قراءات نقدية

قراءات نقدية

هلوسات من زمن الكوفيد للكاتبة خديجة أميتي

زيارة عابرة، هلوسات من زمن الكوفيد، مجموعة من النصوص أو أضمومة، تتوزع على (...) نص يجمع بين الرصد والتخييل، تحاول من خلالها الكاتبة رصد واقع حال الأزمة الصحية الكارتية التي أصابت العالم و شلت حركته.

أول ما أثارني وأنا أطالع نصوص هذه المجموعة من النصوص عن الكوفيد وتجلياته، أننا إزاء كاتبة تميل في كتابتها إلى السرد على شكل الحكاية، نصوصها تتسلسل فيها الأحداث مُشوّقة بأسلوب بلاغي والفاظ معبرة ذات شحنة عاطفية و في نفس الوقت حاملة لرسالة.

كل نصّ من زيارة عابرة يسرد لنا حكاية من زمن الكورونا بطريقة مختزلة ومكثفة.

تبدأ الحكاية عن المنبع الأول لهذا الوباء في "الصين" وتسرد الكاتبة بشكل دقيق أثر الحجر المشوب بالانتظار والاحساس بالخوف، تجربة قاسية سببت شللا عارما لكل أشكال الحياة. أسلوب يتخلله التشويق، نستمتع من خلاله بالاسترسال في قلب صفحات الكتاب بشغف لجمال الأسلوب ورُقيه.

في أول نص، تضعنا الكاتبة في الإطار العام لحالة الوباء الذي شل العالم، راسمة لوحة تجسد من خلالها ما آل إليه الوضع، واصفة بدقة وحرفية عالية واقع الكوفيد وآثاره النفسية والاجتماعية حين انقطعت الصلة الفيزيقية بين الناس وعوضتها وسائل التواصل الاجتماعي، تقول " مشهد فرضه الكوفيد وجعل الفضاء الأزرق نقطة ضوء نُطلّ منها على العالم الذي تجمّد فجأة وبدون سابق انذار، حيث أصبح التماس محظورا والعزلة قانونا. لحظتَها استسلمت الى الوحدة داخل صمت العالم"، وتسترسل في اسلوب شيق عن معاناة الإنسان في زمن الكوفيد، عن الرعب الذي ينذر بمستقبل مجهول، لتنهي النص بالأمل المفتوح على "غد يندثر فيه الوباء".

بعده تبدأ المشاهد في التواتر وملامح اللوحات النصية تؤثث فضاء الأضمومة.

في المشهد الثاني، وتحت عنوان "حزن إيطالي"، تأخذك الكاتبة في خشوع و في مشهد سريالي، لتجوب بك في دروب المدينة المائية، فنيسيا، المدينة الأكثر جاذبية للعشاق و السياح من كل أقطار العالم، والتي تحولت فجأة الى مدينة أشباح، لم يبق فيها الا سكانها المضطرون للالتزام بحظر التجوال. وفي تمازج بين ماض قريب وحاضر بئيس، تقدم الكاتبة صورة مقارٍنة بين حال المدينة قبل الجائحة: "أطفال يلتفون حول آبائهم بشغب وطمأنينة. مسنون يأتون لإحياء ذكرياتهم الجميلة حاضنين بعضهم بحب لا يتقادم مع الزمن". ملونة الصورة بألوان تاريخ المدينة العريق وحضارات توالت عليها و"غزوات تعرضت لها جزرها وقصورها المرصودة التي "تصارع عليها الأمراء لامتلاكها، وحفلاتها التنكرية وزمن متعة فائضة بحب طافح". استطاعت الأديبة خديجة أميتي أن تجسد المعاناة والحزن الذي عمّ بإيطاليا بطريقة مكثفة وبأسلوب شعري وغزارة في الأحداث. صورة ابداعية لمدينة تحتضر، تتساقط فيها الأرواح وتكثر فيها الوفيات، ورغم ذلك ظلت ايطاليا مستبسلة أمام الموت. وكأنني أمام لوحة من تلك اللوحات العالمية التي تثير فيك الدهشة، كلوحة دافيد "موت سقراط" تفاعلُ بين عناصر تاريخية وشخصية وسياسية وجمالية قُدمت ببراعةِ وبإتقان. فرغم بشاعة الموت نرى أيضا جمالية الفن والابداع.

من فنيسيا تطير بك الى برج ايفيل والشانزيليزي وشاطو فرساي بأسلوب أخاذ مُشوق وممتع، يتابع القارئ من خلاله بترّقب واستنفار، ثم الإغلاق في مدينة الأنوار. تقول الكاتبة " فراغها يزيد الحب إليها قوة والحنين بضجيجها حدّة". ثم تسترسل في الوصف بشكل يجعلك جزءا من المكان وشاهدا عليه، تسافر فيه معها الى عمق حضارة المدينة وأنوارها التي انطفأت وإلى المشاكل الاجتماعية التي طفت وإلى العنف داخل البيوت المغلقة واقتحام اللوحات الالكترونية الى عالم الأطفال وما سيخلّفه من سلبيات، لتنهي الكاتبة سردها بهذا الختم الجميل قائلة: "رغم أجواءِ الخوف والشّك، امتدت حبال التضامن عن بعد، لتنقِذَ أرواحا وتساعدَ من يصرخون من ألم الجوع والمرض والعزلة والنسيان. زمن أصبح الحب فيه لا يقاس بالقبلات بل بما تُقدّمه الإنسانية من دعم.

وفي نص "وحدي أحكم العالم"، رغم قصره، فإنه يحمل من العمق والمعنى عما يحصل في عالم البشرية... ويعبر عن خفايا الكوفيد وما وراء التخوم من الشرور والآلم الإنسانية، وتنهي الكاتبة هذا النص القصير جدا، الغني والمكثف، بأن هذا الفيروس الذي يحكم العالم ترعبه عيون العلماء التي تحمر عيونَهم من البحث دون لغط ودون كلل في إشارة إلى ما ينتجه الفراغ من توالد للإشاعات وتصورات نابعة عن الجهل.

من فينسيا وباريس تطير المبدعة خديجة أميتي بالقارئ الى المغرب، الوطن الجميل كما وصفته، وتضامن الشباب والشيوخ والاغنياء والفقراء والجيران. حتى من كان ينفر من الآخر تقرب اليه. الكل تلاحم وتظافرَ، وقفوا وقفة واحدة ضد جبروت هذا الفيروس. وتنهي كعادتها الكاتبة بقول مأثور:" سلام عليك يا وطني من بلاد غربة اخترناها مجبرين. فحبّك لا توقفه طائرات مجمدة على الأرض ولا بواخر راسية على الموانئ. لم تترك الكاتبة قضية في زمن الكوفيد إلا وطرحتها: نداء الأطباء للناس ان يمكثوا في بيوتهم رحمة لهم ورأفة بأطباءِ يعملون ليل نهار من غير كلل. كما تطرقت لمعاناة المسنين وحرمانهم من لقاء أحفادهم كما تعودوا، عادة هي خيط أملهم في سعادة نادرة. المجموعة ضمت كذلك مشاهد كثيرة عن مواقفَ انسانية جليلة واخرى غيرت من رتابة المرء وروتينيته الى حياة مليئة بالحيوية رغم قهر الكوفيد.

من خلال هذه المشاهد، وفي حركة ذهاب وإياب، ترجع الكاتبة بالقارئ إلى حيث تقطن، الى باريس وإلى حيها: ممر الكميليا، تصف المكان بدقة واتقان تجعلك حاضرا معها في الزمان والمكان. وتُعرفك عن تاريخ المنطقة وعن شوارعها وحدائقها: "صندوق تحرص ساكنة الحي على تطعیمه بما لذ وطاب من عالم الثقافة والفكر والروایة". مضيفة "ما أثارني وجذبني لھذا الصندوق العجیب ھو كم ونوعیة الكتب التي أعثر علیھا. الواقع أن في كل فضاءات الأحیاء الباریسیة تقف صناديق للكتب، ممشوقة القامة، متحررة من أیة جدران"، هكذا رسمت خديجة اميتي اللوحة بدقة وبراعة فنان متمرس.

نقاط كثيرة في هذا الكتاب طرحتها الاديبة من ضمنها اولئك المهاجرين الافارقة والاسويين والمغاربيين من الفقراء الذين لفظتهم بلدانهم ودفعت بهم الى الاقصاء. والعنف الاسري تحت ظل هذه الجائحة، وهي المختصة في علم الاجتماع والشاهدة على هذه النماذج التي تراها حسب قولها "شهابا من لهيب جهنم"، العنف التي تتوارى وراءه الستائر المُسدلة تكتوي بها نساء أدمنّ الصمت. كما تحدثت عن الشعور بالوحدة بالتأمل والترقب والامل والمشاكل الاجتماعية في المدارس في فرنسا ومعاناة رجال ونساء التعليم وعلاقات التلميذات والتلاميذ باساتذتهم، والاختلاف الثقافي والديني. وعن النوافذ في تلك المدينة التي تُفتح بشكل متزامن، لتنطلق التصفيقات بأكف واحدة مضيفين الى جمال اللحظة ترانيم موسيقية تبعث بالأمل لغد أفضل. ولم تستثن الكاتبة معاناة السياح الذين وجدوا أنفسهم "عالقين" في بلاد المهجر، وحملة التضامن معهم ...

أما اللقاح و ما راج عنه من شائعات فقد أفردت له فقرات عدة بأسلوب ساخر ينم عن روح المرح لدى الكاتبة، حيث قامت بنقل حوارات افتراضية تنم عن جهل الناس وأنانية بعضهم وعدم اكتراثهم بجدية الفيروس.

