قراءات نقدية
صباح بشير: رواية "أولاد جلوة" للرّوائيّ قاسم توفيق

جذور ورمال، وحكاية قبيلة عبر الأجيال
يستخدم الأديب قاسم توفيق خيوط سرد محكمة؛ لينسج عالم روايته "أولاد جلوة"، الصّادرة عن "الآن ناشرون وموزّعون"، في مئة وواحدة وثمانين صفحة من القطع المتوسّط.
في رحاب هذا المقال، سنبحر معا في أعماق رواية "أولاد جلوة"، محلّلين خباياها ودلالاتها المتشابكة، نتجوّل بين صفحاتها؛ لنستكشف كيف تتجذّر الحكايات في ثرى التّاريخ، وتتجسّد مآسي الأجيال في سطور نابضة، نتأمّل في تقاطعات الأصوات الّتي تشكّل النسيج الرّوائيّ، وتبرز عمق الفكر وسمو القلم في مقاربة القضايا الإنسانيّة.
يستهلّ السّارد هذا العمل بنبرة حزينة مؤثّرة، في رسالة خطّها رجل يترقّب الموت قتلا، ثأرا من قبيلته المسمّاة بالهذّاعيّين، وذلك لقتلهم فردا من قبيلة "الجوازيّة" الّتي تسعى للانتقام بإجلائهم عن ديارهم وقتل رجالهم.
كان ذلك في الخامس من تمّوز عام ألفين وخمسة، معلنا ذلك الرّجل بوعي حاضر لما يحيط به، وعلى الرّغم من ذلك، لم يعد هاجس الخوف يأسره؛ ليجد نفسه متحرّرا من قيود الهلع وسلطان الفزع، متفكّرا في إنجاز فعل يليق بمقام رجل يودّع الحياة، فكتب في الصّفحة التّاسعة: "َلا سبيل لقتل الوقت لحين أن أقتل سوى الكتابة.. امتطيت مخيّلتي وجبت عوالمي إلى أن وقفت بها عند يومي الأخير".
ينتقل بالحديث إلى صديق افتراضيّ عثر عليه صدفة على "فيسبوك"، مدوّنا في مقدّمة صفحته هذه العبارة (ص7): "الكتابة محاولة لمواجهة العالم، عندما تتهاوى الأرواح في جحيم العبث".
أثارت هذه العبارة اهتمامه فكتب لهذا الصّديق الافتراضيّ(ص7): " لفتني منشور لك عن جدوى الكتابة، استوقفتني كلماتك وأنا المتعجّل، فقرّرت أن أكتب لك هذه الرّسالة، وأرسل معها روايتي الأولى والأخيرة، كتبتها قبل زمن ولم أحظ بناشر لها، لذلك.. تركتها وبقيت أنتظر وأنا آمل أن تصل ولو لقارئ واحد، حتّى يشاركني عزلتي".
ثمّ قرّر أن يكتب رسالة أخرى إلى حبيبته، وهي من قبيلة "الجوازيّة"، مسطّرا كلماته بعمق مشاعره.. فكتب (ص180): "كيف فاتنا أن نتذكّر أنّ العشق في شرقنا جريمة؟ حزين يا حبيبتي حدّ الموت، أكتب لك وأنا أعرف أنّه لا سبيل يوصلني إليك.. حسمت أمري ولم أطأطئ رأسي.. وليكن ما يكون".
التّصنيف النّقديّ:
هي رواية اجتماعيّة ذات خلفيّة تاريخيّة، فجوهرها الأساسيّ يكمن في استكشاف الدّيناميكيّات الاجتماعيّة والعلاقات الإنسانيّة والقضايا المجتمعيّة الّتي كانت سائدة في وقت ما. أمّا الأحداث التّاريخيّة فتلعب دور الخلفيّة أو السّياق الّذي تتفاعل ضمنه الشّخوص وتتطوّر الأحداث، إذ تنطلق بنا في غمار رحلة استطلاعيّة، تستجلي بدايات حقبة زمنيّة، تمتدّ جذورها من القرن الثّامن عشر الميلاديّ، وتتشابك فروعها حتّى مشارف القرن العشرين.
إنّها برهة تاريخيّة سمتها البارزة، إهمال أحاط بأرجاء المنطقة العربيّة وأكنافها، فأفضى ذلك إلى بزوغ الهيمنة القبليّة. وفي ثنايا السّرد، يغوص الكاتب في تحليل سمات تلك الحقبة وتفاعلاتها مع صيرورة الأحداث الاجتماعيّة والسّياسية المحيطة بالمكان الرّوائيّ، وهو الصّحراء الأردنيّة.
