قراءات نقدية

قراءات نقدية

بداية أنوّه أني لست ناقدة ولا باحثة وعليه جاءت قراءتي بناءً على ما استخلصته مما قرأت.

يبدو لنا من هذا عنوان الرواية "العائد إلى سيرته"، أن شخصا ما كان قد أغفل سيرته أو أنه وضعها جانبا مدة ما، ثمّ عاد إليها لاحقا، والسيرة هي الهيئة أو الحالة التي يكون عليها الانسان، سلوكه وتصرفه، وأما السيرة في الأدب فهي تدوين تفاصيل الحياة والأعمال.

على رسمة الغلاف، نرى رسمة أوجه لثلاثة رجال على فروع شجرة ملتصقين ببعضهم البعض غير واضحة معالمهم جيدا، تبدو هذه الأوجه لرجل مسنّ حيث نميّز ذلك من الذقن والأنف وتساقط شعر الرأس الذي جاء على شكل أغصان جافة عارية من الأوراق، الأوسط رجل بالغ ويشبه الشخصية الأولى ووراءه يظهر وجه شاب وعلى رأس الشاب تظهر بعض أوراق الشجر، وكأن ذلك يشير إلى تعاقب أجيال ثلاثة. الشجرة صامدة بجذعها متمسكة بتربتها غير خائفة من جرف البحر لها مع أن بعض أغصانها قد أجتثّ. هناك أمل ما فوجهةُ جميع الرجال صوب البحر والفضاء الأزرق الذي طغى على لون الغلاف واحتل كل مساحته، أضف إلى شجرتين خضراوين صغيرتين في الخلف تؤكدان على الحياة والأمل.3510 باسل عبد العال

جاء في الصفحة الأولى تحت العنوان "العائد إلى سيرته"، أنها رواية واقعية، ممّا يعني أن علينا الأخذ بعين الاعتبار هذا الأمر، فنسأل ترى هل هي سيرة أحد الشخوص الثلاثة التي جاءت في رسمة الغلاف؟ أم أنها سيرة الكاتب الذاتية بما أن ضمير الأنا هو المتحدث في الرواية؟ هذه التساؤلات لأني عرفت كاتبنا وشاعرنا باسل عبد العال من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وأنه يعيش في مخيم نهر البارد شمال لبنان، وترجع أصوله إلى قرية الغابسيّة المهجرة في قضاء عكا.

تقع هذه الرواية الصادرة عن دار "الأهلية" في 102 صفحة، رواية مكثّفة عميقة بطرحها وموضوعها، مليئة بالرموز والدلالات التي يمكنك فكّ بعضها بسهولة وبعضها يصعب عليك حلّ شيفراتها ومدلولاتها. كتبت بلغة شاعرية وتخلّلها أيضا بعض قصائد للشاعر، واستخدم فيها التناصّ إن كان في إرفاق بيت شعر لامرئ القيس: على قلقٍ كأنّ الريحَ تحتي // أوجّهها يمينا أو شمالا (ص 27)، أو أمثالا شعبية "سيرة عن سيرة بتفرق مثل خيمة عن خيمة بتفرق" (ص20) الذي يذكرنا بقول الأديب غسان كنفاني، وأيضا "اسأل مجرّب ولا تسأل طبيب" (ص57)، وهو أيضا يورد أسماء الريح حسب قاموس المعاني وشرح كل اسم واسم، " لبليل، الجنوب، الحاصبة، الحنون والمهداج، الراعفة، رياح الصّبا، اللواقح، العقيم، النسيم" وغيرها كثير (ص21-22)

قسّم الكاتب عمله إلى تسعة فصول سمّى كل فصل بكلمة "النّطق"، فجاء النطق الأول والثاني وأما الأخير فأطلق عليه عنوان "النطق الأخير"، وأتساءل هل لهذا العدد رمز ما أيضا؟ فالرواية مليئة بالأسئلة المطروحة والبحث والدلالات، وعامود الخيمة يتوفى وهو في عمر الثمانين، فهل يجوز أن نعتبر كلّ نطق هو عقد من الحياة التي عاشها، أم أنها تشير إلى كاتم الصوت والذي بدأ نطقه يتحسن في النطق الثالث أي في سنّ الثلاثين؟

الرواية هي رحلة عودة إلى الجذور وغوص في الذاكرة كي لا تضيع وتُنسى، هذه الذاكرة تمحورت حولها الرواية لتكوّن الموضوع الأساس، حيث نرى أن كاتبنا على امتداد الرواية يخشى أن تضيع الذاكرة يوما فينسى أبناء الشعب الفلسطيني وجهة الإياب وينسون الوطن الذي هُجّروا منه، فنراه يصف الذاكرة بالخبز "الذاكرة هي خبز الجميع" (ص60)، أما النسيان "الزهايمر ̓ المُستحدَث من ضربات الريح ̓  تحت مسمَّى " النسيان الخبيث"، هدفه الوحيد تدمير ذاكرتي الأولى كي أعجز عن التذكر والبحث عن الأثر المذكور، وبناء كياني من جديد بشخص جديد لا يتذكر شيئا"، ويرى أن سلاحه الوحيد هو التذكر وأنه على الجميع أن يكونوا حرّاس التذكر في دورة الزمن الزهايمري" (ص58-59)، وهو هنا يشير بوضوح إلى أن إسرائيل هي من أوجدت مصطلح النسيان الخبيث كي تقضي على الذاكرة لدى الفلسطيني.

يستخدم الراوي الحلم والبحث ومعرفة الحقائق من خلال العودة إلى سير الآباء والأجداد التي رغم التهجير والتشرّد عن الوطن، لكنها ستبقى حيّة في النفوس جيلا بعد جيل. كل هذا يبدو لنا من أقوال جاءت على لسان بطل الرواية، فنراه يقول في مواقع عدة: "كبر المكان معنا.. العثور على التفاصيل يعني أن نخوض معركة الذاكرة والنسيان.. البحث مقاومة.. والبحث هو ذاكرة تقاوم النسيان" (ص42)، وهو يحذّر كثيرا في الرواية من وباء الزهايمر "النسيان الخبيث"، "هذا المرض حليف ضربات الريح والطائر الأسود البرّي" (ص43)، وقوله في موضع آخر "من ترك أثرا لا يمحوه الزمن بالنسيان" (ص53)، وأيضا "لأننا نعيش معركة سير، بل معركة ذاكرة ومعركة بحث، من يتذكر يعني أنه حيّ، ومن ينسى يجرفه طوفان الزهايمر"،(ص 57)، ثمّ أن أبناء "أهل الريح" أي الفلسطينيين اللاجئين لديهم نعمة التذكر بهدف الوصول إلى الطريق المقدس نحو الأثر، ويقصد بها طريق العودة إلى الوطن المهجّر فلسطين والقدس ويافا البرتقال وفي ذلك جاءت قصيدته:

"بعيدا هناك

على قلق من كلام الرعاة

على ثقة من كلام الرسول

ولو اقتربت هذه الأرض منّا قليلا

لسِرنا إليها حفاة حفاة" .... (ص34)

بعيدا إلى ما نحبّ

بلادا وشمسًا على البرتقال (ص35)

يرى الكاتب في الأحلام سبيلا لتحقيق هدفه، "الأحلام جزء من معركة الدفاع عن الغد... فالأحلام ذاكرة من نوع آخر.. وهذا ما نحتاج له كي نصل نقطة الضوء في آخر النفق" (ص 69).

تدور أحداث الرواية في مخيم نهر البارد حيث يسكن الآلاف من الفلسطينيين اللاجئين، والكاتب يشير إلى اسم المكان "الشاطئ الشمالي البارد (ص36)، ونحن نعلم أن مخيم نهر البارد يقع شمال لبنان بالقرب من مدينة طرابلس. ومما يؤكد هذا أيضا قوله: "كم غيمة مرّت تحت سماء هذا المكان؟ ربما أربع وسبعون غيمة" (ص17) وهذا إشارة واضحة إلى سنوات النكبة، وأيضا "بعد أن نموت هنا من سيعرف أننا من هناك؟" (ص 23)، والمقصود بـِ "هناك" فلسطين.

تتحدث الرواية باختصار عن عامود الخيمة ويظهر أنه من الجيل الأول للنكبة، وربما هو الشخص الأول الذي يظهر لنا على رسمة الغلاف، شيخ مسنّ وبوفاته عن عمر الثمانين سنة، تنتقل المسؤولية إلى كاتم الصوت الذي يبحث ويحلم دائما ويدرس لغة أهل الريح ويسأل الطبيب دائما عن كل ما يراه أو يطلّع عليه، وهدفه أن يعود إلى الوطن المهجّر، ابن الكاتم الذي ينام فترة شهر دون أن يستيقظ، وظهور أول إصابة لأحد التلاميذ في المدرسة بعدوى الزهايمر والخوف من انتشار العدوى حيث تبيّن لأستاذ التاريخ والجغرافيا أن الطالب لم يعد يتذكر الخريطة (ص88)، والمقصود هنا خريطة فلسطين، وعليه يتهمون المدرسة بأنها من أهملت سبل الوقاية والتوعية ضد انتشار الزهايمر، يضعون المصاب في حجر صحي، ويوصي الطبيب أن أكل الزعتر البلدي وأوراق الزيتون  في الماء المغلي يبعد الزهايمر، ثم إصابة أخرى بعد أيام لشاب في العشرين من عمره "لا يتذكر شيئا عن البرتقال الآتي من الأثر المقدس، يقول له البائع: هذا برتقالنا يا غبي، ينظر الشاب بعينين حمراوين ولا ينطق" (ص92)، يدبّ الخوف في الناس ويسرع أهل الريح إلى مقبرة عامود الخيمة ليروا أن امرأة ركضت باتجاه التلة وليس الشاطئ بهدف قراءة السّير كي لا تصاب بالزهايمر (ص 98)، ومن ثم يتوافد الناس على المستشفى لفحص الزهايمر، ليتضح أن "الزهايمر لا يصيب الذين يبحثون عن الزهرة الحمراء ويقرأون حروف السير المعلقة على مقصلة الخيمة والمحفورة بالأحمر على ألواح السفن المتحجرة على الشاطئ الشمالي البارد" (ص 100). تنتهي الرواية باستيقاظ ابن الكاتم من سباته ليعلن "قد أصبحت باحثا يا أبي بعد أن تخرّجت من جامعة سرير العجوز عامود الخيمة" (ص 100)، وأنه لن يصاب بالزهايمر أبدا لأنه تخرّج ليحمي والده ويحمي الذاكرة من بعده.

هنا كان لا بدّ لي من أن أعرّج بعض الشيء على مدلولات بعض الرموز والأمور التي وردت في الرواية وفق رؤيتي الخاصة:

* "السِّير المعلّقة على مِقصلة الخيمة" والتي وردت عدة مرات في السياق، إشارة إلى سير وذاكرة الآباء والأجداد أبناء الشعب الفلسطيني، "مقصلة الخيمة" المقصلة هي آلة الإعدام وبهذا ربما إشارة إلى المأساة والتهجير والمذابح التي لحقت بأبناء الشعب الفلسطيني، وستبقى معلّقة عاليا كي يتذكرها الجميع.

* "زهرة حمراء مبللة بالدم" قد تكون إشارة لدم الكثيرين ممّن استشهدوا، أو رمزا لزهرة الدحنون التي تشتهر بها فلسطين.

* "الأثر المقدّس" و"الطريق المقدس"، إشارة إلى فلسطين.

* "السفينة المتحجرة عند الشاطئ"، تشير ربما إلى السفينة التي نقلت المهجرين من الوطن عند النكبة إلى لبنان.

* "سرير عامود الخيمة"، قد يكون بهذا إشارة إلى غسان كنفاتي ومجموعته "موت سرير رقم 12"، وكأن الكاتب يريدنا أن نقرأ أدب الأديب غسان كنفاني في سبيل أن تبقى لنا الذاكرة حيّة.

* الزهايمر " النسيان الخبيث"، هو ما تزعمه إسرائيل من مرض يصيب أبناء الشعب الفلسطيني عندما يموت كبار السنّ أبناء الجيل الأول وينسى الأبناء والأحفاد قضيتهم.

* "الشاطئ الشمالي البارد"، إشارة إلى مخيم نهر البارد الواقع شمال لبنان وحيث يعيش به الآلاف من أبناء الشعب الفلسطيني.

* " الزعتر البلدي وأوراق الزيتون" و"البرتقال" كلها نباتات تشتهر بها فلسطين ولا يمكن للاجئ أن ينساها.

* "ضربات الريح والطائر الأسود البرّي"، إشارة إلى إسرائيل، ويذكر عدد ضرباتها للمخيم "تضرب الريح للمرة السادسة" (ص37).

* "الصحراء"، هل المقصود بها الشتات والغربة، نستدلّ هذا من طعم رمل الصحراء والمحشوّ في فم كاتم الصوت الذي بدأ يزول مع كل فجر جديد.

* "قلعة الحروف"، هي المعرفة والبحث والاطلاع على السيرة والذاكرة لأنها كما يقول الكاتب هي الباقية الصامدة وهو في هذا يكتب:

"سنقرأُّ عمّا قليل،

سنقرأُ فوق الجسد،

نداءَ الحروف التي لا تُطيع

غشاء الزبد

سنقرأُ كي نظلَّ

على قيد حلم ٍ طويل" (ص83)

والكاتب بهذا يؤكد أن الكلمة هي السلاح الأقوى "أسلحتنا اليوم أقوى لأنني رأيت حروف السّيَر المعلقة بمنظار عالم الآثار / الطبيب" (ص83).

شخصيات الرواية:

تتمحور الرواية حول ثلاث شخصيات هامة تأتي هي أيضا بأسماء مستعارة؛ عامود الخيمة، كاتم الصوت، ابن الكاتم، إضافة إلى شخصيات أخرى مثل الطبيب/ عالم الآثار، أهل المخيم "أهل الريح" من طلاب ومعلمين ونساء.

"عامود الخيمة" إشارة إلى شيخ أو كبير العائلة من الجيل الأول للنكبة، توفي فجأة عن عمر ثمانين سنة، وبموته تتغيّر أمور كثيرة على "أهل الريح"، هو العالم والحكيم بكثير من الأمور. بموت عامود الخيمة يطرح السؤال "هل مات البرهان في إثبات الحقيقة؟" (ص30).. أي هل بموته يموت الدليل الذي يثبت جذوره وأصله ووطنه، وكاتبنا دون شك يعلم بالمقولة "يموت الكبار وينسى الصغار قضيتهم" وهو يريد إثبات نقيض هذا القول في الرواية.

"كاتم الصوت" وهو بطل الرواية، وهو الذي يحرّك أحداث الرواية ويرويها بضمير الأنا. فمه محشوّ بالرمل ولا يحسن النطق جيدا ومع التقدّم في الرواية وأحداثها، نرى أنه رويدا رويدا يسترجع النطق، قد يكون ضعيف الشخصية ولا يجرؤ على الكلام أو أنه كان جاهلا بالأمور في البداية وبعد كثرة البحث والدراسة والتعمق في السيرة والذكرى تمكن من النطق. ويمكن لنا أن نفسّر سبب حشو فمه بالرمل على النقيض مما ذكرت وربّما هذا تفسير أقوى برأيي، فمه محشو بالرمل لأنه مملوء بالذكريات عن فلسطين وخاصة عن قريته المهجرّة، ففي إحدى القصائد الرائعة التي جاءت في الرواية يذكر كم أحبّ جدّه الرمل الدافئ هناك والأرض التي تشتاق لها المعاول؛

"كانَ المكان وكان دفء الرّمل في

يده يشدّ الرملَ كي يجد اليدا" (ص 59)

وقد عرّف البطل عن نفسه في بداية الرواية، " لا تعريف يدلّ عليَ سوى الرمل، لا أعرف عني سوى أني من أهل الريح، ولدت بينهم، لكنني لم أمسك بدورة الزمن الذي رماني هنا" (ص 13)، وقد يكون الرمل هو ما دخل فمه أثناء الهجرة والمعاناة التي مرّ بها أثناء الرحلة في البحر إلى أن وصل إلى شواطئ لبنان، وتبقى هذه كلها تفسيرات وجهد ذاتي.

كاتم الصوت يرى ما يصيب أهل المخيم من مصائب وضربات ولا يصيح، وهو أيضا كما يبدو لنا لا يقرّر أي شيء فهو دائم الاستعانة واستشارة الطبيب /عالم الآثار.

يقول عن نفسه "أنا أبحث وأحلم ومنذور للسير.. وأدرس لغة أهل الريح والنطق الثالث وغارق في الحلم (ص30). وعن مهنته يقول "مهنتي أداة لانبعاث الأمل وليس لانبعاث الحزن واليأس" (ص56)، مما يؤكد أن مهنته هي البحث والكتابة ومعرفة الذاكرة جيدا وحفظها. يصف الطبيب له دواءً عبارة عن الزعتر البلدي وأوراق الزيتون(ص32)، أوليست هذه من رموز الوطن التي لا يمكن أن ينساها الفلسطيني وأنه بعثوره عليها ولمسها يُشفى من كل مرض. يقول في النطق الخامس "طعم الرمل يزول في كل فجر يحلّ علينا، وطعم الزيتون والزعتر ينتشر في فمي، هل ثمّة فجر؟" (ص53)، إشارة إلى بادرة أمل في قضية الوطن فلسطين.

يصرّح لنا البطل في بداية النطق الرابع أنه بدأ يتعافى، "الكلام أصبح أقوى قليلا، واشتدت رؤيتي وفكرتي، تغيرت قليلا، التعمق في قضية أهل الريح يحيلني من باحث إلى مؤرخ" (ص41)، وهو في النطق الخامس وأمام قبر عامود الخيمة يشعر أنه فائض بالكلام، فيقول " أن تنطق يعني أنت حي، ومعك التفاصيل كدواء يساعدك للشفاء من الزهايمر إذا أصابك.." (ص 61)، ويعود نطقه بشكل تام له في النطق الثامن من الرواية "عاد لي نطقي الحر، وكان شيئًا لم يكن، بحّة خفيفة في الحنجرة" (ص87) وهذا النطق جاء أيضا بعد وفاة عامود الخيمة أي أنه وريثه في نقل الذاكرة للأجيال القادمة والحفاظ عليها من الضياع والنسيان.

" ابن الكاتم"، وهو ابن كاتم الصوت، "ولد الصغير باحثا صغيرا، ما علاقته بالسِّير المعلقة في رواية أهل الريح؟" (ص70) وهو "يسأل أسئلة عميقة وبحثية" (ص71)، "لم يكن عنده تأخرا في النطق.. ولد في الصحراء.. وقذفته الريح معي.. لكن الرمل لم يكن محشوا في فمه مثلي، لأنه صغير وفمه لا يحتمل ولا يتسع" (ص73). ينصح الطبيب كاتم الصوت أن ينام الابن "ابن الكاتم" على سرير عامود الخيمة مدة شهر كامل دون أن يصحو، يصحو في نهاية الرواية متخرّجا من جامعة سرير عامود الخيمة باحثا ليحمي الذاكرة ويصونها.

في نهاية كلمتي، أعترف أن الرواية جذبتني رغم الغموض الذي اكتنف بعض الرموز فيها، ووجدت من خلال كلمات الكاتب أن الذاكرة لا تزال حيّة ولا خوف عليها من الضياع وهذه المسؤولية تقع على عاتق كل جيل وجيل.

عمل رائع يضاف إلى مكتبتنا العربية وخاصة الفلسطينية، مبارك وألف لكاتبنا باسل عبد العال مع تمنياتي له بمزيد من العطاء والألق.

***

فوز فرنسيس

في الإحتفاء بالمكتوب.. رمزية أدوات الكتابة وأثرها في صناعة المعنى الشعري

تصدير: "... وما ظنك بقوم يملكون أزمة المنى والمنايا بحسن كلامهم ويريقون دماء الأعداء بأسنة أقلامهم. وقديما أغنت كتبهم عن الكتائب (....) ففي سواد مدادهم بياض النعم وحمرة الدم. " – عبد الملك بن محمد الثعالبي-

إن الحديث عن رمزية أدوات الكتابة في الرسائل الشعرية والرسائل المتبادلة بين وجهاء القوم مما تواتر ذكره في كتاب " الذخيرة " لإبن بسام (ت 542 هج / 1147 م) وعن أثر ذلك في صناعة المعنى الشعري والأدبي، من شأنه أن يحيلنا على نظرية التواصل اللسانية بوظائفها المتعددة ولاسيما الوظيفة الأدبية والوظيفة الماوراء لغوية la fonction metalinguistique  من  ناحية وعلى عناصر مقام الترسل: وضع المتكلم،  وضع المخاطب، الرسالة المكتوبة بأنواعها: الإبتداء، الجواب، الإستئناف وجواب الإستئناف ، من ناحية أخرى فبين هذه وتلك تشابه، إن لم نقل تطابقا. هذا التطابق من شأنه أن يعيننا في تحديد نوعية الرسائل المتبادلة وتحليل خطابها. فمن سمات مقام الترسل أنه يخلص المرسل- المتكلم وكذلك المرسل إليه- المخاطب من وضع المواجهة ويخلق بالتالي سبيلا جديدة في تلقي الرسالة- الخطاب. الكتابة تبتدع نوعا تواصليا جديدا يحدث نقلة نوعية، إن لم نقل قطيعة ما بين الشفوي والمكتوب، أو ما بين الصوت والخط،  يقول إبن وهب الكاتب (ت 335 هج / 947 م ): " أما الرسائل فهي مستغنية عن جهارة الصوت وسلامة اللسان من العيوب لأنها بالخط فإن ذلك يزيد في بهائها ويقربها من قلب قارئها. " (1) فهل يسمح هذا النوع الجديد من التواصل، لأدوات الكتابة وما ترمز إليه أن تشكل المعنى الشعري والأدبي سواء أ كان ذلك في الرسائل الشعرية أم في في الرسائل النثرية؟ وبالتالي هل ترتقي هذه الأدوات بالخطاب الترسلي إلى وظيفته الماوراء لغوية لتحقيق أدبيته؟ إن تحويل أدوات الكتابة من معناها الحرفي إلى معناها المجازي من شأنه أن يربطها بمناخ الأدب والشعر ويمكنها من أن تلج عوالمه وتصبح بالتالي أدوات الكتابة رموزا قادرة على صناعة المعنى الشعري والأدبي، فالرمز يقوم على فكرة تحويل الشيء من دلالته بذاته على ذاته إلى دلالته بذاته على غير ذاته، ومن شروط تحقق الرمز طواعيته لهذه الدلالة على غير ذاته، وهي طواعية مزدوجة بعضها ذاتي يتصل بما ينبثق عن الرمز من طاقة تعبيرية أو إيحائية وبعضها الآخر موضوعي مقترن بما يتوفر للمتلقي من قابلية التمثل للربط بين الرمز وما يرمز إليه.

1 – في الإحتفاء بالمكتوب من خلال فن الترسل:

لئن كانت المشافهة هي الأصل وآستمرت طيلة قرون الوسيلة المثلى لتلقي المعارف ونقلها ثم تداولها ، فالعلم كان يؤخذ من صدور الرجال، إلا أن ظهور الكتابة أحدث تحولا عميقا كان له أثر كبير في صياغة المعارف وفي تدوينها من ناحية، وفي ظروف تقبلها نعني بذلك العلاقة بين الباث والمتقبل للخطاب المكتوب، فإذا كان للمشافهة l’oralité  دعاماتها من ذلك سلامة النطق ووضوحه، صحة المنطوق، النبرة ودورها في تدقيق المعنى المراد تبليغه ثم أخيرا سلامة حاسة السمع، فإن للكتابة l’écriture  أيضا دعاماتها ses supports  من ذلك اليد والقلم والمداد والقرطاس والخط وسلامة البصر لدى طرفي الخطاب / الرسالة. إن الخط بآعتباره التجلي الأمثل للمسار الجديد الذي أحدثته الكتابة، ستتولد عنه فنون وأجناس يقتضيها المقام ومن ضمنها جنس الرسالة أو فن الترسل حيث الباث / المرسل يتوجه إلى متقبل/ مرسل إليه بعينه برسالة تقتضي جوابا وربما إستئنافا وجوابا للإستئناف. فالكتابة إكتشاف حاسم وفريد مكن الوعي الإنساني من أن يلج مناخات جديدة من المعرفة، فآختراع الإنسان لنظام مشفر من العلامات البصرية إستطاع بواسطته أن يصوغ آراءه وأحاسيسه ومشاعره وأن يدون كل ذلك وأن يسجله تسجيلا مرئيا وأن يبلغه لقارىء حقيقي أو مفترض. لقد كانت الذاكرة على إمتداد قرون حبيسة ما يرد عليها عبر حاسة السمع، تغنيها وتنعشها ثم جاءت الكتابة لتمنحها بعدا جديدا يسمح لها من خلال حاسة البصر بتوسيع طاقة إستيعابها وتمكينها من وسائل جديدة تستثيرها لتثريها. لقد إحتلت أدوات الكتابة في القديم منزلة مرموقة، في ظل إحتفاء حار بمقدم هذا المولود الجديد ألا وهو الكتابة، لا سيما الخط والرق اللذان إقترنا بصاحبهما إقترانا شديدا ،فما تخطه يد الإنسان يعكس شخصيته لا محالة من حيث قيمة الأفكار التي يحتويها الرق ، كما أن نوعية الرق تخضع بدورها لأحكام قيمية تعكس طبع صاحبها. ففي ظل بيئة تهيمن عليها الأحكام الإعتبارية ذات المستند الديني، لا مناص من التقييمات الأخلاقية في مقاربة جل المواضيع المطروحة .و قد وردت في  كتاب " الذخيرة " لإبن بسام (ت 542 هج / 1147 م ) إشارات تبين المنزلة الهامة التي أصبحت تحظى بها أدوات الكتابة من عناية وإهتمام ، فكلما إنحط الخط، إنحط الفكر المعبر عنه بذلك الخط تبعا له،  وكلما دنئ الرق ،دل على دناءة صاحبه. ففي رقعة كتبها الوزير الكاتب أبي حفص بن برد الأكبر إلى المظفر بن أبي عامر يقول فيها: " وإن قوما من خدمة الحضرة قد عادوا لما نهوا عنه فكتبوا الخط الدقيق، في دنيء الرقق، دقة من هممهم ودناءة في إختيارهم، وجهلا بأن الخط جاه الكتاب وسلك الكلام، به ينظم منثوره، وتفصل شذوره، ونبله من نبل صاحبه، وهجنته لاحقة بكاتبه (...) وأنا أعطي عهدا لئن إرتفع إلي كتاب على الصفات المذمومة  والأحوال المسخوطة من رق أو مداد أو خط، لأوفين لصاحبه بما قدم إليه من الوعيد إن شاء الله " (2 )

2 – في التغني بأثر أدوات الكتابة في جماليات النصوص

إن التشدد في ضرورة أن يكون المكتوب حائزا على قدر من الجمال والنبل ،لأنه يحيل على صاحبه، لم يكن هو القاعدة في جميع الأحوال. إذ نعثر في كتاب " الذخيرة " على رسائل قد إختل خطها وقمىء ولكن صاحبها، وبسبب ما إحتوته من جيد المنثور وجزالة التعبير يدعو المرسلة إليه أن يغمض عينيه عن قبح المرئي ليتمتع بجمال المخفي وأن لا يغتر بالشكل فالجوهر أسمى وأجدى، فقد جاء في رقعة لإبن حناط في وصف رسالة: " بعثت إليك برسالة الوزير الكاتب أبي عمر الباجي في البهار، منقولة بخطي على إختلاله وإختلاف أشكاله، إلا أن حسن الرسالة، وموضعها من البلاغة والجزالة يغطي على قماءة خطي، ودناءة ضبطي، فآجتلها – أعزك الله ‐ عروس فكر، لحظها حبر، ولفظها سحر، ومعناها بديع، ومنتهاها رفيع، ومرماها سديد. ركب اللفظ الغريب فآعتن له المراد البعيد، يطمع ويؤيس ويوحش ويؤنس، فأما إطماعها فبما تحرز من لدونة ألفاظها وسهولة أغراضها، وأما إياسها فبما يعجز من إمتثالها ويبعد من منالها والله يمتعك برياض الآداب تجتني أزهارها وتنتقي خيارها ." (3 ) تبدو صورة الرسالة بما تحتويه من معان كعروس قدت من أفكار وقد تجملت لحاظها بمداد، فآستوت فتنة ينم جوهرها عن إغراء يطوح بصاحبه بين الطمع حينا واليأس أحيانا، وبين الوحشة تارة والأنس طورا آخر. إنها صورة لغانية تتمنع عن الرجل وهي راغبة فيه . وإذا لم تكن الرسالة شبيهة بالمرأة، فهي تتحول إلى فضاء للمتعة وللإستمتاع، فتغدو روضة من رياض الأدب يطيب إقتطاف أزهارها / أفكارها وإنتقاء خيارها وتذوق رحيقها وإستنشاق رياحينها.

إذا كانت أدوات الكتابة في بعض الرسائل صفات لموصوفات تتصل بمجالي الطبيعة والمرأة، فإننا نعثر في بعض الرسائل على تحول قلب تلك المعادلة رأسا على عقب، فأصبحت أدوات الكتابة موصوفات وعناصر الطبيعة موضوعات للوصف. لقد إنقلبت الصورة في غرض المدح ضمن أدب الترسل، فأضحى الخط والمداد والرقعة وغيرها المرجع أي موضوع الوصف وأصبحت الموصوفات أي عناصر الطبيعة هي المجال التصويري الذي تستمد منه الأوصاف. جاء في" الذخيرة " أن الوزير أبا محمد عبدون كتب إلى الوزير أبي الحكم عمرو بن مذحج:

أبا الحكم أبلغ سلام فمي بدي

أبي الحسن وآرفق فكلتاهما بحر

و لا تنس يمناك التي هي والندى

رضيعا لبان لا اللجين ولا التبر

فراجعه أبو الحكم بأبيات منها:

أتى النظم كالنظم الذي تزدهي به

عروس من الجوزاء إكليلها البدر

فحلت لنا منك بخطك رقعة

هي الروضة الغناء كللها الزهر (4)

هكذا يجعل مقام الترسل، ولا سيما في رسالة الجواب، الصورة الشعرية أكثر إيغالا في التخييل، فبعد أن شبهت اليد بالبحر وهي صورة مستمدة من التراث الأدبي والشعري. في رسالة الإبتداء، يعمل المقام ولاسيما في رسالة الجواب على تكثيف دور عناصر الطبيعة في إكساب رموز أدوات طاقتها الإيحائية. فتشبه الرقعة بالروضة الغناء والخط بالزهر الذي يكللها، مما يعني أن رسالة الإبتداء ليست سوى تعلة un prétexte  حتى تبدو الصورة الشعرية أكثر إكتمالا في رسالة الجواب، وهذا ما يؤكد أن الرسالتين تكونان معا وحدة نصية.

إن علاقة الخط كشكل/ وسيلة بالمخطوط كمضمون علاقة أرسطية في منشئها، لأنها علاقة بين الصورة والمادة في وجه من الوجوه. فكلما فسدت الصورة فسدت المادة التابعة لها، ولكن ذلك لم يكن هو القاعدة التي حكمت تلك العلاقة، إذ يمكن أن تكون الصورة/ الخط فاسدا ومنحطا ويكون المضمون راقيا وجميلا.

***

بقلم: رمضان بن رمضان

.....................

الهوامش:

1 – أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم بن وهب الكاتب ، البرهان في وجوه البيان،  بغداد ،1967 ، ص 116 .

2 – أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني،  الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، ليبيا / تونس،  1395 هج / 1975 م ،القسم الأول، المجلد الأول، صص 107 – 108 .

3 – نفس المصدر ،القسم الثاني،  المجلد الأول، صص 195 – 196 .

4 – نفس المصدر، القسم الثاني،  المجلد الثاني ، ص 590 .

 

يكشف الكاتب التركي البارز أورهان باموق، الحاصل على جائزة نوبل الادبية، في كتابه المؤثّر "الروائي الساذج والروائي الحسّاس"، عن أسرار كتابته الروائية معتمدًا على كتابات هامّة سبق وكتبها أصحابها عن أسرار الفنّ الروائي، أمثال م. فورستر، في كتابه عن "أركان الرواية"، أو "جوانب الرواية"، كما يرد في الترّجمة العربية للكتاب موضوع حديثنا. ويقدّم للقاري تجربته في الكتابة الروائية سابرًا أغوارها العميقة بحرفية ومهنية، متمكّنة وراقية.

يستمد باموق عنوان كتابه من مقالة هامة جدًا حول "الشاعر الساذج والشاعر الحساس"، كتبها الشاعر الالماني شيلر، واعتبرها الكاتب الروائي المتميّز توماس مان، أهم مقالة تمت كتابتها باللغة الالمانية. أما الروائي الساذج كما يتردّد أكثر من مرة في الكتاب، فهو، وفق تعريف باموق، ذاك الذي لا يشغل باله بالقضايا الفنّية في كتابة الرواية وقراءتها.. في حين أن الروائي الحسّاس على العكس من الروائي الساذج، إنه الروائي العاطفي المتأمّل الذي يولي أهمية خاصة للأساليب الروائية والطريقة التي يعمل بها عقل القاري. إجابة عن سؤال طالما وُجه إليه يقول باموق إنه روائي ساذج وحسّاس في الآن ذاته.

يضمّ الكتاب ست محاضرات ألقاها باموق في جامعة كامبردج عام 2009، يطرح فيها أهم القضايا المتلّعقة بالكتابة الروائية، كما تحدّث عنها روائيون مشهود لهم عالميًا وكما عايشها هو ذاتُه.

يفتتح باموق كتابه/ محاضراته، بالسؤال الصعب، كيف تعمل عقولنا عندما نقرأ رواية، ويجيب إن الروايات حياة ثانية.. مثل الاحلام التي تحدّث عنها الشاعر الفرنسي جيرار دي نرفال، ويضيف إن الروايات تكشف لنا الالوان والتعقيدات في حياتنا وهي مليئة بالناس، بالوجوه والاشياء التي نشعر أننا نعرفها من قبل، تمامًا كما يحدث في الاحلام.. عندما نقرأ الروايات نتأثر أحيانًا بقوة الطبيعة الخارقة للأشياء التي تصادفنا والتي تجعلنا ننسى أين نحن ونتصور أنفسنا وسط الاحداث الخيالية والشخصيات التي نشهدها.

خلافًا للعديد من الروائيين، يقول باموق إنه يخطّط لكتابة روايته ويستعد مطوّلًا للبدء في كتابته لها، ويتحدّث عن بطل روايته يقول: شخصية البطل الرئيسي في روايتي تحدَّد بنفس الطريقة التي تتشكّل بها شخصية الانسان في الحياة، مِن خلال الظروف والاحداث التي يعيشها. القصة أو الحَبكة هي خط يربط بشكل فعّال الظروف المختلفة التي أريد التحدث عنها. البطل هو شخص ما شكّلته الظروف وساعد هو على إظهارها بأسلوب حكائي.

يقول باموق إجابة عن سؤال مُفترض حول تميّز الرواية عن باقي أنواع السرد الطويل، إن السمة الرئيسية التي تميّز الرواية وتجعلها نوعًا أدبيًا له شعبية واسعة، هي الطريقة التي تقرأ بها الرواية. حقيقة رؤية كلّ هذه النقاط الصغيرة. هذه النهايات العصبية على طول الخط. عينا إحدى الشخصيات في القصة. عملية ربط هذه النقاط مع مشاعر وأحاسيس الابطال، سواء مَن كان يروي الاحداث هو الشخص الاول أو الثالث، سواء كان الروائي أو القاص، مدركًا أو غير مُدرك لهذه العلاقة، فإن القارئ يمتص كلَّ حدث في المشهد العامّ، وذلك بربطه مع مشاعر وعواطف البطل القريب من الاحداث. يقول باموك ويتابع، هذه هي إذن القاعدة الذهبية لفنّ الرواية، تنبع من البنية الداخلية للرواية عينها.. ويتحدّث باموق عن الزمن الروائي، يقول إنه ليس الزمن الخطي والمجرّد الذي عرّفه أرسطو، وإنما هو الزمن الشخصي للأبطال، ولا يبتعد باموق في كلامه هذا كثيرًا عمّا تحدث عنه بيرسي لوبوك في كتابه الخالد "صنعة الرواية"، عن وجهة النظر التي تُروى الرواية عبرها.

يتحدّث باموق عن ابتكار الروائي للبطل. يقول إن أهم ما على الروائي القيام به، كما يعتقد معظم الروائيين، هو ابتكار البطل!. إذا نجح في الوصول إليه، أي البطل، فسوف يتحوّل إلى ما يُشبه المُلقّن على خشبة المسرح، يهمس للروائي مسار الرواية بالكامل.. ويوضّح باموق مُضيفًا ان فورستر ذهب، في هذا السياق، بعيدًا جدًا عندما اقترح علينا، نحن الروائيين، أن نتعلّم من شخصيات الرواية ما يجب أن نقوله في الكتاب. هذا التصوّر لا يؤكد أهمية شخصية الانسان في حياتنا، مجرد أنها تظهر لنا. إن الكثير من الروائيين، يبدؤون بكتابة رواياتهم بدون أن يكونوا متأكّدين من قصتهم، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يستطيعون الكتابة بها. بالإضافة إلى ذلك يشير تصور فورستر إلى الجانب الاشد تحدّيًا في الكتابة، كذلك في القراءة: حقيقة أن الرواية هي نتاج المهارة والبراعة معًا، كلّما كانت الرواية طويلة يواجه الكاتب صعوبة في صياغة الاحداث.. يحتفظ بكلّ الاحداث في عقله. ويبتكر تصوّرًا عن محور الرواية بكلّ نجاح.

يشير باموق، في سياق مُقارب، إلى تعبير "المعادل الموضوعي" الذي عرّفه ت. إس. اليوت. بأنّه سلسلة من الاحداث التي تتوافق موضوعيًا مع تلك التي ستكون الصيغة.. الاستحضار التلقائي - مشاعر خاصة يبحث عنها المبدع ليعبّر عنها في قصيدة. رسم. رواية أو أي عمل فنّي آخر، قد نقول هذا في الرواية، المعادل الموضوعي هو صورة الزمن التي تكوّنت بالكلمات والتي نراها من خلال عيني البطل. ويقدم باموق مثالًا تطبيّقيًا لهذا من رواية "آنا كارنينا" للكاتب الروسي ليف تولستوي.. هذه الرواية التي يرها الأعظم في التاريخ الروائي. يقول.. لم يُخبرنا تولستوي عن مشاعر آنا كارنينا وهي تستقل قطار سانت بطرسبورغ، بدلًا من ذلك، رسم صورًا تساعدنا في فهم هذه المشاعر: ظهور الثلج من خلال النافذة على اليسار. النشاط في المقصورة. الطقس البارد. إلخ..، وصف تولستوي كيف أخرجت آنا الرواية من حقيبتها الحمراء، بيديها الصغيرتين، وكيف وضعت وسادة صغيرة في حجرتها، ثم استمر بوصف الناس في المقصورة، وهذا بالضّبط ما نفهمه، نحن القراء، وهو أن "آنا" لم تتمكّن من التركيز في الكتاب، لأنها رفعت رأسها من الصفحة ووجّهت اهتمامها إلى الناس في المقصورة، ومن خلال تحويل كلمات تولستوي ذهنيًا من أجل خلق صور نراها.. نصل إلى الشعور بمشاعرها.

يخصّص باموق فصلًا/ محاضرة كاملة في كتابه، للتحدّث عن محور الرواية، ويرى أنه هو الاهم في الكتابة الروائية مُقدّمًا الكاتب الروسي فيودور دستوفسكي في كتابته روايته "الشياطين"، أنموذجًا ومثالًا.. عندما اكتشف دستوفسكي محور روايته.. بادر لإعادة كتابتها مجدّدًا.. علمًا أن محور الرواية هو سرّها الكبير وأن تناوله/ يقصد محور الرواية، يختلف من كاتب لآخر. يوضح باموق.

***

قراءة: ناجي ظاهر

................

* الروائي الساذج والحساس. تأليف اورهان باموق. ترجمة ميادة خليل. الكتاب يضجّ ، للأسف، بالأخطاء اللغوية والنحوية. صدر عام 2015 عن منشورات الجمل في بغداد.

على الرغم من أن سعد ياسين يوسف يشير بعوالمه السبعة إلى دواوينه السبعة إلا أن فكرة العوالم السبعة في الأدب تشير إلى فكرة وجود سبعة عوالم أو مستويات مختلفة من الواقع والوجود. وتعدّ هذه العوالم ممثلة أحيانا لمستويات التجربة الروحية التي يمكن أن يخوضها الفرد أو المبدع، حيث يحمل كل عالم منها طابعًا فريدًا خاصا به، ويمثّل رمزًا لمرحلة من مراحل النمو التي تتميز بقوانينها وظروفها مختلفة.

وبهذا فإنه يمكن تصوير هذه العوالم على أنها طبقات متراكمة أو بوابات يحتاج الدارس أو الناقد إلى تجاوزها للوصول إلى مستوى أعلى من الفهم والإدراك للمنتج الأدبي الإبداعي.

وقد عملت على دخول هذه العوالم من خلال بوابتي التجنيس الأدبي والخصائص الفنية العامة لمجمل أعمال سعد ياسين يوسف الإبداعية دون الدخول في أمثلة تطبيقية وذلك لضيق الوقت.

أولا: التجنيس الأدبي

عملت هذه الدراسة على محاولة تجنيس تجربة سعد ياسين الإبداعية وفق تأصيلات المناهج النقدية الحديثة والتي جعلتها تندرج تحت مسمى قصيدة النثر أو النثيرة، ولن أخوض هنا بمسألة موقع هذا التجنيس من الشعر والنثر وما يثار حول أحقية رواد هذا الجنس الأدبي بلقب شاعر، بل سأنتقل مباشرة للحديث باختصار عن سمات هذا الجنس الأدبي كما تجلت في أعمال سعد ياسين فقصيدة النثر عنده هي شكل من أشكال الإبداع المكتوب الذي يمتزج فيه النثر بالشعر، امتزاجا يتخلّص من خلاله هذا المبدع من تقنيات القوافي والأوزان التي تستخدم في الشعر التقليدي بما يتيح له حرية مطلقة في التعبير وقدرة أكبر على الانتقال السلس بين الأفكار والصور، مستغلا طاقات هذا الشكل التعبيري الهجين في بناء نماذج تجريبية حديثة تعبر عن تقنيات الكتابة الحرة بانسيابية وسلاسة تتناغم مع تدفقات النص الإبداعي مستغلة غناه اللغوي وسارحة في فضاء غير محدد من الصور والأخيلة التي تعبّر عن الأفكار والمشاعر التي يمتلكها ويرغب بالتعبير عنها، ومستفيدة من كم هائل من المعارف التراثية والثقافية المخزونة في وعي المبدع والمتلقي والجامعة بين الروح الابتكارية الحداثية وبين التراثية التقليدية المألوفة وموظّفة الرمز والأسطورة والتناص والفلسفة والفكر في إطار بنائي يحمل في طياته موسيقاه الداخلية المتأتية من الطاقات الصوتية التي تحملها المفردة في ذاتها، وهي طاقات ذات دلالات إيحائية مستندة إلى التكرار والتناوب البنيوي المنبثق من سيميائية الدال والمدلول.

ثانياً: خصائص التجربة الإبداعية:

وتتجلى التجربة الإبداعية في أعمال سعد ياسين يوسف في عدة عناصر أبرزها ما يأتي:

- التجربة الإبداعية بين الإنسانية العامة والذاتية الخاصة:

ينطلق سعد ياسين في أغلب نصوص أعماله الإبداعية من وعي شديد بمدى تأثير الحدث الإنساني العام المشترك على ذاتية الفرد وبناء اهتماماته وأفكاره وميوله ورغباته وهذا يتفق مع الطرح الذي أشارت إليه الناقدة الدكتورة سهير أبو جلود في دراستها للبناء الفني في شعر سعد ياسين والتي خلصت فيها إلى أن الشاعر ينطلق أحيانا من الكل ليصل إلى الجزء، كما ينطلق أحيانا من الجزء ليصل إلى الكل، فالهمّ العام ومعالجاته يطغى عند سعد ياسين على ذاتيته وفرديته ولا سيّما في أعماله الأخيرة، وهو ما أسماه أستاذ النقد الأدبي الحديث د .عبد الرضا علي بالإمساك بجمرة النص الشعري، وفي هذا ما يؤشر إلى الطبيعة الواعية العقلانية الناضجة في شخصية سعد ياسين يوسف الإبداعية وتساميه على ذاتية النظرة والتطلّع والرؤية.

- المضامين والمعاني:

القارئ والمتابع لمجمل النتاج الإبداعي لسعد ياسين يجد هذا التحوّل الوجداني من المواضيع الذاتية التي كان يناقشها في أعماله الأولى (قصائد حب للأميرة "ك" الصادر عام 1994) و(شجر بعمر الأرض 2002) واللذان ناقش فيهما موضوعات الحب والجمال والرومانسية والرغبة باكتشاف الحياة وعيش مغامرتها واستكشاف مجاهيلها أملا بالبقاء والخلود، وهي في مجملها موضوعات ذات صبغة ذاتية تبحث في أثر الحياة اليومية وتقلباتها على ذات المبدع الفرد. ولا يلبث سعد ياسين أن يتحوّل للهم الجمعي العام المتصاعد تزامنا مع ما رافق وطنه الأم العراق من نكبات وويلات بفعل الظروف السياسية التي انعكست نتائجها على أولويات المبدع فأصبحت موضوعات الحياة والموت والغربة والسياسة والإرهاب والإحباط وحب الأرض تتصدّر قائمة الاهتمامات والموضوعات التي يعالجها في نصوصه وهي الموضوعات التي اكتسبت مع عمق التجربة ونضج الأدوات أهمية ارتقت بها من المحيط الضيّق الخاص إلى فضاء إنساني عالمي رحب متسلّحا في ذلك كله بثقافة عالية جدا ورؤية فلسفية وتأملية ووجودية لمسائل كبرى بعضها مبني على تضادات الخير والشر والحياة والموت وبعضها قائم على عبثيات الوجود والخلود، مستعينا في ذلك كله ببناء لغوي سلس سهل يراعي احتياجات التشكيل الشعري ويدعم مستويات التبادل اللفظي الترميزي جانجا خلال ذلك للتصوير المباشر المستند إلى البيئة والطبيعة ليعزز رسوخ أفكاره ومضامينه في إدراك المتلقي ووعيه.

- مظاهر الطبيعة:

يعكس سعد ياسين في شعره رومانسية واعية تجلّت في حبه وتقديره للطبيعة بمختلف مظاهرها وتجلياتها الشكلية واللونية والمكانية، ورؤيته لها على أنها البلسم السحري القادر على إنقاذ الحياة الإنسانية وإعادة التوازن إليها وإثرائها، وهو  بذلك يرسم في نصوصه لوحة جمالية لهذه الطبيعة متنقلا بين ألوانها وأزهارها وأشجارها وأنهارها في صور شعرية تعمل على إبرازها كمصدر للسلام والخير والهدوء وكأداة فاعلة لتحقيق التناغم والتوازن في الحياة، وهو يعمد في ذلك كله إلى استخدام هذه المظاهر الطبيعة بوعي أو بغير وعي كوسيلة للمقارنة الرمزية بين الصفاء الكامن فيها وبين الدمار الحالّ بها رابطا ذلك كله بمشاعر الإنسان أو بالأحداث المحيطة به وبمضامين النصوص الإبداعية لديه.

ويعتبر سعد ياسين شاعرًا يقدّر ويصوّر جمال الطبيعة، ويستخدمها لإيصال رسائله العاطفية والروحية، إذا يعكس شعره العمق والتأمل في تفاصيل الطبيعة ودورها في حياة الإنسان، ويتجلى اهتمامه بالطبيعة في اختيار أبرز عناصرها عنوانا مشتركا لأغلب أعماله الأدبية، فباستثناء منتجه الإبداعي الأول المعنون بـ (قصائد حب للأميرة ك الصادر عام 1994)، نجد الأشجار تتصدر عناوين دواوينه السته الأخرى بدءا من (شجر بعمر الأرض 2002)، (شجر الأنبياء 2012)، (أشجار خريف موحش 2014)، (الأشجار لا تغادر أعشاشها 2016)، (أشجار لاهثة في العراء 2018)، (الأشجار تحلّق عميقا 2021)، حتى.   لقد استحق بحقٍ لقّب شاعر الأشجار، تلك الأشجار التي تحولت على يديه إلى طوطم وقناع تمت أنسنته جينيا ليغدو معادلا موضوعيا للشاعر ذاته حسب تعبير فاضل ثامر، وثيمة وأيقونة كما يراها الناقد الأستاذ الدكتور حاتم الصكر، أو لتصير معادلا لرسوخ المكان في الأرض كما هي عند علي حداد، أو رمزا لحتمية الخلاص كما يرى سمير خليل.

لم يقتصر حضور الأشجار في أسماء دواوين الشاعر فحسب بل تعدت ذلك لتتسلل لقصائد الدواوين ذاتها فتسيطر على عناوين نصوص الدواوين السابقة. ولعل هذا الاهتمام بالشجرة يشير إلى أن أشجار سعد ياسين ليست أشجارا عادية، فهي بوعي منه أو بغير وعي تنتقل من التشييئ إلى التشخيص عندما تتحول بين يدي نصوصه إلى أشجار نامية محمّلة بالهموم والرموز وحافلة بالإسقاطات الفكرية المتنوعة ومعبرة عن الصراعات الإنسانية وتشظّيات الروح التائهة فيها، فهي في ترنحها مقاومة للرياح الهوجاء التي تهب عليها من كل الجهات إنما تتمسك بما تبقى لديها من قوة مخبوءة في جذورها الملتحمة بالأرض راسمة لوحة عظيمة للبقاء الذي يتجاوز عوامل الهدم والتحطيم، مصممة في الآن ذاته على الانبعاث من جديد مستعينة بما يشعّ فيها روح من سماوية مقدسة ارتشفتها من مياه أنهارها الخالدة.

- الرمز ودلالاته:

ترى الدكتورة فطنة بن ضالي(من المغرب ) أن نصوص سعد ياسين حفلت بعشرات الرموز ذات الدلالات الدينية والعاطفية والتاريخية والتراثية والتي تقوم في مجملها على توظيف بارع لتقنيات الحكائية الغائية السردية التي وظّفها خدمة لمنتجه الإبداعي وداعمة لنظرته القيمية والأخلاقية.

ويرجع هذا التنوّع الكبير في نوعيات الرموز وطرائق توظيفها إلى خصب خيال الشاعر وتنوع ثقافته وعمقها الناتج عن المؤثرات البيئية الموروثة حينا وعن الدراسات الأكاديمية حينا أخر إضافة إلى تراكم التجارب الحياتية وتعدد الرحلات والسفرات والاتصال المباشر وغير المباشر بعدد كبير من شعوب المنطقة والعالم.

وتأتي الأشجار على رأس قائمة الرموز التي حفلت بها نصوص المنتج الإبداعي لسعد ياسين وقد تحدّثنا عنها سابقا، في حين تظهر على سطح هذا المنتج الإبداعي رموز أخرى لا تقلّ أهمية وتأثيرا استمدّها الشاعر من بيئته الحاضنة لرموز التراث العراقي المرتبط بحضاراته القديمة كالآشورية والبابلية والسومرية ليدلل في هذا التوظيف على العمق الحضاري للعراق هذا العمق الموغل في الحضارة والقدم والذي يستمر ليتصل برموز الحضارة العربية الإسلامية التي تسيّدها العراق قرونا طويلة وصولا إلى رموز متنوعة لأساطير مختلفة من حضارات عالمية شتى تدلل في رأيي على وحدة الهم الإنساني واتصال الحضارات بما يعرف في يومنا هذا بسياق المثاقفة.

ويشكّل التناص في نظري تجليا بارزا من تجليات الرمز وانعطافا عن سياق الدّال المفرد إلى سياق الدّال النصي والذي يؤدي في نهاية المطاف عمل الرمز الإيحائي التحويلي، فالرمز هنا لم يعد تلك المفردة التي تحمل دلالات المرموز فحسب بل أصبح حالة ثقافية اكتسب شرعيته من نص أو بعض نص اجترحه المبدع ليطعّم به نصّه الإبداعي ويحيل المتلقي من خلاله إلى فضاءات مفتوحة من التأويل القائم على المشابهة حينا والمخالفة حينا آخر.

- المكان المحوري والمكان العام:

يمثّل المكان الفضاء الأبرز الذي تدور فيه أحداث النص النثري والذي يكتسب أهمية كبرى عندما يتحوّل المكان ليصبح عنصرا فاعلا من عناصر الإنتاج الإبداعي، ولا أغنى من بيئة العراق المكانية، هذه البيئة التي لعبت بحق دورا هاما ومؤثرا في مسرح العمل الإبداعي عند سعد ياسين والتي احتفظ لنا بكثير من أسرارها داخل بنية نصوصه الإبداعية، تلك الأسرار التي جعلت من المكان مسرحا حالما مقاوما تارة ومقارنا بين صفاء المكان في الزمن الجميل وخرابه في هذا الزمن تارات أخرى.

هذا لا يعني أن سعد ياسين قد اقتصر في تناوله لعنصر المكان وتجلياته وتمظهراته على المكان العراقي الخالص الذي يحمل عبق تاريخه وحضارته وإنسانيته، بل تعداه بفعل ظروف الاغتراب إلى أماكن أخرى وسّعت من البعد الجغرافي لمضامين نصوصه وساهمت في تفجير طاقات الإدراك والوعي المكاني لديه.

وتعكس تجربة سعد ياسين مدى تأثير قضية الغربة والبعدعن الوطن والانتماء على الفرد من خلال إشاراته إلى الاثار النفسية والعاطفية السلبية غالبا والتي تتسلل من بين الصور والمفردات العاطفية، جاعلا منها سببا فيما يصيب الفرد المغترب من توترات ناجمة عن محاولات التكيف مع المكان الجديد، وعلى الرغم من تناوله لهذه المشاعر السلبية، إلا أنّه يقدّم في بعض الأحيان رؤية إيجابية تتمثل في تعظيم قدرة الفرد على التمسك بالجذور والمحافظة على الهوية الثقافية.

وعلى ذلك فيمكننا تقسيم الفضاء المكاني في أعمال سعد ياسين إلى مكان محوري خاص قام بتحديده ضمن مسمّيات تحيل إليه حصرا كأور وميسان والعمارة ودجلة وعمّان وبيروت وبلغراد وغيرها، ومكان عام مشاع شكّل مسرحا فضفاضا لإطار الصورة الكلية الكبرى المعبرة عن التسامح والتعايش الحضاري والتي يمكن أن نسقطها بغير تحديد على إي مكان في العالم وإن كانت كثيرا ما تحمل إشارات إلى بيئات خاصة أيضا.

- الصورة بين المضمون والجمال:

للصورة الفنية حضور لافت في نتاج سعد ياسين ولها أهمية خاصة تتجلى في سمات بنائها القائمة على استغلال عناصر الطبيعة من لون وصوت وحركة وتكرار وتوظيف للمكان والرمز والثقافة، بما يحقق التوازن بين جماليات الصورة من جهة وعقلنة توظيفها المرتبط بالمضمون من جهة أخرى دون انحراف أو ميل لجانب دون آخر، مراعيا بحرفية عالية هندسة البناء الجمالي للصورة ومنوّعا أو مزاوجا بين ثيمات الصورة القائمة على البناء الحسي وثيمات الصورة القائمة على البناء المعنوي سعيا في ذلك كله لتحقيق اللذة الشعورية المتأتية من الانزياحات والمفارقات والشحنات الإيحائية والعاطفية المتوهجة جماليا والمكثّفة رؤيويا.

ومع أن بناء قصيدة النثر يعلي كثيرا من شأن الصورة الفنية ويخلق منها فضاء يحلّق في عوالم الانزياح والدهشة والغرائبية ويحفل بالمؤثرات الصوتية الناتجة عن هذا التوالي والتوالد بل والتزاحم في حركة الجرس الموسيقي داخل بناء الصورة الفنية إلا أن هذا الانجراف وراء الصورة الفنية وجمالياتها إنما هو فخّ للمتلقي الذي يرهقه هذا الركض وراء الصورة ليخرج من حلبة النص خالي الوفاض من إدراكه الواعي لما ورائيات البناء الفني وأقصد هنا المضمون والمعنى والرسالة، ومع ذلك فقد تمكن قليل من المبدعين والرواد في قصيدة النثر من الجمع بين جماليات البناء الفني وقيمة المضامين التي تحملها نصوصهم الإبداعية محتفظين بالرسالة وبجمالياتها في آن واحد وأظن أن سعد ياسين في محاولته خلق هذا التوازن بين الصورة والرسالة إنما هو واحد من هؤلاء القلة.

- خلاصة:

يشكّل المنتج الإبداعي لنصوص سعد ياسين تحدّيا للدارس والناقد على حد سواء، وقد أشارت الدكتورة الناقدة سهير أبو جلود إلى هذا الأمر في دراستها للمنتج الإبداعي للشاعر، وهي على حق فيما ذهبت إليه من صعوبة وجود منهج نقدي واحد يصلح لدراسة هذا النوع من النصوص المتحركة في فضاء الوعي والمعرفة والتمازج بين الذاتي والعام، والذي أذهب إليه أن تفكيك المنتج الإبداعي الخاص بسعد ياسين يوسف يستلزم من الناقد استعمال أدواته النقدية كلها منطلقا من المناهج الخارجية في النقد كالمنهج التاريخي والاجتماعي والنفسي ومرورا بالمناهج الداخلية كالأسلوبية والسيميائية والبنيوية وصولا إلى مناهج الحداثة وما بعد الحداثة كنظريات التلقي والخطاب والمثاقفة، وذلك ليتمكن الدارس من النظر بشمولية وإحاطة وعدالة لهذا النوع من النصوص ذات المرجعية الفكرية المتنوعة والمتغيرة بسبب تطور أدوات الكاتب المعرفية وتغير المؤثرات والظروف المحيطة بعمله الإبداعي من ديوان لآخر.

وعلى ذلك فيعتبر ديوان (الأشجار لا تغادر أعشاشها 2016) واحدًا من أبرز دواوين سعد ياسين التي يتجلّى فيها تركيزه على قضايا الحياة والحب والوطن والانتماء، وهذا ما جعله محط أنظار الدراسات النقدية التي تركز على دراسة وتحليل الأسلوب الشعري والمضامين والصور الشعرية المستخدمة والرموز والمعاني التي يعبر عنها الشاعر في قصائده.

***

قراءة نقدية بقلم: د.علي غبن (الأردن)

هناك كاتبٌ مبدع يعيشُ على شفا الانفعال، حبا، يأساً، غضباً… ويستلذُ بحزنه ، ويؤمنُ أنّ الابداعَ هو تفجرٌ للعواطفِ على الورق، وبالمقابل يوجد كاتبٌ يمتهنُ الكتابة ويؤمن فقط بضرورةِ احترام قواعدَ المهنة ليس إلا. والفرق بين الإثنين كالفرق بين المُطرِب الذي يُطرِب والمُغنّي الذي يؤَدي. وكاتبتنا وفاء أخضر أقرب ما تكون إلى الكاتبة المبدعة،

لكن وبسبب تلك العلاقة الملتيسة للمجتمع مع المرأة، فقد يفرض على الكاتبة الالتزام بضوابطَ اجتماعيّة تقليدية تُلزمها أحيانًا التضحية والتنازل عن بعض قناعاتها. ويبدو أنّ مثلَ هذه الضوابط  وغيرِها من القيود ساهمت في تشكيل رأي عام حادٍ ومتطرف تجاه اعتماد الجرأة في الطرح وعبور الخطوط الحمر أو التابوهات المحرمة من قبل المرأة الكاتبة وجعلها في مرمى نيران الكثير من التُهم الجاهزة  من دون أن يُكلفَ البعض نفسه حتى قراءةَ ما تكتب.

لو نظرنا للأمر من زاوية مختلفة وإيجابية نوعا ما، نجدُ أنّ المرأة عندما تتسلح بالجرأة وتُزيح الستار عن المسكوتِ عنه، فهذا ليس رغبة منها في إعلان عصيان ما أو تمردٍ على الحدود المرسومة لها مجتمعيا، إنّما هي بمثابة دعوة للمعالجة وإزالة طبقة التكلس عن بعض المفاهيم والموروثات.

وهذا ما فعلته وفاء أخضر عندما قدمت لنا رواية قاربت فيها المحظور متجاوزة في أحيان كثيرة "الخطوط الحمراء" من خلال ما أثارته من قضايا وإشكاليات أريد لها أن تبقى في خانة الممنوع وربطها بالتقاليد والأعراف المجتمعية.4508 وفاء أخضر

فهل أخطأت كثيراً عندما كتبت روايتَها بهذا الأسلوب المباشر وتلك الجرأة اللافتة؟ مثلما أخطأت شمس روايتِها عندما اختارت وطناً على الحافّة وحبيباً على الحافّة وأيضا أولاداً على الحافّة ولم تكن تجرؤ على اتخاذ قرارات حازمة في حياتها إلاّ مُرغمة؟.

وإذا اعتبرنا الأديبَ مرآةً لمجتمعه، أيُجيز هذا له أن ينتهكَ مشاعرَنا نحن المتلقين ما بين محافظين أو غيرِ مبالين، ويخترقَ عقولنا بقصصٍ ربما نكون لقراءتِها من الرافضين؟ وللإجابة عن هذا التساؤل نقول أن الكاتبَ إذا أتقن وصف جماليات القُبح أوالمستنكَر للدرجة التي تثير اشمئزاز المتلقي، فهذا يعتبرمن الجمال والإبداع، حيث يصبح الوصفُ في هذه الحالة  جمالًا بحد ذاته. وهذا ما نلمسه في رواية  وفاء أخضر، عندما نقلت إلى المتلقي الصورةَ كما هي، بما فيها من الشفقة على الضحية، أوالاستنكار والاشمئزاز من المذنبة، مستخدمة وبإتقان  أدواتِها الروائية لغةً وشاعريةً وأدبًا.

بالعودةِ إلى الرواية فإنه يخطىءُ كثيراً من تسنّى له إقتناءها ولم يقرأها، ويخطىءُ أكثر ربما إذا اعتبرها تمثّل نوعا من السيرة الذاتية او بعضا من يوميات الكاتبة، بل هي أبعدُ من ذلك بكثير. تأخذك إلى عوالمَ مسكوتٍ عنها  لتعيش تفاصيل حياتهم.

العديدُ من الرسائل المباشرة حينا والمشفرة حينا آخر حملتها الرواية، إنطلاقا من حكايةِ شمس(وهي الراوي والسارد العليم)، ورفدها بعدد من الحكايات، حكاياتٌ ذاتُ مغزىً اجتماعي وتربوي وأحيانا سياسي، بدأتها شمس بعد ان صدمتها سيارةٌ غيبتها عن الوعيّ وجعلتها في حالٍ أشبه بالحلم  تكاشفُ نفسها والقراء ببعضٍ من فصولِ حياتِها والضغوطات المرافقة لها، في محاولةٍ منها لإلقاء الضوء على بعضِ ما تعانيه المرأةُ في مجتمعٍ ريفي ذكوري يتسلحُ بما تُبيحُ له الأعرافُ والتقاليدُ وسُلّم القيّم التى إبتدعها لنفسه لتعزيز سلطته على المرأة والتحكمِ بكلِّ حركاتِها وسكناتِها دون أيّةِ مراعاةٍ لحقها في الحياة وفقا لما ترتأيه ولأحقيتها في امتلاكِ جسدها والتعبيرِ عن كل ما يخالجها من شعورٍ وعواطف.

لعلّ الكاتبة بتطرقها لنشر مثل هذه الحكايات ربما تهدفُ من وجهة نظرها  لزيادة الوعي والنصيحة، ولأن الأديبَ هو أحدُ مرايا مجتمعه، فكان لزامًا عليها أن تنقلَ إلى القارىء  تلك الصور المتشظية ؛ أملاً في رفعِ منسوب الوعيّ، وتصحيحِ  بعضِ المفاهيم، والإسترشاد في المواقف المتشابهة.

وعليه يمكن القول أنّنا أمام رواية اجتماعية بامتياز وسنحاولُ التطرقَ لبعض الإشارات دون الغوصِ في تفاصيل التفاصيل حتى لا نحرُمَ القارىء  متعةَ قراءة الرواية وإستخلاصِ ما يراه.

تقصُ علينا شمس حكاياتِها عن المرأة، ما بين ضحيةٍ أو مذنبة، وتنسجُ على نولِ  الحكايات تلك أحداثًا  تُنتجُ ردودَ فعلٍ متعددةِ، تتراوحُ ما بين استياءٍ أو تعاطف. فكان التعاطفُ مع شمس التي نشأت في بيت أشبه ببيت (سي السيّد) ولأنّها فتحت التلفاز في أيام "الحداد العظيم، أيام عاشوراء المجيدة!" تلقت ركلات قوية وصفعات متكررة، أيقظتها وذكّرتها بوجوب مغادرةِ ذاك المنزلِ السّجن، ولا إمكانية لمغادرته إلا بالزواج؛

وكان الاستنكارُ والنفور عندما تخلى مديرُ المدرسةِ عن والدتِه العجوز وتركها في غرفةٍ نائيةٍ ليتهربَ من الإعتناء بها  ولتموتَ قبل أن تموت. ولكنه لم يتأخرْ في إقامة عزاءٍ لها يليقُ بمقامه كونهُ أحدَ وجهاءِ الضيعة ومديرَ مدرسةٍ عصماء تكرسُ العلمَ والقيمَ والأخلاق.

أما حكايةُ صديقتها نجوى التي تزوجت زواجاً لا روح فيه، والتي عادت  يوما باكراعلى غير عادتها إلى البيت، لتكتشفَ خيانةَ زوجها لها مع عاملة المنزل، تطلقت منه وتعرفت عبر الفايسبوك على أحمد وأصبحت تتواصل معه بالصوت والصورة وتغوص معه في أحاديثَ حميمية. وأبرمت معه حسب قولها عقد متعة  شفهي.  "أرسل له صوري وأحيانا يفتح فيديو أرى كل شيء". ربما ارادت الكاتبة من خلال حكاية نجوى هذه التنبيهَ والتحذيرَ من الأستخدام الخاطىء لوسائل التواصل الاجتماعي وما تخلفه من نتائجَ كارثية.

تقتحم وفاء أخضرالمجتمعَ، وتغوصُ فيه وتسرد تفاصيل التفاصيل عن قضاياه لتزيحَ الستار عن أمراضٍ تصيبُ الكبارَ حتى ولو تدثروا بثوب الوقار، كحال المسؤول الموقر عن استلام النذور، والذي أجاب حينما سئل: ماذا تفعلون بالنذور؟ تمتم بمهابةٍ مفتعلة، "أفعلُ ما يأمرني به الله. لنكتشفَ أنّ الحقيقةَ عكسُ ذلك تمامًا فهذا الموقرُ يزدادُ وجاهةُ وغنى والفقراءُ يزدادونَ فقرًا وعددًا. وهنا تسأل شمس هل يحقُ للبعضِ أن يمتلكَ حقولًا تتساقطُ ثمارُها أرضًا  وتتعفّنُ وتهترىءُ ويُمنعُ على الجائعِ الفقيرِ تذوق إحداها؟.

وفي سياق متصل أثارت الكاتبة مسألة التظاهرِ بالصلاحِ والإيمان، تصفُ شمس أباها ومن على شاكلته بأنّه يحملُ عصاه وتكشيرَتُه في البيت ويودعُ ابتسامَتَهُ ووداعتَهُ في الجامع،  وأيضا هو يقرأ القرآنَ كثيرا وفي بيتنا ظلمٌ كثيرٌ وأكثر.

ولم تغفل الكاتبة الإشارة ولو لمامًا إلى قضيةٍ تكاد تكون طاغية ألا وهي قضية حضانة الأم لأولادها والضوابط الشرعية المانعة التي تقيدُ وتحرمُ الأمّ من حضانة أولادها، فأحيانا كثيرة تصبحُ الأمومةُ عقابًا، كما هي في حكاية لبنى التي خافت ان يحرمَها الطلاقُ من أولادِها فارتضت البقاءَ والعيشَ رهينةً مغتصبةً في المنزل الزوجي.

قضية أخرى بدأت تطلُ برأسها في بلادنا أثارتها الكاتبةُ وهي قضية المساكنةِ التي حملت لواءَها  روز وهي المشبعةُ بمفاهيمِ بيروت عن الحريّةِ وعن حقِ المرأةِ بحرية التصرف بجسدها والإستمتاع به، ولكنَّ شمس رغمَ إيمانِها بالحرية وتوقِها لها إلا أنّها تحجمُ أن يختارَ المرءُ ما يؤذيه، وترى أن المساكنةَ غيرُ ضروريةٍ في مجتمعاتِنا، فمن يُحب، عليه أن يكونَ مزهوًا بإشهارِ حبّهِ، ولماذا يكون الحبُّ في الظل؟.

ايضا أفردت الكاتبة بعض المساحة لتتناولَ قضيةَ الوطنِ والوضعَ السياسي العام، وبلسان حال الكثيرين منّا، تطرقت إلى الأوضاع المُزرية التي تعصفُ بالوطنِ وببنيه، فتقول شمسُ الرواية "كنت أعرفُ عن بلدي شيئا واحدًا؛ أنّه لا يخصّني . كنتُ مواطنةً لقيطةً فيه، كان أبدا مكانا لاخرين يُسمّون أنفسَهم لبنانيين رغم أنّهم تابعون لدولٍ أخرى". أعرفُ عنه انقطاع الكهرباء والخبزِ والماء، وأنّه مكانٌ غيرُ آمنٍ وغيرُ عادلٍ". مشيرةً إلى أنّ الولاء الحزبي والمذهبي وحتى المناطقي طغى على الإنتماء  الوطني. لتخلصَ إلى قناعةٍ بأنّنا في مجتمعٍ يحكمُهُ لصوصٌ كبارٌ، ويبجلُ اللصوص.

خلاصة القول نقول أنّ الروايةَ تغوصُ في النفس البشريّة لتُعريها وتكشف تناقضاتها  وتفضح الصراع الداخلي الذي يعيشه الفرد في خضم هذه الحياة ذات الألوان المختلفة والمتنافرة، فالحياة غالباَ ما تُعطينا لوناً غير الذي ننشده، إلا إذا عرفنا كيف نجمع بين لونيها الأبيض والأسود، بين الضوابط والمُسلمات وبين الأحلام والطموحات والرغبة في الإنعتاق والانفلات من بين القضبان.

وقد امتازت الرواية بدفق من التعابير الجمالية والصور الشعرية وطغى عليها البعد النفسيّ والسيكولوجي في مقاربتها للصراع الداخلي. من خلال هذا البوح الذي نلمسه ونحن نتصفح فصولها التي كُتبت بأسلوب شيق مازج بين السردية والشعريّة، بحيث مكّن الكاتبة من التطرق للكثير من القضايا  الشائكة في مجتمعاتنا خاصة تلك التي تطال المرأة والنظرة إليها وكيفية التعامل معها.

وأختم بما تقوله شمس: لا أعتقد أنّ أحدا ما يقوم بعمل وهو على يقين أنّه على خطأ، يشُكّ ربما لكنه يخوض التجربة ليعرف ويتيقن، ولا مفر من الخطأ والخطيئة بالنسبة للأحياء.".

كل التمنيات للكاتبة وفاء أخضر بدوام التألق ونطالبها بمثنى وثلاث ورباع وأكثر من هذا الإبداع الأدبي والمزيد من النجاحات.

***

عفيف قاووق – لبنان

(إن التعبير الفني عن القبح يستدعي إدانته، وينبه ضمنيا إلى ما ينبغي أن يكون عليه الحال، فكأن عرض القبح تأكيد مباشر للجميل واحتجاج على ما في العالم من قبح) فيساريون جيرجوريفتش بلنسكي

في إطار مقاربة تيمة "صورة مدينة أسفي في روايات كتاب المدينة تم الوقوف على عدد من الروايات منها: روايتي (خبز وسمك وحشيش) و(تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية) للروائي عبد الرحيم لحبيبي، ورواتي (سيرة صمت) و(تيغالين حلم العودة) للكاتب ياسين كني، ورواية (النادل والصحف) لعبد الرحمان الفايز، ورواية حسن رياض (أوراق عبرية)، ورواية (درب كناوة) لأحمد أفار، رواية (أناس أعرفهم) لمصطفى حاكا، رواية (السيدة كركم) للكاتبة أسماء غريب، رواية (طريق الغرام) للروائية ربيعة ريحان، ورواية (عائد إلى بيّاضه) باكورة الروائي المغربي محمد خراز، ومؤلف (السيد "س") للكاتب عبد إكرامن، ورواية (ما تبقى من ذاكرة الرماد) للروائية فاطمة المعيزي.. وغيرها من الروايات التي تجعل مدينة أسفي فضاء روائيا للأحداث.

وعلى نفس النهج نفتتح اليوم نافذة جديدة في نفس التيمة مع آخر رواية صادرة لكاتب من هذه المدينة يتعلق الأمر برواية (بهيجة وأخواتها) للكاتب النيني عبد الرحيم الدرويشي.. والبحث عن الصورة التي قدمت بها هذه الرواية مدينة آسفي لقرائها، وكيف شكل مخيال المؤلف فضاءات المدينة وعادات أهلها؟ وهل غرد سارد الرواية نفس اللحن أم غرد خارج سرب الرواة السابقين؟

لا بد في البداية من الإشارة إلى أن الرواية كبيرة الحجم (320 صفحة) وحديثة صدرت في طبعتها الأولى عن دار فضاءات للنشر والتوزيع سنة 2023، وهي آخر أعمال المُؤلف بعد عدد من الأعمال السابقة منها كتاب (متاعب كاتب كلمات) عن مؤسسة الديوان سنة 2013 ورواية (نهاية بحار) عن منشورات دار سليكي 2018.

تبدو الرواية منذ سطورها الأولى أن فكرتها النواة متداولة، بتمحورها حول عودة بطل إلى مسقط رأسه، وما يمكن أن تولده تلك العودة من حنين ومقارنات ومفاجآت يمتزج فيها السِّيَري التاريخي بالروائي المتخيل.. من خلال جولة هذا البطل بأحياء المدينة وتفاعله مع ساكنتها، ومقارنة حاضرها الذي يشاهده بماضيها في ذاكرته..

أول قراءة سريعة للمؤشرات لا تخيب أفق انتظار القارئ عندما يطالع عناوين فصول الرواية الاثنى عشر التي تحيل على بعض المرافق في المدينة كما في الفصل الأول والثاني (المحطة الطرقية / نزل إشبيلية) وعلى بعض أحيائها كما في فصول (السوق الخانز / سانية الجمرة/ حي الكورس/ قرية الذهب/ تراب الصيني/ طريق الجرف/ مغارة الأدهم/ يوم الاثنين (يحيل على السوق الأسبوعي الذي ينظم كل يوم اثنين) أو بعض الشخصيات التي تفاعل معها البطل في الرواية (بهيجة وزينب/ أبو الشتاء) هذه هي عناوين فصول الرواية. لكن السارد كان حريصا أشد ما يكون الحرص على ذكر عدد كبير من الأزقة والدروب والعائلات والرجالات من أهل أسفي في مختلف تخصصات الحياة يعرفها أهل المدينة بالاسم والكنية ومنهم من لا زال على قيد الحياة..

اختار سارد أحداث رواية (بهيجة وأخواتها) أن تدور الأحداث في الأحياء المهمشة بعيدا عن الأحياء الراقية أو المدينة الجديدة، باستثناء بعض اللحظات التي تقود البطل لغرض معين. هكذا تمحورت معظم الأحداث في أحياء المدينة القديمة وحواف المدينة من الأحياء المهمشة في تلذذ بجماليات القبح..