و الأجمل في الأضمومة أن الكاتبة خديجة أمتي جعلتنا نطل على الحياة في البداية من نافذة الحزن الإيطالي و مأسي الكوفيد، لتغلقها في النهاية و تفتح باب الأمل عبر "رقصة الحياة",

مواضيع كثيرة طرحت بأسلوب متميز ينم عن إلمام الكاتبة بميكانيزمات الكتابة و جماليتها.

بإيجاز شديد، هذا الكتاب بنصوصه المختلفة لما تحتويه من مواضيع أصابت الجسم الاجتماعي في العالم، يعلمنا كيف نتسائل ونجعل الأشياء والحياة والمعتقدات والوقائع والانفعالات موضوعا للتأمل والمساءلة والنقد والتحليل.

***

بقلم زكية خيرهم

لقد احتلت الثنائية حيزا بارزا في تفكير الإنسان منذ القدم وحتى يومنا هذا.وهي مهمة لتكوين ثقافة معينة لدينا. فالحياة فيها توازن وتقابل وهذا الاختلاف يقود إلى توجيه مسيرة الحياة نحو الأفضل. وقد جاءت الثنائية الضدية في قصص محمد حسين لتسلط الضوء على ثيمة أساسية وهي الصراعات الاجتماعية والنفسية. حيث كان للقضية الفلسطينية أثرا واضحا في قصص الكاتب. فالمخيم كبيئة له فرضت نمطا معيشيا دفعه للإحساس بالشئ ونقيضه في الآن نفسه. فكانت مدرات امرأة قد تهيأت لتكون مناخا خصبا لشيوع الثنائيات الضدية وهي وسيلة أسلوبية ناجحة لتصوير الواقع. ومن الثنائيات الضدية التي سجلت حضورا لافتا في المجموعة لا على سبيل الحصر، ثنائيتا الحلم/الواقع الليل/النهار الفرد/المجتمع الحياة/الموت الساكن/المتحرك. وقد تم الجمع بين قطبي الثنائية لتوظيفهما في فاعلية الإقحام ودوره في تشكيل الفجوة:مسافة التوتر التي كانت منبعا لشعرية مدارات امرأة.

وأفكار كتلك التي تبنتها المجموعة بحاجة إلى عنصر يدعمها في التأثير على القارئ وإقناعه وهنا يأتي دور الثنائيات الضدية.حيث أن من وسائل الإقناع الحجة العقلية القائمة على الاستدلال والمقارنة بين المتناقضين لتبيين المفارقة الشاسعة بينهما.فالنفس تسعى إلى الإتصاف بالإيجابي الحسن وتنفر من السلبي القبيح، والجدل والحجاج والرهان كلها تحتاج إلى التضاد وإلى الربط والمقارنة بين المتناقضين وهذا النوع من الربط يثير العواطف الأخلاقية والمعاني الفكرية في المتلقي وهذه الإثارة تؤدي إلى نتيجة هي التأثير والإقناع وتحقيق الغاية المرجوة وهذا ما سعى إليه محمد حسين في مجموعته. كما سعى محمد إلى تحقيق هدف نبيل وهو تعرية الحقائق وكشفها في مجتمع مستبد مجتمع الطرابيش وهو إشارة إلى الطبقة الفاسدة التي تتغول على قوت الطبقة المعدمة والمساس بأعراضها واستغلالها في أغراض غير شريفة كما جاء في قصة الوجه الآخر وغيرها من القصص.والشئ يعرف بضده فطبقة الطرابيش المتخمة يقابلها طبقة المعدمين الخاوية.

وتظهر آلية الحجاج التي تؤديها الثنائيات الضدية في (البوصلة) حيث يقول البطل (تمدحون الصدق وتكذبون، وتصفقون للحب وتكرهون، تتغنون بالعدل وتظلمون....افحصوا بوصلة قلوبكم كل يوم تعرفون). يتضح لنا بأن الكاتب هنا استعمل الثنائية الضدية للتدليل على رأيه وتدعيم فكرته.وهذا يعكس البعد الحجاجي لهذه الثنائيات والدور الذي تقوم عليه بغرض إقناع المتلقي.

واتسمت المجموعة بالشعرية التي أتت من الثنائيات الضدية الطاغية فيها، والتضاد عنصر هام في تحقيق فاعلية وشعرية اي نص أدبي فالعلاقة بين المتناقضين علاقة مقلقة وهو أمر يؤثر في المتلقي فينفعل ويشحذ ذهنه من أجل الوصول إلى دلالته المتداخلة. وقد قيل قديما (بضدها تتميز الأشياء). ومن هنا فإن الثنائيات الضدية كان لها الدور الأنجح في تحسين المعنى وتقريبه للأذهان وإثارة المتلقي واستفزازه وهذا ما كان في مجموعة محمد حسين فتفجرت المعاني والجمال من بين ثناياها.

وفي (خطوتان) تتعب البطلة رهام من الحياة فتخاطب سعيد( لقد تعبت يا سعيد في كنف الثنائيات..موت بطيء..موت سريع..حياة بدون حياة..أمل بدون أمل) فيحاول سعيد إقناعها بأهمية الثنائيات في الحياة (لكن لا تنسي أن الولادة من الخاصرة نازفة جدا ومؤلمة ، لكنها بداية حياة مثل اجتياز الخطوتين).

في (وثيقة سفر) نجد ياسر يشعر بالقوة بسبب انتماءه إلى وطنه فلسطين لكنه بنفس الوقت يعاني من الضعف بسبب حالة الاغتراب التي يعيشها في وطن ليس وطنه. ويظهر هذا على لسان ياسر( نظر خلفه مودعا، أطلق زفرة طويلة، لقد أعطيت هذه البلاد الكثير من الجهد والعرق والخبرة لكنها رفضتني). فرفض تلك البلاد له بعدما قدم لها الكثير جعله يشعر بالاغتراب وحسمْ أمره بالعودة إلى وطنه . وفي المطار تبرز ثنائية الحركة /السكون عندما يصر على البقاء على أرض المطار أو السماح له بالدخول إلى وطنه فيخبره شرطي المطار أن هناك قرارا بعدم دخول البلد لحاملي وثائق السفر لأن وطنه يرزح تحت الاحتلال. عندها يرفض ياسر المغادرة(سأموت هنا أو أذهب إلى وطني). فتمر الشهور وهو في حالة سكون تتمثل ببقاءه على أرض المطار وتظهر من خلال حالة السكون قوة الرفض بالترحيل واحتجاج على القرار.

وفي (لست تلك) نجد المكان مغتصبا للأماني في صدر بتول حيث تعقد مقارنة بين السماء التي تشعرها بالحرية حيث هوائها غير ممزوجة بالأتربة التي ترمز إلى التقييد والاختناق وضدها الأرض التي تغص بالجثث والجثث عادة ساكنة وترمز للموت، تقيد الحركة فتولد الصراع بين ثنائيات الأرض/السماء. لذلك نجد بتول تواجه طرفين متناقضين في ذاتها وفي المكان الذي أرغمت على العيش فيه.وفي (انكسار المرايا) نجد البطلة ترفض الجريدة وتخاطب بائع الجرائد (لا أريدها، الغِ اشتراكي بها لم أعد أحتمل ترهات الواقع المستبد..سأمضي إلى حلمي وأعلن انتصاري على فوضى الحواس).وهنا نستطيع القول بأن البطلة تولد لديها شعور بالضيق فتصارعت الثنائيات الواقع/ الحلم وتصادمت البطلة مع المجتمع وهذا الصدام سببه من وجهة نظرها المجتمع المستبد الذي لا يريد أن يفهمها.

وفي دائرة (الموت البطيء) ظهرت صورة الفرد في مواجهة العائلة والعادات فواقع البطل يتصارع فيه مع العادات التي يحكمه فيها من الزواج بابنة العم. حيث انتهى الحال بمعاناة وسام بسبب تلك القيود التي كبلت رغبته في الحصول على حبيبته سلوى فعاش اغترابا مع ابنة عمه لأنها كانت حائلا بينه وبين رغبته الحقيقية. وهذا ما ولد صراعا بين الثنائية الضدية الحب/الكره في نفس البطل دافعه به إلى عدم الإستقرار النفسي.فعلى لسان وسام عندما سأله منيب عن سبب عدم زواجه بسلوى (آه يا منيب، لقد أجبرني والدي على الزواج بابنة عمي وأنا وهي مختلفان في كل شئ).

وفي (الوجه الآخر) تعيش البطلة أماني زوجة العتال سعيد حالة صراع بين واقع ترفضه وهو واقع تنتشر به الطرابيش الفاسدة المسيطرة في واقع مستبد وتتحكم فيه بلقمة الفقير كما ذكرنا سابقا، وبين رغبة في العيش بهذا الواقع.فبعد انفصال أماني مجبرة عن زوجها وزواج عرفي مع الحاج فريد الذي لم يزر الديار المقدسة ثم استغلالها في علاقات محرمة لعقد صفقات تجارية تتحول الرغبة لديها إلى نقمة.فقبولها بالعلاقات المحرمة كان تنفيسا عن ضيق اجتماعي ويظهر هنا صراع الثنائيات من خلال ثنائية الفرد/المجتمع. فالمجتمع متمثلا بأصحاب الطرابيش الحمراء أجبر أماني على الوضع الذي زجت إليه دون رغبة منها وفقط من أجل إبعاد شبح الجوع عن عائلتها.