وبفضل مزجها الفنّيّ بين الأبعاد الاجتماعيّة والتّاريخيّة، تقدّم الرّواية تحليلا عميقا، فأحداثها التّاريخيّة ليست خلفيّة جامدة، بل هي نسيج حيّ تتكشّف من خلاله ظروف البادية بكلّ تعقيداتها، وهنا.. يتجاوز السّرد تسجيل الوقائع؛ ليغوص في تشريح الصّراعات بين الفرد والمجتمع في سياق زمنيّ ومكانيّ محدّد.
يتيح هذا التّداخل استقراء التّحوّلات المجتمعيّة، ويجسّد رؤية فنّيّة تعلي من شأن التّفاعل بين شخوص العمل وقضاياهم، فهذه الرّواية، هي جذور ورمال وحكاية قبيلة عبر الأجيال، إنّها سيرة للذّاكرة الجمعيّة، تحكي عن أرض تفاعلت معها الأقدام، وعن فكر يعيش في رأس العربيّ مهما صعدَ في مدارج الحداثة، ففي كلّ حرف نُحِتَ في جسد السّرد، تنبض أرواح عاشت ومضت، تعكس وجوهنا المتعدّدة وتظهر تجاعيد الزّمان على صفحات الأيّام.
العنوان.. مأساة اجتماعيّة وتداعيات النّفيّ القسريّ:
يكشف العنوان "أولاد جلوة" عن إشارة بالغة الدّلالة إلى ظاهرة اجتماعيّة قديمة، طالما استوطنت رحاب الدّيار العربيّة، وارتبطت ارتباطا وثيقا بجرائم القتل، حيث تجبر عائلة الجاني على مغادرة موطنها قسرا، اتّقاء من الثّأر المستعر في أفئدة أهل الضّحيّة.
كلمة "أولاد" بصيغة الجمع، تؤكّد أنّ الجلوة ليست حدثا فرديّا، بل تطال مصير أجيال. وإذ يحمل العنوان بعدا تاريخيّا واجتماعيّا، يذكّر بتقاليد قبليّة وتبعات فعل فرديّ يطال عائلات ويمتدّ لزمن، ويثير تساؤلات عن مصير الأبناء وحياتهم في المنفى القسريّ، وتأثير التّجربة على هويّتهم وانتمائهم، وظروفهم وتحدّيات حياتهم الجديدة.
يمكن قراءة العنوان أيضا؛ كرمز لانتماء مفقود وهويّة مهتزّة، يحمل أصحابها وصمة الجلوة، ويجدون صعوبة في الاندماج أو الحفاظ على صلاتهم بالماضي.
من هنا، فالعنوان موفّق وبليغ، يحمل شحنة عاطفيّة قويّة، ويشير بوضوح لقضية الرّواية، ويدعو للتعمّق في حكاية أولاد تلك الجلوة، وتداعياتها على حياتهم ومجتمعاتهم.
يذهب "باختين" إلى أنّ العلاقة بين الزّمان والمكان، تتجلّى بصورة مباشرة في صياغة مفهوم الشّخصيّة الرّوائيّة، الّتي تقوم في جوهرها على بعدين متضافرين، أحدهما مكانيّ والآخر زمانيّ، وبما أنّ هذه العناصر أساسيّة لاكتمال العمل، فقد غدا التّرابط والتّأثير المتبادل بينها ضرورة ملحّة.
مع ذلك، يتباين تجسيد المكان عن تجسيد الزّمن؛ ففي هذا العمل تقوم بينهما علاقة قطبيّة متنافرة، لما يعتريهما من تناقض؛ فالمكان ينشد الثّبات في الحاضر ويأبى التّغيير، بينما ينفر الزّمن من الجمود ويسعى الى التّجدّد.
يرسم لنا الكاتب صورة لذلك المكان، فيكتب عن مدينة "تعريس"، (ص21): "وكأنّها تكره أن تتبدّل، وتخاف من التّغيير".
يظهر هذا التّناقض في رسوخ النّزعة القبليّة في أعماق النّفس العربيّة، على الرّغم من تقادم العصر والزّمن ومرورهما، بل وحتّى بعد أن يكتسي المرء بحلّة المدنيّة، فالنّزعة القبليّة بجذورها الضّاربة في أعماق تكوينه، تستمرّ متأصّلة راسخة عصيّة على المحو، وإن تزيّن الظّاهر وتهذّب السّلوك، وكأنّها طيف يسكن اللّاوعيّ الجمعيّ، أو بصمة وراثيّة تتوارثها الأجيال.