الرواية ـــ مثل معظم الروايات التي كتبت عن مدينة أسفي ـــ تلامس قضايا متعددة منها التعايش بين المسلمين واليهود والنصارى بالمدينة، وما يرتبط بالثقافة والعمران، والحكايات الشعبية والعادات والتقاليد في الطبخ والمناسبات والحفلات والأعراس وتفاعل أهل المدينة مع السينما، وعلاقة المدينة بالبحر وكرم أهلها، مع النوستالجيا والحنين إلى ماض مشرق، وبكاء على واقع مأساوي حالي للمدينة، وما يخلقه مرور كهل خمسيني بالأماكن التي عاش فيها طفولته من كتاتيب ومدارس وأزقة والتقائه بأصدقاء الطفولة.. في سرد أقرب للتأريخ المحلي والحكي السيري.. لكن ما يهمنا من كل ذلك هو تلك الصورة التي تتكون لدى القارئ عن مدينة أسفي بعد انتهائه من قراءة رواية (بهيجة وأخواتها)، وإبراز جماليات القبح في تقديم المدينة.

تبتدئ الرواية ــــ التي لا تكشف عن هوية سارد أحداثها إذ تُحكى الأحداث بضمير الغائب، بلسان سارد يعرف كل شيء عن حياة البطل ويصاحبه في حلّه وترحاله وفي خلواته ـــ تبتدئ، بنزول البطل صالح، وهو في عقده الخامس، من الحافلة التي أقلته من فاس إلى أسفي مسقط رأسه، بكامل أناقته (نزل من بابها الخلفي رجل "ربعة" في عقده الخامس، نزل وهو يمسك بقبضة حقيبة سفره البنية اللون يلبس لباسا أسود بالكامل عبارة عن قلنسوة رفيعة، ومعطف جوخ طويل حتى الكعبيين، مع سروال وكنزة من تحت، وحذاء جلدي رطب غالي الثمن...) ص10

أول لقاء كان للبطل مع شرطي تضمن أحكاما سالبة (شرطي قصير، وجد نحيف بلباس مضحك لا يناسب قوامه المعوج، قبيح الوجه برأس طويلة كقبر راحل رضيع، ابتسم له الشرطي بفمه العريض المسوسة أسنانه..) ص10 (وعادت به ذاكرته القوية سنوات إلى الوراء وتحديدا إلى أيام مراهقته الأولى وتذكر ما سبق ووقع له مع صاحب هذه اليد النحيفة والوجه القبيح والرأس الطويلة) توجه بعد خروجه من المحطة نحو أقرب مقهى، فكان أول مكان يزوره (عند وصوله إلى باب المقهى كان أول ما لاحظه وجود شاب وحيد يجلس إلى طاولة قريبة من بابها، ومعه مجموعة من الفتيات القاصرات.. وجلهن ينفثن من بين أسنان وشفاه أفواههن دخان السجائر وفيهن التي تغالب النعاس.. كانت عقارب الساعة الحائطية تشير الساعة السادسة إلا ربع قبيل موعد صلاة المغرب) ص17. تعمدت إحداهن بتواطؤ مع الشاب والفتيات الأخريات على التربص به واستدراجه دون فائدة، دخلت فتاة جديدة إلى المقهى ووسوست لها النادلة (إنه رجل غريب خذيه واصطحبيه معك إلى البيت ليبيت معك ربما يكون من حظك) ص18

قد يعتقد القارئ أن هذه البداية السالبة مجرد وصف وأحداث عابرة، لكن بالتدرج ومع الغوص في تفاصيل الرواية يتضح للقارئ أن الرواية تسير على نفس خطى معظم تلك الروايات السابقة التي تستهدف الكشف عن الوجه السلبي للمدينة، وتقديمها بصور مقززة سالبة تجتمع فيها كل الموبقات.. تتلخص سماتها في الفقر والجهل والمخدرات والدعارة الرخيصة، والمهن الوضيعة، ناهيك عن التطاحنات التي سادت بين الأبطال دون احترام حرمة صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، قريب أو بعيد، وهضم الحقوق والدسائس والمكائد التي تحاك وهي تنشد فكرة (ما هكذا ينبغي أن تكون المدينة).. فهذا فقيه ورع حامل لكتاب الله يصلي بالناس يأكل حقوق اليتامى ويستولي على كل الممتلكات والعقارات ويطرد إخوته الصغار وأمهم (ص 167 وما بعدها) وهي نفس القصة التي حدثت لحميد الذي يقول (كلنا في الهم سوى فأنا الآخر مع إخوتي وأمي مثلكم هضم حقنا في الميراث من قبل أخينا الأكبر) ص171.. لتقدم الرواية  مدينة لا تعرف القانون (الوظائف والمناصب والترقيات في العمل بهذه المدينة تباع وتشترى كما المأذونيات ورخص البيع والشراء ورخص الامتيازات، وكل شيء نافع من نصيب الأقارب والمعارف وأصحاب الحظوة ومن يدفع الثمن..) ص177

(بهيجة وأخواتها) رواية تعتمد جماليات القبح في الرواية، تنهج القبح والفوضى والعبث والشذوذ وتمزق الذات الموجودة في المجتمع الآسفي متجاوزة معايير الجمال المتعارف عليه من خلال موضوعات ومفاهيم قابلة لتجاوز تلك المعايير، حيث يتضمن القبح الجمالي موضوعات تنسجم مع القبح المعاصر فتبدو مدينة أسفي مدينة يكثر فيها المتسولون والمتشردون، الذين يتخذون التسول مهنة تدر على ممتهنيها أموالا طائلة لا يستمتعون بها: تقول متسولة عن أخرى منعتها من الجلوس مكانها للتسول إنها (تتوفر على أربعة بيوت من عدة طوابق تكتريها جميعها مع دكاكين وحوانيت أخرى متفرقة بأحياء المدينة وشوارعها العامة، ولها ثروة مالية لا تحصى مع الدور الصغيرة والدكاكين القديمة والقطع الأرضية والبهائم.. وها هي ما تزال تمد يدها للمارة ليمدوها بالدرهم ونصف الدرهم..) ص188. وهي صورة لا تختلف كثيرة عن قصة العوينة المتسول الذي مات وترك خلفه بنوايل سيدي واصل ميراثا يقول موظف بالبلدية (عملنا على نقله مع فريق من عمال البلدية بناقلتين طيلة يومين كاملين إلى شاحنات المستودع البلدي... المال والذهب والفضة والسكر والملابس المستعملة والجديدة والتحف الثمينة التي ما توقعنا وجودها عند أمثاله.. يبدو أنها كانت معدة لتباع هي الأخرى بالجملة لتجار الخردة الكبار بالمدينة أو بالمدن المجاورة، كما بيعت أكوام في عدة مرات سبقت من عمره الطويل) كما أكد موظف سام بالخزينة العامة قدر أموال العوينة التي حولت إلى الخزينة بمئات الملايين من الفرنكات ص189.

لم تترك الرواية صفة سالبة إلا ألصقتها بالمدينة وأهلها من التدليس في المكاييل والغش في البيع، وبيع لحم الجيف، فقد سمع البطل جزارا يقول بعد أن باع أحد الزبناء خمس كيلوغرامات من اللحم يقول (تعال عندي المرة القادمة لتجدني قد أوجدت لك كيلوغرامات أخرى من لحم جحش أو حمار ميت مسن، مع نقائق من كلب هرم أجرب ومسعور..) ليعلق السارد على الحدث قائلا (لن أشتري اللحم يا اخي محمد من هذا السوق أبدا) ص247 ويشيد بأخلاق الجزار اليهودي مايير ولد حنة (الذي يبيع اللحم الحلال مع الخمر المعتقة) ص 245..

لقد ركزت الرواية على تصوير مظاهر الفقر حيث عدد من أبناء المدينة وأسرها تعيش على الفضلات والمزابل، وأكل الطيور الميتة (توقفنا على كومة من الطيور النافقة يبدو أنها طرحت بالمطرح للتو من قبل عمال مخزن الحبوب التابع للتعاونية الفلاحية.. بسسب تناولها لحبات قمح طري قاتل توضع بأمر من رؤساء فرق العمل بالتعاونية.. عندما امتلأ الكيس تناوبنا على حمله حتى البيت بسانية الجمرة.. ثم بدأنا في عملية نزع الريش والتنظيف والتقشير قبل تصفيف الطيور المريشة والمنظفة مع الخضر والتوابل في طاجين خزفي كبير.. قبل أن يفتح إحدى زجاجتي الخمرة الرخيصة ويبدأ في سقينا بالشراب الذي يعد بالنسبة لنا نحن المحرومين نعمة من أغلى وأشهى وألذ النعم وبعد أن فرغنا من شرب ما بزجاجة خمرة الدومي الأولى نضج سريعا ما بالطاجين.. ثم انتظرنا قليلا قبل أن نبدأ في التهام لما بالطاجين من أكل لذيذ شهي تؤكل عليه حقا الأصابع.. وبعد الأكل شربنا زجاجة الشراب الثانية..) ص 258/259)

وإذا كانت الرواية ترصد بعض مظاهر الفقر والتسول والتهميش فإن أهم صورة تتكون لدى القارئ بعد قراءة الرواية عن المدينة كونها ماخورا كبيرا مفتوحا للخمر والدعارة الرخيصة حيث شرف النساء أرخص شيء يمكن أن يشترى، الخمر وكل المخدرات متوفرة في كل مكان، والنساء مستباحات مستعدات دون قيد أو شرط لفعل أي شيء دون مقابل.

ففي أول مقهى تطؤها قدم البطل حاولت كل الفتيات استدراجه، وفي نزل إشبيلية بالمدينة القديمة وفي أول ليلة تعرِض منظفة الفنذق بهيجة نفسها عليه وتجمعهما جلسة خمر تطورت لعلاقة جنسية ذكرته بالفتاة بهيجة التي أحبها في شبابه بعد توظيفه بفاس، ومنظفة أخرى تأتيه بطاجين سمك يتناولانه سويا يتبادلان عبارات مجاملة (وحين لم يتمالك نفسه استدار بجسمه ناحيتها ثم أمسك بها من ذراع يدها اليسرى بأصابع يده القوية الخشنة وطرحها على ظهرها فوق السرير..) ص50 قد يقول القارئ أن هذه الأوكار قد تكون في كل مدينة، وقد تكون معدة لمثل هذه الحالات، لكن الرواية تجعلها سمة مميزة للمدينة وأينما ذهب البطل، ففي أول خروج له من النزل وجلوسه في مقهى بالسوق الخانز سأل رجلا (الكيف هنا موجود بكثرة على ما يبدو؟) كان جواب الرجل (نعم..الكيف موجود هنا وكل المحرمات والممنوعات متوفرة هنا بكثرة) ص53 وفي ذات المقهى ولج عميد شرطة يهابه الناس حكى الرجل لصالح تفاصيل حياة الشرطي كيف قدم من الدار البيضاء و(أغرم بفتاة حسناء جميلة.. ابنة سيدة مسنة صماء كانت تشرف على تسيير وكر للدعارة بدرب قديم يتواجد به سجن المدينة الأول العتيق) ص55 خرج من المقهى ف(دله أحد المارة على الحمام "الدش" وأخبره إن كان من الغرباء وفي حاجة للمتعة ويبحث عن اللذة فما عليه قبل أو بعد خروجه من الدش سوى التوجه لزنقة شريفة التي حج إليها.. منحرفون ورعاع من مختلف الأماكن والجهات فسكنوها وحولوها إلى زنقة فساد ودعارة يباع فيها اللحم البشري بكل ألوانه مع مختلف المحرمات والممنوعات بجميع أشكالها وبأثمان جد مناسبة أو بزجاجة خمر أو علبة سجائر أو اكلة شهية دسمة) ص 39

هكذا تتناسل أوكار الدعارة في الرواية بكل الأمكنة في المدينة (بالزنقة الشريفة المذكورة وأماكن أخرى من هذه المدينة تتواجد العديد من المواخير.. تسيرها وسيطات من أعراق وأجناس مختلفة أغلبهن من بنات المدينة الحاضرة ونواحيها أو المدن القريبة والبعيدة) ص 39/40

وأكثر من ذلك تقدم الرواية نساء المدينة يعرض أنفسهن على المارة دون أدنى إشارة من الرجال، فها هو السارد في حي الكورس يرى (فتاتين يافعتين تلاعب إحداهن الأخرى وعند اقترابه منهما سمع واحدة منهما تقول لصاحبتها بصوت تعمدت أن يكون مسموعا وهي تضرب بكف يدها اليمنى مؤخرة رفيقتها ضربات خفيفة وتضحك : تعال يا رجل فهذه الفتاة أخبرتني عندما اقتربت منا بأنها قد أعجبت بك.. وأنها لفي أمس الحاجة لرجل فحل يعتني بها..) ص 98 ولما كان عائدا إلى بيته بعد صلاة المغرب وقد ترك فيه سلاطة وزيتون مع زجاجتي صودا ووسكي صغيرتين (اعترضت طريقه سيدة شابة كانت تلتحف لحافا مزركشا برسومات لطيور وعرضت عليه أن يسمح لها بمرافقته إلى البيت لأنها المسكينة كما قالت في أمس الحاجة لرجل تقضي الليل معه في فراشه) وبعيد الفجر، أثاره صراخ رجل (وقد بح صوته من الصراخ ويقول مؤكدا بأن زوجته تتواجد بداخل العمارة في شقة مع من كان يعتبره بمثابة الأخ والصديق الذي يشاركه الطعام يأكل معه بنفس الصحن وعلى مائدة واحدة..) ص99

ماذا حل بنساء المدينة؟ وماذا تريد الرواية تبليغه للقارئ. وهي تقدم المدينة بهذه الصورة الداعرة معظم نسائها داعرات خائنات ولم تقتصر الخيانة على المعارف بل النساء تعرضن أنفسهن على عابري السبيل ولنستمع للحاج حسين يحكي قصة صديقه الذي رزق بولد أسود ولما تحرى الأمر اكتشف أن زوجته تخونه مع إفريقي (اعترف أمام المحققين بأنه ضاجعها مرة في بيتها بطلب منها ومرات لم يذكر عددها في الخلاء وأنها كانت تطعمه وتمده أحيانا بألبسة وهدايا.. وأخرج من الحقيبة البعض من ملابسي التي اشتريتها لنفسي وبأموالي التي كسبتها بعرق جبيني..) كانت الزوجة الخائنة تقدمها له هدايا ص103،

أما بطل الرواية فلم يقتصر على عشيقة أو محبوبة واحدة، بل كانت النساء تتقاطر عليه كالمطر، حتى ليعتقد القارئ أنه عاشر كل نساء المدينة، ففي حي الكورس مثلا تعرف على نساء شابات كثيرات وفتيات فاتنات.. صرن يتسللن بالليل والنهار إلى بيته الصغير المتواجد بزنقة الطيران (ص 104) ذكر من أسمائهن الكثير وهذه عينة صغيرة في صفحة واحدة (بهيجة نعمة ليلى وأختها شادية حنان المرحة ومريم ولطيفة والأختين سناء وهند وصديقتهما إكرام وعائشة أم العواويش وزبيدة ورشيدة وسهام وكاميليا وحنان التي تعرف عليها قبل زهرة وأريج وفاطمة وهدى ومديحة والسعدية ورباب بعد أن تعرف على إيمان وإيمان وإيمان ثالثة ورحاب أخرى وعلى منى وأمينة وأمنية وسعيدة وسعاد وبشرى وتذكر كذلك نوال ووداد وسعاد ثانية وكذلك مريم أخرى وفضيلة ونبيلة وربيعة وحياة وكوثر وفرح.. وبعدها تعرف على مريم الثالثة السمراء والرابعة البيضاء وأخريات لم يعرف لهن اسم مضوا بعد لقاءات عابرة.. بل حتى القاصرات الصغيرات منهن لم يدفع الثمن لهن.. كان لكل واحدة منهن سحر خاص) ص105

هذا العهر لم يقتصر على أوكار الدعارة والمنازل المغلقة بل نثرته الرواية في كل مكان في الساحات العامة أثناء عرض أفلام سينمائية، فبدل مناقشة ما تعالجه الأفلام وجدنا الرواية تترك الأفلام لتقدم صورة عما يقع (في الزحام بالصفوف الخلفية وفي الظلمة من أعمال مشينة منها الاحتكاك المتعمد والبث واللمس والضرب على المؤخرات الكبيرة والمتوسطة ما بين الذكور والإناث، والذكور والذكور، وبين النساء والفتيات..) ص107

وحتى السوق الأسبوعي (سوق الإثنين) الذي يفترض فيه أن يكون موعدا أسبوعيا للتبضع وتجديد الصلات.. تقدمه الرواية وكرا للفساد والدعارة (يقصده اللصوص والمنحرفون للسرقة والنشل والنصب والاحتيال واستغفال العباد، وللبحث عن اللذة في خيام العرافات، ومضارب ضاربات الفال، وبعض الخياطات بمقابل أو بدون مقابل، ووقوفا بالاحتكاك في زحام حلقات الفرجة والدلالة ولعب أوراق الحظ وبزحمة سيركي الزاز أو بلاكي.. حين يلتصقون في الزحام بمؤخرات الغلمان والصبيان والفتيات القاصرات بل وحتى بمؤخرات الغافلين من الشباب والغافلات من النساء البالغات السمينات من اللواتي يرغبن هن الأخريات في ذلك، فيقدمن لهن التسهيلات بتصنعهن الغفلة وعدم الانتباه..) ص 238

إن العلاقة بين المرأة الرجل من خلال الرواية علاقة مأزومة، غير مفهومة ويصعب إيجاد تبريرات منطقية لمثل تلك العلاقات، فلننظر كيف انطلقت فتاة في سب وشتم مسؤول عن سينما، ليعتدي عليها أمام الملأ بضربة كادت تقتلها (من غير تهديد أو وعيد للفتاة، رفع إلى أعلى فوق رأسه عصاه، ثم نزل بها على كتف الفتاة ورأسها ضاربا إياها ضربة قوية، شجت رأسها، قبل أن تسقط على الأرض عند قدميه لتبدأ في الصراخ وتتمرغ على زليج أرضية بهو الصالة عند شباك التذاكر..) ص 200.  قد تبدو العلاقة بين المرأة والرجل في أشد توترهاـ لكن ومباشرة بعد انطلاق العرض السينمائي وذهاب السارد للمرحاض يتفاجأ بالفتاة في مكتب المسؤول (وقد أنزل سرواله والشابة الحسناء التي خاصمته وشتمته، بالضمادة على رأسها، جاثية على ركبتيها وقد أمسكت بكلتا يديها شيئه الكبير وانهمكت في رضاعته بكل جدية ولهفة بشفتي فمها الجميل الذي أخرجت منه وابل السب والشتم) ص 203/204.. في غياب أي مبرر لا يملك السارد إلا أن يقول (أنها مسكينة من البغايا الصغيرات اللواتي تعودن على اصطياد زوار المدينة من الأجانب بشارع الرباط.) ص 204..

ولا يقف هذا التفسخ عند هذا الحد بل ينخرط فيه المسؤولون في المؤسسات الرسمية الذين يستغلون نفوذهم في استدراج القاصرات. يحكي سارد كيف كانت بهيجة وهي قاصر تأخذها ابنة عمتها إلى جلسات (رجال من أصحاب السلطة والمال ومن الأجانب البيدوفيليين الباحثين عن اللذة في أجساد الصبايا والفتيات القاصرات الجميلات) ص236

وليس أصعب على النفس من تخيل إغاثة الملهوف والنكث به، كما فعل أبو الشتاء لما كان يحتسي الخمر في الشعبة مع صديق له وسمعا فتاة تستغيث وتصرخ فأغاثاها وخلصاها من المعتدين.. اقتداها إلى غار واعتديا عليها وهي مريضة القلب وتعاني من الربو فاختنقت وماتت تحته يقول السارد (ظنها لإفراطه في الشراب وسكره أنها تتعمد استغراقها في النوم، وأنها تلجأ للعبة "موتة حمار") ص185/ 186.

وتتجلى هذه العلاقة المرضية، وأزمة الجنس في أوضح صورها من خلال علاقة البطل بزوجته بهيجة، إذ تبدو علاقة عصية على الفهم تضرب كل القيم عرض الحائط، وتحطم الرموز والثوابت، فما أن رآها وأغرم بها وهي قاصر حتى أرسل إليها السكيرة زينب للتوسط واستدراجها. فقصدت السكيرة البيت من بابه وتحدثت مع أم بهيجة وكانت المفاجأة في رد الأم، وهي تقدم ابنتها لرجل غريب في محارة تقول الأم (مرحبا به في أقرب حال وألف مرة على الرحب والسعة البيت بيته إن هو أرادها.. هي له متى أرادها للمتعة أو للزواج أو لهما معا ولكل شيء بالطبع يا زينب ثمنه..) ص 118. ترفع السكيرة البشرى لصالح وهي تشيد بدور الأم ورمزية الأم (إنها في نظري الآن لمن الأمهات الرائعات وستبقى كذلك في نظري إلى الأبد) ص 118

لتقدم الرواية زواجا من نوع خاص المال فيه وحده مفتاح كل الأبواب الموصدة، ما دام قادرا على أن (يجعل من القبح حسنا ومن الحمار غزالا ولو بأذنين طويلين فيقال عنه يا له من حمار جميل كالغزال) ص125. الرجل يطلب من بهيجة الزواج على سنة الله ورسوله وهي تصر قائلة (فليكن زواجنا بلا رابط أو عقود أو مستندات بل وحتى بلا ليلة زفاف وذلك حتى يبقى كل منا طليقا يذهب في حال سبيله متى شاء.. هذا هو الزواج الذي أفضله.. إنه زواج هذا العصر) ص 162/163.

والرجل يصرف كل ما يملك على زوجة لا تعترف بآصرة الزواج ولا بقدسية الميثاق الغليظ، ففي أول خرجة لهما اشترى لها صالح (المزيد من الملابس العصرية والتقليدية والعديد من الأحذية والشباشب، قبل أن يقتني لها من شارع رباط الشيخ صالح عطورا ومعاطف وساعات ومنامات وملابس داخلية، ولم ينس بأن يزيدها من الذهب والمجوهرات وأكسسوارات الزينة الغالية الثمن، مع المزيد من الهدايا الأخرى لها ولوالدتها ولصديقتها حنان. وقبل أن يودعها بهرايات البيض ناول بهيجة ظرفا أصفر مقفل ثقيل، ثم زادها أكثر من عشر ورقات مالية من فئة مائة درهم وأخرى لصديقتها) ص127. وظل على مثل هذا السخاء طيلة علاقتهما، فقد قضى معها خمس سنوات وسبعة أشهر.. صارت بعدها بهيجة امرأة شابة مكتملة ناضجة لها من العمر 23 سنة وقد صارت سيدة ميسورة لها أملاك وعقارات وأموال كسبتها كلها تقريبا من صالح.. فتح لها حسابا بنكيا وأجرى لها فيه من السيولة ما يكفي..قبل أن يشتري لها من ماله الخاص سيارة رياضية من النوع الفاخر تليق بمقامها وجمالها) ص 127 وصارت من أعيان المدينة يذكر منها أسماء لشخصيات موجودة فعلا بالمدينة مثل (إسماعيل والكيلاني والطنطاوي والتهامي والصديقي واشنيولة سلطان الحديد كما يسميه الميكانيكي عبد القادر والشقوري والحاج عبيد..) ص127 مما يوهم القارئ بواقعية الأحداث.

طيلة علاقتهما والزوجة مهوسة بالخمر والرقص تسهر الليالي في الحانات بعيدة عنه، ولا يستطيع مناقشتها في الأمر، لا يملك إلا أن يتسلل إلى الحانات ليتفرج عليها وهي ثملة ترقص.. قد يهددها في قرارة نفسه فيقول (ارقصي أيتها العاهرة ارقصي الآن كما يحلو لك يا ثقيلة الأرداف عندما تحضرين إلى البيت سوف أقت..) ص 225. وقد يزبد ويرعد داخليا (يا لها من خائنة وعاهرة عند عودتها إلى البيت سوف تدفع ثمن خيانتها..) ص226. يعيش صراعا نفسيا مريرا، لكنه لا يستطيع أمامها تحريك ساكن، بل قد تأخذه معها إلى بعض حفلاتها الراقصة في بعض الأعراس يقول في أحدها (كان عرسا جد رائع لأن الشراب كان فيه متوفرا وبزيادة أكثر وبكل أنواعه) ويعودان ويتابعان شرابهما في البيت (على مائدة الأكل ببيت الزنقة الخامسة في الحي العريق سانية الجمرة سكب صالح من زجاجته خمرة الفالبيير كأسين وقدم إحداهما للغالية وشرب هو أخر في جرعة واحدة..) ص 231. لا يثير فيه نومها بالبيت أو خارجه، ولا نومها معه أو مع غيره أي ردة فعل (وقد كان معنا كبور الذي ما يزال نائما في فراشه بالغرفة الأخرى مع بهيجة الحلوة اللطيفة).. يعرف جيدا أنها تخونه، يقول (أثناء مهاتفتها سمعت وشوشات وضحكات رجال ونساء فعدت للبيت وأنا جد مقتنع بأن العاهرة الفاتنة مشغولة تلك الليلة بسهرة مع غريب يكون دفع لها مقابلا محترما ومغريا للسهر معه) ص171، يعامل زوجته كالعاهرة يضاجعها في بيت وسيطة ويدفع لها مقابل مضاجعتها يقول (اصطحبتها معي في سيارة أجرة إلى بيت الوسيطة فاطمة وهناك ضاجعتها بشبق مقابل مبلغ مهم من المال وسلسة من الذهب الأحمر الخالص كنت اشتريتها لأهديها إياها بمناسبة عيد ميلادها) ص271.. تارة يظفر منها بقبلة وتارة بمعاشرة وأحيانا كثيرة يتابعها ويتلصص على مغامراتها في الملاهي الليلة (ولكي أطلع على ما يجري بداخل الملهى اضطرني الأمر كي ألجأ إلى عادة التلصص المقيتة هكذا فكرت.. وتسلقت شجرة كبيرة عالية وارفة لأرى ما يجري ويحصل وراء سور الملهى.. وأتابع فقرات من برنامجه فيها رقص وعري ورذيلة) ص272. أو في الأحياء الراقية (رأيت سيارتها متوقفة أمام إحدى الفيلات التي يكتريها الأجانب فقررت البقاء هناك أنتظر بجانب سور الفيلا.. توقفت سيارة كاديلاك منها نزل رجل أجنبي أشقر الشعر.. من بعده نزلت من باب الجهة الأخرى للسيارة مومس جميلة وعالية.. تبين لي بالتأكيد (أنها) لم تكن سوى زوجتي اللاهية الزاهية بهيجة الزانية) وعندما يلتقي بها لا يناقشها ولا يعاتبها بل يتظاهر بحبه لها (وبعد أن التقيت بها في اليوم الموالي وأخبرتني بأنها قد باتت ببيت أهلها قلت لها كم أنت جميلة يا حبيبتي..) ص275

وفي الوقت الذي كان القارئ ينتظر تطورا للأحداث إلى نهاية مأساوية. تنتهي الرواية بانسحاب البطل بعد بيعه البيتين المتبقيين من الميراث، والعودة إلى فنذق إشبيلية باحثا عن بهيجة منظفة النزل التي ضاجعها في أول يوم له بالحاضرة، ولما علم أنها تزوجت وسافرت مع زوجها إلى الخارج، قرر مغادرة المدينة، وأثناء خروجه من النزل سلمه مسؤول في الاستقبال ظرفا يحتوي على رسالة من مدام فلورونس صاحبة الفندق تضم وثيقة ميلاده تثبت أنه ابنها مكتوب فيها (صالح بن جلال و فلورونس جيرودي المزداد يوم 12 يناير 1945) ص 314 يركب الحافلة ويعود من حيث أتى دون أن يكلف نفسه عناء قراءة الوثيقة.

هكذا تخيب نهاية الرواية ما كان ينتظره القارئ لتفتح أمامه تكهنات بناء أحداث رواية أخرى..

وإلى جانب الدعارة وأزمة الجنس، ركزت الرواية في الوجه الآخر للصفحة على قضية أخرى رافقت البطل في معظم تحركاته منفردا أو وسط جماعة، ألا وهي الخمر، فقدم المدينة كما لو أنها حانة مفتوحة، الخمر المخذرات فيها من أكثر السلع رواجا، فهي لم تفارق البطل في معظم مشاهد وأحداث الرواية، هكذا جعلها سبب الكثير من الصراعات والمشادات والخيانات، فزائر السوق الخانز ــــ كواحد من أهم الأسواق الشعبية بالمدينة ــــ يشاهد كيف (تحصل مشاكل وصراعات ومصارعات ومعارك غالبا ما تنتهي بمآسي صادمة، وكثيرا ما تحدث لأسباب تافهة تدور بين خنازير من البشر الأغبياء وغير الأسوياء.. الذين تبلعهم كبسولة أو قرص مخدر وتشربهم كأس من الخمرة الرخيصة. وتلي تلك المشاحنات.. حملات اعتقالات عشوائية تقوم بها الشرطة دون أن تميز فيها في الغالب بين الخير والشرير من الناس) ص43. واينما ذهب تعرض عليه المخدرات، فما أن جلس بمقهى حتى سأل النادل عن كيفية الحصول على السجائر والمشروبات الكحولية المهربة ليبين له النادل وفرة العرض وسهولة الحصول عليه، وحدره من خداع ومكر الوسطاء..

إن رواية (بهيجة وأخواتها) تجول بالقارئ في معظم حانات المدينة وهي كثيرة ومتعددة في مختلف الأحياء يمتلكها أناس من جنسيات وديانات مختلفة من مسلمين ويهود ونصارى فنرى البطل وصديقه قد خرجا (من متجر الخمار اليوناني ديميتري اصطحب الصديقان معهما زجاجة نيكريتا وأربع زجاجات من سعة الثلاثة أرباع من عنب خمرة الفيوباب الحمرء القانية..) ص 209. ينتقل إلى حانة أخرى حيث (شربا هناك بحانة جوزيف ما تيسر لهما شربه من زجاجات جعة الفلاك بليس وجعة اللقلاق تلك الجعة المحلية التي تسمى عن أبناء الحاضرة بعائشة الطويلة كانت حانة النورس مليئة بروادها السكارى من أبناء المدينة وغرباء عنها من أجناس وجنسيات مختلفة.. الزحام بها كان شديدا) ص 92. عند خروجهما بعد العصر بقليل من مقهى وحانة "زانزيبار".. حيث تناولا طعام الغذاء وشربا من الويسكي ما يكفي.. ثم قصدا رأسا إلى "السانديكا".. وبجرف المرسى الكبير بحفرة من حفره جلسا على قطع الكارتون.. وبقيا هناك يشربان ويتفرجان على فتوات المدينة، يتنافسون في الغطس ويتسابقون بالعوم والدوران.. ثم العودة إلى أسفل الجرف ليجلسوا على صخرة مسطحة ويشربوا هم وآخرون بعضا من كؤوس خمرتهم) (ص182 وما بعدها بتصرف)

الغريب أن هؤلاء الذين تحكي عنهم الرواية ليسوا متشردين أو لقطاء وإنما فيهم أطر ومربون وأساتذة اختار لهم السارد أن يعيشوا في الحانات وبين أحضان العاهرات، لا هدف لهم إلا أن (يشربوا ببعض حاناتها الكثيرة..) ص182 ويتسكعون بين (حلقات أوكار القمار السرية أو المعلنة المنتشرة في الكثير من أزقة أحياء المدينة) ص 139.

الرواية لا تكتفي بحياة البطل وإنما تبين أن تناول الخمر سلوك عادي بين الأسر، فلا يخلو بيت قصده البطل إلا وقدم له الخمرـ والناس يخزنون الخمر في منازلهم كما تخزن مختلف المؤن والكتب، فها هو البطل يزور بيت الخباز الذي يقول فيه (هو أصغر من البيتين الآخرين جعلتُ منه مخزنا لمؤونة العيش وبالأخص تلك التي لا يصيبها التلف بالقبو تحت تحف من مخلفات آباء وأجداد أسرتنا الكبيرة الشرفاء. وصناديق خمر عتيقة وصناديق أخرى بها مجلدات وكتب ودواوين ثمينة..) ص213

وحتى حقيبة المقدم ــــ ممثل السلطة ـــ الجلدية التي يتأبطها كل يوم ويحافظ عليها أكثر من عينيه، والتي حيّر حرصه عليها البطل والسارد وكل من يعرف المقدم، انكشف سرها يوم رماه صبي بحجرة وهو جالس (على كرسي أمام مكتبه المتواجد قريبا من خمارة مدام علال ومخبزة اليهودي) فطارد المقدم ذلك الصبي، يقول السارد (عثر فسقط أرضا مباشرة أمامي - بعد أن سمعت تكسير زجاج - اندلق سائل أحمر قاني تنبعث منه حموضة عنب خمرة الدومي الرخيصة.. وبأسرع ما يمكن وقف المقدم من سقطته ونفض ما بمحفظته من شظايا زجاجة خمرته المتكسرة والكأس التي كانت معها.. منذ ذلك الحين وأنا أعرف سر الأمر الذي يحمله معه في محفظته القديمة الحمراء مقدمنا العزيز) ص75

صحيح أن السارد كان يعبر عن موقفه من القضايا التي يعالجها، ويرفض بعضا من تلك المظاهر التي رصدتها الرواية ويعتبرها من (طيش وعدم إدراك المرء لعواقب الأمور.. ومرافقة السوء الأشرار) ص186، وقد يحمل المسؤولية للسياسة المتبعة، والساسة الذين (حين تسلموا السلطة وتولوا مقاليد الأمور في بلدنا حكموا بسياسة العصا وخططوا لسياسات التفقير والتجويع) ص186، كما أشاد بعدد كبير من الرجال والأسر ومدح مواقفهم وذكر أسماء شخصيات كثيرة لازالت على قيد الحياة يقول مثلا في بعض رجال حي تراب الصيني (حي الرجال الأبطال الصناديد من رجال المقاومة والكفاح والنضال ضد الأجنبي الدخيل وزبانيته من المرتزقة والخونة المأجورين. حي شباب المدينة الأبي النقي العقل والمثقف؛ حي دبوح وتيتوح ودحدوح ولحبيبي ولمبيوق وميفراني والولادي والأب صالح والبوشتاوي وبوتور وغيرهم من الرجال الأبطال المناضلين والفدائيين الأفداد بحق.. حي الزقيوة وعبد القادر وحسن وعيسى والصاحبي وحقيق ومصطفى اللب والخضر.. حي نجيب وعيسى والمتوكل..)  ص 206 ومثل هذه المقاطع كثيرة في الرواية..

لكن الرواية نجحت في تقديم صورة عن المدينة مثلها مثل معظم الروايات التي كتبت عن آسفي، التقطها السارد من زاوية معينة لأهداف تخدم تطور أحداث روايته، صورة تغلب عليها القتامة تستبطن رغبة في أن تكون المدينة أحسن مما هي عليه، معتمدا توظيف جماليات القبح وسيلة للتعبير عن أفكار وقضايا تخص تصوره للعمل الفني والبناء الروائي برصد تجليات القبح الواقعي غير المقبول أخلاقيا واجتماعيا ودينيا. فتغدو لتشوهات المجتمع وانحرافاته دلالات ومعاني مقصودة لذاتها القبح فيها قيمة إيجابية تدعم عملية التعبير، وإلا لماذا لا يتردد السارد في إعلان حبه لمدن أقل جمالية من مدينته، والتركيز على جمال مدن صغيرة زارها كما في قوله (مدينة بومالن دادس الجميلة جدا) ص136. مع الإشارة إلى أن الجمال والقبح في الطبيعة غير الجمال القبح في الفن والرواية.

***

الكبير الداديسي - المغرب

..........

* الحلقة القادمة مع صورة أسفي في رواية فاطمة المعيزي (ماتبقى من ذاكرة الرماد)

شغلت المرأة الحيز الاكبر في منتج الشعراء بكل زمان ومكان، اذ مثلت الوجه الاخر للحياة، مشاركة للرجل احزانه ومسراته، فمن البديهي ان تتجه ذاته اليها لتكون منبعا ترفد شعره بقضايا عدة، فتارة نراها تلبد أجواءه بغيوم الاسى والالم، وتارة تغدو سر الحياة  ومصدرها وتارة تتجلى لنا من بين ثنايا النص بأجل المزايا فهي العبادة وهي الوطن وهي خلوده وديمومته، مايعني ان شاعرنا عمد التنوع في تقديم او تشكيل صورتها كي تجاري نزعاته الذاتية، التي تعكس خلجاته النفسية او طابعه الفكري او الواقع الذي يحكمه، او قد يكون الشاعر رهن التوتر النفسي الذي املى عليه تلك الصور وتشكلاتها.(١)

 دخلت المرأة في شعر السماوي من باب الغزل، فضلا عن ذلك كان لها دور لتكون الصورة العاكسة لحس الشاعر الوطني، اذ نراه يحدث توازنا بين نزعاته الذاتية الرومانسية وحسه الوطني الذي هيمن عليه واحكم قبضته من خلال الاحداث التي شهدها ضمن حدود واقعه المعاش، وهذا ما خلق منها رمزا يتخفى خلفه الشاعر لينقل ما يشغله ويظهر كوامن ذاته كما مثلت المرأة في النص السماوي قضايا اجتماعية، اذ حاول الشاعر تمريرها في نصوصه من خلال تجسيد المرأة لها،  فيدل ذلك على تداخل حضور المرأة الرومانسي مع قضايا اخرى، اذ كانت الملهم والمثير القومي والانساني والنفسي لدى الشاعر، ما يعني ان حضورها لم يكن هشا بل كان ذا قيمة ميزت نصوصه.

 ومن خلال البحث تجلت المرأة في نصوصه بصور متباينة، رصدنا منها صورة المرأة الواقعية، وصورة المرأة الرمزية وكان نتاج ذلك تتبع النصوص والغوص في اعماق بنيتها للوصول الى ما رصدناه.

اولا: صورة المرأة الواقعية:

نظم السماوي اناشيد الهوى التي تغنت بجمال المرأة واصفا لها يتلذذ بلقياها تارة، وهائما بحبها، يشكوها تارة اخرى، وخير ما اوحى بتلك الدلالة قصيدته (يا مبطلا حتى وضوئي)، اذ يقول:

رفع النقاب وسلما    وبحاجبيه تكلما

ودنا... وأغمض مقلتيه  تغنجا... وتبسّما

 وأزاح عن زيق القميص جديلتين ومعصما

فرأيت ما اغوى بفاكهة اللذاذة "آدما"

صقران يختبئان خلف ضفيرتين فأوهما (٢)

يتغنى شاعرنا بحوائه التي حاولت  إغواءه بمفاتنها، اذ تكشف عن حسنها عمدا وتجره للنظر اليها والتغزل بها وهو مرغما ؛فهي التي عمدت رفع النقاب ومن ثم تقربت منه تراوده وهي الراغبة التي تتودد اليه، اذ يتجلى لنا ذلك من قوله (ودنا واغمض مقلتيه تغنجا..وتبسما) وقوله كذلك (رفع النقاب وسلما) وايضا(ازاح عن زيق القميص جديلتين ومعصما)، لكن السماوي في كل ما بدر منها كان مرغما للنظر اليها فهو قد اعطى لذاته العذر وانها هي التي اغوته كتفاحة حواء التي اغوت سيدنا (ادم)، وهي التي ابطلت مناسك عمرته فيوجه اللوم اليها، اذ ابان نداءه لها بقوله (يا مبطلا حتى وضوئي) انه لا يملك زمام امره وانه لا حول له ولا قوة وهي التي  أضرمت نيرانه، فلم يعد يحكم السيطرة على ذاته التي تلعثمت من شدة الذهول والشغف، فغدت عينه تنطق بما يختلج في روحه التي اسرها جمال ما رأته من مفاتنها، ليس هذا فحسب، بل ان نظراته سقطت على ما هو محظور، حتى نراه يعلي من نغمة التوتر التي انتابته وافقدته سلطته على تلك الذات التي بدت مشاكسة متهورة، لكنه يعود ويلملم شتاته من جديد، وكأنه ينهي صراعه الداخلي بين الروح والجسد فيحاول ان يحكم سلطان عقله ليقوده الى بر الامان،  فيوجه خطابة لتلك الجميلة التي افقدته صوابه، فيلومها طالبا الرحمة منها فهو الغريب الذي اتى ليؤدي مناسك العمرة،  اذ يقول:

فهمست رفقا بالغريب  ألست قلبا مسلما ؟

ابطلت عمرة ناسك قد جاء مكة محرما!

وحرمته سعيا بمروة والصفاء و "زمزما "

يا مبطلا حتى وضوئي: كن لعشق ميسما

فأعاد وضع نقابه كيدا..... وقال متمتما:

صبرا على عطش الهوى ان كنت حقا مغرما

فالماء اعذب ما يكون: اذا ستبد بك الظما!(٣)

من خلال ما تقدم من حوار بينهما تنجلي لنا صورة اخرى لها فبدت متمنعة تكد له، اذ تعاود وضع النقاب تلتمس منه الصبر على عذاب الهوى،  وما يوافق ذلك ان المرأة قد عرفت منذ سالف الازمان بالكيد، اذ نظر المجتمع اليها  كنظرته للشيطان، وهذه النظرة ذات بعد اسطوري، يجمع بين المدنس والانثوي، مايعني ان المرأة تكون قوية بسحرها الانثوي وضعيفة  بعين التقليد الدكوري الذي يهمش حضورها

 واللافت في هذا النص ان السماوي يعمد مخاطبة المرأة بصيغة المذكر، كعادة الشعراء العرب قديما وخاصة في العصر العباسي ومابعده، اذ اصبحت الضمائر التي تخاطب الانثى بصيغة المذكر دون النظر الى الدافع الكامن خلف هذه الظاهرة، واستمر هذا الى العصر الحديث وكان ذلك على نهج التقليد ومجاراة المحدث للقديم.(٤)

يرى النقاد  ان مرد القضية الى الثقافة السلطوية التي ورثت من ثقافتنا العربية وكان لها الأثر على اللاوعي الجمعي أو قد يكون عائد الى النزعة الصوفية، والسماوي كعادته يعمد تبني البنية اللغوية القريبة من النزعة الصوفية، وهناك من رأى في هذه الظاهرة حصيلة لأسباب  اجتماعية نفسية تعود الى مافوق التاريخية(٥)، لكن اذما اردنا ان ننقب في حقيقة الامر، فقد نتفق مع رؤية الناقد الأردني عبد القادر الرباعي المؤسسة على تحليل الخطاب الثقافي بجمالياته بديلا عن النسق المضمر بقبحياته (٦)، ووفقا لذلك نرى ان شاعرنا عمد منح المرأة السلطة المهيمنة على ذاته والمتمركزة في ثنايا النص وهذا ما دفع به الى تذكير الكلام الموجه اليها مخاطبتها بصيغة المذكر،  ومنبع ذلك هو قوة سحرها الانثوية التي فرضت سلطتها وامسكت بزمام الامور، اي انه اعطى المرأة حريتها وفسح حدود النص لها ومنحها دور السلطة المهيمنة، اذ تجلت لنا وهي تشعل نيران اللهفة والشوق ومن ثم ظهرت وهي تطفئها، فبدت مشاكسة،  متمنعة.

ان الدلال سمة من سمات المرأة، اذ تنبع هذه السمة من طبيعتها الفطرية الانثوية، وبما منحها الله من مقومات الحسن والجمال، لذلك احيانا تبالغ المرأة بهذه السمة حتى تجذب انظار المحب او تحسسه بقيمتها، اضف الى ما تقدم ذكره انفا نراه يراوغ بين التغني بصفات المرأة الجسدية وشوق الجسد الى الجسد تارة، وتارة اخرى يحاول ان يكسو تلك المفردات الحسية ما يستر دلالتها ؛ لذا يجنح الشاعر الى التشخيص احيانا والتشبيه والاستعارة احيانا اخرى، ولتأثره بجمال المرأة يعمل على تنظيم صور بديعية يصف من خلالها وجدانه،  لنا ان نقول بأن السماوي قد ابتعد عن النرجسية الذكورية السلطوية التي تفرض هيمنتها على المرأة، فتصاعد الصراع والتوتر النفسي الذي يقوده للنظر الى ما هو محظور يعود به الى إبداء لندم، وهذا يوازي تماما ما اكده الناقد (صالح رزوق) اذ قال ما نصه (ان ثلاثية الخطيئة والتطهير والانابة المحببة لقلب السماوي، تبدو هي المسؤولة عن دراما الصراع والتوتر النفسي، وهو ما يدفع الشاعر الى الابتعاد عن التفاخر والزهو والخيلاء المرضي ويقترب به من حدود التأمل.)(٧)  

ان قدرة السماوي على ادارة الحوار بينه وبين تلك المرأة الحسناء مكنته من كشف امكانية المرأة (الاخر)  وقدرتها بفرض هيمنتها على ذات الشاعر (الانا)، اذ فسح المجال لها للاندفاع نحو الامام لتتمكن من الافصاح عن نفسها ضمن منطلقات متباينة، ما يعني ان السماوي اعلى من شأن(الاخر) المرأة مؤكدا دورها في الحياة وابداء رأيها

اما قصيدة (نسجت لها من القبلات ثوبا)، فقد تجلت لنا صورة المرأة بهيئة تبين قدسيتها وقوتها وسموها في عين السماوي اذ يقول وهو ما بين الحقيقة والخيال، الواقع والحلم:

لثمت خدودها فأغتاظ زهرُ

واعشب مقفر واخضل صخرُ

وخرَّ مكبرا نزق وطيش

وصلى تائبا لله نكر

وجفت موحلات للخطايا

وفاض على حقول العسر يسر

رأيت فجائعي عرسا ومغنىً

وعاد صبا برغم الشيب عمر (٨)

تجتمع العناصر المكونة لبنية النص لترسم صورة المرأة الخارقة لحدود الطبيعة، التي بحضورها يخضر مقفر، و ينزه الاثم من اثمه، ويتجاوز معها كل الخطايا، ويسهل معها كل عسير، فلا محل للهموم والاحزان بوجودها،  فغدت امرأة السماوي الحياة والبهجة والامل، ولشدة لحظات السعادة ونشوة الحب التي تغمره يرى انه قد عاد الى الصبا معها، لنا ان نقول بأن ما يصفه السماوي يتعلق بما تشعر به ذاته، اي انه يصف شعوره نفسيا معها وهذا يجعله يرى ما حوله قد تغير الى ما يبعث في نفسه السعادة و الامل، اذ يسمو ذلك العشق بينهما الى العشق الروحي المنزه من كل ما يشوبه، فيعمد الى وصفها منطلقا من صفات معنوية تتجاوز مزاياها الظاهرة مخترقا ذاتها كاشفا جمالها الروحي، وهذا بدوره جعل من الانثى ذات حضور مثالي في حياته، فلا محل للمحرمات ولا المعصية بل انها المقدسة و المنزهة من كل ما يشوبها، ولذا نراه يوظف مفردات توحي بالقدسية (صلى، مكبرا، تائبا الى الله، جفت الخطايا)، لكن السلطة الذكورية تتجلى لنا فارضة سلطتها على الجزء الاخر من النص، اذ يبدأ السماوي حديثه عن لقائهما وكأنه يريد القول ان ما اوصله الى تلك النشوى هو ما سيعبر عنه الان والذي حاول ان يخفيه لكنه لم يتمكن من ذلك  فيقول: 

وأسكرني العناق فرحت اعدو

فبيني والمدى والنجم شبرُ (ُ٩)

فبعضي مثقل بالقيد عبد

وبعضي مثل ضوء النجم حرُّ

حملت اميرتي والليل سر

وعدت بركبها والصبح جهر

ويقول كذلك:

كأن النهد فاتنة خجول

وان قميصها الشفاف خدرُ (١٠)

معظم المفردات التي شكلت بنية المقطع الانف ذكره هي مفردات مباشرة حسية او عشقية ممنوعة  وهذا ما توحيه لفظة(اسكرني، العناق، النهد، قميصها الشفاف)، ومن خلالها يتحدث السماوي عن المرأة الحبيبة بصورة مباشرة صريحة لا تحتاج الى تأويل، اذ تبوح كلماته بوقوع المحظور، فهو يرى روحه التي تهيم بها مقيدة مأسورة كالعبد، وفي الوقت ذاته يرى بعضه الاخر مثل ضوء النجم حر منطلق، مخلص حديثنا انه تمظهر بين رؤيتين فتارة يرى منها الروح الطاهرة الغير مدنسة، وتارة اخرى، هي التي توقعه في هوة المحرمات، وتجلى ذلك بالانتقالية من المقطع الاول للقصيدة الى المقطع التالي لها، اذ تبين لنا ان السماوي جعل من المرأة شيئا مقدسا بمثابة طقوس العبادة، حيث كانت تمثل له العطاء والحياة ومنبع السعادة، وهذا ما توحي به الحقول الدلالية التي شكلت بنية المقطع الاول للقصيدة، واذ ما انتقلنا الى ما يليه نرى المرأة مجرد جسد يثير ويلهب ذات الشاعر، ويبعث النشوى من شدة الوله والذهول، لنا ان نقول بأن هذه الازدواجية فيما صرح به السماوي مرده الى رؤيته الذاتية التي تقدس مكانة المرأة، ودورها في الحياة، لكن جمالها وحسنها افقده صوابه وفضح سره، فقد غلب على امره لما يكنه للحبيبة من لهفة شوق لها، فهو يرى من المرأة تفاحة ادم التي اغوته وهذا عذره الذي يبرر له وقوعه في المحظور، محملا المرأة ذنبه ولومها على حسنها الذي اغواه وهو جائع فجوارحه التي تخطت حدود الممنوع او المحظور في قانون العشق تعاني الحرمان وهذ ما يقوله في نهاية القصيدة:

لـ "ادم " عذره......وانا لثغري

وجوع يدي وللاحداق عذرُ.(١١)

فبعد ان اوقعه عشقه بالمحظور بدأ السماوي بالبحث عن عذر يعلو به من هوة المحظور الى ما هو اسمى من ذلك، اذ وجد ذاته محاطة ومكبلة بالعديد من القيود الايدلوجية و الثقافيىة، فوجد بلوم الذات وزجرها منفذا ينجيه من تلك القيود وفضلا عن لوم الذات فقد يحمل النص السماوي خيبة امل، او نظرة تشاؤمية، لما هو منتظر من قصصه الغرامية، فيقول:

علقت بها وادري ان حظي

بلا حظٍّ ..... وان الحتم خسرُ

اذا ضحك الهوى لي بعض يوم

فان بكاءه الصوفي دهرُ.(١٢)

فهو يعلم انه غير محظوظ في الهوى وان فرحه لا يدوم ولهذا فهو يندب حظه ويلوم نفسه لتعلقه بها، وما دل على ذلك هو بكاءه الصوفي الذي هذب الروح من الخطايا وقلب موازين النص وبات السماوي العاشق المتيم المغلوب على امره امام حضرت المرأة الحبية المعبودة، وهنا يمكننا القول ان السماوي عاد واعلى من شأن المرأة نهاية القصيدة،، اذ ان شدة القلق والخوف من خسارتها وتقلبه بين الندم والتشاؤم ولوم الذات اكد على ذلك.

كان للمرأة الثائرة دور في النص السماوي، اذ عكست صورتها واقع المرأة المقاتلة التي شاركت الرجل حتى ساحات القتال حاملة السلاح غير مبالية بما سيحل بها وهذا يرفده السماوي من واقعه ارض العراق التي انجبت (مريم ناعم)، وهي سيدة من مدينة السماوة، كان لها حضورها في الانتفاضة الشعبية، حملت السلاح وقاتلت جنبا الى جنب مع الرجل، خلدها شاعرنا في نصوصه لتتلو للأجيال حكايتها، أذ يقول (حكاية مريم الناعم):

سمراء مثل خبز الفلاحين

وديعة مثل جدول حديقة نعناع

شفيفة كالندى

هادئة كالنعاس

لكنها حين تغضب: تهطل كالنيازك

تحب القرنفل والعصافير والاطفال

وبالمجان تخيط ثياب فقراء الحارة

تحمل في قلبها كتاب الله

وتغفو تحت عباءتها قنبلة مهيأة للاستيقاظ (١٣)

يمزج النص من خلال مفرداته صورة لتلك المقاتلة التي يتوقع المتلقي انها قد تكون صورة قاتمة ؛فهي المرأة المقاتلة، وما يوعز به مصطلح القتال من دلالة توقظ في داخلنا التهيب لسماع كل ما يسلب الحياة نظارتها وديمومتها، لكن المقاتلة الثائرة تتجلى بداية بأبهى الصور التي عكست روحها النقية العفوية، اذ شبه حسن وجهها بخبز الفلاحين، ببساطته ولذته وطبيعته، فهي هادئة، وديعة، فيتجلى لنا ان السماوي كان متعمدا توظيف تلك الصفات أذ حاول ان يرسم لنا صورة انيقة وجميلة عن ذات ممزقة نتيجة لقساوة واقعها الذي شهدته ولهذا بدت لنا بصورة اخرى تتناسب مع روحها الغاضبة الثائرة التي ترفض الذل وهذا ما اوحى به قوله:

لكنها حين تغضب تهطل كالنيازك

ما يثير انتباهنا، هو ان شاعرنا عندما رسم للمرأة تلك الصورة الثائرة عمد ان يرتكز على مفردات تتناسب مع رقة المرأة وعذوبتها، فيشبهها بالنيازك تلك الاحجار التي تشتعل نارا فترى وكأنها  نجم متوهج في حضن السماء، لكننا نفزع ونهرب بمجرد ان نراها تقترب من سطح الارض، وما بين توهجها في حضن السماء وكتلتها المدمرة المشتعلة نارا وهي قريبة من سطح الارض، نلمح تلك الصورة لمريم التي ابدع السماوي برسمها امرأة تحب الحياة رقيقة، عذبة، قلبها محب لعمل الخير تارة،  ورسمها امرأة ثائرة يعلو صوتها حين يغصب المرء على الصمت  في بلاده تارة اخرى.

كذلك نراه يجاور بين متنافرين حين يقول:

تحمل في قلبها كتاب الله

وتغفو تحت عباءتها قنبلة مهيأة للاستيقاظ(١٤)

وكأنه اراد ان يطفئ وحشية وقساوة ما توحي به لفظة القنبلة بأن يتقدمها قوله كتاب الله تحمله في قلبها، فهو يجيب المتلقي اذا تساءل عن مريم، (النقاء، الامل، الحياة)، والقنبلة (الدم، الدمار، الموت) كيف لمتنافرين ان يجتمعا، لكنه بين ان مريم، المرأة الثائرة كانت مؤمنة تخاف الله ملتزمة بسننه وتعاليمه، فحمل السلاح كان مبررا وقتلها لبعض رجالات الدولة كان مبررا ايضا، كونها انسانة حرة ترفض القيد في بلدها ومحبة لأرضها وابناء بلدها ترى في مشاركتها الرجل واجبا مقدسا.

ولا تخلو نصوص السماوي من صورة المرأة الام التي حملت في طياتها معاناة الفقر التي ادركها الشاعر في ظل واقعه وعاشته الام العراقية وهي تجهد ذاتها من اجل فتح باب المستحيل وطرد شبح الفقر والجوع واشباع صغارها، ضمن هذه الصورة نراه يقول:

ابي عاش سبعين عاما ونيفا

على الخبز والتمر

ما زار يوما طبيبا...

وامي اذا جعت تشوي لي الماء

او تنسج الصوف ثوبا

فيغدو حريرا بهيا (١٥)

يسرد لنا السماوي واقعا عاشه مع أفراد عائلته مستذكرا ما عانوه من الفقر والحرمان، وكان للأم  دور قيّم في تخفيف الم تلك الليالي وكيف أنها كانت تفعل المستحيل كي لا يشعروا بألم الفقر فكانت تخلق من العدم شيئا يسد عوزهم، واي صورة اكثر تعبيرا تخلقها عبارة (تشوي لى الماء)، وليس هذا فحسب بل انها كانت تنسج الصوف، لكنه يتحول حريري الملمس. جسدت هذه الصورة معاناة الام العراقية بصورة عامة، وبينت عظمتها وشجاعتها في مواجهة الفقر وتدبيرها سبل العيش، وليس هذا فحسب بل ان شاعرنا تمكن من خلال تلك الصورة ان يمرر قضية الفقر التي اطبقت على انفاس اغلب البيوت العراقية بسبب سياسة الاهمال والترهيب المتعاقبة على بلدنا العراق، فضلا عن ذلك ورغم ما خلفه الفقر في بلاده لكننا نلمح الامل بغد مشرق فلا وجود للاحباط في حياته وهو ما جعل من الصوف حريرا في نظره، فهو يرى ان المحبة اساس للعيش بنفس راضية قنوعة، اذ كانت الام تقدم ما لديها بنفس طيبة نقية تملؤها المودة والرحمة ومن المؤكد ان ماتقدمه كان يقابل بالمثل.

يسند السماوي للمرأة (الام) دورا يتمثل بتدبيرها لسبل العيش، و دورها في كيفية تعاملها مع اطفالها وسر قناعتهم ان ما يلبسونه هو الاجمل وما يأكلونه هو الاطيب والالذ، وهذا السر يكمن فيما تعطيه الام من محبة وما افرزته من قيم ومبادئ جعلت منها مرتكزات لأسناد بناء عائلتها، ما يعني ان دورها يلتقي مع دور الام وفق المنظور الاجتماعي، الذي يرى الام مدرسة، ويراها كذلك المؤسسة الاجتماعية الاولى التي تهيئ انسانا سويّا يتقبله المجتمع ويمتزج مع عاداته وتقاليده (١٦)، وهذا يعني انه اعطى لهذه الشريحة من المجتمع مساحة تحسب لها كذلك دورها الذي اخرجها من قوقعة التهميش والاستقصاء، فما يتجلى لنا ان للمرأة الام حضورا يكاد يغلب دور الاب.

خلاصة قولنا ضمن حدود صورة المرأة الواقعية و نسقيتها، نرى ان السماوي تعامل مع المرأة من خلال الدور الذي تشغله، اذ تجلت لنا حرة طليقة مشاركة للرجل في ساحات القتال ثائرة لا ترضى الخنوع، ما يعني انها كانت تعود بفائدة نفعية للمجتمع، وبدت كذلك مربية ومؤسسة لجيل تساهم في تكوين بنية المجتمع، وهذا ما يؤكد ان المرأة نصف المجتمع وهي عضو فعال في تكوينه، كذلك يؤكد لنا سياسة المساواة بين الرجل والمرأة التي يؤمن بها شاعرنا، لكن ورغم ذلك بدى لنا الشاعر بمنظور اخر مثل ما هو ذاتي نفسي تحركه كوامن داخلية، او ما هو غاطس في اللاوعي الجمعي ويكون متحكما برؤيتنا بوعينا او دونه،  فتارة هي خطيئة الشاعر التي يحاول تطهير ذاته من تلك الخطيئة، اذ نظر لها بمنظور حسي يحاول من خلاله اشباع غريزته، او بالمعنى الادق اطفاء ناره التي اوقدتها تلك المعشوقة، وتارة اخرى هي المقدس والمثالي،  التي يسمو بها عن كل ما هو دنيء محظور في القانون المجتمعي، وقانون العشق الازلي، ما يعني تشابك الجوانب الجسدية والروحية في صراع، اذ يحاول احدهما ان يطفو فوق الاخر وهذا بدوره ولد تلك النظرة المزدوجة لدى الشاعر كما و يؤكد لنا ان السماوي لم يوجه نصب اهتمامه الى اللذة الحسية، بل انه امن بالحب الذي يتجه نحو روح تجسدت في بدن، وما يصاحب ذلك من لذة والم (١٧)، تنجم عن لحظات السعادة ولحظات الحزن التي ادركها السماوي.                         

ثانيا: صورة المرأة الرمزية:

تقاسم السماوي عالمه مع المرأة، اذ كانت ناقلة لتصوراته عن قضايا ادركها الشاعر على ارض الواقع، كان منها قضايا الفقر والحنين الى الوطن وقضايا اخرى انجلت لنا من خلال نصوص عدة تظهر المرأة وهي ترمز لقضية ما او توحي بمسألة ما أراد السماوي البوح بها من خلالها، ففي قصيدة(حديقة الجنون)، اذ يقول:

ايتها العفيفة الطاهرة الآثام

والقديسة

الناسكة المجونْ

 *

تدرين ان العشق

في عصر فتاوى الذبح

اضحى تهمة

وانني الخارج في فقه الدراويش

عن القانونْ (١٨)

يتحدث السماوي مع امرأة مجهولة غير واضحة المعالم، يناديها بأسمى الصفات فهي العفيفة الطاهرة القديسة فتبدو بصورة براقة، ويتضح من خلال حواره انه يهيم بها عشقا، لكن هذا العشق بات جريمة في عصر اختلت به الموازين، فهو يحرم الحب ويحث على الكراهية المتمثلة بالقتل، وكأن السماوي يصور واقعه المأساوي، المتمثل بأرضه العراق المغتصب الحقوق مستعينا بصورة المرأة الفصلية، اي ان صورة المرأة التي تحدث عنها بداية تفقد بريقها بعد ان يكشف عن هويتها فيقول:

 انك الفصلية النعجة

في وليمة الآمر

بالأكفان والتابوت والسياط(١٩)

فهو يعمد الى توظيف صورة المرأة الفصلية ضحية زواج الثأر في العرف العشائري، اذ تعيش هذه المرأة مسلوبة الارادة  تحت ضغط نفسي فهي ضحية لتلك الاعراف والتقاليد، فتكون الوسيلة التي يقدم من خلالها صورة بلده المسلوب الارادة في عرف القوانين التي يسنها الآمرون في بلده، فيشاكل السماوي بين صورتين متماثلتين المرأة الفصلية ضحية الاعراف والتقاليد العشائرية ووطنه المسلوب الارادة الذي يراه ضحية القائمين على امره، ما يعني ان المرأة الفصلية التي تحدث عنها السماوي كانت وسيلة لتمرير قضية وطنه الذي يراه مسلوب الارادة.

ويقول شاعرنا ضمن قصيد ة (عندي عتاب):

بالأمس كنتُ اذا ظمئتُ حلبتِ لي

شفتيك لو جفَّ الندى وسحابُ

وانبت عن فانوس ليلي مقلة

فأنا وانت: الجفن والاهدابُ

 استحال الورد سوطا والندى

جمرا ؟واثما يا رؤوم ثوابُ (٢٠)

 من المؤكد ان المرأة عنصر ذا اهمية في حياة الشاعر تعمل على اثارة مشاعره، كونها تعيش في وجدانه و تحيا ضمن احلامه، اذ نراه يتلذذ بوصلها ويحزن لهجرها وصدها وضمن حدود ما ذكر في النص من مفردات تمثلت بقوله (رؤوم، حلبت لي، شفتك، انبت) تبين حديثه مع امرأة تتماهى معه وتتمازج، فهما متقاربان الى درجة تقارب الجفن والاهداب، لكنه غدا  متعجبا من جفوها وصدها وبعدها، فتلك المعطاء امست سوطا وجمرا يلهبه، فلم تعد كما كانت بل تغير ما بينهما من ود ولذلك نراه يعاتبها متعجبا لما حل بهما، وكيف انقلبت الموازين وتغيرت قوانين الحياة، ثم يكمل الشاعر القصيدة بقوله

جهزت تابوتي فهل جهزت لي

غُسلا به من عذب فيك رضابُ

لا توصدي الشطآن دون سفينتي

ما عاد لي من شاطئيك إيابُ

قد جئت توابا يقود قوافلي

ندم..وعفوك مطمح وطلابُ (٢١)

من خلال تنقيب النص تبين لنا أن تلك المرأة التي يسمو بها الى اعذب الخصال قد عمد الشاعر ان يقحمها في نصه لتمرر قضية مهمة تمثلت بشوقه وحنينه للوطن او ارض مدينته السماوة، ما يعني ان هذه المرأة كانت ترمز الى السماوة او العراق اذ طالما تغنى بالشوق والحنين للعودة اليهما، وما دل على ان المعشوقة هي بلاده تلك المفردات التي شكلت نسيج المقطع الاخر للنص (جهزت لي غسلا، لا توصدي الشطآن، شاطئيك، عذب فيك)، فهو يطلب منها ان تجهز له مراسيم الدفن، ويلتمسها ان تسامحه ليعود من غربته، اذ يعلن ندمه طالبا منها العفو ويطمح بذلك.

قدم السماوي اعتذاريته للمرأة /المعشوقة/ بلاده، مرتكزا على صياغات لغوية حيوية التفاعل وايحائية الدلالة، بعيدة العمق، اذ نراه يقول وهو يؤكد سمة العطاء: بالأمس كنت اذا ظمئت حلبت لي

 شفتيك لو جف الندى وسحاب

عمد السماوي اثارة المتلقي وارباك بنية النص بقوله (حلبت لي شفتيك) وكأنه ارد ان يقول ان العراق / ارض السماوة /المعشوقة كانت تعني له الام والحبيبة، فضلا عن ذلك قوله:

جهزت تابوتي فهل جهزت لي

غسلا به من  عذب فيك رضابُ

نرى السماوي مرحبا بالموت لا يهابه وهو في رحابها، وكأنه يرى في الموت ومراسيمه ما يطهر ذنوبه ويغتسل خطاياه، اذ بدى لنا مذنبا معترفا بذنوبه معلنا ندمه.

خلاصة القول ان ما اورده السماوي من مشاكلة بين صورة المرأة وما اراد ان يوحي به الشاعر من رمزية اقحمت في النص من خلالها كان ناجما عن تشابه الموقف، اي ان ايراد بعض المفردات الايحائية حين يتجلى العراق/بصورة المرأة الحبية / المعشوقة ما هو الا دليل على تماهي دلالته الشعورية وتصوفه الروحي تجاه الوطن والحبيبة، ما يعني ان الحبيبة والعراق متماثلان فكلاهما يسكن قلب الشاعر وكلاهما يذوب شوقا اليهما.

***

بقلم: نسرين ابراهيم الشمري

تدريسية عراقية / ماجستير أدب عربي

..................

المصادر:

1. ثنائية اللذة والالم في الشعر العربي قبل الاسلام، د.ليلى نعيم الخفاجي، بغداد عاصمة الثقافة العربية، الطبعة الاولى، ٢٠١٣

2. تعالي لابحث فيك عني، يحيى السماوي، دار التكوين، استراليا، الطبعة الاولى، ٢٠١٢

3. المصدر السابق

4. اخر الكلاسيكين وجهة في شعر يحيى السماوي، صالح رزوق، حلب، الطبعة الاولى، ٢٠١٣

5. المصدر السابق

6. جماليات الخطاب في النقد الثقافي رؤية جدلية جديدة، عبد القادر الرباعي، دار جرير للنشر والتوزيع، الطبعة الاولى، عمان، ٢٠١٥

7. اخر الكلاسيكين وجهة نظر في شعر يحيى السماوي، صالح رزوق، حلب، الطبعة الاولى، ٢٠١٣

8. تعالي لابحث فيك عني، يحيى السماوي.

9. المصدر السابق

10. المصدر السابق

11. المصدر السابق

12. المصدر السابق

13. المصدر السابق

14. المصدر السابق

15. المصدر السابق،

16. الذات والمجتمع دراسة في الانساق الثقافية، موج يوسف، مؤسسة ابجد، بابل، الطبعة الاولى، ٢٠٢٢

17. مشكلة الحب مشكلات فلسفية، زكريا ابراهيم، دار مصر للطباعة، الطبعة الثانية، ١٩٧٠

18. اطفئني بنارك، يحيى السماوي،، دار تموز للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الاولى، ٢٠١٨

19. المصدر السابق

20. المصدر السابق

21. المصدر السابق

رواية "الجهل" الصادرة عن المركز الثقافي العربي للكاتب التشيكي ميلان كونديرا، ترجمة معن عاقل، تتناول رؤى فكرية مغايرة للمألوف عن الغربة وما تتأتى عنها من تداعيات مشاعر متناقضة صعبة الفهم داخل التركيبة النفسية للمغترب، تأخذ بالتمادِ والتشعب والتعقيد مع توالِ سنوات البعد والفقدان شيئًا فشيئا، إذ تصير بمثابة حاجز غير ملموس يصدنا عن الرجوع حتى ولو عدنا بأجسادنا إلى أرض الوطن، وقد تراءت لنا جد بعيدة، بل كما لو أنها تاهت عنا في ضبابية الذاكرة المنقسمة بدورها إلى جزأين، ما قبل وما بعد الرحيل المنتزِع منا حق الاختيار، وإن بدأ لنا بعد ذلك انتصارًا لإرادتنا المغيَّبة.

الرواية قصيرة نسبياً، 158 صفحة، وهنا تكمن إحدى المفارقات بالنسبة للقارئ، لأن ثنائية الاغتراب والحنين، متجددة الأفكار والدلالات ذات البعد السياسي والاجتماعي والثقافي والسايكولوجي، تبدو صعبة التناول بمثل هذا العدد من الصفحات، خاصة وأن كونديرا اعتمد المنظور الفلسفي في إسقاط الزمن الماضي على الزمن الحاضر بكل ما يتضمن من تداعيات، على المستوى العام والخاص، عبر شخصيتي (إيرينا) و(جوزيف) المغتربين عن بلادهما نحو عشرين عامًا، عمر النظام الشيوعي المتأتي عن الاحتلال السوفيتي عام 68.

"كان السينمائي القابع في لا شعورها الذي يرسل إليها نهاراً نتفاً من مشهد وطنها باعتبارها صوراً سعيدة، هو ذاته ينظّم في الليل عودات مرعبة إلى البلد ذاته" ص 163505 ميلان كونديرا

نوبات متخبطة من الحنين، تتموج في تيارات متعاكسة من المد والجزر، تظل تراودنا إلى ما بعد العودة إلى الوطن، بل لعلها تزداد اضطرابًا في سوح الواقع الجديد، زمن ما بعد الغربة/ ما بعد الديكتاتورية، وما يفرز من مستجدات تفرض وجودها على العلاقات القديمة، أو ما تبقى منها، ولو كمحاولة (خفية) لاستجداء نثار الماضي وصهره في آتون الحاضر، إلا أن الحاضر ذاته يبدو غريبًا وعصيًا على الجميع، خاصة في السنوات الأولى بعد مضي حقبة وبدء حقبة جديدة مغايرة تمامًا.

"حتى وقت قريب كانت الناس تتنافس، وكل واحد يريد أن يبرهن أنه عانى أكثر من الآخر في ظل النظام السابق، كأن كل الناس يريدون أن يُعترف بهم ضحايا، لكن منافسات المعاناة هذه انتهت، اليوم يتباهون بالنجاح، وإذا أظهروا استعداداً لاحترامك، فذلك ليس لأن حياتك صعبة، إنما لأنهم يرونك بجانب رجل ثري!" ص 35

لم تعد اللغة العائق، ولا البوح بالممنوع في ظل نظام الحزب الواحد، فالكلام بمجمله، المعلن وغير المعلن، يكون عادة نتاج تجارب ومعايشات تشكل في النهاية الوعي (الجمعي)، وتجارب ومعايشات من بقي في بلده غير تلك المتعلقة بالمغترب وما رافقه من مواقف ومصادفات وعلاقات منفتحة على الآخر حتى صار ذلك الآخر الأقرب من كل المقربين فيما مضى، لكي تسجل الأوطان البديلة انتصارها مجددًا على الوطن الأم، حتى اللغة تضعضعت أحرفها في ثنايا اللغات الأخرى، قد يستعاض عنها بالإنجليزية تارة والفرنسية أخرى، بما في ذلك الحوارات الداخلية للمغترب، مما يشكل غربة مزدوجة بين أبناء الوطن الواحد حتى لدى محاولاتهم لملمة الذاكرة العامة من شتاتها في منافِ الغربة، ذلك التعبير الدارج على ألسنة المرتحلين عن أوطانهم، إلا أنهم، ومع تتابع السنوات التي يمكن أن تعد بمثابة عمر آخر، يجدون أنفسهم بين شباك حيرة فكرية لا تمس انتماءاتهم الوطنية بقد ما تمس وجودهم ككل، ليعاد طرح العديد من التساؤلات لكن برؤى مختلفة وبصياغات مختلفة، متخففة من كثير من الانفعالات الراضخة لإطار محدد صنعته الأحداث المسببة للاغتراب.

"ألفتْ نفسها أمام جدار مغطى بمرآة فسيحة، فتسمرت مذهولة: تلك التي رأتها لم تكن هي، إنما امرأة أخرى، أو عندما تمعنت طويلاً في فستانها الجديد، كانت هي لكنها تعيش حياة أخرى، حياة ما كانت ستعيشها لو بقيت في بلدها... مؤثرة إلى حد البكاء، مثيرة للشفقة، مسكينة، ضعيفة، مغلوب على أمرها" ص 27

وكما في مواضع كثيرة يحاول الكاتب محاكاة ملحمة (أوديسة) في موازاة سردية تثير المزيد من التساؤلات الوجودية "طيلة عشرين عامًا لم يفكر إلا بعودته، لكن بمجرد عودته أدرك مندهشاً أن حياته، جوهر حياته ذاتها، مركزها، كنزها، موجود خارج إيثاكا، وهذا الكنز كان قد فقده ولن يسعه العثور عليه إلا إذا رؤاه... حكى بالتفصيل مغامراته أمام الفيائيين المذهولين، أما في إيثاكا فلم يكن غريباً، كان واحداً منهم" ص 30

الوطن بعد عمر من البعد يتبادل والغربة مكانتيهما لدينا، وكأننا نجوس أرضًا رخوة من الهواجس العصية على الفهم في أحيان كثيرة، لا سيما وأن المقارنات تجد كل المسببات للانعقاد دومًا، ليس بالضرورة أن تكون لصالح اليوم أم الأمس المتباعد شيئًا فشيئا عن حيز الاهتمام، بؤرة الذاكرة على نحو أدق، خاصة وأن لونيّ الأسود والأبيض ليس لهما وجود في حياتنا ولا في تاريخ الأنظمة السياسية، إنما هي محاولة لإعادة صياغة الواقع من خلال تلك المقارنات (الجدلية) وفق التغيرات السياسية الطارئة على العالم بأسره إثر سقوط الاتحاد السوفيتي ومن ثم تهاوي الأنظمة الشمولية المرتبطة به، بعد أن اتخذت سمة الخلود في الأذهان.

العودة إلى الوطن، بملامحه الجديدة المنسلخة من شعارات عقود مضت، تكون، ولو للوهلة الأولى، بمثابة الاستفاقة من غيبوبة طويلة، تحتاج إلى وقت للتعرف على العالم،

"استولى عليه شعور بأنه وجد العالم من جديد، كما يمكن أن يجده عليه ميت يخرج من قبره بعد عشرين عاماً، يلامس الأرض بقدم وجلة فقدت عادة المشي"

ص 58

في تنايا السرد تأتي العودة بدافع البحث عن الوجه الآخر المفتقَد منذ عمر في بلاد الغربة، بحثًا عن الذات التي ودعناها في ظروف قاسية يقتفي أثرها خوف المراقبة السرية والتهديد بالاعتقال، في محاولة للمصالحة مع مرحلة عمرية مضت لكنها تركت ظلالها تتمدد داخلنا علمًا تلو الآخر، قد تتبدى عبر بداية علاقة قديمة، اتتهت قبل أن تبدأ حتى، سعتْ إليها (إيرينا) بكل جوارحها كي تكون بالنسبة لها بداية جديدة تستعيض بها عن كل ما مرت به واستنزفها من فقدان،،بينما تكون العلاقة الجامحة، في سرعة توقدها وانطفائها، لديه بمثابة قطع حبل السرة الذي يربطه ببلده، وقد قرر معاودة الرحيل عنه، هذه المرة ليس بسبب المطاردة الأمنية والخوف من مغبة آرائه السياسية والدينية، إنما لتأكده ألا مكان له في سوح الحرية التي كان يتمناها فيما سبق، وأن انتماءه الحقيقي يعود إلى حيث فقدَ زوجته الدنيماركية، إلى الوحدة التي اعتادها بعيدًا عن أيٍ ممن يذَكرونه باستمرار بما لا يستطيع استرجاعه في بلده الأم، منهيًا حالة عدم الاستقرار التي شغلته وعذبته طويلًا، وجعلته حتى لا يتذكر الفتاة الجميلة التي قابلها في إحدى حانات براغ، استشاطت غضبًا منه ومن السنوات الراكضة بلا هوادة لمّا عرفت أنه لا يتذكر اسمها ولا أي شيء بشأنها، لتبدو أمامه وأمام نفسها مثل أي فتاة ليل تبيع جسدها مقابل حفنة دولارات، العملة السامية للعهد الجديد، حتى سقطت منهارة تحت وطأة خيبة استدعت خيبات الماضي التي بدأت باجتياح حياتها منذ أن اضطرت وزوجها المتوفى اللجوء إلى باريس، قبل أن تعيش مع صديقها السويدي "الذي رماه القدر في طريقها مثل كيس وحل" ص 120، فيما بدا في مدينة ذكرياته الغائبة عنه، عن اهتمامه على نحو أكثر دقة، مثل أي سائح أو عابر سبيل لا بد له من الرجوع إلى (موطنه) الذي آوى هروبه الأول، مودعًا بلادٍ تشهد ولادة جديدة تمسخ الماضي من أجل أن تتمكن من سبر أغوار المستقبل.