قصص محمد حسين جمعت بين الخيال والواقع ورحلة الإنسان مع الحياة بما فيها من تناقضات وما تضمنته من مشاعر إنسانية تضج بالحب والجمال عبر ابطال أظهروا تلك المشاعر وترجمتها بصدق ليتجلى الجمال في مواجهة أشكال القبح التي تصبغ الواقع.

كما اتخذت المجموعة من الإيحاء والرمز أسلوبا للبوح.

بقي القول بأن مدرات امرأة اتصفت بطابع الحزن لكن محمد حسين سمح لخيط من الفرح والسعادة انطبع بطابع القلق الوجودي والنفسي الذي سيطر على الأبطال بسبب واقعهم بالتسرب إلى دواخلهم.وكما قال سعيد لياسمين:

(لا يزال في الدرب أبواب مقفلة تخفي خلفها وهج الشمس مجبولة بالأمل)........

***

قراءة بديعة النعيمي

مقدمة لابد منها: اسطورة المسخ (فرانكشتاين) التي دشنتها الكاتبة (ماري شيلي) في الأدب الخيال العلمي (ما وراء الطبيعة) الصادرة عام 1818. ادهشت الكثير من الكتاب، وراحوا ينسجون سردهم الروائي على منوال أسطورة (فرانكشتاين) مستلهمين الفكرة الأم، فتوالت روايات (فرانكشتاين)، وهنا نحصي بعض الروايات الخيال العلمي الفرانكشتانية:

× رواية اسطور فرانكشتاين للأديب الدكتور أحمد خالد توفيق، الذي برع بحق في الأدب الروائي في الخيال العلمي (أكثر من 60 رواية) وروايته (أسطورة فرانكشتاين) هي إحياء جثة الميت بالشحنات الكهربائية في مختبر علمي وطبي.

× رواية آدم الجديد للأديب قصي الشيخ عسكر. الصادرة عام 2010، تعتمد على جمع الخلايا الدماغية (المخ) من الموتى في حوادث عالمية متفرقة. مثل حوادث الحروب (الحروب العربية / الاسرائيلية. حروب أمريكا في فيتنام) وحوادث الاحتجاجات الشعبية المتفرقة في العالم قمعت بالحديد والنار والقمع المفرط بسفك الدماء، مثل ما حدث في (الصين. الأرجنتين) تأخذ جثث الموتى وتجري عليها اختبارات علمية وطبية تحت اشراف عالم في الطب، البروفيسور ج، جونسون (امريكي من اصل بريطاني) يجري على الجثث تبديل الأعضاء الجسدية المعطوبة في تعويضها بأعضاء جديدة حية، لتمارس نشاطها بشكل مختلف عن السابق. وكذلك تبدل الخلايا الدماغية الميتة (المخ) واحيائها في خلايا مخية جديدة تعود لها الحياة، لتواصل مهامها وفق منطق ونظرية ومفاهيم العولمة الجديدة.

× رواية فرانكشتاين في بغداد للأديب أحمد سعداوي. صادرة عام 2013. يقوم هادي العتاك في جمع اشلاء ضحايا التفجيرات الارهابية الدموية، ويقوم بتخيط أعضاء الموتى لكي يخلق المسخ (شسمه)، ليقوم بمهام القصاص لضحايا التفجيرات الدموية. ولكن لابد من الاشارة البالغة الأهمية، أن فكرة هذه الرواية مطابقة بالتمام والكمال من فكرة رواية (آدم الجديد) للأديب قصي الشيخ عسكر. من حيث تجميع الأعضاء الموتى، وقيامهم بمهام جديدة، ولكن الاختلاف، أن كل روايات (فرانكشتاين) يجري تبديل الأعضاء الجسدية في مختبرات علمية وطبية بإشراف عالم طب، وليس عامل بسيط (هادي العتاك) يخيط ويبدل الأعضاء الجسدية الميتة، باعضاء جديدة حية. يعني تدخل في مفهوم السريالية الغرائبية.

×× رواية (آدم الجديد):

تشير بأنها نتاج ثمرة العولمة الجديدة، في التطور والتقنية العلم الحديث، ليصب في مآرب وأهداف خبيثة مدمرة، في مخلوق العولمة، في إعادة إحياء الخلايا الدماغية الميتة واعطائها اكسير الحياة مجدداً لتدخل في خدمة أهداف العولمة، يعني تكوين آدم الجديد على نقيض آدم القديم، في ماهيته وشخصيته وأسلوب تفكيره وشطب ماضيه، ليكون شخصية جامعة وشمولية في سلالة البشر، استنساخ انسان جديد في بوتقة العولمة، ولادة مسخ جديد تحت اشراف البروفيسور ج. جونسون (امريكي من اصل بريطاني) في دبلجة جديدة تذوب وتنصهر في هذا المسخ الجديد (الحضارة. الدين. الأصل. الهوية. اللغة. المسميات) في طريقة وأسلوب تفكيره، وان يلغي القيم والمبادئ والأخلاق الانسانية والدينية وتبديلها باشكال جديدة تخدم العولمة الجديدة، لذلك يشعر بالفرح والسعادة البروفيسور ج. جونسون في هذا الاختبار العظيم في الولادة، بقوله (أنا سعيد جداً، ربما لست اكثر منك، وافهم حزنك وسعادتك، سعيد لاني جمعت أنسانً يعد وريث بكل الحضارات والأفكار والأديان. الاسلام. المسيحية. اليهودية. ديانة الشرق القديم، الاسطورة الفلسفية، الأجناس، الاصفر والابيض والاحمر، الموروث العالمي عندك،وانا فخوراً بك) ص68.

هذه الدبلجة العالمية في العولمة في خلق وتكوين البشر في شخصية آدم الجديد، أو مخلوق الحضارة الامريكية والغربية، ان تنصهر كل الهويات في هوية واحدة (أنت، أنا، هو أنا، مسلم مسيحي بوذي) ص44. وكذلك تذوب كل المسميات في مسمى واحد، او يحمل كل عناوين الاسماء في عنوان واحد (شوان، خالد، موشي، بل، أنا هؤلاء.. هو، هم، انا) ص11. وكذلك الحال مع اللغات تنصهر في لغة واحدة في آدم الجديد، انها ما يشبه الكابوس لهذا المخلوق المسخ لذلك يتساءل (لكن كيف تمكنت ان اكتب بالعربية وانا اتحدث الصينية فقط ؟ لغتي الاولى العبرية والدنماركية، ثم تعلمت الانكليزية وبعض العربية، لمْ أمرُ بمثل هذا ؟ قد يكون حلماً أشبه بالكابوس) ص23. يعني باختصار العبارة حصر الصراع الحضاري الشرق والغرب بالحضارة الامريكية حصراً، هي القائد والمنفذ، وهي المسيطرة على العالم تحت وصايتها،بحيث آدم الجديد لا يعرف نفسه، ولا يعرف أين يتجه ويسير، انه دمية بصناعة امريكية تحركه وتدفعه، وحتى بطريقة التفكير، فقد اختلطت عليه الامور (أنا أم نحن ؟) (هو أم هم ؟)، وصعب عليه معرفة ذلك (- اريد ان اعرف من أنا وأين، وفي أي سنة ؟ أنا أم نحن) ص15.

هذا نتيجة تبديل الخلايا الدماغية (المخ) باعتباره مركز التفكير وطريقة سلوكه وتصرفه العقلي. لايحتاج من أجل استمراريته في الحياة سوى بتبديل أعضاء جسده المعطلة بآخرى، أو التي يصيبها العطل، في تبديل أعضاء جديدة ليمارس حياته في طوال سنوات عمره، ان يكون الجميع في شخص واحد. آدم الجديد. حيث يقول البروفيسور الأمريكي ج. جونسون (يمكن ان اجعل هؤلاء مجتمعين في واحد يعيشون سنوات طويلة، لا نضطر خلالها إلا الى تبديل الجسد) ص58. وهذا ما تفتقت عليه العقلية الأمريكية وتسعى الى نجاح تجربتها العالمية وتسعى الى قطف ثمارها (كل ما ارجوه أن تفهم أنك آدم الجديد، الذي يمكن نحفظ به البشرية مجتمعة، بكل تاريخها وحضارتها، وأظنك تتفق معي في هذا) ص59. هذا الاختراع العلمي الأمريكي في عالم اليوم، يشكل جريمة انسانية كبرى للطبيعة والانسانية تسعى الى تدمير العالم وتشكيله من جديد، وهذا ما نشهده اليوم، العالم بقيادة العولمة الامريكية المدمرة، بأن تكون رب البشر الجديد في مخلوق آدم الجديد.

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد عراقي

مجموعة" انثيالات عشق"نموذجا

إن فنّ الكتابة الشذرية ليملي على مبدعه الدرجات العالية من التركيز، وتكثيف المشاهد في أقل عدد ممكن من المفردات، وهو نزوع إنما يقود بالضرورة إلى اختزال التجربة إلى أقصى الحدود.

لذا نلفي هذا التوجه يمثل ديدن من يريدون الابتكار في المعنى واختصار الحيوات، فهم يقدّمون للمتلقي على نحو من الدقة والعمق، في الغالب، عصارة تقاطعات عوالم تنجذب ضمن فضاءاتها الذوات الطافحة بالمكابدات، إلى مثل هذا التعبير الوامض.

ثمة من هم على دربة ومراس في هذا المضمار، مثلما هنالك من يشكل هذا الخطاب الشذري في تجاربهم الباكورة أو الخطى الأولى، للإقناع والإمتاع.

