قراءات نقدية

جمعة عبد الله: منصات الحرب الكاريثية في رواية "انتظرني.. ريثما أجدني"

للكاتبة ولام العطار

الحروب تخلق عالم من الأهوال والكوراث، وتدمر الانسان والحياة، وأول ضحاياها هو الحب، تجعله يعيش أزمة نفسية وسيكولوجية خانقة، وتقود مصيره الى المجهول، تجعل الحياة على محرقة الانتظار الصعب، يتجرع الشعور مرارة الآهات بالسؤال الصعب: متى تنتهي هذه الحرب اللعينة التي جعلت الحياة موحشة وجافة؟، والحروب يعني هلاك الانس والحجر والشجر، جفاف كل ماهو جميل في الحياة، أي تدمير للوجود الانساني، وتطلق عنان الوحشية والعبث في المقام الأول. ومنذ القدم الحضارات القديمة، اهتمت بهذه الناحية وسلطت الضوء عليها، الحضارة السومرية من خلال ملحمة كلكامش ورحلته الطويلة بحثاً عن عشبة الخلود، او عشبة الحب، وحكايات عشتار وخطف الموت حبيبها تموز ونزولها الى العالم السفلي بحثاً عن حبيبها تموز، والحضارة الاغريقية من خلال ملحمة الالياذة في حرب طروادة التي دامت عشر سنوات وانتهت بخدعة الحصان الخشبي، لكنها دمرت الحياة والبشر، ودمرت حب هيلين وباريس، وملحمة أوديسا و عودة اوديسيوس الى حبيبته،هذه العودة استغرقت عشر اعوام اخرى من اهوال والصعاب والانتظار الصعب في لقاء الحبيبة، لذا فأن الادب الحربي يحتل مكانا هاماً في الحياة والأدب الواقعي، لانه يرسم مرآة الحياة في التكلفة الباهظة في التبعيات الحرب المدمرة على الانسان والحياة والحب. وهذه الرواية (انتظرني.. ريثما أجدني) يأخذنا المتن الروائي بسرد الاحداث بلغة شيقة وشفافة، في رؤيتها الفكرية والفلسفية، يكشف عن أفكارها الواقعية، التي تدعو الى التأمل والتفكير، وتسلط الضوء على التكلفة الباهظة للحرب على الحياة والحب على الوجود بصورة عامة، من خلال فتاة عاشقة (سكينة) غارقة في رومانسية الحب الجميل الزاهي بالاحلام والامنيات، طرزت خيوطه الحريرية بين قلبين (سكينة ونوفل الناجي) استغرق عشرة أعوام من الانتظار، ولكن الحرب خطفت الحبيب وكان من ضحايا محرقة الموت ولم يعد، وتركها تعيش في جلباب تلك الاحلام والاماني ولم تستطع التخلي عنها، رغم الحزن والجزع والدموع، لان حبيبها المغدور، رسم لها هالة الحب بهالة جميلة مثل شجرة الأزهار الزاهية، تستنشق عطرها كل يوم، وكل لحظة من حياتها، فكيف تنسى هذا العالم عالم الأحلام الجميلة، وتنتقل إلى عالم الموت (- علمتني كيف اغازل الحب... اكتشفت وأنا أرافق الموت إني احوج ما اكون الى لحظة صفاء، آجعل روحي تعايش حبها، وإلا جفت وماتت)، انها لم تقتنع بموت حبيبها، بأنها خسرت حياتها وحبها، وذهبت احلام الحب مع الريح، لم تقتنع بالفاجعة النفسية التي اصابتها، والتي لا يمكن تضميدها من الجروح النازفة. وكانت تأمل ان تنتهي الحرب لتبدأ مع عشيقها حياة جديدة مكللة باكاليل الحب، فكانت تنتظر بفارغ الصبر نهاية لمحرقة الموت وتقول حبيبها (نوفل الناجي):

- الى متى نظل ننتظر؟

قال وهو يأخذ بيديها التي أحسستها خشنة، دافئة:

- لا ادري يا سكينة... لا أدري متى تنتهي هذه الحرب.

وتلتف بعباءة الصبر الصعب في الانتظار، الذي يغلي بهواجسه في داخل اعماقها، رغم تحذيرات أمها في إشفاقاها الحزين على ابنتها المكلومة :

- خائفة من أن لا يوصلكِ هذا الدرب الى شيء

- لا يا أمي... نحن لا ننتظر سوى نهاية الحرب.

- يا له من انتظار عقيم... لا اظن انها تنتهي قبل نهاية أعمارنا.