"عرضتْ عليه مستقبلها، ولو أن جوزيف لا يهتم بالمستقبل، إلا أنه شعر بالسعادة مع هذه المرأة التي تشتهيه بمنتهى الوضوح، كما لو أنه ألقى بنفسه بعيدًا إلى الوراء، في السنوات التي كان يرتاد فيها براغ بحثاً عن غانيات، كما لو أن تلك السنوات تدعوه اليوم لاستعادة ذلك السياق هناك حيث قطَعه، يشعر أنه يجدد شبابه بصحبة هذه المجهولة" ص 138.

***

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

10 ـ 2 ـ 2022 عمان

ورقات الغيم  / البشير عبيد - تونس

ربما غاب عن العيون صهيل الخيول

و نام الرجل الشريد على رصيف

الحكاية

لم تكن البلاد التي اسمها الخضراء

تبحث عن الينابيع في عز الظهيرة

بل كانت القوافل الاتية من اقاصي

الشمال

ترمم أخر ما تبقى من القلاع...

اسراب من حمام حضرموت

يحلق بعيدا

و الاجنحة لا تخاف من رايات الجنوب

المتاخم للأنين

هذا بريق المعركة أم لهيب الحساب

الاخير؟

هذا طريق الفاتحين باتجاه الغروب

أم درب الخارجين عن حياض

القبيلة؟

واقفا على أرض ثابتة

و عيناه باتجاه الاقاليم البعيدة

يباغت خصوم الوردة قبل اعلان

الرحيل

و انفتاح المرء على مرايا الكلام الفصيح

ها هنا جدار قديم

و ولد جريح

و ارتماء الجسد العليل في المياه

أصوات العنادل غابت عن المشهد

و صار بإمكان الأصابع ان ترفع الرايات

قريباً من التخوم

بعيدا عن صمت القرى

و انحناء الجباه

هنا كيان وسيرورة حذو الغياب

و أولاد لا يخافون من ديمومة

الأشياء

ربما لم يكن في الحسبان هروب الفتى

من صدى الأمنيات

و انفتاح الرؤى على المكان القصي

اقلام تكتب النشيد المشاكس

و أصوات الغرباء تباغت الأجساد

ليس في السفينة ربان ولا مسافرون

ليس في المدينة الهاربة من الأضواء

عشاق للزمن القديم

بل مازال في الوقت متسع لإغراق

المراكب ...

و اقتراب الضفاف من الينابيع

الأنهار هي البوصلة

و الاقمار هي المفاتيح

و الأزهار هي الروح المسافرة إلى الدهاليز....

سماء القرى تضيء الدروب

و زفرات الجريح الأخير

تربك ورقات الغيم

حين تكون وحيداً جالسا على رصيف

المتاهة

يباغتك الفتى بالصراخ

أنت الآن خارج الاسوار

و لا أحد يسألك عن جراح البلاد

التي سافرت إلى ملكوت الغياب

هنا يداي تسأل العالم

عن خطاي كيف اخذتني إلى السراب

***

للشاعر والمحلل السياسي التونسي البشير عبيد ورقات يعرضها للبيان في قصيدته المثيرة ورقات الغيم، وعرض الورقات لم يكن اكثر من تعبير بالمكاشفة عما يمكن ان يكون قد اغفلنا رؤيته في محيط المشهد السياسي،  وعن الوقائع السارية داخل المحيط العربي يبدأ انشاده

" ربما غاب عن العيون صهيل الخيول

و نام الرجل الشريد على رصيف

الحكاية "

وشاهد العيان يدعوه النص بالرجل الشريد، وربما كان هذا هو اللقب الجديد للشاعر والمحلل السياسي نفسه، وهو يبدأ انطلاقاته من نقطة ارتكاز . هذا يدعونا الي الاعتقاد بوجود نقطة ارتكاز تتعلق بمفهوم رصيف الحكاية، وهو تعبير مجازي عن نقطة الانطلاق، او الليلة الأولي من الألف ليلة وليلة، في حين تنبثق العلامات الشبيهة بالومضة، وهي  العلامات المثقلة بالتراث عن ادوات الحرب وآلاتها، ومن ثم علينا جميعا واجب الاصغاء الي ما أسماه النص صهيل الخيول .

" لم تكن البلاد التي اسمها الخضراء

تبحث عن الينابيع في عز الظهيرة

بل كانت القوافل الاتية من اقاصي

الشمال

ترمم أخر ما تبقى من القلاع... "

ونقطة الارتكاز إذن تنطلق من تونس الخضراء، وهي الموطن والمعقل، وفيها آخر ما تبقي من قلاع، والقلعة الأخيرة علامة من علامات التاريخ المندثر، فالموضوع يتشعب في اتجاهين : يمثل احدهما الحاضر، فيما يسعي الآخر داخل العمق التاريخي والزمني، ويسود لدينا الاعتقاد بتضارب وتناقض الاتجاهات داخل المصفوفة الزمنية . البحث عن الينابيع وقت الظهيرة وترميم القلاع الأثرية

وتتوالي الأوراق ...

" اسراب من حمام حضرموت

يحلق بعيدا "

ينطلق الفزع من حضرموت اليمن علي هيئة اسراب جافلة من الحمام الوديع، انه الحمام الذي يولي اتجاهه شطر المكان البعيد عن الصراع، والصراع محكوم بآلياته ودوافعه

" هذا بريق المعركة أم لهيب الحساب

الاخير؟

هذا طريق الفاتحين باتجاه الغروب

أم درب الخارجين عن حياض

القبيلة؟ "

ولعل التنازع القبلي في مضمونه لم يكن ليعكس طبيعة الأوضاع اليمنية تماما، فهو التنازع الذي يستمد قوامه عبر تداخلات وتنازعات علي مناطق النفوذ، فيما يختبئ خلف هذا المشهد الدامي قوي اقليمية وعالمية، ويبقي امامنا ذلك المشهد الكئيب : تفرق وتشرذم الجماعة بالخروج عن حياض القبيلة

" واقفا على أرض ثابتة

وعيناه باتجاه الاقاليم البعيدة

يباغت خصوم الوردة قبل اعلان

الرحيل

و انفتاح المرء على مرايا الكلام الفصيح "

يعود الشاعر والمحلل السياسي والشريد في ثوبه البلاغي ليعلن عن موقفه الراصد للأبعاد علي طول المساحة وعرضها، فيما يبدأ في انفتاحه الحي علي النص بمقوماته البلاغية، والصورة في تلك الحالة هي صورة مفعمة بالأسي قد تتجاوز حدود الفخر لتصل الي حدود الندب والرثاء

" ها هنا جدار قديم

و ولد جريح

و ارتماء الجسد العليل في المياه "

ان جزءا من المشهد العام يحتوي علي اشاراته المسبقة، التاريخ علي شكل جدار قديم، وهو امتداد لصورة القلعة الأخيرة، وولد جريح وهو امتداد وربما تطوير لحالة الفزع التي استشعرت بها اسراب الحمام الوديع، واشارات اخري تعتني بقياس حالة الوطن الممزق والعليل وهو يدفن جسده في المياه رغبة منه في الخلاص من همومه واوجاعه

" وصار بإمكان الأصابع ان ترفع الرايات

قريباً من التخوم

بعيدا عن صمت القرى

و انحناء الجباه "

وقيام الجسم بالغوص في المياه ربما كان نوعا من الخلاص من أسقام الجسد العليل وندوبه، وهو نفسه ذلك الخلاص الذي عبر عنه الشريد في اشارات النص في تكوينه البلاغي برفع رايات المقاومة .. نفس المقاومة التي رصدها المشهد في ايجاز جامع : ضد الصمت وانحناء الجباه

وينطلق النشيد ليفتح اوراقا اخري ..

" هنا كيان وسيرورة حذو الغياب

و أولاد لا يخافون من ديمومة

الأشياء

ربما لم يكن في الحسبان هروب الفتى

من صدى الأمنيات

و انفتاح الرؤى على المكان القصي "

وتبرز الاشارات الموحية الي مكان بعينه عبر الترديد الواعي داخل النشيد، ويبدو اننا قد استوعبنا تلك الإشارات في مضمونها الحي : المكان الاقصى والكيان، وعلي صعيد متصل قبول ذلك الرباط بين رفع الرايات، ومقاومة الضعف والتخاذل بمشهد اولاد لا يخافون مما اطلق النص عليه بديمومة الأشياء . انه ذلك النوع من الترابط الذي يحتوي علي كافة افعال المقاومة، وبالمثل يحتوي علي تلك العلامات التي تقوم بتهيئة الوعي لقبول سنن التغير في ديمومة الأشياء

" حين تكون وحيداً جالسا على رصيف

المتاهة

يباغتك الفتى بالصراخ

أنت الآن خارج الاسوار

و لا أحد يسألك عن جراح البلاد

التي سافرت إلى ملكوت الغياب

هنا يداي تسأل العالم

عن خطاي كيف اخذتني إلى السراب "

وفي هذا المجال يتحول رصيف الحكاية كما يراه الشريد الي رصيف المتاهة، والمتاهة هو الفعل المناظر لحالة التيه وعدم الفهم : البلاد تئن بالجراح، والخطوات قد تأخذنا الي السراب، والسراب يقود الشريد لطرح سؤال . انه السؤال الذي عبر عنه الشريد في صورة خطاب الي ضمير العالم.

***

ا. فتحي محفوظ /  مصر العرببة

- تميز باللعب على المكان كعنصر طاغي في توليفته الشعرية

- شعره دال في معناه قريب بمضمونه يعتمد بناءً يمنح القصيدة الشموخ

يستهويني جيل الشعراء المتداخل ما بين السبعينات والثمانينات أستشعرهم أقرب لنفسي، لا أعرف هل لتقارب الأعمار، أم أن لسطوة الشعر في تلك المرحلة على الأحاسيس اليد الطولى، أم أن التفرد كان سمة شعراء ذلك الجيل، (احترامي لمن جاء من بعدهم)، فكل له ثراء تجربته،وكل يعتز بحصيلة ما يكتب.

لكني أبكي (ليلاي)، كما يبكي طالب عبد العزيز (ضياع التفرد في النص الشعري)، على حد قوله: (إذا شئتُ الحديث عن الشعر فأعتقد بأنَّ الشعر تعرض لكلِّ الهزائم تلك، والشعراءُ أكثر مخلوقات الله هِجراناً، وإلَّا فأين نحنُ ممَّن أحرقوا قلوبهم شعراً، وأفنوا أعمارهم قصائد وهمهمات، وحين ماتوا، تعجّلتهم يدُ النسيان، ولم يحفل بقبورهم غير عشبةٍ فقيرة، أو شجرةُ طرفاء مالحة، ظلّت تتوحّش وتذبل لتموت هي الأخرى في رملة لا تؤتى إلَّا من فتحة صغيرة بسياج المقبرة).

ذلك الوصف ذهب بالتفرد، وتداخل مع لمعان المفردة الشعرية، فاستحالت القصيدة متشابهة المضمون عند اللاحقين، مختلفة عن جذورها ربما، لاتملك شكل الشعر رغم إن صاحبها يدعي انتمائها لجنس الشعر.

تميز طالب عبد العزيز باللعب على المكان كعنصر طاغي في توليفته الشعرية، دلالة على عمق انتمائه وتجذر تجربته دون انقطاع عن الرمزية لما يتناول، يكتب بحرقة عن كل المتغيرات، فطالب لاثبات عنده في المنهج الشعري، وهو شاعر متنوع يجيد اللعب على أوتار القصيدة، متحكم بموسيقاها،مؤتلفاً في طرح فكرته التي يبني عليها حبكة عمله، لايترك هواه يتحكم في مسارات القصيدة رغم أن الشعر هوى، والأهواء تتلاعب بالشعراء مذ كانوا ووصفوا بـ (أنهم في كل واد يهيمون).

دائما يطغى على أبيات طالب عبد العزيز هاجس من الخوف، وحين تتحسس ما تفيض به مخيلته من شعر تجد اللوعة (الشكوى) طاغية على غيرها من مفاهيم،يشكوا الخراب، والخوف، والفزع، ويشكوا ضياع أبي الخصيب، والنخيل، والوجدان، والأحاسيس، والجمال الذي استبدل بنقيضه في كل تفاصيل الحياة.

لكن شعره عاصف متناسق المفردة، وهو أقرب للتنوير من أن يغلب عيه طابع الشكوى (كمفهوم لم نقصده طبعاً)، طالب يبني القصيدة بناءً يمنحها شيئا من الشموخ،يعطيها خلوداً يتحسس من خلاله المتلقي أن ثمة وهج ينشئ عن حمرة متوهجة في نفسه، لاهو بالقادرعلى كتمها واطفائها، ولا يتمكن من ترك القراءة واهمال القصيدة.

يداخل طالب في شعره معيار الزمن كأحد أوجه قراءة القصيدة ليفرض على القارئ فهم أبياته بتقريرها الزمني، أي اللحظة أو الفسحة الزمنية (الفترة) التي كتبت فيها وما أحتوتها من أحداث، لتفهم بمعيار يأخذ المتلقي إلى الصورة الشعرية التي أراد لها طالب أن ترسم بأبعادها، لا بالتأويل، وهنا أجيز لنفسي أن أمنح (طالب عبد العزيز) لقب (شاعر الحقيقة)، وألبسه تاج الواقعية الرمزية المقترنة بدلالة الصورة المعبرة عن حقيقة ما جرى بمقياسها الزمني الواقعي، وليس بتأويل ما سيجري.

الأشتغال على كتابة نص شعري يحمل في طياته المتعة المتمثلة بجزالة اللفظ وحلاوة المعنى ودلالة الكلمة وصدق التوصيف للحدث، هو اشتغال نادر (لا أقول غير موجود) لكنه نادر، وقد وجدت تلك السمات الدالة على الإبداع في الصيغ التي يكتب فيها (طالب عبد العزيز) لينتج شعراً أقرب لوجدان القارئ، دال في معناه قريب في مضمونه يستشعره المتلقي وكأنه قد كتب وبشكل خاص له دون سواه.

أولئكَ، الّذينَ لم تكنِ المسرَّاتُ

نخلاً على شرفاتِ منازلِهم ..

لطالما وقفتُ، أرتِّبُ الظِّلالَ طريقاً

لهم بين الأنهار..

أراد طالب لتوصيف المخاطب أن يتداخل مع الإشارة (أولئك)، (الذين)، (المسرات)، فأستخدم المكان (شرفات، منازلهم) كدالة على فعل البناء التوافقي للمقطع الشعري، فجاء تكوين المشهد بشكل مكتمل المعنى معبراً عنه بصورة رائعة أحتوت التوصيف الشعري بالمطلق.

لطالما قلتُ للترابِ: أينك،

لماذا أخذتهم عنّي بعيداً؟؟

كانوا، غرسوا الآمالَ كثيفةً على القناطر .

ولمّا لم يكن الوقتُ كافياً للموت

تهادَوا الجلّنار،

فتساقطوا خريفاً وحكايات.

قد تصادفك لمحات أو ومضات شعرية ضمن بناء القصيدة التي يكتبها طالب عبد العزيز وقد أحتوت، تناسقات وأشارات متداخلة، لكنها غير مأتلفة يشكل منها لوحة شعرية قد تضاهي بروعتها ما يرسم من صور شعرية في مقتطفات أخرى.

وهذه التي نقتطعها هنا خالط فيها الكثير من الرمزية، والشغف، الخوف والدموع، والحب، وجذوع النخيل، والنخيل بشكل عام يكاد أن يكون أيقونة في شعر طالب،فقلما تجد قصيدة من قصائده لم يأتي فيها على ذكر النخيل أو أجزاء منها، ما يفسر تأثير المكان على القالب الشعري الذي يكتب فيه طالب، والإنسان ابن بيئته.

الآن، أحتفي بالثعالبِ، ذكرى حقولٍ تباعدت ..

ورائحةً من سمنٍ وطبيخ .

ومن الكُوى الغامضةِ - أستثني الشمسَ-

لا أجدُ في الأفقِ أشرعةً متعجلةً لهم.

مثلُ خيطٍ من دمعٍ شفيفٍ،

هكذا، تمرُّ قواربُ الّذينَ نُحبُّهم ..

كلُّ جَذعٍ غريبٍ بين ضفتين

لا أنتخبهُ معبراً ..

مساحة القصيدة عند طالب عبد العزيز هي مساحة للتوصيف الذي تتخلله علامات أستفهام عدة، يكاد لايركن إلى المبهم ليحمل القارئ أعباء الغموض التي تكتنف الإبهام في المصطلح الشعري، مفردته واضحة بمعان ضمنية لاتحتمل "التأويل"، وأضنه لم يكتب بهذا العنصر ولم يضمنه خطابه الشعري.

البيئة الجنوبية تطغى على ما سواها في قصائده ن وهذا ناتج عن الأصالة في توظيف المصطلح اللغوي أو الشعري،كونه كما ذكرنا ابن الجنوب، والجنوب جاذب بطبعه لا طارد، لذلك تطغى مفردة (القصب، السعف، النخيل، الفواخت، قارب، مجداف، أنهار).

كلُّ مساحةٍ باذخةٍ للضوءِ

لا أصطفيها حقائبَ لهم

أكتفي من أصواتهم بما يتنزلُ في القصبُ

أُجلسُ الفَواختَ على يميني

وما تيسَّرَ من الدُّفلى على شَمالي ..

نائحُ السعفِ الوحيدِ، أنا

قاربُ الذينَ لم يجدوا في الخشبِ

مِجذّافاً لأنهارهم القادمة .

يعد طالب عبد العزيز من أبرز شعراء العراق اليوم في قصيدة النثر، وهو من مواليد مدينة أبي الخصيب في البصرة 1953 (مملكة النخيل)، والمُتَوجة المتفردة بريادة الشعر الحر (قصيدة النثر)، فهي ترتكز لتقف شامخة على عمودين من أعمدة الشعر الحر هما (السياب، وسعدي يوسف)، وهي التي سطع نجمها بالخليل الفراهيدي وسيبويه وأبو الاسود الدؤولي وابن سيرين والجاحظ وأعلام الشعر والأدب ومدارسه الرصينة.

صدرت له عدة مجموعات في الشعر والنثر منها:

- تاريخ الأسى / 1994م

- ما لا يفضحه السراج / 1999م

- تاسوعاء / 2005م

- الخصيبي / 2012م

- قبل خراب البصرة / 2012م

- طريقان على الماء واحد على اليابسة / 2016م

***

سعد الدغمان

تعتبر حضارة وادي الرافدين، رائدة في مسيرة الحضارة الإنسانية، فمنذ الألف الرابع قبل الميلاد، وهي الأكثر تأثيراً في الحضارة الإنسانية، ومن فضائل هذه الحضارة أنها أبتدعت الشعر، ولم يسبقها فيه سابق.

في القرن التاسع عشر الميلادي، ظهر أهتمام متزايد في تاريخ بلاد الرافدين من قبل علماء الآثار الغربيين، من خلال القيام بأعمال تنقيب بحثاً عن أدلة مادية لإثبات صحة الروايات التوراتية في كتاب العهد القديم.

في عام 1845م قام عالم الآثار البريطاني "أوستن هنري لايارد" بأعمال التنقيب في منطقة كالح/النمرود، في نينوى، عثر على مواقع وردت أسماؤها في التوراة. ونتيجة التنقيب تم العثور على الموقع الحقيقي لمدينة نينوى مابين عامي 1846 و 1847م، وعلى مكتبة الملك الآشوري "آشور بانيبال" (668-627 ق.م)، وألواح طينية تضمنت نصوص مسمارية ترجم بعضها عالم الآثار البريطاني "جورج سميث" ومن هذه الالواح قصة آدم، الطوفان الكبير، ملحمة الخلق، ملحمة كلكامش وغيرها من القصص. مما شجع الكثير من البعثات التنقيب في البحث عن مواقع أخرى ذكرت في التوراة. علماً أن هذه القصص لم تكن قصصاً أصلية عندما ورد ذكرها في (سفر التكوين) أو في (سفر نشيد الأنشاد)، في كتاب التوراة، بل هي حكايات رافدينية كُتبت قبل كتابة التوراة، الذي كان يُعتبر أقدم كتاب في العالم، لأن الحضارة السومرية كانت سباقة في إبداع الاشعار وأغاني الحب.

ومن الأستكشافات التي تم العثور عليها قصيدة (الحب من اجل شو–سين) التي تنسب الى الشاعرة أو المغنية السومرية "بُلبالة" مدوّنة على لوح طيني بالخط المسماري، يعود تاريخه إلى الألف الثالث قبل الميلاد، عام 2100 قبل الميلاد، أي أنها كتبت قبل ما يقرب من خمسة آلاف عام، والتي تُعتبر أقدم قصيدة حب كُتبت في التأريخ، بل الأقدم والأولى في التاريخ بعد أكتشافها في نينوى. ويعتقد علماء الآثار أنها أول من غنت في التاريخ، وكان ذلك في عام 3500 ق.م. فهي مغنية وموسيقية وراقصة في معبد عشتار. ومن المحتمل أن يكون مدوّنين عبرانيين أقتبسوا قصيدة "بُلبالة" وأعادة صياغتها أثناء فترة سبيهم في بابل، ثم أدراجها في التوراة تحت مسمى (سفر نشيد الأنشاد) أو المعروف باسم (نشيد سليمان)، وعليه لم يعد (سفر نشيد الأنشاد) أقدم قصيدة حب كُتبت في التأريخ، بل هو سفر مقتبس عن قصيدة الحب السومرية، وليس العكس، لأنها أقدم من التوراة في الظهور.

عندما عُثر على اللوح المسماري لهذه القصيدة في نينوى، نُقل مباشرة إلى متحف "آركولوجي" في إسطنبول/تركيا، حيث حُفظ في أحد أدراج المتحف، ولم يحاول أحد التعرف عليه أو ترجمته. وفي عام 1951م ، حضر الى المتحف عالم السومريات الشهير "صموئيل نوح كريمر"

(1897-1990)، لترجمة بعض النصوص القديمة، فوجد قصيدة حب سومرية منقوشة على لوحة مزخرفة، تشيد بالجمال والحب، ومن أبيات موزونة، يصف "كريمر" تلك اللحظة في كتابه (التاريخ يبدأ في سومر)، من خلال المقطع التالي:

(كان اللوح الصغير الذي يحمل الرقم 2461 مُلقى في أحد الأدراج، محاطاً بعدد من القطع الأخرى، وعندما وقع نظري عليه لأول مرة، كان محتواه قد جذبني اليه بقوة. سرعان ما أدركت أنني كنت أقرأ قصيدة شعرية إباحية، مقسمة إلى عدد من المقاطع التي تتغنى في الحب والجنس والجمال بين عروس سعيدة، وملك يدعى (شو ـ سين) الذي حكم أرض سومر منذ ما يقرب من أربعة آلاف عام. قرأتها مراراً وتكراراً، لم يكن هناك خطأ في مضمونها. ما حملته في يدي كان من أقدم قصائد الحب التي كتبتها يد إنسان)، "صموئيل كريمر، التاريخ يبدأ في سومر، ص 245". هذه القصيدة لم تعتبر مجرد قصيدة حب بل كانت جزء من الطقوس المقدسة التي تُجرى كل عام، والمعروفة باسم (الزواج المقدس)، الذي يتزوج فيه الملك رمزياً من الإلهة "إنانا"، وذلك لضمان الخصوبة والتكاثر في العام الذي يليه. كتب "كريمر" عن هذا الطقس، التعليق التالي:

(يُجرى هذا الطقس؛ مرة واحدة في السنة وفقاً للاعتقاد السومري. وكان الواجب المقدس للملك أو الحاكم، الزواج من كاهنة المعبد للإلهة "إنانا"، إلهة الحب والإنجاب، من أجل ضمان خصوبة التربة والرحم)، "صموئيل كريمر، التاريخ يبدأ في سومر، ص 245".

يفسر البروفيسور البريطاني ”جيريمي بلاك” القصيدة بنفس المعنى، فكتب تعليق عنها: (هذه واحدة من عدة قصائد شعرية عن الحب، مُؤلفة خصيصاً لهذا الملك، والتي تعبر عن مدى علاقته الشخصية الوثيقة جداً مع إلهة الحب والجمال "إنانا". في بعض القصائد من هذا النوع ؛ يبدو أن اسم الملك يُذكر خلال مراسيم الطقس فقط، بدلاً من "ديموزي" عاشق "إنانا" السماوي في الأساطير. ومن شبه المؤكد أن القصيدة تُلقى في سياق بعض الطقوس الدينية التي يشار إليها بأسم (الزواج المقدس)، يميل الأعتقاد الى أن الملك عندما يرتبط بعلاقة حميمية مع الإلهة، هذا يعني حتمية الإيمان بألوهية ملوك تلك الفترة)، "صموئيل كريمر، التاريخ يبدأ في سومر، ص88-89".

إن إلقاء القصيدة من قبل (العروس)، يعتبر خدمة وظيفية دينية في الدولة بغية الأستمرار في الخصوبة وتكاثر النسل. ويُعتقد أن إلقاء القصيدة بصوت أنثوي، له تأثير محبب لدى المتلقي، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالعبارات الرومانسية. غيّر هذا الإنجاز الأثري، الطريقة التي يمكن بها فهم التاريخ والعالم القديم.

تولى "شو- سين" العرش ملكاً على مدينة أور عام (1972 ـ 1964 ق.م)، فهو الأبن الأصغر للملك "شولچي" الذي حكم مدينة أور (2029-1982 ق.م). والدته أسمها ”بسمتي”، وزوجته “كوباتوم”. وحسب رأي البروفيسور ”ستيڤن پيرتمان” (كان شوـ سين من الذكور الذي له صلة مع مجموعة من القصائد المثيرة خلال المرحلة الأكدية، والمكتوبة على شكل حوارات، مشابهة لسفر (نشيد الأنشاد) التوراتي الذي كُتب فيما بعد)،"نفس المصدر السابق ص105".

تقام مراسيم الزواج المقدس في البلاد وتحت أشراف الكهنة، وكان زواج الملك الأله من الكاهنة (الألهة) يتم في جناح خاص في المعبد، يعد فيه للمتزوجين سرير، ويجهز بفراش وثير وأغطية جذابة، وعندما يتم تقديم الملك الى عروسه تبدأ الأخيرة بترديد أغنية عاطفية تتضمن دعوة سافرة الى (الوصال الجنسي) بأعتباره العنصر الأساسي الذي تدور حوله عقيدة الخصب، وما تمخض عنها من طقوس، وخلال هذه الأغنية التي هي أنشودة “بُلباله” لإنانا التي تبوح بها العروسة الى عريسها الملك والمعبرة عن شوقها العميق وعن فرحها بلقائه ومن ثم تدعوه الى أن يبادلها (الحب) على سرير الزواج.

تقول "بُلبالة" السومرية في قصيدتها، والتي يظهر من خلالها أنها كانت تغني ضمن فرقة "إنانا" في البلاط السومري، الذي قام المؤرخ “صموئيل كريمر" بترجمتها من السومرية إلى الإنكليزية، ثم بعد ذلك ترجمها المؤرخ العراقي “طه باقر” إلى العربية عام 1983، بصيغة تُذكر ب“نشيد الإنشاد”. وقد ترجمت بالشكل التالي (الحب من اجل شو–سين)، وهي كما وردت في كتاب (التأريخ يبدأ في سومر، لمؤلفه صموئيل نوح كريمر".

هذا النص المكتوب يتوفر على أعلى المقومات الفنية للقصيدة الشعرية، فعلاقة الحب التي تتحدث عنها الأغنية السومرية، تأتي في سياق وبناء شعري متقدم، من خلال التكرار والتقطيع. تخاطب "بُلبالة" فيه حبيبها وهي عاشقة راعية، بينما المعشوق هو الملك، قائلة:

(أيها العريس الحبيب إلى قلبي

جمالك باهر حلو كالشهد

أيها الأسد الحبيب إلى قلبي

جمالك باهٍ حلو كالشهد!

لقد أسرت قلبي فدعني

أقف بحضرتك وأنا خائفة مرتعشة.

أيها العريس! سيأخذونني إلى غرفة النوم

لقد أسرت قلبي فدعني

أقف بحضرتك وأنا خائفة مرتعشة

أيها الأسد ستأخذني إلى غرفة نومك،

أيها العريس دعني أدللك

فإن تدليلي طَعِم وشهي

وفي حجرة النوم الملأى بالشهد

دعنا نستمتع بجمالك الفاتن.

أيها الأسد، دعني أدللك

فإن تدليلي أطعم وأشهى من الشهد!

أيها العريس! لقد قضيت وطر لذتك مني

فأبلغ أمي وستعطيك الأطايب

أما أبي فسيغدق عليك الهبات

وروحك، أنا أعرف كيف أبهج روحك،

وقلبك، أنا أعرف كيف أدخل السرور إلى قلبك!

أيها العريس، نَم في بيتنا حتى انبلاج الفجر،

أيها الأسد، نم في بيتنا حتى انبلاج الفجر،

وإنك لأنك شهواني

هبني بحقك شيئاً من تدليلك وملاطفتك.

يا مولاي الإله، ويا سيدي الحامي

موضعك جميل حلو كالشهد فضع يدك عليه

قرب يدك عليه كرداء الجشبان

أوقفني وأمسك بقدمي‏

كان لمعانه شديدا‏

رجل ولا كل الرجال‏

وفي جميع البلدان‏

كانت روعته هي الأكثر جمالا‏

جرني إلى أسفل الجبل‏

وأعطاني ماء لأشرب‏

وكان قلبي مسرورا)

تنحو هذه القصيدة منحى إيروتيكياً، وهذا ليس مستغرب في ذاك الزمن، خاصة أن طقوس (البغاء المقدس)، كانت معروفة ومنتشرة، لذا كان الوصف الغريزي الجنسي حاضراً مع الوصف العاطفي. تصف الشاعرة شعورها بعد لقائها بحبيبها وهي تقول في صيغة ذات رموز وأيحاءات إيروتيكية:‏

(أوقفني وأمسك بقدمي‏

كان لمعانه شديدا‏

رجل ولا كل الرجال‏

وفي جميع البلدان‏

كانت روعته هي الأكثر جمالا‏

جرني إلى أسفل الجبل‏

وأعطاني ماء لأشرب‏

وكان قلبي مسرورا)

في سفر "نشيد الأنشاد" في العهد القديم يعتبر النقاد إن أكثر الآيات في هذا السفر آيات إباحية، تتناغم مع نص قصيدة "بُلبالة":

1- لِيُقَبِّلْنِي بِقُبْلاَتِ فَمِهِ، لأَنَّ حُبَّكَ أَطْيَبُ مِنَ الْخَمْرِ.

2- مَا أَجْمَلَ رِجْلَيْكِ بِالنَّعْلَيْنِ يَا بِنْتَ الْكَرِيمِ! دَوَائِرُ فَخْذَيْكِ مِثْلُ الْحَلِيِّ، صَنْعَةِ يَدَيْ صَنَّاعٍ.

3- سُرَّتُكِ كَأْسٌ مُدَوَّرَةٌ، لاَ يُعْوِزُهَا شَرَابٌ مَمْزُوجٌ. بَطْنُكِ صُبْرَةُ حِنْطَةٍ مُسَيَّجَةٌ بِالسَّوْسَنِ

4- ثَدْيَاكِ كَخَشْفَتَيْنِ، تَوْأَمَيْ ظَبْيَةٍ.

من الملاحظات التي أثارها “صموئيل كريمر" حول القصيدة، وجد فيها الكثير من الشبه بين النص السومري القديم و "نشيد الأنشاد" في كتاب التوراة، من خلال أستخدام نفس المفردات، أضافة الى أن النص (يجمع بين الحوار والمونولوج، وتُختتم مقاطعهُ باللازمة التي يرددها الكورس).

يرجح "كريمر" بأن "نشيد الأنشاد" هو (نص منقح ومُطور عن نصوص سومرية)، كما أنه يضع فرضية (أن يكون العبرانيون قد أطلعوا على هذه الأناشيد في مرحلة السبي البابلي، ثم حملوها معهم إلى مصر ثم فلسطين).

تُنسب قصيدة (الحب من اجل شو – سين) إلى الشاعرة أو المغنية "بُلبالة السومرية" التي لا نعرف عنها إلا القليل، ولا يمكن الجزم هل أنها شاعرة ام مغنية؟ وذلك لشحة المصادر التاريخية حولها، فقط الذي يعرف عنها أنها كانت مغنية ضمن فرقة "إنانا" للإنشاد، وكانت تغني في البلاط السومري أواخر القرن الثالث قبل الميلاد، أي حوالي 2100 ق.م. وقد ورد ذكر أسمها في نهاية القصيدة: (إنها قصيدة غناء بُلبالة.. من قصائد إنانا).

كذلك يتكلم بعض الباحثين ومنهم الآثاري “صموئيل كريمر" عن هذه القصيدة أنها ليست من نظم "بُلبالة" فهي على أغلب الظن أنها من نظم إحدى البغايا المقدسات اللواتي كن يخدمن في أحد المعابد البابلية.

***

بقلم: حسين عجيل الساعدي

...................

- صموئيل كريمر، التأريخ يبدأ في سومر، ترجمة ناجية المراني.

- صموئيل كريمر، الواح سومر،  ترجمه طه باقر

- صموئيل كريمر، أساطير سومرية. ترجمة يوسف داود عبد القادر.

- د. إحسان هندي، أشهر شاعرات الحب في بلاد الشرق والغرب

- د. فاضل عبد الواحد علي، عشتار ومأساة تموز

- د. فاضل عبد الواحد علي، سومر أسطورة وملحمة

- د. فوزي رشيد، الأمير كوديا

- سفر نشيد الأنشاد، العهد القديم

 

قراءة في ديوان على جناح أمنية شاردة للشاعر د. جمال مرسي

البساطة الشعرية المتمنعة عند الشاعر د. جمال مرسي لا تعني الابتذال او السهولة، ولا تعني المتداول المطروق. فهي ليست سمة قدحية بل هي نضج فكري وتمرس شعري متمكن من الصنعة الشعرية قوته الدربة وصهرت ادواته وعضدته التجربة في صوغ المعاني الشعرية وتنضيد الكلمات المعبرة في سخاوة معجمية وكرم قاموسي وكذلك في رسم الصور الشعرية المبتدعة. دون ترديد المألوف أو إعادة إنتاج المعتاد.بل سفر في الخيال ومحاولة ربط بين الممكنات وغير الممكنات بخيوط آسرة ونسج فريد في فسيفساءالقصيدة، وأيضا في بناء النص الشعري وترتيب أجزائه دون الإحساس بالانتقالات الفجة التي قد تمس أعضاء الجسم الشعري الواحد الموحد. فأنت تحس باندفاع شعري متمكن من بداية النص إلى نهايته بتبصر حاضر وحذق خفي تؤطرهما ذات شاعرة. تعرف كيفية الاشتغال وتعلم حدود الشعري وغير الشعري وتدري القدرات التي تتوافر لديها في سبك الجمل الشعرية أكثر من معرفتها بالجمل التركيبية التي تخضع لضوابط القواعد النحوية. فهي تمتلك المعرفة الشعرية بان الدفقة الشعورية هي المتحكمة في إنتاج البينات الأساس للنص . فالنص وان كان مجموعة من الجمل الاسمية والجمل الفعلية المترابطة وفق نظام متسق وسنن منطقية يحكمهما العقل والمنطق والضوابط النحوية إلا أنه نبع متدفق من الاحساسات والعواطف يفور بخلجات الشاعر وما يعتمل بداخله من تفاعلات بين ذاته والموضوعات. فهذا التفاعل بين ذات الشاعر والموضوعات التي يكتب فيها له أثر بالغ في ضمان معمار النص بدون نشازات عارضة، أو انقطاعات تعبيرية بادية بين أجزائه. بل نجد النص تتوافر فيه ملامح الانسجام الشعري والتناغم التعبيري. وهكذافالبساطة بهذا المعنى المتمكن من الوسائل المساهمة في البناء والطرق المتبعة في السبك والقدرات العارفة بحدود الممكن الشعري في خلق التناغم بين الأجزاء المكونة للنص. وهكذا فالإبداع يتكئ على البساطة كمَعلم شعري في انتقاء الكلمات وبناء الصور وتنظيم الجمل الشعرية، مما يؤدي إلى إنتاج تعبير شعري عال يتسم بالعمق الذي يعضده الفكر ويغذيه سموق في اللفظ ويزينه تألق في احترام المعجم ودرجات الكلمات في قدرتها على الوفاء للمعنى المرتبط بالحقول الدلالية المبتغاة ومستويات تدرجها في الحفاظ على دوائر المعنى المراد. فالكلمات وإن ترادفت معانيها فإنها تتباعد في تأدية المعنى المرغوب وايضا اختبارللحروف المنسجمة في خلق تناغم بين مكونات الكلمة وأجواء المعاني المرجوة والسلاسة في توالي الجمل الشعرية متدفقة لا يعترضها عارض ولا يصدها مانع بل تجد الذات الشاعرة عونا على أن تندفع كشؤبوب في لملمة خيوط كتابة النص. إن البساطة لا تعني التعبير السطحي الذي يرنو الى اللغة المباشرة أو الخطابيةواداء المعنى بشكل مبتذل وسوقي ورخيص قريب الى اقوال العامة. او الى لغة التقارير الصحفية القريبةمن الخطاب اليومي. فالبساطة المحمودة هي تلك التي تتخذ من الوضوح سمة لها ضمن ما تعارف عليه المهتمون بالبيان العربي أي أن يصل النص الى المتلقي دون إسفاف أو ابتذال وان يكون مدار اللغة الفهمووالإفهام بشفافية مع ضرورة إعمال الفكر وإيقاظ الخاطر واستحضار للمخزون الثقافي واستدعاء للذوق الفني واستخدام للملكة مع حاجة الى استعمال التأويل في ربط بين المعاني الظاهرة وتلك المضمرة، كل ذلك في استخدام ذكي في الغوص في سراديب النص وتامل في ثنايا المواقف والموضوعات . فالبساطة في كتابة النص الشعري كما نستشفه في ديوان " على جناح امنية شاردة" للشاعر د جمال مرسي.تتحقق مجموعة من الأمور:أولا: الحرية في تناول النص وتحليل مكوناته وفك مغالقه وإعادة بنائه وفق التصور الذي تتبناه والخلفية التي تحكم الرؤية التي تنظر بها الى النص وفق ما تؤمن به من نظريات وتعتقده من وجهات نظر. فانت خلال تلقيك لقصائد الديوان تشعر وكأن الشاعر ترك لك مجالا لمشاركته واعطاك مساحة للتحرك لتعبر معاني قصائده وأهداك وقتا ممكنا لتامل تجربته الشعرية باعتباره شاعرا معاصرا منفتحا على كل الممكنات الشعرية، فلا تبدو عليه قسمات القيود التنظيرية للشعر ووفر لك مجموعة من النصوص المختلفة في موضوعاتها وأشكالها البنائية، كل هذا ليخاطب فيك مجهودك المبذول في تأملها والغوص في مضامينها والبحث في عناصر بنائها ومكوناتها النظمية والإيقاعية.

ثانيا ـ المتعة في تتبع القصائد من خلال مواصلة قرائتها لاكتشاف مفاتنها وتلمس عناصر جماليتها وسبر أغوار مضامينها واستنطاق المواقف التي تشير اليها وتدافع عنها واستخراج ما تشي به عناصر الإمتاع والمتعة الشعرية وما تنطق به من رؤى تنويرية تنم عن شخصية د جمال مرسي كما في قصيدة" زائر "ص 23 التي يبدي فيها الشاعر موقفه من الشعر واغراضه ويحاول ان يؤسس لمفهوم جديد لوظيفة الشعرالمعاصر.

يقول:

لك الله يا شعر تبقى أبيا برغم الجراح

وتحيا القصائد.. .. ..

فماذا تقول القصائد ؟

تقول معلقة في المديح

لأنت الشموس وغيرك غيهب وانت المليك الذي يضاهى ولم تنجب الأرض مثلك مذ شكلتها يد الله ،أنتَ السحابُ الذي يمطرُ العطرَ،يروي قلوبَ العبادِ وأنت النَّدَى و الهُدَى و الكَمِيُّ و حامي الذمارِ وتعلم ما في البحارِ وشيخُ الطريقةِ، سيفُ الحقيقةِ،ليثُ العرينِ الذي ليس يُغلب

ولو أنصفو ملكاً قد تسلَّق فوقَ رؤوسِ العبادِ بحدِّ السيوفِ

إلى سُدة الحكمِ يُفنِي

 و يُرهِبْ لما كانَ ..

 و أسفي .. غيرَ أرنبْ

إذا حُمَّت الحربُ يهربْ

*

يموتُ المديحُ

وتبقى القصائدْ .

فماذا تقولُ القصائد؟..

تحدثنا عن هجاء مقيت ووصف لخيلٍ ونوق وهودج وفخر بأنساب من وحي خيط من الوهم تُنسج..ويتابع قوله:

يموت الهجاء ووصف الخيول

وفخر اللقيط

وزهو العبيط

وتبقى عيون القصائد تبكي

فماذا تقول عيون القصائد؟فالشاعر ينتقل بنا في هذه القصيدة في سخرية لاذعة لاشتغال الشعراء على هذه الأغراض القديمة التي أصبحت القصيدة تشكو من وطأتها، تنشد الخلاص والثورة من هذه الأغراض التي كبلت أفق الشعراء الفكري وحدت من قدراتهم التعبيرية والبحث عن أجواء أرحب وموضوعات أرحم .فالمتعة التي يحس بها المُطّلع على هذه القصيدة يقف اجلالا للشاعر جمال مرسي الذي فتح باب اشراكنا في إدراك هذه المفارقة التي تزداد ذروتها من خلال سؤال إنكاري يكاد يختم به القصيدة حيث يقول:

تسائلني والدموع تفيض على وجنتيها ألست بشاعر؟..

أجيب :وكلي يقين بقولي

انا لم أكن ذات يوم.. بشاعر وماكنت في روضة الشعر

اذ يستبيني سوى محض زائر..

ثالثا: صفاء الذهن والسفر في زمن الكتابة تحملك البساطة في سفر شعري في زمن الكتابة ونبش الذاكرة التاريخية، حيث وانت تنظر في ديوانالشاعر" على جناح أمنية شاردة" تضطر الى استدعاء محفوظك الشعري والثقافي في عبور معاني القصائدواستجلاء مضامينها حيث يسعفك هذا المحفوظ في بناء تصور للمرامي التي يرنو إليها الشاعر، وملء هوامش الفهم التي بدون هذا المحفوظ تبقى ناقصة. وهذا أيضا يبرز قدرة الشاعر على الاستعانة بثقافته العالمة في بناء النص/ القصيدة. وهذا ما يعطيه ميزة على تغذية إبداعه الشعري الذاتي بمحفوظه الشعري والثقافي وبذلك يحصل ذلك التثاقف الشعري الذي ينصهر بسهولة في تعابيره الشعرية وبناء قصائده دون تكلف أو إسفاف أو تمحل أو نشاز بل بسهولة متدفقة يباركها التناغم والانسجام. وهذا السفر يقودنا إلى استحضار مجموعة من الآيات القرآنية التي استطا ع الشاعر أن يستدعي بعض تعابيرها واحداثها لصوغها في بناء تعابيره الشعرية. يقول الشاعر:" قد هجاكم كبيرهم "ص 32"

قال تعالى: "قال بل فعله كبيرهم" الأنبياء 63

قال الشاعر:" فاساقطي مطرا نديا" ص 39

قال تعالى: »وهز ي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " مريم 25"

قال الشاعر: "ملك كريم" قال تعالى: "ان هذا إلا ملك كريم" يوسف 31"

قال الشاعر: " لا عاصم اليوم " ص 50

قال تعالى:"قال لا عاصم اليوم من امر الله" هود 43

قال الشاعر:"ان تقد قميص الوقار"ص 67

قال تعالى:" إن كان قميصه قد من قبل"يوسف 26

قال الشاعر:" ارجع لربك"ص 72

قال تعالى:" قال ارجع إلى ربك" يوسف50

قال الشاعر:" لتأسرها ذات شوق بيمينك"ص 66

قال تعالى:" وما تلك بيمينك يا موسى"طه 1

قال الشاعر:"انست نورك"ص 89

قال تعالى :" إني انست نورا" القصص 29

قال الشاعر:" وما قتلوه وما صلبوه"ص 113

قال تعالى:" وماقتلوه وماصلبوه" النساء156

قال الشاعر:"كما البحر حين يمور"ص 20

قال تعالى:" ويوم تمورالسماء مورا"الطور 8

ولايكتفي الشاعر بالاستفادة من زخم الآيات القرآنية وتلقيه من اضافات داخل النص الشعري بل نجده يلتفت الى النصوص الشعرية ويسعى الى ما قد تخلقه من حوار بين النصوص. قال الشاعر :"قلت اتركوه فان اتتك مذمتي من ناقص"فالصفح كان لدى الكبار سلاحا"ص 32

هذا ماخوذ من قول المتنبي: "واذا اتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي باني كامل

قال الشاعر:" تقول لنفسك اختالي وتيهي"ص 33 ولعله ينظر هنا إلى ما قالته ولادة الأندلسية بنت المسكفي":

انا والله أصلح للمعالي

وامشي مشيتي واتيه تيها"

قال الشاعر:"انا الذي صغت بالأشعار اغنية" ص 35

ولعله ينظر الى قول المتنبي:" انا الذي نظر الأعمى الى أدبي واسمعت كلماتي من به صمم"

قال الشاعر:" كجلمود صخر هوى من سقر"

وفي هذا التفات إلى قول امرئ القيس:"مكر مفر مقبل مدبر معا كجلمود صخر حطه السيل من عل

"قال الشاعر:" عيناك يا حبيبتي غيرتا ملامح البحار" ص 137"

وهذا يجاري فيه الشاعر بدر شاكر السياب في قوله:" عيناك غابتا نخيل وقت السحر"

ويتابع الشاعر استفادته ممن سبقه من الشعراء وهكذا نجده يقول: "ولست اسميك "ص 47

ولعله ينظر الي قول ابي العتاهية :" قل لمن لست اسمي بابي انت وامي "

رابعا: الانجذاب:

يتحقق الانجذاب لهذا الديوان من خلال ميزة الوفاء التي تطبع خلق صاحبه وقيمه الإنسانية والوطنيةوالذاتية، إذ تؤطر هذه القيم الإنتاج الشعري المتداول بهذا الديوان حيث يجثو الوفاء كقيمة أساس في ولادة النصوص وانكتابها باعتباره خلقا انسانيا نبيلا تلتقي فيه كل معاني الودوالاحترام، إذ العلاقات الإنسانية التي يغذيها الوفاء تظل تابثة ومستديمة لا تتأثر بعوامل الزمان وعواديه بل تتقوى وتزداد متانة. فالوفاء يقتضي الاعتراف بأفضال من أحسن اليك يوما او قدم لك خدمة والامتنان له على مجهوده الذي بذله لإرضائك أو مساعدتك والوقوف الى جانبك في يوم كنت في حاجة إليه، لذا فأقل مايمكنك فعله هو ان تشكر له صنيعه. ونحن نتصفح الديوان تصادفنا مجموعة من القصائد التي ترتبط بهذا الخلق النبيل.ينبري الشاعر للدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم في قصيدة تحت عنوان " الى متطاول على نورالشمس" ص 227 فيقول:

إني عذرت اليوم فيك لساني

ووهبت كي أقتص منك بياني

ويعلي في قصيدة من شأن وطنه مصر في قصيدة " لن تهوني يا مصر" ص 211 فيقول:لن تهوني يا مصر، لا لن تهوني بل ستبقين النور ملء العيون

كما أنه لم ينس ان يكرم المعلم في شخص صديقه جمال عبداللطيف يونس وفاء له، فنجده يقول في قصيدة"لو جاءني الوحي"ص 197

قم للمعلم تقديرا وإجلالا وارفعه منزلة قولا وأفعالا واكتب وثيقة عرفان لمن زرعت يمينه بذرة االخالق اجيالا

ونتلمس معالم الوفاء في كثير من القصائد حيث يطير به العشق ويحلق به في سماء المحبوبة، وكل ذلك في رقة شعور وصدق عاطفة واجواء رومانسية. وهكذا نجده يقول في قصيدة" ترنيمة شتوية" ص 47

دعيني احبك كيف أشاء وليس كما شئت انت وليس كما في الأساطير جاء

ويقول في قصيدة" يتم" ص 41

عجبت ومالي أعجب

وأمرك في الحب مستغرب ويقول في قصيدة" على شاطئ الأمنيات"ص 65

سألقاك ذات مساءعلى شاطئ الأمنيات

وأرسي سفينة قلبي على مرفأ النور في مقلتيك

فاجمل شطآن روحي عيونك

وأجمل شعري ما لم أقله

وأجمل ما في هواك جنونك

ويظل الشاعر وفيا لأحد الشعراء وهو مختار عيسى. فيقول في قصيدة "الغريب" ص 109

من أي أزمنة البراءة والوضاءة جئت تحمل في يمينك زهرتين

وغصن زيتون

وريشة طائر

وعلى شفاهك ماتيسر

 من سور

ويبقى الشاعر دجمال مرسي وفيا لتراثه فيقدم لنا قصيدة يعارض فيها نونية ابن زيدون وكأني به يقول: انا شاعر أحلق في كل الأزمنة . فيقول معارضا في قصيدة" الحلم" ص 89

انست نورك مذ أغرى ليالينا

بالشهد والورد يا أغلى امانينا

لُمت الظلام الذي ما كنت اعرفه

إلا دموعا أريقت من ماقينا

ولم ينس الشاعر أن يخلد تفوق ابنته وفاء منه لاجتهادها ولاسيما انها كانت الأولى على المدرسة. فيقول في قصيدة"انا.. وابنتي لما نجحت"ص 205

جاءت إلي مهرولةوالبشر يغمر مقلتيها

والورد بالفرشاة يكتب لونه في وجنتيها

وحدائق الرمان كانت ترتوي من نهر فرحتها الذي يجري على خد الصغيرة.. .. ..

قالت ابي

هاك الشهادة قد نجحت ومر عام

ما خاب ظنك في حين رجوتني الأولى

وحققت المرام

وأجمل ما في الوفاء أن يكون المرء وفيا لنفسه وذاته لا يسبح في اجساد الآخرين بل يبقى هو هوونفسه لا غيره، ولهذا نجد الشاعر يصرخ في قصيدة" أنا ونزار" ص 189

حيث يقول

(أنا لم اكن ذات يوم ٍ نزارا

ولا لن أكون

له لغة تشبه الياسمين

ولي لغة من بنفسج روحي رويتها من دماي

وأطعمتها من بساتين قلبي

***

هذه قراءة عاشقة لديوان الشاعر د جمال مرسي"على جناح امنية شاردة".

بقلم الدكتور الفيلالي أبو عبد العزيزالمغربي

كان وهج النار المتدفق بلهب هادر يحرق يد سليمان الحلبي اليمنى المثبتة بجنزير نحاسي يُكبِّلها بعدّة لفّات على منصة حديدية ثقيلة تقف بارتفاع صاحبها، والنار تشوي لحمه الذي صار يَحْمَرُّ ويسوَدُّ وينقبض ويتلوّى متساقطًا عن بقايا أصابع يده البيضاء على شكل كُتلٍ صغيرة مُتْلَفة مُتفحِّمة، إلى أن سقطت كل هذه النُّتَفِ المحروقة على تراب تل العقارب، بينما يقف القُضاة وكبار الضباط الفرنسيين وضباط الأمن والحراس والعساكر ورجال الدين الأزهريون والمسيحيون والصحافيون، والمؤرخون، يتأملونه بعيون جاحظة، معظمها بشماتة الانتقام، وبعضها بالشفقة عليه.. كانوا يتجمهرون حوله بأفواه مفتوحة وعيون مبحلقة، بينما هو يقف في وسطهم بأعصاب تغلي، رابط الجأش لا يبدي اهتزازًا، ونظراته تحدِجُهُم كخِنْجَرَين تخترقان أعينهم المجرمة.

بهذا المشهد الوحشيّ المُروّع الطافح بالفظاعة والقسوة والألم يفتتح صبحي الحماوي روايته التاريخية خنجر سليمان، التي يقدم فيها تسجيلًا سرديًا روائيًا لحدث تاريخي هام شهدته منطقتنا، أثناء الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام في أواخر القرن الثامن عشر (1798) بقيادة نابوليون بونابارت. كان نابوليون يهدف إلى تأسيس مستعمرة فرنسية كبرى في المنطقة. وقد كان لقيام الشاب السوري سليمان الحلبي باغتيال الجنرال كْلِبير في 14 حزيران عام 1800 تأثيرًا بالغًا على الحملة ساهم في رحيل القوات الفرنسية عام 1801. 

ليست خنجر سليمان الرواية التاريخية الأولى التي يخطها قلم صبحي  فحماوي. فقد سبقتها على سبيل المثال قصة عشق كنعانية (2009)، أخناتون ونفرتيتي الكنعانية (2020)، و هاني بعل الكنعاني (2022). ولعل القاسم المشترك بين هذه الروايات جميعًا هو أنها تتناول حُقَبًا من تاريخ أمتنا واجهت خلالها تحدياتٍ جسامًا لم تكن تهدف إلى ضعضعتها ونهب خيراتها فحسب، بل سعت إلى طمسِ هويتها العربية، أو بالأحرى، القضاءِ على كينونتها ووجودها، كما في هاني بعل على سبيل المثال.3488 فحماوي

لعل من المفيد، إذ نصنف خنجر سليمان روايةً تاريخية، أن نتحدث بإيجاز عن الرواية التاريخية تاريخًا وتكوينًا. يسجل االدارسون أن أول عمل روائي تاريخي هو رواية ويفرلي للأديب السكوتلندي السير والتر سْكوت، التي صدرت عام 1814. وبعد صدورها، بدأ العديد من الكُتّاب الغربيين يقبلون على كتابتها. ولعل أكثر الروايات التاريخية شهرةً لدى القارئ العربي الحرب والسلام (1814) للكاتب الروسي ليو تولستوي، البؤساء(1862) للكاتب الفرنسي فكتور هوجو، ذهب مع الريح (1936) للكاتبة الأميركية مارغريت ميتشل، و مائة عام من العزلة (1967) للكاتب الكولمبي غابرييل غارسيا مركيز.

أما في الأدب العربي فيعتبر الكاتب اللبناني جُرجي زيدان صاحب سلسلة روايات تاريخ الإسلام أبا الرواية التاريخية العربية، وكانت رواية المملوك الشارد (1891) الأولى في هذه السلسلة. وفي مطلع القرن العشرين اقتحم العديد من الكتاب العرب باب الرواية التاريخية. وقد قامت الباحثة الجزائرية سليمة بالنور في بحثها الموسوم "الرواية التاريخية: بين التأسيس والصيرورة" بتتبع تطور الرواية التاريخية العربية ورصد أعمال عشرات الروائيين الذين عنوا بكتابتها. ونكتفي منهم بذكر نجيب محفوظ في ثلاثيته التاريخية: رادوبيس (1934) و عبث الأقدار (1939) و كفاح طيبة (1944)، واسيني الأعرج في ذاكرة الماء (1997) و شرفات بحر الشمال (2001)، ورضوى عاشور في ثلاثية غرناطة (2001) و الطنطورية (2012).

وبطبيعة الحال فإن عددًا لا بأس به من الروائيين الأردنيين كتبوا الرواية التاريخية. ونكتفي بذكر أربعةٍ منهم ورواية واحدة لكل منهم: هاشم غرايبة، (بترا، 2006)، إبراهيم نصر الله (قناديل ملك الجليل، 2012)، سميحة خريس (فستق عبيد،2017)، وأحمد أبو سليم (ياسين،2021).

لم تحظَ الرواية التاريخية باهتمام كافٍ إلا بعد مرور اكثر من 120 عامًا على صدور رواية والتر سكوت. ففي عام 1937 أصدر الكاتب المجري جورج لوكش كتابه الشهير الرواية التاريخية. وقد عرّف لوكاش الرواية التاريخية بأنها "جنسٌ أدبي يجمع بين التمثيل الفني للشخوص وحياتهم الفردية في إطار السياق الاجتماعي والتاريخي الأشمل الذي يتواجدون فيه". ووجدت آراء لوكش صدى واسعًا لدى النقاد والباحثين بعد أن تُرجم كتابه إلى العديد من اللغات. ومنذ ذلك الحين بدأت العناية بدراسة الرواية التاريخية تتزايد، وظهر العديد من الباحثين والمُنَظّرين، الذين شكلت آراؤهم ما يمكن أن نطلق عليه نظرية الرواية التاريخية. وكان بين هؤلاء كُتاب بارزون مثل الروسي ميخائيل باختين والألماني إريك أورباخ والكندي نورثروب فراي. ويُمثل هؤلاء الرعيلَ الأول. أما الرعيل الثاني فنذكر منهم الإنجليزي دورِس ليسنغ، والأميركي هيدن وايت، والإيطالي فرانكو موريتي، والكندية ليندا هاتشيون. وقد أسهمت كتابات هؤلاء النقاد في تخصيص مساحة أكبر للرواية التاريخية واعتبارها نوعًا مستقلًا عن سائر أنواع الرواية.

أما الباحثون العرب فقد اهتم عددٌ لا بأس به منهم بالرواية التاريخية، وخصوصًا العربية. أذكر منهم على سبيل المثال سعيد يقطين، قاسم عبده قاسم، شريف بموسى، محمد القاضي، حلمي القاعود، نضال الشمالي، وسليمة بالنور. هؤلاء النقاد وسواهم لم يتأخروا عن نظرائهم الغربيين في تناول الرواية التاريخية فحسب، بل إن الغالبية العظمى منهم مالوا إلى الاعتماد على طروحات الغربيين واقتباس آرائهم، فشكلت النظريات الغربية بالنسبة لهم أهم المرجعيات. لذا نجد في معظم كتاباتهم أصداءَ للطروحات الغربية في هذا المجال.

الرواية التاريخية إذن اكتسبت حيزّا خاصًّا بها شأنها شأن أنواع الرواية الأخرى، كروايات الرعب، والجريمة، والغموض، والرومانس، والإثارة، والخيال العلمي، وسواها. فهي تشترك مع هذه الأنواع في كونها عملًا سرديًّا نثريًّا خياليًّا، كما تشترك معها في العناصر الأساسية للرواية، كالحبكة وعنصري الزمان والمكان، وكذلك الشخوص وزاوية الرؤية والصراع.

أمّا ما يُميّز الرواية التاريخية عن سائر ضروب الرواية فهو، كما يشي اسمها، أنها تتناول أحداثًا تاريخية، فهي تماثل التاريخ من حيث أنه هو أيضًا عمل سردي يتناول أحداثًا تاريخية. غير أنها تختلف عن السرد التاريخي في أنها تتناول الأحداث تناولًا فنيًا تمتزج فيه الحقيقة بالخيال. وبمعنى آخر فإن السرد في الرواية هو إعادة صياغة للتاريخ من منظور روائي فنّي. ومن هنا فإن للرواية التاريخية خصائصَ تميزها عن أنواع الرواية الأخرى. فعلاوة على ما ذكرت حول عنصريِ الزمان والمكان وعن تناول أحداث تاريخية حقيقية، ومزج هذه الأحداث بالخيال من خلال السرد، فإن الرواية التاريخية تتيح لنا الإحساس بالزمان والمكان وتخوض في موضوعات ذات صلة بكل من الماضي والحاضر. كما أنها تمزج بين الشخصيات التاريخية والمتخيلة. لذا يتعين على كاتب الرواية إجراء بحث شامل ليكون دقيقًا في تصوير الفترة الزمنية التي تدور خلالها الأحداث، آخذًا بعين الاعتبار السياقَ الاجتماعي والثقافي للأحداث، وأحيانًا يلتزم باستخدام لغةٍ وحوارٍ مناسبين للفترة الزمنية. وربما يرتأى أن يؤكد على الإقرار بالبحث، فيأتي على ذكره المصادر التي استعان بها في كتابة روايته.

***

من هذا المنطلق يمكننا أن نقرأ خنجر سليمان للروائي صبحي  فحماوي باعتبارها تمثل الرواية تاريخية تمثيلًا صادقًا، ليس لأنها تغطي حقبة تاريخية بعينها فقط، بل لأن عناصر الرواية التاريخية تتمثل فيها تمثلًا إبداعيًا كما سنلاحظ تاليًا.

تتلخص الرواية في أن سليمان محمد الأمين بطل الرواية، الذي شبَّ وترعرع في مدينة حلب، يسافر إلى مصر بهدف الدراسة في الأزهر. وبعد ثلاثة أعوامٍ من الدراسة يعود إلى حلب، لكنه لا يلبث أن يسافر إلى مصر ثانية، حيث ينجح في تنفيذ ما عقد عليه العزم، وهو قتل القائد الفرنسي، الجنرال كلِبير. وإثر ذلك يقبض عليه الفرنسيون ويحكمون عليه بالإعدام على الخازوق بعد إحراق يده اليمني.

لقد اختار الروائي هذا الحدث الهامَّ من تاريخ أمتنا، الذي نعرفه جيدًا، فقد قرأنا هذه المعلومة في إطار دراستنا للتاريخ في المرحلة الثانوية. غير أن فحماوي حوّل هذا الحدث، الذي لم يستغرق سوى دقائقَ معدودةٍ، إلى نقطة ارتكاز في نسيجة الروائي، الذي يغطي نحو عقدين من الزمن. وبطبيعة الحال فإن هذا الامتداد الزماني واكبه امتداد مكاني. فاغتيال كليبر حدث في حديقة قصره في القاهرة. لكن أحداث الرواية غطت مساحةً جغرافيةً شاسعة امتدت من حلب إلى القاهرة، مرورًا بالعديد من المدن في بلاد الشام ومصر. وبذلك استكملت الرواية عنصرين هامين من عناصر الرواية. الأول هو تناول واقعةٍ تاريخية، والثاني هو الزمان والمكان اللذان جرت فيهما أحداث الرواية. وهنا يُسجّل للكاتب بَسْطُ احداث روايته على هذا الامتداد البانورامي زمانًا ومكانًا، ما أعطاها أبعادًا درامية تثير اهتمام القُرّاء والنقاد على حدٍ سواء.

أما العنصر الثالث للرواية التاريخية فيتمثل في مزجها بين الحقيقة والخيال بصورةٍ احترافية. فالحقائق التاريخية معروفة وتبدأ من الفصل الأول، حيث نتعرف إلى الطفل سليمان محمد الأمين وهو لم يتجاوز الأربعة الأعوام. وفي هذه المعلومة دِقّة تاريخية واضحة. فالزمان هو العام 1781، وسليمان، كما تشير سيرته التاريخية من مواليد عام 1777. والفرق بينهما أربعة أعوم. أما المكان فهو حلب، وهذه أيضًا حقيقة، ومثلها أن والده كان يعمل في التجارة. لكن تفاصيل حياة هذا الشاب الذي كان مغمورًا قبل اغتياله للجنرال الفرنسي هي في غالبيتها من نسج خيال الكاتب. وقل الشيء نفسه عن تفاصيل رحلته من حلب إلى مصر التي رافق والده في جزء كبير منها. فثمة تفاصيل كثيرة عن العلاقات التي تربط والده بالكثير من تجار المدن التي يمرون بها. ولا بد أن تكون تفاصيل هذه العلاقات والمبادلات التجارية وما تشكله من سياق اجتماعي هي من اختلاق الكاتب. أما أسماء الأماكن والأسواق، كالمسجد الأموي وسوق مدحت باشا وسوق الخياطين في دمشق وقصر هشام في أريحا وغيرها من الأماكن التي ربما لا يزال معظمها باقيًا على حاله هذه الأيام، فهي أسماءُ حقيقية يعرفها الكاتب ويعرفها الكثير من القراء. هكذا فإن الأماكن والتواريخ الحقيقية تُشكّل هيكلًا عظميًا ينسج حوله الكاتب تفاصيلَ تتناسب معه لتُشَكِّلَ الملامح الخارجية، ما يجعل الرواية كيانًا عضويًا متكاملًا.

الشخصيات بدورها تتصل اتصالًا وثيقًا بهذا المزج بين الحقيقة والخيال. فثمة شخصيات تاريخية حقيقية تتفاعل مع الشخصيات الروائية. فالجنرال كلِبير وأعوانه وسليمان الحلبي ووالده وزملاؤه الذين حُكِم عليهم بالإعدام وكأنهم شركاء في الجريمة، وغير هؤلاء كثيرون يضيق المجال عن ذكرهم، هم أناس حقيقيون مذكورون في كتب التاريخ. ومثل هؤلاء يضفون على الرواية صفة الأصالةً. أما الشخصيات الخيالية التي يخترعها المؤلف كتلك التي يتفاعل معها سليمان في حلب ومعظم الشخصيات التي يقابلها هو ووالده أثناء الرحلة من حلب إلى غزة، فتمثل الخبرات والنضالات ووجهات نظر الأشخاص الذين يعيشون في ذلك المكان وتلك الحقبة. 

وهكذا فإننا نحن القرّاءَ نصدق الرواية بكل تفاصيلها، دون الالتفات إلى ما هو حقيقي وما هو خيالي. ومثل هذا الانسجام مع أحداث الرواية هو أيضًا من خصائص الرواية التاريخية المصممة جيدًا. فهو يمنحنا إحساسًا قويًا بالزمان والمكان، وينقلنا  إلى العصر التاريخي ويجعلنا نشعر بالانغماس في عالم الماضي، خصوصًا إذا جاءت الأحداث في إطار سياقها الاجتماعي والثقافي. ولا شكّ أن رواية خنجر سليمان  تتعمق في الأعراف الاجتماعية والثقافية في ذلك الزمن، وتفسح لنا المجال لإلقاء نظرةً ثاقبةً على حياة الناس من مختلف الطبقات الاجتماعية والخلفيات. وعلاوة على ذلك نتعرف من خلالها على جوانب مختلفة من السلوك البشري، والأعراف السائدة في الماضي.

لكن هذا المزج بين الحقيقي والخيالي في خنجر سليمان لم يأتِ اعتباطًا. فقد استقى فحماوي الأحداثَ التاريخية من المراجع والمصادر الموثوقة أسوة بما يفعله كتاب الرواية التاريخية المحترفون. وقد حرص على ذكر ذلك صراحةً في الفصل الذي يحمل الرقم صفر في الصفحات الاولى من الرواية، حيث يقول: "وكان أول ما قرأت هو كتاب المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" إضافة إلى كتب أخرى كثيرة غير هذا الكتاب.. ورحت أُرتِّبُ الوقائع المذكورة، وأنسج عليها من مخيلتي الأدبية." وفي أماكن لاحقة ذكر الكاتب مراجع أخرى. وعلى سبيل المثال أشار غير مرة إلى ما أوردته صحيفة الاحتلال الفرنسي "كورييه دي ليجيبت" حول مراسيم تشييع جثمان كلِبير. كما اتصل الكاتب ببعض الأكاديممين من حلب للحصول على معلومات حول سليمان الحلبي ومن القاهرة لمعرفة المزيدعن وقائع الاغتيال. كذلك فإن المؤلف تعرف على الكثير من الأماكن التي وردت في روايته خلال زياراته إلى سوريا وفرنسا وإقامته في مصر وزياراته المتكررة لها. ولا ريب أن المراجع التاريخية التي اطّلع عليها والأماكن التي زارها شحذت مخيلته وشكلت مصدر إلهام له ليضيف التفاصيل المناسبة لأحداث الرواية. 

السؤال الذي قد يطرحه القارئ الذي لا يجد في الرواية التاريخية ما يستحق الاهتمام: ما علاقتنا بأحداث طواها الزمن؟ وما الذي يمكن أن نخرج به من رواية مثل خنجر سليمان؟ والحقيقة أن ما يضفي أهمية خاصة على الرواية التاريخية هو انعكاس القضايا المعاصرة في مجملها كما في تفاصيلها. فهي تقارن بصورة ضمنية بين الأحداث التاريخية والقضايا المعاصرة. ولا يساورني أدنى شك في أن فحماوي كتب هذه الرواية وعينه على الواقع العربي. فهو من ناحية يتحدث عن الاستعمار الفرنسي وعدوانه الظالم على أجزاءَ من الوطن العربي. فهؤلاء الفرنسيون يمثلون المستعمرين كافة، الذين يدعّون أنهم يمثلون قمة الحضارة الإنسانية، ومع ذلك فإنهم يتعاملون مع الشعوب بمنتهى القسوة والوحشية والهمجية.

كذلك فإن فحماوي يرى أن للماضي ارتباطًا وثيقًا بالحاضر وتأثيرًا كبيرًا عليه. فالاستعمار الفرنسي عاد للاعتداء على الشعوب العربية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. وما زال الفرنسيون وسواهم من الدول الاستعمارية يحيكون المؤامرات ضد هذه الشعوب. وتأكيدًا لهذه النزعة الإجرامية يُذكرنا بأن فرنسا ما تزال تحتفظ في "متحف الإنسان" في بارس بجماجم الكثيرين ممن فتكت بهم جيوشها في الدول التي استعمرتها، ومن بينها جمجمة سليمان الحلبي، التي حصل فحماوي على صورةٍ لها، واستخدمها في غلاف روايته، وجعل في أسفلها صورةً للسكين التي غرزها سليمان في صدر كلِبير وأحاطهما بالسواد تذكيرًا للقارئ بالحقد الاستعماري العميق. وهذا يمثل انحياز فحماوي لقضايا الأمة.

كما يؤكد فحماوي هذا الارتباط بين الماضي والحاضر في إشارات لاذعة يُلمّح من خلالها إلى أن التاريخ يعيد نفسه. فمثلًا يتحدث بسخرية مكشوفة عن "التنسيق الأمني" الذي يقوم به "أبو محمد" مختار إحد القرى (ص 99). ويستخدم العبارة نفسها في حديثه عن "أعضاء ديوان الأزهر" الذين يصفهم بالجواسيس وعملاء التنسيق الأمني مع الاحتلال (ص 270). وهو بذلك يذكرنا بالتنسيق الامني في فلسطين "مع قوات الاحتلال الصهيوني بأسلوب لا يخلو من سخرية مريرة، وكأنه ينبهنا إلى أن التاريخ يعيد نفسه. 

***

خنجر سليمان إذن تحمل كل تلك الخصائص التي تجعل منها رواية تاريخية بامتياز – روايةً تتناول سيرةَ بطل ضحى بحياته في سبيل حرية شعبه في تلك الحقبة الهامة من تاريخ شعبنا العربي. لقد رأى فحماوي في سليمان الحلبي بطلًا يكاد يكون أسطوريًا ناضل بطريقته الفريدة في سبيل حرية "شعبه". ومن الواضح أن سليمان السوري الحلبي كان يرى أن أهل مصر هم شعبه أيضًا. وهذا يدل على أن النزعة القومية الضيقة السائدة في أيامنا هذه، والتي هي صناعة استعمارية بامتياز، لم تكن شائعة في تلك الحقبة. بل كانت الشعوب العربية ترى نفسها شعبًا واحدًا. من هنا فإن رواية خنجر سليمان بالنسبة لفحماوي هي بمثابة لبنة أخرى في مشروعه الإبداعي الذي ينصب في مجمله على طرح قضايا الأمة.

***

نزار سرطاوي

- استوقف اللحظة الشعرية بأيقونة دلالاتها ورمزيتها على حدود أبياته

- جسد التشابه في توظيف الصورة كواقع مفروض يتداخل مابين الأعماق و الحقائق

يبرز توظيف الإستعارة عند الشاعر "شلال عنوز" بدقة، ويأخذ حيزاً واسعا في أبياته  يضفي على معانيها رونقاً محبباً عند القارئ الذي يستمتع باستشهادات عنوز والاتيان بظل حوادث تاريخية واقعية مخلدة ليلقيه على شكل القصيدة التكويني.

قد يكون انتقاء المفردة له وقع عالي لدى القارئ عند الإسقاط والتشبيه أو الدلالة حين تكون تلك المفردة راسخة وبعمق في وجدان المتلقي، هنا يكون الشاعر قد أبدع بتجسيده حادثة تاريخية راسخة في الوجدان عبر كلمة تشير إلى تماثلها مع واقع المتلقي أو كما يخيل إليه أنها تماثل ما يشعر، هذا التداخل البارع في الفهم والتجسيد يطلق له "شلال عنوز" عنان الخيال فيسرح في سفوح مالها من انتهاء شكلتها كلمات بعينها دون سواها لتكمل إبداع ما كتب الشاعر.

هذا هو شعر شلال عنوز باختصار، إبداع هائل بكلمات مؤثرة تجسد التماثل بين شعور القارئ وحوادث تاريخية حقيقة راسخة في وجدان المتلقي.

وحين نقتطع  وصلة شعرية من ديوان الشاعر شلال عنوز (وبكى الماء) ونلج في متاهات ما أحتوت،نجد أن هناك بناءً فنياً قد كرس في أبيات عنوز هاجسه الإبداع الذي صاغه بعناية ودقة من يعمل على زخرفة النقوش على قطعة ذهبية رقيقة كنسمة، أو ربما كقطرة ندى شاء لها القدر أن تكون على ورقة ورد حمراء رطبة بفعل المطر.

فمن يخاطب اللا محسوس، ومن يرسم لون الماء، ومن يسقيك ماءً بطعم الماء، سوى (عنوز) الذي كرس تلك المعاني شعراً منح القارئ من خلاله ما أراد له أن يمنح ليستسيغ شعره ويستلذ بمعان لاشبيه لها إلا في شعر "شلال عنوز" الذي يتدفق عذوبة شعرية ممزوجة بحقيقة المعنى.

مَنحُ القصيدة عمق تاريخي يؤطرها بمضامين عدة، قد تختلف عن الأحساسيس والمشاعر، قد ترسم صور التاريخ عبر بوابات الشعر، لكن أن تستوقف اللحظة الشعرية عند أيقونة لها دلالاتها ورمزيتها فذاك استيقاف ضمني للزمن على حدود الأبيات، أي حدود القصيدة بما أحتوت، وأرى أن الصور التي اكتنزت بها أبيات "عنوز" قد طغت على المعنى الذي يريد، أو لنقل اتخذت مسارات أبعد مما أراد لها.

فكيف للماء أن لايكترث، ومتى كان يسمع اللغو (همجي) كان أم لا، واللغو همجية في معظمه لذلك كان الإسقاط  أكثر من رائع في تلك الصورة الفذة. وفيها ومنها تجليات التداخل مابين الآتية من الأعماق، وما وشحت به الحقيقة بدم زكي لازالت حرارته بين أضلعنا حتى الساعة، وتلك هي الحقيقة التي شابهها الشاعر من خلال التماثل ب ( تشظيات كلكامش).

أيها الماء

لا تكترث لهذا اللغو

الهمجي

فصوتي هو الحقيقة

الآتية من

أعماق بابل

تشظيات كلكامش

وجع علي

حرارة دم

الحسين

ولأننا لازلنا نستشعر تلك الصور، رسم لنا (شلال عنوز) خيالات منها، ما غطت على مخيلتنا بظلام غيمة سوداء ماطرة، لكنها مؤجلة لاتنثر إلا سواداً يوشح الأجواء لتعي من خلال أجواءها تلك عظيم الحدث وهول المأساة، هنا تجسيد رائع من شلال لواقعة (الطف) بكل ما أحتوت من شعور أليم وفاجعة رسمت تاريخنا باللون الأسود لتغطي الأحزان الدهر كله لهول ما وقع.