فالتجربة التي بين أيدينا، تدل على ما فذلكنا له، إلى حدّ ما، والتي يقف صاحبها عند جملة من أغراض الخطاب الشذري، المبدع المغربي الشاب ياسين اليعكوبي، عبر منجزه" انثيالات عشق" مع إصراره الشديد على تشكيل حضوره الإبداعي الفني الذي تترجمه الومضة أو الشذرة.

قد يبدو من العتبة التي انتقاها لأول كتبه: انثيالات عشق، أن التيمة محمولة على روح الرومنسي، أو أن الذات حالمة، مترفّعة على واقعها، غير أن العكس هو الصحيح، فالفهم الصحيح للواقع لا يتم إلاّ داخل دهاليز تلكم الحلمية أو الهذناية القادرة على صناعة الجمال واستفزاز القارئ به، حدّ الإدهاش والصدمة.4945 انثيالات عشق

إن مثل هذا التقشف في اللغة والذي يسعف العبارة الخاطفة في سريانها، بحيث تعكسه صور الزهد في التفاصيل، لا يخلو من ملمح جمالي وإستطيقي يرعى الشعرية الحديثة، وينحت مضامينها، وفق القواعد المختمرة المنقوعة في اللاوعي، والتي تشد وتبهر، بل تصدم أثناء العملية التواصلية.

يقول الكاتب في إحدى المناسبات:

حتّى وإنْ كنتُ وسطَ حشدٍ مِن الناسِ، فإنَّني مِن دونِكِ وحيدٌ.

ويقول:

لا أستبعدُ إطلاقًا فكرةَ ذوبانِكِ في كوبِ قهوةٍ ساخن!

ويقول أيضا:

ولو أنَّ سيبويهِ رأى جمالَكِ، لوجدناه ينصبُ الفاعلَ ويرفعُ المفعولَ به، فما بالكِ بهذا العبدِ الضّعيفِ!

كما يقول:

عجِبتُ لأمرِ الصُّورِ الشعرية؛ كيف تصيرُ في حضرتِكِ حقيقةً!

ويقول:

حينما أخبرتُهم بأنَّني ظمآن، لم أكنْ –حينها - في حاجةٍ إلى الماءِ، بل كنتُ في حاجةٍ إليكِ!

يقول كذلك:

لا قبيلة بني هاشم، ولا قبيلة بني عبّاس، ولا حتى ليلى أحقُّ بالخلافةِ، وحدكِ الأحقُّ بذلك.

ختام القول أنه ومن خلال هذه المقتطفات، نستشف كيف أن الذات المبدعة في جنوحها للحظة الهاربة من جهة، وتباهيها بواقعية المشهد من جهة ثانية، تفتي بضرورة رفع المحبوبة فوق لائحة من المعطيات والمكونات والذوات العاقلة وغير العاقلة، ففي محطة يتم وضعها، أي المعشوقة، فوق التواجد الرمزي للمها، كما يتم السمو بها إلى الذروة في محطات أخرى، أي وضعها فوق حياة الشاعر وقصائده، ومن هنا، تتحقق الغائية من الفوضى البانية، وكيف أنها هنا في حالة ياسين اليعكوبي، تحاول تبرير أو بالأحرى تفسير لوذ هذا الكاتب بعوالم الشذرة واحتمائه بأقنعتها.

فحتّى سلطان النحاة سيبويه، لو رأى هذه المعشوقة المثلى إذا شئنا، لارتبك وهرطق في الكلام واختلّت قواعد اللغة عنده، دون هذا الحضور الاستطيقي القاهر، من قبل هذه التي يقول عنها اليعقوبي أنها ليست بامرأة، اقلّه في إدراكنا النمطي والمعتاد، كي يرعى بالنهاية قدسية الشذرة، ويحاول تكريس ثقافة هيمنتها عليه هو أولا، قبل إقناع وإمتاع المتلقي بها، ليس إغراقا في الضباية أو استغراقا للملتبس، إنما ذوبانا في تعشّق مكامن الجمال والذود عن رحابه.

يقول:

ما أكتبُهُ ليس غزلًا، ولم يكُنْ يومًا كذلك؛ لأنَّ الغزلَ -كما هو معروف - يُكتَبُ في حقِّ المرأةِ، أما أنا فأكتبُهُ في حقِّ حجرة!

***

أحمد الشيخاوي - شاعر وناقد من المغرب

حين يراقص الشاعر قلمه يمارس كل طقوس البوح، فتتحول الكلمات إلى ترانيم في معبد مقدس يقف عشاق الحرف امام آلهة الشعر يرتلونها ترتيلا، لا فرق بين الشاعر وبين المنشد الروحي (المرنم) وهو في معبده يستسلم لموسيقى روحية تحني لها ملائكة الشعر، عيونهم معلقة نحو المعبود، ذلك ما لمسناه في قصائد الشاعر العراقي مزهر حسن الكعبي العروبيُّ صاحب القلم الذهبي، فقد جمع الشاعر مزهر حسن الكعبي بين الإدارة والإبداع، وكلاهما تؤديان دورا جليا في النهوض بالأمم، فالتسيير إبداع وفن وثقافة أيضا، ولعل من لم يقرأ شعره يجهله خاصة من خارج العراق، فهو إلى جانب منصبه المهني كمدير لمركز الدّراسات للكليَّة التّربويّة المفتوحة ثم وزارة التربية، فهو ناشط جمعوي في العراق وفي الوطني العربي، حامل شهادة ماجستير لغة عربية، وحاليا يحضر لشهادة الدكتوراه في المجال نفسه، ولم تلهيه دراساته العليا عن المشاركة في الهيئات التي لها علاقة بالإبداع، حيث تم اختياره لترأس لجنة التحكيم لمسابقة " أبابيل" الدّولية للشّعر العمودي وكان في عضوية اللجنة شعراء عرب من مصر ولبنان.

استطاع الشاعر العراقي مزهر حسن الكعبي أن يجلس على عرش الإبداع في قلاع تقيّم الحرف والمبدع مهما كانت جنسيته، لأنها تعبر عن روح طاهرة تحلق في سماوات هذا الكون، ما مكنه من أن يكوّن له رصيدا أدبيا كلها دواوين مثل: (ديوان صلوات لعينيها، ديوان حين يستنطقون الصَّمت، ديوان براعم من صهيل الشمس، ديوان أزاهير الزّغاريد، ثم ديوان تنهدات ثُريا الفلق، ديوان حبل على رقبة المطر)، كما كانت له مشاركات في أعمال أدبية جماعية مثل ديوان النخلة لا تنحني للريح، وديوان في رحاب كربلاء السلسلة الأدبيّة وقصائد بصرية من الأدب البصري الحديث وبحوث منشورة في مجلات عربية مُحَكَّمَة، والمُطَّلِعِ على كتابات مزهر حسن الكعبي يقف على أن الرجل ليس شاعرا فحسب، بل هو لغوي مُجَدِّدٌ، حيث دأب على البحث في الظّواهر اللغويّة في استعمال الفعل الأصَم والسلم الصوتي العربي قديما وحديثا كما نقرأ في (حَبَّ.. حُب َّ.. وأحَب َّ) في الاستعمال اللغوي وله دراسات في الأفعال المُضَعَّفَة في القرآن الكريم.

وقد حظيت مؤلفاته إعجاب القارئ العربي من المحيط إلى الخليج، فكان أكثر اهتماما بما يبدع، ومن خلال ما كتبه النقاد عنه نجد أن مزهر حسن الكعبي ليس من الذين ينزوون على أنفسهم، رغم أنه قليل الكلام ويغلب عليه طابع التأمل، فهو أكثر انفتاحا على الآخر وعلى العالم، لا يجد صعوبة في ان يفصح عن ذاته كما قال عنه الأديب ناظم المناصير، فقد عمل على صقل قلمه وفق ما يقتضيه الذوق والجمال، فالشاعر الذي لا يجعل من شعره موسيقى فهو يفتقر الى الذوق، فالجمال والروح الإبداعية نلمسها في شعره، مما قرأناه من أعمال مزهر حسن الكعبي يلاحظ أن ما يكتبه يشبه " الهايكو" فمثلا يقول في إحدى أعماله سمّاها ناقوسيّات من النّثر الفنّي

حين َ يداهمُني الظّمأ ْ لابد ّ أن ْ أعبرَ إلى ضفَة ٍ أنت ِ فيها.. فهاتي يدَيك

حين َ يَلُف ُّ بُردتي الظّلام ْ لابد ّ أن أفترش َ الحَصَى بنور ِ شمسِك

حين َ تَستَغلِق ُ روحي بالحنين، لابدّ أن أنقل َ فيضَها، إلى أكُف ِ الملائكة ِ وأتوسّد زَغَب َ جناحيك

حين َ تدور ُ الأرض ُ خارج َ المسار ْ لابد ّ أن ْ أبحث َ في وجهك الوضئ عن ملاذي َ اللذيذ ْ

حين َ تغادر ُ العصافير ُ أعشاشها، أمد ّ يدي إلى صغارها بالدّفء، فيلثُم ُ الزّغَب ُ المبتل ّ بالحنان ِ أناملي