سيرة قبيلة عربيّة:
تتشابك خيوط الأحداث منذ البواكير الأولى لنشأة مدينة "تعريس"، الّتي أرسى دعائمها زعيم قبليّ بدويّ، عرف ببطشه في الغزوات، وهو "محسد الأوّل"، وذلك في منتصف القرن التّاسع عشر.
كانت تلك الحقبة شاهدة على تحوّلات جذريّة اجتاحت المدينة، لاسيما مع وصول المستعمر الأوروبيّ عقب أفول الحكم العثمانيّ، مما جعل "تعريس" أول مدينة تقصف جوّا في مستهلّ العقد الثّاني من القرن العشرين.
يتتبّع السّرد تاريخ هذه البقعة، مشيرا إلى أنّها كانت المستقرّ الأوّل للشّيخ "محسد" الّذي تولّى قيادة القبيلة، وقضى هو وعشيرته حياة ترحال وتنقّل وبداوة، إلى أن قرّر الاستيطان في تلك البقعة الهادئة، واستمرّوا على هذا الحال حتّى وافاه الأجل، وظلّت عشيرته من بعده تكابد وحشة البداوة وشظف العيش.
لكن.. ما خفي على العيان أن "مليكة، أم هذّاع" آخر نساء الشّيخ محسد، هي من أوحت إليه بفكرة الاستقرار.
لقد كانت معشوقته ومن أكثر نسائه فتنة ودلالا، يستشيرها في جلّ الأمور فتستغلّه وتحكم سيطرتها عليه وعلى قبيلته، حتّى أنّ ولدها "هذّاع" لم يفرض عليه والده، ما كان يفرضه على إخوته الذّكور من تعلّم الرّماية وصهوة الخيل وضراوة القتال، مع ذلك.. فقد نشأ فارسا مغوارا.
هكذا.. وفي كنف العشيرة مارست مليكة؛ بحكم مكانتها الخاصّة من الشّيخ نفوذا خفيّا على قراراته. ظهر ذلك التّأثير السّلبيّ في اتّخاذ قرارات مجحفة بحقّ أفراد آخرين؛ كأولاده، أو على حساب وحدة العشيرة.
يقول الرّاوي (ص33): "الحقيقة الّتي لم يعرفها أحد، أن مليكة آخر زوجات الشّيخ، هي من صنعت تاريخ القبيلة".
المرأة والفكر الذّكوريّ:
تجسّد شخصيّة "مليكة" نموذجا لافتا للمرأة الّتي تستبطن منظومة ذكوريّة متصلّبة، وتعيد إنتاجها بوعي أو بدونه، موظّفة إيّاها لتعزيز نفوذها الذّاتيّ، وتحقيق مآرب شخصيّة على حساب تماسك مجتمعها وسلامته.
هذه الظّاهرة، وإن تجلّت في سياق البيئة البدويّة الّتي تدور فيها الأحداث، إلا أنّها تتجاوز حدود البادية؛ لتطلّ برأسها في مختلف أرجاء المجتمعات العربيّة، وإن تفاوتت حدّتها وتجليّاتها، ففي كلّ مكان قد نصادف من يستخدمنّ ذات الأدوات والأساليب الّتي تكرّس الهيمنة الذّكوريّة التّقليديّة لخدمة مصالحهنّ الخاصّة، ملحقات بذلك ضررا بالتّوازن الاجتماعيّ وتطوّر الوعيّ الجمعيّ.
يفضي هذا السّلوك إلى تأكلٍ خفيّ للنّسيج الاجتماعيّ، فبدلا من أن تكون المرأة قوّة دافعة للتّغيير والارتقاء، تتحوّل إلى عقبة في طريق التحرّر الفكريّ والمجتمعيّ.
هذا التّكريس للأنظمة البالية، حتّى لو كان بدافع شخصيّ، يعزّز من دورة القمع، مما يبقي المجتمعات أسيرة لأنماط سلوكيّة تقليديّة، تعيق تقدّمها وتُضعِف من قدرتها على مواجهة تحدّيات العصر.