كربلاء أي دم سُفك، أستشعرنا حرارته عبر أبيات شلال عنوز التي أبكتنا وبكى الماء منها ونشف، وأقسم أني أنتابني شعور بأني كنت هناك، وبكيت هولاً حين  لمست (حرارة دم الحسين)، و(وجع علي) وهذه بحد ذاتها قصيدة بل ديوان، فعلى أيهما توجع  "علي"، أسئلة لاحدود لها ضمنها (عنوز) ببراعة المتمكن من ادهاش القارئ وتركه يخوض في حيرى السؤال، أي توصيف تركته لنا أي خلود ذاك الذي جسدته بكلمتين فقط لتلك الفاجعة المدوية في سماء التاريخ، والعار الذي تلبس من اقترفها، شلال عنوز رسم وجسد وأطر وخلد كل التاريخ بكلمتين، كلمتين فقط،فكان الإبداع صفة ما جسد في أبياته.

وفي قصيدته (نرجسة الذكرى) برز وبشكل واضح مفهوم الاستبدال وتجسيد التماثل، واختلف عن ( وبكى الماء) في استبعاد المآسي وصورها وماخلفت، وفيها سعى "شلال عنوز" ليرسم عبر الخيال الموشح بالذكرى سيرة قصيدة انعكست صورتها لتترك ظلها على شفاه صورة غير حقيقية رسمتها ( المرايا)، ربما أراد لها أن تكون غير حقيقية لترتقي إلى مصاف الحلم الذي استودعه بين أبيات قصيدته.

وربما أراد للقارئ أن يحلق بعيداً عن الواقع في عالم الخيال مستنطقا ( المرايا) من خلال ما ترسم من صور، لكن شلال عنوز في هذه "النرجسة" التي اقتصرها على الذكرى، داعب المتلقي بمفردات طغت عليها صور الاشتياق والحب، ليقف على دلالات تاريخية يتداخل فيها الطيف مع البعد الذي تمثله تلك المفردات بأطر تحمل التاريخ بعداً وشكلاً ومنطقاً، (فأفروديت) تمثل كل الحب الذي تحتويه قصائد الشعراء، ومشاعر الوجد التي في قلوب العاشقين، واللوعة التي تجسد العشق وشاحاً يلفه اصحابه على رقابهم محملاً  بأنغام بللها رذاذ المطر،ليرسم "عنوز" عبرها صورته الشعرية المغمسة بألحان الهيام على صفحات قاموس (أفروديت).

على شفاه المرايا

تكتبنا الظلال أجنحة يمام

مبلّلة بموسيقا المطر

حينما نثمل بالاشتياق

نحلق في سماوات الحلم

على ضفة التوق

أُتوكّأ على عُكّازي

في معبد (افروديت)

أتلفت...

علّني أراك

عند ساقية التيه

لمحتك من بعيد...

 الحركة التي رسمها الشاعر في أطراف قصيدته  أخذت أبياته من السكون إلى الطواف حول (نرجسته)،مخاطبا من عناها ب (تطوفين) وهي مبهمة عند القارئ، فمن تلك التي تطوف، ولماذا الطواف، أراد من تلك السمة الحركية التي أضفاها على القصيدة أن يحرك مشاعر القارئ بدلالة الطواف الذي مزج فيه (شلال عنوز) الإيحاء بالحركة، وأستبدل به السكون الذي قد يلف ذهن القارئ ليقف عند بيت معين من القصيدة،لكنه ومن خلال الاستبدال أوحى لتضمين المعنى نمط مغاير دفع من خلاله القارئ للتصور بأن الربط بين الطواف والشوق قد يصلح في مثل تلك الحالة.

تطوفين حول نرجسة الذكرى

تحت ظلال شجر اللقاء

كنت أنتظر انعتاق الهمس

في أذن المنفى

كي أذوب فيك حدّ التلاشي

وأغرق في سكرة العناق

وفي صورة أخرى من صور "شلال عنوز" الشعرية المتقنة التي سعى  من خلالها لتكريس الرمزية الوطنية والدينية على أبياته متناولاً سيرة مدينته (النجف) بسردية رائعة أحتوت الوصف المتداخل مع الفخر ليخرج بمزيج من الأبيات الوجدانية خلق منها حالة وصف رائعة مكتملة ليصف (النجف) بأوصاف تكتمل معانيها مع تكامل تاريخ المدينة ومأثرها وثرائها وعبق المشاعر الروحانية التي أحتوت ترابها وأمتزجت بأريج عطر بيت النبوة ومدينة العلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والذي تحتضن النجف مرقده الشريف.

أفرد (شلال عنوز) بوصفية رائعة مكتملة الأركان والعناصر كما عهدنا قصائده، ليترك للقارئ قاموساً من الوصف البهي لسيرة الإمام (علي بن أبي طالب والنجف) حتى يخال للقارئ عند قراءة عنوز لتفسير حروفها بعد إفرادها تفصيلاً إنها مدينة الله في الأرض، بل هي مدينة كل الكون، وحتى الوجود الأبدي.

وفي قصيدته  (هي النجف) التي ضمنها التأويل الحسي المصحوب بحركة انسياب الأبيات نحو التوصيف والتضمين التصوري للإيقاع الحركي المنفرد من موسيقى القصيدة، والإنتقالات الفكرية للتفسير الوصفي المصاحب للصورة التي وظفها الشاعر لينتج بعداً غير معهود لدى شعراء أخرين حين نقرأ عنهم قصائد الوصف والتخيل.

أبدع شلال عنوز في قصيدته (هي النجف) والتي اجتزئنا منها أبياتاً معينة لنعرضها في سياق الموضوع، وليقف القارئ كما وقفنا على الوصفية الشعرية الدقيقة التي استخدمها الشاعر للإرتقاء بما وصف، وأظنه قد نجح فعلاً في تخليد وصف النجف عبر قصيدته، وتصوري أنه أراد الخلود لأبياته بفعل خلود المدينة بما أحتوت من شمائل  الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).

فيها ومنها يطلّ الزهو والشرفُ

لله درك مـــــــــا أبهاك يانجفُ

*

مُزدانةٌ بسنا الكرار أغدَقَها

حُبّاً فهامَ بها الأجدادُ والخلفُ

*

في نونِها سِرُّ كافِ الله أودعهُ

فتحاً بباب عليٍّ أينما أزفوا

*

في جيمها من جمال الله سوسنةٌ

فاحت عبيراً ومنها الآن نرتشفُ

*

والفاءُ طافت لها الأفياءُ خاشعةً

على الرؤوس فصلّت وهي ترتجفُ

*

ممهورةٌ بنَدا الإيثار هاطلةٌ

علماً على سفحها الأفكار تُكتشفُ

*

عصيةٌ منذُ كان الحقُّ مغتصباً

حقّاً وكُنّا بذي عليائها نقفُ

*

على عُلاها يغنّي المجد مبتهلاً

وفي ثراها خُطى الفادين تزدلفُ

*

يادوحةً من رياض الله دافقةً

ضوعَ الجنان ويا مجداً به التحفوا

*

وياملاذَ أمانٍ يُستجارُ بها

دوما تطوفُ بها البشرى وتعتكفُ

شلال عباس عنوز،شاعر وروائي عراقي له حضور فاعل في المشهد الثقافي العراقي والعربي،ترجمت بعض أعماله الى اللغة الانكليزية و الكردية والفرنسية والايطالية.

ينتمي للعديد من الاتحادات والنقابات العراقية منها :عضو اتحاد الأدباء والكتاب العراقي،عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، عضو نقابة الصحفيين العراقيين، بالإضافة إلى ترأسه  تحرير مجلة الطف، وصاحب الأمتياز ورئيس تحرير مجلة (ذكوات الأدبية) في النجف.

يكتب القصة والرواية، وحائز على الكثير من الجوائز التقديرية من وزارة الثقافة والإعلام سابقا، وجامعة الكوفة ووزارة الثقافة في العراق عام 2006 .واتحاد الأدباء والكتاب في العراق واتحاد الأدباء الدولي.

منج درع الجواهري للإبداع من اتحاد الأدباء والكتاب في العراق .كماحصل على جوائز تقديرية ودروع إبداع من منظمات ثقافية عربية وعالمية ومواقع مرموقة.

***

سعد الدغمان

..........................

من أعماله الصادرة:

- مرايا الزهور... مجموعة شعرية صدرت عام١٩٩٩

- الشاعر وسفر الغريب...مجموعة شعرية صدرت عام ٢٠١٣

- وبكى الماء ....مجموعة شعرية صدرت عام ٢٠١٧

- السماء لم تزل زرقاء...مجموعة شعرية صدرت عام ٢٠١٧

- أمنحيني مطر الدفء ... مجموعة شعرية صدرت عام ٢٠١٨

وغيرها الكثير، وقد أقيمت حول شعره الكثير من الندوات والحلقات النقاشية، كما نظمت العديد من البحوث والدراسات وأطاريح الماجستير والدكتوراة.

منح في 4 مارس عام 2017 شهادة الدكتوراه الفخرية في اللغة العربية وآدابها من قبل الهيئة العلمية في مركز الحرف للدراسات العربية في جامعة ستراتفورد الأمريكية، لاسهامه في إثراء المكتبة العربية وأبداعه وتميّزه الشعري ولترجمة نصوصه الى اللغات العالمية.

تاريخياً يعود مفهوم أدب المهجر، في المدونة الأدبية العربية، إلى منتصف القرن التاسع عشر، بهجرة مجموعة من شعراء بلاد الشام، (لبنان على وجه التخصيص) إلى الأمريكيتين وتأسيس تلك المجموعة لما يعرف بالرابطة القلمية التي تحولت إلى مظلة ونسق ابداعي وتجديدي في الشعر العربي، استمر أثرها وتأثيرها حتى منتصف القرن العشرين في الشعر العربي.

هذا المفتتح التاريخي القصير قد يضيء لنا الطريق لتأشير الإطار الخارجي لما يصطلح عليه بأدب المهجر في الثقافة العربية، وتحديد الملامح الخارجية لبناه المفهومية التي منحته صك الاعتراف به كمصلح ويحدد خصائصه، الشكلية والابداعية، كرافد ثقافي وتجديدي مضاف إلى المدونة الإبداعية والثقافية العربية.

ومن دون أن نغفل دور دوافع الهجرة، ومع التأكيد على أن أدب المهجر في صيغته وجهده التأسيسي، كانت دوافعه اختيارية، أي أن أغلب شعراء مرحلة التأسيس لمفهوم الأدب المهجري، كانت هجرتهم اختيارية وليست نتيجة لضغوط سياسية وايديولوجية (وما يترتب عليهما وينتج عنهما من أشكال الضغوط المتفرعة منها)، فإن أدب المهجر العربي الحديث يأتي كنتيجة لهجرات فرضتها، في اغلب الأحيان، أزمات سياسية وايديولوجية، وما يتفرع عنها من قهر السلطات الدكتاتورية، بأشكال الاضطهاد والقهر ومصادرة حرية التعبير عن الرأي وكم الأفواه.

ومن هنا يمكننا تحديد الفروق الأولية ما بين نسختيّ أدب المهجر (في المدونة الثقافية العربية على وجه التخصيص) في مرحلته الأولى (مرحلة التأسيس تجوزاً) ومرحلته الثانية التي بدأت مع مرحلة استقلال الدول العربية عن الاستعمار الأوربي، وقيام الأنظمة الجمهورية الشمولية في أغلب البلاد العربية، وما رافق هذه الأنظمة من أشكال الاستبداد والدكتاتورية والحروب (داخلية وخارجية) ومصادرة الحريات وأشكال الرقابة على المنتج الثقافي والإعلامي.

التصنيف والخصائص:

من هنا يتضح لنا أن هناك مرحلتين لأدب المهجر في الحياة الثقافية العربية، المرحلة الأولى وهي مرحلة (التأسيس للمفهوم) والتي بدأت في المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر، كما أسلفنا، تلك المرحلة التي تميزت بجملة من الخصائص التحديثية، على مستوى الشكل والمضمون، لبنية القصيدة العربية، على وجه الخصوص (على اعتبار أن معظم مهاجري تلك المرحلة كانوا من الشعراء). تلك الخصائص التي يمكننا اجمالها بالخصائص الفنية وهي: بساطة اللفظ والوحدة الموضوعية للقصيدة والاهتمام بالصورة، بناءً وتضميناً، والتمرد على شكل القصيدة، أي مسطرة الخليل بن أحمد، وأخيراً استخدام القصة وتوظيفها داخل القصيدة.

أما الخصائص الموضوعية لقصيدة المهجر الأول فهي تلك التي فرضها واقع الهجرة، من حيث كونه ابتعاد وانسلاخ عن الوطن الأم، وهي الحنين وتأمل النفس البشرية والامتزاج مع الطبيعة والابتعاد عن المباشرة في الطرح وبناء هيكل ومعمار القصيدة، وأخيراً الدعوة لنشر المبادئ الأخلاقية السامية.

وتأسيساً على هذا يمكننا القول أن جهد أدب المرحلة الأولى من أدب المهجر كان تأسيسياً لقواعد الخروج على مألوفات ومحددات شكل القصيدة العربية الموروثة في ناحيتي الشكل والمضمون، رغم أن هذا الخروج لم ينطوي على عملية هدم تامة وإعادة بناء جديدة، كما هو حاصل في عملية التجديد التي شهدتها الأنظمة والبنى الثقافية لدول المهجر التي لجأ إليها شعراء العربية المهاجرين.

أما أدب المهجر العربي الحديث، والذي يمكن تقسيمه إلى موجتين، رغم (شفافية) الفاصل بينهما. الموجة الأولى وهي التي بدأت مع أواخر عقد الخمسينيات من القرن العشرين، أما الموجة الثانية فهي التي بدأت مع بداية عقد التسعينات من القرن العشرين وبلغت ذروتها مع بداية الألفية الجديدة، أي مع الغزو الأمريكي للعراق في 9 ابريل 2003 وما تلاه من ثورات الربيع العربي.

من بين أهم خصائص ومميزات المرحلة الثانية من أدب المهجر العربي، وبموجتيها، هو عدم اقتصاره على الشعر، كما في مرحلته الأولى، بل توسع النتاج الإبداعي ليشمل جميع الأجناس الأدبية، شعراً ونثراً، مع إيلاء أهمية خاصة للسرد وفن الرواية، لما يتوفر عليه هذا الجنس الإبداعي من مساحة في العرض والطرح والمعالجة للمشاكل والاشكاليات التي تواجه الانسان عموماً، واللاجئين والمغتربين خصوصاً، من عرض مشاكلهم، وخاصة أن هجرة واغتراب المبدعين هذه المرة لم تكن خياراً شخصياً، بل تمت تحت ضغط ظروف واشكالات قهرية، سياسية وايديولوجية وما تفرع منها من حروب وأشكال الاضطهاد والقمع الديني والطائفي ومصادرة حق التعبير عن الرأي.

الرواية المهجرية وسقف التنوع:

من دون أن نغفل دور الشعر ومساحته التعبيرية في أدب المهجر، وفي كلا مرحلتيه، إلا أنني أجد أنه من الانصاف والمسؤولية أن أعرض هنا لمساحة السرد الواسعة التي تمظهر عبرها ابداع المرحلة الثانية من أدب المهجر، بسبب تصدر الرواية، كوسيلة تعبير أدبي / ثقافي لعموم الساحة الأدبية وفي جميع دول العالم، حتى أطلق الكثير من النقاد والدارسين على عصرنا الحالي عصر الرواية، وهذا لم يأت من فراغ، إنما لجملة من الأسباب الموضوعية والفنية الإبداعية التي يمكننا اجمالها كما يلي:

1 – لما تتوفر عليه الرواية من مساحة للطرح والعرض، حيث أن الرواية الحديثة، ومن ناحية معمارها التراتبي، تمثل وتسمح بإنشاء عالم متكامل من الحيوات والشخصيات والتقاطعات التي تسمح بعرض مشاكل عينات أو تجمعات اجتماعية واسعة، وهذا ما يتيح للروائي إعطاء صورة متكاملة الأبعاد عن المشكلة التي يعرض لها.

2 - الرواية هي الجنس الذي يصنع قواعده خلال فعل تشكله، سواء الفنية أو الثقافية الاستهدافية للعقل والذائقة الثقافيين لأي مجتمع من المجتمعات، وعليه فإن الرواية وحدها القادرة على الإحاطة وإبراز أوجه تأثيرات المشاكل الكبرى وتسليط الضوء عليها.

3 – ومن حيث كون الرواية تمثل مقترحاً ثقافياً بالدرجة الأولى، فإن معطيات الحكي فيها وتعدد مستوياته، تمنحها القدرة على العرض للمشاكل بما يمنحها الاستمرارية والمطاولة في التداول القرائي والدراسي، أي إنها ليست كالقصيدة، في منبريتها وايجازها، تقرأ لمرة واحدة (وتنسى).

4 – تعتمد الرواية على الحكي (المباشر) في توصيلها لمقولتها أو رسالتها، وهذا ما يتيح لها، وعلى خلاف القصيدة (التي تعتمد التكثيف والمجاز والرمز والصورة)، الوصول إلى أوسع مساحة اجتماعية على مستوى التداول والقراءة.

لهذه الخصائص وغيرها أيضاً، احتلت الرواية المساحة الأكبر، من بين وسائل التعبير في الأدب المهجري الحديث، وهذا ما نجد أوسع أمثلته تمثلاً في أدب المهاجر والمنافي للأدباء العراقيين والسوريين، على حد سواء، باعتبارهما الشعبين الأكثر توزعاً في منافي الأرض حالياً، بسبب ما عانياه من ويلات الحروب وبطش أنظمتهما الدكتاتورية المستبدة.

أدب المهجر واشتراطات الحداثة:

لا أحد ينكر ما قدمه ويقدمه أدب المهجر، وبكافة أجناسه ووسائل تعبيره، من دور في تصوير معاناة الشعبين العراقي والسوري، في الداخل والمنافي، على حد سواء، وفي تقديم صوراً مركزة عن هذه المعاناة إلى المجتمع الدولي ومحافله الثقافية والمدنية المهتمة بحقوق الإنسان. كما لا ينكر أحد أن هناك أسماءً روائية تميزت في تقديم روايات متميزة من الناحية الفنية والجمالية، بين أدباء كلا البلدين، سواء ما عكس منها معاناة مواطني البلدين أو في الإبداع العام. إلا أننا وإذا ما نظرنا لحجم هذا المنجز  نلاحظ أن قسماً كبيراً منه قد انكفأ في الرؤية الإبداعية وجافا اشتراطات الحداثة، وعليه فإنه لم يقدم روايات كبيرة يمكن الاعتداد بها وتقديمها كمنجز ابداعي يعكس مستوى ثقافي كبير، بل حتى إن الكثير منها لا يمكن إدراجها تحت أكثر من تصنيف أدب الهواة.

وهذا يعني أن الكثير مما كتب تحت ضغط المعاناة من أثر الاغتراب ووحشة ومعاناة المنافي، لم يكن أكثر من حكايات لبث الشجون والتحسر، في حين أن الرواية لها اشتراطاتها الإبداعية، وخاصة بالقياس للمنجز الإبداعي العالمي في مرحلة ما بعد الحداثة التي نعيش مرحلة توهجها الآن.

 الرواية عالم مقترح وبديل للواقع المعيش، وعليه فإن هذا العالم الذي يقترحه كاتب ما، يجب أن يتوافر على عناصر غير العناصر التي يعيشها الواقع، أو تنسجه عنه الحكاية، بشكلها التجميلي. وهذا يعني أن الرواية لا تعني ولا يجب أن تكون صورة فوتوغرافية عن الواقع، وأيضاً ليست صورة فوتوغرافية (معدلة على الفوتو شوب) لتناسب (قيم) وعادات ومعاناة مجتمع ما في مرحلة ما؛ بل إن الرواية عامل خلق ازاحي، يقوم على فكرة اقتراح البديل المتوافر على عناصر الدهش والقدرة على توريط المتلقي في قبوله والتفاعل معه، كعالم بديل، قابل للحياة، لتوافره على عناصر وجماليات يفتقر إليها الواقع .وبهذا المعنى تكون الرواية عملية التواء وليّ الواقع المعاش ليكون العمل الروائي أكثر جمالاً وأكثر قدرة على الحياة بذاته، وأكثر امتلاءً بذاته، وأكبر قدرة على استيعاب عمليات الإحلال وجدلياتها، وتقبل مضافات فعل الحياة خارج إطار المعهود والمتقبل، بما يسمح بكسر القوالب وإعادة تلوين بعض أجزاء اللوحة، بما لم تألفه الذائقة العامة، وخاصة عندما يتصدى العمل لطرح صورة معاناة أو صوراً عنها.

الرواية وحتى إن كان موضوعها المعاناة أو تحدثت عنها، فهذا لا يعني تحويلها على مجرد بكائية وأن يعلو صوت النواح من بين صفحاتها، إنما يجب أن تعطي صورة وافية عن تلك المعاناة من دون غم القارئ.

الرواية في الأساس، جنس ابداعي لتدوين الاقتراحات الجمالية وطرح البدائل، وأيضاً لتسجيل الاحتجاج على مفارقات واختلالات بنية المعاش اليومي.  ووفق هذا التصور، تكون الرواية عملية خض وتقويض لمألوفات البنى الاجتماعية والسياسية والقيمية الشاذة، من ناحية، وعملية ردم لفراغات الحياة، وما اصطلح عليه بقوانينها، بالخيال، من ناحية أخرى، من أجل أن تكون أكثر جمالاً، وأكثر انسجاماً مع نوازع الإنسان واشتهاءاته، وعليه فإنها يجب أن تكون عملاً جمالياً بالدرجة الأولى، قبل أن تكون سجلاً تقريرياً لأوجه معاناة الإنسان ومهما كانت الضغوط التي يرزح تحتها.

ومن هنا أقول أن الكثير مما أنتج من الروايات خلال فترة حروب البلدين، وسواء في الداخل أو في المنافي والمهاجر، كان أعمالاً تفتقر للشروط الابداعية ولجمالياتها الفنية، من دون توقف كتابها أمام حقيقة أن الرواية فن ابداعي جمالي وليست تقريراً صحافياً عن حالة معاناة ما.

***

الدكتور سامي البدري/ أكاديمي وروائي عراقي

(أول نجاح لخيال الشاعر هو الابتكار أو العثور على الفكرة)

الشاعر والناقد الإنكليزي "جون درايدن"

***

النص:

لـو أنني الربيـعُ

لـمـا تـركـتُ صـحـراءً إلآ وأقـمـتُ فـيـهـا

مـهـرجـانَ خُـضـرتـي ..

*

لـو أنني الخـريـفُ لانـتـحـرتُ

كـي لا تـحـنـي الـوردةُ رأسَـهـا

خـجَـلا ً مـن الـفـراشــات ..

*

لـو أنني مـطـرٌ لـَواصــلـتُ بـكـائـي

كـي تـضـحـكَ الـسـنـابـلُ

وتـسـتـعـيـدَ الـجـداولُ الـخـرسـاءُ حـنـجـرةَ الخـريـر ..

*

لـو أنني ســوطٌ

لـَـجَـلـدتُ الـجـلاّد ..

*

لـو أنني فِـراءٌ

لـَـكـسَـوتُ أقـدامَ الـحـفـاة ..

*

لـو أنني طـاعـونٌ

لاتـَّـخـذتُ لصوصَ المنطقة الخضراء

حـقـلاً لِــمِـنـجـلـي ..

*

لـو أنني كـرسـيُّ عـرشِ قصـر الـخـلافـة ِ

لـَتـحـوَّلـتُ الـى خـازوق

كـي لا يـتـقـاتـلَ الـدهـاقـنـةُ مـن أجـل الـجـلـوس عـلـيَّ !

*

لـو أنني حـرف الـراء

لـهـربـتُ مـن كـلـمـة " الـحـرب " ..

***

القراءة:

يمثل العنوان مفتاحاً إجرائياً في التعامل مع النص في بعديه الدلالي والرمزي، والشاعر "يحيى السماوي" أختار عنواناً يمثل علامة سيميائية دالة على ذات مأزومة، جاء منسجماً مع سياق النص، وكأنه لبنة من لبناته، فجملة (لو أنني)، جاءت كمدخل خطابي، إنفعالي، ذاتي، داخلى، مونولوجي اعتمد الحوار الداخلي لطرح أمانٍ  تعكس رؤى الشاعر، وجدل الواقع، فكان نتاج تداعيات مرتبطة باحتمالية، فرضها عنوان (لو أنني)، ترتقي الى جدل الذات مع الواقع، فنرى العنوان مهيمناً على الكينونة البنيوية للنص، كاشفاً دلالات ورؤى المتن النصي، وعليه جاء وفق مبنى، ناشئ عن تمنّ، ومترابط مع المضمون والحدث النصي، تاركاً أثراً في أجزاء النص، كلازمة متعددة المعنى، إبتلع بها الجزء الأكبر من مساحة النص. وأخضع النص لسلطته المركزية حين تجلى حضوره الفعلي في كل أجزاء النص.

الحرف (لو) حمل عنوانا ودلالاتٍ وأساسا قام عليه النص، وأعطى أشكالاً زادت من جمالية النص الشعري مع كل ما يحويه من ألم وجداني، كونه حافظ على الدلالة برموز مختلفة، وأكسب النص إيقاعاً داخلياً، فهو حرف دال على العرض والوصل والتمني، فالدلالة اللغوية للحرف (لو) تتحكم في الصورة الشعرية في إيجاد معنى دلالي وفي تأويل الحدث.

عندما ندخل فضاء النص نجد أن الشاعر اشتغل على تجزئة وتفكيك النص الواحد الى نصوص، و(تجزئة النص هي عملية تقسيم النص المكتوب إلى وحدات ذات معنى)، يكتب الشاعر "يحيى السماوي" نمطا شعريا إبداعيا، في أغلب كتاباته، فهو يقدم نمطاً تعبيرياً متميزاً بمعطياته الفنية وتقنياته الشكلية والأسلوبية (صورة وتخييل ورؤية مكثفة)، وأبرز تجليات هذا النمط الشعري تقسيم النص الى أجزاء نصية تخضع لرؤية الشاعر، فهو حريص أن يجعل أجزاء النص تتعالق مع بعضها.

في نص (لو أنني) جاءت أجزاؤه مترابطة مع بعضها وبمعانٍ متعددة، ذات طاقة جمالية عبارة عن لوحات تعبيرية مدهشة، فهي تمثل جزئيات متكاملة لنص كلي، تتناغم مع المعنى والسياق العام للنص. هذه التعددية في الأجزاء تؤدي الى تعدد المعاني والدلالات وتلتقي بالتمني. لقد (اعتبر النحاة الاتساق بين أجزاء النص وتناغم المعاني والألفاظ ركيزةً أساسيةً في قبول النص لدى المتلقي).

نحن أمام بناء نص يتغذى على مفردات واقعية ووقائع يومية معاشة، حولها الشاعر الى رؤى. كانت الحالة النفسية هي نقطة انطلاق الشاعر، فنرى النص جاء متكاملاً، دقة في المعنى، وجزالة في اللفظ ، يتفاعل داخلياً ويؤثر نفسياً وانفعالياً، ويعبر عن حالة من الإغترابِ النفسي تتملك الشاعر، في عمق ذاته تمنٍ يشكل عمق رؤاه، ووفق هذا التمني يعيد تشكيل ذاكرته، فهو يحاور ذاته ويتمنى أن يفهمها الأخر بوضوح. فهو يتحدث ببساطة وعفوية ولغة تقترب من لغة التخاطب اليومي. كذلك يحمل النص إيقاعاً يختزل فيه جملاً متدفقة المعاني دالة على التمني في إطار (ومضة الشعرية).

الشكل مفهوم يخلق رؤية تحرك النص وتنتج دلالة وتصورات ذهنية، وهو (تشكيل بنائي للغة داخل النص الأدبي وإنتاج للمعنى والدلالة)، ويمكن الكشف عنه في نص الشاعر "يحيى السماوي" النابع من سيميائية كل جزء، من خلال التحولات الأسلوبية والإيقاعية والتشكيلية التي تقدمها هذه الأجزاء، التي بنيت على تنوع الإيقاع الشعري والتكثيف والإختزال وتعدد الصور الشعرية.

يتألف النص من ثمانية أجزاء، متفاوتة الطول والقصر وفق تدفق شعوري، في كل جزء رؤية مختلفة عن الأخرى، كتبها الشاعر "يحيى السماوي" عن وعي ورؤيا فنية، وأسلوب سردي، ينتج فضاءات شعرية مترابطة، تعكس صورة الإنفعال النفسي وتأثيراته.

أستعمل الشاعر سمة فنية في عرض النص، حين وزع النص على محورين شكّلا البؤرة المركزية فيه وهما؛ المحور الاول، نص شعري يظهر في طريقة بنائه، والمحور الثاني، نصٌّ  سرديٌّ ، يسوق الحادثة ويعنى بتفصيلها، ويعيد تشكيل النص في قالب فني، يجعله يرتقي في قدرته على تصوير الحالة والتعبير عنها.

في النص هناك تدرج في تشكيل الصورة الشعرية لكل جزء، فكل صورة لها مفرداتها وأفكارها ومضامينها، في هذا التدرج انتقل الشاعر من أزمته الفردية التي هي أزمة انكسار الذات تجاه قضاياه الى أزمة الإنسان بصورة عامة.

الشاعر "يحيى السماوي" في النص هو المرتكز بمعاناته وقضاياه النفسية والاجتماعية والسياسية، وتجربة لها الأثر والقيمة الدلالية، يمكن أن نصل من خلالها إلى إدراك هذه التجربة.

ومن أجل أن نصل الى خاتمة النص والمعنى الكامل له، نقول إن النص هو اجترار ما يراه الشاعر في حياته، والتغيير الذي يريده هو جدلية الحوار الداخلي بين ذاته والظروف المحيطة به التي لا يمكن تغييرها وفق ما يريد. إضافة الى أن للنص امتدادات فكرية هي خارج إطار النص الشعري.

***

بقلم: حسين عجيل الساعدي

التنوع الشعري في الأسلوب والصياغة والاختيار المفردات اللغوية الملائمة في الحياة اليومية، هي من صميم الإبداع المتجدد، ومن مهارات الشاعر المبدع في حقول التجريب والابتكار في النص الشعري، بدون شك ليس العملية سهلة الانقياد، بل تعتمد على الخبرة والكفاءة والموهبة بالخيال الفني الخصب، وسعة الثقافة ومعارفها، ومدى مداركه في استلهام مفردات الواقع والحياة اليومية لتكون لغة في النص الشعري، ولكي يخرج الشاعر من عباءة النمطية الواحدة في التقاليد في المألوف في النص الشعري الشائع، ان يحاول ان يكسرها بالتجريب والتحديث المتنوع، في اعادة صياغة الشكل الفني في النص، توظيف اللغة اليومية، التي تترجم حواسه الداخلية، ومداركه، ولكي يدعم الرؤية الفكرية والسياسية، التي يدعمها ويؤمن بها في ذهنية ووعيه، ومن اجل التواصل المبدع في النص حديث الابتكار، في الخلق والتكوين والتركيب، أن يكون النص الشعري محملاً بالمعنى والايحاء والمغزى الدال. نجد في هذا الديوان الشعري (للريح.... تركنا قمصاننا) ينحى في هذا الاتجاه ببراعة التحديث والابتكار. بأن يصل الى هدفه التعبيري مباشرة، دون غموض وإبهام، ليعطي الابعاد الحقيقية للصراع الإنساني والوطني الدائر، اعتقد نجد في النص الشعري لقصائد النثرية لهذا الديوان الشعري، هو مرحلة متقدمة ونوعية من تجربة الشاعر (محمد الماغوط) في القصيدة النثرية، ان يمتلك النص صياغة حديثة ولغة تنطق بالحياة اليومية، رغم بساطتها لكنها تمتلك البعد التعبيري والفكري في عميق الدالة والاشارة، التي تترجم احلام وتطلعات المحرومين والمسحوقين والكادحين المنتمين الى الوطن، في صراعهم وكفاحهم باصرار عنيد حتى لا يكونوا قطب ضعيف يتلقى الصفعات والهزائم والاحباط فقط، وهم يسير في طريق مذبح الحرية، واجد في النص الشعري يمتلك مميزتين ظاهرتين بشكل جلي، ويخفق بهما عالياً في النص، فالى جانب الصياغة الحديثة في الشكل الفني، هناك ميزة مهمة وهي في بنية عماد بناء القصيدة، وهي تكوين وتركيب وتعوين الصورة الشعرية، بأسلوب يختلف عن النمطية السائدة في الشعر، لان من المألوف في الشعر، بأن الشاعر يحاول يلملم او يجمع الاجزاء الصورة الشعرية، في رسم معالمها وتفاصيلها الدقيقة، حتى يصل في النهاية الى الصورة الكلية أو الصورة الكاملة في النص الشعري، قصائد هذا الديوان تتجه العكس تماما، يعطي الصورة الكاملة دفعة واحدة، ويرسم عليها التفاصيل ومعالم اجزائها بعد ذلك، في توظيف مفردات لغوية معينة، تمثل معنى الصورة الكلية، ويعطي قيمة في الرؤية الفكرية في التشكيل الفني، فى حجم الصورة الشعرية، مثل: صورة السجن. أو صورة الحلم. او صورة الوطن، أو صورة عشاق الوطن. أو صورة الأغنية وصوتها. صورة الترنيمة و شغافها. صورة المطر.... الخ. ويكون التصوير الشعري، يملك عنوان وهوية ودلالة وإدراك....3486 عبد السادة البصري

نستشف بعض هذه الصور المختارة من قصائد الديوان الشعري.

- صورة عشاق الوطن: وهم يقاسون من المحن والأهوال، من عذابات الزنازين والحرمان، من لوحات رعب وتهديد حتى الموت، كأن عشق وحب الوطن، أصبح جريمة لا تغتفر، يعاقب عليها القانون بصرامة قاسية لا ترحم. لكن مع هذا التعسف الظالم، يبقى الاصرار بحمل حب الوطن في قلوبهم. رغم انهم لا يملكون شبراً.

المنتمون بعشق الوطن،

المغروسون بطينه،

المتجذرون في أرضه حد الانصهار،

الذين لا يمتلكون شبراً

وحدهم

وحدهم

لن يفرطوا به ابداً

*

وحدهم

وحدهم

المنتمون / العاشقون / الماسكون على الجمر / الباذلون /

الذين لم يمتلكوا فيه شبراً

هم الذين يحملونه في القلب ايقونة

مساءاتهم ترقب وأحلام

صباحاتهم أمال لن تنتهي

 من قصيدة: وحدهم المنتمون اليه حقاً

- صورة العتاب: العتاب والشكوى تدور في أعماق هواجس احباب الوطن من قسمة ضيزى، لهم الفتات والحصرم والعجاج، والناكثون والفاسدون، والذين يقطعون أوصال الوطن، لهم النعيم والجنة.

لماذا..... يا وطن

عناقيد عنبك الداليات،

يقطفها....

الناكثون / المارقون / الفاسدون.....

وليس لأبنائك الصالحين،

سوى..... الفتات والحصرم ؟؟

 من قصيدة: عتب

- صورة الغناء: الغناء هو تأكيد ورغبة وطموح في استمرارية البقاء في الحياة. لذلك يصدح الغناء من كل الكائنات الحية، لتؤكد وجودها القائم، فنسمع غناء الاطفال في الشوارع. غناء الفلاحين في الريف والاهوار. غناء التلاميذ في المدارس. غناء الكادحين في المعامل، حتى للحزن والضحك والفرح والثكالى وهديل الطيور والحمام لهم اغاني خاصة، وفي الحلم أغنية. للوطن له اغنية وحكاية.

يحلم... ويغني

يكدح.... ويغني

يضحك.... ويغني

يبكي.... ويغني

في كل هذا الغناء

كان الوطن... الحكاية !!

 من قصيدة: للروح غناؤها الخاص جداً

- معالم صورة الوصية: الوصية هي أمانة في الضمير والقلب، أن يحافظوا عليها كما يحافظون على حدقات عيونهم، انها عهد وناموس.

ذات مساء

وهي تجلس قرب موقدها

و كالعصافير،،

كنا نتحلق حولها

قالت:

يا أولادي،،،

أياكم والغفلة،،

هناك أفاعٍ رقطاء

تغدر بالطيبين دائماً

فكونوا حذرين !!

 من قصيدة: الوصية

- صورة الحلم: الحلم منبع الاحساس وهواجسه خلجاته، تمور في الروح والعقل الداخلي، وتكشف الرغبة، تداعب هموم الحالمين في تداعيات الأرق.

حلمت،،

أن أكون فراشة

غادرت الزهور حديقتي

وحين داعبتني الاحلام

سافرت المسافات في جيبي

وعاشرني الأرق !!

 من قصيدة: الحلم

- صورة الكرسي: التعطش على اعتلى الكرسى بهوس ونهم مجنون، يفقد الإنسان قيمته وانسانيته ويتحول الى سفاك للدماء، من اجل الحفاظ على الكرسي، ولكن لا يعلم هؤلاء بهذا الهوس، بأنه سيصبحون عميان فاقدين البصر والبصيرة. بأن نهاية الكرسي حطباً.

كم أنت أعمى بصيرة،

واصم،

ومتعطش للدماء،

أيها الكرسي الأجوف

الذي تنتهي حطباً ؟!

***

* الكتاب: ديوان شعر (للريح... تركنا قمصاننا)

* اسم المؤلف: عبدالسادة البصري

* لوحة الغلاف: شفاء هادي

* الطبعة الأولى: عام 2021

***

جمعة عبدالله

الى الحلّه خاصرة الفُراتِ وخصرُه، والى بابل التاريخ للشاعر د. مصطفى علي

إستهلال: الحلّة درة الشرق وقبلة الغرب، شمس الحضارة وبوابة العلم والثقافة والفنون، تلك المدينة الوديعة كيمامة بيضاء ارتشفت الزلال من فراتها العذب، واستظلت بنخيل ضفافها شغفا وامتنان.

أمواج شواطئها تتغزل بفيافي الشناشيل التي تتأبط أحضانها الدافئة فرحا وانتماء.

هذه المدينة الساحرة المعروفة بحسبها ونسبها وكرم أهلها وطيبتهم وثقافتهم وقدرتهم الهائلة على احتواء الآخر قد تغنّى بها العديد من الشعراء، من أبناء المدينة ومن شقيقاتها، ونحن اليوم أمام قصيدة تكاد أن تكون صرحًا ولوحًا ومعلقة تنال وبجدارة تعليقها على أسوار بابل، قصيدة كتبها الشاعر القدير د.مصطفى علي فأبدع..

بدءًا من العنوان البليغ الذي يستحق الوقوف عنده طويلا وتأمل دلالاته البليغة، التي تعكس ثقافة الشاعر الواسعة، والمقدرة الفريدة المتفردة على الابحار والغوص بأعماق المدينة الموغلة بالقدم.

وحقيقة من يقرأ القصيدة يشعر بنبض يسري في عروقه، ويتخيل التاريخ كشريط سينمائي لاينقطع، بل يكمّل بعضه بعضا كراكبٍ بقطار يرى كل التفاصيل ويقف عند كل المحطات.

لقد اختار الشاعر عنوانه بدقة (خاصرة) لعلمه بأهمية هذه المنطقة وتأثرها بالوجع واحتمالها لأي خلل أو ألم قد يصيب العمود الفقري، وهذا الاختيار يأتي من كونه طبيبًا وله باع كبير في مجاله الذي انعكس بطريقة أو بأخرى على نظمه للشعر فأبدع الربط، وأما من الناحية الشعرية فقد أجاد الوصف ونقل صورة شعرية في غاية الروعة فالخاصرة هنا تمثل ضفة الفرات كونه يمر بين ضفتين متمثلتين بشط الحلة الذي يقسم المدينة الى صوبين، صوب كبير وصوب صغير، وياله من وصف دقيق وصورة شعرية بمنتهى الجمال، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فقد أنسن الشاعر مدينة الحلة بوصف الخصر، بهذا السيل البلاغي العارم والقدرة الهائلة على ربط الماضي بالحاضر بهذه الروعة والجمال والابداع والمعرفة الواسعة بكل تفاصيل المدينة وتأريخها العتيق والحديث والمعاصر، بشخوصها وشخصياتها الفذة التي تركت بصمتها واضحة المعالم كنقش مسماري أصيل.

يبدأ الشاعر قصيدته بالبيت (وقوفا عند خاصرة الفرات) باشارة الى شط الحلة، وهي صورة شعرية شاعرية حيّة بل إنها تنبض بالحياة، كونها تصف الفرات بكل مايحمل من معانٍ.

وقد عمد الشاعر الى أن تكون قصيدته تأريخا كاملا وإرشيفا حضاريا زاخرا بكل كنوز المدينة بوصفها (أم المدائن).

فقد ذكر الشاعر في بيته الاتي (غدوت شقائق النعمان عطرا..وهند قصائدي بين البناتِ) باشارة الى هند بنت النعمان التي اشتهرت بجمالها وحسبها ونسبها، وهي شاعرة عربية، وابنة النعمان بن المنذر آخر ملوك المناذرة، وهي إشارة واضحة الى منزلة المدينة من المدائن، ثم يردف البيت ببيت أشد قوة وجمالا فيقول:

لماءِ سمائِنا الزرقاء ظبيٌ

فهل باتَ السديرُ بلاكماة

وهنا نرى صلة القرابة بين هند وماء السماء، وهذا الترابط الرائع بين الاحداث والصور المبهرة الدالة على ذائقة شعرية فريدة، فماء السماء هي أميرة جاهلية وكانت ملكة العراق، لقبت بماء السماء لانها كانت غاية في الجمال والجلال وكان المناذرة يفخرون بها ويقسمون بحياتها، ومن سلالتها ملوك المناذرة في مدينة الحيرة، وقد اتخذها العرب رمزا للفخر فهي زوجة امرؤ القيس وانجبت احد ملوكهم وهوالمنذر بن امرؤ القيس، والذي بنى قصر السدير في الحيرة قرب قصر الخورنق، فما أجمل هذا التقارب الوطيد بين الاحداث.

ويتدرج الشاعر برحلته التاريخية الادبية التي تتوقد شاعريتها صورا باذخة المعنى بليغة، نفيسة، عارمة تتوارى منها الكلمات خجلا أمام هذه العبقرية الشعرية التي انتهلت من زلال الرافدين دررابليغة تجود بشاعريتها كشلالات باذخة لاتنضب.

ليصل برحلته حيث يحط رحاله بدعاء صادق وابتهال فيقول:

أواسطة القلادة من بلادي

حماك الله من زيف الدعاة

لقد عبر الشاعر عن الحلة بصورة شعرية رائعة وهي (واسطة القلادة) باشارة الى جمال المدينة من ناحية وكونها تتوسط العراق من ناحية اخرى، وحقيقة فهي صورة باذخة الشاعرية أتت أآكلها مرتين.

ثم يصل الى ايقونة الحضارة الملكة سميراميس (سيمورامات) كما ذكرتها الاسطورة، وان شاب نشأتها الغموض لكنها كانت ملكة مقدسة،

امتازت بذكائها الحاد وجمالها الاخّاذ وقدرتها الهائلة على القيادة والحكم وادارة بلاد مابين النهرين.

ثم يقف الشاعر عند الجنائن المعلقة فيقول:

سلوا أُمَّ الجنائِنِ كيف أمست

بأهدابِ السماءِ معلقاتِ

هذه الصورة الشعرية الباذخة التي تشير الى روعة الجنائن المعلقة وطريقة بنائها وزراعتها وكل ماتحمل من جمال وابداع بطرق ريّها، ببديع أشجارها التي تعلقت وتسلقت، لتكون منارة العالم القديم وأَهَلَتها لان تكون تحفة العالم وإحدى عجائب الدنيا السبع، وكلمة (معلّقات) هنا احتملت التأويل فمرة جاءت بمعنى (المعلّقة) من التعليق ومرة جاءت بمعنى (المعلقة) من قصائد المعلقات.

وقد أشار الشاعر الى مسلة حمورابي بصورة بليغة فقال:

ومُذ أغوت حَمورابي الوصايا

فَلقنت الشرائع للقضاةِ

وهي إشارة واضحة الى اولى القوانين في العالم التي شرعها حمورابي لتكون دستورا للحياة ومازال الكثير منها نافذا الى الان..

وبالاضافة الى كل ماذُكر فقد ذكر الشاعر الكثير من التفاصيل المرئية والمخفية عن هذه المدينة بل تكاد القصيدة لاتخلو من معلومة عن المدينة، فقد ذكر مثلا:برج بابل وكيف تبلبلت اللغات عنده، وذكر هاروت وماروت، واشار الى العنقاء ذلك الطائر الذي يمتاز بالجمال والقوة وكيف ينهض من رماده ليحيا دلالةعلى القوة والاصرار والنهوض وحب الحياة فيقول:

إذا ماضجَّ في روحي العراقُ

أرى العنقاء فزّت من سباتِ

*

فحوّلت الرماد بريق ضوءٍ

لمنتجع الشقائق في رفاتي

وحقيقة فهذه الصورة الباذخة الجمال النفيسة المعنى التي تحاكي كل مغترب اضطرته ظروف الحياة للرحيل والهجرة، وتبقى فكرة العودة تراوده كل حين، ليبدأ من جديد.

وبعد أن ذكر الشاعر معالم المدينة القديمة بكل ذرها وكل تأريخها وحضارتها وتراثها وصل به الرحال الى حداثة المدينة، فتناول الشخصيات البارزة فيها وخصوصا الادبية التي تركت بصمة واضحة على ألواح المدينة التي اتسمت بكثرة مثقفوها وعلماؤها وادباؤها أمثال الشاعر الاسطورة بلبل الحلة الفيحاء مهد الوعي الشعري (صفي الدين الحلّي) وهو شاعر عربي من فحول الشعراء، ولد في مدينة الحلة وعاش في الفترة التي تلت سقوط بغداد-هذه الفترة التي سميت ظلما بعصر المغول - فلم يمت الادب وفيه فطاحل وفوارس أمثال صفي الدين، فقد برع بقصائده البديعة، ونظم بيتا لكل بحر سميت مفاتيح البحور ليسهل حفظها ومن اشعاره الشهيرة:

سلي الرياح العوالي عن معالينا

واستشهدي البيض هل خاب الرجا فينا

وكان أول من نظم البديعيات وله ديوان النحور.

ثم ذكر الشاعر الحلي المعاصر موفق محمد فقال:

(موفقُ) في حواريها يُغني

على عزف العواذل والوشاةِ

توضأ في قصائده فؤادي

ومرت كالسلافة في اللّهاةِ

الى تمثاله طفق الندامى

صعاليك المدينة كالغواةِ

والشاعر موفق محمد أبو خمرة من مواليد الحلة الفيحاء 1948 درس اللغة العربية والشريعة وعمل مدرسا للغة العربية، وقد امتازت قصائده بالتغني بشط الحلة، كيف لا وهو من ارتشف الدرمن عذوبة فراتها وانتهل الجمال والحنين من ظلال نخيلها فيقول في أحد قصائده:

عشرة أيتام

كنا حين ينام النهر ننام

في منتصف الليل

وفي محلة الطاق

حيث ينحت النهر خصره

تأخذ أمي مكانها في الشريعة

فيأتي النهر الى حضنها

هذا الشاعر الكبير الذي أحبه الناس كما تلامذته وخلده الانسان الحلي المثقف وقلدته الحلة السيفية بتمثال يخلده وهو على قيد الحياة تتويجا لمنجزه الادبي الثر.

ومن الجدير بالذكر أن اذكر إن الشاعر موفق محمد قد درسني اللغة العربية في المرحلة الثانوية، وقد عرف بالفصاحة والذكاء الشعري الغزير فقد كان يكتب الشعر الفصيح والشعبي على حد سواء، وقد رثى إبنه الشاب باغلب قصائده التي امتازت بوجع الفقد.

وإذا ما عدنا الى العنوان سنجد إن الشاعر مصطفى علي لم يكتفِ ب (خاصرة الفرات) بل ذكر (خصره) بإشارة واضحة الى الشاعر موفق محمد كرمز حي لمدينة الحلة.

وقد خاض الشاعر د. مصطفى علي في أعماق المدينة القديمة وأزقتها فهاهو يذكر (الطاق) أو كما يسمى بالعامية (الطاك) ويذكر(الجامعين) ووهما من أوائل الازقة في الحلة القديمة، ويسمى الزقاق في مدينة الحلة ب (العكد) ويقع (الطاك) الى اليسار من (الجامعين) بينهما زقاق رفيع، وسبب ذكر الشاعر مصطفى علي لهذين العكدين إن الشاعر موفق محمد قد ولد في عكد الطاك حيث تقطن عائلة أبو خمرة مع العديد من بيوتات الحلة القديمة.

إن الوفاء لمدن العراق الحبيبة يأتي من قوة انتماء ابنائها وتمسكهم بذرهم أنما يفرضه الإخاء الذي رواهم من زلال الرافدين، فكل عراقي شريف اغترف غرفة من دجلة والفرات تركت بشرايينه عرفانا لحب الارض والتغني بها، ومهما عصفت به رياح السموم سينهض كالفينيق من وجع الرماد.

***

مريم لطفي

........................

مصطفى علي: الى الحِلّه خاصِرةُ الفُراتِ

 

ينبني الكون كله على أضداد تشكل ثنائيات متقابلة بما فيها الطبيعة والبشر. لذلك فإن هذه الظاهرة تعكس طبيعة الأشياء وتعبر عن حقائق الحياة. ولعل تعقيدات هذه الحياة وتعدد صراعاتها وإدراك المبدعين لها ولأبعادها جعلت نصيب الثنائيات أكثر وأعمق في الإنتاج الأدبي. وقد كان لها دورا بارزا في بناء رواية آرام للكاتبة فاطمة هلالات، من إصدارات وزارة الثقافة/ ٢٠٢٢.

فالمتلقي لهذه الرواية لا بد أن يلحظ وجود مساحات ليست بالقليلة من خيوط الصراع الفكري والنفسي القائمة على التضاد الذي يعمل على إثارة هذا المتلقي وتحريك إدراكه.

فالتيمة الأساسية في الرواية قامت على جدلية الصراع بين ثنائية الواقع والحلم وكانت هي المركز الذي تدور حوله أعداد مزدحمة من الثنائيات الأخرى فعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر ثنائية الأمل/ الالم، الخطأ/ الصواب، الثواب/ العقاب، الموت/ الحياة، الحب / الكره، السكون/ الحركة. كل هذا في زمن كرونولوجي تكسره بعض من ذكريات وحنين للماضي.

فما بين ثنائيتي الواقع/ الحلم والسكون/ والحركة تقع تلك الثنائيات المتزاحمة والتي تطرح قضايا قد تكون سياسية مضمرة تارة واجتماعية تارة أخرى لا يسعنا الحديث عنها في هذه الدراسة لكن أرجو أن يتمكن المتلقي من التقاطها.

الواقع في الثنائية المركزية يقابله السكون ويتضاد مع الحركة في الثنائية الثانية والحلم يقابله الحركة ويتضاد مع السكون.

لذلك فإن هذا التضاد كان من العناصر التكوينية المهمة في الرواية،من حيث أنه يجعل أطراف الثنائيات في تلك العلاقة المستمرة من المواجهة التي تصنع القهر الذي يعاني منه يوسف حيث أمه التي نبذته لأنها اعتبرته نحسا عليها ،فعلى لسان يوسف ما جاء ص٤١" وأنا كل ما فيّ أحلامي،ماضيّ وحاضري،حتى مستقبلي أحلام ،رأيت فيها كل شيء إلا وجه أبي الذي مات بعد مولدي بأعوام قليلة،فنعتتني أمي عندما بدأت أعي، أنت نحس". أما زوجته فلم تبادله الإخلاص بمثله. وهنا تنتج ترجمة الواقع من خلال الأحلام. فنجد الكاتبة وقد افتتحت آرام بحلم ففي ص٩ تسرد لنا ذلك الحلم الذي يغير مسار حياة البطل ويستحثه للسفر والبحث عن كنه ذلك الاسم الذي أشار إليه الشيخ" أشار له الشيخ بسبابته إلى اسم أضيء بنور خفي المنبع وكان الرجل ينبهه إلى هذا الاسم بالذات ،وبحزم وإصرار:- إنها هي آرام". وهنا يدخل البطل في تيه هذا الاسم ،فيبدأ بطرح الأسئلة ص١٠" آرام، ماذا يعني هذا الاسم؟يبدو اسما لرجل أو لامراة أو اسم مكان ربما قصيدة!" وهنا نقف وجها لوجه أمام ثنائية السكون/ الحركة، البحث عن آرام يكمن بترك الاستقرار في قريته.ففي ص٣٤ على لسان الساردة" اتبع حلمك أينما كان... هذا كل ما تبقى لديه أحلام..سأبدأ في مكان آخر ،ذقت الأمرين أشتهي النسيان" هكذا اتخذ يوسف قراره بالسفر إلى بلد آخر حين اشتدت به الوحدة" فحلمه شجع اغترابه على السفر آملا بالعثور على الهدوء والأمان.

والثنائيات الضدية في آرام تجاور بين قساوة الواقع والنظرة الشعرية في سحر التخييل الذي يرى الجمال حتى في القبح، فآرام لم تعتمد على ما يقال إبداعيا، ولكنها اعتمدت على الكيفية التي يصاغ بها ما يقال إبداعيا. فالكاتبة تبعدنا من خلال الأحلام والتخييل عن الواقع بهدف أن نعاود النظر إليه من خلال عدسات ذلك الحلم إلى عوالم أخرى وأشخاص آخرين من خلال دوال لافتة تدفعنا إلى التحديق فيها قبل أن تنتقل منها إلى ما يقع وراءها من مدلولات. لذلك كانت الدوال في هذه الرواية أكثر أهمية من المدلول. والبعد عن الموضوع المدرك خير وسيلة لتأمل تفاصيله الدقيقة. وهنا تكمن رهافة العمل الذي جعل يوسف يطل على الواقع من خلال أحلامه فيدفعنا لمشاهدته على نحو أدق وهنا يجعل منا طرفا في صنع دلالاته من خلال الحدود الفاصلة بين الواقع/ الحلم والموت/ الحياة والسكون/ الحركة.

والمتتبع لعلامات التضاد يلاحظ بأنها تمثل المحور الرأسي من بداية آرام وحتى نهايتها وأقصد هنا المحور الذي تتقاطع فيه أفقيا الأحداث الخاصة ببطل العمل يوسف فضلا عن الحيوات التي عاشها في البلدان الثلاثة التي قصدها وعمل بها فمن ثنائيات مثل الحزن/ الفرح ،الحضور/ الغياب مع صديق عمره في إيطاليا إلى ثنائية مثل الإخلاص/ الخيانة في محطته الأخيرة والتي التقى من خلالها بآرام والتي في حقيقة الأمر ما هي إلا السكينة والهدوء التي بحث عنها طيلة صفحات العمل. وقد التقى بها في أصعب مكان وهو محكمة البشر التي لا تنصف البريئ وهي عون لكل ظالم. لذلك تقدم الكاتبة على تحويل ذلك المكان ببشره إلى تماثيل في دليل صارخ منها على رفض لتلك القوانين البشرية. فيوسف وجد سكينته وأمانه في نهاية البحث لكنهما غير متاحين للجميع ويتجلى هذا في المشهد ص١٨٧ فمما جاء على لسان الساردة" تحول المكان بشخوصه إلى معبد وتماثيلحياديي الملة والدين بدءا من المحكمة والقاضي وحتى ظل الشجرة ،حين تكون الأدلة غير كافية لإقرار براءة مظلوم أو لإدانة ظالم وحين يكون الحكم حكما غيابيا من أحكام الأرض حكما لا يشبه أحكام السماء".

ثم في شيء من الفلسفة ترسم فاطمة هلالات لنا أحكام الناس عند مشاهدتهم لتمثالي يوسف وآرام بدءا من الخبير إلى الزاهد المتعبد وصولا إلى الطبيب النفسي وكيف كان كل منهم يحكم من زاويته الخاصة.

ويظل الحلم هو الأمل هو الملجأ الذي يهرب إليه بطل آرام عله يحصل على الهدوء والأمان...وتظل صرخته تردد "رأيتك في حلمي" صرخة يسمعها قاطنوا حي المحكمة...

بقي أن نقول أن التفاعلات بين طرفي التضاد وصلت بنص فاطمة هلالات إلى قمة سحره وتمايزه وبهذا التفاعل تشكلت الصورة وأبرزت الجمال وأنتجت الدلالة وعمقت المعنى. كما أسهمت ثنائية الواقع/ الحلم في رسم الحدث الأساسي في الرواية ودفعت بعملية السرد للسير قدما صوب النهاية.

***

قراءة بديعة النعيمي

الملخص: تهدف الدراسة إلى الكشف عن البنى الشعرية الجمالية التي تحكم فاعلية الرؤيا الجمالية  في قصيدة (قريتي) من حيث القيمة والفاعلية والتأثير؛ لاسيما إذا أدركنا أن القصيدة – عند العجمي- حقل جمالي من المتغيرات الجمالية التصويرية التي تجعل القصيدة نقطة فاعلية المثيرات الجمالية في الشكل اللغوي والإيقاعي، والموسقة الجمالية التشكيلة في ربط الكلمات وتوليفها واستثارة إيقاعاتها الجمالية، وهذا يعني أن المتغير الجمالي في قصائد العجمي متغير بؤري تحفيزي يستثير الرؤيا الجمالية من العمق من خلال بلاغة التوليف الجمالي الشاعري وربط الأنساق الشعرية بروابط تفاعلية استثارية تجعل النص الشعري لحمة متكاملة جماليا من خلال حنكة الشاعر الجمالية  في الانتقال من صورة جمالية إلى صورة تحقق إيقاعها الجمالي ومتحولها الشاعري المميز.

ولهذا، فإن البحث في الشعرية هو أولاً وأخيراً بحث في المؤثرات الجمالية التي تنبني عليها القصيدة  في حركتها ومتحولها الجمالي، لاسيما إذا أدركنا أن اللعبة الشعرية لعبة مؤثرات ومتحولات جمالية في قيمها وبناها ومؤثراتها الجمالية؛ والشاعر المبدع أو المتألق جمالياً هو الذي يشكل اللغة تشكيلاً انزياحياً خلاقاً  في إنتاج التفاعلات النصية الآسرة التي ترتقي برتم الشعرية من نسق جمالي إلى آخر. لتغدو الشعرية ذات قيمة استثارية تجاذبية ترتقي بالمتخيل الجمالي لقصائده على المستوى الإبداعي والقلقلة الجمالية.

ومن هنا سيكون منطلقنا الجوهري الرئيس انطلاقاً من شعرية الكلمة، وإيقاع متحولها الجمالي إلى إيقاع الجملة ومتغيرها الجمالي المثير على المستوى النصي، ومن ثم إلى الفضاء النصي ككل الذي يحكم جمالية الرؤية الكلية التي تطرحها القصيدة في متحولها ومتغيرها الجمالي الشاعري. ووفق هذا التصور، فإن جمالية الرؤيا الشعرية تنطلق من فاعلية البنى والمتغيرات والمؤثرات الأسلوبية التي تنقل القصيدة من متغير اسمي إلى متغير  فعلي، تبعاً لغنى الشعرية ومعطياتها الجمالية. لأن الشعرية كتلة تفاعلات وتجاذبات نصية استثارية تربط الأنساق الشعرية، وتحرك المخيلة الجمالية لتزدهي القصيدة وتنتشي بإيقاعاتها التشكيلية كافة.

نص القصيدة:

قريتي من ذِكرياتٍ وَحجَرْ

ورسومٍ من خيالاتِ البشرْ

 *

وحنينٍ في جدارٍ لم يزلْ

حاملاً من سقفِهِ بعضَ الأثرْ

 *

وبُيوتٍ في البراري سَرَحَتْ

لفَّها في حُضنِهِ قلبُ الشَّجرْ

 *

وسماءٍ يسبحُ الطَّيرُ بها

غيمُها الأبيضُ قطنٌ وَصُوَرْ

 *

قريتي حبٌّ وأنسٌ فائضٌ

وليالٍ من حكاياوَسَمرْ

 *

ونجومٌ كصبايا شَعْشَعَتْ

تطلقُ النّورَ فيصْطافُ النَّظرْ

 *

وربيعٌ صدحَ الغُصنُ بهِ

علَّقَ العُشَّ بأكتافِ الزَّهَرْ

 *

كمْ خريفٍ كَشفَ السِّرَّ لها

وغدا يغسلُ رِجْليها المَطَرْ

 *

وجهُها شمسٌ حقولٌ ودُررْ

صيفُها الحُلوُ سِلالٌ وثَمرْ

 *

قريتي زرعٌ وخيرٌ دافقٌ

وكنوزٌ بترابٍ تُدَّخرْ

 *

وجدودٌ سِدرةُ المجدِ لهمْ

شأنُهم عالٍ وفيهِمْ يُفْتَخَرْ

 *

قريتي من سنديانً شامخٍ

يَجْبَهُ الرِّيحَ ويجتازُ الخَطرْ

 *

وَقَفَتْ فوقَ الرَّوابي عالياً

لَثَمَتْ عندَ المسا ثَغْرَ القمرْ

 *

وجمال وصفاء قريتي

لرضاها مبدعا غنى الوتر

***

البحث:

 تعد الشعرية ذروة ما تسعى إليه النصوص الشعرية المؤثرة في خلق متعتها واستثارتها الجمالية،لأن قيمة الكلمة لا تتأتى شعرياً إلا من خلال تضافرها وانسيابها الجمالي وتوليفها الشاعري المثير في النسق الشعري الذي تدخله؛ ووفق هذا التصور، فإن قيمة النص الشعري جمالياً لا تظهر إلا من خلال بناه اللغوية المثيرة وبنائه الفني المعماري المثير، وغناه بالتشكيلات اللغوية المنزاحة التي ترتقي فاعلية عليا في التركيز والتفعيل الجمالي.

والواقع أن الشعرية في قصائد وهيب عجمي هي شعرية رؤية فنية تشكيلية تعتمد بلاغة الصورة وقوة الجاذبية الفنية بين الأنساق الشعرية، لدرجة أن قصائده تشد بعضها بعضاً من خلال قوة التوليف الجمالي الشاعري، وشعرية متحولها الفني الجمالي المثير، ناهيك عن بلاغة اختيار الكلمات الشعرية في موقعها المثير لاسيما في القافية، وتوابعها في الأسطر الشعرية، مما يدل على أن العجمي يهندس قصائده هندسة جمالية في إيقاعها ومتحولها الجمالي المثير، كما في قوله في فاتحتها الاستهلالية الموفقة التالية:

قريتي من ذِكرياتٍ وَحجَرْ

ورسومٍ من خيالاتِ البشرْ

 *

وحنينٍ في جدارٍ لم يزلْ

حاملاً من سقفِهِ بعضَ الأثرْ

 *

وبُيوتٍ في البراري سَرَحَتْ

لفَّها في حُضنِهِ قلبُ الشَّجرْ

 *

وسماءٍ يسبحُ الطَّيرُ بها

غيمُها الأبيضُ قطنٌ وَصُوَرْ

 *

قريتي حبٌّ وأنسٌ فائضٌ

وليالٍ من حكاياوَسَمر"(1).

هنا، يبني الشاعر القصيدة بناء وصفياً استثاريا من خلال قوة الرابط الجمالي بين الصور والجمل الشعرية، وكأن الشاعر ينحت الصورة الوصفية  نحتاً جمالياً استثارياً من خلال قوة الرابط الجمالي في نقل الصورة من قيمة جمالية إلى قيمة وفق متغيرها الفني المثير، كما في التوليف الشاعري المتتابع الذي يرصد فيه الشاعر معالم قريته الجميلة وآثارها وطيورها وطقسها ومشاعره المحمومة حباً لكل صورة من صورها وأثر جمالي من آثارها، كما في بداعة الصور التالية:[ وبيوت في البراري سرحت لفها في حضنه قلبُ الشجر]، وهذا الأسلوب الاستثاري الذي اعتمده العجمي دليل قوة المخيلة الشعرية، ودهشة الالتفاف بالقارئ من صورة إلى صورة، ليحرك الايقاعات الجمالية التي تنبني عليها القصيدة في زوغانها التشكيلي المثير وانزياح متغيرها الجمالي.

ولو تأمل القارئ فاعلية التوليف الجمالي على مستوى اختيار الكلمات وتنسيقها واختيار إيقاعاتها الجمالية لخلص إلى  حقيقة مهمة في شعرية العجمي، وهي أن شعرية العجمي تؤسس إيقاعها الجمالي على حراك البنى الشعرية، وتوليف الكلمات المموسقة الغنائية التي تجعله الشاعر الغنائي الأول في بناء الإيقاعات المموسقة في اللفظ وبلاغة التنقلات المموسقة على مستوى الصورة ، من ناحية الحبكة الجمالية في ربط الكلمات وإبراز متغيرها الجمالي المثير، كما في قوله:

ونجومٌ كصبايا شَعْشَعَتْ

تطلقُ النّورَ فيصْطافُ النَّظرْ

 *

وربيعٌ صدحَ الغُصنُ بهِ

علَّقَ العُشَّ بأكتافِ الزَّهَرْ

 *

كمْ خريفٍ كَشفَ السِّرَّ لها

وغدا يغسلُ رِجْليها المَطَرْ

 *

وجهُها شمسٌ حقولٌ ودُررْ

صيفُها الحُلوُ سِلالٌ وثَمرْ"(2).

هنا، يثيرنا الشاعر بالانسيابية الجمالية على مستوى الصور، وبالألق الجمالي في  تصوير المشاهد التعبيرية الحية لقريته الجميلة من خلال وصف الفصول التي تمر عليها لتنقلها من صورة جمالية إلى صورة ، فهي في الخريف لاتقل جمالاً وجاذبية في الفصول الأخرى عن  الربيع أو الصيف أو الشتاء، فهي دائماً في اطلالة جمالية و خلق جمالي ومشاهد براقة بمعطياتها ومؤشراتها الجمالية، وهذا ما يظهر لنا من خلال بلاغة الصور والمحفزات الجمالية التي تثيرها في إيقاعاتها الجمالية، كما في قوله:[وربيع صدح الغصن به/ على العش بأكتاف الزهر- كم خريف كشف السر لها/ وغدا يغسلُ رجليها المطر]، ولو تأمل القارئ فاعلية الصور من ناحية قيمة الوصف ودقته لأدرك أن شعرية الوصف شعرية انتقالية علائقية البنى ، متحولة الدلالات من دلالة إلى دلالة، ومن رؤية إلى رؤية ليحقق جوهر شعريته في بنية الصورة المركز أو الصورة المبئرة لجوهر الرؤية الجمالية في القصيدة، كما في قوله:[ وجهها شمس حقول ودرر/ صيفها الحلو سلالٌ وثمر]، وهذا الوصف الجمالي يؤكد ولع الشاعر وتعلقه التام بقريته بكل ما تمثله من مشاهد ورؤى ومثيرات بصرية ترتد من مشهد جمالي إلى آخر، ومن صورة جمالية استثارية إلى صورة أخرى، وهذا ما يجعل الشعرية تفاعل قيم جمالية بكل ما تفيض على القارئ من رؤى ودلالات جمالية تبرز في قوة رابطها الجمالي التفاعلي على مستوى الأنساق الشعرية، وغنى القصيدة بالمعطيات والمؤشرات الجمالية الخلاقة.

 والمثير كذلك على المستوى الفني أن كل صورة ترفع درجة وتيرتها الجمالية، لتنتقل بالقارئ من قيمة جمالية إلى قيمة بكل حراك الرؤى الجمالية ومتغيرها الأسلوبي الشاعري المثير، كما في الإيقاع الوصفي التتابعي المتألق في بوح الشاعر الذي ظهر في الأبيات التالية:

قريتي زرعٌ وخيرٌ دافقٌ

وكنوزٌ بترابٍ تُدَّخرْ

 *

وجدودٌ سِدرةُ المجدِ لهمْ

شأنُهم عالٍ وفيهِمْ يُفْتَخَرْ

 *

قريتي من سنديانً شامخٍ

يَجْبَهُ الرِّيحَ ويجتازُ الخَطرْ

 *

وَقَفَتْ فوقَ الرَّوابي عالياً

لَثَمَتْ عندَ المسا ثَغْرَ القمرْ

*

وجمال وصفاء قريتي

لرضاها مبدعا غنى الوتر"(3).

هنا، تظهر حنكة  الشاعر الوصفية وبلاغة إيقاعات الصور الوصفية الترسيمية الدقيقة في وصف مشاهد قريته بكل ما تختزنه قريحة الشاعر المبدعة ليخلق لغة شعرية انسيابية تضع الشاعر في شعرية العاطفة أو شعرية البث العاطفي لما يدور في خلد الشاعر وقريحته الشعرية لينتج لغة جمالية تؤكد انسيابها الجمالي وإيقاعها الشاعري الذي تزدهي به وتبرز بكل معطيات الرؤيا الشعرية ومتغيرها الشعري الجمالي التحفيزي المثير. وهذا يعني أن فاعلية الصورة الشعرية في هذه القصيدة تبرز من خلال جمالية الوصف وبلاغة الترسيم الشاعري لمشاهد قريته الجميلة التي تزدهي بكل معطياتها ومؤشراتها الجمالية، وهذا يدلنا على أن الشعرية في قصائد العجمي تظهر من خلال قوة الروابط الجمالية التي تربط الصورة بالصورة ، والكلمة بالكلمة، والجملة بالجملة، لبرز الشعرية وتنتشي بقوة الرابط الجمالي التوليفي بين الأنساق.

وصفوة القول: إن اللعبة الجمالية في قصائد العجمي لعبة توليفات بليغة واختيارات نسقية جمالية غاية في الاستثارة والدهشة الجمالية في تنقلاتها الشعرية المفتوحة وحراك البنى الشعرية التي ترتكز إليها، وهذا لايمكن أن يحظى به إلا الشاعر المتمرس الذي يملك أقصى درجات الاستثارة والجمالية في ربط الأنساق الشعرية واستثارة إيقاعاتها الجمالية.

تعليق على القصيدة:

 القصيدة كتلة تفاعلية استثارية على مستوى القوافي، وبلاغة الجمل، وغنى مخيلة الشاعر بالصور الاستثارية التي تحرك الشعرية عبر مشاهدها الحية، وصورها الطازجة بجمالياتها وبناها الشعرية، وهي رغم اعتمادها الإيقاع الوصفي المتتابع إلا أنها جاءت قمة في التموج الجمالي الاستثاري العاطفي، وكأن الشاعر يبني (القصيدة – اللحمة) أو (القصيدة- ذات البناء الجمالي الموحد)  عبر إيقاعية انسيابية بعيدة المدى، غنية ببناها ومتغيراتها الجمالية، لدرجة أن هذه الانسيابية الرشيقة  جعلت القصيدة سريعة في مداها التحولي الجمالي وتنقلات الشاعر الانسيابية من صورة وصفية استثارية إلى صورة وصفية بإيقاعات جمالية تبدأ من شعرية الاستهلال إلى بلاغة الاختيار والتوليف الجمالي الشاعري على مستوى الكلمات وقوة الروابط الجمالية ليأتي حرف العطف هنا ليس ليعطف الكلمات والجمل وإنما ليشكل اللحمة الانسيابية بين الجمل، وهذا دليل أن غنى الشعرية في بنية القصيدة العجمية يظهر من خلال قوة الرابط الجمالي ودفق الشاعرية بإيقاعاتها المكثفة وغنى مؤشراتها بالصور البليغة التي ترتد إلى جاذبية الرؤيا الجمالية وفاعلية المتغير الجمالي في خلق إيقاعاتها النصية المتفاعلة.

نتائج أخيرة:

1- إن شعرية العجمي شعرية استثارات جمالية في الرؤيا، والقيم الجمالية، وقوة الروابط الجمالية التي تربط  بين الصور، والكلمات، والأنساق الشعرية، فلا تجد خلخلة، أو وهناً في الروابط النصية، وهذه قيمة جمالية من القيم البؤرية التي ترتكز عليها قصائد العجمي في تحقيق شعريتها وعنصر استثارتها الجمالية أن كل كلمة تشد الأخرى، وكل جملة تحقق تكاملها وترابطها الجمالي مع الجملة الأخرى، ليزدهي النص الشعري ويتألق جمالياً، وكأن العجمي يهندس قصائده بأشكال نصية تبرز في قوة الدفق الشاعري الرومانسي وإيقاعات القصيدة بمتغيراتها النصية كافة.

2- إن فضاء المخيلة الشعرية – عند العجمي- فضاء جمالي استثاري الرؤيا، لدرجة تجد النسق الشعري الواحد منسجماً جمالياً مع النسق الشعري الآخر، وكأن التركيبة الجمالية والتوليفة الشعرية واحدة في متغيراتها التشكيلية كافة، وهذا ما يجعل شعريته انسيابية تكاملية في رؤاها ومساحتها الشعرية  على امتداد الأبيات والأسطر الشعرية كلها ، ابتداءً من الفاتحة النصية وصولاً إلى القفلة النصية التي تربط الأنساق الشعرية بكل متغيراتها وبناها الشعرية. وهذا يعني أن القيمة الجمالية في قصائده قيمة تكاملية في استثارة الأنساق الشعرية المتآلفة التي تشد بعضها بعضاً مما يجعلها لحمة متماسكلة من بابها لمحرابها وكأنها قطعة من نسيج تفاعلي متكامل، وهذا جوهر إبداعها وتألقها جمالياً.

3- إن  شعرية الكلمة في هذه القصيدة تتأتى من قوة الروابط  النصية المتلاصقة، أي من قوة شعرية الروابط النصية الداخلية المتلاصقة أو المتجاورة في نسقها ، كما في قوة الروابط التي تربط ( المضاف/ والمضاف إليه) و(الصفة/ والموصوف) وبلاغة الروابط النصية العلائقية الأخرى التي تربط الأنساق الشعرية في تنقلات الشعرية من قيمة جمالية استثارية إلى قيمة جمالية استثارية أكثر استثارة وشعرية، وهذا ما يحسب لها إبداعياً على المسار التآلفي النصي.

4- إن حراك البنى الشعرية – في قصيدة العجمي- يتأتى من شعرية التوليفات الجمالية بين الأنساق الشعرية بكل ما تشكله من قيم استثارية  في نسقها الجمالي، والتلاعب النسقي بإيقاعات القصيدة من متغير جمالي اسمي إلى متغير جمالي فعلي، وهذا ما يجعل الشعرية عند العجمي شعرية استثارات جمالية توليفية موفقة في نسقها منسجمة مع حجم الدلالات العاطفية المفتوحة التي تبثها عبر شعرية الصورة وانسيابها التشكيلي الآسر. مما يدلنا على الكتلة التفاعلية الجمالية التي تربط الأنساق الشعرية، وتحقق غايتها الجمالية.

5- إن غنى الشعرية  في – قصائد  العجمي لاسيما هذه القصيدة- ينتج من المخيلة الشعرية المتوهجة التي يمتلكها الشاعر، وحساسية المنظور الجمالي في ربط الصورة الشعرية بالصورة الشعرية الأخرى، على نحو تفاعلي استثاري الرؤية، والمؤشرات الجمالية في القصيدة. ووفق هذا الانسياب الشاعري المثير يرتقي الشاعر بمتواليات قصائده النسقية على المستوى الإبداعي، لدرجة أن الصورة تباغت القارئ بالصورة الانسيابية الأخرى، وتخلق مؤشرها الجمالي البليغ.أي ثمة  تفاعل مثير بين الإيقاعات التشكيلية والروابط التي تربط الأنساق الشعرية، وتخلق تناميها الجمالي الشاعري بالانتقال من صورة إلى صورة، ومن رؤية إلى رؤية، وهذا دليل غنى الشعرية وغنى المتحولات الجمالية بالصور الخلاقة التي ترفع درجة الحساسية واللذة الجمالية في تلقيها.

6- إن الحنكة الجمالية التي يمتلكها العجمي دليل مراس شعري إبداعي متألق في تشكيل القصائد اللوحة أو القصائد البانورامية المفتوحة، أو القصائد الوصفية الطازجة في متخيلها الجمالي وحراكها الشاعري المثير، وهذا يعني أن البنية اللغوية أو الملكة اللغوية في استثارة الأنساق الشعرية تعد علامة أيقونية في خلق الصدمات التشكيلية المثيرة وقلقلة الرؤى الشعرية المرتبطة بها في قصائد العجمي، ووفق هذا التصور، فإن غنى الشعرية يبدو في هذا الاحتفاء اللغوي في هندسة القوافي وترسيمها جمالياً لتنشي الصورة وتزدهي إبداعياً في نسقها الشعري.