حين تغتلي الأرض ُ بالطّوفان.. لابدّ من الفرار إلى زورقك ِ والضّفة العاشقة

حين تغادر ُ عيناك ِ قبو َ فكري أشعر ُ بظلام ٍ مخيف

كوني معي كي لا تحتطب َ الدهشة ُ أصابع يديك ِ وقودا ً لدفء ِ حياتي

لا مكان للموت سعيدا ً إلّا بين يديك وناقوس ِ قلبك

خُذي حَذَرا ً مِن البرق ِ ولا تحترسي مني، فأنت ِ.. في قلبي متى أشاء

لابد ّ أن أضع قدمي َّ على مواضع ِ قدميك ِ تَبرّكا ً.. وموافاة

.. لا أُحس ّ بالجوع ِ في الزّمن الصدئ " فليس َ بالخبز وحده يحيا الإنسان

غريب ٌ ألّا تعبري معي وكلانا ينشد ُ البحث َ عن فضاء يعج ّ، بالضّباب ِ والمطر ْ وشمس ٍ لاتغيب

لماذا تُتْرَك ُ العصافير ُ تغادر ُ أعشاشها وتموت..؟

في ليلة ٍ.. تَوَحّد َ وجهك ِ ونور السّماء، فصلّيت ُ لله ِ ركعتين

لأنّنا لا نولَد ُ مرّتين ِ ولا نموت ُ ميتَتين ِ.. ودِدت ُ أن ْ نظل ّ معا ً.. متلاصقَين

في إبريق محبتك ْ أستنشق ُ عطر َ حياتي، وفي نجوم السّماء ِ أرى عينيك ِ توقظاني

بالأمس ِ.. أغرَقَني الحنين ْ، فالتفَفت ُ بعطر صوتك ِ، وَفَيْضِ حَناني ونمْت ُ احْلُمُ بكَفّك ِ توقِظُني للرّحيل

في لَيالي الشتاءْ أَتَعَرَى اِلّا مِنْ حُبكِ الَّذِي يَكُونُ مَلاذِي َ الوَحيد

أَن َّ الماء َ بلا لون ٍ، ولا طعم ٍ، ولا رائحه، أُحب ّ السّباحة َ فيه ِ، مُعْتَنِقا ً صفاءك ِ وجَسَدا ً بلا ألوان

لا يستَوْطِنُ جَوْفَ الليلِ اِلّا حُبُّك ِ، وجنوني

غادرت ُ مُعتَمرا ً، وعدت ُ مُعتَمِرا ً وبين َ جوانحي.. حبّك ِ في الرّحلَتَين ِ أنيسي

و نحن نبحر مع هذه الكلمات ينتابنا شعور وكأننا طيور النورس تراقص الأمواج وهي تردد نشيد البحر، فنحن نلمس في كلمات مزهر حسن الكعبي الجمال والرقة والعذوبة كما نلمس فيه شغفه، فالشاعر يجب ان يكون إنسانا قبل كل شيئ، عاشقا لكل شيئ، يرى الحياة بلون وردي، لا يوجد فيها سواد، يعانق الطبيعة، يرقص كعصفور يغني على فنن شجرة في يوم ربيعي، هكذا هم الشعراء لا يتكلمون لكن حين يكتبون تقرأ في قصائدهم كلاما كبيرا، يكبرنا، لأن لغتهم تختلف عن لغة الناس العاديين، فقد نجده يتناجي بين فلكه ودائرته وهو يعيد رحيق الماضي، هو ما لمسناه في هذه "الناقوسيات"، فعلا كانت كلمات تشبه إلى حد ما ناقوسا يدق في عالم النسيان، وهو بذلك يستحق تكريما خاصا ومميزا، للإشارة أن الشاعر مزهر حسن الكعبي تم تكريمه بجائزة "أديب النخيل" التي تقيمها رابطة شط للثقافة والإعلام في طبعتها الأولى بالتعاون مع إنجاز بمحافظة البصرة وذلك بعد فوزه بالمركز الأول لعام 2022، كما حصل على عدة شهادات منها شهادة خاصة من طرف منظمة السلام والثقافة الدولية، وينتظر الشاعر العراقي مزهر حسن الكعبي صدور دواوينه الجديدة وبحوث لغوية وكتب، لتكون إضافة إلى المكتبة العراقية وتكون في خدمة القارئ والباحث العربي، ما يمكن اقتراحه هو أن تترجم أعمال هذا الشاعر إلى لغات أجنبية حتى يقف الشعراء الأجانب على الشعر العراقي (البابلي) في أبعاده الحضارية.

يذكر أن مزهر حسن الكعبي فاز بالمركز الأول لجائزة "أديب النخيل" لعام 2022 في نسختها الأولى

***

ورقة قدمتها علجية عيش من الجزائر

 

"فضاء ضيق" الصادرة عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع/2019،  رواية الأحلام الموءودة في حضرة الحكايات التي لم تكتمل في بيوت بلا حنين أسفل عتباتها لأرواح تحتضر على تقاطعات اليأس والموت. 

تُعد هذه الرواية عملا فنيا بأبعاد تاريخية سياسية واجتماعية. حيث قدمت لنا صورة حقيقية للواقع في العراق.وما لفتني فيها قلة الأحداث وتعدد الأفكار وسط واقع سوداوي. وهذا أمر طبيعي، إذا أن ما حدث في العراق الذي احتضن على مدار عقود أحداثا ساخنة من حروب وغيرها أدى بأفراده إلى الشعور بالتهميش والطبقية وتضيق الأفق بالإضافة إلى اهتزاز بعض الثوابت. ولأن الأديب جزء من المجتمع فقد جاءت فضاء ضيق للكاتب علي لفته لتمثل عالما يضيق فيه فضاء التنفس، فالهواء آسن خانق.إنه عالم الفوضى حيث البقاء فيه للأقوى أما الضعيف فإنه منغمس في رذائله للحصول على ما يقوّم به الجسد. ولا قواعد تضبط غرائز ساكنيه، تختلف طرق السرقة وتتعدد، السياسة، الدين، السلطة.

التقى في هذا الفضاء الضيق أصدقاء بأفكار متضاربة.فمحسن يحمل نظرة نيتشة وعلاء يحمل فكرا شوبنهاريا وحليم يتمسك بالدين أما مجتبى فيرفض السلطة الأبوية ويركل العمامة. لكنهم يعيشون معا التهميش الطبقي، يرون السلطة التي تمارسها الدولة بأجهزتها القمعية المسؤول عن تفشي كل ما هو غير أخلاقي.

وما بين المقدس والمدنس والمقدنس وكآبة الواقع وبؤسه تدور الأحداث في قتامة مفرطة في فضاء ضيق. ففي ص8 على لسان السارد (ماذا ستنفعنا الإنتخابات والوجوه ذات الوجوه والحرب ذات الحرب والأرامل يزداد عددهن والأيتام بلا مأوى؟ وربما هو جلد الذات كما تسميها، لكنها الحقيقة التي تبحث عن معادلها في تحقيق العدالة، والسؤال الذي لا يحقق المصالحة مع الذات، وكأن البلاد لا تستيقظ إلا على المتناقض المتسرب من بوابات تحكّم العقول والمهيمنة على مخارج الأفكار).

إن النزعة السوداوية التي أطرت فضاء ضيق جاءت نتيجة واقع مأزوم أصبحت فيه الشخصية تعاني من مختلف الجهات، سواء على المستوى النفسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي لدرجة أن مفهوم الوطن تغير في ذهنها.ويتضح هذا فيما جاء على لسان السارد عن مجتبى الذي حرم الورثة بسبب رفضه ارتداء العمامة ص37( لا يشعر بضرورة النسب أة الانتماء إلى المدينة فهذه الأشياء بحسب رأيه لا تعطيه الحرية ولا تمنحه العدالة في اختيارته).

وأبطال فضاء ضيق ضحايا الواقع،  وأكثر الضحايا كانت المرأة التي ضاق عليها هذا الفضاء بسبب الحروب وترملها في سن صغيرة تلجأ إلى الجمعيات تجر خلفها أيتامها تبحث عن كفيل يؤمن لقمة شحيحة لهم، ففي ص53 (الأرملة التي تغطي حاجتها بالصمت تبحث عمن يمد يده ليمنح عدالته لتعيش بعد أن يئست من إيجاد من يمنحها العيش تحت سقف غرفة دون ذلة). وإن تعسر عليها ذلك وقعت ضحية شهوة الذكور لتتحول إلى بغي ساقطة.ويتضح هذا ص 96(فثمة ما هو يستغل العوز للحصول على أنوثة صارخة إذا ما تمكن من صيدها). ومن خلال ذلك يفضح علي لفته تلك التشكلات الأيديولوجية التي كونها العقل الذكوري عن المرأة وأنها مجرد جسد يفرغ فيه نزواته وشهواته بطريقة حيوانية. فنجد الكاتب يغوص بنا على طريقة نيتشة فيزعزع ما هو مقدس ويفكك ما هو أخلاقي عن طريق شخصية محسن التائه ما بين القبور والأرامل والأيتام، تضمد جراحه كلمات تملأها الأحلام،  تمنحه لقاء مع سلوى التي خانت زوجها جريح الحرب التي قطعت ذكورته بقصف أمريكي. سلوى السراب الذي تلاشى كما تلاشى الوطن وذهب دون رجعة.