بشكل عامّ، هي خسارة مزدوجة؛ للمرأة الّتي تفقد بوصلة دورها الحقيقيّ، وللمجتمع الّذي يُحرَم من إسهامات نسائه الخلّاقة في بناء مستقبل أكثر إنصافا وتقدّما.
صراع القبيلة والزّمن، سيرة تتجاوز الأفراد:
يتناول النّصّ مسار تحوّل النّفوذ من سلف إلى خلف، والوهن والتّشتت اللّذين يعتريان بنيان الحكم في القبيلة، ثمّ الانحدار المتدرّج الّذي يلمّ بها مع داء الثّأر، ويستعرض لوحات مفزعة لتلك الجلّوات المدويّة، وما يقترن بها من تهجير وتدمير مروّع للمنازل وحرق للدّيار بلا هوادة لأهل القاتل، وإزهاق للأرواح الزّكيّة الّتي لم ترتكب إثما، سوى انتمائها لرابطة الدّم والقرابة.
كما يتتبّع العمل سيرة رجل تقلّب بين شخصيّتين متعاقبتيّن، "محسدا" و "وقّاصا"، عبر حقبتين زمنيّتين، مشيرا بذلك إلى عمق الجذر القبليّ في صميم العربيّ، رسوخا يستعصي على تقادم العصور وارتقاء الحضارة؛ ليؤكّد على دوام ذلك المخزون الفكريّ؛ كطبع يوجّه الإدراك والفعل، ملامسا صراع الفرد مع سلطان الماضي.
إنّ شخصيّات "محسد الأوّل والثّاني"، "وقّاص"، "هذّاع"، "هجين" "مليكة"، و "رئبال".. وغيرهم، تتجسّد في سيرورة تاريخيّة متكرّرة الحلقات، حيث تبقى سلطة القبيلة بأشكالها المتنوّعة حاضرة، وإن تبدّلت الأسماء والوجوه، وهذا ما يكسو العمل بعدا رمزيّا يسمو فوق الحكاية الفرديّة؛ ليطاوع قضايا أشمل، تتعلّق بطبيعة مجتمعاتنا وموروثاتها الثّقافيّة والاجتماعيّة والفكريّة.
في الحقيقة، عندما يتصدّى الرّوائيّ لسيرة جمعيّة كحال "أولاد جلوة"، فإنّه يُقدِم على مغامرة سرديّة شائكة، تمثّل تحدّيا، فقد يقع العمل في فخ التّعميم، مضحيّا بخصوصيّة التّجربة الفرديّة الّتي تشكّل نسيج السّيرة الجمعيّة، لكن قاسم توفيق، أغلق كلّ منفذ كان يمكن أن يردي إلى ذلك، فقد حاك خيوط حكايات الأفراد بمهارة ضمن النّسيج العريض للقصّة الجمعيّة، محافظا على خصوصيّة كلّ روح، دون إمعان في التّفاصيل الزّائدة على حساب الخطّ السّرديّ الجامع.
يكتب (ص8): "ما سوف تقرؤه هو مسار حياة قصيرة وتاريخها على طولها، ليست سيرتي وحسب، إنّها سيرتك أيضا.. ألست عربيّا مثلي؟"
تقاطع الأصوات وتجاوز الزّمن:
يمزج هذا النّص السّرديّ بين صوتين، هما الرّاوي المطلق والشّاهد المتورّط في الأحداث، وهذا ما يضفي على المتن الرّوائيّ بعدا بنائيّا خاصّا، اذ يمتلك الرّاوي الأوّل وهو السّارد العليم، معرفة بالمجريات وبواطنها الخفيّة، ليطلعنا على ما غاب عنّا وما لم تدركه حواسّنا، مقدّما لنا رؤية للمجريات ودوافع الشّخصيات، بينما يمنح حضور الرّاوي الشّاهد للأحداث مسحة شخصيّة، لتقتصر نظرته على أفقه الذّاتيّ وتصوّراته، ليضفي بذلك على العمل نسيجا متكامل الأركان، وقد أسند النّص شهادة النّهاية إلى شخصيّة تنتمي الى العصر الرّاهن، الأمر الّذي يعدّ ابداعا يكسر التّتابع الزّمنيّ للأحداث، ويعيد تشكيل تصوّر المتلقّي للنّهاية، ويؤكّد على استمرار تأثير الماضي وامتداد جذوره في الواقع المعيش. وللدّلالات عمق، فإقحام هذه الشّخصيّة المعاصرة، هو إيماءة لفكرة رسوخ أثر الماضي في الحاضر مهما بلغ رقيَّه.