7- وأخيراً: إن المتحولات الجمالية في قصيدة ( قريتي) للعجمي- متحولات نسقية رؤيوية فنية في استثارة الصور التعبيرية الوصفية الآسرة، وخلق متغيرها الجمالي الشاعري الانسيابي، وهذا دليل الفضاء الجمالي الرؤيوي المفتوح الذي يمتلكه العجمي في بناء القصيدة، واستثارة إيقاعاتها الجمالية المتنوعة على مستوى قوة الروابط الجمالية الشاعرية وبلاغة الإسنادات الشاعرية التي تربط  الصور الشعرية جمالياً على مستوى شعرية الأنساق الشعرية وتجاذباتها النصية  الآسرة. مما يدلنا على أن القيمة الجمالية في قصائد العجمي قيمة متحولة في مجاذباتها النصية وحراك البنى الشعرية المتمردة في شكلها الشاعري وقوة الدفق الشاعري الذي يحكم الأنساق الشعرية لتنتشي الشعرية وتزدهي بألقها النصي الشاعري.

***

د. عصام شرتح

.......................

الحواشي:

(1) عجمي، وهيب- قصيدة قريتي، صفحة الشاعر على الفيس بوك.

(2) المصدر نفسه، صفحة الشاعر على الفيس بوك.

(3) المصدر نفسه، صفحة الشاعر على الفيس بوك..

ما بعد الاستعارة والوعي المضاعف في نصوص الهذيان وضوح مشتت لعلي خصباك

الشعر الخالص هو الهم الإنساني الأساس، وإذا أصبحت الاستعارة مستهلكة، فهو الوحيد من الآداب يستبدلها، ففي كينونة الشعر بيس هناك ثبات، فالسعي لما بعد الاستعارة يجعل الكينونة تتجه نحو الماهية، لكي تكتسب بنية الشعر معنى ما بعد المعنى، فالمعنى في الشعر يصنف حسب نظريتنا للشعر إلى صنفين، الأول يمهد للثاني، ويكون الأول هو العتبة من خلال الإدراك المباشر، والذي يكون في جمل شعرية لسانيا تفصل هي أمثلة من اللغة العامة، وفي لغة الشعر حتى السوريالية تمتلك إقناعا من خلال تلك الجمل التمهيدية، واللسانيات المعرفية تدرك تماما هناك فصل وأصح معرفيا بين ذلك الحمل التي تحتمل استعارة ما بعد الاجتماعية، وهناك تدخل اللغة بشكل تام في جنس اللغة الشعرية، والتي تتعدى الاستعارة الاجتماعية مثلما تتعدى اللغة المباشرة العامة، الشعر هو ترجمة للوجدان والمشاعر، وليس الكلام أو ما يسرد من تحويل الحكاية إلى متن السرد، والشعر يقابل الشاعر، فيما كاتب الشعر يقابل نفسه، وثمة فارق كبير هنا بين معنى خالص يقابل معنى معادلا له، فيما كاتب الشعر يتجه إلى تفسير شخصه وعلاقته بالعالم الخارجي.

التفسير الذي نسعى إليه في الفلسفة الموضوعية للشعر يبدأ من أثر، وأول مبادرات الأثر هي العنونة، والتي قد سبق جان جانيت الجاحظ بقرون حين حذر من منزلق العنونة، والزعنون هي النص الذي إما يمحو نسبة من الملامح، أو يكون في أفق رمزي منغلق على نفسه بشكل تام، ونحن عرضنا أفكارا عديدة عن العنونة في كتابنا – التأصيل والتدويل – الصادر في الجزائر، واهم فكرة عبرنا عنها لسانيا بأن لغة العنونة لغة خاصة، ولا يمكن اعتبارها من لغة متن النص الشعري، ومن جهة سيميولوجية اعتبار العنونة نصا بلا ملامح، والمتن يسعى إلى التعويض والتوضيح، وفي المجموعة الشعرية أو ديوان علي خصباك المسمى- الهذيان وضوح مشتت – والصادرة من دار ذياب شاهين، والذي يحتمل فكرة فلسفية ملتبسة، فالكلمة الأولى تنتمي للشعر بشكل خالص، في التفسير الذي طرحه إليوت، وأما المفردة الثانية، فهي تنتمي المعرفة، فسؤال المعرفة يسعى بعد طرح السؤال يستثمر نصف الإجابة من السؤال، والمعنى الذي تسعى إليه العنونة كما قيل – المعنى في قلب الشاعر-، لذلك حتى الإجابة التي نسعى إليه لا نحصل عليها، وتلك الحصانة التي تمتلكها العنوان لا بد من الحذر منها، فهناك هوة، وقد تتجه بنا إلى العدم، والعنونة التي نحن في صددها ذات ثلاث مفردات، كل واحدة تتجه إلى سبيل، لكن ما نسعى إليه استبعدت المفردة الثالثة من بلوغه.

شكلت الغايات الشعرية أحد أنواع التراكب ما بين البصري والمحسوس، وهذا ما جعل الصورة الشعرية بأكثر من بعد في كيان القصائد، والبعد الأول هو للمستوى البصري العام، والذي قد يتفق مع كاتب الشعر بنسب معينة، وهو بعد الإشارة في التحديد الدلالي، ونلمس له وجودا نسبيا في القصائد، وهو أفق التفسير العام، وأما البعد الثاني فهو بعد العلامة، والذي يكون في نسب من التوازي مع إحساس الشاعر وتصاعد وعيه، والأفق السيميولوجي هنا هو من يلتزم ما بعد التفسير العام، وهذا المستوى يستدعي التأمل، وأما المستوى الثالث فيرتبط بأقصى حالات الوعي الشعري، حيث الدلالة تتجاوز الحد المعقول، ومرت بقلم في بعض الجمل الشعرية، ففي النص – تذكر – ذا العنونة الأحادية، والتي في طروحاتنا نجد أما مجت ما قبلها است لمحو ما بعدها.

أخاف من نسكيان التذكر يوما

أن أنقذ رأسي

الذي طالما طالب به

الوطن

هنا يسعى الشاعر الى معايشة ما بين النص والذات المعنوية التي تعكس لنا هم الإنسان ومجنته، فالكينونة البشرية شاءت الاقدار أن تحولها الى ماهية، وبالتالي ستجعل مصير الكينونة يتبدل كما تشاء تلك الاقدار، وهنا ثمة محنة مركبة، فالنص في وجوده يختلف عن وجود الذات الشعرية، والوطن في النص ليس هو ذات ذلك الوجود الذاتي لوعي الشاعر، وفي فلسفة النص يكون الشعر وجود لكن غير ملموس، وبالرغم مما أفترضه اكتافيو باث في عام 1980 في مدريد بعدما انتهى فقال للجمهور – هل شاهدتم قصيدتي – وكذلك يسألنا علي خصباك هل شاهدتم الوطن في النص ووقفتهم على اعتابه، ويعود لنا الشاعر في عنونة احادية ليرسم صورة المحنة البشرية، ففي النص – سدى – والذي ايضا عامل المحو يبدو بوضوح فيه، والعنونة الاحادية عالم نصي قائم بذاته.

هو معلق على الجدار

والرزنامة خارج البيت،

تسدد الفواتير

الدقائق لفاتورة الماء

والساعات لإيجار المنزل

والأيام سدى...

وجل السنين للحرب

تشكل معيارية الاحتجاج في النصوص الشعرية احد الوجوه التي يقوم عليها احد وجود الحس الشعري، فالوجود النصي في التحول من ماهية الى اخرى يتيح للذات الورقية التحول من كيان بشري الى تقويم، وفعلا في المضمون الفلسفي نحن تقويم كل يوم نمحو اليوم الذاهب الى العدم ونؤشر اليوم الذي نستقبله، وذلك النمط من الاستعارة تجاوز افاق عيدة وثلم الدلالة واعاد ترميمها من جديد، ونلاحظ صيغة التوقيتات لم تغادر وبقت في مدارها الفيزيائي، والموجب اتخاذه في نظرية قصيدة النثر أن تتخلخل لتكون معادلا لتحول البشر الى تقويم، وفلسفة الشعر تحتاج الى متوازيات بتقابل موضوعي، وفي نص – نسيان – ذات الهم الشعري والمضمون الإنساني يعاد بصيغة اخرى، وافق دلالو اكثر مرونة في التطوير، وفي النص الذات فعلا كانت ورقية متناغمة مع الوعي، وليس كما عند كاتب الشعر، تكون الذات شخصية ومن لحم ودم.

غادر جثته ومضى نحو السماء

لم يجد منفذا

عاد ثانية إلى جثته

فلم يجدها

الكينونة التي تحولت ماهيات تتوالى، والواحدة تستبدل الاخرى، من الطبيعي في الشعر لا تترجم لنا وقائع، بل تكون في المستوى الشعري تنتقل من تعبير الى اخر. وكل تعبير شعري هو في مجازات لغوية وافق ايحاء يستبعد الامثلة العامة والمعهودة، وتلك قيمة الايحاء في الشعر، والسمة التي تجعل الشعر لا يقف عند حد عضوي، وترجمة المعنى الشعري تختلف عن ترجمة الحقيقة الاجتماعية، والشعر ليس الا ذلك الثلم الدلالي الجدير، والنصوص التزمت بتلك الصيغة التي تكون بينية في تفسيرها فالوعي الشعري احيانا تصدمه الحقائق فيستعين بما يدعم اللاوعي او ما نسميه بالوعي المضاعف الى اسناد الوعي في النص، حيث يمكن أن يجد الرجل باب السماء مقفلا ويعود الى الارض من جديد، والمعنى الشعري هنا لا يعنى بأن يقنع التلقي، بل يشعر بحجم ومديات القهر الإنساني، وهنا قد مر الشعر في قصائد علي خصباك بتحول في مضامين الشعر من جهة، وفي النمط اللساني للغة الشعرية، فجنس اللغة اصبح اكثر طاقة شعورية في نص – الماء – والذي التعريف اضاف ليقين العنونة يقينا اخر.

ستراهُم شِفافَ مثلَ الماء

يبتسمون

مثلَ قاربٍ بعيدٍ

يتعبّدُ في الشفق !

فلسفة الشعر تتطلب ذلك التطور في استبدال ماهية لأخرى، وإضافة معنى جديد للنص، وإلا كان لتعبد قارب في الشفق، والتي هي لوحة تعبيرية تحولت من أفق الرسم إلى أفق الكتابة الشعرية، وقد نجح الشاعر في استدراج المعنى في تلك الجملة التي طورت نفس البلاغة الشعرية، وهذا لا يحصل عادة، على الرغم من  وصف بيكاسو له بالقول اللوحة قصيدة والقصيدة لوحة، وفي النص – عام يمضي – يتطور المفهوم الشعري كثيرا، ويتطور معه منسوب الألم والقهر، حتى يحتاج الشعر إلى تكون النصال المتبقية عمياء، كي يبقى للعمر الشعري مساحة مناسبة من الحرية.

كل عام يمضي

هو حزت سكينا على رقبة العمر

من أين لي

أن (أعمى) نصال السكاكين المقبلة

لم يعد الشعر ذلك الهتاف الجماهيري، والذي استغل فيه الشعر إلى حد كبير، وبعد التحول الذي مرت به هرمية العالم، جين تخلى الإنسان عن مركزه لصالح الآلة والأشياء، وفقد بذلك قيمته التاريخية، والشعر في الوضع المعاصر أصبه هم ذات في داخل ذات، فالذات الشعرية أصبحت تعي بتغير نمط الحياة، واستبدال قيمة الإنسان بالأشياء، وهذا التحول المرير حفز الشعر بالتخلي عن معانقة العالم والتعبير عنه كما يرى غوته، والسعي للتعبير بطريق احتجاجية شتى، وفي قصيدة – عصفور – يلجأ الشعر إلى استعارة مضادة إذا جاز التفسير، حيث المعنى يحتاج إلى معنى أكثر تطورا في المستوى الدلالي ليسنده فتكن الكف غالبة أو خميلة، لكن يعود الاحتجاج الذي اعتاد عليه أغلب النصوص إلى الواجهة.

أغويت عصفوري الصغير

ورسمت في كفيك غابة

قد حط في كفيك

وأغمض الجفنان، ناميا

لقد تمكنت تجربة الشاعر علي خصباك من رسم تلك الصور الشعرية ذات الأبعاد العديدة، والتي تستعار المعنى، بعدما تحولت الكينونة الشعرية إلى عدة ماهيات كل منها له إيقاعه، والتجربة والوعي والاحتجاج كانت آفاق ثلاثة، لكل منها مساره وسبيله بتفسير للمضامين الشعرية، والجمل الشعرية كانت ما بين الإيهام القصدي والإيحاء الفني والجمالي الذي يستدرج الوعي المضاعف أو ما يسمى بمنطقة اللاوعي في التصنيف المتعارف، والوعي المضاعف طاقة مضافة أهلت قلم الدلالة إلى بلوغ أقصى المعاني بعد الترميم الفني.

***

محمد يونس محمد

أضواء على أدب أل facebook

قبل الدخول في المتن النصي المتوفر بين يدي للشاعر عبود الجابري لا بدّ من الإقرار بأنه لسبب لا علاقة لي ولا للشاعر به، لم أقع على أيّ من مجاميعه الشعرية. ومع ذلك قلت مهوّناً لا بأس فالمجاميع الشعرية المنفردة مضللة، إنها لا تقدم صورة أمينة ومتكاملة لأي  شاعر، بل أقصى ما تقدمه هو ملامح للأساس التصوري الذي بُنيت عليه منفردة والذي يختلف بالتأكيد من مجموعة إلى أخرى. فكل مجموعة تستقل بأفقها التصوري، وبصوتها الإيقاعي الخاص، وبرؤاها وبملامحها المغايرة عن أخواتها، وكل تلك العناصر قد تمثل الشاعر، ولكن ليس في كلّه، بل في جزئه المنطوي بين دفتي كتاب منفرد.

أما إذا كانت الرؤى والأبنية متماثلة في كل مجاميع شاعر ما، فهذا يعني ببساطة أنه يستنسخ نفسه، ويُعيد تكرار سوابقه في لواحقه. ولذلك وجدت في عدم اطلاعي على عبود الجابري في مجاميع منفردة ميزة، كما أني وجدت أن لجوء الشاعر لعرض بضاعته في موقع التواصل الاجتماعي ال facebook هو أسلم لي في البحث عن صورته الشعرية الأوسع والأشمل، وهي في الوقت ذاته محاولة من الشاعر لتقديم رؤى شعرية غير مجتزأة، بل مفتوحة على احتمالات تجزئة مستقبلية في مجاميع منفردة أكون باطلاعي عليها في مهدها على موقع التواصل الألكتروني ذاك قد تجاوزت إشكاليات تجزئتها في مجاميع منفردة. كما أنها في مهدها ذاك مفتوحة على مفاجآت شائقة، ومعيار التشويق فيها أن مرجعيات وأبنية ورؤى بعضها تُفارق مفارقة تامة الأخرى، وهي بمجموعها يمكن أن تُشكّل الأعمال الكاملة المفترضة للشاعر مستقبلاً.

هذا التعدد والتجدد والشمول في قصائد ال facebook يمنحنا حق الإقرار بأن الشاعر يخلع جلده ويجدده مع كل محاولة لينطلق من الصفر شاعراً جديداً. ومع ذلك فأن تلك الولادات المفارقة والمتجددة لم تفلح في محو أثر قار لمهيمنة بؤرية ذات طابع دلالي تتبدّى في أكثر من نسق ما بين قصيدة وأخرى، بل وحتى ضمن القصيدة الواحدة.

والآن، فضمن المرحلة الأخيرة لتطور البحث الشكلاني، أي مرحلة (إدماج الصوت بالمعنى) أقرّ جاكوبسون بأن مفهوم (المهيمنة) كان مفهوماً مثمراً، وقد عرفها بكونه (عنصراً بؤرياً للأثر الأدبي، أنها تحكم، وتحدد، وتغير العناصر الأخرى، كما أنها تضمن تلاحم البنية) (1) وهي (عنصر لساني نوعي يهيمن على الأثر في مجموعه، ويعمل بشكل قسري، لا راد له، ممارساً بصورة مباشرة تأثيره على العناصر الأخرى) (2) أنها العنصر الإجباري في الأثر الأدبي وفي سياق زمني محدد، وفي حدود ذائقة جماعية معينة، كحضور أو غياب عدد المقاطع في الشعر المقطعي، أو القافية أو النبر.

وقد وسّع جاكوبسون مفهومه للمهيمنة بتوسيعه لمفهوم الوظيفة الجمالية، إذ لا يمكن للأثر الإنشائي (أن يُحصر في الوظيفة الجمالية، بل هو يتوفر إضافة إلى ذلك على وظائف أخرى، وفعلاً فبنيات أثر إنشائي ترتبط في الغالب ارتباطاً وثيقاً بالفلسفة وبخلق اجتماعي معين) (3). أن ربط جاكوبسون للمهيمنة بمرحلة الصوت والمعنى وتوسيعه لوظائف الأثر الإنشائي خارج الحيثيات الجمالية يشجعنا أن نسحب مفهوم المهيمنة خارج إطاره القسري للنوع أو الجنس الأدبي ليشمل الإحالات الدلالية النوعية المائزة في الأثر الشعري لشاعر ما، وبالتالي ستكون ضمن القاموس الشعري لكل شاعر مهيمنته الدلالية الخاصة به.   

ووفق هذه الإمكانية بوسعنا تشخيص المهيمنة الدلالية التي تشغل الحيز البؤري الأوسع في قصائد الشاعر عبود الجابري، وتلك المهيمنة هي الفردوس المفقود، أو الوطن في صورته الأوسع، مع احتمالات تضييقها حسب متطلبات سيرورته التخييلية ليتحوّل إلى بيت، بل وإلى ما دونه فضاءً وتشكلاً، فلتلك المهيمنة مجالها الدلالي المتسع، وتقلباتها الرمزية التي بموجبها يتلاعب الشاعر بسيمياء المكان، ويشكلها كيفما شاء. فالوطن والبيت والمنفى والضياع والتشرد والغربة مع ظلالها و تنويعاتها هي نماذج علاماتية من المجال السيميائي للشاعر وإن تبادلت دلالاتها بأخرى مقاربة لها في المعنيين البعيد والقريب. ومع هذا الحضور، والحضور المغيّب تتجدد المهيمنة، ويفرض تجددها على النصوص ألا تكرر نفسها من جهة، مع إبقاء خيط دقيق يربطها ببعضها من جهة أخرى.

أما الستراتيجية التي يتبعها الشاعر في تلبية متطلبات مهيمنته، وإقناع المتلقي بجدوى مظاهرها المتقلبة والمتباينة، فمن المفارقة أن تكون ستراتيجية تغييب، فهو لا يقدمها كما يُتوقع منه على وفق المعينات المرجعية الموروثة للدلالات المألوفة وتواتراتها في الأدبيات المتداولة والمستهلكة، بل كما تفترضه خطاطة تستعين بتقنيات المفاجأة والصدمة اللتين تأتيان بالنقيض من المترادف والقرين، وبالغريب من النمطي والمعتاد، وبالبعيد من القريب وبالعكس. وتحت قشرة هذا المزيج ينمو المعنى مفارقاً الأصل الذي نشأ منه ليصدم المتلقي الذي يبدأ بالبحث عن العوامل التي دفعت لتلك المفارقات الصادمة.

ليكن مدخلنا للبحث عن مفاتيح تلك المهيمنة قصيدة (همهمة) حيث تتشكّل من مفصلين، ألمفصل الأول مخصص لاعترافات أنا المتكلم، أما المفصل الثاني فمخصص لتشريعاته، وما بين المفصلين، أو ما بين الإعترافات والتشريعات ثمة رابط خفي تختزله العنونة (همهمة) عبر انتمائها إلى جذرها اللغوي (الهم) وما يتفرّع عنه من معان لعل الأدنى منها إلى مضمون النص أنها (بحسب الفيروزآبادي) (4) أنها (تردد الزئير في الصدر من الهم) وليس ببعديد عن ذلك الأدنى (وبحسب الفيروزآبادي أيضاً) (5) أنها (ألكلام الخفي). وربما جمع الشاعر المعنيين في توليفة نصيّة شاء لها أن تكون ذات منحيين متضادين، فهي من جهة ساخنة صخّابة كونها تمتح من صدر موّار بالهموم، وهي من جهة أخرى هادئة خفيضة النبرة كونها موصومة ب (الكلام الخفي) لكن رابط العنونة ليس وحده ما يجمع المستويين، بل أن رابطاً آخرَ أقوى هو لُبّ المفصل الثاني أي (التشريع)، فالاعترافات، أي المفصل الأول تأتي أو يأتي معها مفصلها في أثر التضارب ما بين اعتراف المتكلم / المذنب بعدم مسؤوليته عن التشريعات من جهة أولى (سأعترف بأني لم أشرّع)، وما بين اعترافه الصريح في المفصل الثاني بكونه المسؤول عن التشريع، بل هو مشرّع بارع (أعترف بأني مشرّع بارع للخوف مما لا يُخيف) أو (أنا مشرّع خجول لكراهيتي للأوطان).

وعلى هذين المنحيين المعجميين المتضادين (ألصاخب والخفي) تتوالى هموم الشاعر متراصة ضمن المفصلين المذكورين، واللذين يمكن تطويق أبعاد ملامحهما العامة كالتالي:

ألمفصل الأول:

وهو مفصل الإعترافات، وضمنه يعرض الشاعر بين يدي قارئه ثلاثة اعترافات، بيد أنه قبل الخوض في تفصيلاتها يقرّ ابتداءً بالذنب (كما ينبغي لمذنب). وبالتالي فهو يقطع الطريق على كل احتمال بالبراءة، كما أنه يقرن هذا الإعتراف المسبق بالمتطلبات التي ينبغي عليه أداءها باعتباره مذنباً، وتلك المتطلبات هي اعترافاته الثلاثة.

لكن قبل الدخول في تفاصيل تلك الإعترافات ينبغي التساؤل: أمام أية محكمة يقف هذا المتهم، ومن هم قضاته، لاسيما أنّ النص موجّه من المتكلم إلى نفسه، دون أن تكون هناك أية إشارة صريحة إلى مخاطب ما. بيد أن المفصل الثاني يُختتم بإشارة مموهة إلى مخاطبين اثنين معنيين بأزمة الشاعر الروحية من دون أن يتوجه إليهما الخطاب مباشرة هما (الله والوطن) وسنأتي إلى ذلك في حينه.

أما الإعترافات الثلاثة التي شكلت البنية الدلالية للمفصل الأول فهي:

1 – (سأعترف بأني لم أشرّع قانون الأبواب)

2 – (... ولأني لا أملك بيتاً)

3 – (سأعترف كذلك بكراهيتي للنوافذ)

كل اعتراف من الثلاثة مدعوم بتفاصيل من مجاله الدلالي، فاعترافه الأول ألزمه بالبراءة من كل لوازم الأبواب (ألنحاس والحديد والخشب) وفضّ علاقته ب (بالأقفال والمفاتيح). أما الإعتراف الثاني فقد جاء بصيغة ضمنية وخالية من فعل الإعتراف إذ تمّ تمييع دلالته المكثفة في المسوّغ الجُرمي الذي اضطره للاعتراف وهو عدم امتلاكه بيتاً (... ولأني لا أملك بيتاً). أما حرف العطف (الواو) السابقة لهذا التسويغ فهي التي أدرجته ضمن التسلسل الثاني لقائمة الاعترافات الثلاثية. والجريمة التي تمخض عنها هذا التسويغ تمضي بدورها ضمن ثلاثة مسارات:

ألمسار الأول:

تدفع إليه سذاجة بالتفكير بالبيت المفتقد، أو بمجاله الدلالي، أو بكل ما يحيل إليه البناء بمظهره العام، أو بكل ما يمكن أن يكون ملاذاً أو حمىً:

(ولأني لا أملك بيتاً

فإن من السذاجة أن أتعب نفسي

في التفكير بالأسوار وارتفاعاتها)

ألمسار الثاني:

يمضي باتجاه التغاضي، أو عدم العناية بالتفاصيل الدقيقة للمجالات الدلالية للبيوت ممثلة بمواد بنائها: (فلا يهمني إن كانت من حجر أو من زجاج).

ألمسار الثالث:

فتعبر عنه حالة عدم الاهتمام بساكني البيوت، وضمن هذا المسار جاء الذكر على ساكنين اثنين محتملين هما (ألطيور وعابري السبيل) وعلى طريقتي التعاطي (المأوى والمتكأ) اللتين تتوافقان مع طبيعة كل منهما:

(لا يهمني إن كانت مأوى للطيور

أو متكأً لعابري السبيل)

في الإعتراف الأخير / الثالث (سأعترف كذلك بكراهيتي للنوافذ) يضع المجال الدلالي للنوافذ جانباً بعد أن استنفذ طاقة هذه الآلية في الإعترافين السابقين، واكتفى بتبيين سبب كرهه للنوافذ باعتبارها عيناً مخصوصة للتلصص. ويبدو أن سبب الكره هنا لا ينصب بالدرجة الأولى على النوافذ بالرغم من أنها لا تسلم منه، بل ينصب الكره أساساً على فعل التلصص إلى حدّ أنه يكره التلصص حتى على من يطرق بابه، ومن دون شكّ أن فعل الطرق هنا يأتي تكنية لفعل التلصص، بينما الباب هو تكنية عن الذات، فكأنه أراد القول أنه يكره أن يتلصص حتى على من يتلصصون عليه.

ألمفصل الثاني:

مع الإعتراف الأخير يُختتم المفصل الأول ويبدأ المفصل الثاني، ولكن هذا الإختتام، وتلك البداية غير منفصلين عن بعضهما كما سبق التبيين، لآن اعترافات المفصل الأول استُفتحت بإقرار الشاعر عدم مسؤوليته عن تشريع قانون الأبواب، وما تمخّض عنه من الإعترافات الثلاثة السابقات هي تفرعات متباينة عنه، بينما المفصل الثاني هو تجلية لطبيعة تلك التشريعات والتي يمكن ردّ دوافعها بالإجمال إلى الإعتراف الثاني من المفصل الأول، أي (... ولأني لا أملك بيتاً)، فنمطا التشريعات الإثنان اللذان تمخض عنهما المفصل الثاني يدوران في فلك الحرمان من البيت، وقد تتسع دلالة البيت استعارياً لتشمل الوطن. وهذا هو محور المهيمنة الدلالية التي ستنيخ ظلالها على أغلب قصائد الشاعر.

أما طبيعة تشريعات هذا المفصل فمقرونة بضمير المتكلم عن عمد إصراراً منه على الإعتراف بمسؤوليته الشخصية عن:

1 – (ألخوف مما لا يُخيف) ولا يكتفي الشاعر بإصراره على تشريع هذا النمط من الخوف، بل يقرنه ببراعته في تشريعه (أنا مشرّع بارع للخوف مما لا يُخيف) مع تفريعه لأنماط الخوف الذي لا يُخبف التي تضم (التشرّد والرياح الباردة والحنين لمعطف دافيء والجلوس على الرصيف أو على مقعد مهجور):

(أنا مشرّع بارع للخوف مما لا يُخيف

ألتشرّد مثلاً

ومصاحبة رياح باردة

ألحنين مثلاً آخر

لمعطف يقيك ثرثرة البرد في ضلوعك

والجلوس حيثما تكلّ قدماك

على رصيف أو على مقعد مهجور

وذلك أقصى ما يُمكنكَ

أن تهديه لنفسك من الترف

ومن الواضح أن تلك التفرعات التي وصمها الشاعر ساخراً بأنها (لا تُخيف) هي الدافع الأساس للخوف، لأنها ببساطة بدائل البيت كما هي في واقع الضائع والمشرّد حتى ليصبح تأمين بعض تلك المتطلبات البسيطة هدية ونوعاً من الترف:

(... أقصى ما يمكنك

أن تهديه لنفسك من الترف)

2 – وعلى الضد من إصرار الشاعر على الإعتراف بمسؤوليته الشخصية على التشريع (ببراعة مما لا يُخيف) تراجع بضع خطوات إلى الوراء لتتحول براعته إلى خجل حين يتعلق الأمر بكراهيته للأوطان (أنا مشرّع خجول لكراهية الأوطان). وإذا كنا نتفهم دوافع الكراهية لدى من فقد البيت، يبقى السؤال لماذا الخجل؟ ولماذا كراهية الأوطان؟

وإمعاناً في تعقيد الإجابة على السؤالين يقرن الخجل من كراهية الأوطان بردود أفعال تتوافق معه (أي مع الخجل) في النعومة واللين: (شتائم ناعمة / ألنظر بعين دامعة / تحريك اليدين بهمهمة) وبضم تلك الردود إلى بعضها، وتوجيهها الوجهة التي خطها لها الشاعر، مع ربطها بدعائم دلالية من المفصل الأول ربما نكون اقتربنا من الإجابة عن السؤال الثاني، فليس من المنطقي أن يأتي الشاعر بردود أفعال مناقضة ل (الكراهية والشتائم والنظر إلى السماء وتحريك اليدين) عندما تكون الأوطان هي المسؤولة عن تشريد أبنائها، أو بالأحرى مسؤولة عن المظلمة التي ألمح إليها في المفصل الأول عبر (... لأني لا أملك بيتاً) والتي سينتهي إليها المفصل الثاني بوضوح:

(أنا مشرّع خجول لكراهية الأوطان

بشتائم ناعمة ربما

والنظر بعين دامعة إلى السماء

وتحريك اليدين بهمهمة

لن يفهمها إلا الله

وأبناؤه الذين لا بيوت لهم

ولا أوطان)

إن هاجس البيت والوطن هو المهيمنة الدلالية التي ينفتح لها قاموس الشاعر بصور ومفردات المنفى والتشرّد والضياع والغربة ثم يضفي على هذا المزيج الصوري والبياني ما يزيحه عن دلالاته المعيارية وعن سياقاته النمطية ليطلقه رموزاً تستقبل أكثر من معنى ومن تأويل. ففي قصيدة (قبل أن يجنّ الفتى) تبرز ظاهرة التذكر قرينة لظاهرة النسيان، فالفتى يتذكر لينسى استعداداً لاستقبال المنفى الذي يعني محو الذات، لذلك يستقبله بحزن:

(وكعادته، يغرق في التذكر طويلاً

ليمحو الأسماء والأمكنة

ويمضي إلى منفاه حزيناً)

ومع ذلك تفشل محاولته في (التذكر / النسيان) لأن وحدتي هذه الثنائية الضدية تتبادلان موقعيهما، وعندئذ يتحوّل النسيان إلى تذكر، ومع هذا الإنقلاب المفاجيء يمضي الفتى إلى منفاه حزيناً من أجل أن:

(يعيد قراءة صور المدن القديمة

تلك المدن

التي تشتعل في رماد المكاتيب)

وكما تذكّر الفتى لينسى، ثمّ نسيَ لتذكّر، يكرر الشاعر ثنائية أخرى ذات صلة بمهيمنته، وما يتفرع عنها من دلالات ورموز. وفي ثنائيته هذه التي التي نسلها من قصيدته (دير الآباء اليسوعيين) يسير لا ليصل، بل ليضيع، ممثلاً ضياعه بحجر يركله طفل:

(ها أنذا أسير في الشارع ذاته

أنحدر في مشيتي

كما لوكنت حجراً صغيراً

يركله طفل عابث)

أما الإفتتاحية فقد مضت إلى الطرف الأقصى من دلالات البيت، ولكنه هذه المرة البيت النقيض للساكن النقيض، إنه الظل الذي تأوي إليه الشمس، أو تستند إليه، ولا فرق مجازياً ما بين الإيواء والاستناد فكلاهما يحيلان إلى الراحة والاطمئنان، ولكنّ الغريب في هذه الإفتتاحية الغرائبية أنّ الشاعر هو الموكل بالبحث عن ظل تستند إليه الشمس، وليست الشمس هي المعنية بإيجاده لنفسها، وإن الشاعر يحلف بعجزه عن إيجاد هذا المسند وكأن هناك من يُلزمه على هذا البحث:

(وأيم الله أني لا أجد ظلاّ 

تستند إليه الشمس

عندما تكفّ عن هذيانها المضيء)

في قصيدة (في الحب أكثر مما ينبغي) يكون السؤال عن البيت، أو عن طريق البيت، هو ذاته السؤال عن الذات، وعندما يضيع الطريق إلى الأول، يفقد المرأ طريقه إلى الثاني، إنها حالة تداخل في الإتجاهات، أو حالة تماهي يصبح فيها الإثنان واحداً، وبذلك تدخل الذات ضمن مجازات قاموس المهيمنة، فالجملة الإبتدائية بعد أداة الشرط غير الجازمة (لو) أو ما يسمى ب (حرف امتناع لامتناع) ونعني جملة (ولو كنت أعرف أين أنا) أحالت إلى نمطين من الضياع، نمطين متماهيين في بعضهما، أو ناجمين عن بعضهما، الأول هو الضياع في المكان، ويحيل إليه إسم الإستفهام (أين)، والثاني ضياع الذات، ويحيل إليه ضمير المتكلم (أنا):

(أعرف أنك ستسألني السؤال ذاته

أين أنت؟

ولو كنت أعرف أين أنا

لأرشدت قدمي إلى طريق البيت)

ومن الطبيعي أن تُركز كل احتمالات البحث عن هذه المهيمنة في حدود المكان، ولكن ليس المكان الفيزياوي بأبعاده الثلاثة، ومرتسماته الجغرافية، إذ متى كانت الحلول الواقعية، والمظاهر الطبيعية من خواص الشعر؟ إنها ضديدته، لأنها ستحوله عندئذ إلى مقولات منطقية وإلى محمولات مغلقة، ولذلك يركز الشاعر بحثه عن عناصر مهيمنته في اللامكان. وفي اللامكان لا يبحث عن البيت، لأنه سيحمل البيت والمرأة المخاطبة معاً على ظهره، وهذا هو حاله في قصيدته (في الحب أكثر مما ينبغي) حيث يتجسد الضياع في ثلاثة مواقع: أولها في الفعل (أدور) الذي يحيل إلى عدم الإستقرار، وثانيهما في مفردة (البحث) المفارقة لمفردة (العثور)، وثالثهما في اللامكان:

(أنتِ في البيت

بينما أحمل البيت على ظهري

وأدور بكما

بحثاً عن زقاق ليّن

لنتحدّث عن الحب في اللامكان)

والضلالة عند الجابري لا تختزن دلالة يقينية مناقضة لدلالة الإيمان، بل تأتي دوماً بمعنى الضياع، والضياع لا يهدد استقرار المرء فحسب، بل يمتدّ أثره حتى إلى الحجر. وإن كان الإستقرار في الوطن هو نهاية لسردية الضياع بالنسبة للمرء الضال، فأن الرأس هو المستقر لسردية الضياع بالنسبة للحجر الضال. أما زجاج الآخرين فهو قرين المنفى. ثمّ يتبدّى فعل الإعتراض (أي اعتراض طريق الحجر المتوجه إلى زجاج الآخرين) كمحاولة لإيقاف تكرار تجربة المنفى، حتى لو نجم عن تلك المحاولة شجّ الرأس. وهكذا تتميّع المسافة ما بين عناصر المجاز المتباعدة، وتصبح إحدى ممكنات التأويل كما يلي:

- الحجر الضال = المرء الضائع

- ألرأس = الوطن أو المُستقر

- زجاج الآخرين = المنفى

(تعرّف جيداً

على الحجر الضال

إعترض طريقه برأسك

حينما يكون متجهاً إلى زجاج الآخرين)

***

ليث الصندوق

...........................

(1) نظرية المنهج الشكلي – نصوص الشكلانيين الروس – ترجمة ابراهيم الخطيب – الشركة المغربية للناشرين المتحدين ومؤسسة الأبحاث العربية – بيروت – الطبعة الأولة 1982 – ص/ 81

(2) نفسه – ص/81

(3) نفسه – ص/83

(4) ألقاموس المحيط – محمد بن يعقوب بن محمد بن ابراهيم الفيروزابادي – تحقيق د. يحيى مراد مؤسسة المختار – ص /1119

(5) نفسه – ص/1119

...........................

نماذج من قصائد الشاعر عبود الجابري

(همهمة)

كما ينبغي لمذنبٍ

سأعترفُ بأنّي لم أشرّعْ قانونَ الأبواب

وأبرأُ صادقاً إلى النحاس، والحديدِ، والخشبِ

من علاقتي بالأقفالِ والمفاتيح

ولأنّني لا أملكُ بيتاً

فإنَّ من السذاجةِ أنْ أتعبَ نفسي

في التفكيرِ بالأسوارِ وارتفاعِها

فلا يُهمُّني إنْ كانتْ من حجرٍ أو من زجاج

لا يُهمّني إنْ كانتْ مأوىً للطيور

أو مُتكّأً لعابري السبيل

سأعترفُ كذلكَ بكراهيّتي للنوافذِ

فليسَ بوسعي أن أتلصّصَ من خلالها

على من يطرقُ بابي

أنا مشرّعٌ بارعٌ للخوفِ ممّا لا يخيف

- التشرّدُ مثلاً

ومصاحبةُ رياحٍ باردةٍ

- الحنينُ مثلاً آخر

لمعطفٍ يقيكَ ثرثرةَ البردِ في ضلوعك

والجلوسُ حيثما تكلُّ قدماك

على رصيفٍ أو على مقعدٍ مهجور

وذلك أقصى ما يُمكنكَ

أنْ تهديه لنفسكَ من الترَفِ

أنا مشرّعٌ خجولٌ لكراهيّة الأوطان

بشتائمَ ناعمةٍ ربّما

والنظرِ بعين دامعةٍ إلى السماء

وتحريكِ اليدين بهمهمةٍ

لن يفهمها إلّا الله

وأبناؤه الذين لا بيوتَ لهم

ولا أوطان

**

(قبلَ أنْ يُجَنَّ الفتى)

كعادتِهِ

يمرُّ دونَ أن يلقي التحيّةَ

خشيةَ ألاّ يرُدَّ عليهِ أحدٌ

مُطرِقاً يعبرُ أبوابَ البيوت

كما لو انّها أضرحةٌ

وكعادته، يغرق في التذكّر طويلاً

ليمحو الأسماءَ والأمكنة

ويمضي إلى منفاهُ حزيناً

يعيدُ قراءةَ صورِ المدنِ القديمةِ

تلك المدن

الَّتي تشتعلُ في رمادِ المكاتيب

*

هوَ كأسٌ تفيضُ بماينقصُ منها

يحلمُ أن يكتبَ قصيدة

عن الأزرارِ العالقةِ في أصابعِهِ

فيصيبُهُ خجلُ القمصانِ

حين تلاعبُها الريح

لذلك يفتحُ فمَهُ عند كلِّ منعطفٍ

ويتذرَّعُ بنسيانِ العناوينِ

عندما يضيع

*

صارَ شبيهاً لها

تلكَ التي تنازلتْ للطينِ

عما ينقصُهُ من ملامحِها

ذلكَ مايجعلهُ كاملاً في مراياها

ويقلقُ صفحةَ الماء

حين ينظر إلى وجهِه، في البئر العتيقة

*

هذه الكأسُ ليستْ لي

مادامتْ فارغةً

وهي بالتأكيد ليستْ لكِ

لذلك لن نكترثَ

حين يطوِّحُ بها سكرانٌ

أو يُسقطُها طفلٌ عن الطاولة

فلمْ نكنْ ننظرُ إليها بلهفة ٍ

حين تيبَّستْ شفاهنا

كأسٌ شاردة

من قنّينةِ نبيذٍ فارغةٍ

ربَّما من نهرٍ حوّلَ الأعداءُ مجراهُ

إلى بِرْكةٍ أناخوا قربَها جمالَهم

وأشاروا إلى جواميسهم، لتسبحَ قربَ شريعتِه

وهي على أيَّةِ حال ليستْ لأَحَدٍ

فلماذا يعدُّها البعضُ من أثاثِ ليلتنا

حينَ يبصرون ملامحَ القناعةِ على وجهينا،

 مادام قلبها لا يتَّسعُ

لتغدوَ مقبرةً زجاجية فارهةً

عندما نفكِّرُ بالموت؟

*

ينفخُ في الرمادِ طويلاً

لعلَّ جمرةً مَيّتةً

تعترفُ بخطاياها فَتشتعلُ

يهتفُ:

- ياربّ، وينسى ما يريد

ينسى أنْ يكونَ مهذَّباً وذليلاً

حينَ يجاهرُ بالمعصيةِ

وينتصرُ لغصنٍ هاربٍ من اخوتِهِ

هو ذاتهُ الغصنُ الّذي أخبرَهُ

أنَّ الحفيفَ سيقودهُ حتماً، إلى الشجرة

*

كلُّ شيءٍ

يأخذهُ إلى المعنى الناقصِ

وهو يضحكُ كالأبلهِ

فرِحاً بالهمّةِ التي تتنزَّلُ عليه

بينما ينظّفُ أثرَ العابرين في حياتهِ

كما لو انَّ أحداً وهبَهُ مسدّساً محشوّاً

ليطلقَ النارَ على الرغيفِ المثلومِ

في بقايا المائدةِ

والرجلِ الذي أخطأ العنوانَ

فطرقَ البابَ كي يسألَهُ عنهُ

والمرأة التي نامتْ بعيداً

دونَ أنْ تخبرهُ

على أيَّةِ جهةٍ وضعتْ جَنبها

*

قبلَ أن يجنَّ

دخَّن سيجارتينِ وماتْ

- ألمْ تقلْ إنَّه جنَّ

بعد سيجارتين من الوقت؟

- بلى، قلتُ ذلك لأنّي لم أعثرْ عليه

قربَ رصيفٍ كان يؤمُّهُ عاقلاً

فتَّشتُ عنهُ قلوبَ النساء

جيوبَ الفلاسفة

وخرائبَ البلادِ

وحين تعبتُ من التجوالِ

قلتُ لهُ: ابقَ حيثُ أنت

ريثما أعودُ غداً

أو بعدَ غد

سيكونُ معي من الوقتِ سيجارتان

وجنونٌ غزير

أهيلُه على خطواتِ من يبحثونَ عنك

قبلَ أنْ تموت

***

(دير الآباء اليسوعيين)

(مقطع من القصيدة)

وأيمُ الله إنّي لا أجدُ ظلّاً

تستندُ إليه الشمسُ

عندما تكفُّ عن هذيانها المضيء

لا أجدُ في نصفِ الكأس

ما يصلحُ للوصف عندما أشربهُ

ها أنذا أسير في الشارعِ ذاته

أنحدرُ في مشيتي

كما لو كنتُ حجراً صغيراً

يركلهُ طفلٌ عابث

أمرُّ كلَّ صباحٍ على (ديرِ الآباء اليسوعيين)

البابُ مغلقٌ

والآباءُ اليسوعيّون لمْ يَصِلوا بعدُ

ربّما وصَلوا، ودخلوا الدير

كضوءٍ يهبطُ من الأعلى

ربّما يكون يومُهم بلا مواعيد

لقدّاسٍ أو معموديَّةٍ عاجلة

لطفلٍ يتهجّى صرخته الأولى

أقِفُ طويلاً عند الباب

سبّورةً ثكلى

يؤانسها طباشيرٌ يقتصدُ باللون

سبّورةً خضراء

لكنّها لا تتقمّصُ دورَ العشبِ

في مغازلةِ الطباشيرِ

ليسَ سوى غبارٍ

يهوي من ممحاةِ عمرها

فتمضي بهِ مكنسةُ القشِّ

إلى بابِ الريح

مغلقٌ بابُ الديرِ

(ديرِ الآباء اليسوعيين)

لامعةٌ اقفالهُ

مفاتيحهُ معلّقةٌ على غصنِ شجرة

أذكر أنّها كانت ليمونة

أو مما لا أعرفُ من الشَجر

عالياً كانَ سورُ الدير

وطويلاً جدّاً

يتراءى إليَّ أنَّه لن ينتهي

أتطاولُ فلا أرى رؤوساً تتحرَّك

وأنحني فلا أبصرُ أقداماً تثير غباراً

كيفَ إذنْ دخلَ هؤلاء القوم

ومتى يخرجون

كيف عمّروا هذا السور

وما الَّذي جعَلَهُم يُلصقونَ بجدرانهِ

أطباقاً مليئةً بالرمل

أطباقاً خزفية

يُبَّدلون ترابَها يوميّاً

ليطفئ المريدون سجائرَهم

قبل أن يدخلوا

أيُ تبجيلٍ تحظى بهِ سجائرُهم

عندما لايدوسون عليها

لتنطفئ؟

*

تعرّف جيّداً

على الحجرِ الضالّ

اعترضْ طريقَهُ برأسِكَ

حينما يكونُ متَّجهاً إلى زجاجِ الآخرين

وحاولْ أنْ تصدرَ صوتاً

شبيهاً بصوتِ الهشيم

لتلفتَ انتباهَ العابرين

وتُفرحَ مَعشرَ الاحجارِ النائمة

في قلوبِ الجدران

انتظرْهُ في المقهى

عندما يواعدُكَ بلِقاءٍ عاجلٍ

واطلبْ لهُ ما يشاءُ من الشراب

أسعفْ وحشَتَهُ بسيجارةٍ

وكنْ نارَهُ التي تُشْعلُها

كنْ فَمَهُ وأصابعَهُ

دَعْهُ يدخّنْ

وشاركهُ البكاء المرَّ

على خيبتهِ

عندما يسقط في النهر

و يعکّرُ سكون الماء

أو عندما يُحاولُ أن يؤنسنَ

أوجاعهُ

كلاكُما حجَرانِ في هذا العالم

حجَرانِ ثقيلانِ

تعافكُما أيدي الأطفال الناعمَة

في المشاجرات

ولن يفكّر بِكُما أحدُ

في النَيلِ من الثمارِ العالية

أشبهَ بضيفٍ طارئ

يزورُنا النهار

مُتعَباً يطرقُ الباب

عندما يقتربُ من بيوتِ أعمارنا

و يدخلُ بيدينِ فارغتين

حتّى أنّه لمْ يسألْ

إن كانت بنا حاجةٌ

لشيءٍ من دكاكينِ الجهةِ

الأخرى للأرض

***

(في الحبِّ أكثر مما ينبغي)

كما يبدو من الأثرِ على وجهِ التراب

فإنَّ من عبَروا قَبْلَنا

لمْ يفكّروا أنْ يدوروا حولَ أنفُسهِمْ

لمْ يحاولوا أنْ يحفروا بئراً

ولمْ يفكّروا حتّى بطريقةٍ بدائيَّةٍ

أنْ يغسلوا اقدامَهمْ من أثرِ الطريق

*

علينا أنْ نكونَ أوفياءَ برَرةً

ونحرّكَ أقدامَنا في مواضعِ الجلوس

وحينَ يداهمُنا التراب

علينا أنْ نصنعَ منهُ عواصفَ

مهنةٌ عظيمةٌ

أنْ نفعلَ ذلكَ لنحجبَ الرؤية

عمّن يريدُ بِنا العَمى

*

أنتِ في البيت

بينما أحملُ البيتَ على ظهري

وأدورُ بِكما

بحثاً عن زقاقٍ ليّنٍ

لنتحدّثَ عن فكرة الحبِّ في اللّامكان

*

أوَ لمْ يكنْ بوسعِنا اختيارُ لُغةٍ أخرى

لغةٍ أكثر يباساً

من هذهِ اللُّغةِ الّتي تغرقُ مفرداتُها

في بحرٍ من الدموع؟

*

لا تحدّثيني عن الوقت

لا تُحدِّثيني عن الليلِ والنهار

سنعرفُ ذلكَ من الظلام

ما دُمْنا نحملُ قلوباً بلا ساعات

*

أعرفك من طريقتك في التحيّة

أعرفُ أنّكِ غاضبةٌ عندما تقولينَ لي: شكراً

بدلاً من أتعبتُكَ ياحبيبي

وأعرفُ أنّكِ متعبةٌ

عندما تختبئين في دمعةٍ شاسعة

أعرفُ ما لا تريدين قوله

من صمتِك في العناق

*

لماذا لمْ تُخبريني

أنَّ الله قد زارنا في غيابي

وأنّه قد أنزلَ علينا مائدةً من السماء

وإلاّ فما هو تفسيرك

لهذا النوم الّذي يغطُّ فيه الصغار

كما لو انّهمْ أكَلوا للتوّ؟

*

لم نعدْ نسمع الأغاني منذ زمن بعيد

جميعُها تتحدّثُ عَنْكِ وعنّي

لم نعدْ نسمعها ياحبيبتي

لأنّها قديمةٌ

تشبه بصورةٍ أو بأخرى

عتب الجياعِ على الرغيف

*

أعرفُ أنّكِ ستسألينني السؤال ذاته:

أينَ أنت؟

ولو كنتُ أعرفُ أين أنا

لارشدتُ قدميَّ إلى طريق البيتْ

*

لديّ الكثيرُ من الأصدقاء

طبيبٌ تعذّبُه سيّارته العاطلة

وحلّاقٌ يشكو رداءة الشفرات في السوق

بقّالٌ يقطعُ من دفترِ الديون

كلَّ يومٍ ورقةً ليشتري دفتراً جديداً

لديَّ من الأصدقاءِ من لا أعرفُ أسماءَهم

أعتذرْ منكِ،،

كنتُ أريدُ الحديثَ عن القطِّ الحنون

وهوَ يشمُّ أصابع قدميَّ

ليعرفَ إن كنتُ عائداً إلى البيتِ مشياً

***

كذبتُ عليكَ

عندما أخبرتكَ أنّني أتعافى

كنتُ أعني أنّ الجرحَ

صار قنطرةً يعبرُ النملُ عليها

صوبَ ضفّةٍ أخرى

من الوجع

وأنّني أسكنتُ فيهِ كثيراً

من الأكاذيب

أهونُها ضحكةٌ ملساء

وأصعبُها ما أردّده في الأدعيةِ

عن كشفِ الضُرّ

وإطلاق النار على الكروب

تعال إذن

خذْ عمري، واحجزْ لهُ مقعداً

في المدرسة

خذْ مفاصلَ البابِ إلى الطبيب

ليكفَّ عن النحيب

خذْ ظهر الخزانةِ

إلى المعالجِ الطبيعي

كي تعاودَ الوقوفَ بلا ألمٍ

خذ نار بيتي

وتصدّقْ بها الآن

على ذوي القلوب الباردة

خذني إلى سجنٍ ضيّقٍ

تظنُّ أنٌه أفضل

من هذه الحديقةِ القاسية

خذ رقعةً من جلدي

لترفو بها الشقّ الأبديّ

في سترةِ روحي

ولا تنسَ أن تزورنا كلّ ليلةٍ

لتعرفَ،

متى نشدُّ الرحالَ إليك

قلْ لي بربّك:

كيفَ سأجمعُ كلّ هذه الأكاذيب

وأرميها على بابك

في دمعةِ صدقٍ واحدة؟

كيفَ لي أن أفعلَ ذلك

وانت تبيتُ كلً ليلةٍ

في منحدرٍ ثلجيٍّ

وتلقي بنيرانك علينا

فيكبر فينا العناد

ولا ننضجُ؟

قل لي بشرفكَ:

أينَ أمضي

و كيفَ لي أن أعرفَكْ

أو تعرفَني

عندما نلتقي؟

*

لن تجدَ حجَراً في هذا العالم

تَحتكُّ بهِ كيْ تُضيء

أو أنْ تصدرَ مِنكَ على الأقلّ

شرارةٌ يتيمةٌ

***

في زمنِ سرّاق النارِ

ستغدو عودَ ثقابٍ منسيّاً في العلبة

أولئكَ الّذينَ ينتظرونكَ

قُلْ لهم:

إنّك تنتظرُ كذلك.

هيَ أُحجيةٌ لاتحلُّ إلّا بمعجزةٍ

أو رحيلٍ إلى حياةٍ نائيةٍ

أبْعدَ ممّا أنتَ فيه

وأقربَ إلى حوار الرياح

مع جناحِ صقرٍ عجوز

يحلّقُ قربَ السماءِ السابعة.

(رُسُل الظلام)

ثمَّة من يأتي ليلاً

ويغطّيكَ بلحافٍ قديم

وهو أمرٌ بليغٌ في متنِ الحبِّ

لأنّهُ يمنحكَ الشجاعةَ

كي تمدَّ ساقيكَ حين تنامْ

*

ثمَّةَ من يأتي ليلاً ويسلبُكَ ما تتغطّى بهِ

حتّى لو كانَ لحافا قديماً

وهو أمرٌ موجعٌ في متنِ الكراهيةِ

لأنّه يجعلُك شبيهاً بجنينٍ حزين

فتحضنُ رأسكَ بين ساقيكَ

حين تنام

*

هناكَ من لا ينتظرُ الليل

ويعرفُ أَنَّكَ بلا غطاء

لكنَّه يتردَّدُ على نومكَ بين حُلمٍ وآخر

ليعرف فحسبْ

إن كنتَ تحضنُ رأسكَ

بين ساقيْك

*

ماذا لو كنتَ بلا رأسٍ أصلاً؟

ماذا لو كنتَ بلا ساقين؟

كيفَ لكَ أن تحتفي بهم

أولئك الساهرين الذين يراقبون ليلَك

كما لو انّهمْ عسسٌ

يسعون أن يحتفظوا بصورة

لغفوتكَ الأخيرة؟

*

ماذا لو كنتَ تنامُ

واضعاً رأسكَ في حُضنِ أُمّكَّ؟

تُرى هل يُغيِّرونَ وُجهَتَهُم

بزعمِ أَنَّك طفلٌ

لا يمكنه أن يمضي وحيداً

إلى الغابة؟

***

(نقطة حبر)

بهذهِ الخطوطِ المتعرّجةِ الّتي تغزو جبينَك

والخطِّ المستقيمِ الذي ينامُ قلِقاً

بينَ حاجبيكَ المعقودين

بالغضونِ الّتي تتقاطعُ في وجهك

ترمُقها بأسىً

طيّاتٌ تتشاجرُ في عُنقِكْ

كم تشبهُ خارطةَ الرملِ

عندما يحفرُ العالمُ خنادقَ في وجهك

ليُخفي جيوشهَ الخاسرة

ويرسمَ على ما تبقّى منكَ

خطّةً مُحكمةً، لحروبهِ القادمة

*

ليسَ للطّائرِ الغريبِ

سوى جناحيهِ، وأسلاكِ الكهرباء

ليسَ لهُ سوى عُشٍّ

يجمعُ ماتناثرَ في زواياه

من حروفٍ مهملةٍ

تكتبُ حنينَهُ إلى القشِّ

وترسمُ صوتَ البردِ

في وجعِ النوافذ

*

أنا تائهٌ

وأنتَ تعجنُ الهواءَ بأصابعِك

لتدُلَّني بالإشارة

لماذا لم تؤدّبْ يدَكَ

في حضرةِ من يلوذُ بك

كي يستنطقَ ماتُخفي

من العلاماتِ الواضحة؟

رُبَّما كنتَ تقصدُ الأعلى والأسفل

وهي ليستْ جهات

بأيّ حالٍ من الأحوال

فأنا لنْ أصلَ السماء

عندما أقفزُ

مثلما لايهمّني أن يترفقّوا بي

عندما يضعونَني في حفرة

*

كنتُ آخرَ من وصلَ

وأوّلَ من أطلقَ ساقيهِ للريح

لمْ أبحثْ عن كرسيٍّ كي يُجالسَني

في وحشةِ الواقفين

ولم أتوقَّفْ دقيقةً واحدةً

لقراءةِ سورةِ الفاتحة

كانَ الحاضرون يموتونَ، واحداً تلوَ الآخر

لكنّهمْ لا يسقطونَ عن الكراسي

حتّى عندما تهزُّ أكتافَهُم

من بابِ التلطُّفِ

الواقفون اصيبتْ اقدامُهمْ بالخدَر

وثمّة من غلَبَه نومٌ عميقٌ

فنسيَ أنْ يصحو

نسيَ أن يقطعَ تذكرةً

قبلَ صفيرِ القطارِ المسافر

إلى السماءْ

*

لشدَّ ما جرحتُ يدي

عندما أشرتُ إلى ما خفيَ منّي

وبدلاً من الصمتِ

صرتُ أغنّي بصوتٍ أعلى

ظننتُ أنّهم كانوا يهزّون رؤوسهم طرباً

أولئكَ الذينَ أغمضوا عيونهم

كي لا يسمعوني

وعندما أخبرتهم أنّي لا أملك مظلّة

فإنّ ذلك لا يعني تماماً

أنّها تمطرُ في الحديقة

قدمي جريحةٌ

ومنذ زمنٍ لا أذكره

أقطعُ الدروب سيراً نحو الله

لأخبرَهُ فحسبْ، أنَّ قدَمي توجعني

أحملُ كلّ صباحٍ

ما زِنّتُهُ وطنٌ ثقيلٌ

لأكتشفَ أنّ ظهري يؤلمني كذلك

وعندما أحلمُ بالنومِ

أحاولُ مخادعةَ التعب

لأغفو في الوثيرِ من تلالِ القشِّ

وأرنو من بعيدٍ إلى البيدَرِ

أيَّتُها الأسباب

ما زلتُ أشعرُ بالانكسارِ

كلّما وقفتُ على بابكِ صامتاً

راجياً أنْ تكوني شفيعي عند الأسئلة

*

ليسَ من الحكمةِ

أن تطلبَ من الشجرةِ

أن تأتي بأبنائها

ليكنسوا الورقَ المتطايرَ

عن الأرصفة

الشجرُ -أسوةً بالأوطان-

ينجبُ أولاداً

كي يهاجروا بعيداً عنه

ويملأوا رصيفَ العالم

بالورقِ اليابس

*

ليسَ شرطاً أن تنتظر

لتعرفَ متى يَصِلونْ

- أولئكَ الذين تحبّهم –

ربّما يأتون بغتةً ودونما انتظار

تماماً مثل الذين تكرهُهم

وتكدُّ لتنساهم

ستحملُهم اليكَ رياحُ الفجر

كما أغنيةٌ

تتناهى إلى سمعِكَ من بعيد

كما غيمةٌ متعبةٌ

تفتشُ عن وسادةٍ آمنة

في فنجانِك

***

قبل الولوج الى قراءة رواية الخميائي لكاتبها البرتغالي بابلو خويلو، لابد من نافلة القول والإشارة، الى إن الأدب العربي الزاخر بتراثه الفكري القديم والحديث، وكل ما ورثناه من الكم الهائل مما كتبوه أدبائنا الذين أغنوا الفكرالانساني بالعديد من الروايات والقصص والأساطير والحكيات المتنوعة، لاشك؛ كان له التأثير الكبير المباشر أوغير المباشر، في تأريخ الأدب الأنساني.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فمنذ أن كُتبت الملحمة السومرية ملحمة كلكماش أو الف ليلة وليلة، أوالأرث الشفاهي المتوارث عبر الأجيال لحضارة بلاد الرافدين وحضارات البلاد العربية الأخرى، يبدو جلياً وخاصة، عندما نقرأ فنجد أن هنالك الكثير من الروايات والكتب الغربية والعالمية، قد استقت جوهر الفكرة من تراث الملاحم و الروايات والأحداث العربية، لتكتب فيما بعد روايتها بشكل أو بآخر، ولكن بمعالجة سردية درامية وفكرية ترتدي ثوبها المعاصر، وبأحداث تكاد تكون تقترب صبغتها من التراث الفكري الأنساني الذي أنتجته الانسانية عبر أجيال متعاقبة من بلاد الرافدين او بلاد العرب الأخرى.

ولكي نعرج على عجالة من أمرنا بهذا المقال دون أسهاب وبأختصار، فأن المطلع على تفاصيل رواية الخميائي للكاتب بابلو خويلو، يجد هنالك خيوط تأخذ اشكالها بالربط بين ما ورد من أحداث في هذه الرواية و حكايات الف ليلة وليلة، وربما من رحلة السندباد والأساطير التي رافقته، إلا أن الشكل العام للرواية وأبطالها والبناء السردي حتما سوف يختلف ليوازي الكتابة المعاصرة والزمن الذي نحن فيه.

ولكن تبقى فكرة الخميائي المنبثقة من روح النص العربي والمركز المحوري لإنطلاق هذه الرواية، التي ترتكز على بداية الرحلة لبطل الرواية والمصاعب والأهوال التي عاشها وشاهدها وواجهته خلال رحلة البحث عن الكنز في أرض العرب، وكأنه يذكرنا ولمن اطلع على التراث العربي والقاريء اللبيب، برحلة السندباد البحري في حكايات الف ليلة وليلة.

تتناول رواية الخميائي من أحداث متنوعة، يختلط بها العالم السحري من الفنتازيا أو الدهشة، فهي واحدة من الأعمال الأدبية البارزة التي آستحوذت على اهتمام القراء حول العالم.

إذ يروي بابلو خويلو في هذه الرواية، عن قصة الراعي الأندلسي سانتياغو، الذي يترك بلاده ورعيته أو مرعاه وحقول المزارع في أرض الأندلس، ليبحث عن كنزٍ مدفون في أرض الحضارات العربية بمنطقة الشرق قادماً من جهة بلاد المغرب العربي، ليقرر السعي الحثيث في البحث والكشف عنه والغور في عالم الحضارات العربية.

والرواية تعتبر رحلة داخلية للبحث عن الهدف الحقيقي في الحياة، وتعرض مفاهيم وقيمًا فلسفية عميقة تدفع القارئ للتأمل والتفكير بشكل عميق.

حيث يقدم الكاتب للشخصية الرئيسية وهو بطل الرواية سانتياغو، كشاب راعي يعيش حياة بسيطة في بلاد الأندلس. يراوده حلمٌ يدعوه إلى البحث والسعي الحثيث من أجل الوصول لذلك الكنز، والذي يشكل محور الرواية التي قدمها لنا خويلو.

يخاطر سانتياغو بكل ما يملك ليحقق حلمه، ومن هنا تنمو وتتطور شخصيته والاحداث، ليواجه العديد من التحديات والصعوبات خلال رحلته، ولكنه يكتشف خلالها قوته الداخلية وإيمانه بقدرته على تحقيق أحلامه.

تتضمن رواية "الخميائي" العديد من المفاهيم الفلسفية المهمة في الرواية التي تحدث عنها الكاتب من خلال شخصية بطله والشخصيات الأخرى. إذ تتعامل الرواية مع مفهوم الرحلة الروحية والبحث عن الهدف الحقيقي في الحياة. حيث يتعلم سانتياغو خلال رحلته أن الكنز المطلوب الذي يسعى اليه، ليس مجرد كمية من الذهب أو غيره، بل هو اكتشاف الذات وتحقيق التوازن والارادة.

لقد أعطى بابلو خويلو لروايته العديد من الأبعاد والقيم الفلسفية والأدبية التي تساهم في إثراء المحتوى الروائي وتعمق البعد السردي الهادف، والجو الصوفي الذي يرافق احداث روايته.

لقد جاءت الرواية استكشافًا فلسفيًا للبحث عن الهدف الحقيقي والمعنى الحقيقي للحياة، حيث يتم تمثيل ذلك بواسطة شخصية سانتياغو ورحلته في البحث عن الكنز، فهو يعطي دلالة لكي يتعلم القارئ من خلال الرواية أن الكنز الحقيقي هو الاكتشاف الداخلي والتحول والانتصار والتصميم الروحي، والإيمان وتعزيز الإرادة، للوصل الى الهدف المنشود، وإذا ما اخذنا بنظر الاعتبار أن الكاتب تناول مفهوم القدر والتوجيه الروحي في الرواية، ليعطي اكثر عمقاً بأن الإنسان ينبغي الا يكون أسير قدره السلبي والاحساس بالإحباط والهوان.

فعنده بطل الرواية يتعلم أن هناك قوى خفية توجه حياته وتدله على الطريق الصحيح، كما هو الحال حيث تتجلى هذه الفكرة في شخصيات الآخرين للرواية مثل ملك الملوك والكائن الخارق الذي يساعد سانتياغو على فهم العالم الروحي وتحقيق رحلته. أي يسعى الكاتب الى خلق حالة من المزج بين قراءآته لفلسفة الحياة الروحية والقدرية عند أهل الشرق القدماء، وبين العملية الابداعية المضافة لحبكة البناء الروائي وما يمكن توظيفه داخل ثيمة النص.

فالكاتب استطاع أن يوظف الرمزية والأسطورة في جسد نص الرواية، وهي أي الرواية، التي أغناها بالسحر الشرقي المليئ بالأساطير والرموز الذين يحملون معاني عميقة ومتعددة الأبعاد، على سبيل المثال، فعندما يرمز للكنز في الرواية، إنما يعني ذلك الهدف الرامي اليه في الحياة كمظهر وقيمة عليا، في حين ترمز الصحراء و كذلك البحر إلى الصعوبات والتحديات التي يجب تجاوزها لتحقيق النجاح، وهذا ما يسحرنا به بابلو خويلو في اسلوبه ؛ بنفس كتابي، صوفي، بلاغي، عالي الدقة.

تشجع الرواية على السعي لتحقيق الذات والتطوير الروحي. من خلال شخصية البطل سانتياغو ومعركته الداخلية، فالكاتب يسعى الى أن يلقى على المتلقي نظرة عميقة على أهمية التنمية الشخصية والتفكير العميق (بالمفهوم المعاصر) في السعي الى أهدافه وتحقيقها، لقد اكتشف خويلو في روايته هذه الى العلاقة المعقدة بين الإنسان والكون وكيف تتداخل طبائعهما، وذلك يظهرمن خلال العديد من الإشارات والتفاعلات الطبيعية التي تحدث خلال رحلة سانتياغو من بلاد الاندلس الى بلاد العرب وكنوز حضارته في الشرق.

تميزت رواية "الخميائي" بأسلوب سردي بسيط وجذاب يجذب المتلقي ويجعله متشوقًا لمعرفة تطورات الأحداث التي تتلاحق في أجواء رحلة سانتياغو، كما استخدم خويلو لغة بسيطة وصياغة مفاهيم فلسفية بطريقة سهلة الفهم، كأنه يدرك الكاتب في كيفية ومعرفة توظيف المفهوم الفلسفي للحياة داخل النص الروائي لتقديمه للقاريء مبسطاً، مما يثير إعجاب كل من أطلع عليها، ناهيك عن القيمة الروحية التي تعرضها الرواية حول البحث عن الغاية المنشودة، وإلهام القاريء وتحفيز ذاته للقراءة والتمعن والبصيرة المتعمقة بين أسطر الرواية.

فالرواية تأخذ ابعادها بطريقة تصاعدية هارمونية وكأنك بين عالم يتوزع بين الحقيقة والخيال، أو كأنك بين عوالم أساطير التراث العربي والحكايات العربية القديمة التي ألفنها وسمعنا عنها من قبل، فالكاتب يوظف عنصر التشويق والدراما التي تكون إيحائية وبصور وأصوات متعددة. فضلاً على عمق الشخصيات وتفاعلها مع بعظها.

لقد اعطى بابلو خويلو لشخوصه الروائية وقرآئه حالة من التعاطف بين الطرفين، والإستغراق داخل النص بانسيابية مبدعة

حيث لم تكن الاساطيرالا رموزاً وبعداً استخدمها في الرواية لإضفاء عمق وتعقيد على الحبكة الروائية، وبطريقة توحي بالقدرة الابداعية للكاتب في حسن التوظيف للأسطورة الموفقة للرمز.

لقد أثرت رواية الخميائي بشكل كبير في تأريخ الرواية العالمية، وحظيت بشعبية واسعة في جميع أنحاء العالم، وتعد مرجعًا روائيًا للعديد من القرّاء والكتّاب، حيث تحتوي على فلسفة وحكم ونصائح قيّمة.

تسلط الرواية الضوء على قضايا مثل البحث والإصرار في الحياة، وقوة الإيمان والتحقيق الذاتي، وأهمية الشغف والتفاني في تحقيق الأحلام، والسعي لتحقيق الطموح الشخصي.

بفضل تأثيرها العميق، أصبحت جزءًا من التراث الأدبي العالمي، ومرجعًا روائيًا يستخدمه العديد من الكتّاب والمفكرين في دراسة وتحليل الأدب. كما أنها ساهمت في إثارة الاهتمام بالروايات الروحية والفلسفية في الأدب العالمي.

إن ما تميزت به رواية "الخميائي" بأبعاد فلسفية عميقة تتعامل مع الهدف الحقيقي في الحياة، والتحول الروحي، والقدر، والأسطورة، والتنوير الذاتي، والعلاقة بين الإنسان والكون، تعتبر هذه الأبعاد جزءًا أساسيًا من القيمة الأدبية والفلسفية التي تقدمها الرواية، مما جعلها من بسط سلطتها الإبداعية على مساحة واسعة من القراء.

***

د. عصام البرام - القاهرة

جدل الماهية والوجود

مفيدة البرغوثي شاعرة في الأصل بدأت مسيرتها منذ أواسط التسعينات، نشرت العديد من القصائد في العديد من المجلات التونسية والعربية كمجلة الإتحاف والحياة الثقافية وكتابات معاصرة اللبنانية، إضافة إلى الصحف التونسية كجريدة الصحافة في ملحقها الثقافي الذي كان يشرف عليه الشاعر والروائي يوسف رزوقة  وتعتبر أقصوصتها " رحلة العطش " عملها البكر في مجال القصة القصيرة، وقد نشرت في صحيفة المثقف بتاريخ 14 جويلية 2023 في باب نصوص أدبية.

1 – ألق البدايات:

تبتدئ الأقصوصة بمشهد هلامي للزمان والمكان مع وجود شخصية إمرأة تتكشف ملامحها من خلال سيرورة الأحداث، يظل الزمان والمكان غير واضحي الملامح لكأن الكون قد ولد للتو والخالق قد أسدل عليه الليل والنهار. إنها البدايات فالشمس والليل والنهار كلها في حالة بحث عن موضع لها في كون يعمل على ضبط إيقاعه الخاص به .في الأقصوصة حضور للعناصر الأربعة: الماء،النار،التراب والهواء بأشكال مختلفة تعطي للكون رائحته ولونه تقول الكاتبة: " تغوي الصخر والماء والنار.." " كغبار الصحراء في الحلق" فما يسمع لها فحيح ".تزامنت صورة الكون قيد التخلق مع وجود ملامح إمرأة حامل، وحيدة في قفر حيث الوجود يبحث عن ذاته لا أنيس لها سوى جنينها الذي تحمله في أحشائها لكأننا أمام خلق طفراني أشبه بالمعجزة، سليل الأمر الإلهي التكويني: " كن " يغيب الرجل/ الذكر على إمتداد الأقصوصة. صورة الجنين تحيل على المخيال الديني المتصل بعيسى النبي في بطن مريم المقدسة في التراث التوحيدي فالأقصوصة تقدم سردية جديدة للخلق الكون إمرأة والوجود أنثى.

2 – الأنثى هي الأصل:

تبوئ الكاتبة في الأقصوصة الأنثى منزلة الكائن/ البكر الذي يتزامن وجوده مع بقية مكونات الوجود . فوجودها يسبق ماهيتها كما تقول الفلسفة الوجودية التي تبناها جون بول سارتر، الوجود هو كون الشيء مدركا بالإدراك والشعور أكثر منه باللغة والكلمات، أما الماهية فتعريفها يكمن في الإجابة على السؤال " ما هو ؟ " ما هو الإنسان الموجود؟ الإجابة تحدد ماهية الإنسان وحقيقته. إن أسبقية الوجود على الماهية تجعل من المرأة الحامل في بداية الأقصوصة موجودة لم تتحدد ماهيتها بعد، بل سيرورة الأحداث هي التي ستتكفل بالكشف عن ماهية المرأة فالكيان جهد وكسب منحوت على حد عبارة محمود المسعدي. لم تكن المرأة تعلم بما تحمله في أحشائها، قد يكون صنوا لما تبصره من كائنات طبيعية، تستبد بها الحيرة إنه أول حمل في الوجود. الجهل بالمآلات يعمق المأساة تقول القاصة : " ثم تسبل هامها المتعب على الأرض وتنظر إلى بطنها الأبجر قائلة: أيكون هكذا الإمتلاء، فلعلي أنبت شجرا وأثمر" (ص 127) تنوس الأنثي بين حر كالجمر تنسج من خيوط الشمس لحافا بعد أن إستحمت بالشمس وبين الإرتداد نحو الماء بحثا عن إعتدال مناخي يمكنها من الإستمرار في البقاء. يطل هذا التيه بصاحبته على حافة الجنون، تكشف عنه حركاتها في كل إتجاه، تلتحم بعناصر الطبيعة بحثا عن سكينة ( همت واقفة...شخصت فيما حولها...طأطأت رأسها...صاحت صيحة..) لقد تحرك الكائن الجديد في أحشائها، الحياة تدب فيه، روح تخرج من الروح نحن روحان حللنا بدنا على حد عبارة أبي منصور الحلاج.

لا تختلف رمزية ولادة الوجود في إرتباطها بالماء عن ولادة الأنثى " إنها الغيمة تمطر أو هي الروح تخرج " تحضر صورة مريم العذراء حين جاءها المخاض في مخيال القاصة صدى لموروث ثقافي، تسير الأنثى بحثا عن الأجادب والجدب مكان قفر لا حياة فيه، إنها عملية إخراج الحي من الميت، أن تختار القاصة لبطلتها أن تهب الحياة للجدب والقحط فتسري في الوجود وقد إخضوضرت أعشابه تقول: " لأقصدن الأجادب تستوي فيها روحي " حملت قربة ماء وبعضا من الزاد وأجدت السير...و قد إشتد عزمها إليه تأكل الأرض أكلا لكأن ساعة الولادة قد أزفت.

إذا سلمنا بالمصادرة الأولى وهي أن الوجود يسبق الماهية ورحنا نتتبع الشخصية في  مسارها لنحت كيانها وضبط ماهيتها، نعثر في منتصف الأقصوصة تقريبا على تحول قلب ذلك المسار يؤشر عليه قول الكاتبة " إنسابت في صلاة لا نهاية لها " فإذا بنا ننتقل من معادلة وجود/ماهية إلى ماهية/وجود،تبرز مسألة الدين في أبرز خصائصه وهي الصلاة – الدعاء .فكأننا إزاء دين فطري، هلامي الملامح مندمج في الخلق،تحيل هذه الفكرة على الآية 172 من سورة الأعراف: " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا..." نحن أصبحنا أمام خلق قد حددت ماهيته من قبل أن يخلق،لقد خاتلتنا الكاتبة فقبل أن نكتشف أن شخصيتها قد لامسها المعتقد،كانت تحدثنا عن الصلابة الأنطولوجية للمرأة والإرادة القوية تقول : " كانت رجلاها إمتدادا للأرض المتحجرة،..لكأنها قطعت من حجر صلد لا تني.." فإذا بهذه القوة تخفي ضعفا بنيويا خلقيا. فالإنغماس في الصلاة يشي بأن الكائن التائق إلى الجوهر الفرد في مسيرته كائن تراجيدي صورة " للأدب الذي هو مأساة أو لا يكون، مأساة الإنسان يتردد بين الألوهية والحيوانية. وتزف به في أودية الوجود عواصف آلام العجز والشعور بالعجز أمام نفسه. (من مقال " أبو العتاهية " لمحمود المسعدي، مجلة الباحث،العدد12 / 1944 )مع إقتراب لحظة الولادة يزداد التسبيح والتغني بالذات وبما تحمله وتتعالى ترانيم التمجيد تقول الكاتبة على لسان بطلتها: " أنا،أنا وأنا إثنان تطاولا فهما واحد، لا نهاية له أنا وهم ونحن جميعا والفراغ نشكل الكون والنماء،أنا أنا ما لي والصخر أنحته في جوفي فيخرج عني حياة " (ص127 ) إن التصعيد الروحي يستلزم تصعيدا ماديا أداته الجسد، صعود لا يني رغم التعب والإجهاد – جسد منهك لا يفتأ يسبح وهو في الجبل تلازم القول/العمل،فإذا كان العمل الفني قد قد من لغة فإن الكيان قد قد من فعل. نهاية الأقصوصة تدخلنا عالم الحلم/ الرؤية فيتداخل الواقع بالمتخيل فلا ندري أولدت المرأة أم خيل إليها ذلك " وإذا بها ترى فيما يرى النائم....ثم " وبعد وقت لن ينتهي رأت البجعات..." لتنتهي الأقصوصة بترديد العصافير التي كانت شاهدة، : " ولد سيد البحر ولد،قد إله قد، سعادتنا سعادة وخصبنا عادة." ما بين رأى القلبية ورأى البصرية تنتهي الأقصوصة وقد غيرت الولادة الجديدة ملامح الكون ونزعت عنه قتامته والأخاديد التي تكدر صفاءه لتنطلق البجعات من جوف الماء نحو السماء.

