قراءات نقدية
حسن لمين: بين الحلم والانتماء.. قراءة تأويلية في قصة "خيوط غيمة" لميسون حنا

تمهيد: تتناول هذه الورقة قصة "خيوط غيمة" للكاتبة الأردنية ميسون حنا، بالتحليل النقدي المرتكز على تفكيك بنيتها الرمزية واستجلاء أبعادها الوجودية. وتُسلّط القراءة الضوء على ثنائية الحلم والانتماء، مبرزة كيف توظف الكاتبة عناصر الطبيعة والرمز لتأطير تجربة الطائر/الذات في رحلة الصعود والسقوط والعودة.
الطائر بوصفه استعارة للذات الحالمة
يظهر الطائر منذ البداية بوصفه كائنًا يتجاوز الواقع المادي ويحدّق في المطلق، كما في قول الساردة:
"نظر إلى الأعلى، رأى الغيوم تنشر خيوطها البيضاء على صفحة السماء."
تتولد هنا نزعة تأملية، يعززها الفعل الحواري الداخلي:
"فكر مع نفسه، وقال: ربما أصعد بدوري وأمتطي أحد تلك الخيوط الغيمية..."
هذا المشهد التأسيسي يحيل إلى الرغبة في التمرد على الجاذبية الأرضية، والسعي إلى عوالم متخيلة تتجاوز الواقع. وهو ما يمثل رمزًا للذات الحالمة التي تطلب الانفلات من المألوف نحو المطلق.
الحلم الهش واليقظة القاسية
تتبدد أوهام الحلم حين يرتطم الطائر بـ"صخرة بيضاء"، ويُصدم بتحلل خيط الغيم:
"توقف الخيط السائر ليرتطم بصخرة بيضاء. اهتز الطير وترنح وأوشك على السقوط..."
يُحيل هذا المشهد إلى يقظة مؤلمة، تُجبر الذات على مغادرة الحلم المجاني، والعودة إلى التعلق بالممكن الواقعي، ولو كان محفوفًا بالتعب والتيه:
"اضطر الطائر للاعتماد على نفسه ليحلق بدوره بين الغيوم المتفككة، وقال في سره، لن يطول الأمر..."
تُجسد هذه اللحظة انفصالًا رمزيًا بين الحلم بوصفه هروبًا، والواقع بوصفه تجربة وعيٍ بالألم والتحدي.
العش المثالي: فردوس ناقص بلا اعتراف
يبلغ الطائر ضالته الجمالية حين يهبط على "هضبة بيضاء" وينسج عشه من "قطن مندوف". وترد العبارة التالية كإعلانٍ عن الفرح المتوهج:
"جلس مبتهجًا بعشه الجميل الذي لا يوجد له مثيل على الأرض."
لكن الانبهار لا يلبث أن ينقلب إلى شعور بالعدم، إذ لا طيور ولا حياة من حوله:
"ولكن أين الطيور لترى العش بأم عينيها؟ ومن نظرات افتتانها سيكتمل جمال العش."
إن الاعتراف الخارجي هو ما يضفي المعنى على الجمال، وهو ما يغيب في هذا الفضاء العلوي المعزول، فتظهر الحاجة العميقة إلى الجماعة. عندها يتخذ الطائر قرارًا مفاجئًا:
"نظر إلى العش بانبهار، خبى بريق عينيه فجأة ثم انقض عليه ومزقه وترك نفسه ينزلق."
العودة إلى الجماعة: الحنين والانتماء
تتحول العودة إلى الأرض من فعل هروب إلى فعل وعي وانتماء:
"حينها ستتألب الطيور حوله لتستطلع سبب غيابه... وسيقول للطيور إن الاشتياق أعاده إليهم."
هنا ينتصر الانتماء على التميز، ويستعيد الطائر مكانه وسط السرب. لكنه لا يتخلى تمامًا عن الحلم، بل يؤنسنه ويجعله قابلًا للتأمل لا للامتلاك:
"نظر إلى النجمة المتألقة التي حلم باصطيادها، نظر إليها وابتسم ورمى بنفسه وسط سرب الطيور."
إن النجمة/الحلم لم تُصطد، لكنها بقيت حية في النظرة والذكرى، في حين أصبح الطائر أكثر اكتمالًا بالحنين والجماعة.
الأسلوب واللغة: كتابة شعرية بحمولة رمزية
تنهض القصة على لغة تصويرية شاعرية تنحت صورًا نابضة بالحياة، وتُفعّل المجاز دون ابتذال. فاختيار الكلمات مثل "خيوط غيمة"، "قطن مندوف"، "هضبة بيضاء"، "صخرة بيضاء"، يمنح النص تواترًا لونيًا رمزيًا (البياض) يرمز للنقاء والبراءة وربما الفقد.
كما أن الاعتماد على السرد بضمير الغائب يخلق مسافة تأملية، تتيح للقارئ التماهي مع الطائر دون أن يُختزل في شخصية واقعية.
ختاما
تقدّم ميسون حنا في "خيوط غيمة" تجربة سردية شفيفة وعميقة، تُزاوج بين الرؤية الحلمية والانكسار الواقعي، لتقترح من خلالها أن المعنى لا يُولد من الانفصال عن الجماعة، بل من الانخراط الوجداني فيها. وتنجح القصة، من خلال بنائها الرمزي، في إعادة صياغة أسئلة الإنسان المعاصر حول التميز، والجمال، والانتماء، والحلم، في لغة أنيقة ومتقشفة تنتمي إلى تقاليد القص الشعري المكثف.
***
حسن لمين - كاتب مغربي
............................
* قصة "خيوط غيمة" لميسون حنا منشورة على منصة مجلة "ديوان العرب. يوم 08 يونيو 2025