محسن الذي يظل طيلة صفحات العمل يبحث عن سلوى ويتقصى أخبارها.محسن الجنوبي الذي لم يبقى أحد له سوى طيف أمه ففي ص84 (كنت تنظر إلى النجوم، إلى شئ أبيض يقترب منك قادما من عمق السماء، يقترب منك يمسد على رأسك..). محسن المغترب داخل وطنه الملئ بالخوف والاضطراب، يعيش مأزق الذات الذي لم يجد سبيلا للخروج منه إلا حينما التقى بسلوى ووقع في حبها، فصنع له هذا الحب عالما ساعده على طرح الأسئلة، هذه الأسئلة المطروحة تثير الكثير من الإشكالات المتعلقة بالهوية ورحلة البحث عن الذات الضائعة، تتحرك داخل فضاء تتصارع فيه مجموعة من القيم تعكر حياة الشخصية وتجعلها تشعر بالعجز وعدم القدرة على فهم ما يجري.ويتضح هذا على لسان السارد وهو يخاطب محسن ص19-20 (منذ أن غادرتها هاربا وأنت بلا سبيل أو هدف... لأنك تعيش روحانيات متناقضة، وأدرك عدم قدرتك على أن تكون باتجاه واحد). إنه الضياع الذي يؤدي بالذات إلى التشتت والفتك بالهوية. 

وحمدية التي يتقصى محسن أخبار سلوى منها، حمدية التي تعرضت في طفولتها إلى قمع بطريقة سادية عند تعرضها للتحرش الجسدي، ص175 (تقول لك تعودت على سماع كلام الجنس منذ كان عمرها خمس سنين..وتعودت قرص أصابع من تتسول منهم في ذراعيها وفخذيها وبخاصرتيها ووصلت مؤخرتها وأسفل بطنها حيث ما تصل الأصابع.. ولم يكن أمامها إلا الرضوخ، فالتفكير منصب على كم ستحصل). فأي سوداوية أكثر من ذلك؟ ما الذي دفعحمدية لتمارس البغاء والسقوط في الرذيلة مع من يدفع أكثر في سن كهذه غير الجوع؟ ما الذي دفعها لممارسة الجنس مع متسول قذر في حفرة داخل مقبرة ثم يتناوب بقية أصدقاؤه عليها؟ من المسؤول؟.

بلد تقتل مفكريها ومثقفيها بهدف القضاء على الفكرة، وإلا لم كانت ثلاث عشرة رصاصة التي أنهت حياة علاء صديق محسن والذي أنهى الكاتب روايته بها مع حكاية لم تكتمل باختفاء سلوى..فمن هي سلوى بالنسبة للكاتب؟ وماذا تمثل؟ 

فضاء ضيق للكاتب علي لفته جمعت حكاية شعب عاش البؤس والفقر والموت والضياع .شعب يبحث عن وطن عصفت به الأزمات ونهشته العصابات التي تقاتل باسم الدين. ولقد أبدعت شخصات الكاتب في تمثيل الشعب العراقي الذي أنهكته الحروب المتتالية. وعلينا أن نعترف كقراء بأن هذه الرواية تحمل شهادة صادقة عن زمن الخراب وتشوه المكان وتهميش الإنسان وطمس الهوية والسبب بشاعة الواقع.

***

قراءة بديعة النعيمي

يقف القارئ في قِصَّة "صادق أو القَدَر Zadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، على بعض الملامح والأساليب التي تُذكِّر بحكايات "ألف ليلة وليلة"، وذلك من خلال ما يلي:

1-البناء النَّصِّي العام، الذي يبدو شبيهًا ببناء السَّرد في "ألف ليلة وليلة"، في قصصٍ قصيرةٍ متسلسلةٍ، تحت إطارٍ عام. وهذه القصص تعتمد على المغامرة والرِّحلة ومفاجآت الأحداث، وكأنَّ كلَّ فصلٍ في "صادق" ليلةٌ من ليالي (شهرزاد). ونتيجة لهذا فإنَّ البناء الدرامي المتماسك قد يَضعُف بين أجزاء الرواية الجامعة لتلك الأقاصيص؛ وذلك بسبب هذه السِّلسلة من الحكايات المتعاقبة والأحداث الفرعيَّة، التي يأتي فيها الاستطراد غالبًا، حتى تكاد تستقلُّ كلُّ واحدةٍ منها ببنائها الدراميِّ الخاص، لتُعطي معنًى أو حكمةً معيَّنةً داخل إطار الموضوع الذي هو القَدَر وصروفه. وإضافة إلى هذا فإنَّ نهايات رواية "صادق" هي نمط من أنماط النهايات في "ألف ليلة وليلة"؛ حيث تأتي لتُلخِّص الماضي بأسراره وأحداثه، على لسان إحدى الشخصيَّات أو أحد الأبطال، مثلما فعلت الحسناء (أستارتيه) في سرد ما حدث بعد أن غادر (صادقٌ) (بابلَ)، وكذلك فَعَلَ صادقٌ، فقصَّ لمحبوبته هذه ما قابل من صروف الشَّقاء والنأي.(1)

2- لغة السَّرد ونسيجه الأسلوبي يبدوان متشابهين بين قِصَّة (فولتير) وقصص (شهرزاد). ومن ملامح هذا- التي يمكن، حتى للقارئ العام، أن يلحظها- أنَّه كما كان (فولتير) يستعمل عبارات مثل "فوقع مغشيًّا عليه"، أو "فخرَّت مغشيًّا عليها"- ممَّا يُذكِّرنا بعبارات "ألف ليلة وليلة" المألوفة- كان يستخدم تعبيرًا، يكاد لا يغيب عن قِصَّةٍ من قصص (شهرزاد)، كأنْ يقول: "فلمَّا مَثُلَ (صادق) بين يدَي المَلِك والمَلِكَة قبَّل الأرض بين أيديهما". ونحو هذا من أساليب التعبير اللغويَّة والثقافيَّة.

3- بصرف النظر عن أسماء الأماكن أو الأشخاص، التي قد تكون مأخوذة عن قِصَّة (صادق) البابليَّة الأصليَّة، في معظمها على الأقل، فإنَّ هناك تشابهًا بين قِصَّة (فولتير) و"ألف ليلة وليلة" في تصوير بعض الشعوب، وفي النظرة إلى بعض الدِّيانات. من مثل صورة العَرَبيِّ، باهتماماته وأهوائه، وبخاصَّة صورة الأعرابي، الجشع الذي يقطع الطريق ويتاجر في الإماء والرقيق؛ لينال لذَّته من المأكل والمشرب والجسد. تلك الصورة التي نجدها في صورة قاطع الطريق (أربوجاد). فهذه الصورة الشوهاء عن الأعراب- أو من يُسمَّون بلُصوص العَرَب، أو قُطَّاع الطُّرق، أو الصعاليك- نجدها في "ألف ليلة وليلة"، في الأجزاء الأُولى منها. وهي قد تَشِي بأصل هذه (اللَّيالي) القصصيَّة، وأنها ممَّا نُقِل عن (الهند) أو (الفُرس)، أو غيرهم من غير العَرَب؛ من حيث تبدو غير بريئةٍ من المضامين الشُّعوبيَّة.

4- لم تكن صورة اليهوديِّ في "ألف ليلة وليلة" سيِّئة غالبًا إلى الحدِّ الذي بدت عليه في قِصَّة "صادق"(2)، وإنْ كانت بعض الليالي تصوِّر اليهوديَّ على ذلك النحو من السوء. في حين يصوِّر (فولتير) اليهوديَّ جشعًا، يُحِبُّ المال حُبًّا جَمًّا، ويماطل في قضاء الدَّين الذي كان عليه للتاجر العَرَبي. ولعلَّ العداوة التقليديَّة بين المسلم واليهودي- المعزوَّة إلى الصورة النمطيَّة التقليديَّة عن الأخير المتَّسمة بالغدر واللؤم- قد حُوِّلت في قِصَّة "صادق" إلى عداوةٍ عِرقيَّةٍ بين العَرَبيِّ واليهودي. ومن وجهٍ آخر، يمكن أن نرى أنَّ العداوة المصوَّرة بين النصرانيِّ والمسلم في "ألف ليلة وليلة"(3) قد جُعِلَت لدَى (فولتير) بين اليهوديِّ والعَرَبيِّ.(4)

5- تصوير بعض الشخصيَّات السرديَّة، مثل (القزم الأخرس)، الذي قام بدَوْر المساعد للحبيبَين (صادق وأستارتيه)، وكان المنقذ لهما من بطش المَلِك. فمِثل هذه الشخصيَّة يكثر ظهورها في "ألف ليلة وليلة"، وتقوم هناك بأدوار مشابهة. وكذا القولُ عن الحُدْب المذكورين في مملكة (سرنديب)، الذين قاموا بدَوْرٍ مناقض، هو الكيد لصادق والسعي لهلاكه.

6- تسجيل أسماء الأبطال في سجلِّ الكرماء، كما حدث لأولئك النُّـبَلاء الذين قاموا بأعمال إنسانيَّة كريمة في مملكة (بابل).(5) وهذا يُشبِه في الليالي العَرَبيَّة ما كان يأمر به المَلِك من تسجيل قِصَّة البطل، أو عمله النبيل الإنساني، بماء الذهب، ليُحفَظ ذلك في خزينته، فيكون عِبرة لمن يَعتبر.

بهذا يتَّضِح أنَّ اطِّلاع (فولتير) على حكايات "ألف ليلة وليلة"، المترجمة إلى الفرنسيَّة، قد أثمر عن هذه الآثار التي بدت ملامحها في قِصَّته "صادق أو القَدَر". ما يؤكِّد أنَّ علاقته بالليالي العَرَبيَّة كانت، في حميميَّتها، تتجاوز ما قيل حول علاقته الثقافيَّة العامَّة بالشَّرق.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

..................

(1) يُنظَر: فولتير، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 105.