وجدت هذه الفتاة العاشقة (سكينة) نفسها في موقف صعب، وقلبها وعقلها يعيشان مع حبيبها المغدور (نوفل)، ولا تصدق نفسها انها خسرت حبيبها وحبها، لا تصدق عشرة أعوام من عمر الحب، ذهبت هدراً أدراج الرياح، وترك رياح الوعة وفاجعة، كل كيانها يرفض شطب مرحلة الحب واحلامه، انها في حالة يرثى لها من الحزن والحسرة والارتباك وتتساءل هل (صارت اعمارنا معجونة بالسواد، وافراحنا مجرد حزن أبدي) كيف الخلاص من هذا المأزق الصعب، كيف تقتنع بالوداع الفراق ؟، بأنها خسرت حبيبها الذي لا يعود، هذا يجعلها في حيرة واضطراب وحالة من الاختناق من هذه الفاجعة السوداء، جعلتها تدمن النظر الى الطرقات، وتتفترس بالوجوه وخاصة الوجوه ذوي الملابس الكاكية في الم وجزع وتقول في قهر (- عودوا ارجوكم كيلا يحس احدهم بعدكم بالحزن) لعل الزمن ينفذ ولا ينقذها من فاجعتها، بل يزيد ويعمق الشرخ، وهي غير قادرة ان تنزع جلباب الاحزان، ويقف الأب بقوة في انتشالها من الواقع الاليم والحزين، ان ينقذ ابنته من بئر الاحزان، ويشد عزيمتها ويقوي عزمها وإرادتها، ويحاول ان يقنعها بما حصل وما جرى من فاجعة حزينة، وهو يدرك عمق المحنة (وكم من الرجال ذهبوا دونما عودة.. تركوا خلفهم احلاما ومحطات من الآمال...امهات وزوجات وحبيبات لست وحدك من سلبتها الحرب احلامها منكِ، مئات يملأ صراخهن الازقة والطرقات.. إن أردت معرفة حقيقة ما فعلته الحرب فاذهبي الى ايما مقبرة لتعرفي اننا كائنات صنعتنا الاحزان..) لكنها تتكور على نفسها على ذكريات الحب واحلامها، وليس لها القدرة على التكيف مع الواقع الجديد المؤلم، وليس لها القدرة على اتخاذ القرار، والبحث عن منفذ للخلاص، وتقول بجزع وانكسار بمحنة عويصة في التخبط النفسي (كيف اشعر ان عذابي يكبر في اعماقي، ولم يبق للسنوات التي أضعتها بين ازقة الانتظار معي مادمت أعرف منذ اللحظة التي اوصلتني الحرب بها الى ضياعه، أنني لا بد ان اصل الى غير نتيجة الضياع... لا بد لسكينة الثانية ان تبحث عن احلام لتزرعها وتثمر فرحاً بمحو احزانها... لكنني اصطدم بما لا اعرف من المخاوف) لذلك تتخذ قرار بدافع وتشجيع من ابيها وامها، ان تجرب رحلة طواف الغربة في عدة بلدان بشكل شرعي او لا شرعي منها (الاردن وفرنسا) عسى ان تتخلص من مأزق أزمتها النفسية بهذا الطواف الكبير بين البلدان حتى تجد محطة الاستقرار، عسى ان تخلق منها (سكينة) آخرى وتشعر بالارتياح النفسي، وتنقلها الى عالم اخر، يجبرها ان ينزع منها جلباب الاحزان والدموع والحسرة، ولكن هذا الطواف لا يفلح في انقاذها، بل عمق أزمتها في الاغتراب الروحي اكثر بالخيبة والضياع، أو ان الغربة عجزت في تضميد جراحها، ويدرك الأب ذلك، بانها تركض خلف السراب ولا ينتهي بشيء جدي، ويقول لها بحنو الاب العطوف (- ان اردت عدنا من حيث جئنا ؟) ولا مجال للانتظار، كما فشلت عشتار بعودة تموز من العالم السفلي اليها، تيقنت ان لا مخرج من محنتها وانما جعلها الطواف في بلدان الغربة، هو الركض وراء السراب (لن توصلها ايامها الى غير دروب حائره ومتاهات أكثر حيرة، عالم مجنون، صاخب بالموت..... لكنها لم تشعر بالانتماء اليه، عالم حاول تدمير نوثتها فجاءت لتدافع عن بقايا المرأة التي تكمن في أعماقها) لتوسي قدرها المكتوب عليها.

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد

 

في المثقف اليوم