تظهير الرّواية، أغوار الذّات:
إنّ الماضي بتراثه الفكريّ، يظلّ حاضرا بقوّة في تكوين الوعي والسّلوك. من هذا المنطلق، خطّ الكاتب هذه الكلمات في الصّفحة السّادسة وعلى غلاف روايته الخلفيّ؛ ليشير بإيجاز إلى الفكرة المحوريّة الّتي تنساب في عروق السّرد، فكتب:
"وجودنا يا سيّدي شيء يشبه رمال الصّحراء، نراه عظيما عندما تسفّه الرّيح وتبعثره، نحسب أنّه يمضي إلى عوالم بعيدة، لا نقدر بما ملكنا من إبصار على إدراكه، لكنّه في الحقيقة لا يبرح موضعه. نحن البشر كحبّات الرّمل، متشابهون حدّ التّوحد، ذرّات متناهية الصّغر، تسفّنا الرّياح وتذرونا، فنوهم أنفسنا أنّنا نتحرّك، لكنّنا في الحقيقة ثابتون في مطارحنا".
يطالعنا هذا المقتطف برؤية وجوديّة، تتّسم بالأسى والتّأمّل في طبيعة الوجود الانسانيّ ومصيره، فيه تشبيه محكم يقرن وجودنا الهشّ برمال الصّحراء، تلك الكتلة الشّاسعة الّتي تبدو في عين النّاظر عظيمة، لكنّها سرعان ما تتلاشى وتتذرّى أمام عبث الرّيح العاتية.
هذا التّصوير يضع الإنسان في موضع الكائن الضّعيف، الّذي تكتنفه قوىً أكبر منه، تحرّكه وتبعثره دون حول منه ولا قوّة.
يعمّق هذا النّصّ الشعور بالعجز من خلال الإشارة إلى وهم الحركة الّذي نختبره في حياتنا، فنحن نتخيّل أنّنا نسير نحو عوالم بعيدة ومختلفة، لكنّ هذا التّصور، يصطدم بحقيقة ثابتة مفادها أنّنا لا نغادر مواضعنا الّتي قُدّرت لنا.
هذا القصور في الإدراك البشريّ، وعدم القدرة على استيعاب حقيقة الثّبات، يشير إلى محدوديّة وعينا.
يرسّخ النّصّ هذا المعنى عبر تشبيه ثانٍ أكثر مباشرة، فيقارننا بحبّات الرّمل المتناهية الصّغر، المتشابهة حدّ التّطابق.
هذا التّصوير الجماعيّ يلغي الفرديّة، ويذيب الذّوات في كتلة واحدة عرضة لعبث الرّياح، الّتي تسفّنا وتذرونا، وهي قوى الحياة والقدر، الّتي تحرّكنا وفق مشيئتها، بينما نوهم أنفسنا بحريّة الاختيار والتّحرّك المستقلّ.
يحمل هذا المقطع نبرة فلسفيّة وجوديّة قاتمة، تستبطن شعورا عميقا بالعبثيّة والضآلة أمام جبروت القوى الكونيّة او الاجتماعيّة أو التّاريخيّة.
العديد من الأدباء نهجوا في أعمالهم نهجا فلسفيّا وجوديا، مضمرين شعورا عميقا بالعبث والضآلة أمام قسوة الكون، من أبرز هؤلاء مثلا: "جون بول سارتر"، "ألبير كامو"، و"كافكا"، وغيرهم ممّن أثروا الأدب الوجوديّ والعبثيّ بنظرتهم حول وضع الإنسان في هذا العالم.
عيون على الصّحراء والبادية:
لقد أولى ثلّة من الباحثين اهتماما بالصّحراء مسجّلين بذلك إرثا معرفيّا يعين على فهم هذه الثّقافة مثل: "إمريس بيترز" الّذي درس أصول الإنسان وأغنى المكتبة برؤى معمّقة حول المجتمعات البدويّة.
برز أيضا رحّالة ومستشرقون تجشّموا صعاب التّرحال، تاركين لنا مدوّنات قيّمة عن نمط حياة البدو وعاداتهم وتقاليدهم من أمثال: "تشارلز دوتي" الّذي وثّق تجربته المعيشيّة في شمال الجزيرة العربيّة، وكذلك "فرَيا ستارك" الّتي استكشفت مناطق بدويّة متنوّعة في الشّرق الأوسط، وقدّمت وصفا حيّا لثقافتهم.