(2) بل صورة النصرانيِّ في اللَّيالي هي السلبيَّة. (تُنظَر، مثلًا: (اللَّيلة 345)، "حكاية (علي شار) مع (زمرد الجارية)": (1981)، ألف ليلة وليلة، (بيروت: دار التوفيق)، 4: 644.

(3) ويُنظَر: القلماوي، سهير، (1959)، ألف ليلة وليلة، (القاهرة: دار المعارف)، 164، 169.

(4) وهذا البُعد العِرقي لم يكن له ظهورٌ يُذكَر في الثقافة الشَّرقيَّة قبل الجريمة الغربيَّة في القرن العشرين باصطناع العداء، ذي الصبغة التاريخيَّة الدِّينيَّة، بين العَرَب واليهود؛ بسبب اختراع دولة احتلالٍ صهيونيَّةٍ في (فلسطين)، تكفيرًا عن جرائم الغرب ضِدِّ اليهود من جهة، واستزراعًا لوكيلٍ بديلٍ للاستعمار في (الشرق الأوسط) من جهة أخرى، ومن ثَمَّ ضرب العصفورَين اليهوديِّ والعَرَبيِّ بحجرٍ عنصريٍّ غربيٍّ واحد!

(5) يُنظَر: فولتير، 38.

 

عرضت يوم الجمعة ٣/ ٣/ ٢٠٢٣ مسرحية (محطات) للمؤلف جبار القريشي في تمام الساعة الحادية عشر صباحا، وقد اختار المخرج د. كريم خنجر بفطنة ودراية يوم الجمعة في شارع المتنبي /ساحة المركز الثقافي، ليجد الجمهور الحاضر تلقائيا بكثافة ودون دعوة ولا موعد مسبق، انه جمهور شارع المكتبات والتحف والملتقيات الثقافية، ويعد جمهورا مثاليا - بدرجة كبيرة -لأنه شامل لشرائح اجتماعية عديدة وذي توجهات متنوعة، وذلك استنادا إلى قاعدة مسرح الشارع الاساسية: المسرح يذهب إلى فضاء المتلقي بدلا أن يأتي الجمهور إلى فضاء المسرح.4925 مسرحية

للمخرج د. كريم خنجر بصمة مهمة وبارزة في أسلوب مسرح الشارع، فقد أسس لمهرجان مسرح الشارع في بغداد لدورتين، وقدم تجارب اخراجية عديدة، كان آخرها عرض مسرحية (كوكايين) التي عرضت احدى وعشرين مرة في أماكن مختلفة من العراق، وتجدر الإشارة إلى أن هذا العدد من العروض وتنوع الاماكن دلالة واضحة على أهمية ونجاح العرض.

في عرض مسرحية (كوكايين) تصدى المخرج لآفة المخدرات واليوم يحتج في عرض مسرحية (محطات) على الفساد والسرقات وتضييع أحلام الشباب، وهذا هو نهج مسرح الشارع: (تناول قضايا يعيشها المجتمع وتشكل ظاهرة يعاني من انعكاساتها) من هنا جاء البحث عن فضاء مغاير متوافق مع البحث عن أسلوب جديد للتواصل مع الجمهور بحسب ما يمليه الموضوع والحدث والفكرة والشخصيات وكان خير فضاء لهذا العرض هو أي فضاء يتواجد فيه الناس الذين يعنيهم موضوع العرض.

تحصل المؤلف جبار القريشي على فكرة العرض من خلال الغوص في عمق المجتمع وتأمل الواقع وصاغها دراميا ثم قدمها إلى المخرج كريم خنجر كمادة خام ليستخرج مكنوناتها والعديد من المشتقات اليسيرة التقبل والفهم، كتب المؤلف بعض المقاطع شعرا وبعضها جمل مسجوعة لينقل إلى المتلقي (حالات إنسانية) ذات مضامين عميقة أكثر مما هي (أحداث درامية)4926 مسرحية

اشتغل عرض مسرحية (محطات) على وفق خصائص مسرح الشارع، ومنها:

اولا: عروض مسرح الشارع تذهب إلى الجمهور، بخلاف عروض المسرح التقليدي (الجمهور يذهب إلى بناية المسرح ليشاهد عرضًا مسرحيا)

ثانيا: توجيه الخطاب المباشر للمتلقي خاصية بارزة في عروض مسرح الشارع، بقصد إثارة تفاعل الجمهور والتحاور معه.

ثالثا: عروض مسرح الشارع غالبا ما تتجه إلى كسر البنية التقليدية الهرمية للحكاية وتأخذ الخط المستقيم لعرض حالة متأزمة اصلا يوصلها المؤلف/ المخرج للذروة الصادمة للمتلقي وينتهي بلا حلول حاسمة، إذ يترك أمر الحسم ووضع الحلول لتفكير المتلقي، وفي هذا مقاربات من نظرية المسرح الملحمي إذ تكون المشاهد عبارة عن حالة أو مجموعة حالات ترتبط بفكرة واحدة، والابتعاد -غالبا- عن البنية المسرحية التقليدية / بداية - وسط -نهاية، وجعل النهاية مفتوحة ورهينة وعي الجمهور.

بدأ عرض مسرحية (محطات) بصور شعرية تخاطب الجمهور مباشرة، وهي ذاتها ثيمة العرض الأساسية، وما أراد المخرج قوله تجلى في جملة واحدة تكررت على لسان جميع الممثلين بصورة منفردة وجماعية، الجملة هي (إصحى يا نايم) بمعنى آخر طلب العرض من الجمهور أن يستيقظ ويفكر بما يجري حوله في الواقع، وان لا يكون مغيب الوعي، واستمرت مجموعة المؤدين باستفزاز الجمهور بحوارات وافعال تؤكد ان هؤلاء الشباب (المؤدين) الذين خرجوا من بين الجمهور المحيط بمساحة العرض ليسوا سوى شريحة من مجتمع الجمهور نفسه، يرتدي المؤدين ملابس يبدو أنها قديمة أو ممزقة.4927 مسرحية

عمد المخرج إلى جعل السيادة في العرض للحركة الدائرية الانتقالية والموضعية للمؤدين بصورة فردية وجماعية لغرض تقني وهو توزيع الحوار على الجمهور الذي شكل دائرة حول مجموعة المؤدين، ولغرض فكري وهو إيضاح حالة التيه والضياع التي تعاني منها الشخصيات.

استخدمت عبوات الدخان مرتين وتسمى بالمصطلح الشعبي (بالدخانيات) بمقاربة واضحة لعبوات الغاز المسيل للدموع الذي يستخدم لتفريق حشود المتظاهرين، تفاعل احد الحاضرين والقى بضع جمل رغم ان صوته لم يعينه لتصل الكلمات لمسامع جميع الحاضرين الملتفين حول الممثلين فضلا عن الممثلين أنفسهم لم يتمتعوا بالإصغاء إليه وبالنتيجة فاتهم التفاعل معه / ربما لم يسمعوه لأنه رجل أخذت السنين منه قوة صوته الشيء الكثير، تفاعل عموم الجمهور بالهمهمة والكلمات غير الواضحة التي أعطت زخما للعرض.

ثمة حبل متين يربط الجمهور بأمرأة انضمت إلى مجموعة المؤدين الغاضبة، حبل مخضب بالدماء يأتي من الجمهور تسحبه المرأة باتجاه المجموعة، يساعدوها في سحب الحبل بكل قوة، ولكن لا أحد يستجيب لدعوة الانضمام إليهم، وأن صوتهم الذي ارتفع وقال كلمته بفضح الفساد والانتهاك بات غير مسموع.

يفاجأ المتلقي بحضور امرأة ترتدي اللون الاسود ومعها اثنان من الممرضين يحملون نقالة مرضى فارغة، وبدلا من إسعاف الجرحى الذين تساقطوا على بعضهم، تستخدم المرأة المسدس لتختم العرض بإطلاق النار على الجميع، ولتكون النهاية بصورة بصرية قاتمة جدا، إذ مَوَتَ المؤلف والمخرج جميع الشخصيات المحتجة الغاضبة ولم يدع للمتلقي محطة للتغيير وللنجاة .

سجلت الممثلات الثلاثة حضورا مميزا اكتسب جماليته من كون المرأة المحتجة واحدة بين سبعة ممثلين، ثم المرأة سحبت الحبل من دائرة الجمهور المحيطة بالعرض إلى وسط مساحة العرض،واخيرا المرأة التي أطلقت النار على مجموعة الشباب، لقد منح المخرج المرأة تركيزا في العرض من خلال قيادتها لمجمل تحولات الفعل الدرامي

واخيرا لابد التنويه إلى ضرورة دعم عروض مسرح الشارع، وتشجيع فريق د. كريم خنجر تحديدا لانهم:

- يقدمون أحداثا ساخنة وأفكارا هامة لمجمل المجتمع.

- يحرصون على اعتماد أسلوب مخاطبة الوجدان الجمعي.

- يعتمدون على لغة حوار ومكونات فضاء تتسم بالروح المحلية مما يجعل المتلقي يجد أواصر تربطه بالعرض.

اشد على ايادي فريق العرض بقيادة المخرج كريم خنجر، متمنيا عليهم التواصل والمثابرة على نهج مسرح الشارع.