الخاتمة:

تندرج أقصوصة "رحلة العطش" ضمن الأدب التجريبي ذي المنحى الوجودي، هي صدى صادق لتأثر الكاتبة بكتابات محمود المسعدي: حدث أبو هريرة قال،السد، مولد النسيان،..من حيث الشكل (اللغة والأسلوب) ومن حيث المضمون (الفلسفة الوجودية) وهي محاولة تذكرني بما سعى إليه الكاتب فرج لحوار في رواياته الأولى حيث بدت بصمة المسعدي واضحة في أعماله مثل " الموت والجرذ والبحر "(1985) وروايته " النفير والقيامة " (1985).

***

بقلم رمضان بن رمضان: باحث / ناقد

محطات في النضال الوطني في الرواية القصيرة جداً (القداحة الحمراء) للأديب حميد الحريزي

أن ساحة الابداع في الفن الروائي الحديث واسعة جداً، في آفاق التحديث في الفن الروائي مهما كان حجم الرواية طويلة أم قصيرة، فأن الباب مفتوحاً لبراعة الأديب في قدرته في التحديث واختيار الصيغة واسلوبية الطرح الحدث السردي، بما ينسجم مع ضرورات العصر، الذي يهتم بالسرعة والمباشرة في تناول، دون إطناب زائد في منصات الحبكة الروائية. ولا ينكر احداً بأنه في السنوات الاخيرة، جرت محاولات تجريبية تكللت بصيغة حديثة بالابداع في شكل الصياغة الفنية، ومقومات البناء الروائي في المتن السردي في الرواية القصيرة، لهذا شهدنا جنس جديد أو الوليد الجديد والحديث في الجنس السردي، هو الرواية القصيرة جداً، هذا يدلل أن آفاق الابتكار والخلق، هي علمية جارية لم تتوقف في تهذيب الشكل الفني أو الصيغة الفنية، التي تعتمد على الاختزال والتكثيف والتركيز الشديد في منصات سرد الحدث الروائي، لذلك خرج هذا الجنس الجديد والحديث غير مألوف في الاوساط الثقافية والادبية، هو ما يسمى الرواية القصيرة جداً (Very Short Novel) والذي اشتغل عليه الاستاذ (حميد الحريزي) في مجهره الابداعي، بما يملك من كفاءة وخبرة طويلة في منصات السردي الروائي، ان يهتم بهذا الجنس الروائي الوليد، في الابتكار المبدع، بدون شك ان للاديب الحق في اختيار الصياغة في الشكل والمضمون بما يملي ذوقه الادبي، وبما يختار من حدث سردي ساخن في رؤيته الفكرية العميقة الدالة ان تصل الى القارئ مباشرة، دون الاسهال في الاطناب الزائد، ان يبسطه بجمالية الصياغة الحديثة، في اعطى زخم مضاعف في المدلولات التعبيرية والفكرية الملتهبة، التي تحمل معنى ومغزى ورمزية عميقة، في الوصف والتصوير المركز والشديد، وفي هذا المجال أصدر لحد الآن أربع روايات تحت مسمى، الرواية القصيرة جداً وهي:

1 - المقايضة

2 - القداحة الحمراء

3 - أرض الزعفران

4 - المجهول.3470 القداحة الحمراء حميد الحريزي

يؤطر هذا الجنس الأدبي الجديد، بما يحمله من مقومات جمالية في اللغة الرشيقة، التي تجذب القارئ والمتابع الى الاهتمام والقراءة، وتأثير النفسي في المنطلقات الفكرية المعبرة، لأنها تعبر عن معطيات الواقع ومفرداته الفعلية، في مدلولات المعنى والمغزى والرمز، في الاتجاه الواقعية الحديثة. وهذه الرواية القصيرة جداً (القداحة الحمراء)، مشبعة في جمالية الشكل الفني والمضمون الفكري، وهي تتحدث عن حقبة سياسية في زمن سلطة البعث، ونهجه وسلوكه الارهابي بالقمع والاضطهاد، في الارهاب السياسي والفكري لقوى اليسار العراقي، رغم أنه مرتبطاً معهم في جبهة وطنية آنذاك، لكنه اتخذها كغطاء لتصفية اليساري العراقي، وإخراجه من المعادلة السياسية، وتشديد قبضته الحديدية على عموم الشعب عامة، عرباً وكرداً وأقليات، أي أنه لا يترك أية بذرة للتعبير السياسي وحرية الرأي، ويتوغل الحدث السردي بظواهر الواقع السياسي والاجتماعي في تلك الحقبة المشؤومة، في تهديد كل مواطن بالعواقب الوخيمة، إذا رفض الدخول في اسطبل البعث، هكذا كانت السلطة الشمولية تدير دفة الصراع السياسي في ادارة الدولة، والواقع يغوص في الإهمال والحرمان والمظلومية، وخاصة سكنة الاهوار، يعيشون حالة البؤس والفقر، ولكن رغم اسلوب التنكيل والبطش، فأن الصراع السياسي لم يتوقف، بل أخذ أشكال متنوعة من النضال ولم يستسلم لارادة السلطة الشمولية (نعم يا (عاصف) هذا طريق النضال، فهو ليس معبد بالورود هذه طبيعة الصراع الطبقي). ويتحدث الحدث السردي الى تلك الاساليب الارهابية، من خلال شخصيتين تدير دفة الأحداث السردية وهما: (عاصف) الموظف الصحي والمبعد السياسي الذي رفض الدخول في اسطبل البعث، و(كاكه حسن) المهجر من مدينته (زاخو) في أقصى الشمال، يبعد الى اقصى الجنوب في محافظة ذي قار (الناصرية) في (ناحية الفهود) ويعين كناس في البلدية. بعد انهيار الثورة الكردية عام 1975 عقب اتفاقية الجزائر الموقعة بين صدام وشاه ايران، ارتبطا بعلاقة صداقة حميمة كأنهما احدهما يكمل الآخر، أو مثل ما يقول المثل: الغريب للغريب نسيب، ولكن في الرواية يكون المنطق الأصح: المنفي للمنفي رفيق.

هذا الارتباط الحميم بين عاصف وكاكه حسن في تجوالهما اليومية وفي الاهوار أو في الناحية، أو من خلال تواجدهم في المقهى والمطعم الوحيدان في (ناحية الفهود)، يثيران استغراب الناس وازلام البعث بالريبة والتساؤل والاستغراب، فعاصف موظف (معتبر) و(كاكه حسن) كناس في البلدية بائس، فما الذي يجمعهم ؟!.

أحداث السرد:

الحدث السردي يمتلك واقعية فعلية، فهو من صلب تلك الحقبة السياسية المشؤومة. من هذا المنطلق فأن الشخصيتين (عاصف) و(كاكه حسن) يجمعهما قاسم مشترك واحد الابعاد والتهجير، ونفس التربية والثقافة الثورية اليسارية، ونفس الروح النضالية التي تقاوم تداعيات الواقع القاهرة، في المعاناة والاضطهاد، الأول رفض الدخول في اسطبل البعث فكانت عاقبته الابعاد، والثاني ضمن سياسة التهجير التي مارستها سلطة البعث، في تهجير الأكراد من مناطق سكناهم من اقصى الشمال الى اقصى الجنوب، كعقاب جماعي بعد انهيار ثورتهم، وممارسة تشتيت العوائل حتى تفتيت العائلة الواحدة، كل واحد منهم في مناطق مختلفة بعيدة عن الآخر، ويستغرب (عاصف) من العناق الحار والشوق المرهف حينما يلتقي الاكراد احدهما بالآخر. كأنه وجد روحه ورئته في الاخر، ويوضح (كاكه حسن) عن هذا الحب الذي يجمع الكرد المهجرين والمشردين من مناطقهم، كأنهم عائلة واحدة (كاكه هؤلاء الكرد من عائلة واحدة، فرقتهم الاحداث ولا يعلم أحدهم بمصير الآخر، عندما سفرتهم السلطة ووزعتهم على المناطق الجنوبية، ووضعهم في صرائف من القصب والبردي أعدت لهذا الغرض) وكان نصيب (كاكه حسن) التهجير من اقصى الشمال (زاخو) الى اقصى الجنوب في محافظة ذي قار (الناصرية) في (ناحية الفهود) ويعين كناس في شارع البلدية، تقبل الأمر برحابة صدر، وكان يتفانى في تنظيف شارع البلدية حتى يستمر بالتنظيف ما بعد الدوام، وكان يصحب مكناسته على الدوام، وكان معجباً في بيئة الاهوار، وخلال تجواله في بيئة الاهوار بصحبة (عاصف) ويرى وجود الأضرحة والمقامات الدينية الكثيرة والمنتشرة، ويراقب حركة الطيور فوق الماء الاهوار، وصيد الصيادين وهم يعودون في الغروب وهم يحملون رزقهم اليومي من الصيد. وينبهر في هالة الغروب حين يطل قرص الشمس على الاهوار (يغط الصديقان في صمت طويل كالمسحورين، وهما يراقبان مغيب الشمس عند الغروب، ويبدأ باقتراب قرص الشمس من سطح الماء رويدا رويدا) هذا المنظر الخلاب جعل (كاكه حسن) يعشق بيئة الاهوار، التي تملك ارث ثوري، هو انتفاضة الاهوار بقيادة الثائر (خالد احمد زكي). رغم أن (كاكه حسن) لا يعرف القراءة والكتابة، لكنه يحمل عقلية منفتحة على الثقافة والوعي الثوري، يملك الحس الذي في تمييز الأشياء ببصيرة ذكية، كأنه مترس بالوعي والخبرة والذكاء، فكان يسرد الحكايات والاساطير، منها حكاية كاوه الحداد الذي هشم رأس الملك الضحاك، وحكاية جلجامش وبحثه عن عشبة الخلود التي سرقتها الافعى منه، ويذكر بكل احترام وتبجيل العادات والتقاليد الثورية التي يحملها الشعب الكردي، ويهتم في شكل خاص بالتحضير بالفرح الغامر في عيد نوروز، يلبس الملابس الكردية الجديدة، ويشعل النار في قداحته الحمراء، الغريبة الشكل والنوعية ويرقص حول النار مبتهجاً بقدوم العيد. و(عاصف) يشعر أنه امام مثقف كبير مشبعاً بالثقافة الثورية، وليس في حالة كناس بائس، أو كأنه (الفيلسوف الكبير المسحور في لباس كناس بائس)، لذلك تراوده المقارنة الثورية بين شخصية الثائر (خالد احمد زكي) جيفارا الاهور، وبين (كاكه حسن) كاوه الاهوار، هذه المفارقة لها طعم في التذكير بأن أرواح الثوريين تتناسل وتتشكل في اشكال مختلفة، ولكن هدفهم واحد هو التحرر والحرية من سلطة الاستبداد والطغيان. وفي يوم ممطر فقد (عاصف) صديقه الحميم، وفتش عنه في كل مكان فلم يجد له أثر، راوده القلق على حياة ومصير رفيقه (كاكه حسن) ربما تعرض الى اختطاف أو قتل من قبل ازلام البعث، وبدأت تساوره الكوابيس القلقة على حياته، عندما تطول الأيام الغياب ولم يعثر على صديقه، لا في (ناحية الفهود) ولا في المقهى والمطعم الوحدين في الناحية ولا في الاهوار،، ولكنه عرف بعد ذلك من الصيادين، حيث وجدوا (البلم) والمكناسة المرتبطة بسلسلة (البلم) وقداحته الحمراء الغريبة، احتفظ بها لصون الأمانة الثورية، ولم يجدوا (كاكه حسن) وضاعت اخباره، ولم يسلم جثته الى احد افراد عائلته، وهذا ما يثير الحزن والقهر في نفس (عاصف) فقد اعز صديق ورفيق، بهذه النهاية المأساوية.

***

جمعة عبد الله

عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر صدر للشاعر إميل عامر باكورة أعماله الشعرية والذي يتضمن 31 قصيدة في 96 صفحة.

إنها باقة أشعارٍ تتشظى ما بين لهيب الصراع الأنيوي وصقيعِ المهجر لتكون بمثابة كاشفاً ضوئياً لصدى تجلِّياته التعبيرية المؤثِّرة باستنطاقها الصوري لمسيرته الذي ضيع مقوده منذ الصغر ليعود من جديد ويتقط ذاته وكما يقول في قصيدته (ميلاد اعمى):

في مثل هذا اليوم وقبل سنين ذابلة

مخضتني الظلمة صرخة

والفراغ لبسني حيزا

فبدأت السنين

برمي جثث أيامها على أكتاف أحلامي حتى تكسرت

منذ الوهلة الأولى أي عتبة المجموعة ستجد نفسك أمام ارهاصات الشاعر لأنك ستكون أمام مجازات شعرية قابلة للتأويل والتشظي وأنت تتساءل ما الذي جعل أغنيته أن تتوشح أو تتقمط الغيمة؟ أمن أجل أن تسقي الحقول (القلوب) المتعطشة للمطر كي ينمو الزرع أم لتقول لك ها هو الشتاء قادم فعليك أن تتقمط السكون ؟؟؟ إلا أن سرعان ما تجد نفسك أمام القصيدة الأولى (أغانِ صماء) لتكشف لك السر ، وهي تقول ما عليك إلا  أن تمتطي صهوة الضوء لتهرب من الزمن الذي جاء كغير عادته محملاً بشتاء ممطر فما عليك إلا  أن تتقمط الوحدة في شوارع نصف مهجورة كما يقول إليوت في قصيدته.

فجاءت قصائده مرايا عاكسةً لوقائع الماضي التالد، والحاضر الراهن ، واستشراف الغد المستقبلي الآتي.

إلا أن الشاعر استطاع أن يكسر رتابة الوحدة من خلال مسيرته متنقلا من الماضي الى الحاضر بسيل من الأغنيات كي ينظف وينشط من خلالها ذاكرته التي تعج بمآسي الماضي وهو يقول:

أركب الضوء هربا من الزمن

حشود لساعات تنتظرني

في مفرق الانطفاء

أحاول فرش أغنيةٍ

على حبل الوحدة

لعلها تنشف من زيت الذاكرة

ومن خلال مجسَّات خيوط حبله السري الشعري يُضفي على سيل من الصور المجازية والمتناوبة نثيثاً علائقياً من روحه الذاتية وارهاصاته النفسيَّة للتخفيف من شدَّةِ غلواء الصراع الداخلي الذي يعيشه الشاعر والذي هو من افرازات الماضي والحاضر في وطنه على طول مسيرته في حياته الشخصية.

هذه الأغنيات التي دعته الى شوارع لا تزال تتنفس من وطأة أقدامه كأقدام غيره من شباب جيله والتي تتسارع نحو شواطئ آمنة ، فجاءت أنفاسها على شكل تنهدات وهي تتلفظ أنفاسها الأخيرة. شوارع مهجورة تفرشها الجثث رغم قصرها كونها تبدأ من أحشائه وتنتهي في الأزقة والجبال التي ترشدهم الى طريق الغروب عن الوطن وكما يقول في قصيدته (يوم هارب من التقويم):

في ذلك اليوم الهارب من جيب التقويم

زارني الألم

ليستأصل ما تبقى من هواء في رئتي

لكنه كان رقيقاً كغير عادته

لأنه جلب الشمش معه هذه المرة

هذه المجموعة رغم كونها باكورة اصداراته ، إلا أنها حبلى بصور مجازية جميلة تملك إيحاءات عميقة وبليغة، في اكتشاف الظاهر والباطن، كونها حصيلة استلهام لصور الواقع المرير والمتحرك كما الرمال ، صور تحمل بين طياتها علاقة متبادلة بين التصوير الشعري، وإيحاءات رؤاه الفكرية وهي تتمحور حول فكرة المجاز بوصفه بنية فاعلة في شعره فتسحبك الى متاهات قصائده التي تمتد عروقها الى الأعماق ، لذا ستجد نفسك تعشق السير كي تتعقب تشظيات صوره الشعرية التي تدغدغ مخيلتك لترسم في ذهنك العديد من الصور كي تصل الى تلافيف كل صورة من صور قصائد المجموعة كونها صور جميلة متشظية قابلة للتأويل كقوله في قصيدته (برومثيوس العاشق):

صرخ صوتي

في صلوات الغصون المتكسرة

في خريف لا يبصر  بصيص الشتاء

في ثغرات المطر

الى بوابات أسمى النجوم

نصوص كهذه تحمل مفهومها النصي من إيحاءاتٍ  نفسيَّةٍ مُثيرةٍ وطاقاتٍ تعبيريةٍ أثيرةٍ على نفسية المتلقِّي. فالمنظور الجمالي لديه هو رؤية ذهنية داخل مساحة البناء والتلقي ، فنصوصه قادرة على اختراق مخيلة القارئ بصور تستمد حيويتها ووجودها الحى من خلال الاتصال والسير بشكل متوازي والتشابك مع لحظة هى أشبة بلحظة الفيض ليخلق منها أزمنة تتعالق مع الواقع لتشهد انفتاحا على العالم بصور جمالية يتمازج فيها الشعرى والسردى فى بنية واحدة كي تسهم الصورة الشعرية بدورها فى حركية النص وتترك نوافذ التألق والتأويل مفتوحة على البنية السردية في إنجاز النص الشعري ، ولكنها لا تطغى عليه ، بل توسع من الشبكة الدلالية للنص الذي يسعى إلى تعميق فاعليته من خلال اتكائه على البنيات السردية، فيشتغل الحدث أو الموضوع الحكائي في الخلفية ليشكل محوراً للنص الذي يستمد منه طاقاته الدلالية والشعورية والفكرية كما في قصيدته (صرخة في تماهي الموت):

شكرا أبي لأنك تركت لي أنفاسك

معلقةً على جدران رئتي

أحاول الآن كل ليلة أن أشعل زفراتك

لأتدفأ

كي تذوب اليقضة عن جلدي لألبس شهقاتك

فأخرج من شباك هذا الحلم الذي لا باب فيه

....

أبي

على السرير الذي تشاركناه

وعلى الجانب الذي كنت تنام عليه

أنام الآن

أحاول الغطس فيه

فأرى كثيراً من بقايا أحلامك التي

خبأها السرير في بواطنه

في هذا النص يمزج الشاعر بين صوته من خلال ضمير المتكلم، وصوت والده والذي هو صوت الأنا، كي يربط بين الماضي والحاضر ليجعل الشاعر من نصه بؤرة للتحولات التاريخية عبر انصهاره مع الشخصية التراثية (الوالد)  لكن برؤية مختلفة وترميز مغاير.

لقد استطاع الشاعر بلغة شعرية مترعة بنبض اليومي أن يعبّر في سردية تصويرية زادت من حدّة التوتر التي تعيشها الذات الشاعرة، فسردية صوره المجازية تشكل بؤرة مشهدية تصويرية مفعمة بالبعد الوجودي في إطار صراع الشاعر مع الشوارع المهجورة والخالية إلا من الجثث المتقيأة ، فهو يحاول القبض على ملامح طفولة هاربة بفعل الاغتراب القسري الذي تحياه الذات الشاعرة في عالم يزيدها شعورا بالمفارقات لاستعادة المنفلت من الذات وهي تستعيد هذا العالم الممتد في الصفاء والبعث والخصب. كما في قصيدته (في داحل حلم):

وعندما وقف الصمت عن الغناء في أزقة جسد الليل

الملئ بالمدن

خرجت قرية تتسكع بين أعمدة أنفاس النائمين

ولكنها كطفلة ضلّت طريق العودة الى نفسها

وختاماً أقول:

لقد نجح الشاعر من خلال تجربته الشعرية هذه من حقن أنساق نصوصه بما تخبئه ذاته المضمرة  كي يشع من روحه ما كان ظاهرا أو خفيا ، عبر فاعلية التأويل وتبادل الرؤى بين ما يربو اليه النص وبين فهمنا الخاص للنص. إنها تجربة محايثة للداخل النصي ومكنوناته، ويكون بهذا قد رسخ الشاعر العراقي المغترب في سدني إميل عامر أقدامه بجدارة في حقل الشعر ليشد من عزيمته في مواصلة العطاء طالما هناك فسحة للتطوير وبراعة في إبراز خطه الشعري من تجلياته الأولى متمنين له الموفقية.

***

نزار حنا الديراني

مدخل عام:

النص الإبداعي، بكافة أجناسه، هو مقترح تغيير ثقافي وليس إعادة تسجيل لوقائع أو مجريات اليومي، كما يقترح البعض، تثبيتاً لواقعية النص أو تحديداً لهويته المكانية (الوطنية)، كما يصطلح عليها.

النص الإبداعي، وكما تقول لغة الشعر، هو عملية (هدم للذة لبناء ألم أكثر لذة)، وهذا يعني أن النص، كمقترح ثقافي، هو عملية هدم وتقويض وخروج على حالة تناقض أو إشكالية فهم لوضع راكد لم يعد قادراً على تقبل أو هضم الأوضاع والمقترحات الثقافية التي تفرضها سيرورة وصيرورة عجلة الحياة في تشوفها وتطلعها للتطور الحضاري ومعطياته الجديدة.

هذا الفهم (الشاذ!!) في الثقافة وطريقة التفكير العربيتين هو أشبه بعملية إقامة برج إيفل في الواقع والبيئة الثقافيتين العربيتين في مطلع القرن الثامن عشر، وما كانت ستواجهه من استنكار، عملية (هدر) كل أطنان الحديد التي استخدمها ذلك المهندس الفرنسي (إيفل) في إقامة برجه العملاق، كمعلم جمالي (في ظاهره) لا أكثر!

العقل العربي الذي ينطلق من مبدأ العملية والاستخدام الأمثل للأشياء، وفق طريقة تفكيره المحافظة المتوجسة والمعادية للتجريب ولما كل ما هو جديد وهادم للقديم والراكد، لم تخترقها، في تاريخنا الثقافي الحديث، سوى بعض العقول الصادمة والجريئة، التي امتلكت الجرأة على تبني مشروع (هدم اللذة القديمة) من أجل بناء (ألما أكثر لذة)، من أمثال نزار قباني وأدونيس وسعدي يوسف ويوسف ادريس والطيب صالح وجبرا ابراهيم جبرا وحيدر حيدر ونصر حامد وسيد القمني وفرج فودة… وبعض الأسماء القليلة الأخرى، التي لا يكاد يشهد أثرها الثقافي، بسبب قلتها ومحاربة جهدها.

لقد ظلت فكرة عملية إقامة برج إيفل (بالمقصد المجازي للفكرة طبعاً) في العقل والثقافة العربيين ووسائل التعبير عنها، فكرة عصية على التقبل والهضم، وخاصة في حقل الرواية، وذلك لعدة أسباب، أهمها هو إصرار العقل والذائقة العربيين على حصر الرواية، كجنس إبداعي مستحدث ومستورد، في ثوب الحكاية الفنتازية والخرافة الاسطورية، عبر رؤيتها (ذائقياً) من خلال (خرم) حكايات ألف ليلة وليلة، بمحمولها الحكائي لا بنائها الإشاري والرمزي، أولاً، وثانياً إصرار الذائقة والرؤية الأكاديمية (النقدية الرسمية!!) على حصر جهد الرواية العربية في محمول الجهد التعليمي (التلقيني المدرسي)، من دون المحمول الإبداعي التطلعي؛ أي تلقينها للطلبة كمجموعة من التقانات والمحددات والشروط الشكلية التي تستوفي عبرها، كعمل، مسمى رواية، لا عبر أهدافها الثورية ـ الثقافية ومحمولاتها التقويضية لما عفى عليه الزمن من الأفكار والرؤى والبنى المفهومية والقيمية للحياة وطرق العيش فيها والتعامل معها.

وكما ظل أدونيس وسعدي يوسف، واشتغالاتهما التي بلا جمهور ـ بتوصيف أدونيس ـ كبرج إيفل رمزي في تأريخ وحياة القصيدة العربية الحديثة، ظلت الأعمال الروائية الكبيرة (الهادمة للذة العابرة) محدودة العدد والأثر في الحياة الثقافية العربية، كمقترحات ثقافية تقويضية تدعو لهدم الخرائب القديمة من أجل إقامة (ابراج إيفل) في مكانها… تكتشف عقولنا النائمة وذائقاتنا المتحجرة، (وكما حصل مع الحكومة الفرنسية، ذات غفوة عقلية وحسية، وفكرت بإزالة برج إيفل لعدم جدواه الاقتصادية… ثم عدلت في النهاية عن ذلك القرار) أنها كانت أجمل وأهم منجزاتنا الثقافية والحضارية وأشدها أثراً في خروجنا لدنيا الحداثة ومعاصرة العالم وتأريخه من حولنا.

طبعاً من نافلة القول أن نذكر أن العيب ليس في طريقة تفكير أو توقد ذهنيّ أدونيس وسعدي يوسف، لأن كل أرض هي صالحة لإقامة برج إيفل على ترابها (مجازاً وتجوزاً)، وطبعاً هذا ينطبق على العقول التي تنتج الرواية أيضاً، إلا أن (إيفل الرواية العربية) أبت الذائقة ـ قبل الذهنية الثقافية العربية ـ أن يقوم لغايته التي ابتدع من أجلها، وذلك لتقولب الذائقة الثقافية العربية على الشعر كوسيلة تعبير أولى وتاريخية أولاً، وثانياً لأن الرواية أكثر سعة و(فضائحية) في كشف المستور من حالة التخلف التي يعيشها العقل والذائقة العربيين، وكذلك أكثر جرأة في تقديم مقترح تغيير للحالة الثقافية القائمة التي يعيشها العقل العربي، ولهذا تحارب الرواية و(رؤيتها الهدامة) وبغطاء ودفع سياسي مؤدلج غير بريء، سواء من قبل السلطة التعليمة الأكاديمية أو من السلطة السياسية، ممثلة بمنافذها الثقافية الرسمية.

تأتي أهمية الرواية كمقترح ثقافي واسع الأثر وشديد الوقع من واقع كونها صيغة حياة بديلة لواقع مأزوم أو متخلف أو معتم عليه من قبل السلطة السياسية، ولهذا وقفت السلطات السياسية العربية بكل قواها لتحجيم دورها في البلاد العربية عبر منافذها التعليمية (الأكاديمية على وجه الخصوص) ومنافذها الرقابية المباشرة… أو غير المباشرة، كما ظهر مؤخراً، عبر الجوائز المخصصة للرواية، والتي انتشرت خلال السنوات الأخيرة بصورة ملفتة للنظر، وركز عليها الاهتمام الدعائي والإعلامي، رغم كل ما ألحقته من أضرار (تحجيمية) بالعملية الإبداعية وحرية التفكير عبرها، وما أشرته ـ هذه الجوائز ـ من دور تسطيحي للفعلين الإبداعي والثقافي.

ولعل أهم ما بات يهدد إبداعية هذا الجنس الأدبي هو الاشتراطات والمحددات التي باتت تفرضها المدرسية النقدية العربية ولجان تحكيم الجوائز، المكونة من أفراد هذه (المدرسية) في أغلب الأحيان، والتي صارت هي المعايير (الرسمية) لفوز الرواية بإحدى هذه الجوائز، وعلى خلاف ما يدلل عليه تأريخ هذا الجنس الإبداعي، والذي يختصره (كوتزي) كما يلي: (إن كلمة رواية تعني شكل الكتابة التي لا قواعد لها… أي التي تخلق قواعدها الخاصة وهي تتشكل)… بمعنى أن الرواية هي الجنس الذي يصنع قواعده خلال فعل تشكله، سواء الفنية أو الثقافية الاستهدافية للعقل والذائقة الثقافيين لأي مجتمع من المجتمعات.

ولعل مثال الروائيين السوريين، حنا مينة (المحافظ في رؤيته والمجسد لركود النظرة الاجتماعية والسلطوية فيما طرح وعالج في رواياته الواقعية ـ الاجتماعية) وحيدر حيدر، (الثوري الهدام للراكد والمتطلع أبداً للتجديد) خير مثال على ما نقول.. فالأول عاش راضياً ومرضياً عنه من قبل السلطة ومنح الجوائز والاهتمام، باعتباره يمثل حاجات ومعاناة المواطن، (لأنه كاتب الشعب، بتصنيف نقاد السلطة الرسميين) والثاني عاش مطارداً مشرداً ومغضوباً عليه من قبل سلطة بلاده، لأنه مثل بالنسبة لها، عنصر هدم مشاغب، سعى لتحريك ماء البحيرة الراكد، وعلى خلاف ما أرادت تركيزه وتثبيته حكومة بلاده، وعياً وطريقة تفكير واستقراراً يمنحها البقاء في السلطة بلا منغصات ثورية وتقلبات سياسية، قد تسحب الكراسي من تحتهم.. ولهذا جاءت روايات حنا مينة بصيغة الحكايات البكائية المتوجعة على آلام المحرومين من أبناء الشعب، في حين جاءت روايات حيدر حيدر بصيغة المقترحات الثقافية البديلة… والاستفزازية طبعاً، التي تطرح رؤاها بروح ثورية مقوضة وقالبة للقائم الراكد، والمحرضة على إقامة (إيفل بديل وحديث) على أنقاض خرائب القديم المتداعي… من الأفكار والرؤى التي لم تعد تتماشى مع روح العصر.

إذن فالنص الإبداعي، والرواية منه على وجه الخصوص، هو مقترح ثقافي تشوفي لما هو قافز على ومتجاوز لما هو قائم من نظم التفكير وطرق الرؤية، من أجل معاصرة حياة المجتمع لسيرورة العملية التاريخية، في متطلبها الحضاري والثقافي، يطرح البديل (المشاغب والهادم لوثن الاستقرار)، والمطوح بقداسته، من أجل إحلال بديل المعاصرة والتحديث… مهما كان (مشتطاً) ومفزعاً لرؤية السلطة، سواء كانت سياسية أو ثقافية مؤدلجة ترى الحياة بلون واحد… لون ركودها… المستقر على سطح البحيرة… دون الالتفات لما يعيش تحت ركود ذلك السطح من حيوات وأسئلة وأحلام وتشوفات تطالب باستحقاقاتها.

الرواية العراقية: رؤية أولية:

تتلبس الرواية العراقية حالة من القوالب والمحددات النقدية والفكرية /الايديولوجية تقترب من حالة الانكفاء ـ ضد الانفتاح ـ جعلت من الرواية، كجنس ابداعي، تدور في فلك لا يتعدى ـ شكلاً ومضموناً ـ حدود جدران الحي العراقي بأضيق واسذج معانيه، الأمر الذي انعكس على حدود آفاقها وقهر محاولات كسر قيود واوهام هويتها وواقعيتها التي لم تتجاوز، في مفهوم الروائي العراقي، حدود المحلية وسذاجاتها، مع بعض الاستثناءات ـ التي تمنح القاعدة شرعيتها طبعاً ـ التي تحولت الى اصفاد أعاقت (جسد) الرواية من ان يتمدد على كامل مساحة سرير الحياة الانسانية، المعرفي والفكري والحلمي.

قبل ما يقرب القرن من عمر الرواية، علّم الروائي الانكليزي (هربرت جورج ويلز) حدود ساحة حروب الرواية بمقولته الشهيرة : (الرواية كيس يمكنك ان تضع فيه ما تشاء)، فكم استفاد روائيونا وخيالاتهم من مساحة الحرية التي اتاحتها لهم عوالم الحرية في تهشيم وازاحة (حالة) القيود النفسية والاجتماعية والايديولوجية، والانطلاق بالرواية الى فضاءات الانا ـ بمفهوم الفردية ـ التي لا تحقق وجودها، كهوية وفعل، الا عبر اقتحام عالم التابوهات التي مازالت بعبعاً خطراً محظوراً/متربصاً مرهوب الجانب، ممنوع مناقشته او الاقتراب والتحديق فيه، كمرآة، بملء العين.

ترى، كم حمّل الكولومبي (ماركيز) كيس (مائة عام من العزلة) من عوالم ورؤى وافكار واجتياحات وانتهاكات، دون ان ينسلخ عن (قيد) هويته وخصوصيته (الوطنية) و(القومية)، في الوقت الذي يتبجح اغلب روائيينا بفض (كيس ماركيز) والنظر فيه، على أقل تقدير؟ كيف تمكن (ماركيز) من ان يدس كل تلك العوالم والرؤى و(الاجتياحات) و(الاستباحات) في كيس (مائة عام من العزلة) دون ان يغادر او يقطع صلته بـ (اركاتاكا) (مسقط رأس ماركيز)، بحيث انه أجبر النقاد ودارسي الادب على اختراع التوصيف الخاص الذي يمكن ان يحتوي او تصنف تحت يافطته حالة ابداعه، بين مصطلحات ومسميات النقد الادبي.

ان اول ما تفتقده وتفتقر اليه الرواية العراقية هي عناصر التشويق والامتاع التي تشد القارئ من تلابيبه. فالرواية، وإن كان من شروطها الموضوعية، ان تكون محملة بصور وإشارات عن مجتمع الكاتب وحالته الزمنية دون شفقة على الذات او استجداء لمشاعر وعواطف الاخرين، فان الرواية ليست كتاباً مدرسياً مقرراً يجب على القارئ تجرعه على علاته وجفافه، وإنما، وكما قال صاحبنا (ويلز)، كيس يجب ان يجد فيه القارئ ـ لتحقق الرواية أغراضها وأهدافها (الفنية والفكرية والثقافية) ـ كل ما هو جديد وغريب وممتع وحاد وصادح وصلب وعميق وصلد وباهر ومثير ومتفتق وسالخ وكاسر للقوالب ومتجاوز لحدود الممكن وسابح في جميع الاجواء والافاق والافلاك من وجوه الخيال؛ ولهذه الوفرة ولهذا الإلمام كانت الروايات الجيدة جيدة!

أعرف أن (شيئنا اليومي) في شؤوننا الحياتية العراقية لا يتوفر على الامتلاء والتنوع والدسامة التي يتوفر عليها يوم غيرنا (بخزينه ومرجعياته) من الشعوب، ليستمد منها روائيونا ما يشحذ خيالاتهم في خلق عوالم إبداعية (صادحة وكبيرة ومثيرة) ولأسباب كثيرة، لعل أهمها فقر: طرق استيعابنا للحياة وأساليب اخذنا لها، والتعامل معها. فالمواطن العراقي، وبغض النظر عما إذا كان مثقفاً منتجاً للفكر والعمل الابداعي أو إنساناً عادياً، يتعامل مع الحياة، بطريقة من الطرق، على انها عبء يجب التخلص من همه والعودة الى البيت قبل حلول الظلام! وهذا يعود لأسباب تتعلق بطرق التربية عندنا بجذورها المختلطة والملتفة حول نفسها، من دينية وعشائرية /بدوية تعتمد قاعدة ان الاصل في الاشياء التحريم وليس الاباحة، وثقافية قائمة على الخوف والرهبة، وقائمة ممنوعاتها تغطي مساحة حياتنا كلها وتزيد، وكل هذا قبل قائمة، وهي الأهم والأخطر، قائمة المحظورات السياسية والسلطوية التي يمثل، أي مساس بقداستها، الموت أو التغييب في السجون حتى الموت!

مشكلة اخرى يعاني منها الروائي العراقي هي الكتابة وفق مقاسات النقاد او الكتابة للنقاد، بدل الكتابة لجمهور القراء العريض، وذلك لتمكن النقاد من اذاعة آرائهم عبر وسائل الإعلام، أي إنهم يمتلكون أدوات ما يمنح العمل جواز مروره ووصوله إلى القارئ، وهي غالباً وفق محددات (ايديولوجية، سياسية، دينية) قبل أن تكون إبداعية طبعاً. وبمعنى اخر فان الروائي العراقي يكتب روايته وفق رؤية (محددات) وقائمة ممنوعات النقاد القائمة على العرف الاجتماعي والكبح الايديولوجي الذي قولبوه في جلابيب التنظير النقدي من ايام لغو الواقعية والواقعية الاشتراكية، التي أحالت (لمدة ثلاثين عاماً) العنصر البعثي والقائد العسكري الى (إله) لا يخطئ ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، في روايات سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بالنسبة للسلطة، وعرض مأساة (المناضل الشيوعي وظروف اعتقاله وسجنه) بالنسبة للمعارضين؛ متناسياً ـ الروائي ـ عرف وقضية ان: أن الادب الجيد، في صلب أهدافه، هو الذي يكسر القوالب والمألوفات ويطفو فوق ما اعتاده القراء والنقاد، والتحليق عالياً في عوالم الخيال والخلق والتجديد وكسر الصور النمطية والمتداولة، كما فعل صاحبنا (ماركيز)عندما أجبر نقاده على التحليق على ما تحت اقدامهم ليجدوا توصيف (مصطلح) الواقعية السحرية، لاستيعاب حالة ابداعه التي تفرد بها.

ومن هنا نخلص إلى إن المألوف الاجتماعي ـ وهو عقبة يحسب الروائي العراقي لها حسابها ـ هو (آخر)، بحسب التوصيف السارتري، لابد من اقتحامه للارتقاء (بمزاياه)، ثقافياً وفكرياً، ليتمكن مبدعنا في النهاية من وضع حروف لغته الجديدة تحت ما يجب ان يبقى من نقاطه، لا تقديسه أو عيش فوبيا الاقتراب منه ومساسه بالنقد والتقويم.

نظرة اخرى في الرواية العراقية:

ذات مساء، سماءه تمطر نجوماً لاصفة، قال الاخفش: الشعر اضطرار. وفي مساء آخر سماؤه اشد صفاء ونجومه أكثر لهاثاً قال الاصمعي: الشعر نكد بابه الشر، فاذا دخل في الخير فسد. وفي ظني انما قصر الاثنان، فعل الاضطرار وتوصيف النكد على الشعر وحده لأنه كان شكل ووسيلة التعبير الوحيدة التي عرفتها الثقافة العربية حينه، أي لأن الثقافة العربية لم تعرف حينها لا الرواية ولا باقي فنون التعبير النثرية.

وتأسيساً على هذه الحقيقة، أرى ان اجتراح فعل الكتابة في أي من أشكالها وأجناسها الادبية خارج حدود هذين الشرطين، (شرطيّ) الاخفش والاصمعي، يستحيل الى فعل قسري يشبه عملية الخروج للتنزه في ظهيرة قائظة هواؤها راكد. وإذا ما سحبنا هذا التأسيس على فعل كتابة الرواية العراقية ومستوياته الابداعية سنجد أن أغلب هذه الروايات لم تكتب تحت ضغط العاصفة الإبداعية، وإنها أقحمت في باب الخير والاصلاح وخدمة ما أطلق عليه النقاد المؤدلجون توصيف الأدب الملتزم المسخر في (خدمة قضايا المجتمع والشعب والأمة واحتياجاتها الضرورية والأكثر التصاقاً بمشاكلها المصيرية)، بمعانيها السياسية وبدعوة شعارية سياسية صرف. إن أهم ما تفتقر اليه الرواية العراقية هو عوامل الاتقان البنيوية والادهاش والإمتاع والتنويع والطفو فوق مستنقع الواقعية (المعيش اليومي)، بمعناها التقريري، تلك الواقعية التي لا يفهمها أغلب الروائيين العراقيين الا من خلال الجانب الوعظي والنصحي ومحاولة عقلنة او اخضاع كل ما يتعلق بالجانب الفكري والسايكلوجي والباطني لضوابط الموروث الاخلاقي والعرف الاجتماعي، بمعانيها الاستاتيكية المقولبة. وبصياغة ثانية، طرح الصورة او التصور المثالي لما يجب ان يكون عليه الانسان، وفق نظام قيم الخير التي تحددها تلك المواريث والأعراف، لا وفق ما هو عليه كائن او ما يظهر عليه في حياته اليومية فعلاً وما يمارسه من سلوك فعلي.

لا أحد من الروائيين يجالس المرآة أو صورته الفوتوغرافية ـ الا بعض الحالات الشاذة والنادرة ـ ليقرأ في صفحتها ما تعكسه من ثوابت تكوين وجهه الطبيعية، وإنما هو يعاينها بقصد تعديلها واضافة ما يجملها ويرتقي بمعاني وآثار تعبيرها. لا تكتب الرواية بقصد نقل صورة فوتوغرافية عن واقع الحياة او الشيء اليومي، باعتباره نكداً وبصيغة الاجترار لمأساويته أو تخلفه، إنما تكتب بقصد الكشف والاجتراح واقتراح البدائل الصورية والتصويرية (الفنية – الجمالية) لذلك النكد، قبل اقتراح الحلول لتجاوزه.

واستناداً الى رؤية الاصمعي في تحديد الشعر ـ مجازاً طبعاً ـ ميداناً لطرح رؤى العملية الابداعية، فإن نقل الصورة الفوتوغرافية عن معاناة سجين ما مثلاً لا تجترح شيئاً جديداً او تضيفه الى معارف المتلقي او تحلق به فوق همومه ومعاناته، بحد ذاتها، (عندما يلجأ الى الرواية بحثاً عن سلوى ومتعة كشفية – فكرية)، وإنما زراعة ذلك السجين لشجرة في زنزانته ورعايته لها الى الدرجة التي يقنع بها المتلقي إنها أثمرت رؤوساً مختلفة الوجوه والافكار، حاورت السجين وطفت به على عذابات وحدته، هو الجانب الابداعي والجمالي الذي يبحث عنه المتلقي.. وان نجاح الروائي في ادهاش وتمرير واقناع القارئ بجدوى تلك الفكرة ـ فكرة الشجرة ـ هو هدف الرواية ومطلبها الأول، من الناحية الفنية والجمالية، كما أسلفنا. وإذا ما عدنا ـ على سبيل المثال ـ الى مبتدع الواقعية السحرية (ماركيز)، فسنجد أنه قد نال اعجابنا ومديحنا لأنه تمكن من امتاعنا وادهاشنا و(اقناعنا) بقبول خدعة طيران (ريميديوس الجميلة) ـ على سبيل المثال ـ بشرشف من على حبل الغسيل والتحاقها بعالمها الخاص، والذي اقتطعت أو انفصلت عنه في ساعة نحس ربما. وهذا ما فعله عبد الرحمن منيف عندما ابتدع لنا شخصية الياس نخلة وأقنعنا بكل بوهيميتها وتناقضاتها وتقلباتها وسوء الطالع الذي يتلبسها. وهو الشيء عينه الذي فعله الطيب صالح مع شخصية مصطفى سعيد، التي تمكن من خلال تناقضها وغرائبيتها من سحبنا الى غرفة سحره الاسود (بحسب توصيف الراوي)، التي يشبه سقفها ظهر الثور، على أمل الوقوف على رموز وطلاسم السر (السحري/الشيطاني) الذي يقف خلف تكوين شخصية مصطفى سعيد.

إن اطروحة ما سمي حينها (خلال عقود خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي) بالأدب الملتزم، التي فرضت التدجين الشمولي، على الأدب من خلال قالب مقنن لشكل ومضمون الطرح الادبي، وهو ما أطلق عليه حينها (الواقعية والواقعية الاشتراكية) يكاد يكون قد اوقف نمو الرواية العراقية عند حدود ذلك القرار السياسي والذي حدد نتاجها ببضعة الأسماء التي كانت تمثل رؤية النظام وتعكس ايديولوجيته. ولم يأت عقد الثمانينيات، عقد الحرب الايرانية العراقية وعقد أدب الحرب (الأكثر تحديداً وتقنيناً) ـ الأدب التعبوي ـ إلا ليجهز على البقية الباقية من فنية الرواية وآفاق تطورها.

ما ورثته الرواية العراقية من حقبة حكم النظام السابق وهيمنة شموليتها الايديولوجية على جميع نواحي حياة المجتمع، هو النسق الوعظي والنصحي في الطرح، وهذا النسق هو أخطر أمراض العملية الابداعية وأشد معوقات نموها الطبيعي. كما إنه، في الوقت نفسه، يشكل الجدار الخرساني الأصم في أفق تطورها، الذي بلغته الرواية عالمياً، من خلال الانفتاح في الطرح وعدم التقيد بالمألوفات والمحددات القيمية والسلوكية على كل الأصعدة والمناحي الفكرية.

لقد وضع الأصمعي في صرخته العبقرية تلك شاعرية حسان بن ثابت كمثال أمامنا، بما تبقى منها، عندما سخر ذلك الشاعر، شاعريته، بعد البعثة، في باب الخير، حيث لم يتبق من فنيتها شيء يستحق الذكر، لأن أغلب شعره قد تحول إلى الوعظ والنصح، بعيداً كل المعايير الفنية التي تجعل من الكلام شعراً لا مجرد نظم تعوزه روح الشعر وجمالياته.

وبالمقابل، فهذا مثال الياس نخلة (بطل رواية الأشجار واغتيال مرزوق) وزوربا اليوناني، عندما تجاوز بهما مبدعاهما حدود باب الخير والمألوف والمحظورات؛ فقد حلقا بنا في فضاءات تفوق ألوان دهشتها ألوان الطيف الشمسي في العدد والتشاكل والغموض اللذيذ المحرض على الاقتحام.

ووفقاً لتصور الحكمة المسيحية التي تقول: (مهمة الانسان على الارض ان يحول الخطيئة إلى نعمة)، فإنه من باب أولى أن نصف مهمة الروائي، استناداً الى هذه الحكمة، هو تسويغ المجاهيل وترويض اللامعقول واقتحام كل ما ظل محظوراً بسبب الخوف، أياً كانت أسبابه وذرائعه، وبالتالي تحويل مفردات الخطيئة الى نعمة الكشف وفض البكارات التي يجب أن تسقط... وهذا هو شغل الرواية الذي حدده مبتدعيها ومبدعيها الأوائل أو المؤسسين.

زاوية نظر أخرى:

نحا الروائي جبرا ابراهيم جبرا (الروائي الفلسطيني الذي عاش في العراق، منذ عام ١٩48 ومات ودفن على أرضه) منحى متفرداً في دراسة البنية الثقافية والثقافة الاجتماعية للمجتمع العراقي (في رواياته) من خلال تشريح ودراسة طبقته الارستقراطية. وكان هذا المنحى بمثابة (اقتراح) على المثقف العراقي لدراسة البنية الاجتماعية والثقافية لمجتمعه من خلال دراسة أحوال وثقافة وطرق تفكير الطبقة المتنفذة في المجتمع، وهذا على الضد مما درج عليه ـ ومازال ـ المثقف العراقي (شاعراً وناثراً) في دراسة المجتمع وبنيته الثقافية وتشخيص علله من خلال عرض مشاكل وأوجاع طبقات المجتمع المسحوقة أو الطبقة المتوسطة.

 في البداية، لا بد من الإشارة إلى أن الادب العراقي عام 1948 (عام وصول جبرا الاديب والمترجم إلى العراق) لم تكن حصيلته الروائية والقصصية تستحق الذكر، في المعيار النوعي والكمي على حد سواء. فقد كانت الرواية العراقية ماتزال في أولى خطواتها الخجلة والقائمة على فكرة التسلية ومخاطبة المشاعر؛ من دون الالتفات الى زاوية (مسؤولية) الفن القصصي في عملية التأثير الثقافي، واقتراح وإعادة النظر في البنية الثقافية والفكرية للمجتمع، وبالتالي الاسهام في إعادة تشكيل البنية الاجتماعية والثقافية لعموم المجتمع والتنظير (فكرياً) لمستقبله ككل.

دخل جبرا المسلح بالثقافة الحديثة ـ خريج الجامعات البريطانية ـ إلى المجتمع العراقي (غازياً) طبقته الارستقراطية لعدة أسباب، لعل أولها رؤيته الخاصة القائمة على تفضيل دراسة المجتمع من خلال مادته (الغنية) و(الدسمة)، الطبقة الارستقراطية، لما تنطوي عليه حياة هذه الطبقة من غزارة في (البنية التحتية) مادياً وثقافياً وقيمياً، وكمرآة عاكسة لبنية المجتمع ككل ثانيها؛ ولحفاوة هذه الطبقة بجبرا وما جاء به من ثقافة وأجواء الحضارة الحديثة من حياة المجتمع البريطاني وجامعتيّ اكسفورد وكامبرج اللتين درس فيهما ثالثها؛ وأيضاً بسبب نرجسية أو التركيبة السايكولوجية لجبرا الانسان والاديب، في تقديم نفسه على إنه الفتى المعجزة وصاحب التأثير (الانقلابي)، في الوسط الذي يحيطه رابعاً.

بدءاً، لابد من لفت نظر القارئ إلى ذوبان جبرا في الحياة والثقافة العراقيتين، قبل الاشارة إلى سعيه للتأسيس لرواية عراقية تستوفي شروط العمل الروائي ـ الابداعي - شكلاً ومضمونا.

 ورغم أن جبرا قد انشغل وطرح أبطاله ـ كانوا نسخاً كاربونية لشخصه في أغلب الأحيان ـ على نمط البطل الاعجوبة الذي حظي بإعجاب وتدليل الطبقة الارستقراطية العراقية ككل، وحب وتدله نسائها بشخص الاعجوبة الحضارية (المثقفة) التي قدم نفسه عبرها للمجتمع العراقي، إلا أنه، وبالمقابل، وضع يده على الكثير من اشكالات ومشاكل المجتمع العراقي، وشَخص معوقات نهضته الثقافية، من خلال تشريح ما أطلق عليه العلامة علي الوردي: (الثقافة الاجتماعية).

لم يهضم طرح المرحوم جبرا من قبل مجايليه العراقيين، بدراسة المجتمع العراقي من خلال دراسة او تشريح طبقته الارستقراطية التي كانت متنفذة في أغلب مناحي حياة المجتمع، وهذا ربما بسبب محدودية عدد من تصدوا لكتابة هذا الفن الجديد حينها، أو ربما بسبب عدم امتلاكهم لجرأة جبرا، الذي حمته جنسيته الفلسطينية من انتقام رجالات تلك الطبقة، المتنفذين سياسياً واقتصادياً، جراء فضحه لحقيقة نماذجهم وسلوكياتها الملتوية وتهتك حياتهم داخل قصورهم الفخمة، وربما بسبب جهل كتاب الرواية والقصة، ذوي الاصول الطبقية العمالية والفلاحية والمتوسطة، بدقائق وتفاصيل حياة تلك الطبقة المنعزلة نسبياً عن حياة وواقع باقي شرائح المجتمع، بحكم الغنى المادي والجاه الاجتماعي والسطوة السياسية، وربما، ولأسباب سياسية ورقابية، لم يقترب الأديب العراقي من تناول (الطرح الجبروي) ذاك، حتى في عقديّ السبعينيات والثمانينيات، باعتبارهما مثلى وعبرا عن ـ من الناحية التكنيكية ـ مرحلة نضج نسبية لفن الرواية العراقية، مثلما مثلى مرحلة إزاحة وتذويب هيمنة تلك الطبقة، لأسباب سياسية صرف، باعتبارها كانت ترمز لعهد الاقطاع والاحتكار والتسلط والتحكم الجائر بمصير عموم أبناء الشعب من الفقراء، بحسب الأدبيات السياسية لتلك الفترة، والتي هيمنت عليها التوجهات اليسارية لعموم الكتاب. هذا مضاف إليه، الاصول البرولتارية والفلاحية لعموم ضباط الانقلابات العسكرية التي أطاحت بالحكم الملكي والطبقة الارستقراطية، والتي سعت إلى تشويه سمعة وتاريخ تلك الطبقة، باعتبارها رمزاً للفساد السياسي.

من جانبي أميل في ارجاع سبب رفض الطرح الجبروي من قبل الادباء العراقيين، واستناداً الى نتائج بحوث العلامة علي الوردي في حقل علم الاجتماع، والتي اتخذت من تشريح ودراسة طبيعة المجتمع والفرد العراقي مادة لها، إلى كره الأديب العراقي، وهو من اصول عمالية ومتوسطة في أغلب الأحيان والمراحل التاريخية، للطبقة الارستقراطية، باعتبارها مثلت وجه حالة القهر والحرمان لعموم المجتمع، في المراحل التي سبقت انقلاب 14 تموز من عام 1958، ولذا فان الأديب، (وهو ذو خلفية ثقافية يسارية في أغلب الاحيان)، رأى في الكتابة عن الطبقات المسحوقة واستعراض معاناتها، جزءاً من واجب الوفاء الوطني والايديولوجي وتعجيلاً بنهاية تلك الطبقة التي قهرت وتنفذت واستمتعت لعقود طويلة؛ وبالتالي، تحميلها مسؤولية تخلف وحرمان الشريحة الاعظم من أبناء المجتمع.

ورغم تحجيم دور ونفوذ وثروة تلك الطبقة بعد انقلاب 1958 من خلال قانون الاصلاح الزراعي وعملية تأميم بعض ثروات تلك الطبقة، تحت شعار، من اين لك هذا، الذي رفعه قادة ذلك الانقلاب، فإن تجاوز واهمال الأديب العراقي لـ (تراث) و(ثقافة) ودور تلك الطبقة لا يعني القضاء على دورها ونفوذها الاجتماعي والاقتصادي وأثرها في الحياة العامة ومفاعيلها، بل هو كان اهمالاً سلبياً، لم يكن له إلا الأثر النفسي على دهاقنة تلك الطبقة.

وفي ظني، فإن التجاوز الاعتباطي لتراث وإرث تلك الطبقة (الثقافي) لم يحد من اثرها ـ ان لم يكن قد دعمه ـ حتى في سنوات تجربة التطبيق الاشتراكي في سبعينيات القرن الماضي، التي سرعان ما أفرزت (ارستقراطية) بديلة من خاصة النظام الجديد ومن اصول قروية، هذه المرة، ومن عناصر لم تتوفر على وعي وثقافة ـ العلمية على الاقل ـ الارستقراطية القديمة؛ وبالتالي خسارة المجتمع (لإرث) الارستقراطية (الاصيلة) كأحد طرق ـ ان لم تكن أهمها ـ دراسة المجتمع وبنيته الاجتماعية، كوسيلة للنهوض به من خلال اصوله الثقافية التي شكلتها عملية حراكه التاريخي وتراثها الحديث، ومنذ تأسيس دولته الحديثة عام 1921، والتي أسستها الطبقة الارستقراطية بالذات، باعتبار أن إعادة بناء المجتمع والارتقاء بنوع ومستوى حياته وثقافته، تقوم على أساس تغيير وتحسين ظروف المجتمع، لا بالتجاوز والإهمال الجائر لإحدى طبقاته او مكوناته الاجتماعية وتجاوز إرثها الثقافي أو تشويهه.

وبالنسبة للأدب القصصي والروائي، فإن هذا الفن يحتاج الى غنى وتنوع في الحدث وتعقيد أو تركيب في بنى شخوصه ليستوفي عناصر الشد والجذب والتشويق، وليوفر بالتالي عنصريّ (الدسامة) والعمق التي تكفل نجاح العمل الروائي وإقناع المتلقي بجماله قبل طروحاته ورؤاه الفكرية. وفي تقديري فان حياة شريحة الفقراء لم تكن تتوفر على جميع عناصر الجذب، لفقرها على مستوى عناصر التشويق ودسامة الحدث، لبساطة مفردات حياة هذه الطبقة ومعهوديتها أولاً، ولما تمثله عملية تجاوز دور الطبقة الارستقراطية، مع بقاء أثره الفعلي في الحياة العامة ونسقها الاجتماعي، من اجتزاء وابتسار لواقع وحياة المجتمع وبناه ومرجعياته الثقافية ككل.

لا بد من الاشارة هنا إلى إن التجربة المماثلة الوحيدة للروائي عبد الرحمن منيف (كونه عاش في العراق هو الآخر وكتب بعض رواياته داخل أجوائه الاجتماعية والثقافية) التي اقتربت من الاقتراح (الجبروي، نسبة إلى جبرا) وصبت في ذات فهم جبرا، وهي رواية عالم بلا خرائط، فإني آخذ عليها أنها لم تكن تجربة أو رؤية خالصة لعبدالرحمن منيف (كانت تجربة مشتركة مع جبرا ابراهيم جبرا)، لأنها كانت بطرح ونفس واسلوب ـ ان لم نقل بهوية ـ جبرا ابراهيم جبرا الذي ألفه جميع الأدباء والروائيين العراقيين، ويتضح هذا من خلال جو وطريقة بناء وثيمة وحبكة وهويات شخوص الرواية، وسيطرة نوع معالجة وذائقة وطروحات جبرا على هوية و مسيرة الرواية من الفها الى يائها، وإلى حد استعصاء أمر الفرز بين حتى قاموسيّ وطريقة بناء الجملة لدى كل منهما، أو فرز لغة عبدالرحمن منيف عن لغة جبرا. هذا إضافة إلى أن تلك التجربة كانت كالنزوة العابرة في مسيرة المبدع منيف وخارج حدود خطه الروائي، إذ إنه لم يكرر طرح طريقتها أو نفسها أو معالجاتها في رواياته اللاحقة، وهذا يعني أنه لم يكن يتبنى رؤية جبرا في هذا الجانب، كأي روائي عراقي ممن عاصروا جبرا. لقد اضاء اقتراح جبرا هذا الكثير من زوايا العتمة التي اكتنفت ـ بسبب الإهمال الجائر ـ في حياة المجتمع العراقي، إلا أن مساهمته لم تنل استحقاقها في البحث والدراسة والاستيعاب من قبل علماء الاجتماع والنفس العراقيين، بل ولا حتى مجرد التنويه بها من قبل الأدباء ونقادهم، رغم أنها كانت مساهمة ذكية ومتميزة لمدخل جديد إلى حياة وطبيعة تطور المجتمع العراقي وعناصر تكوينه وبنائه، وربما يتحمل مسؤولية هذه المشكلة الثقافة السياسية للروائيين العراقيين، والتي كانت يسارية في العموم ولها عداء ايديولوجي مع كلمة طبقة من الأساس، فما بالك بقضية كبيرة من مثل ثقافة الطبقة الارستقراطية.

خاتمة:

إذا ما صنفنا فترة سبعينيات القرن الماضي على إنها فترة نضوج فن الرواية، في أغلب البلاد العربية، فإن تلك الفترة في العراق كانت مرحلة مد وهيمنة ايديولوجيين، بعثي في السلطة ويساري – ماركسي بين صفوف أغلب الكتاب والصحفيين، وعليه فإن كل أشكال الكتابة، وأولها الأدب، كانت تخضع لرقابة رقيب سياسي وايديولوجي، منع أي شكل من أشكال الحرية في الكتابة على منتظمي حزب السلطة ذاتهم.. وللأسف فإن جميع أدباء تلك الفترة لم يروا وجهاً للكتابة خارج حدود المعطيات السياسية والروية الايديولوجية، وربما كان هذا أحد أسباب عدم تطور الرواية العراقية.

وهذا يعني (وربما سيتهمني البعض بالتعسف) أن الرواية العراقية لم تؤسس لنفسها بإرث مرجعي (كمي – نوعي) يعتد به. ولعل ما يبرر هذه الرؤية هو حالة (الانفلات) التي شهدتها العشرين سنة الأخيرة من عمر الثقافة العراقية، أي عمر العقدين اللذين أعقبا زوال حكم البعث وما رافقه من حرية على مستوى النشر والتعبير عن الرأي.

فخلال العقدين الأخيرين شهدت حركة النشر في العراق ثورة كمية هائلة، وربما صارت المطابع العراقية تنتج رواية لكل يوم، ولكن من دون النظر في قيمة المنتج أو المتراكم للأسف.

كم روائي تصعب حتى متابعته احصائياً، فما بالك بالمتابعة النقدية المحكمة والرصينة؟

وسأقولها وبأسف، أن أغلب من تصدوا لطباعة كتب تحت مسمى رواية ليسوا بروائيين، بل أغرتهم وفرة المال بين أيديهم على طباعة كل ما عن لهم من أجل الحصول على عضوية اتحاد الكتاب، أو على أمل المشاركة في مسابقات الرواية، طمعاً في جوائزها المادية ونيل شهرة الغفلة.

وكل هذا تم في غياب الجهد النقدي المخلص للعلية الابداعية، واعتماد الغالبية على التسويق الاعلامي الشللي بين الاصدقاء والمعارف، وهذا ما سفح سيولاً من المديح المجاني، الذي تصدمك حقيقة دوافعه منذ قراءة الصفحة الأولى من الرواية، وليس من الفصل الأول حتى.

وفي النهاية فإن ما تراكم من كم لا يؤسس لمرجعية تاريخية - ابداعية روائية، كما هو حاصل في البلاد الأخرى، بل هو مجرد زبد للأسف سرعان ما يطوي النسيان حتى ما يصدف وأن يذكر (في مهرجانات توزيع الجوائز على الأقل)، وهذه الحالة لا ينفرد العراق بها لوحده، بل هي حال أغلب البلاد العربية للأسف الشديد.

***

دكتور سامي البدري

تعبق في أوسلو العميقة أجواء الأمل والمحبة، كأنهما ألوان تملأ الحياة بالجمال والإشراق. يجد الشاعر هادي الحسيني، الساحر المسافر، مغرمًا بجمالها وروعتها. يتجول في شوارعها المليئة بالحياة، يشعر بالمدينة وكأنها فراشة تحلق في سماء العشق. تلك الفراشة التي تنثر عبير الجمال وتعزف ألحان الأنوثة. في مدينة أوسلو العاشقة، تتأرجح الأشجار وكأنها تغني للحياة، وهادي الحسيني يحتضن طيور الأماني التي تحلم بالطيران عاليًا. فبكل زاوية في هذه المدينة، تجد المعاني تتراقص والأفكار تتفتح مثل أزهار الورد. إنها قصائد أوسلو، تلك الأبيات الرائعة التي تجمع بين الجمال الروحي والسحر البصري.

 كالحدائق المعلقة، تعانق أوسلو قلب الشاعر وتهزه برقة وعاطفة. هنا، تتكلم الصخور والأشجار بألف لغة، تحكي عن تاريخ المدينة وتذكرنا بأننا جزء من هذا الزمن العتيق. وعلى شاطئ البحر، يصدح صوت الأمواج كأغنية حزينة، تروي حكايات الماضي وتحمل آمال المستقبل.  في بغداد، يستمد هادي الحسيني إلهامه وعمقه الشعري. تلك المدينة الحبيبة، حاضنة أمواج العاطفة والأمل. هناك ولد الشاعر، في أحضان المدينة التي لا تنام. يتناغم صوته مع شوارعها المتعرجة، ويتلاقى نبضه مع طيور السماء. في بغداد العاشقة، تنساب الكلمات كأنها نسيم الربيع، تنغمس في أنسجة المدينة وترقص على أنغام الشعر. تتفتح الأزهار في حدائقها كألوان قصائد هادي الحسيني، تلك القصائد التي تحمل روح بغداد العميقة.

أوسلو وبغداد، المدينتان العاشقتان، تجتمعان في كلمات هادي الحسيني وقصائده الرائعة. تعكس هذه القصائد رؤية فنية عميقة وروح تجريبية مبتكرة. بين ألوان أوسلو النابضة بالحياة وألحان بغداد العريقة، ينسج الشاعر لوحات شعرية فريدة من نوعها. هنا، يتجلى الجمال والعمق في الأفكار والمشاعر، مع تفتح المعاني وتجلي الصور. قصائد هادي الحسيني تعبق بروح أوسلو وتنبض بحب بغداد، وتحمل رسائل العشق والتأمل والوجدان إلى قلوب القرّاء. تأخذنا هذه القصائد في رحلة شعرية ممتعة، وإلى عوالم جميلة ومفعمة بالحياة. فهي تدعونا للتأمل والتفكير في قضايا الحياة والإنسانية، وتحملنا في رحلة فريدة من خلال التشبيه والاستعارة والصور الشعرية الساحرة. إنها قصائد تتحدث بصدق وعمق، وتعزف موسيقى الروح والأحاسيس، مستحضرة جمال العالم والحياة في تجربة شعرية مدهشة.

القصائد تعمل على استحضار العواطف والمشاعر وتثير الفضول والتفكير لدى القارئ، مما يتيح له التأمل والتفسير الشخصي، وبالتالي تصبح قابلة للتفاعل والاستكشاف. عند النظر إلى القصائد المذكورة والتحليل المقدم لها، ندرك أن التشبيه والاستعارة والصور الشعرية لها دور حاسم في إغناء المعنى وتعزيز التأثير الشعري لهذه القصائد. تسهم هذه الأساليب الشعرية في تشكيل تجربة قراءة شاملة وممتعة للقارئ، حيث يتمكن من استيعاب جمالية الشعر وعمقه والتواصل مع المشاعر والأفكار التي يعبر عنها الشاعر. عند قراءة هذه القصائد، يظهر لنا أن الشاعر يستخدم التشبيه والاستعارة والصور الشعرية لتحقيق عدة أهداف. يستخدم التشبيه للتعبير عن المشاعر والحالات العاطفية، حيث يستخدم صورًا مماثلة للوصف والتعبير عن تأثيرها على الفرد. على سبيل المثال، يصف الشاعر المرأة بأنها "فراشة" تحلق حول الرجل الذي يحبها، مما يبرز روح الجمال والأنوثة في العلاقة. من جهة أخرى، يستخدم الاستعارة لإيصال رسالة أعمق وأكثر تعقيدًا، حيث يعتمد على رموز ومعان مجازية للتعبير عن الحالات النفسية والتجربة الإنسانية. في قصيدة "صافرات الإنذار"، يستخدم الشاعر الاستعارة لوصف الحروب السابقة وآثارها النفسية، حيث تصبح الصفحات البيضاء شاهدة على القتال والذكريات المؤلمة. تعزز الصور الشعرية المستخدمة في هذه القصائد الرؤية الشعرية وتساهم في خلق تأثيرات عاطفية وجمالية. عندما يستخدم الشاعر التشبيه في وصف حديقة التماثيل بأنها "فروة مانور"، يضفي القصيدة جمالًا رومانسيًا ويدعو القارئ للتأمل في هذه الروح الفنية الخلاقة. وفي النهاية، يمكن القول بأن استخدام التشبيه والاستعارة والصور الشعرية يساهم في إغناء المعنى وتعزيز التأثير الشعري في القصائد المذكورة. إنها أدوات فنية تساعد الشاعر على التعبير عن العواطف والأفكار بشكل مركز وملموس، مما يجعل القصائد أكثر تأثيرًا وجاذبية للقارئ. تعتبر قصائد هادي الحسيني التي تجمع بين أوسلو وبغداد ذات قيمة فنية وتعبيرية عالية. يتجلى فيها استخدام ماهر للغة الشعرية وتنوع في الأساليب الشعرية، مثل التشبيه والاستعارة والصور الشعرية. تتميز القصائد بقدرتها على إيصال المشاعر والأفكار بشكل قوي وعميق، وإثارة الفضول والتأمل لدى القارئ. تضفي الصور الشعرية والمجاز استثارة وجمالًا وغموضًا فلسفيًا على المضمون. استخدام الصور الشعرية والمجاز يعطي الشاعر القدرة على التعبير عن مواضيع متنوعة، مثل الحياة، والحب، والزمن، والذاكرة، والتجربة الإنسانية. يستطيع الشاعر من خلال هذه الأساليب الفنية أن يوصل الفكرة بأسلوب فني وتجريبي يدعو القارئ للتفكير والتأمل في الصور والمعاني المستترة.

***

زكية خيرهم

- قصة "الستار الشفاف" لقصي الشيخ عسكر

في قصته الطويلة "الستار الشفاف"* (يقول عنها رواية جيب) يعود قصي الشيخ عسكر للعزف على نغمة إنسان التكنولوجيا، ويكتب عن انتخاب حيامن قوية وتلقيح بويضات بها، وبالنتيجة يستعمر جيل جديد من أب واحد وأمهات مختلفات جزيرة في المحيط. وسرعان ما تنفضح الحيلة ويواجه الشباب مشكلة أساسية وهي أنهم جميعا أخوة، وأنهم يتناسلون رغم الشبهة المشينة بزنا المحارم. ولا أعلم ماذا يرمي الشيخ عسكر من هذه الحبكة. هل هي إشارة لانحرافات سلوكية وأخلاقية، أم أنها إحياء لأسطورة الخلق، وأن ما كان مقبولا في الجنة لم يعد كذلك على الأرض. والمضمون كما هو واضح من قصته ليس عقوبة النزول، ولكن الأكل من الشجرة المحرمة. وإذا استحق أبو وأم البشر الطرد من الجنة بسبب تفاحة، ما هي عقوبة أجيال كلها تنهش من نفس التفاحة الفاسدة والممنوعة؟.

تحاول القصة أن تغلف هذه الحبكة بتفاصيل علمية، ومع ذلك فهي برأيي ليست قصة خيال علمي، ولكنها متابعة في الملف الأسود لتطور العلوم وما تسبب به من تبديل لقناعاتنا وأساليب حياتنا. وأعتقد أن ما يصدق على رواية "الطريق" لنجيب محفوظ يصدق أيضا على "الستار الشفاف".

فالاثنان يسدلان ستارا من التعمية على هوية الأب، وهو عند محفوظ غير معروف، وبعد وفاة الأم ينطلق الابن للبحث عنه.

ولكن عند الشيخ عسكر الأبناء يعرفون أمهاتهم، غير أن أحدا لا يعرف شيئا عن الأب الأول.

وإذا كان من غير المستحب قراءة هذا الأب على أنه رب رمزي (كما فعل جورج طرابيشي) لكن كل الإشارات تسمح لنا بذلك. ورمزية الرب في هذا المجال لا تعني أنه الله تعالى حرفيا، وإنما قوة متعالية بطريركية في رواية محفوظ، لتكن السلطة مثلا، وبمزيد من التوضيح لتكن مجتمع ثورة يوليو الذي وقف منه محفوظ موقفا غامضا ومترددا، فقد شبه أبناء جيل الثورة بأنهم أولاد سفاح أو هم نتاج خطيئة سياسية وحضارية. وتوجد لديه عدة إشارات تدل على قلقه من انقلاب يوليو وحكومة العسكر. ولم يرفع صوته ضد ثورة عام 1952 إلا في روايته الضعيفة "الكرنك"، ثم على نحو أقوى في إحدى أهم أعماله وهي "ثرثرة فوق النيل". وفي جميع هذه النماذج رسم تصورا أوديبا لابن مهزوز يعيش على المسكنات ويفترسه الفوضى والإحساس المستمر بالهزيمة - رهاب الخصاء مع صورة غامضة لأب مفقود أو ميت. وأعتقد أنه كان يغطي على هذا الخلل بالاختباء بين أبناء الطبقة الوسطى، والابتعاد عن النخبة. لذلك وضع شخصياته فيما يشبه الإقامة الجبرية في حواري القاهرة ومقاهيها.

أما مقاربة الشيخ عسكر فهي مختلفة من أكثر من ناحية. فهو يضع نتائج ما بعد الثورة الصناعية تحت المجهر. وسبق له أن فعل ذلك في روايته القصيرة "آدم الجديد"، مع أنها كانت عن إنسان جماعي، وهو حكما إنسان أممي، وبريء من الخطايا، ويحمل في صدره قلبا عالميا، وهو ما تسبب له بأزمة في الهوية والذاكرة، أو بلغة أوضح في الإنتماء: لأي معسكر وأي حضارة عليه أن ينتمي. إنما لم تكن المشكلة في "الستار الشفاف" مع واحد بل مع أجيال. وهؤلاء يحملون صفات جين الأب الأول القوي لكن لا ينعمون بأخلاقه ومنطقه. وكما يبدو شجرة العائلة واحدة غير أن الحضانة والظروف الاقتصادية مختلفة.

من المؤكد أن القصة تضع الأصل الأبوي بطرف والتربية الأمومية بطرف مقابل، كما لو أنها تريد أن توحي أن الثابت - أو الله هو الذكورة، وإن المتحول والذي يؤثر به التاريخ هو الأنوثة. وهذه سابقة: أن التاريخ أمومي لكن الأبد من صفات الأب. وقد تخلل الحبكة الدرامية نقطة شعور أو نقطة تنوير باللغة الفنية، ورمز بها قصي العسكر للخطيئة الأصلية. وأعتقد أن الخوف من تكرار هذا الخطأ هو الذي منح الشخصيات مضمونا دراميا ووعيا.

ويتفرع عن هذه النقطة عدة مسائل.

أولا لا يمكن لأحد أن يغسل عار أول خطيئة لأنها جزء من وجوده. ويترتب واقع الحضارات الاستعمارية الراهنة على وعيها بهذه المشكلة، وهو ماضيها الدموي. ويبقى الحل بالتكفير أو دفع الغفارة. ولكن القصة لم تقدم لنا أي اقتراح بهذا المعنى، بعكس رواية ألمانية حديثة هي "اذهب، رحل، غاب" لجيني إيربينبيك (مترجمة بعنوان "وطن محمول"). وتفترض أن الغفارة تكون باستضافة لاجئين من المستعمرات السابقة.

ثانيا التعايش مع أزمة زنا المحارم. وهي مشكلة بنيوية لا تختلف عن العلاقة ببن الجنسين خارج مؤسسة الزواج. ناهيك عن تعدد العلاقات. وهي القضية التي توقف عندها حنيف قريشي في "بوذا الضواحي". حيث تابع المعنى الحضاري للأخلاق الاستعمارية، وسياسة نقل العمالة من المستعمرات وتوظيفها بالمجان لاستكمال بناء الميتروبول. وكأنه يريد أن يكتب أهجية لمجتمع مذنب بخطيئتين - عرقية وطبقية. حتى أنه يصور أبناء الضواحي مثل أبناء سفاح أنتجهم أب واحد كلي القدرة، وأمهات ضعيفات كل واحدة ترمز لإحدى المستعمرات.

ثالثا وأخيرا. يبقى المستوى الفردي. ولا تخلو شخصية في القصة من مشكلة هوياتية، أو مشكلة ذاكرة مفقودة، بسبب عدم التأكد من المصادر. وأعتقد أن المضمون الدراماتيكي للشخصيات يعيد إحياء أزمة راسكولينكوف بطل "الجريمة والعقاب". فهو مذنب جنائيا ولكنه بريء اجتماعيا، وكان يصحح خللا في السياسة الاجتماعية، لكنه وقع بخطأ آخر في أسلوب التصحيح.

وكذلك بالنسبة لقصي العسكر.

بناء جيل قليل الشرور كلفه إخفاء نصف حقيقة المجتمع - أو نصف أصوله وذاكرته. وهذا ما دفع زعيمة المعارضة لأن تقول في آخر مشهد: النوايا الحسنة وحدها لا تكفي.

***

في الختام لا يجوز إغفال الناحية الفنية في القصة. فهي تبني ما هو غير واقعي على افتراضات ممكنة. وقد اتبعت أسلوب نعومي ألديرمان في روايتها الهامة "القوة" The Power. فهي لم تدخل في تفاصيل علمية، واعتمدت على عيوب العلم، وبقراءة ثانية على عيوب الفضيلة. وغني عن الذكر أن القصة وازنت بين إيجابيات التكنولوجيا وعيوبها. فهي من جهة تفيد الإنسان، ومن جهة تدمر الطبيعة. وكان ثمن إنتاج جيل يؤمن بالفضيلة زيادة مستوى الإشعاع ورفع حرارة الأرض. وعبرت عن هذه المسائل بأسلوب تمثيلي، بعيدا عن الجدل والحوار واختلاف - أو تمايز الشخصيات. وأستطيع القول مع سيزا قاسم تعبر القصة عن انحراف في تسجيل التفاصيل، وتعيد إحياء بنية القصة العائلية. فتضع الأب في مركز الأحداث دون أن نراه وبذلك تعطيه قيمة أسطورية وملحمية متعالية.

***

صالح الرزوق

..................

* الستار الشفاف. رواية جيب. قصي الشيخ عسكر. 2023. المصدر مراسلات شخصية.