إنّ التّعمّق في هذه الكتابات يمكّن القارئ من استيعاب العادات والقيم البدويّة، واستكشاف الصّور النّمطيّة الّتي قد تكون سائدة حولهم. وبذلك، تصبح هذه الأعمال نافذة تطلّ على عالم الرّواية بعين أكثر فهما وعمقا.
التّاريخ ليس حقيقة مطلقة:
يشير السّرد إلى تحويل نسب الفضل في ازدهار المدينة وتطوّرها إلى هذّاع الابن بدلا من محسد الأب، حيث شهدت فترة حكم هذّاع إدخال التّعليم والهيكلة الإدارية، غير أنّ السّيَر الشّفويّة والمكتوبة، الّتي تمثّل الحقيقة لتأسيس تاريخ القبيلة، لا تشير الى الدّور المحوريّ للمرأة في تأسيس القبيلة، والمدينة الّتي عرفت الازدهار ثمّ الانهيار. وعلى الرّغم من أنّ السِّيَر تعدّ المصدر الأساسيّ للوصول إلى الأحداث التّاريخيّة، إلّا أنّها تتجاهل الإشارة إلى بصمات "مليكة" في البناء، حتّى لو فاقت بدهائها وإسهاماتها من حولها.
هذا الإغفال لا يقتصر على شخصيّة واحدة، بل هو تجسيد لنمط تاريخيّ أوسع، حيث غالبا ما يتمّ تهميش أدوار النّساء الفاعلة في السّرديّات الرّسميّة، ليُطمَس بذلك جزء أساسيّ من الحقيقة التّاريخيّة، ويفقد القارئ فهما شاملا لتعقيدات الماضي وتأثيراته.
من هنا، يعرب الكاتب عن رؤيته للتّاريخ (ص155) قائلا: "التّاريخ المتداول يفتقر للمصداقيّة في كلّ جوانبه، يحتاج للمزيد من البحث والدّراسة، وفوق ذلك للجرّأة في معاينته".
يشرح ذلك حقيقة راسخة لا مراء فيها، وهي أنّ صفحات التّاريخ الّتي تصلنا عبر غبار السّنين، ليست دائما مرآة صافية تعكس الماضي بصدق وأمانة، وغالبا ما تكتب بأقلام الأقوياء أو المنتصرين، الّذين يسعون لتخليد أمجادهم وتبرير أفعالهم، مشوّهين الحقائق أو متجاهلين أصوات الضّعفاء والمنهزمين، وقد تصلنا مبتورة، تحمل فقط ما ارتآه الكاتب أو السّلطة الحاكمة، بينما تطمس جوانب أخرى ضروريّة لفهم الصّورة الكاملة.
كما أنّ التّفسيرات اللّاحقة للأحداث التّاريخيّة، تخضع لأيديولوجيّات فكريّة وأجندات سياسيّة ومصالح مختلفة، ممّا يزيد من احتماليّة وصول التّاريخ إلينا ناقصا أو مشوّها أو خاطئا، ليصبح الماضي حقلا للصّراع والتّأويل المستمرّ.
خلاصة الرّواية:
وبعد.. فخلاصة الرّواية بأسرها هو ذلك الأنين المتصاعد من ثنايا السّطور، الّذي يعرّي جذور البلاء المتأصّل في نسيج المجتمع، حيث تتوارث الأجيال أثقال الماضي وأوهامه العتيقة، فتستمرّ في سيرها مثقلة بتركة من تقاليد وأعراف قد عفا عليها الزّمن، وتظلّ أصداء صراعات الأمس ترنّ في حاضرها، معيقة انطلاقها نحو مستقبل اكثر تحرّرا وإشراقا، وكأنّها سلسلة خفيّة تكبّل الخطى، وتعيد إنتاج ذات الأخطاء والعبر غير المستفاد منها؛ ليبقى الوعي مرتهنا بظلّ ماضٍ يأبى أن يزول، وفي لحظة تجلّ مرّة، يكشف السّارد عن عقم التّغيير ورسوخ الجمود بقوله (ص6):
"لا شيء في حياتنا قد تغيّر منذ تلك الأيّام، إذ لا يزال يحكمنا هذا الجدّ حتّى اليوم". وأختم هنا القول بما أجمله الشّاعر نزار قبّاني، موجزا في شعر بليغ:
خلاصة القضيّة
توجز في عبارة
لقد لبسنا قشرة الحضارة
والرّوح جاهليّة.
***
صباح بشير – أديبة وناقدة