من الميل إلى الحوار بين الشخصيات، يُبني في ذهن القارئ إحساسا بالانسجام بين الأحداث. استخدام الرمزية في الأشياء البسيطة مثل العصا والنظارات يعزز من التداخل بين مستويات القصة الظاهرة والمخفية. الأدب هنا لا يسعى فقط لسرد احداث بل لفتح حوار مع القارئ حول الواقع والتصور الذاتي.

6. الفن كوسيلة للتحرر:

الفن، سواء كان غناءً أو عزفًا، يتجلى كوسيلة للهروب من قيود الواقع الحسي، وفي الوقت ذاته وسيلة للتحرر الداخلي. الشخصيات في المقهى لا تغنّي فقط للتسلية، بل للتحرر من قيود الوجود المادي. التحول الذي يمر به البطل يعكس هذه الفكرة حيث يجد نفسه متورطًا في عالم من الفن الذي يمحو الحواجز الحسية. الفن في الرواية يصبح قمة التجربة الإنسانية، حيث يتمكن الفرد من تجاوز كل حدود الحواس.

7. البحث عن الذات عبر الحواس والفن:

تتلاحم هذه الأبعاد في القصة لتعكس بحث الفرد عن ذاته عبر الحواس والفن. يبدأ البطل بصراع نفسي واجتماعي بين العالمين (المبصر والعمى)، ثم يتعمق في البحث عن الحقيقة الرمزية من خلال استخدام الفن كوسيلة للتحرر. هذا البحث يتطور في النهاية إلى فلسفة حرية الاختيار وتحديد الهوية، حيث يختار البطل في النهاية أن يعيش ضمن مجتمعه الجديد تاركًا خلفه العالم القديم، مؤمنًا بأن البصيرة الداخلية أقوى من أي قدرة جسدية.

فصل ختامي

وددت ان اناقش هنا شخصية "محمود المنقذ" في الرواية، والتي تعد شخصية محورية تحمل أبعاداً رمزية متعددة، دينياً، اجتماعياً، وسياسياً، وهي تتجلى بعمق عبر النصوص التي تم تقديمها. لنسلط الضوء على هذه الأبعاد.

1. البعد الديني:

"محمود المنقذ" يرمز إلى الشخصية المسيحانية، التي تشبه في تصورها الديني صورة المخلِّص مسيحًا كان او مهديًا الذي ينتظره الناس ليخلصهم من معاناتهم وظلمهم.

هذه الشخصية تمثل الأمل الروحي الذي يتعلق به الفرد في أوقات اليأس والضياع، حيث يبحث البطل، "محمد العابد"، عن هذا المنقذ كطوق نجاة من محنته. في السياقات الدينية، المنقذ هو الذي يحمل الخلاص، ويمنح الرجاء، لكن النص يعرض هذه الشخصية بشيء من الغموض والتعددية، مما يعكس الشكوك التي قد تحوم حول مثل هذه الأدوار المخلِّصة في حياة البشر.

2. البعد الاجتماعي:

"محمود المنقذ" يمثل تلك الشخصية الاجتماعية، التي تأتي لتقدم حلاً أو مخرجاً من أزمة ما، شخص يجسد الدور الذي يتطلع إليه المجتمع في أوقات الشدة. لكن المفارقة هنا هي أن المنقذ يظهر بأوجه مختلفة، مما يعكس الطبيعة المتقلبة للمجتمع نفسه وعدم استقراره على حقيقة واحدة. هذه الشخصية تجسد أيضاً القوة التي يسعى الأفراد في المجتمع إلى الارتباط بها للحصول على الدعم أو الحماية، لكن النص يوحي بأن هذا الاعتماد على "المنقذ" هو في كثير من الأحيان سراب، حيث تتغير الوجوه والأدوار بينما يبقى المجتمع أسير مشكلاته.

3. البعد السياسي:

من الناحية السياسية، "محمود المنقذ" يرمز إلى السلطة أو النظام الذي يعد بالإنقاذ والحل، ولكنه في الوقت ذاته يبقى غامضاً ومتحولاً. في هذا السياق، المنقذ يمثل القوة السياسية التي تملك قرار النجاة أو الهلاك، وهو ما يضع الفرد في موقف ضعف وخضوع دائمين، معلقاً آماله على تلك القوة الخارجية. هنا، يصبح المنقذ رمزاً للنظام السلطوي الذي يحكم بالترهيب والترغيب، ويمسك بزمام الأمور بوعود قد تكون فارغة.

4. البعد الرمزي:

رمزياً، "محمود المنقذ" يتجاوز كونه مجرد شخصية ليصبح تجسيداً للأمل المتذبذب والحقائق المتغيرة في عالم لا يمكن الوثوق به. وجود المنقذ بأشكال وأسماء مختلفة في النص يشير إلى أن النجاة نفسها قد تكون متقلبة وموضع شك، وأن الحقيقة ليست مطلقة بل نسبية، تتغير بتغير الظروف والأشخاص. من هنا، يرتبط هذا الرمز بفكرة الهروب من الواقع كوسيلة للبقاء، حيث يصبح المنقذ ليس شخصاً بعينه، بل فكرة مجردة تدفع الأفراد إلى المضي قدماً، رغم عدم اليقين المحيط بهم.

5. التأثير النفسي على البطل:

إن وجود "محمود المنقذ" كشخصية متغيرة ومتعددة الأوجه يؤثر بعمق على الحالة النفسية للبطل. يعيش "محمد العابد" في توتر دائم بين الرغبة في الهروب وبين الإيمان بأن المنقذ سيأتي، ولكن عدم الثقة بهذه الشخصية المتغيرة يزيد من قلقه واضطرابه. في النهاية، يقرر البطل التمسك بموقفه وعدم الهروب، مما يعكس فقدانه الثقة في المنقذ وفي فكرة الخلاص الخارجي، مفضلاً مواجهة مصيره بنفسه.

6. الخلاصة:

شخصية "محمود المنقذ" هي أكثر من مجرد شخصية في النص؛ إنها رمز معقد يعبر عن الحيرة والاضطراب والبحث عن الخلاص في عالم مليء بالتحولات واللايقين. تمثل هذه الشخصية الأمل المعلق على شخصيات أو قوى خارجية، سواء كانت دينية، اجتماعية، أو سياسية، لكنها في الوقت ذاته تعكس الوهم الذي يمكن أن يتحول إليه هذا الأمل في غياب الثقة أو الاستقرار.

***

طاق الحلفي – شاعر وناقد

............................

رابط القصة:

https://www.almothaqaf.com/nesos/976900

في المثقف اليوم