إحدى مهام الرواية الحديثة هي نقل الواقع المعاش برؤية فنية حداثية تحمل طابع التشويق، يكون الواقع فيها اكثر تقبلاً لدى القارئ، وهذا ما سعى اليه الروائي علي الحديثي في روايته (وجه في كرة) الصادرة سنة 2019 عن دار نينوى.. قصة ربما تتكرر عبر متوالية حياتية في اروقة المحافل الاكاديمية في مشرقنا العربي، لكنها اختلفت هذه المرة بالرؤية الناضجة، وارتباط النص مع الواقع بطريقة عضوية، كقول الفيلسوف الفرنسي بول فاليري: (الذئب مجموعة من الخراف المهضومة).. اضافة الى انتهاج الروائي اسلوب ربما يكون صعباً على كثير من الكتاب الذكور، حين تقمص دور المرأة في كتابة نصه، تحدث بصوتها، وعبر عن مشاعرها واحاسيسها وهواجسها، وهذا ما اشار اليه الكاتب الروسي مكسيم غوركي بقوله: (ان الكاتب الذي يتحدث عن الطفولة، لا يتحدث بلغة الاطفال بحجة الصدق، وإنما يجب عليه ان يتحدث بإحساس الطفولة وبالطريقة التي يفكر بها الاطفال).. لكن علي الحديثي استثمر البطلة التي جعل منها ساردا ضمنيا مثقفاً واعياً، كي يمرر من خلالها بعض افكاره وآرائه بالحياة بصورة عامة والواقع العراقي بشكل خاص.3461 علي الحديثي

شابة جامعية مثقفة ذات ماضي خالي من اي تجربة عاطفية، يقودها قدرها بأن ترتبط بعلاقة حب ناضجة لكنها متأرجحة في نفس الوقت مع طالب جامعي مثقف، لتكون هذه الواقعة العتبة السردية المركزية، والشاخص الذي يدور حوله النص فيما بعد، والذي اخذ البعد العاطفي والنفسي حيزا كبيرا فيه، عبر مونولوجات داخلية واحلام يقظة وتداعيات حرة عاشتها البطلة في محاولة منها للتأقلم مع هذه العلاقة الشائكة التي اَلت في نهاية المطاف الى الفشل، حين اجبرها اهلها على الزواج من ابن عمها الشاب القروي البسيط، الذي شكل الفارق الثقافي وعلاقتها مع باسل حاجزاً نفسياً لديها في تقبله كزوج لها، لكن القارئ سيجد ان النص انحاز في نهايته الدراماتيكية الى الواقع العام اكثر من انحيازه لطبيعة العلاقة الصادقة التي ربطت البطلة (سما) مع حبيبها (باسل) فقد شكل الاحتلال الامريكي للعراق 2003 محورا اَخر توازى مع النص وتقاطع معه في بعض محطاته المفصلية وأثر في نهايته بشكل مباشر، لذا تعد رواية (وجه في كرة) احدى مظاهر ادب ما بعد التغيير، واحدى المخرجات السردية التي حاولت ان تعالج الواقع العراقي المأزوم الذي خلفه الاحتلال الامريكي وتداعياته الاجتماعية والنفسية والسياسية، حين ارتبط النص بالاحتلال من خلال انخراط باسل في مقاومة الاحتلال، وتعرضه للاعتقال والسجن بسبب موقفه هذا، لتكتشف البطلة ان ابن عمها القروي (فهد) قد حمل نفس الهدف الذي امتلكه حبيبها باسل حين التحق هو ايضا في مقاومة الاحتلال وتعرضه للاعتقال والسجن، هذا التزامن في المواقف ربما خفف من وطأة النهاية الحزينة للروية.

اهم محاور النص:

1-العنونة: يشكل العنوان العتبة الاولى لأي نص، وهو في دلالته يمثل نصا موازيا لمتن الرواية، ومفتاح لفهم قصديتها، (وجه في كرة) هو دلالة على ارتباط بطلة النص وجزء من احداثه بكرة المنضدة التي احتفظت بها البطلة كذكرى من حبيبها باسل الذي اعتاد على لعب كرة المنضدة في اروقة الجامعة، لتذهب هذه الكرة الصغير في حجمها الكبيرة في ما تحمله من مغزى ورمزية في رحلة مع البطلة، وتشكل ثنائية معها وبديلا عن باسل في غيابه، عبر تيار وعي باطني، واستحضار لماضيها الجميل معه، استخدم فيها الروائي تقنيات (المنلوج الداخلي والاسترجاع والاستذكار والقفز والتداعي الحر) لتشكل الكرة رمزية لتقلب هذه العلاقة وعدم استقرارها وحضور طاغي وقلِق لبطلها باسل في ذاكرة البطلة سما: (وجهي في كرة المنضدة البيضاء التي يلعب بها الشباب في زاوية من زوايا ساحة الكلية تتقاذفها الركتات تتدحرج فوق الارض بعيدا عن اطرها المحددة لها، الخروج عنها يعني هناك خاسر، فمن الخاسر في تدحرج رأسي خارج اطار احلامي المعتمة ؟).

2- اللغة: كانت اللغة الوسيلة الناجعة التي استخدمها علي الحديثي في تخريج نصه، والاداة التي مكنته في ايصال ما يريد حين اختار لنصه بطلين مثقفين يمتلكان وعياً مكتسباً مكنهما من التعبير عن مشاعرهما وما يدور من حولهما بطرقة واعية.. مما جعل من وجه في كرة رواية نخبوية في لغتها وطرحها ومعالجتها للواقع، اقتربت لغتها في بعض محطاتها من القصيدة النثرية كما في هذا النص: (اتوه بين متاهات الزمن، اتلمس في شعابه بحثا عن جدار اتكئ عليه، لم يعد صوتي صدى اتكئ عليه.. لم يعد لصوتي صدى انتظره.. اوراق شجرتي تتساقط، اخشى ان يتوقف عزف الهواء في حديقتي يوما، ولا شيء يبقى سوى فراغ يعوي في العدم).

3-القرين: تأسس البناء الهرمي للرواية على مجموعة من العلاقات الاجتماعية التي مثلت نمطين.. منها علاقات اجتماعية ولدت مع النص وشكلت جزءا من تركيبته البنيوية، مثل (علاقة البطلة بأبيها وعلاقة البطلة بأختها سمر) وأخرى مثلت علاقات طارئة على النص لكنها محورية في تركيب وسير احداثه مثل (علاقة سما بباسل وعلاقة سما بأبن عمها فهد وعلاقة باسل بفهد).. من بين هذه العلائق الانسانية، شكلت علاقة باسل مع فهد مفارقة حياتية وسردية جعلت منه (قرين ايجابي) ساهم في تغيير حياة فهد نحو الافضل، حين قادتهم الصدفة الى ان يشتركا في نفس الغرفة داخل المعتقل، مما اتاح لهما ان يتبادلان همومهما وتطلعاتهما، واستثمر فهد وجوده مع باسل بأن جعل منه مرشدا له ومعلماً ساهم في تثقيفه، ومنحه جزءً من وعيه كما في هذا الحوار بين فهد وسما يشير فيه الى التأثير الايجابي لباسل في حياته: (فأخذ يحدثني عن امور شتى.. الحب.. العلاقات.. الحياة.. تعلمت منه فجعلت نفسي رهينة بين يديه اسير معه كمريد صوفي مع شيخه، وصرنا متلازمين حتى لقبنا بين المعتقلين بالصنوين.. كانت لدينا كتب في المعتقل فكان يحثني على ان اقرئ).

4- التشيؤ: ارتبط أبطال الرواية مع الاشياء التي حولهم بطريقة حسية اثرت كثيرا في ادائهم وردود افعالهم وتصوراتهم على الواقع المعاش، وقد بدا هذا جليا في طبيعة الاماكن التي زارها بطلا النص، وارتباطهما الحسي والوجداني معها، كما في هذا النص: (نسير في باب المعظم.. شارع الرشيد.. يخبرني عن الاماكن التي نراها تمتعنا بمشاهدة سوق الانتيكة نقلب الحاجيات العتيكة التراثية التي تحمل عبق بغداد).. وهناك علاقة وجدانية وحسية ربطت سما بغرفتها، كما في هذا النص الذي يمثل تداعي حر للبطلة: (انكرني اثاث غرفتي تتهامس قطعه فيما بينها مستغربة من هذا الوجه الجديد الذي عاد طافحاً بسرور مشوب بقلق).. الا ان علاقتها الفريدة مع كرة المنضدة ذكرى حبيبها باسل، شكلت اهم مظهر لهذا التعالق الحاصل بين البطلة واشيائها: (ضممت الكرة الى صدري.. احسست بأصابع باسل التي لم تزل حرارتها فوق الكرة تلامس نهدي).. هذا التعالق الحسي بين البطلة والاشياء المحيطة بها، عبرت عنه الروائية الفرنسية ناتالي ساروت (بالتشيؤ) وعرفته على انه: (مجموعة من الردود الحسية والنفسية بين الانسان والاشياء).

***

احمد عواد الخزاعي

لأنها مرآة النفوس وصدى الأرواح ثم إلتقاء العقول، لأنها عالم صغير يتجول في عالمنا الكبير، ونحن بحاجة لرؤية من يتجول بيننا بصمت دون أن يشي بأسرارنا أو يحاكم تصرفاتنا. فقط الرواية تمنحنا هذا التجوال الحر الصامت وغير المرئي، لأنها عالم موازٍ لحياتنا، وهناك رغبة دفينة في الذات البشرية للتحرر من ذاتيتها والرحيل إلى مكان آخر، الجلوس مع أشخاص آخرين، رؤية وجوة أخرى ولغات غريبة، لأننا وبصراحة بسيطة نضجر بأحيان كثيرة من ذواتنا وليس من الآخر فقط؛ نحن ببساطة نحب أن نرى مسرح داخلي باعماقنا لا نكون به الممثلين ولا المخرجين ولا المنتجين، نكون به ذلك المتفرج الصامت السلبي والذي يهرب من الواقع أو يريد ان ينساه ولو لبضعة ساعات، يحتاج أن يكسر ذلك الطوق الذي يفرضه عليه الواقع، فتحرره الرواية من ذلك الواقع، تكسر قيده ولو لفترة قصيرة وذلك بغض النظر عن إن كان سعيداً في حياته أو حزيناً، إنها حاجة نفسية روحية وعقلية وإلا فلماذا أحب البشر ومنذ القدم وإلى الأزل القصص والروايات والأفلام؟ لأنها كسر مؤقت للقيد، لأنها تجعلنا نعيش بعوالم أخرى دون أن نتحمل مسؤولية تلك العوالم، دون أن نكون أبطالها ولا جبنائها، أن نكون هناك ولكننا لسنا شركاء.

ولكن ليس كل رواية كاسرة للقيد، وليس كل قصة آسرة للروح، وهنا تكمن براعة الكاتب الحقيقي، أو بالأحرى هي ليس براعة بل قدرة عفوية وموهبة تلقائية بأن يكون ذلك الكاتب جاذب للقاريء مثلما يكون ذلك الفيلم جاذب للمشاهد أو يترك بصمات الملل على نفسه.

وكلما كان الكاتب على علاقة وطيدة مع ذاته، ويمتلك فهم عميق للذات بذلك القدر فقط تكون روايته جذابة لأنه ينزع القشور الواحدة تلو الأخرى، يحلل النفوس دون مواربة ودون ضعف في الوصف أو ركاكة في التعبير، تتماوج الأحداث بين الأسطر كأنها سمفونية خالدة الكاتب فقط يُتقن إدارتها ويدرك متي يتغير ذلك اللحن ومتي ينخفض أو يزداد صداه أو حتى متى يصمت.

في كل الفنون هناك نافذة صغيرة تقول للإنسان: هيا أخرج معي من ذاتك، هيا، هناك عالم آخر لتنظر إليه من خلالي، هيا لنذهب بجولة إلى مكان لا شيء به سوى متعة النظر والفكر والتأمل والابتعاد عن النفس والذات والآخر، ومن ضمنها وبإمتياز الرواية.

لذلك لا يجوز أن تكون الرواية سطحية أو تافهة لأنها تستخف بعقل القاريء قبل أن تُشير إلى ضعف الكاتب، إنها المصنف الأول في الأدب الذي يجب أن يكون عميقاً تحليلياً، بثقافة راقية، بشعور إنساني، بفهم ناضج للذات البشرية؛ وربما تكون الرواية بسيطة ولكنها شفافة تمس الفكر والروح، وفي هذا وذاك نتجول جميعاً في عوالم الرواية التي تتجول بدورها في عالمنا، تُصور، تُحلل، تُخاطب، تُهاجم، تُعلم الحب وربما تزرع الكره، إنها مرآة حياتنا، وصدى أصواتنا، وهي واحة الكاتب وجزيرة القاريء.

***

د. سناء أبو شرار

للاديب الشاعر د. خليل حسونة

"رحلة الشعر: أنغام الفرح وألوان الأمل"

عندما تشرق الشمس وتتفتح زهور الصباح، تتنبّه الروح لحياة جديدة مليئة بالأمل والإشراق، وتغرق الأنوار الصباحية كل نفس تتنفسها بجمال وسحر الطبيعة، فترقص الشمس الطليقة في سماء الصباح وتتلألأ النجوم كألوان ساحرة تملأ السماء، وهذه الصور الشاعرية الخلابة تجسّد حيوية الصباح وتنبعث منها الإشراق والأمل الذي يغمر القلوب والأرواح.

تعد الشعرية واحدة من أعظم التعابير الفنية التي تستخدم لنقل الأفكار والمشاعر بأسلوب جميل ومبدع. في هذه القراءة، سنقوم بإجراء قراءة لثلاث قصائد شعرية، وهي "أنّات الهوى"، "رعد مباغت"، و"الصب مفتاح القلوب". سنستعرض المواضيع والأفكار المطروحة في هذه القصائد، ونحلل التقنيات الشعرية المستخدمة بهدف فهم واستيعاب عمق الرسالة التي تحملها كل قصيدة. لنغوص في عالم الشعر، فهو روح الفن وصوت القلوب، يحمل في طياته العاطفة والجمال بأسلوبه الجذاب والمبدع. سنرافقكم في رحلة قراءة نقدية لثلاث قصائد شعرية للأديب الشاعر د. خليل ابراهيم حسونة، تتألق فيها كلمات الشاعر وتتراقص معانيها بين أبجديات الحروف. أنّات الهوى تعبث بالقلوب، كأنها نغمة موسيقية تعزفها أوتار الشوق. تأخذنا في رحلة مليئة بالأحاسيس والأفكار المتدفقة، نكتشف فيها أعماق العاطفة ونغرق في بحر الحنين. رعد مباغت يهز الكون، صوته كالصاعقة تنبهر له القلوب. يعبث بأوتار الشوق ويثير الشغف، وكأنه نداء يدعونا للاستمتاع بأمطار العاطفة وأشعة الأمل المشرقة. وأخيرًا، الصب مفتاح القلوب يأخذنا في رحلة ساحرة إلى عالم النهضة والتجدد. يفتح بوابة الفرح ويملأ قلوبنا بألوان الإلهام والروحانية. فلنستقبل كل صباح بفرحة البدايات ونستثمره لصقل ذواتنا وتحقيق الأحلام. هي رحلة فريدة ومثيرة نعيشها عبر صفحات هذه القصائد، حيث نتذوق رونق الشعر ونتأمل في جماله وعمقه. فلنتشارك سويًا في هذه التجربة الساحرة ونستمتع بألوان الكلمات وأنغام الشعر التي تنساب من القلب إلى الروح، ولتبقى الشعرية همسًا يملأ حياتنا بالإلهام والجمال.

في لحظات شفافة، يرقص الشوق وتتنهّد الأنفاس، بين أنات العشق وأنين الهوى المشتعل. تشبيهات مرهفة وصور شعرية تتجلى، تأتي بلغة رقيقة تلامس القلوب الحالمة والمتعطشة. في قصيدة "رعد مباغت"، يتوهج الشغف في الدروب، مثل برق يسطع وسط السماء السوداء العميقة. صور قوية تتلاطم وتشبيهات مدهشة تستفز، تأتي بلغة فاتنة تجعل الأرواح تتجدد وتتنفس. أما في "الصب مفتاح القلوب"، تبزغ الفرحة بألوان الصباح، وتتسامى الروح بأشعة الشمس الدافئة الباهرة. صور طبيعية تتجلى وألوان تتفتح وتستشرق، تأتي بلغة بهية تسرق الألباب والأحلام الجميلة. فتكون القصائد قمر الشعور وحديقة المشاعر، تنثر عبير الجمال وتسكب الهمس في المدارك. فلنستمع ونستمتع بتلك الحكايات الشعرية، ونبحر في أعماق الكلمات ونتأمل في الجمال الخالد.

التقنيات الشعرية المستخدمة في قصيدة "الصب مفتاح القلوب" تساهم في إيصال فرحة الصباح والتجدد بشكل قوي ومؤثر.

في قلبي يولد الصباح حكايةً،

تعانق الروح وتحيي الأمل بلذة

تتغنى الأنغام والكلمات تلتحم،

فرحة الصباح تفيض بروعة وسحر

من بين هذه التقنيات الصور الطبيعية. يتم استخدام الصور الطبيعية لوصف جمال الصباح وبداية اليوم الجديد. يمكن أن تكون هذه الصور تصويرية أو رمزية، مثل تصوير الشمس الطليقة، أو غروب النجوم، أو زهور الفجر. تعزز هذه الصور الإحساس بالحيوية والإشراق في القصيدة. الألوان: يتم استخدام الألوان لتعزيز الجو المفعم بالحياة والأمل. يمكن استخدام الألوان الزاهية والمشرقة مثل الأحمر والأصفر لوصف جمال الصباح والإشراق الذي يحمله. تساهم الألوان في توسيع الخيال وإيصال الرسالة الإيجابية للقارئ. التجديد والأمل: تركز القصيدة على فكرة التجديد والأمل الذي يأتي مع بداية كل يوم. تستخدم التعابير والكلمات التي تعكس التجدد والإيجابية مثل "فرح ساطع" و"بهجة الروح" لنشر روح الأمل والتفاؤل.

بشراقة الصبح تتجدد الحياة،

تتناغم الأرواح في فرحة تملؤها البهجة

في قلوبنا تتسامى الأماني،

تزهر الأحلام بألوان الإبداع والإيجابية

في لحظات شفافة، ترقص أشواقنا وتتنهّد أنفاسنا، ما بين أنات العشق وأنين الهوى المشتعل. تتجلى تشبيهات مرهفة وصور شعرية تلامس قلوبنا الحالمة والمجتلية. تنغمس الألوان في كلماتنا، تملأها حيوية وأمل. يشدنا الشاعر بخيوط أحرفه الجميلة ويأخذنا في رحلة مليئة بالعاطفة والجمال. نغوص في بحر الشعر، نستمتع بتلك اللحظات الساحرة التي تلوّن بها حروفنا وترتقي بأفكارنا. تنساب الكلمات بإيقاعٍ مفعم بالحيوية، ترسم لوحات فنية تجذب أبصارنا وتحاكي روحنا. في قصيدته "الصب مفتاح القلوب"، ينتقي الشاعر الصور الطبيعية لتصوير جمال الصباح وبداية اليوم الجديد، كأنها لوحات فنية تعكس رونق الحياة وإشراقها. ينسج الشعر بألوانٍ زاهية ومشرقة، تمنحنا شعورًا بالحيوية والتجدد. يتناغم الشاعر مع إيقاع الكلمات ويرتبها ببراعة، فتنبض الأبيات بالنغمات الإيجابية التي تهز قلوبنا وتثير شغفنا. ومن خلال شعوره الشخصي العميق، يعبر الشاعر عن فرحته وتجدده بطريقة ملموسة وصادقة، تمنحنا الفرصة لتجربة تلك المشاعر العميقة والسعادة الباهرة. تنتشر العواطف في أرجاء القصيدة، تغوص في أعماقنا وتلمس أوتار قلوبنا. ينتقل الشعر إلينا بلغةٍ فنية معبرة، تستخدم التشبيهات والصور البصرية القوية، لتنقل لنا عالمًا مليئًا بالمشاعر والأحاسيس. تتجلى روح الشاعر في كلماته، حيث يصوغ تجاربه الشخصية بأناملٍ مبدعة، ينسج فيها ألوانًا من الحب والألم والأمل. يتراقص الإيقاع والتناغم في أبياته، كأنها نغمات موسيقية تتناغم مع همس الحروف. يستخدم الشاعر الصور البصرية القوية، التي تأخذنا في رحلة خيالية إلى عوالم مختلفة. تتفاعل الكلمات وتتلاقى في تناغمٍ مدهش، يحملنا عبر الزمان والمكان. بلغته الشعرية الجميلة والمعبرة، يصنع الشاعر حكايةً تشدنا إليها وتلمس وجداننا. تتسلل الأبيات إلى أعماقنا، تحرك أوتار الشجن والفرح، وتشعل فينا نيران الشوق والإلهام. إن هذه المقدمة الشاعرية تأخذنا في رحلة سحرية إلى عالم الشعر، حيث ينبض القلب بكلماته الجميلة والعميقة، وترتقي الروح بين صفحات الأبيات.

بأألوان الفجر يستيقظ الروح،

تتفتح زهور الصباح في وجه السماء

تتلألأ الشمس بضياءها الساحر،

تنساب أنوار الصباح في كل نفس تتنفس

أن الشمس الطليقة ترقص في سماء الصباح، والنجوم تتلألأ كألوان السماء الساحرة. الزهور تتفتح برقة وجمال، محملةً بعطر الفجر الندي. هذه الصور تعزز الإحساس بالحيوية والإشراق في قصيدتنا الشاعرية. كما يتم استخدام الألوان الزاهية والمشرقة مثل الأحمر والأصفر لوصف جمال الصباح والإشراق الذي يحمله. فالفجر يشع بألوانه الزاهية، والشمس ترتدي لباس الأحمر المشع، والسماء تتلألأ بالأصفر الساحر. تساهم الألوان في توسيع الخيال وإيصال الرسالة الإيجابية للقارئ. فيما يتعلق بالتجديد والأمل، تستخدم القصيدة التعابير والكلمات التي تعكس التجدد والإيجابية. فنحن نجد كلمات مثل "فرح ساطع" في ضياء الأمل يتجسد الصباح، تتفتح أزهار الفرح في أرواحنا النابضة في قصيدة "بهجة الروح" .

أنا روحٌ تتراقص في ألوان الصباح،

تنساب بهجةً في دمي وتسري في شراييني

ترتسم السعادة في عينيّ،

وتنبض بهجة الروح في صميم وجودي

تتناثر أشعار الأمل كنجومٍ متلألئة في سماء قلوبنا، تنير دروب الحياة وتجلب السعادة. إنها رسالةٌ تحمل بين طياتها تجدد الروح وبدايةٍ جديدة في كل فجر. ترقص الأبيات بإيقاعٍ متناغم، كأنها أنغامُ المشاعر المتجددة، تهمس بالأمل وتعزف سيمفونية الحياة. يرقص الكلمات بخفةٍ وجمالٍ، تنساب من بين أصابع الشاعر كنسماتٍ هادئة، تروي أحلامنا وتنثر البهجة في دروبنا. وفي هذه القصيدة، ينبض الشاعر بالشعور الشخصي بالفرحة والتجدد، كأنه أوراق شجرٍ تتلون بألوان السعادة والتفاؤل. وها قد أتيتُ ببيتين يزيدان تألق هذه الفقرة الشاعرية

في جنبات قلبي ترقص الأملُ

وفي دمي يتجددُ العمرُ

فلنحتفل بفجرٍ جديدٍ يبث الحياة

وبأحلامنا سنرقص على أوتار البهجة والتجدد. الأديب اد. خليل حسونة هو الشاعر النابض بالحياة والعشق، يرسم من حروفه لوحة تنبض بالألوان والعبير. فرحة، ألوف الكلمات تتدفق من قلبه المتجدد، يغني عن بداية يومٍ جديد وأملٍ مرهف، وفي قصيدته ترتقي الروح وتتألق بحرفٍ مميز، أنثى الشعر تغوص في بحر الأحاسيس العميق، في ي رحاب الشعر تنساب الأحاسيس بسلاسة، تتلاقى الأرواح في انسجامٍ متجدد. يتواصل الشاعر والقارئ في عبور عاطفي، فتتناغم المشاعر وتنثر الروح بالألوان، ففي قصيدة "الصب مفتاح القلوب" نشعر بأننا في رحلة شعرية مشوقة وساحرة، تأخذنا إلى عالم الفرح والتجدد المذهل. يستخدم الشاعر التقنيات الشعرية الرائعة، تنجح في إيصال شعورها بالفرح والتجدد. بأسلوبٍ ملموسٍ وكلماتٍ معبّرة، تنبض القصائد بالحياة والعاطفة العميقة. تعيد لنا الإلهام وتنمّي فينا الأمل. فتجلى الشعر في قوته وروعته، بقدرته على إيقاظ المشاعر الحية، وترك أثره العميق في قلوب القراء. إنها قصيدة تستحق الاستمتاع والتأمل. فتذكّرنا بأهمية الصباح والبدايات الجديدة. تأخذنا في رحلةٍ نحو التجدد والتأمل، . بكلماتٍ متناغمة ترقص على أوتار القلب، ينمّي فينا الحس الجمالي ويحيي الروح الشاعرية. تلهم وتثري الحياة.

الديوان من منشورات دار فنون للطباعة وللنشر والتوزيع، الجيزة، جمهورية مصر العربية، الطبعة الأولى 2019

***

زكية خيرهم

بطل براءة أيوبي يطلق صرخة احتجاج في وجه المجتمع في رواية ربطة عنق حمراء الصادرة عن دار الآن ناشرون وموزعون/2023

"زوائدي كثيرة ومنتشرة فوق مختلف أصقاعي ،فأنا أملك ستة عشر إصبعا موزعة بالتساوي بين قدمي اليمنى وقدمي اليسرى،أضف إلى ذلك الغرابة التي تطبع مشيتي بحيث أعجز تماما عن السير سريعا بطريقة ملفتة ومثيرة للشفقة ممن يملكون قلوبا بيضاء ،وما أقلهم!"

هكذا يعرف غريب بطل رواية ربطة عنق للكاتبة براءة أيوبي عن نفسه. غريب الذي لم يستطع طيلة صفحات الرواية بسبب اغترابه أن يشكل هوية ذاتية متجاوزا تشوهه وإعاقته البدنية بسبب نظرة المجتمع وعدم تقبله له بل وتعرضه للتجاهل والتهميش والنفور منه حد الإقصاء خارج دائرته من قبل أفراده.

وحسب قيس النوري فإن الاغتراب " الانسلاخ عن المجتمع والعزلة أو الانعزال والعجز عن التلاؤم والإخفاق في التكيف مع الأوضاع السائدة في المجتمع واللامبالاة وعدم الشعور بالانتماء بل وعدم الشعور بمغزى الحياة"

وتفتتح الكاتبة عملها بوصف الاغتراب الذي شعر به غريب عندما طلب منه الأستاذ أسعد في أول يوم دراسي التقدم نحوه والوقوف أمام زملائه ليروي ما فعله في العطلة الصيفية بلغة فصيحة ففي ص١٢ ما جاء على لسان غريب " المسافة تراءت طويلة،واحتاجت مني عناء في السير وعزيمة لمواجهة هواجسي وخوفي وخجلي من مظهري شبه الآدمي.." فهل طلب بسيط كهذا يحتاج لهذا الكم من الشعور بالخوف والعزيمة لولا أن غريب يواجه مشكلة الاغتراب في مجتمع يرفضه بالرغم من أن الوضع الطبيعي أنه  كأي فرد آخر ينتمي له؟ لكن غريب يفتقد الانتماء لجماعة الرفاق والتقبل من الآخرين والنجاح الاجتماعي وخصوصا بعد ما حصل له أول يوم دراسي من استهزاء من قبل الطلاب ويتضح هذا للمتلقي ص١٦ ما جاء على لسان غريب" جعلني أعتنق يقينا أنني في اختلافي كائن مستهجن مرفوض وحتما لا مكان لي فوق تراب هذه الأرض"

والمتتبع لأحداث العمل يجد بأن غريب حاول قهر انفصاليته وعزلته عن الآخرين بدمج نفسه باحثا عن الأمان بين بشر ينتمي إليهم ذلك لأن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي ينتمي إلى الجماعة ويشعر معها بالتحانس والتوحد ويلتمس فيها القبول والتقدير لكنه كان يفشل في كل مرة بسبب نظرتهم إلى اختلافه وعدم تقبلهم لتشوهاته بل وكان يقابل بالاحتقار. فنجده في ص٢٠ يقول "كي أحيا بسلام،ليس علي اعتزال البشر"  لكنه يرجع بسبب ازدراء المجتمع له ليعترف ص٣٦ " أنا مستهجن بفعل تشوهاتي الجسدية المقززة والنتيجة واحدة..احتقار وتهكم وانتباذ ،يا له من مجتمع مريض" فغريب يرجع سبب ما هو به إلى مجتمع مشوه ومريض يرفض تقبله كفرد منه.

بات يحاول الهروب منه حتى عن طريق إغماض عينيه والهروب من الواقع والالتجاء إلى الخيال ففي ص٤٤" أغمضت عيني لأقيم حاجزا بين روحي وواقعي ولأعتزل بشرا ما كنت يوما منهم ولا هم تقبلوا انتمائي إلى سلالتهم" "رحت أفكر في البحر والشاطئ والأصداف" بهذا كان يعوض اغترابه عن واقعه.

ويزداد اغنراب البطل عند دخوله مرحلة المراهقة حيث تعد الصورة الجسمية لأي شاب من الأمور المهمة التي تشغل باله في فترة تتسم بالحساسية العالية من حياته فكلما كانت الصورة متطابقة مع معايير الجسد المثالي كلما أشعره ذلك بجاذبيته الجسدية وشعوره بالرضا وعكس ذلك هو الصحيح وهذا العكس كان عائقا أمام غريب منعه من إشباع رغباته والرضا عن جسمه وتحقيق التوافق مع نفسه ومع الآخرين. ويتضح هذا ص٥٣ على لسانه عندما أتم الثامنة عشر من عمره " جميع أقراني في المدرسة تبدلت ملامحهم وتغيرت معالم تكوينهم الجسماني ،منهم من أضحى بطول فارع غزا به قلوب الفتيات وعقولهن..إلا أنا! ما زالت الدمامة ترتديني".

وغريب الذي كان ينظر إلى نفسه ويقزمها بناء على نظرة المجتمع الذي ينتمي إليه ولم يمنحه الثقة بنفسه وذاته أدى إلى عجزه عن تكوين هويته فاغترابه كان على علاقة طردية مع رفض المجتمع له.فالهوية هي الشفرة التي تمكن الفرد من معرفة نفسه عن طريق علاقته بالجماعة التي ينتمي إليها وعن طريقها يتعرف عليه الآخرون باعتباره منتميا إليهم لكن هذه الجماعة رفضت غريب فغدا بدون هوية. ويتضح هذا للمتلقي ص١٠٩ على لسان غريب عندما أحجم عن إخبار العم عبدول عن مكان إقامته في الجنوب" أرغب بالبقاء وحيدا وبعيدا عن أي ارتباط يذكرني بهويتي الأولى التي لم تمنحني أي معنى للإنتماء". ويتضح بالتالي تقزيمه لنفسه ص١٣ فعلى لسانه" كم أنا قبيح" وفي ص١٢ " الزائدة الأخرى أحملها فوق خاصرتي اليمنى حيث تقبع كتلة لحمية ضخمة ترفع مؤشر قبحي إلى أعلى المستويات". فأن يتهم الإنسان نفسه بالقبح فهو أقصى درجات التقزيم.فمن الذي دفع غريب لذلك؟ من المسؤول؟من المسؤول عن هذه الحساسية الزائدة والانطواء والعزلة والقلق والإحباط بل والإيمان الدائم بنظرية المؤامرة حتى مع من كانوا يخلصون له حيث نجده يشك بالعم عبدول الذي ما فتئ يقدم كل ما هو جميل له إلى العم شملول الذي كان بطل حلمه عندما دخل غيبوبته وحتى جديلة التي أحسنت إليه ووليد والغول اللذين أخلصا له فما كان منه إلا النكران تجاه الجميع والنظر بعين الحسد نحوهم ففي ص٨٠ على لسانه" لن تستحيل نظرية المؤامرة رمادا في ذهني المتمرد مهما تفانى البعض في مواساة وجعي ولملمة أحزاني". حتى أمه لم تسلم من عقد نقصه في حياتها ،فمن ولد هذه العقد ؟ هذه الأسئلة تطرحها براءة الأيوبي بشكل موارب عن طريق إسقاطها على انفعالات بطلها ولواعج نفسه وهواجسه تجاه كل شيء.

دفعت براءة أيوبي بطلها إلى السفر لتقنعه بأن المجتمع هو المجتمع ولن يتغير في الأغلب في نظرتهم لتشوهه حيث حاول أن يغير من سلوكاته لمواجهة المواقف الجديدة في حياته بعد انتقاله إلى مدينة الجنوب وكذلك تقبله لنفسه وللآخرين وشعوره بقيمته وحريته. وقد تركت الكاتبة المجال لبطلها أن يكتشف بنفسه بأن قناعتها صحيحة. ويتجلى هذا ص١٤٠حينما قرر أن يخرج من الفندق ليبحث عن مطعم يتناول فيه طعامه في مدينة جديدة لا يزعجه أحد أو يتطفل عليه أو يرفض تشوهه " سأجلس وسط الجموع بكل ثقة دون أن أقيم أي اعتبار لحماقات البشر" وهنا كانت صدمته حين أخبره موظف المطعم بأن لا أمكنة شاغرة في المطعم ص١٤٥ فعلى لسان الموظف"سأجهز وجبتك لكنك لن تتمكن من تناولها داخل المطعم الطاولات كلها محجوزة" فتزداد حالة الاغتراب أكثر فأكثر بعد رفض الموجودين لوجوده في المطعم وهنا يلجأ إلى الماضي حيث ذكرياته مع أمه ملجأه وأمانه ليخفف من حدة اغترابه في مجتمع جديد رفض وجوده ففي ص١٦٤ على لسانه" لا أستطيع سوى أن أستحضر طيفها وأجمع أجزاء ذاكرتي معها لأصنع منها شبه حياة".

وياتي أيضا عدم تشكيل الهوية في فشله في المجال الاجتماعي الذي يتفاعل معه حركيا حيث الزوائد اللحمية للبطل كانت معيقة لحركته وبالتالي عدم مشاركته للفعل البدني وقد تجلى ذلك حينما شحن برفقة وليد والغول البضاعة على زورقه دون أن يتمكن من حمل الصناديق كالآخرين ،فشعر بأنه مهمش مما زاد في اغترابه وحقده عليهم.

من خلال غريب أبرزت براءة أيوبي المشكلات التي تعاني منها هذه الفئة المعوقة وتتمثل في عدم الثقة بالنفس وعدم شعوره بإنسانيته كما والشعور بالخجل وبالتالي الاغتراب.

أما ربطة العنق التي رافقته طيلة صفحات الرواية وكان قد أعجب بها ذات وقت حينما لفتت نظره تلتف حول ياقة قميص الأستاذ أسعد فقد كانت من وجهة نظرة هي سبب هيبة الأستاذ ونفوذه عند طلاب الصف ففي ص١٥ على لسان غريب" صارت ربطة العنق في نظري أيقونة للنفوذ وسلاحا لمواجهة كل متغطرس وعديم الشعور" وبقيت بظنه هي السلاح وسبب احترام من قبل الآخرين لو أقدم على وضعها حول عنقه.

رافقته ربطة العنق الحمراء التي أهدتها له أمه ذات مساء طيلة صفحات الرواية في واقعه وأحلامه فكلما هم بارتداءها أحجم. إلى أن أتى الوقت حيث لفها حول عنقه عند قبر أمه لأنها الامان الذي يستحق أن يرتديها بحضورها.

ربطة عنق ربما حملت بين طياتها رسالة واضحة للفت نظر المجتمعات لهذه الفئة المهمشة المهشمة للعمل على دمجها اجتماعيا لتصنع منها فئة تعيش حالة توافق بين مكوناتها البيولوجية والسيكولوجية.

***

قراءة بديعة النعيمي

(النوم في حقل الكرز) رواية للكاتب أزهر جرجيس تتميّز بعنوان يشدّ انتباه القارئ ويثير العديد من الأفكار والتساؤلات حيث تتحدث الرواية في موضوعها الرئيس عن المهاجر العراقي سعيد الذي أُجبر على مغادرة وطنه نتيجة لنكتة سياسية كادت أن تؤدّي به للاعتقال وربما للعذاب والموت وتطرح الرواية سؤال الهجرة والعودة من خلال وصف دقيق لمشاهد الهجرة والتشرد والقتل والدمار والمقابر الجماعية، ويبدأ الكاتب روايته بكلمات للشاعر الفرنسي جاك بريفير (1900-1977) (الحياة حبة كرز نواتها الموت) ولكنّ غاية العنوان ودوره في الحكاية تتضحُ من خلال ما يذكره المهاجر العراقي سعيد عن جاره العجوز النرويجي ياكوب يوندال والذي قام قبل وفاته بشراء حقل من الكرز وأوصى أن يدفن فيه وحين يستفسر سعيد عن السبب تأتيه إجابة العجوز والتي يقول من خلالها الروائي غايته من هذا العنوان (.. تقول أسطورة قديمة بأن الانسان يتحوّل بعد الموت إلى موجود آخر يتلاءم مع ما حوله، فإن دُفن في الجبال تحوّل إلى صخرة، وإن دُفن في البحر صار سمكة، وإن دُفن في الصحراء غدا رملة، لذا قررت أن أُدفن في حقل الكرز كي أتحول إلى شجرة كرز.. المجد لمن نام في حقل كرز.. ص 207).. وتأتي المفارقة المحزنة حينما يحرمُ هذا المهاجر الغريب من قبر يضم رفاته في وطنه نتيجة للصراعات الطائفية والتمزق السياسي والاعتقالات العشوائية ولكنّ ورثة العجوز ياكوب يسمحون لجثمانه أن يستقر- كما تمنى - تحت ظلال شجر الكرز.

صوّ الكاتب أزهر جرجيس العلاقة العاطفية بين سعيد وأمه بطريقة مميّزة وأجاد في ربطها بذكريات الوطن والطفولة بحيث ظهر مفهوم الأمومة كعاطفة وارتباط شاعري بحالة مأمولة من الأمن والاستقرار والسلام فالطفل سعيد يلجأ لوالدته سريعا حين يسمع صوت الطائرات الحربية (.. تذكرت صوت اول طائرة حربية سمعته في حياتي، كنت حينها في التاسعة من عمري أداعب الكرة في الزقاق مع رفاقي، فدوّى في الأرجاء صريخ صفارات إنذار جعلنا نهرع خائفين نحو بيوتنا، دخلت البيت مسرعا واختبأت تحن عباءة أمي بانتظار وقوع الكارثة، حلّقت بعد لحظات طائرات حربية بارتفاع منخفض كاد صوتها يفلق راسي، أغلقت امي بكلتا يديها اذنيّ وراحت تردد: بردا وسلاما.. بردا وسلاما.. بردا وسلاما ص 28).. تظهرُ الأمّ في هذه الرواية وهي تعاني هول المفارقات السياسية نتيجة لاعتقال واختفاء الابّ المعارض للنظام ومطاردة الابن من أجل نكتة تنتقد الديكتاتور مما يجعلها تلهث وراء المستحيل كي يهرب ابنها من هول ما ينتظره من اعتقال وتعذيب وهي الأمّ التي تعاني من فقدان الزوج الذي ابتلعته سجون وزنازين التعذيب فتقوم برعاية البيت ومواجهة أصعب الظروف الحياتية (... أغلقت ام سعيد الباب بوجه كل من جاء لخطبتها وامتهنت الخياطة كي تضع أمامي خبزا خاليا من طعم الذل، كانت حياتنا مريرة في بغداد لم يمدّ لنا أحد يد العون، بمن فيهم خالي إبراهيم الذي كان يتصرف معنا وكأننا دمامل يخاف أن تصيبه العدوى.. ص 35) يرسمُ أزهر جرجيس شخصية الأمّ العراقية من خلال أم سعيد فتظهر كشخصية قوية قادرة على مواجهة الواقع القاسي حيث تواجه احتمال فقدان ابنها بقوة وصلابة فتتغلّب على عاطفتها وتحثّه على الهرب من واقع سياسي مليء بالكبت والقمع والمعاناة (ما شغلني حال أمي أي محنة تلك التي وضعت السماء فيها أمي،وأيّ قدر سيء الحظ هذه البلاد التي لا تشبع من قهر الأمهات! أعطتني بعدما أدخلتني وأغلقت الباب بالمزلاج لفافة دنانير كانت مربوطة بخيط صوفيّ وقالت: لا عيش لك هنا بعد الآن.. خذ هذا المبلغ وهاجر قبل أن تفجعني بك ص 41) وتظهر عاطفة الام وهلعها على ابنها في مشهد الوداع الأخير وكأنّها تفارق قطعة من جسدها فتضمه إليها بعد أن أدركت أن هذه اللحظة المحزنة هي آخر اللقاءات (.. عصرتُ يديها وطبعتُ على رأسها قبلة فألصقت فمها في عنقي وشمتني شمة طويلة، ثم انفجرت بالبكاء مثل سحابة ماطرة، لقد شعرت بأن قلبها يوشك على التوقف من سرعة الخفقان، احتضنتها مسحت على كتفيها، رجوتها أن تهدأ لكن دون جدوى فقلبها كان يدقّ وكأنه طبل في يد قبيلة من الهنود، في النهاية وعند باب الحافلة قال لها جلال محاولا مواساتها: لا تخافي على سعيد يا عمة ولا تحزني لفراقه سيعود ذات يوم.. اطمئني، لكنّ نظرتها وهي تلوح لي من خلف الزجاج كانت تقول بأني لن أعود ص 44) ورغم مسافات الفراق الشاسعة تستمر هذه العاطفة بالتوهج داخل حنايا الشاب المهاجر وكأنّها تُمثل الجزء الأكبر من حنين الغريب إلى وطنه فها هو يطلب منها أن تدعو له بالتوفيق من أجل الحصول على وظيفته الجديدة (في مكتب البريد) في بلاد اللجوء (في المساء اتصلت بأمي طلبت منها أن تصلّي لأجلي كي أحصل على الوظيفة، أمي كثيرة الصلاة لأجلي لكنها لا تلتزم بما أطلب منها أن تدعي به،فيما مضى رجوتها أن تدعو لي بالحصول على اللجوء فراحت تهمس في صلاتها إلهي وأنت جاهي وفق سعيد وأرجعه سالما، كنت أقول لها: يا أم سعيد يا أمي هذا خطأ هذه الدعوة تعيدني إلى العراق أدعي لي باللجوء لا بالطرد أرجوك فترد عليّ ببرود وثقة تامتين لا عليك هو يعدلها من عنده. ماذا تفهم انت من شغل الله؟! ص 113)3449 النوم في حقل الكرز

رواية النوم في حقل الكرز تتناول عدة أفكار ومواضيع تتراوح ما بين الهجرة والعودة وما بين الوطن والمنفى وما بين السلام والحرب وما بين الأمان والخوف فهي رواية الأسئلة التي يلقيها الكاتب أزهر جرجيس كإضاءات هادئة أحيانا وأحيانا أخرى كقنابل متفجرة فهي في معظم مفاصلها تطرح مفارقات ومقارنات متداخلة وتترك للقارئ حريته في أن يستمتع أو يتألم أو يفكّر مع بطل الرواية سعيد والذي يحاول في وطنه البديل (النرويج) أن يكون إنسانا جديدا قادرا على الاندماج في مجتمعه الجديد ومواجهة أية علامات أو إشارات عنصرية بمزيد من التروّي والّتقبّل والتفكير، فبعد أن يستقر سعيد في عمله الجديد ينفجرُ سؤال العودة مُخلفا كثيرا من الآلام والذكريات الموجعة (عليك أن تعود إلى بغداد فورا) هكذا أرسلت الصحفية عبير كاظم مراسلة محطة ال بي بي سي من أجواء بغداد الملتهبة بالأحداث للمهاجر سعيد القابع في صقيع النرويج البارد (.. لماذا تريد مني عبير أن أعود على الفور يا ترى ؟! لم الآن بالتحديد ؟! لقد بدأ موسم العودة إلى بغداد في نيسان 2003م غادر حينها آلاف العراقيين منافيهم، عائدين إلى هناك بمحض إرادتهم منهم من كان يلهث خلف السلطة مثل كلب صيد شره ومنهم من عاد ليستثمر أمواله في مشاريع تبيض له ذهبا صافيا بلا ضرائب ومنهم من ظنّ بأنّ الوطن صار واسعا بما فيه الكفاية لحمله.. ص 22) مرة أخرى يطرح الكاتب أزهر جرجيس سؤال الهجرة والعودة من خلال البحث عن مفهوم الوطن لدى المواطن المسحوق ولدى مُختلف شرائح المجتمع من سلطة حاكمة ومعارضة مقموعة وتجّار جشعين وأدباء منافقين ومهاجرين يائسين وعائدين بلا هدف او عنوان (... العراقيون يشبهون السمك إلى حد بعيد حالما يخرجون من النهر يشعرون بالاختناق لذا تراهم أينما رحلوا شقوا نهرا ومارسوا فيه حياتهم السمكية، ليس هذا فحسب، بل هم يشبهون السمك في قصر الذاكرة أيضا فكلاهما ينسى الفخ سريعا ليقع فيه من جديد ص 53) على امتداد صفحات الرواية يصوّر الكاتب معاناة الهجرة بشكل تراجيدي مع بعض الكوميديا السوداء فهو يصف عملية تجمع اللاجئين بشكل عشوائي وتحوّلهم إلى مجرد أرقام مثبتة على هويات تمنحهم إياها دائرة الهجرة مع ما يرافق ذلك من ألم نفسي وتمزق عاطفيّ وحالة انفصال عن الواقع والحياة ويساعد الحظّ سعيد بوصوله سالما الى الوطن البديل بعد رحلة مثقلة بالخوف والمعاناة والموت حيث يشخّص واقع الحال قائلا (.. كانت هويتي تحمل الرقم سبعمائة وسبعة وسبعين وسينادونني بعد ذلك سبعة سبعة سبعة، لم أكن مكترثا لما سينادونني به واقعا اذا ما دمت سأحصل على سرير دافئ في وطن آمن فلا ضير إذا امسيت ثلاث سبعات أو تسع خمسات أو صفرا على الشمال حتى، لقد امتلكت فيما مضى أسماء كثيرة لكنها لم تجلب لي الدفء.. منحتني أمي مثلا اسم سعيد فكنت يتيما مكسور الخاطر لم أر السعادة يوما في حياتي ص84) ومع حصول سعيد على اللجوء في النرويج يشعر بأن بابا سحريا قد فتح له وكأنّ الماضي بكل معاناته وآلامه قد اختفى حينما أتاه الخبر المنتظر (لقد حصلت على اللجوء في النرويج) فيحدث نفسه قائلا (أخيرا حصلت على وطن بديل يا الله! أخيرا صار من حقي الشعور بالأمان.. ص 96) ويواصل أزهر جرجيس وصف طريقة تعامل سعيد مع مجتمعه الجديد مع ما ينتابه من ذكريات وأحزان تُجبره في أحيان كثيرة على العودة للماضي وتذكره (.. فالأوطان البديلة لا تمنحنا الراحة الكاملة ما دمنا قد قضينا ثلث حياتنا هناك حيث الأزقة الضيقة والبيوت المتراصة ورائحة الخبز الآتية من تنانير الطين، هذا النوع من الأوطان مهما كان رؤوما بنا ومسالما يظل المرء منا يحنّ إلى أول زقاق داعب فيه الكرة مع رفاقه.. ص 137) ويُمثّل لقاء سعيد بمدرسة اللغة النرويجية مثالا على التقاء حضارتين مختلفتين فهي تُدرّسه لغة الوطن البديل من أجل المستقبل القادم وهو يهيم بها حبا وعشقا متأثرا بالعاشق العربي القادم من التاريخ البعيد ويبلغ اللقاء ذروته حينما توافق المدرسة الجميلة ابنة حضارة الفايكنغ على دعوة ابن الرافدين لتناول القهوة (.. أعددت هناك جلسة شرقية ستكون الخطوة الأولى في تلاقح الحضارتين ميزابوتاميا والفايكنغ في المنتصف تقف أرجيلة بغدادية مزخرفة باللازورد يعتليها فنجان فخاري معبأ بخليط العنب المخمر منذ نكسة حزيران 1967م فوق الفنجان تستريح جمرتان متوهجتان كأنهما حجر الزمرد الأحمر وقرب الأرجيلة منضدة ينتصب فوقها سماور تفوح منه رائحة الشاي المهيّل وأقداح مذهبة وأنيقة كعرائس الاناضول.. ص 105)

ويصور الكاتب عملية البحث عن رفات والد سعيد كعملية انتحارية مع ما رافقها من مشاهد المعاناة اثناء العودة من اجل البحث في المقابر الجماعية التي تم اكتشافها حيث يتلقى سعيد المكالمة المفاجئة من الصحفية عبير والتي توضح له (.. لقد تم العثور على أبيك وعليك العودة لاستلام رفاته ص 125) ان العثور على جثة الوالد المفقود يشكل للبطل سعيد سببا للعودة ومغادرة النرويج والانطلاق نحو الوطن حيث يعود في طريقه نحو مكانه الأول وفي مقابل مشهد العودة المفاجئة والقسرية يكون هناك مشهد الرحيل المستمر حيث ما زال هناك من يترك وطنه ويغادر نحو مجاهيل المنافي كل هذه المشاهد المؤلمة يصورها الكاتب أزهر جرجيس من خلال المشاعر المتناقضة التي تنتاب سعيد وهو يرى بني وطنه وهم يرحلون (راح نهار السابع من تموز ينتصف، الشمس تذيب الإسفلت والطريق الدولي موحش وشبه مهجور لم أر على مدى ساعات طويلة سوى بضعة سيارات لعوائل مغادرة باتجاه الأردن سألت وائل سائق الجيمسي المهذار عن السرّ وراء ترك هؤلاء الناس للبلد والنزوح نحو الأردن فقال علمها عند ربي.. ص 139) ويحاول الكاتب ان يستغل عودة البطل في تصوير مشاهد الدمار وآثار الحروب والمجازر والموت (..لقد بدت بغداد منهكة من الأعلى، المحال التجارية أغلقت قبل ان تسدل ستارة الليل والكلاب السائبة تنتشر في الازقة لتشارك اللصوص الغنيمة أكداس من النقابات تسفّ وجه المدينة،وحواجز كونكريتية كئيبة تنام على صدرها وتقطّع أوصالها بمشرط الدواعي الأمنية، كان زعيق سارات الشرطة ومواكب المسؤولين لا يهدأ وكنت بين الحين والآخر اسمع صوت لعلعة الرصاص في السماء ص 170) ثم يصف الروائي أزهر جرجيس التحوّلات التي سيطرت على العاصمة بغداد بفعل الحروب والمجازر والصراع الطائفي الذي يصبغ كثيرا من جوانب الحياة البائسة مما يضطر سعيد لاستخدام هوية مزيفة كي يستطيع اجتياز الحواجز الطائفية (.. علي وعمر اسمان لا يشبهانني منحني إياهما احد مزوري بغداد مقابل ثلاثين دولارا بعد البقشيش فعصابات الموت بدأت تنتشر كالقمل في رأس المدينة وأنت لا تدري متى يظهر امامك حفنة من الملثمين ليقطعوا عليك الطريق مطالبين بما يثبت انتماءك إلى علي دون عمر أو العكس.. ص 181) هي رحلة الحصول على كومة من العظام وجمجمة متوسطة الحجم في كيس بلاستيكي اسود، لقد قام سعيد بالتقاط صورة لهذه البقايا رغم انه غير متيقن أنها رفات الفقيد، وتبدو المفارقة كبيرة حينما تتناثر هذه البقايا البشرية وتتحطم بعد تعرض سعيد للخطف من قبل جماعة طائفية (..في الطريق سلبني أحد الخاطفين الهاتف المحمول وحقيبة الكتف ثم تناول الكيس الأسود كي يعرف ما فيه لكنّ البيك أب ارتفعت إلى الأعلى وهبطت بسبب مطبّ لم ينتبه إليه السائق، فطار الكيس من يد الخاطف وتناقر ما فيه على الطريق، مرت في الأثناء شاحنة نقل مسرعة دهست الجمجمة وسحقت العظام المتناثرة ص 195)... هكذا تنتهي بقايا الاب ولا يتبقى لدي سعيد سوى صورة لجمجة ومجموعة من العظام البالية يحدثها سعيد قائلا (آه يا أبي إنّ الظلام الذي كنت بصحبة رفاقك تحاولون إيقاد شمعة لتبديده ما زال يغلف البلاد ويحيط بأكتارها ما زال ذاك الظلام حاكما وما زال الأوغاد يضحكون على أذقاننا ويمصّون مثل البعوض دماءنا تحت يافطات جديدة لا تقلّ سخفا عما قبلها، لا أريد أن أثقل عليك فما فيك يكفيك لكنّي أودّ أن أصارحك بأنك قد فشلت مرتين مرة في حياتك ومرة في مماتك فلا حياتك حياة ولا مماتك ممات !وأنّي عذرا يا ابي لا أريد أن أكون فاشلا مثلك لذا قررت الرحيل ص 209)

استطاع الروائي أزهر جرجيس أن يوظف العنوان والأسماء لخدمة فكرته الأساسية والتي حاول طرحها من خلال عقد المقارنات وإبراز المفارقات في عدة مفاصل أساسية في الرواية حيث سيطرت على الأحداث فكرة المقارنة بين الوطن والوطن البديل والتي جاءت لصالح الوطن البديل والذي استطاع أن يوفّر للمهاجر ما افتقده في وطنه الأصلي من أمن وسلام وموت هادئ ومرقد مميز وجميل بينما لم يحصل والد سعيد من الوطن الذي ناضل من اجل مستقبله على قبر مناسب يؤوي بقايا عظامه المتهالكة، ان عقد المقارنات المتلاحقة بين وطن تثخنه الجراح ووطن بديل مليء بالحرية والهدوء استمر على طول صفحات الرواية بحيث استطاع القارئ أن يعقد هذه المقارنات المباشرة في الشوارع وفي أماكن العمل وفي البيوت وحتى في المقابر، لقد ظهر الوصف المعبر الذي استخدمه المؤلف لتصوير عملية التفجير في الكرادة التي اودت بالصحفية عبير وصفا دالا على حجم الاستنكار والحزن على الوضع الحالي لهذه المدينة فالكاتب يريد أن يصوّر من خلال كلماته الملتهبة عاطفة تشتعل بالغضب والنقمة فهو يصف بحرقة حالة الجثث المتناثرة فالأجساد المحترقة تملأ المكان وبعض الضحايا لم يبق منهم سوى اطراف ممزقة فهناك اذرع واقدام واحذية متناثرة هنا وهناك(حفل شواء رهيب لا يمحى من الذاكرة) ويحاول الروائي ازهر رسم المشهد من زاوية إنسانية معبرة من خلال صورة الدماء المختلطة بعصائر الباعة المتجولين ومن خلال وصف المرأة التي تجري وتلطم باحثة عن ابنها الذي كان يبيع الأحزمة الجلدية بجانب محل العصائر ولكنها أينما نظرت لا ترى سوى جثث متفحمة وأجزاء بشرية متناثرة، لم يكن بين سعيد وبين الموت سوى لحظات زمنية قصيرة ومسافة اقصر من ذلك أما عبير فقد تحولت لجثة متفحمة تماما..انه الألم الذي يخرج من بين حروف كلمات الكاتب ممزوجا بالحسرة والمعاناة والأحزان

وفي صورة مقابلة لهذا الواقع المؤلم يحتفي الكاتب أزهر جرجيس في هذه الرواية بصفحات مضيئة من التاريخ العراقي القديم من خلال عودة سعيد بالذكريات لدروس الأستاذ عبد الباري مدرس التاريخ (..هتف الأستاذ عبد الباري وهو يشير نحو حدائق بابل المعلقة: الحقوني كي تشمّوا عبق التاريخ، لحقناه إلى هناك متلهفين لزيارة واحدة من عجائب الدنيا السبع.. ص 189) ولكنّ هذه الشواهد والآثار العظيمة تتعرضُ للدمار والتخريب بفعل الحرب والإرهاب وصراع الجماعات المتطرفة فيما يشبه عملية محو وانتقام من ماض عابق بالحضارة والرقي والخلود (دخلت أمريكا أرض الإله من بعد ذلك لتكمل مسلسل التخريب، فسارت المجنزرات ودبابات البرامز فوق شارع الموكب الذي سارت عليه ملوك بابل العظيمة وشعبها وكهنتها،هُشمت القطع الأثرية وامتلأت المتارس الترابية التي بناها الجنود بقطع الفخار والرُقم الطينية المسمارية، لقد تعرض بفضل أمريكا خمسة عشر موقعا أثريا للنبش والسرقة، وتمت استباحة المتحف العراقي أمام أنظار جيشها وهُربت آلاف القطع الاثرية الثمينة إلى ما خلف الحدود.... ص 190)

رواية النوم في حقل الكرز رواية تتحدث عن الهجرة القسرية وعن رحلة العودة المفاجئة والهجرة الاختيارية وهي رواية لوعة الأم الصابرة ذات القوة الجبارة والتي تتقن فنّ التضحية من أجل حياة ابنها سعيد وهي رواية الأب الذي يناضل من أجل وطن ينعم بالحرية والجمال ولكنّه ينتهي مجموعة من العظام المحشورة في كيس صغير في مقبرة جماعية دون اسم أو عنوان أو تاريخ ولكن هذه الرواية قبل كل شيء هي رواية الحلم الأسطوري رواية ساعي البريد المهاجر من بغداد إلى أوسلو وهو يحلمُ بقبر هادئ وسط حقل من الكرز الجميل.

***

د. عمر الخواجا

أن تكتب عن الشّعر فهي بلا شكّ كتابة وعرة قد لا تفي الشّعر حقّه، فالشّعر حمّال للوجوه والأبعاد، هو مرآة لذات الشّاعر وانعكاساتها، يولد من رحم قضايا الإنسان حاملا همّ البسطاء والفقراء، ينغرس مع سنابل الأرض في ترابها، ويعلو بالحرف ليسمو به فوق السّحاب. وكأنّ الشّعر وما فيه من كلمات إنما هو نور مخبّأ في جيب اللّغة، يمنح الشّاعر سرّ الحرف وسريرة الحياة.

"صبا الروح" هو العنوان الذي اختارته سلمى جبران لمجموعتها الشّعريّة الجديدة، التي صدرت حديثا عن الدّار الأهليّةِ للنّشر والتّوزيع (2023). تضمّ هذه المجموعة باقة من القصائد المتنوّعة في موضوعاتها الاجتماعيّة والإنسانيّة، طغت على أكثرها صبغة نسويّة، فبرزت قضيّة المرأة ومجموعة من القضايا المعبّرة التي تحثّ القارئ على الوقوف عندها.

تتمثّل الرّؤية العامّة لهذه المجموعة في بعدين رئيسيينِ هما: البعد الفكريّ الفلسفيّ، والبعد الاجتماعيّ الإنسانيّ، وهما ينسجمان معا انسجاما تامّا، الأمر الذي كفل لهما درجة من العمق، كما اتّسمت اللّغة بالسّلاسة والوضوح، نجد فيها تعبير الحقيقة وتعبير المجاز والصّور المستعارة، مما يعكس أفكار الشّاعرة ورؤيتها الإبداعيّة، وسمات الأسلوب الرّومانتيكيّ في المضامين والأفكار. ولا أريد في هذه العجالة أن أحلّل أو أشير إلى مواطن الإبداع في كلّ القصائد، سأقارب بعضا منها لمعرفة أَوجهها الفلسفيّة والفكريّة.

"صبا الرّوح" هي القصيدة الرّابعة، وعنوان الدّيوان الذي يوحي بجوهره، تتحدّث الشّاعرة في هذه القصيدة وغيرها من القصائد عن عمق الصّحوة الفكريّة والرّوحيّة التي عاشتها فتقول:

هزَمَتْ فؤادي صحوةٌ

صدَّتْهُ عن عرشٍ تفرَّدَهُ

فقيَّدَني حنيني

وتناسَخَتْ في منطقي روحٌ

تغازلُ غايتي وتُعيدُ لي

قلبًا تعمَّدَ فيهِ

ينقذني ويهديني.

وتتابع الحديث عن العمق الفكريّ الذي تستشعره فتقول في قصيدة مسار ذاتيّ (ص26):

عُمقي يكبرُ

تتباعدُ أطرافُهْ

فتحلِّقُ روحي فيهِ

يتوسَّعُ قلبي

ترقُبُني أطيافُهْ

وتقول في قصيدةٍ أخرى:

وغدوْتُ أحيا في منافيَّ الكثيرةِ

صحوةً سادتْ بها روحٌ

تُدثِّرُها وتحميها

فلا قيدٌ يراوِغُها

ولا كبتٌ ولا عارُ.

لقد تعرّض الفلاسفة للأمور الحياتيّة والقضايا الإنسانيّة ونظروا إليها بعمق، تطرق سارتر إلى التّطور الفكريّ عند الإنسان فقال: إنّ فكر الإنسان هو ما يمثله، فهو لا يتّوقف عن التّطوّر الفكريّ طالما أنّه حيّ.

وضّح أفلاطون أن ﺃﻋﻤﻖّ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺬّﺍﺕ ﻫﻮ الفكر، ورأى سقراط أنّ الحياة الخاليّة من التّفكّر والبحث والتأمّل لا تستحق العيش، أمّا نيتشه فقدّر التّفكير والتّفكّر، وصفه بالنشوة العارمة التي تصحو بالذّهن الإنسانيّ وتؤدّي به إلى الإبداع، و‏يرى الفيلسوف بيار دي شاردان أنّ الإنسان يبصر في روحه، ما لا يبصره بالعين المجرّدة.

تظلّ الشّاعرة تنبش ما استقر في ذّاكرتها، تطلق العنان لخيالها، وتقتّنص من الشّعر لغة للحياة، تمرّ بمحطات كثيرة عبر تلك الصّحوة التي وصفتها، وتنثر بذور الأمل قائلة:

لكنَّ الأملَ تعنّقَ

عانقني، قوّى إيماني

وحباني نُضجًا أروى

عمري، ناجاني

زرعَ الذاتَ الأخرى في عمقي

واستنبَطَ عمقًا آخرَ للآتي

تحفزّنا هذه السّطور على التّطلع إلى الأمام بدل النّظر إلى الخلف، فالأمل من الأفكار الحيويّة التي علينا التّمسّك بها، وهو طاقة دافعة للذّات نحو التّحرك والتّغيير.

يقول الفيسلوف آرنست بلوخ: إنّ التّطوّر الذي عاشته المجتمعات الإنسانيّة ما هو إلا انعكاس للأمل، فنتائج اليوم على كافة المستويات العلميّة والثّقافيّة، ما هي إلا آمال الأمس ورغباته وتخيّلاته.

المرأةِ في شعر سلمى جبران:

تثير جبران قضيّة المرأة والمجتمع الأبويّ والفكر الذّكوريّ بجرأة، تتحدّث عن تجربة الأنوثة وأبعادها الاجتماعيّة، تدافع عن المرأة بشكل خاص وتسعى وراء الإنسان بشكل عام، تسير بالكلمة نحو قلب القارئ؛ فيشدّه انغماسها بروح التّمرّد على القمع والظّلم، وذاك ما نجده في إضمامة من القصائد التي تلاقت بجملة من الوسائل التّعبيريّة؛ فشكّلت لوحات شعريّة متجانسة، تقول في قصيدة وهم الرّجولة (ص8):

فيروحُ من كاشَفْتهُ

يندسُّ بينَ الخافقَيْنِ، ويعتلي

وهمًا تكدَّسَ في رجولتِهِ

وعلَّمَهُ الرِّمايَةَ سهلةً فَرَماني

أُنثى تغمَّدَها عرينُ محبَّةٍ

واستلَّها عُمُرٌ، ونُضجٌ فائقٌ

كَسَحَتْ به وهمَ الرُّجولةِ

أسقطتْهُ من حساباتِ المكانِ

ومن حساباتِ الزَّمانِ!

للوقوف على هذا المعنى وتجنّب الخلط بين الرّجولة والذُّكورة، فالذُّكورة هي النّوع الجندريّ أو الجنوسة، أمّا الرّجولة فهي الأخلاق والمواقف، الفكر والسّلوك، والرجل وطن تسكنه المرأة بأمان واحترام، وهذا ما تقصده الشّاعرة فكتبت تقول عن شبح الرّجولة (ص7):

شبَحُ الرّجولةِ يُغرِقُ الكلماتِ في كلماتي

ويُغيظُ فيَّ أُنوثتي

ويُعيدُ لي ذاتًا بذاتي

ويُثيرُ ذاكرتي ويُعمي حيرَتي

ويُثيرُ أسئلتي مُردِّدَةً:

كيف استطاعت.. حِقبةٌ قَبليّةٌ، بسوادِها وبِجهلِها

وهْبَ المعاني كلِّها، تخليدَها

توريثَها لذكورةٍ قيَمًا، تُرفِّعُها على عرشِ الحياةِ.

وتقول في قصيدة ثانيّة بعنوان "بين فكّيّ القبيلة" (ص62):

هلّا يعاتِبُني الزمانُ

على انتزاعِ قضيَّتي

من بينِ فَكّيِّ القبيله

وعلى نجاتي من قيودٍ

أقحَمَتْ روحي بهاوِيةٍ ذليله

فأنا حميْتُ درايتي من عتْمِ

لا وعيي ومن قَسَمٍ تقادَمَ عهْدُهُ

ما اخترتُهُ، فتراجَعَتْ

كلُّ المطامِحِ فيَّ

واخترْتُ أن أبقى بعيدًا

عن صلاتِ الرحْمِ

يعبَقُ في حياتي مطمَحُ الحرّيّه!

تنقلنا سلمى لتلَمُّس الحريّة في أفق الشّعر والتمرّد على السّائد من الفكر البّائس، تقول (ص60):

فكَفَرْتُ بالبنتِ الخجولة

بل كنتُ أنعاها بروحي

كلَّما كسَرَتْ جناحيَّ القبيلَة!

تتحدّى الشاعرة بلغتها المتمرّدة على السّاكن الرّاكد، وتنشغل ببناء صورة أخرى من لغة وألم كامن، فتفرد عنوانا مستقلّا لموضوع قتل النّساء على خلفية الشّرف، تقول في قصيدة قرويّة (ص70):

نرفُضُ عُرفًا فنعاني

نختارُ قيودًا فنُعاني

نقبَلُ بالقَيْدِ قضاءً، فنُعاني

لكنَّ القَدَرَ تنكَّرَ، وتغاضى عن قتلٍ

وتصالَحَ مع روحٍ، تحيا في الكَوْنِ وحيده.

تكتب أيضا عن اضطهاد المرأة فتقول (ص41):

كلٌّ يجرِّبُ حظَّهُ، في قهرِ من رَفَضَتْ

طريقَ الزيفِ والتّعتيمِ عندَهُمُ

كلٌّ تعدّى حدَّهُ وأبانَ نابًا لامعًا

حينَ ارتدى وجهًا أليفًا، يقتنيهِ الدّرهَمُ!

لقد أثبتت المرأة قدرتها على مواجهة التّحديّات، فثمّة إنجازات كبيرة وصلت إليها على كافة الأصعدة، لكنّ صورتها ما تزال أقلّ شأنا من صورة الرجل في كلّ المجتمعات الذّكورية، وذلك ما طرحته د.نوال السّعداوي في كتابها "المرأةُ والجنس"، وما ناقشته أيضا فرجينيا وولف - رائدة الأدب النّسويّ- في كتابها "غرفةٌ تخصُّ المرءَ وحدهُ"، وما تحدّثت به الفيلسوفة الوجوديّة سيمون دو بوفوار في كتابها "الجنس الآخر".

صراعات الحياة:

تصور أيضا المجتمع بكل تناقضاته، وتعبّر عن حاله البّائس بإيجاز وكثافة؛ تتحسّس الجوانب الواقعيّة الحيّة التي نعيشها، تجمعها بحرارة التّعبير الحرّ، فنستشعر الصّدق في وصفها عن حالة الخراب الإنسانيّ التي أصابت مجتمعاتنا تقول (ص48):

حُزْنٌ وحِقدٌ واندفاعٌ زائفٌ

وتسلّقٌ يبغي الوصولَ، فلا

يصُدُّ مُرادَهٌ عجزٌ ولا يثنيهِ

عن غيٍّ جمودٌ أو جحودٌ أو قرارُ

كلٌّ يردِّدُها مآربَ عصرِنا

ويُحيلُها لُغزًا تَقاعَسَ فهمُهُ

وتصف صراعات الحياة (ص55):

طِفلٌ يركُضُ خلْفَ رغيفٍ

ورغيفٌ يركُضُ خَلْفَ الطفلْ

العالَمُ يجري

يرقُصُ خَلْفَ الأشباحْ

وأنا أتحدّى فيَّ القَهْرَ

أُغالِبُ نفسي كي أبقى في الظلْ

والشمسُ تُعانِدُ وتُشاكِسُ

لم تنسَ الشّاعرة أن تعرّج على ظاهرة الجهل المجتمعيّ، تحدّثت عن دوافع الجهل عند الجاهل وقبوله بالجهل خوفا من التّغيير، ظنّا منه أنّه بذلك يحمي نفسَه فكتبت (ص88):

وأُعاوِدُ بحثي عن أمَلي المسجون

أترجّى أنْ يرقى فهمي

لكنّي أدرَكْتُ بأنَّ الجهلَ كفيلٌ أن يحميني!

بحسب الفيلسوف باسكال فإن الوعيّ هو الميّزة التي تعلو بالإنسان، وقد عبّر نجيب محفوظ عن ذلك فكتب في رواية خان الخليلي: فتش عن السّعادة الحقّة، على ضوء العلم والعرفان. وفي نظر الكاتب فريديريك لونوار فتكمن راحة الجاهل وسعادته في غياب التّفكّر في أمور الحياة.

الأنا الفلسفية:

نلاحظ البعد الفلسفيّ في المفردات والكلمات التي تدعو إلى الشّرح والتّأويل، هناك تركيز على مفردة "الأنا الفلسفيّة" التي تتّسم بها الذّات المفكّرة، التي وظّفت في بعض القصائد؛ لتضع القارئ على ناصيّة التّفكير والتّأمّل، وأذكر هنا بعض الأمثلة التي جاءت في مواقع مختلفة:

- فأنا أُحبُّ حرارةً تعلو دمي.

- وأنا أعفو عنهُ.

- وأنا تهجُرُني لاءاتي.

- وأنا أمشي أحملُ عنها كلَّ همومٍ.

- وأنا أتحدّى فيَّ القَهْرَ.

- وأنا أبقى في صمتي.

- وأنا أتشبَّثُ بدقائقَ من نورٍ أعْشَقُها

- فأنا حميْتُ درايتي من عتْمٍ.

- يتحدّى فيَّ أنايَ المُفْعَمَةَ بمأساتي.

- ويغيظُ أنايَ الأخرى، أبكيهِ فيبكيني.

- وأنايَ تنوءُ بأحمالٍ، أثقَلَ من ظُلْمٍ وأمرّ.

نلمسُ الوضوح في هذا الخطاب الشّعريّ الذي يوظف الذّات الفلسفيّة ويفسّر ارتباطها الوثيق بالآخر؛ ليظهر خوالج النّفس المعبّرة عن المواقف والمشاعر المختلفة، فذات الانسان تعكس ما بداخله وتمثّل وجهته في الحياة، ونظرته إلى نفسه ومدى تأثّره بالبيئة المحيطة.

يعتبر "سقراط" أنّ الذّات هي قلب الوجود وهوية الإنسان، ودليله في التّفريق بين الصّواب والخطأ، وأنّ ذات الفرد هي روحه، ويرى "أفلاطون" أنّ ذات الإنسان تتجسّد بالعقل الذي يحكم روحه، ويعتبر "ديكارت" أنّ الذّات جسد مادي وعقل مفكر، وهي تتصل بوعيّ الإنسان وتفكيره، وهذا ما ترسّخهُ مقولته الشّهيرة "أنا أفكر إذن أنا موجود".

فلسفةُ العبثيّة والوجوديّة:

تتحرّر الشّاعرة من محيطها لتنعتق في ظلّ الحرف، تمدّ يدها إلى حيث تولد الكلمات، فلا تهجر إغواء اللّغة وجمال القول الرّشيق، توثّق أحاسيسها وتصوّر آفاقها، وتبحر عميقا في رحلة مع الذّات، فتكتشف عبثيّة الحياة وتعود محمّلة بالرّؤى والشّعر، تقول (ص 103):

أبحَرْتُ عميقًا في روحي

وبدأْتُ أُحاورُها

كي أفهَمَ ما كانَ

يُغطّي عينيَّ وأحيانًا يُعميني

فوجَدْتُ حياتي غارقةً

في عَبَثِ وجودي

تدخل الشّاعرة هنا إلى عالم العبثيّة، فهي لا تنفكّ تبحث عن حقيقة الوجود ومعنى الحياة، وكون الشّعر حالة إبداعيّة حرّة تنقل فكر المبدع ورسالته، من هنا تختار ما يناسب رسالتها من اللّغة؛ لتجسّد رؤيتها إلى الحياة، فتقول (ص 24):

هيَ طفرةٌ هذي الحياةُ

فلا يُضلِّلُني مداها

هيَ طينةٌ نُفِخَتْ بها روحٌ

فأحْيَتْنا وأحيانا ثراها

هيَ جمرةٌ ترتاحُ

تحت رمادِنا لا تنطفي

فتُحيلُ كلَّ زماننا الآنَ

وتفضُّ عنهُ رمادَنا

وتلوحُ فوقَ أديمِها

تجذو بلَمْسِ هوائها

ليعيشَ فينا حُبُّها وهواها.

وتعبّر عن مشاعر الاغتراب والاستلاب التي تعتريها، فتقول في قصيدة "عبثُ الوجود" (ص 28):

عبثُ الوجودِ

يُحيطُ بي ويصدُّني

ويُحيكُ لي مَهْجَرْ

فأعيشُ يحضُنُني اغترابي

يسترِدُّ شقاوَتي

فصغائري تكبُرْ

عُمُرٌ يعايشُني

ويقتصِرُ السِّنينَ

فيستقي منها الحنينَ

ويغتني حُلُمي

ويزيدُني عَبَثيَّةً

ويُعيدُ طيفَ طفولتي

متمرِّدًا ومُحاوِرًا قَلَمي

هل لي بلحظةِ نشوةٍ

أن ترتقي

وتُثير بي لحنًا تخَمَّرَ

هازئًا برصانتي

ومُكَفِّنًا عَدَمي؟

في قصيدة اللاشيء تقول (ص30):

قد غِبتُ في اللاشيءِ

يحكُمُني ويرصُدُ لي زماني

في غياهِبِ لازماني

وعشقتُ أمكنةً تعاينني

وتفقه صحوتي في لامكاني.

تقدّم هذه القصائدُ صورا كفكاويّة؛ لتبقى مفارقة ال

قد غِبتُ في اللاشيءِ

يحكُمُني ويرصُدُ لي زماني

في غياهِبِ لازماني

وعشقتُ أمكنةً تعاينني

وتفقه صحوتي في لامكاني.

تقدّم هذه القصائدُ صورا كفكاويّة؛ لتبقى مفارقة الوجوديّة والعبثيّة من الأفكار التي تثري الدّيوان، فتجسّد المعنى الفلسفيّ وتخاطب عقل المتلقّي ووعيَّه، وتشدّه إلى فضاءات النّور والدّلالات التي تسقطها سلمى على رّؤيتها الشّعريّة، تلك التي لا تريد لها أن تتلوّث بالواقع، الذي وصفته في قصيدة أرواح عاريّة فقالت:

وجوديّة والعبثيّة من الأفكار التي تثري الدّيوان، فتجسّد المعنى الفلسفيّ وتخاطب عقل المتلقّي ووعيَّه، وتشدّه إلى فضاءات النّور والدّلالات التي تسقطها سلمى على رّؤيتها الشّعريّة، تلك التي لا تريد لها أن تتلوّث بالواقع، الذي وصفته في قصيدة أرواح عاريّة فقالت

أرواحٌ تتغشّى بسوادٍ تتستَّرُ فيهِ

تتنقَّلُ بينَ قصورٍ

ولَّتْ منذُ دهورْ

لا ترجو عَوْنًا من ربٍّ

بل تطلُبُ من كلِّ النّاسِ

بأن تحسبها ربَّ العَوْن.

ولا تفتأٌ جبران تعرّي الواقع وما تراكم عليه من صدأ الأفكار، تصبّ عليه لهيب غضبِها، فتصّور بإدراك واقعنا الفجّ، تعبّر عن استيائها قائلة (ص37):

غضبي تفجَّرَ حينما

اختلَطَتْ ينابيعُ المشاعِرِ في دمي

وتضوَّعَتْ كلُّ المعاني في حروفي

وانبَرَتْ عبَراتيَ الثَّكْلى

تصارِعُ مبْسَمي

الحزن والتّجلّيات الرّوحانيّة:

وبشعريّة شعوريّة تفصح عمّا يثير انفعالاتها تجاه الفقد والذّكريات الحزينة، فتذكر الموت قائلة (ص39):

الموتُ يُحدِّقُ بي

من كلِّ زوايا الكوْنْ

فيعيشُ يراقِبُ كلَّ

مَرافِقِ روحي، يركُضُ

يلعَبُ ويزاحِمُني، يغلبني

يتحدّى كلَّ مجالاتِ حياتي

يكشِفُ أينَ اختبأتْ أحلامي

ينتظرُ الأمَلَ، يُحوِّلُهُ ألَمًا

يَنتزعُ البسمةَ من قلبي

يتجلّى هاجس الموت واضحا في بنيّة الكلمات، تقول أيضا(ص31):

أحياهُ ظِلًّا يحياني

ألقاهُ يهزَأُ من قَلَقي

يرعى صحوي يُحييهِ

ويُعتِّقُ ماضيَّ

فيجرعهُ خمرًا يُسكِرُهُ

ويُعرّي فيهِ خُمولًا

يتضوَّرُ خَجَلًا منّي، يهرُبُ،

يتركُني لجُنوني أَنعمُ فيه وأُعانيِ.

يتعاظم البوح في هذا الجمع بين الحياة والموت، ينمو بين الحياتيّ والغيبيّ، فهذا النّصّ الشّعريّ يواجه عبثيّة الحياة بفكرة الضّرورة الأنطولوجيّة بحسب رؤية سارتر، الذي يرى أنّ الموت شأنُه شأن الميلاد فيقول: إن كان من العبث أن يولد الإنسان، فمن العبث أيضا أن يموت.

الفيلسوف الوجوديّ جابريل مارسيل يرى أنّ كلّ إنسان هو لغز أنطولوجيّ، ولا بدّ من الوعيّ بهذا اللّغز لمقاومة اليأس النّابع من مواجهة الموت. أما ألبير كامو فيشبّه الموت بالعدم، ويظهر ذلك العدم في روايته "الغريب" بالإنسان العدميّ العاجز أمام قوانين الحياة، ويقول: إن حتمية الموت تضيف على عبثية الحياة وزنا إضافيّا.

تظلّ سلمى تتأمّل في ملامح نموّها الرّوحيّ، وتتفكّر في طبيعة الحياة، فتصوغ الكلمة وتنصهر معها، وتحلّق في عوالمها بصمت، فتكتب:

صمتٌ أعقَبَهُ صمتٌ

وتبدّتْ آياتٌ في أعماقِ الكوْن

تحكي صامتةً

عن ريحٍ تُسقِطُ أزهارًا وثمارًا

غابت عنها آثارُ اللون

في هذا الصّمت صورة إيمائية تجريديّة الألوان، تشي بفضاء واسع للتّخيّل، فالصّمت صلاة وتَدبّر، تعبير وشعور، وهو من الأفكار التي تستحوذ على قريحة الشّعراء برمزيّته وأسراره وغموضه.

يقول "آينشتاين": الكون مدعاة للتّأمّل والأصوات تكسر الصّمت، والتّنوير يعبّرُ عنه. أمّا الفيلسوف "بيكار" فيشرح الصّمت على أنّه اللّامرئيّ الحاضر، يتفوّق على كلّ الصّخب والضّجيج؛ ليعيد الأشياء إلى كمالها وسّكونها.

الحبّ والتّجربة:

يقول ديكارت: الشّعر عطاء روحيّ جيّاش، لا نِتاجَ تعلُّم. وسلمى شاعرة تكتبها القصيدة بنبض طوعيّ، تتنازع فيها الحياة والموت، فيعلو شأن الحياة ويتسامى فيها الحبّ، تنجو من وسواس الخوف وقهر المجتمع في قصيدة عقود الخوف (ص83)، وتترك الصّخب لأهله وتعتزل في قصيدة سفر العزلة (ص92)، تسكن إلى ملاذها لتعيش لحظات التّجلّي الرّوحيّ في قصيدة نفسي تعيى، وتترك حرفها المشحون بالغضب بحثا عن الهدوء والسّلام، فتستشعر الاكتفاء وشفافيّة الحبّ، ويعلو صوت القلب، تقول (ص21):

يأخذُني حبُّكَ

حيثُ يشاءُ

ولا أدري هل أخطو

نحوَ خميلةِ حُبّي

أم أجري؟

عطَّرْتَ حياتي

حينَ اختارَكَ لي قلبي

وكياني أشرقَ فرحًا

لم أعرفْ أنّي بوجودِكَ

أتصادَقُ مع قَدَري.

نجد الحبّ حاضرا في الدّيوان لا ينفك يغادر، فالشّعر وصف للحظة شعور، والقصائد تؤكّد ذلك، تكتب(ص22):

إنّي عشقتُكَ

فامّحَت من خاطري

صُوَرُ الرِّجالِ

وتفتّحَتْ في داخلي

سُبُلُ الحياةِ

وأشرَقَتْ نورًا

يُضيءُ بصيرتي وخيالي

أحبَبْتُ نفسي فيكَ

فانفجَرَتْ ينابيعُ

المحبّةِ في دمي

فهَجرتُ مالي

واكتفَيْتُ بما لي.

نعم إنه الحبّ، تلك الحكاية الشّغوفة بجمالِ البوحِ وعفويته، تحوّل العاشق بريئا يختزل سيلا من الحكايا والفرح، ولفرط جمال الحلم، يظنّه العاشق حقيقة؛ ليصحو من غفوته متجرّدا منهزما إلا من خيبته، لكنّه بعد التّجربة يغدو صلبا، أكثر عمقا ووعيا، وذلك بعد أن تتراءى له الصّورة الأوفى والأكمل.

تصف الشّاعرة تلك الحالة وتكتب عن فرح البداياتِ في أيّ علاقة جديدة، تلك التي تنطوي عادة على قدر كبير من الدّهشة، فتمنح العاشق طاقة وإقبالا على الحياة، تقول في قصيدة الحبّ الفجّ (ص5):

أدخلَني روْضًا أغناني

عن كلِّ رياض الدُّنيا

وحباني أمَلًا وورودًا وكُرومًا

يتبخْتَرُ فيها الحُبُّ ويَسْطَعْ

وتتابع إلى أن تقول:

فتدافَعَ نحوي موْجُ حياتي

وتَحَوَّلَ حُبّي مِحرابًا ومُصَلّى وقضيّهْ

وغدوْتُ أُكابِدُ بُعدًا عن روحي

واُصارِعُ ظِلًّا يغمُرُني ويحوِّلُ

كُلَّ حياتي جزءًا من آخَرْ

فاختلطَ الضّامِرُ فيها بالظّاهِرِ فِيَّ

تَحَوَّرَ لوْني وتبدَّدَ فيَّ بريقٌ أعماني

فتجدَّدَ بَصَري، لأرى

طفلةَ عُمْري تتعافى، تتنامى

تركُضُ خلفي وأمامي

وتُعيدُ الرّوحَ إليَّ

من وجهة نظر فلسفيّة، لا يمكن التّعبير عن الحبّ منطقيا أو إدراكه بالعقل، فهو لغز غير قابل للتّفسير، يشبه إلى حد كبير تجربة صوفيّة.

يعتبر سقراط أنّ سّعادة الحبّ تتمثّل بالجمال والخير، ويكتب الأديب المسرحيّ أريستوفان: لا يكفي أن يكون المحبوب هو النّصف الآخر كي نحبّه، فعلى هذا الطّرف أن يكون خيّرا ومتفهّما، وإلا فسينتهي الارتباط إلى السمّية والأذيّة.

الأسئلة ودلالة المعنى:

في مواضعَ كثيرة نجد بعض الحيرة والتّساؤلات التي تُقدم من الشّجن الكثير، ومن الشّعور بالفقد والضّياع الذي رافق الشاعرة، فكتبت (ص46):

واعترتني حيرةٌ

فتفجَّرَتْ فيها سؤالاتي

تُوَلِّدُ ضجَّةً في محجري

وتحوَّلَتْ لُغةً تُحاكي

كُلَّ أيّامي وتحكي قصَّةَ

القلقِ الدّفينِ بخاطري

وتُطرَحُ هنا بعض الأسئلة؛ لتغدو المفردات أكثر إیحاء وانزیاحا، فتدفع القارئ إلى الوقوف على دّلالة السّؤال، ولعلّ أصل المفاهيم الفلسفيّة سؤال يتبعه سؤال، مما يفضي إلى البحث والوقوف على أسرار الحياة، أمّا منبت السّؤال فهو الفضول أو الدّهشة التي تولّد المعاني.

تُطرح الأسئلة في أكثر من موضع، أذكر منها:

- حتّى متى سأظلُّ تائهةً؟

- هل لي بلحظةِ نشوةٍ أن ترتقي، وتُثير بي لحنًا تخَمَّر؟

- هل أخطو نحوَ خميلةِ حُبّي أم أجري؟

- هل أعشَقُ الغياب؟

- هل يحتويني حُبُّهُ؟

- هل أنحني وأنطوي؟

- هل أستجيرُ بالنّوى وأهجُرُ العِباد؟

- هل يحتويني حُبُّهُ؟

- هل أُدْمِنُ الحياةَ في غُروبِها؟

- كيف استطاعت حِقبةٌ قَبليّةٌ، بسوادِها وبِجهلِها، وهْبَ المعاني كلِّها، لذكورةٍ تُرفِّعُها على عرشِ الحياةِ؟

إنّ الحكاية هنا ليست في طرح الأسئلة، وإنما بما يتوارى خلف تلك الأسئلة من الدّلالات، وما تقتضيه من الوعيّ والإدراك، فالاستفهامُ المجازيّ لا يسعى إلى الإجابة، وإنما إلى الدّلالة التي تثيرها الصّيغة الاستفهاميّة بأسئلة في الوجود أو العدم، أو في الحضورِ والغياب، وكأنّي بالشّاعرة تؤكّد أنّ الشّعر رفيق مجيد في سرد أسرار الحياة.

وبعد.. تنطوي هذه المجموعة على قدر من الصّور الحيّة بأصواتها وإيقاعاتها، تسير بين فلسفة التّأمّل وشجن الإنسان، وتدعوا إلى التّمرّد على السّكون والرّكون إلى العتمة، وإلى التّحرر من القيود التي تحدّ من انطلاق الرّوح وإدراكها لمكنونات الحياة، وإلى تحرير النّفس من أغلال الفكر؛ لتَلِج إلى عوالم النّور وقد عرفت طريقها، إذ لا حائل هناك يحول بينها وبين الرّؤى، فالنّور نقيّ صاف، والحواجز المغلقة تتهاوى أمام النّقاء والصّفاء.

أبارك للشّاعرة سلمى جبران هذا الإصدار، وأتمنى لها التّوفيق والنّجاح.

***

صباح بشير

.....................

- ورقة مقدّمة إلى نادي حيفا الثّقافي.

عندما يرتقي الشعر إلى مستوى عميق، يتجلى السحر في استخدام الألوان كرموز تعبيرية تنبض بالحياة وتعزز الجمال والتجربة الشاعرية. فكأعمق ألوان الفن، تأخذنا القصائد في رحلة فلسفية متنوعة تربط بين الوجود وتجليات الروح. في سماء الشعر، يتوازن الغروب كرقصة مهيبة على حافة الأفق، يحمل في طياته الانتهاء والتغيير، في حين تصوغ المزاجات المنخفضة ألوان الحزن والكآبة، تنثرها القصائد كرموز للفراق والانفصال، متأملةً في قدرة الشعر على ربط الجمال الشاعري بالحقائق الفلسفية.

تشترك القصائد المذكورة في تركيزها على العواطف والمشاعر، واستخدام اللغة الشعرية والصور الشاعرية لنقل تلك المشاعر بشكل عميق ومعبّر. تستكشف هذه القصائد مواضيع مختلفة مثل الفقدان، الحنين، الشوق، الحرية، الانتماء، التغيير، والعمل. تتجلى قوة الذاكرة في القصائد، حيث تحاول الحفاظ على اللحظات الماضية وتجليدها في الكلمات. تستخدم القصائد صورًا شاعرية ورموزًا لإيصال المشاعر والأفكار، مثل البحر والسماء والسفن، والتي تعبر عن الاتصال العميق بين الإنسان والطبيعة وتعكس الأمل والرومانسية. تعزز القصائد أيضًا أهمية التأمل والاستمتاع باللحظات البسيطة والمميزة في الحياة. يعتبر الشعر وسيلة فنية قوية للتعبير عن المشاعر والأفكار، وتتميز هذه القصائد بقدرتها على نقل تلك المشاعر بشكل مؤثر وإيقاعي. تدعو القصائد القارئ للتأمل والتفكير في المعاني العميقة وتساهم في إثراء وجهات نظره وتعميق تجربته الشعورية.

قصيدة "أو تذكرين يا هيلين

تقدم القصيدة صورة معبرة عن الذكريات والمشاعر المرتبطة بالماضي والوطن. يتم استخدام اللغة الشاعرية لوصف الصور والمشاهد وإيصال الحنين والشوق إلى الزمن الذي كان المطر يغسل الأرض ويرطب الأشجار. تحمل القصيدة رسالة عميقة عن الانتماء والشوق إلى الوطن واللحظات الجميلة التي تمضي. تبرز القصيدة أيضًا قوة الذاكرة في الحفاظ على اللحظات الماضية وإحيائها في الكلمات. تستخدم القصيدة الصور الطبيعية لوصف الأجواء والفصول التي تجلب شوقًا وحنينًا. تشير الرموز المستخدمة في القصيدة إلى البحر والسماء والسفن كرموز للاتصال مع المخاوف والأمنيات المشتركة مع هيلين. تتناول القصيدة أيضًا الموضوعات العاطفية والشخصية والحنين إلى الأماكن والأشخاص الذين شكلوا جزءًا من حياة الشاعر. باختصار، تعبر القصيدة عن تجربة شاعرية غنية بالمشاعر والذكريات المرتبطة بالماضي والوطن، وتستخدم الصور الشاعرية لإيصال تلك الأحاسيس والشعور بالحنين والشوق. في قصيدة "أو تذكرين يا هيلين"، نشعر بمرور الوقت وعودة الحنين، وكأن المطر يغسل الأرض ويرطب الأشجار. وفي هدوء البحر وعبق السماء، تنبثق ذكريات تتجلى في أعماق النفس.

. ي ظل هذه الأبيات الشعرية، يستعرض الشاعر استخدام الصور الشاعرية والرمزية لنقل العواطف والأفكار بشكل مغمور بالجمال والعمق. قصيدة "أو تذكرين يا هيلين" تدفعنا للانغماس في عالم الذكريات والشوق إلى الماضي والوطن. تتجلى اللغة الشاعرية في وصف الصور والمشاهد وإيصال الحنين والشوق إلى أيامٍ كان المطر يغسل الأرض ويروي الأشجار. هذه القصيدة تحمل رسالة عميقة عن الانتماء والرغبة في الاحتفاظ بلحظات الجمال التي تمضي. تظهر هذه القصيدة قوة الذاكرة في الاحتفاظ باللحظات الماضية وإحيائها في الكلمات. وتستخدم القصيدة الصور الطبيعية لوصف الأجواء والفصول التي تثير الشوق والحنين.

قصيدة هلموا بنا الى البحر

تعكس القصيدة شغفًا عارمًا ورغبة قوية في الهروب والمغامرة. تدعو القصيدة إلى الاستكشاف والانغماس في عالم البحر، لاستكشاف جماله وأعماقه. تستخدم القصيدة صورًا شاعرية لوصف الحياة البحرية والمناظر الطبيعية، بهدف إيصال شعور بالحرية والتجاوز للروح. تعتبر القصيدة دعوة قوية للتخلص من القيود والانطلاق نحو المجهول. تستدعي القصيدة الصور البحرية والألوان والمشاهد الطبيعية لإيصال المشاعر والمناظر التي يرغب الشاعر في تجسيدها. تشير القصيدة إلى وقوفنا أمام البحر وإشعال شموع تحت الماء لجذب جزر الحوت الأزرق واستدعاء جند الآلهة الحمر. يتم استخدام الأسلوب الشعري ببراعة لإيجاد صور قوية ومعبرة عن الجمال والسحر الذي يحيط بالبحر. سنحلل الأساليب الشعرية والصور المستخدمة في القصيدة لفهم الرسالة التي يحاول الشاعر إيصالها. باختصار، تتجلى في القصيدة شغف الشاعر ورغبته الشديدة في الاستكشاف والهروب، وتستخدم الصور البحرية والألوان والمشاهد الطبيعية لنقل شعور الحرية والتجاوز. القصيدة تعتبر دعوة قوية للتحرر من القيود والانطلاق نحو المجهول. قصيدة "هلموا بنا إلى البحر" تدعونا لمسح أفق البحر المتلاطم والانغماس في أعماق اللون الأزرق. نحن نتقرب من الأمواج ونحتفظ بأسرارها، كأننا نرقص مع الشموع تحت الماء.

أما قصيدة "هلموا بنا إلى البحر"، فتعكس شغف الشاعر ورغبته القوية في الهروب والمغامرة. تدعو القصيدة إلى استكشاف جمال البحر والانغماس في أعماقه. تستخدم القصيدة الصور الشاعرية لوصف الحياة البحرية والمشاهد الطبيعية، بهدف إيصال شعور بالحرية وتجاوز الروح. تعتبر القصيدة دعوة قوية للتخلص من القيود والانطلاق نحو المجهول. تعزز القصيدة الأهمية العميقة للتأمل والاستمتاع باللحظات البسيطة والمميزة التي تحمل في طياتها قوة التجدد والتأثير العاطفي. وتظهر القصيدة التواصل العميق بين الإنسان والطبيعة، وكيف أن لحظات الغروب تلهم الروح وتعزز الارتباط الروحي بالعالم المحيط.

قصيدة "التفاف"

تستعرض القصيدة الذكريات والمشاعر المرتبطة بالماضي والوطن. تستخدم اللغة الشاعرية لوصف الصور والمشاهد وإيصال الحنين والشوق للوقت الذي كان المطر يغسل الأرض ويروي الأشجار. تحمل القصيدة رسالة عميقة عن الانتماء والشوق إلى الوطن واللحظات الجميلة التي تمضي. تعكس القصيدة أيضًا قوة الذاكرة في الحفاظ على اللحظات الماضية وإحيائها في الكلمات. بينما تناقش قصيدة "التفاف" الحنين والذكريات للشخص الراحل علي بصيص، حيث يستخدم الشاعر الصور الشعرية لوصف المشاهد والمشاعر المرتبطة برحيله. يشير الشاعر إلى لحظات الحديث عن القباب والقمر، وتجولهما سويًا في ممرات الصبح. يستخدم الشاعر الصور الطبيعية والأساطير لنقل المشاعر والأفكار. بهذه الطريقة، تتداخل القصيدتان في استكشاف العواطف والمشاعر، حيث تركز الأولى على الفقدان والحنين والثانية على الحنين والذكريات. تستخدم كل قصيدة صورًا شاعرية وتقنيات شعرية لإيصال العواطف بشكل معبر وعميق.

في قصيدة "التفاف"، يتجلى الاستخدام الرمزي في الصور والمفردات التي تنقل المعاني بشكل مجازي وتعزز العمق الشعري. إليك نموذجًا للرمزية في القصيدة. "النجمة الصبح" و"ناقة الليل": تعبر هاتان الصورتان عن الأفكار والرؤى الداخلية التي تعجز عن الظهور والتعبير عنها بوضوح. "الهجرة الفصلية" و"الغيوم السوداء": ترمز إلى التحول والتغيير والظروف الصعبة التي يواجهها الراحل أثناء رحلته.

اسراب القطاة": تمثل رحلة الانتقال والبحث عن المكان المناسب والوجهة المرغوبة.

"البحر البعيد" و"السماء الخفيضة": تعبر عن البُعد والضيق والحدود التي يجب تجاوزها للوصول إلى الهدف.

"المساحات المظلمة" و"عباءة الليل": ترمز إلى الغموض والتعقيد والصعوبات التي تواجهها الراحل في رحلته.

قصيدة "ماورد في الأفول"

تستكشف القصيدة جمال الأفول والغروب. تصف القصيدة لحظات الغروب وتأثيرها على المشاعر والمزاج. تستخدم الصور البصرية والتشبيهات لإيصال جمال وسحر الأفول، وتعكس قوة الطبيعة وتأثيرها على الإنسان. تتحدث القصيدة عن الفراق والتغيرات التي تحدث في الحياة، وتشد الانتباه إلى جمال اللحظات الخاصة في نهاية اليوم. تعزز القصيدة أهمية التأمل والاستمتاع باللحظات البسيطة والمميزة التي تحمل في طياتها قوة التجدد والتأثير العاطفي. يظهر من خلال القصيدة التواصل العميق بين الإنسان والطبيعة، وكيف أن لحظات الغروب تلهم الروح وتعزز الارتباط الروحي بالعالم المحيط. قصيدة "ماورد في الأفول"، فتعكس رحيل الشمس عن السماء ببطء، وتتدفق الألوان وتتلاشى الأشكال. في غياب النور، يولد السكون الذي يروي الروح بجماله. هذه الأبيات تبرز استخدام الصور الشاعرية والرموز لإيصال المشاعر والأفكار بشكل جميل ومترابط. بفضل قصيدة "ماورد في الأفول"، يستكشف الشاعر جمال الأفول والغروب. تصف القصيدة لحظات الغروب وتأثيرها على المشاعر والمزاج. تستخدم الصور البصرية والتشبيهات لإيصال جمال وسحر الأفول، مما يعكس قوة الطبيعة وتأثيرها على الإنسان. تتناول القصيدة أيضًا الفراق والتغيرات التي تحدث في الحياة، وتلقي الضوء على جمال اللحظات الخاصة في نهاية اليوم. وتعزز القصيدة أهمية التأمل والاستمتاع باللحظات البسيطة والمميزة التي تحمل في طياتها قوة التجدد والتأثير العاطفي. ومن خلالها يظهر التواصل العميق بين الإنسان والطبيعة، وكيف أن لحظات الغروب تلهم الروح وتعزز الارتباط الروحي بالعالم المحيط. باختصار، يمكننا القول إن الأبيات الشعرية التي تم ذكرها تستعرض بشكل رائع استخدام الشاعر للرمزية والصور الشاعرية لنقل المشاعر والأفكار بشكل مغمور بالجمال والعمق.

من خلال تحليل هذه القصائد، يمكننا استنتاج بعض القيم المشتركة مثل الحنين، الفقدان، الشوق، الحرية، الاكتشاف، وقوة الذاكرة. تعتبر هذه القيم جوانب مهمة في الشعر، حيث يعمل الشاعر على تجسيدها وإيصالها للقارئ بواسطة الكلمات والصور الشعرية. تشكل هذه القصائد قصائد معبّرة تستدعي المشاعر والتأمل وتدعو القارئ للتفكير في المواضيع المطروحة.

قصيدة ماورد في الغياب

تركز القصيدة على موضوع الغياب والانفصال. تستخدم القصيدة صورًا ومجازات لوصف الفقدان والشوق إلى الأشخاص المفقودين. تعبر القصيدة عن الحنين والأمل في اللقاء والعودة، وتستدعي الصور الطبيعية والرمزية لتعزيز المشاعر والمشاعر المرتبطة بالغياب. تعكس القصيدة أيضًا العواطف الداخلية والتفكير في الغياب والتأمل في معانيه. في قصيدة "ماورد في الغياب"، يتجلى الاستخدام الرمزي في عدة صور ومفردات تعزز المعنى العميق والتعبير عن المشاعر. إليك بعض أمثلة على الرمزية في القصيدة:

الشمس": ترمز إلى الأمل والحياة، ويمكن رؤيتها كرمز للمشاعر الإيجابية والتجدد

"السكون": يعكس الهدوء والسكينة ويمكن رؤيته كرمز للتأمل والتوازن الداخلي

"الألوان": تعبر عن التنوع والتعدد وتعزز الجمال والتجربة الشاعرية

"الغروب": يرمز إلى الانتهاء والتغير، ويمثل أيضًا الموت الرمزي أو الفقدان

"المزاج الذي ينخفض": يعكس المشاعر الحزينة أو الكآبة، وقد يكون رمزًا للانفصال أو الفراق

في ختام هذا المقال، يتبادر إلى الذهن جمال الشعر وقوته في التعبير عن المشاعر والأفكار. تنتقل القصائد المذكورة إلى أبعد من مجرد كونها مجرد كلمات على الورق، إذ تصل إلى أعماق الروح وتنساب في مشاعرنا بلغة شاعرية تعبق بالرموز والصور المعبرة. تستدعي هذه القصائد العواطف والتفكير، وتشد الانتباه إلى قيم الحنين والفقدان والشوق والحرية والتغيير والعمل. بواسطة استخدام الصور الشاعرية والتشبيهات والمفردات الرمزية، ينجح الشاعر في نقل تلك المشاعر والأفكار بشكل عميق ومؤثر. تأخذنا القصائد في رحلة من خلال الذاكرة والوطن والتجربة الشخصية، محاولة الحفاظ على اللحظات الماضية وتجليدها في كلمات تنساب بروح الأمل والرومانسية. تدعونا هذه القصائد للتأمل والاستمتاع باللحظات البسيطة والمميزة في حياتنا، وتثير فينا الرغبة في الاكتشاف والهروب والمغامرة. إنها دعوة قوية للتخلص من القيود والتحرر، والسباحة في عمق البحر المجهول بشغف وشجاعة. باختصار، فإن هذه القصائد المعبرة تجسد الروح الشاعرية وتعزز الاتصال العميق بين الإنسان والطبيعة والذات. تدعونا للتأمل والتفكير في المعاني العميقة وتساهم في إثراء وجهات نظرنا وتعميق تجربتنا الشعورية.

***

زكية خيرهم

يسعى الكاتب الفرانكفونى د. محمد طعان للغوص بمكامن الكتابة من خلال مستويين في لغة الكتابة: السردية والتصويرية المكثفة للنص الروائى، الذي رسمه لنا في شخوص روايته «سيد بغداد».

و لو سبرنا غور الحياة الشخصية للكاتب الطبيب الجراح، لوجدناها متشظية في عوامل الانتقال بين بيروت وأوروبا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهى حالة سبغت جسد روايته وحولته إلى عالم من الغرائبية الممزوجة بالانطباع الأثنى والمذهبى أحيانا؛ وهنا فهو يشدو بروايته سيد بغداد أنغامه متنقلًا إلى عالم السردية الكلاسيكية للرواية العربية تارة، وإلى التناغم الفطرى للنص الدينى العفوى الذي يفرض وجوده بين أسطر الرواية تارة أخرى.

قد تجد عنوان الرواية يأخذ بمداه نحو تأويلية توحى للقارئ من الوهلة الاولى أنه كاتب عراقى عاش بين العشائر العراقية المتمركزة في جنوبي العراق، أو ربما معتنق أحد مذاهبها؛ وذلك لكونه يشير إلى شعائرها في أكثر من فصل في الرواي،. إلا أن (أهل مكة أدرى بشعابها) فلو اطلع الكاتب وعاش الحقيقة بين هذه العشائر الجنوبية من العراق، واطلع عن كثب على تفاصيل حياتها، لاكتشف الاعمق مما تناوله من تفاصيل روايته، وأدرك عمق العلاقات الاجتماعية وخصوصيتها وتقاليدها وموروثها المذهبى في الشعائر الدينية لتلك العشائر.

 تحديداً؛ وهو يتناول قضية ثورة سيدنا الحسين بن على بن أبى طالب في واقعة الطف عام 61 للهجرة (مدينة كربلاء 170كم جنوب بغداد تقريباً) متناولًا منها البعد الانسانى، وكيف ينتصر الحق على الباطل، في دعوة للسعى في صورة الانتماء للعسكرى الأمريكى جيمى إلى العشائر في الأهوار ومناصرة الحق لهم، كما هو الحال كمعادل موضوعى في شخصية الحر الرياحى الذي ترك جيش يزيد بن معاوية وانتمى إلى جيش الحسين بن على.

لقد استخدم في روايته تقنيات تعدد الاصوات وتخالف المنظور، وتوظيف الرسائل والمذكرات وتحريك الصورة المشهدية لتركيز اللقطة النصية في الحوار، حتى يرتقى للقيمة الكبرى للعادات والتقاليد والأعراف لدى هذه العشائر الجنوبية.

وبالتالى سيكون الاقرب منها في رسم الوصف والسرد وإعطاء البعد الانسانى للشخصية وحركتها داخل البناء الروائى، فضلا عن الاقتراب من دقة الوصف خصوصا عندما يحدد شخصية السيد، وهى الشخصية المحورية التي تعتبر من الاشراف لدى هذه العشائر ويكون نسبه (نسب السيد) عائدًا إلى آل بيت النبى محمد (ص) إلا أن الكاتب تجده ينسب هذه الشخصية (السيد) إلى عشائر الفريجات أو العبيدات ، في حين هاتين العشيرتين ليستا من الاشراف!!، كما هو الحال أيضاً في وصف المكان وتسميته المكررة خطأً للبعض منها، كمقهى الزهراوى والاصح مقهى الزهاوى (نسبة إلى الشاعر العراقى جميل صدقى الزهاوى المتوفى 1930) أو قوله مسلم بن عقيل بن ابى طالب هو ابن خال سيدنا الحسين والاصح ابن عمه.. فضلا عن عملية خلط الراوى بين أحداث ثورتى تموز في 1958 وتموز 1968.

 إن الراوى محمد طعان يختزل الكثير من الرؤى في شخصية البطلة آمنة التي تسعى للبحث عن زوجها الذي كان ضحية المقابر الجماعية، فهى تضمر في داخلها لواعج لماضى يتوزع بين الحنين لحبها البريء، وتضحيتها لزوجها الضحية في الوقت نفسه، وصراعها الداخلى الذي يؤطر سلوكها والسعى للتجرد منه، لان آمنة هذه الفتاة الغجرية التي كانت تعيش في دار غجرى وفى حى يسكنه الغجر في احدى أطراف العاصمة بغداد، والذى كان يلهو معها وطبان وزير الداخلية في حكم الرئيس صدام حسين، تلك الشخصية التي أغمرنا بها الراوى وتسليط الضوء عليها، حيث كان الوزير وقد تعلق بآمنة مذ كان يتردد على بيت أمها بذلك الحى الغجرى..

فضلا عن ارتباطها بزميل زوجها واللقاءات معه للبحث عن زوجها ومساعدته لها المتكررة، والسفر بين بغداد حيث كان يعمل فيها والعودة إلى الأهوار في جنوب العراق عند العيش مع والد زوجها الملقب بالسيد، هذا الارتباط المحورى أن صح التعبير عنه، والتنازع النفسى الداخلى في شخصية آمنة، يقودنا إلى ادراك النمو والتطور الهارمونى والدراماتيكى للشخصية، التي تنساب إلى المتلقى بانتقالات فنية، هنا استطاع الراوى تذويب لغته السلسة والشيقة في نمط سردى بديع يتميز بالحركة والتدفق والشجون التي تطلقها آمنة وهى تنصاع إلى شخصية وطبان المحاصرة لشخصيتها، ومراقبته لها حيث تشاء من التنقل بين بغداد ومناطق الأهوار في جنوب العراق.

إن مثل هكذا شخصيات كما يصفها عالم النفس يونغ، شخصية تفرز رواية من داخل رواية، فهى بحكم مركب النقص الذي يكون في تكوين شخصية آمنة، وتنازع النفس البشرية بين البيئة الغجرية التي كانت تعيشها، والانتقال إلى الأهوار والشعور القسرى الذي كان يلاحقها من الوزير وطبان، كفيل بأن يخلق دراما لرواية قائمة لوحدها.

وعندما تتوزع الرواية بين آمنة وشخصية السيد والعسكرى الأمريكى جيمى، تتشظى صور الأحداث بطريقة غير عشوائية بل تشظي من النوع الابداعى للراوى أو المتمكن من توظيف أدواته في البناء الروائى لعبور اللحظات غير المرغوب فيها وتجاوزها، في أسلوب التصور الفنتازى للاحداث وللزمن الذي يسقطه الكاتب، متجاوزًا الترهل في ديناميكية الحركة التصاعدية للأحداث..

لذا يعطينا الكاتب انطباعًا من الوهلة الاولى وحتى الاخير، بأننا امام مشاهدات تنطوى على احداث عاشها الروائى بواقعية سحرية صورها لنا عن الأهوار في جنوب العراق، والموروث الشعبى الذي يخاطب به شخصية السيد للعسكرى الأمريكى جيمى وكيف تحول الاخير باعتناق الدين الاسلامى..

قد يعزو ذلك إلى الإيحائية التي أراد بها الروائى من خلال شخصية العسكرى جيمى باعتناقه الإسلام بأهمية الدين الاسلامى وبرائته مما يحدث الان من ردود افعال على شبكات التواصل الاجتماعى (السوشيال ميديا) من تطرف فكرى وارهاب وأحزاب اسلامية.. ليؤكد أن المتطرفين فكريا هم أخطر من مرتزقة، وأن ما عاشه العسكرى الأمريكى جيمى خلال فترة غزو العراق لإسقاط نظام صدام حسين، كانت أكبر خدعة أمريكية، عززت لديه مفهوم كذبة دولته العظمى، بأن العراق لا يمتلك أي أسلحة دمار شامل، وأن ما عبثت به القوات الأمريكية بالشعب العراقى اثبتت له بالدليل القاطع أن أمريكا لا تحمل أي مفهوم عن حقوق الإنسان وأن الإنسانية براء منها، والذى جاءت به تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ولست أدرى أن كان الكاتب د. محمد طعان قد شهد بنفسه ما عاشته بغداد بعد الغزو الأمريكى لها، أو قام بزيارة جنوب العراق والأهوار والعشائر العراقية التي تنتشر هناك، واطلع على الأعراف والعادات والتقاليد والشعائر الدينية فيها، لاتضحت له حقائق كثيرة وتصورات ربما مغلوطة عن ذلك العالم، عندما لا تتوازى فيه الجرعات المعرفية من ثقافات بين مجتمع إلى آخر، ففى البلد الواحد تختلف العادات والطقوس من شماله عن جنوبه، وبلد كالعراق، تتعدد فيه الديانات والقوميات والمذاهب والاثنيات، وبلد عريق صاحب تاريخ وحضارة، الذي كان موئلًا للكثير من القبائل التي سكنته وتسكنه حتى يومنا هذا، ومسرحًا للحروب والغزوات عبر التاريخ، يحتوى من عادات وقيم وأخلاقيات وطقوس شتى.

ويقتصر أثره على هذا الحماس المشبوب لإصلاح العالم بسلاح الدين كما يتوهم المتعصبون، ولكن هذه الإشارات الثاقبة التي لا تتسنى ملاحظاتها إلا لمن تأملها بإمعان تدل على خبرة الكاتب الوثيقة بهذه العوالم وقدرته على توظيفها في سياقاتها الطبيعية بتلقائية عجيبة.

إن الكاتب قد استطاع تذويب لغته السلسة الشيقة في نمط سردى بديع يتميز بالحركية والتدفق وحكايا بها شجون شخوصه وخواطرهم ونقدهم للحياة في مستوياتها المختلفة.

فإذا كان فن الرواية كما يصفها خورخى بورخيس بانها كتبت في عصور لاحقة ولكنها لم تصل إلى ذروة الفعل الانسانى، إلا أن رواية «سيد بغداد» باختلافنا مع الرأى السابق، فإنها أعطت للقارئ العربى نموذجا يحاكى الواقعية والسحرية والتنبؤ، بأن هنالك مخططا يقود العالم نحو التطرف والصراعات والانقسامات والتحديات، ليس على مستوى قيام الحروب بين دول العالم، وإنما حتى على صعيد الحروب من الاجيال الرابعة والخامسة .. الخ ، فيما سيبقى الفن الروائى راصدًا للوجع الإنسانى الذي شهد العديد من المعالجات المعقدة لانعكاسات واقع عربى سلبًا أو إيجابًا وسريع التحول في مفاصل الحياة والإنسان ذاته.

***

د. عصام البرام

مجموعة (هذا الألم الذي يضيء) أنموذجا.. دلالات مكامن القصيدة ومؤطرات الذات الشعرية

توطئة: إن كل حالة مدلولية لا تعدو كونها منظورا من بنيات دوالية دينامية تؤشر لذاتها تقدما مرتكزا نحو هوية مضمونية قد تبدو تعددية حينا، وحينا أحادية في توحدها داخل عملية إنتاجية تخلق لذاتها موضعا تمر من خلاله مؤولات واقعة النص ــ تبادلا نصيا ــ يجسد لمحمول المعنى مكانة واقعية غاية في الإقبال المقروء والإنجاز في مؤسسة صيانة آليات النص ودلالاته في حسية شيفرات مركزية من معنى النص المتوغل في علاماته الكامنة في مكامن القصد الدوالي وخطوطه المفترضة في حدود متمايزة من مؤطرات الذات المدلولية.من هنا لعلنا نسعى إلى تقويم وتقديم نماذج من تجربة الشاعر العراقي الكبير (عدنان الصائغ) ضمن تجاربه التي وصلت إلينا في أوج نزعتها المدلولية المركزة، لذا فهي قصائد ذات طوابع مدلولية كونها تنتمي إلى مواضع حالات مشهرة في صراعها المضموني، لتصبح من خلالها المنظومة المدلولية كعلامة وهوية وحقيقة تماثل إمكانية (البنيات الكشفية؟) في خلاصاتها الأكيدة في الظاهرة الشعرية، أي إنها تطبيقات تداري عرضية اللغة بمتطلبات إمكانية في النوع والظرف والحال وصولا إلى مخصوصية البؤرة المدلولية تألقا يجعل من وظائفية الدوال بمثابة الأحياء في الربط والعلاقة المتتابعة دون كشفية ما من شأنها استدراك حالة الاستكمال في موصلات المعنى والواصلة الصورية المستحكمة في معاملات القصيدة.

ــ الفعالية الدلالية بين الفضاء المحذوف وبنية البياض:

ونحن نطالع نماذج من تجربة مجموعة (هذا الألم الذي يضيء) واجهتنا جملة من الأحوال الشعرية ـــ تصنيفا وتوظيفا ـــ فهناك القصيدة المحاكمة للأشياء، وبالمقابل منها نجد القصيدة الصورة ذات الحضور المصافح في مستوى العملية الاستدلالية بين (الذات ـــ الحال) كذلك هناك نماذج موغلة في محمول بلاغتها التنافذية بتلاقح المقاصد والإيحاءات مع واصلة الاتصال بمحددات جدل التشكيل والحسية الإدراكية الفنية التي تتلاقى معها تلميحات وتضمينات المادة الشعرية كواصلة بحثية في التنوع وتحديث الأداة القصدية في الخطاب الدوالي.نقرأ ما جاءت به قصيدة (تشكيل) من اجتزاءات وفواصل ومحذوفات متنية، إذ لا تتوفر على ثمة علامة موصلة سوى بموجب المواضعة المدلولية من احياز النص وملاحقه.

صريررُرُرُ

باااابْ

ولا

من

جوابْ./ص14

إن غائية العلاقة بين دال وآخر، تحكمها الاصوات الحروفية إيقاعا (مكانيا ــ زمنيا) أو لربما لسان الحال الموضعي أضاف إلى (الإسناد المقيد) راهنا، وبلا تشكل أفعالي ما فلفظة (صرير) المتكررة بحرف الراء تصبغ الإيقاع النغمي لصرير الباب بدلالة من الإيحاء الظرفي (بااااب) كما أن ورود الجملة المقتطعة (ولا ــ من ــ جواب) تطيل من حركية الموحى في النص بأن حال الدلالة لا يوصل عتبة فعلية سوى بمواجهة ما تدل عليه الجمل اللاحقة (هكذا ما سوف يمضي الاغتراب) وبهذا الاعتبار الممكن يمنحنا الشاعر نتيجة قد لا تكون بالضرورة نواة اقتضائية للحال المخصوص، بقدر ما كانت علاقة إيحائية في حدود (المشابهة ـــ المشبه به) ولو تصورنا أن حالة فكرة التشكيل في قصيدة الشاعر، قد حلت في مجرى (الرؤية الإمكانية) لكان هناك ما هو أولى من تقطيع الحروف وتعدديتها في حيز النص، لأن رؤية التشكيل لا تعني الإيحاء بالأصوات بقدر ما تعنيه من رؤى خطوطية ذا وجهة نظر اعتى مما تعنيه تصديرات جمل القصيدة.ولكننا مع الصائغ من ناحية القيمة المدلولية عندما نراجع الجمل في النص: (صريررُرُرُ ـــ بااااب:ولا من جواب:هكذا ما سوف يمضي بنا الاغتراب) العلاقة الدلالية المرجحة هنا بواسطة جملة (يمضي بنا الاغتراب) إذا الهوية المدلولية هنا هي منقادة بفعل تأويل (الاغتراب) ، وليس إلى مجمل الحدوث الدوالي في سابق المتن النصي، كما الحال في هذه الأسطر المقطعية من ذات القصيدة:

الكتبُ التي في غُرْفَتي

بماذا

تتحاورُ

في غيابي./ ص15

الخطاب ها هنا كحال سابقة من الأسطر الأولى من النص، يمنحنا حالة استقصائية في تداولية الدال: (بماذا ـــ تتحاور) يمكننا ملاحظة المحايثة بين علاقة (الكتب) وصعيد مصداق دليلها في المكان (في غرفتي) يمكننا هنا القول أن العلاقة محصورة داخل أداة (استفهامية ـــ ضمنية) ولا يمكن بلوغ مرادها إلا بمعرفة حال لفظة (غيابي) وقد تتحدد علاقة الحال الغيابية في وضعيات جهاتية غير معلومة: (غيابي = لا كينونة / بماذا تتحاور = علاقة موضوعة = محايثة غير دالة) كما الحال يواجهنا في هذه الأسطر اللاحقة أيضا:

لستُ وحيداً

وحدتي

معي./ص15

إن الوحدات الشعرية هنا لا تكشف إلا عن إلزامات خاصة في مجال تكثيف الإيحاء بالذات أولا وأخيرا، وليس هناك علاقة استكمالية في خصوصية الموضوعة، لذا فإنها تبقى غاية في ذاتها لذاتها، دون المضي بها نحو حالة الارتكاز عبر وظيفة دلالية متطورة.

ـــ التفاصيل اختزالا استباقيا:

الحقيقة أن القارىء إلى قصيدة (عدنان الصائغ) يتنبه إلى مخيلة الشاعر تختزن أجمل الأعماق الأحوالية في شعرية الصورة، لذا غالبا ما تصادفنا قصيدة دون ضربة شعرية مكثفة ومزودة بمسافة مختزلة من السياق الاستباقي في النص:

نثيثُ الثلجِ

على نافذةِ منفاي،

رسائل متجمّدةٌ وصلتني من هناك

هكذا يُخيّلُ لي.

ص25 / قصيدة: رسائل

يسجل حجم هذه الأبنية الدوالية الواصفة، علاقة ما مخصوصة من وظيفة الأداة من وجهة نظر الفاعل المنفذ.يدرك الصائغ الملفوظ جيدا بإنه تداول بين ثنائية علاقة (وطن ــ منفاي : معيق فاصلي = نثيث الثلج : رسائل متجمدة وصلتني من هناك = الفعل التأويلي ـــ لفاعل استحالة : هكذا يخيل لي = مرحلة التجلي ــ ترغيبة في موضوعة المعيق) إن النسق الزمني في النص كما أسلفنا سابقا، حركة ملفوظية في حيز المكان، لذا فإن النص بأبعاده الفعلية تستشعر به وكأنه لم يكتمل ، أو لربما أن هناك نهاية غير كفيلة بإتمام دلالة النص بموجب وضعه الوصفي : (بينما ساعية البريد على دراجتها الهوائية، تشير أن لا رسائل لي اليوم) وبهذا الحد لا تنغلق القصيدة في مداها المدلولي، بل تبقى تشكل مع ذاتها كوقفة ظرفية، خاصة وأن للذات الأولية في سبق الاستجابة الاقتضائية بأن (رسائل متجمدة وصلتني من هناك) ويعتمد هذا التوالد الذاتي (هكذا يخيل لي) من جهة خاصة على نوعية الزمن بأبعاده الحسية بالمكان وتحول جهة الاتصال (على نافذة منفاي) لتكون الذات وحدها داخل النسق المكاني محاصرة بين (نثيث الثلج) والشعور باللاوجدى من مسار إعادة تشكيل حلم اليقظة بالتخييل (يخيل لي) .

ـــ الأنا والهو هو الأنا والهو:

تتكون مخصوصية الصورة الذاتية في عوالم شعر الصائغ، من خلال المجمل الإمكاني الذي يتشكل في ذاته وبذاته كالصورة الاستعارية، الصورة الكنائية، الصورة المجازية، فمن خلال هذه الاطوار البلاغية في المسوغ الوظائفي، تتخذ الذات لذاتها لعبة الصور المراوية، أوالمتخيل الآنوي عبر حوامله التكثيفية المقاربة لتجليات الصورة الحاصلة أو لا حصولية في ثنايا المتن التماثلي للأنا المعادلة:

رجلٌ سكّيرٌ

شبقٌ ...

يُخاصِرُكِ في الحانةِ

وأنا أرقبُهُ بغَيْرَةٍ

رغمَ أنَّهُ لمْ يكنْ أحدٌ سواي.

ص22 / قصيدة: مرآة5

يتبدى لنا من هذا السياق الشعري، ما تحتفظ به تقانة (شعرية المرآة) فالإنابة هنا تحدث وفق فعلية سكونية ــ مراوية، تؤشرها الذات المتحققة عبر ذاتها المحسوسة أو اللامحسوسة في مرحلية زمنية الرائي وحده ــ مجالا لإثراء خصوبة التخييل ــ أو لإنضاج مصدرية الصورة المراوية والمتمثلة في الخلفية من الذات الواصفة، لذا فإن الاشتغال عنا يعد اشتغالا في تباينات الملامح وليس بعلاقة الموجود بالمستشهد دالا، إذ لا عضوية نفسية بين (التوهم ـــ التمعن) إلا من حيث كون العلاقة مؤثرة في حالات معادلها النسبي، كما تصادفنا الحالة ذاتها في قصيدة (تأويل) إذ لا علاقة حقيقية للتأويل كدلالة بما جاءت به الأسطر الشعرية من أحوال موضوعية تختص بالتسمية:

يُملونني سطوراً

ويُبوّبونني فصولاً

ثم يُفهرسونني

ويطبعونني كاملاً

ويُوزّعونني على المكتباتِ

ويَشْتمُونني في الجرائِد

وأنا

لمْ

أفتحْ

غمي

بعد . /ص24

أنا شخصيا لا أعلم ما مدى علاقة مفهوم دال العنونة (تأويل) بكل ما جاءت به الدوال من إجراءات فعلية مفترضة، لعل الشاعر العزيز أساء تقويم مسمى التأويل إغفالاواضحا، فهنا الاستدلال لا يعكس دور الواقع التأويلي: فمن هو المؤول هنا؟ومن هو صاحب التأويل الذي لا يمت بصلة ما لأي جهة حتى وإن كانت إستيهامية مثالا؟القصيدة بحد ذاتها تتحدث عن عملية طبع كتاب وهو يمر عبر مراحله التكوينية وصولا إلى شتمه في الجرائد: (وأنا لم أفتح فمي بعد) هل الضمير هنا معودا إلى الكتاب ذاته وإن كان الأمر هكذا فعلا، فما علاقة جهة التأويل في تعالقات التشكل الدوالي إجمالا؟أعتقد إن الصائغ من جهتي لم يحسن معادلة وشائجه الدلالية في القصيدة لكونها محض كلمات دون علاقة جهاتية دالة، فهي مجرد فكرة لم تأخذ نصيبها في التركيز الصلاتي الدلالي تماما.

ــ مؤطرات الذات وتقانة الوسائط الآنوية:

إن التوغل في جغرافيا الذات حالة من أقصى محفزات الطاقة التخييلية، ولكنها من جهة ما قد تتخاذل أمام تفوق المظاهر التأويلية الكامنة في استجابات المقادير الموضوعية التي تحددها مهام الإيحاء والرموز والبلاغة الاستدلالية.فالشاعر الأستاذ عدنان الصائغ لديه في حياته الشعرية حساسية شديدة في لغة الذات، لدرجة وصول الأمر بالنتيجة، هو إن إحساسنا بأن القصيدة لا تمتلك سوى الأداة الذاتية ــ استقلالا وغاية ــ ومع ذلك لا يمكننا تجاهل حجم جماليات العملية الشعرية لدى هذا الشاعر الأكثر سعة وجموحا في مخيلة الذات:

أَطْرُقُ باباً

أفتحهُ

لا أُبْصِرُ إلاّ نفسي باباً

أفتحُهُ

أدخُلُ

لا شيء سوى بابٍ آخر

يا ربِّي

كمْ باباٍ يَفْصِلُني عَنِّي.

ص25 / قصيدة: أبواب

إن ذات الشاعر تستكشف عمق الحجب عن ذاتها هي بذلك تواجه وجودها عبر الأنا من خلال قطيعة غير متناهية من (فضاءات الوائق؟) لذا فإن مواطن الذات لدى الشاعر ملتحمة بالحدود والحجب ..إنها تجربة الحد والعائق في محل إمكانية معايشة الأشياء الذاتية من وراء اللحظة الأكثر تقيدا وسلبا وتأكيدا بالنفي والتوحد خلف متاريس حجب الأنا:

لي بظِّل النخيلِ بلادٌ مسوّرةٌ بالبنادق

كيف الوصولُ إليها

وقد بعد الدربُ ما بيننا والعتابْ.

/ ص26 قصيدة: حنين

ـــ تعليق القراءة:

هكذا واجهتنا مؤثرات (مكامن القصيدة؟) وتضاريس (مؤطراتها الذاتية) كصورة جمالية زاهدة في تمائم لغة الذات التأملية ــ غوصا في أعماق الأشياء أو تحليقا في أجوائها ـــ إن طبيعة القصيدة الشعرية لدى عوالم العذب (عدنان الصائغ) هي امتلاك لناصية أحلام الأنا عبر جواهر عمليات حلمية ذات أصول مشبوبة بصياغات أرواح الأشياء ضمن خيالات متذوقة بالمادة الفنية، لإبراز الاحساس الابداعي إلى التلقي وكأنه المزاجية المتحكمة في حالات صنيع التعايش مع أجواء التجربة الشعورية كمالا وصعودا نحو مقروئية القدرة التذوقية لحالات الوجود أو اللاوجود التقابلية والاندماجية والترجيعية من تفاعلات أفعال الشعرية الممرحلة في فلك القصيدة.

***

حيدر عبد الرضا

"الملائكة تهبط في بغداد": هو اسم ديوان الشاعر والناقد والمسرحي والفنان التشكيلي العراقي سعدي عبد الكريم، والتي صدرت عن دار المتن 2023.

العنوان:

يُعتبَر عنوان الكتاب، أو أيّ نصِ إبداعي، عتبةً، ونصّاً موازياً، ومفتاحاً يُشرعُ أبوابه أمام المتلقي؛ للولوج في دواخله. لذا يُعَدُّ صياغةً مهمةً للنصّ والكتاب؛ لأنّه الجسر الذي يوصل بين الكاتب والقارئ. وتأتي أهميته من كونه العلامة والإشارة لما يتضمنه النصُّ، وما يكنزه من دلالة ومعانٍ وأفكار وإشارات، وصور فنية مُبتدَعَة خلّاقة، يعمل الكاتبُ على تقديمها وجبةً إبداعية، أو فكرية على مائدة المتلقي. وعليه يحاول ويجهد أنْ يُقدّمَ أفضل ما يمكنه من عنوان ليُحفّز، ويثير فضول، وذوق المتلقي، ويغريه ليدخل النصّ، فيطالع، ويستقرئ، ويستكشف.3438 سعدي عبد الكريم

 قد يكونُ العنوانُ كلمةً واحدة، أو جملةً، تلخّصُ بتكثيفٍ مضمونَ النصّ. ومن وظائفه أيضاً تقديمُ فكرة جامعة شاملة (وحدة موضوعية) رابطة لأجزاء الكتاب، أوالديوان الشعري بتعدد قصائده، وتنوّع صورها، وألوان مضامينها ومعانيها وحكاياتها. وقد يختار الشاعر عنوانَ ديوانه من خلال الخيط الرابط لما يتضمنه من معانٍ وأفكارٍ ودلالات وأحاسيس. أو يتألف العنوان من كلمة واحدة متعددة المعاني والإشارات. أو من عنوان إحدى قصائده، مثلما فعل شاعرنا سعدي عبد الكريم، حيث اختار لعنوان مجموعته اسم إحدى قصائدها "الملائكة تهبط في بغداد" إذ يقول فيها:

تمتلئ ساحاتُ التحرير بالدم .. والهتاف

والسماء تكتظُّ بالشهداء

امرأةٌ في رأسِ الزقاقِ

تخلعُ (شيلتها) ترميها إلى السماء

يحمّرُ وجهُ السماء .. ثمّ

تهبطُ الملائكةُ في بغداد

يحلُّوا ضيوفاً على بيوتِ الفقراءِ"

 فالاختيار إذن، والحالة هذه، يكون للإشارة الى جامع المجموعة من معانٍ (وحدة موضوعية)، وهو الرابط الذي يربط النصوص داخلها بخيطِ واحد متصل واصل شامل يصوغ منها قلادةً منْ خِرَز مختلفةٍ ألوانُها، موحدٍ رباطُها (الخيط)، تحت مسمىً واحد (القلادة/ الديوان)، لتشعَّ بريقاً مُتحِّداً متعالقاً متشابكاً جذّاباً للرائي/المتلقي. لذا فإنّ قصائد المجموعة هي الخِرَز الملوّنة التي يربطها خيط (وحدة) واحد (موضوعية). وهذا ما نجده بجلاء في هذه الديوان قيد القراءة.

  يتألف عنوان المجموعة الشعرية هذه - كما نرى - منْ ثلاثة كلمات: اسمين، وهما الملائكة وبغداد، وفعل مضارع (تهبط)، وحرف جرّ (في). وهي جملة ذات معنىً، ودلالة، وإشارة الى ما تحمله منْ خلفيات تختزن الكثير مما توحيه في ذهن ونفس القارئ:

(الملائكة): يتبادر الى الذهن من أول وهلة سؤال: هل المقصود الملائكة بالمفهوم المقدّس؟

حين نرجع الى الجملة المُستلّة من سياق القصيدة عنواناً لها وللديوان، وبالرجوع الى نصّها، نقولُ: نعم، هم المقصودون بالكلمة.

لكننا حينَ نتوغل في أجوائها، وزواياها، وإيحاءاتها - نقرأ التالي:

"تتيه الملائكة ..!

في أزقة .. ومقاهي .. وأحياء بغداد

تطاردها رصاصاتُ الغدرِ

وقنابلُ الغاز المُسيِّلة للدمِ

الملائكةُ تختنقُ .. تفقدُ وعيها!

تستلقي على الأرضِ

الباعةُ المتجوِّلون .. والشعراء .. والفقراء"

القصيدة تروي عن انتفاضة تشرين 2019 وأحداثها، وما جرى فيها ولها، والتي شارك فيها الشباب والكهول من مختلف طبقات الشعب العراقي: باعة متجولون، مثقفون، شعراء، فنانون، أكاديميون، فقراء الشعب، الذين تظاهروا من أجل حقوقهم الأساسية كمواطنين وبشر، يجمعهم هدف الإصلاح، والعدالة والمساواة، وحقّ العيش الكريم، منْ اجل لقمة العيش، والعمل. وكلهم نقاء وبراءة وصدق وطيبة مثل ملائكة السماء، لذا هبطت الملائكة لتحتضنهم، وتعيش بينهم. وهنا الملائكة الذين تاهوا في الأزقة والمقاهي، وأحياء بغداد، تطاردهم رصاصات الغدر، والقنابل المسيلة للدموع – هم كلّ من ذكرهم الشاعر في المقطع أعلاه داخل القصيدة. إذن فهم الملائكة مجازاً . وبذلك فالملائكة في عتبة العنوان هم المقدسون، وعامة الشعب من أنقيائه وأبريائه، وشهدائه، في هذه الانتفاضة، والذين سقطوا في الحروب العبثية للنظام الفاشي السابق. وحين نمرُّ على عديد قصائد المجموعة، وما جاء فيها من ذكر لشخصيات عايشها الشاعر سعدي عبد الكريم، منهم مَنْ رحل، ومنهم مقيماً في الحياة مازال، وحين يذكرهم مشيداً بخصالهم، وشخصياتهم التي تركتْ أثراً لم ينفكَّ عن نفسه وقلبه، فهو بذلك يضيفهم الى قافلة الملائكة المضيئين، وإلّا لما مرَّ عليهم، ليقدّمهم لنا شهداء وأحياء:

الوالدين وشقيقته رحمهم الله

القابلة المأذونه التي ولّدته

الأصدقاء

الشهداء منْ رفاق السلاح أيام الحرب

الشعراء: مظفر النواب، ابراهيم الخياط، رشدي العامل ... وغيرهم

كلُّ هؤلاء هم ملائكة هبطوا في بغداد، بما قدّموه، وما حملوه في نفوسهم من طُهْر ونقاء، وعمل مثمرٍ وخدمة. وهناك ملائكة ستهبط في بغداد كما هبط أولئك، ومنهم الشباب المنتفضّ في تشرين، فهم سيواصلون الهبوط، مكمّلين مسيرةَ أولئك الذين رحلوا إلى دار الخلود عند ربٍّ رحيم. وهنا الأملُ المُرتجَى من الشباب وثورتهم: ليقول في قصيدة "قرنفلة وثورة" عن انتفاضة تشرين:

يا ابن أمي ..

تعالَ نقتسمْ بيننا عشقَ العراقِ

ونوقدْ في دروبِ الفقراءِ مليون

شمعةْ..

ونحيلُ عتمتها نهاراً .. وأنهاراً

ووردةْ ..

فإنْ ضجّت هتافات الشباب

أينعتْ أغنياتٌ مناضلةٌ

وزهرةْ ..

ومواكبُ تضيءُ ليل العاشقينَ

لتحيل مواسم الأحزانِ

فرحةْ ..

شخصيات عثرَتْ على مؤلف / شاعر

عندما كتب المسرحي والشاعر الإيطالي لويجي بيراندللو (1867-1936) مسرحيته الشهيرة (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) كان يسعى لإثبات إزدواجية المعايير الاجتماعية من خلالها. لكنَّ المسرحي والشاعر العراقي سعدي عبد الكريم حين كتب في قصائده عن شخصياتٍ واقعية عايشها عن قربٍ: الأبوين والأشقاء، الأصدقاء، المعارف، رفاق السلاح في ساحات الحرب، أو شخصيات أخرى عامة، من خلال نشاطها السياسي، أو نشاطها الإبداعي، ومتابعة هذا النشاط، وسيرة شخصياته – كان يسعى من خلال ذلك إلى تثبيت تاريخ العراق الاجتماعي والسياسي والقيَمي في العقود الماضية، مثله مثل كثير من الشعراء. لكنّ الفرق أنّه خصّصّ ديوانه هذا لهذه المهمة؛ ليُثبتَ بهذا أنّ الشعر بحقٍّ هو ديوان العرب، مثلما قال القدماء.

 فهو في مجمل قصائده عرض علينا الكثير من الشخصيات العراقية العامة والخاصة، ليسجّلَ شعراً تاريخَ العراق الحديث سياسياً واجتماعياً. هذا التاريخ الغارق في أحداثٍ جسام، واحتلالات، وغزواتٍ، وكوارث، وصراعاتٍ دموية، وظلمٍ وقهر، واستبداد، وحروب عبثيةٍ أودتْ بحياة الخيرة من شبابه آلافاً مؤلّفةً. إضافة الى اضطهادٍ وملاحقةٍ واعتقال وتعذيب الذين ناضلوا وانتفضوا، وقاوموا من أجل الحرية والعدالة والمساواة، والعيش الكريم، فكانَ السجنُ والتعذيبُ والقتل والاختفاء مصيرَهم. يقول في قصيدة "لم يبلغ بعدُ سنَّ التأمل":

لم أعدْ بحاجةٍ لقطعة أرض في المقبرة

أشيِّدُ عليها قبري

فالوطنُ الذي أضاع شبابي

بالحروب ..

ونزق الساسة .. ومجون الطغاة

لم يُسجّل لي في دائرة العقاري

عقد امتلاك أرض

أو عقد ايجار طويل الأمد

قررتُ بمحض تفردي أن أُدفَن في العراءِ

دون قبر ..!

لكي .. لا أضايق الموتى

والشهداء .. والقتلى الأبرياء

ولا يدوس على قبري الحفاة

فأنا على موعد مع الحواري العِين

وفاكهة منْ كلِّ زوج اثنين

وأنهار من خمرٍ

سألتقي هناك بولدي البكر

الذي تلقفته الحرب الطاحنة

فأردته شهيدا

وهو لم يبلغْ بعدُ سنَّ التأمل

 ويقول في قصيدته الرثائية في المرحوم أبيه (كم أنت جميل يا أبي حتى في موتك):

في محبسه الانفرادي

اصفَّرتْ سبابة أبي والوسطى،

منْ جمر السجائر، واللوعات

احتفلت به جدران السجن

بمناسبة إقامته الطويلة بينها

ماتت أمي كَمَداً في غيابه

  فالقصيدتان أعلاه تختصران تاريخاً عراقياً مُثقَلاً بالاضطهاد والمطاردة والقضبان، والحروب والشهداء. وهو ما يسعى من خلاله شاعرنا سعدي عبد الكريم الى توثيقه شعرياً، وتوثيق ما لاقى العراق وشعبه من ويلات الحكام وطيشهم ونزواتهم، إذ يُطلقُ أيضاً صرخته المدوّيةَ في قصيدته "عملٌ منْ رجسِ الحكومات":

في وطني لا نملك إلا الحزن

ولافتات سوداء مُعلّقة

على جدران البيوت الآيلة للسقوط

وأكوام القمامة!

تتناثر أجسادنا على قارعةِ الطريق

لا شيء في وطني غير الموت

والخيانة!...

أنا عاشق بدائي

آتٍ منْ أزمنة الحنظل

والنخل .. ألتحفُ الفقر دثاراً

من أول سوط نخر ظهري

في حجر التعذيب

وفي زنازين الحكومات المتعاقبة

والأمن السريّ!

هذه الصرخات التي يطلقها الشاعر هي أرخَنَةٌ للوقائع والأحداث والزوابع والعواصف التي مرّت وتمرّ، وهبَّتْ وتهبُّ، على العراق دون انقطاع، وكأنها قدرٌ منَ الأقدارِ. وهي بذلك صرخةُ إدانة إنسانية لمعاناة شعب وقع بين براثن الذئاب البشرية التي يُسمَون حكاماً، ورعاةً مسوولين عن رعيتهم، كما قال الرسول الكريم.

 وقد مرّ الشاعر من خلال رثائياته في الديوان على نفس الوقائع والزوابع والعواصف القاصفات قصفاً، التي تهبُّ على الوطن، منذ أن أصبح وطناً. رثائيات لشخصيات مثل الأبوين والشقيقة، وشهداء التعذيب في السجون، وشهداء الحروب العبثية الكارثية، والشعراء الذين عُرفوا بمواقفهم الوطنية، ونضالاتهم التاريخية، مثل مظفر النواب، وابراهيم الخياط، مروراً برشدي العامل... وغيرهم.

 كما ضمّنَ قصائده الأخرى بعدد كبير من أسماء كبار شعراء العراق، في سياقها ومضمونها، وهو بذلك يشير الى عظمة العراق في ولادته لهكذا اسماء كبيرة عظيمة قدَّمتْ عصارةً مواهبها الإبداعية الشعرية، وتجاربها الحياتية، ومعايشتها لواقع أرضها، وتحمّلها المطاردةَ والاعتقال والسجن والتعذيب، وحتى سحب الجنسية، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصْر: الجواهري، النوّاب، السيّاب، إبراهيم الخياط، يحيى السماوي، گزار حنتوش، الحصيري، يوسف الصائغ ... وغيرهم.

 في قصيدته عن الراحل الكبير مظفر النوّاب (محاكمة النواب) قدّم لنا الشاعرُ سعدي عبد الكريم المناضلَ والشاعرَ النوّابَ على شكل محاكمة، يجيب فيها النواب على أسئلة القاضي، ومن خلالها يذكّرنا بتاريخ مظفر النضالي ومواقفه الإنسانية والفكرية، ومحبة الناس له من طبقاتٍ مسحوقة مُهمَّشة مضطهَدَةٍ:

القاضي/ما اسمك؟

النوّاب/مظفر عبد المجيد النواب

القاضي/ أين تسكن؟

النواب/ في قلب الشعر

القاضي/من معك؟

النواب/ أحرار الشعوب

القاضي/هل أنت مذنب؟

النواب/نعم ..

مذنبٌ بحبِّ العراق

والفقراء ..

والضعفاء ..

والمساكين ..

والنائمين على الرصيف

وهكذا حتى ختام القصيدة. وبهذا المشهد الشعري المسرحي نقرأ أثر تخصّص الأديب الفنان سعدي عبد الكريم المسرحي على خطابه الشعري، وأسلوبه في التعبير الفني، إذ يتسلّل السردُ خفيةً من خلف الستار ليدخلَ في جسد قصائده عفويّاً طبيعياً دون صنعةٍ. وبالنظر الى مجمل قصائد المجموعة نلحظ هذا التسلل الفنيّ، الذي يضفي عليها سمة القصة والحكاية، لكنْ في الوقت ذاته يبقى الشعرُ هو سيدَ الموقف بقامة عالية مطلَّةٍ من ذروتها على وادي القصيدة، مهندساً معمارياً بتخطيط هندسيٍّ شعري دقيق، وبلاغة مصاغةٍ بأنامل ماهرة، يقفُ خلفها تجربة شعرية ومسرحية وتشكيلية غنية طويلة الباع، والثقافة، والتجربة الحياتية الحبلى بالأحداث، والوقائع والتأمل، والمعاناة. وكلُّها كانت صقيلةً، فصقلتْ فنَّ سعدي عبد الكريم، بنحتها في نفسه، وذاكرته المتوقدة التي عرضتْ وتعرضُ علينا ما مرَّ به من أحداث شخصية خاصةٍ، ووقائع تاريخية عامةٍ، وذكرياتٍ حُبلى بالأحداث والشخصيات. كلُّ ذلك بقلمه اللمّاح، وحسّه الشعري، والفنيّ المسرحي والتشكيلي، ولغته الثريّة، وبلاغته العالية.

 وأخيراً، وليس آخراً:

في ديوان (الملائكة تهبط في بغداد) جوانبُ عديدة، وصوراً ولوحاتٍ مرسومة بالكلمات، يمكن الولوج في زواياها، والبحث فيما وراءها، والنظر فيها، وقراءتها نقدياً وبحثياً؛ لاستخراج ما تكتنزه منْ معنىً ومبنىً، مضموناً وشكلاً، لغةً وبلاغةً، وتناصّاً فنيّاً يضفي على الديوان غنىً منْ مثل عنوان قصيدته "عملٌ منْ رجسِ الحكومات"، وهو تناصٌّ مع القرآن الكريم في قوله تعالى:

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة 90 )

وغيرها من التناصّات:

"قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ" (هود 40)

وذلك في قصة النبي نوح. حيث يردُ في قصيدة "أميرُ صعاليك بغداد":

وأنادمُ الحور العِين من كلِّ لون

اثنين ..

اثنين ..

وأقضمُ الفاكهة من كلِّ زوجين

اثنين ..

اثنين ..

  وكذلك هناك في النصّ أعلاه تناصٌّ آخر مع الكتاب الكريم، وهو (الحور العين)، وغيرهما في متن القصيدة.

 يرد التناصّ في الديوان ليسَ مع القرآن الكريم فحسب، وإنّما مع الشعر العربي أيضاً، ولمختلف الشعراء، وهذه إشارة الى الثقافة الموسوعية المتنوعةِ الأجناس، مابين المسرح، والفنِّ التشكيلي، والشعر، والدين، وعموم الثقافة.

***

قراءة: عبد الستار نورعلي

تموز 2023

في نسج "مسودن" النثري، يتأرجح الزمن المشوش بباستمرار، حيث يتشابك بتاريخ العراق المتشظي والواهن. يتميز هذا النص بلغة فريدة وشامخة تنقل عدة معانٍ وتستمد الحوافز، متسلحةً بكلماتها وتراكيبها الحكيمة التي تعكس أجنحة جمالية تجسد الأفكار والمعنى. تسلط هذه النصوص الضوء على أهمية الوطن والانتماء، وتعبِّر عن أمل الراوي في مستقبل مشرق للعراق، حيث يستعيد تألقه وتطوره بعيدًا عن الخداع والفساد.

يستخدم السارد (الراوي- بطل القصة) الصور الشاعرية والمجازية لنقل مشاعره وأفكاره، معززًا تأثير النص على القارئ. تشبه "مسودن" أعمالًا أدبية أخرى كـ "رسائل من باطن الأرض" أو "الإنسان الصرصار" لديستويفسكي، حيث تعتبر إحدى الروايات الجميلة الفلسفية العميقة للكاتب دوستويفسكي.

تعكس قصة "مسودن العراق" حالةً سوداويةً وسخريةً، حيث إن العنوان نفسه يتميز بسخرية مقصودةٍ، وأن من حَكَمَ العراق مجانين. تندفعُ الكلمات وسط التوترات والصراعات الاجتماعية في العراق الحزين. يندب الراوي ابتعاده عن أحبابه وأصدقائه، يتألم بغربته ويتوق لعودته إلى وطنه. تتجلى في نسج "مسودن" النثري تجاذبات الزمن المعقد، حيث يتداخل مع المكان.

كذلك تعبّر اللغة عن مشاعرَ حارة و"متناقضة" أحياناً، وإنفعالاتٍ يثيرها السارد. ينتظر الراوي بقلق وتوتر، متطلعًا لمكالمة هاتفية وهو يشعر بالأسى لبُعده عن أحبابه وأصدقائه، ويعاني من ألم الغربة، يتوق لعودته إلى وطنه مع خوفه على مستقبله. يحلم صاحب الرسالة_القاص-الراوي) بفخر الهوية العراقية وتتصوَّرها جميلة ومتسامحة، وتحمل آمالًا في إعادة بناء العراق كدولة مزدهرة ذات حضارة عظيمة. يندفع البطل (الراوي) بكلماته القوية والعبارات الصعبة أحياناً ليكشف عن التوتر والصراع الاجتماعي في العراق الحزين.

يندب السارد ابتعاده عن أحبابه وأصدقائه، يتألم بغربته ويتوق لعودته إلى وطنه، مترقبًا المستقبل. بالتالي، يستكمل السارد رسالته بتسليط الضوء على الجوانب المتضاربة في الواقع العراقي، من الفقر والاستبداد إلى الثقافة الغنية والتاريخ العريق. يندد بالحالة الراهنة للعراق ويعبر عن رغبته في إحداث تغيير إيجابي يعيد للعراق مكانته العظيمة في العالم. تستعرض السردية الجوانب المعقدة للشخصية الرئيسية، وتسلط الضوء على التحولات النفسية التي تعانيها في محاولتها للبقاء والتكيف في ظروف قاسية.

يتميز نص "مسودن" بخطاب شاعري ويستكشف تفاصيل الشعور، يستخدم كلمات تعكس الحالة النفسية المتشابكة للمرسل (السارد). تبرز هنا أهمية الصداقة كقوة محورية في حياة المرسل، وترسم علاقةً فريدة من الاحترام المتبادل بين الطرفين. يتناول الرسالة العراق بحزنه ويصوِّره كبلد يواجه تحدياته، و يتلألأ فيما بين السطور طموح المرسل، حيث يحلم بترسيخ وطن مزدهر يشع بالحضارة ويستقبل اللاجئين منكل العالم .

وقد ركّزَ الكاتب على أحداث العراق من خلال التلميح. تتجسّد الصور والرموز بقوة، تجعل القارئ ينشغل بتفسير النص من خلال الإطلاع على العراق وتحوُّلات تاريخه،. يسلط نص "مسودن" الضوء على تحديات العراق، ويحمل رؤية المؤلف لها.

يبرز الكاتب زهير شليبه بمهارته الفائقة في رسالته "مسودن"، حيث تتعدد المعاني في تراكيب جميلة، بسلاسة وسهولة، تغمر السرد بإيقاعها الساحر، مجذبة القارئ وموجهة إياه في رحلة شيقة. تتألق براعة الكاتب في صياغة الجمل. حققت اللغةُ توازنًا فنيًا بين الصورة والمعنى، وتميزت بكلمات دقيقة تستدعي الانتباه وتتناغم مع السرد.

هذه الرسالة رائعة، تجسد قدرة زهير شليبه ككاتب، حيث تأسر الأرواح. تتميز رسالة "مسودن" بلغة فريدة وراقية، تتجلى فيها المعاني والكلمات والتراكيب بحكمة وجمال.

تظهر رموز "مسودن" بين بريق الجمال وقوة الروح، حيث تعزز الثقافة وتضفي بُعدًا خاصًا. توجه القارئ هذه الرموز والرمزية في رحلة فهم وتجربة النص، حملته عبر معانٍ عميقة ومفهوم لا يُحصى.

في رسالة "مسودن"، تُنسج اللغة بلمساتٍ متقنة، حيث تُختار الكلمات بعناية لتجسد المشاعر والأفكار بملموسية. يعتمد الكاتب على أسلوبٍ سرديٍ متقنٍ يجذب القارئ ويحافظ على اهتمامه طوال القصة.

يستعين الكاتب بالصور والتشبيهات لتعزيز الوصف وتوضيح الأفكار ويتم بناء النص بشكلٍ محكم ومنظم، حيث ينسج الأحداث والمفاجآت فيتحقق التشويق غير المفتعل لإبقاء القارئ مشدودًا ومتحمسًا لاستكمال مجرى القصة واستيعاب المعاني العميقة. وتظهرالشخصيات بشكلٍ واقعي ومتطور، مما يعزز تجسيد الأفكار والمعاني.

يُسيطر الكاتب على اللغة بمهارةٍ ودقةٍ، حيث يختار الكلمات بعنايةٍ لنقل الأفكار والمشاعر بجمال وتأثير. بإيجاز، تتميز رسالة "مسودن" ببنيتها المحكمة، حيث يركز على التنظيم العام للنص. تطور الحبكة وتدفق الأحداث يثيران الشغف ويشدان انتباه القارئ لمعرفة المزيد.

يتجسد تطور الشخصيات بطريقة واقعية ومتقنة. يتحكم الكاتب في اللغة ببراعة ودقة، مستخدمًا الكلمات بعناية لتعكس المشاعر والأفكار بوضوح وجمالية. يتجانس البناء السردي بتناغم يخلق الإثارة والترقب. في الختام نتأمل الجمال في رسالة "مسودن" ونتذوق سحر الكلمات وروعة السرد. إنها رحلة أدبية ألهمتنا وأثرت فينا بعمق. تمكن الكاتب زهير شليبه من خلق عالمٍ فريدٍ ومتنوعٍ ينبض بالأفكار والمشاعر، وتأخذنا هذه الرسالة في رحلة مليئة بالتأمل والتساؤلات. تتنوع الرموز والتشبيهات والصور لتصوّر الواقع وترسم صورة تراثية غنية للعراق وشعبه.

***

زكية خيرهم

في المثقف اليوم