***

حبيب ظاهر حبيب

هذه الرواية هي واحدة من اشهر الروايات في القرن العشرين، كتبت في عام 1998، جلبت الشهرة لكاتبها فلاديمير ماكانين (1937 – 2017)، بطل هذه الرواية هو بتروفيتش – وهو يمتلك موهبة أدبية، ولكن بسبب مبادئه التي يؤمن بها، يرفض نشر أعماله الادبية ويتلفها. لا يريد ان يكتب أي شيء آخر حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والغاء الرقابة. بدأ العديد من الكتاب في نشر أعمالهم التي جلبت لهم الشهرة، ولكن بتروفيتش يختلف عن الاخرين، فهو يريد ان يصبح مستقلاً عن المجتمع، حتى انه فقد وظيفته، الكثير نصح بتروفيتش بالذهاب الى بودموسكوفيا، حيث يبحثون عن موظف في مخزن. لقد عاش بتروفيتش في ظروف رهيبة، ولكنه تعود تدريجياً على الوضع الحرج. وفيما بعد حصل بتروفيتش على وظيفة حارس أمن في "سكن جماعي". يجد نفسه في عالم المهمشين، مهتماً حصرياً بالاحتياجات المادية، وغياب الجانب الروحي. يراقب بتروفيتش الناس وهم يسارعون إلى العمل، الناس في هذا السكن يهتمون فقط بالطعام ومشاهدة التلفاز بعد العمل، وبالتالي هو يشفق عليهم جداً. ينتقد بتروفيتش الديموقراطيين الذين ينقادون ويستسلمون الى فكرة معينة ، مثل النظام السابق. ارتبط بتروفيتش بعلاقة حب مع الشاعرة فيرونيكا، وفيما بعد اصبحت هذه الشاعرة موظفة، وانتهت علاقتهم الرومانسية. وتم طرده من " السكن الجماعي ". انتهى به المطاف في مستشفى للأمراض العقلية، ولكنه تمكن من الفرار من هذا المكان. يعود بتروفيتش إلى " السكن الجماعي "، ولكن أثناء غيابه أصبحت جميع الغرف ملكية خاصة لشخص ما، وتقريباً هذه اهم الاحداث التي تجري في الرواية .

تحدث الناقد ك. أ . ستبينيان عن اهمية هذه الرواية، قائلاً: " هي انموذج كلاسيكي للأدب الروسي ما بعد الحداثة "، استخدم الكاتب فلاديمير ماكانين في روايته هذه الكثير من الاقتباسات التي تعود الى الادب الروسي الكلاسيكي، حتى ان جزء من عنوان الرواية مأخوذ من رواية ليرمنتوف "بطل من زماننا". وقد تميزت فترة الثمانينات والتسعينات في القرن العشرين بتقليد النص الكلاسيكي، والدخول في جدل مع هذا النص او اعادة فهمه وتعتبر هذه المرحلة انتقالية في تطور الادب الروسي.

لا تزال هذه الرواية من اهم اعمال الكاتب ماكانين، صنع ماكانين من بيتروفيتش بطلاً للرواية وترك له الحرية داخل النص. بيتروفيتش ليس فقط هو الشخصية الرئيسة، بل هو النقطة المحورية في الرواية، واقع الرواية يعتمد كلياً على نظرة ووعي البطل الرئيس، تتميز الرواية بنظام معقد جداً من الصور الشبيه بالشخصيات المشهورة في الادب الروسي الكلاسيكي، ويحمل النص طابع تعقيدي وشاعري، وكذلك فيه تلميحات وذكريات التي ميزت فيه ادب ما بعد الحداثة.

هذه الرواية هي امتداد لرواية "مذكرات قبو" والتي بطلها انساناً كسولاً وخائفاً، ولكن في ذات الوقت هو مسلح بالوعي والذكاء، يفكر كثيرا، لا يجد الحب والاحترام من قبل الاخرين لانه لا يعرف كيف يتعامل مع الناس، اما بطل ماكانين موهوب جدا في مجال الادب، ينتقد ويرفض المجتمع، يفكرا كثيرا بالمجتمع الذي يحيط به. العامل المشترك بين هؤلاء الابطال هو الذكاء والوعي، وهما يفكران كثيراً، ولكنهما لا يلتقون في مسالة ما وهي ان بطل ماكانين يتقن التعامل مع الناس، اما بطل دوستويفسكي لا يتقن فن التعامل مع الناس. ومن الرسائل المهمة  ايضاً التي ارسلها الكاتب ماكانين في هذه الرواية هي ظهور طبقة رجال الاعمال وامتلاكهم للمجتمع الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

واخيرا، هذا العمل يعد نقطة تحول في تاريخ الادب الروسي الحديث، لانه سلط الضوء على مرحلة حرجة في تاريخ روسيا المعاصر، وجعل من بتروفيتش بطلا لهذا الزمان وانعكاس لروسيا المغمورة في التحولات الأيديولوجية.

***

حسين علي خضير

الإستشراف مصطلح يحمل دلالة التوقع المضمرة ويصل نفسه بالمستقبل من كل شئ. ويقول فيه عبد الرحمن العكيمي في كتابه الإستشراف في النص" فالإستشراف قفزة فوق المسلمات السائدة، قفزة تكشفها رؤيا الأديب الفنان وترصدها قبل وقوعها لتسكب ضوءا فوق جسد الأحداث والتحولات". فالكاتب يستشرف القادم متجاوزا الزمن محاولا بلوغ المستقبل. والرواية هي أكثر أبواب الأدب قربا من الزمن بل نستطيع القول أنها هي الزمن ذاته لأنها الأقرب إلى حياتنا. لذلك كانت موضوعا للروائيين لاستشراف المستقبل. ويشكل الزمن في الرواية رؤيا وموقف من العالم وهو ليس مجرد وسيلة يبث الكاتب عبرها الحدث وهذا ما يميز الرواية عن غيرها. والزمن فيها منفتح على المستقبل كما يرى باختين وهو الإنفتاح المستقبلي الذي سيقوم الروائي برصده في نصه.

ولأن الشخصية هي التي تحمل الرؤية المستقبلية فقد تميزت بمكانة خاصة حيث نجدها في رواية د. موسى، الصادرة عن منشورات لوتس للنشر الحر/2022، تسعى إلى الفوز بعالم بديل يقوم على ما تريده متمثلة بشخصية الدكتور يوسف التي حملت قيمة جوهرية تسعى إلى تحقيقها وهي شخصية مميزة عن غيرها برؤيتها التي تتعدى المستوى الخاص الفردي إلى المستوى العام الجمعي. كما وتتميز شخصية الدكتور يوسف بأنها ذات باع معرفي والأهم مد استشرافي. وقد كان المتكأ الذي بنى عليه د. موسى مشروعه المستقبلي هو متكأ متفائل مضمونه التحام الأمة وتحرير فلسطين بعد تجاوز جميع العقبات.

وقد كان للصراع العربي_الصهيوني ضمن الرواية السواد الأعظم للأحداث فكانت أقرب لهذا التصنيف وقد أولى هذا الصنف أهمية كبرى لبناء الشخصيات حيث كانت محورا بارزا في النص. فشخصية الدكتور يوسف الوفي لوطنه مصر ولفلسطين وللإنسانية جمعاء تُعد رمزا للعربي المسلم الذي يخدم الأمة والقضية ويتضح هذا عندما طلب من العميد نشأت سفرا آمنا إلى غزة تلبية لطلب صديقه هشام النحال ص53 على لسان العميد( فقد صدرت الأوامر أن لا تدخل غزة باسمك وشكلك حفاظا على أمنك) ويترجم هذا الطلب بفعل ص56 عند ذهابه إلى غزة(ترجلنا وعبرنا البوابة الحديدية وهناك وجدته، هشام واقفا فاتحا ذراعيه عن آخرهما). كما وترجمت أقواله عندما شارك بأفكاره وعلمه كطبيب وعالم عندما اكتشف مضادا للفيروس الذي حُقن به القائد محمد الجعبري وستم نشره في غزة من قبل دولة الإحتلال.

وإذا قارنا شخصية الدكتور يوسف وما قاله وفعله وفكر به بشخصية الصهيوني الباحث إيهود هس الذي طلب الانضمام إلى فريق الدكتور يوسف في ماساتشوسيتش وفي نيته خدمة دولته الصهيونية وقد ترجم هذا الطلب بعد الموافقة على انضمامه إلى أفعال ففي ص189 على لسان الدكتور يوسف لستيفن عن إيهود( أؤمن بذلك وكل ما أتوقعه منه أن يكون ولاءه للعلم والبلد الذي يحيا به). وبالفعل فقد ترجم إيهود أفكاره لخدمة دولته عن طريق مراقبة الدكتور يوسف ففي ص197 على لسان السارد (غادر ستيفن المختبر وقد تأكد أن دكتور يوسف قد أصبح تحت رقابة منظمة أو مؤسسة تتبع الجيتو الكبير وما إيهود هس إلا عينهم في ماساتشوسيتش وقد يكون يدهم أيضا). وقد تأكد هذا عندما أخبر الدكتور يوسف ستيفن بأن هناك من حاول فتح الحاسب الخاص به والتفتيش في ملفاته ص240.

ومن هذه المقارنة أمكن التمييز بين رؤيتين مستقبليتين الأولى تخص الدكتور العربي المسلم يوسف قوامها الحفاظ على المقاومة في غزة من حرب بيولوجية بشتى الطرق الأخلاقية والإنسانية والرؤية الثانية تخص إيهود هس قوامها الحفاظ على دولة الإحتلال بشتى الطرق اللاأخلاقية.

وقد صور الكاتب التطلعات العربية ملحقة بالدكتور يوسف أما التطلعات الفلسطينية فقد طرحها لنا من خلال نموذج المرأة الفلسطينية المقاومة وتتمثل بالدكتورة سلوان زوجة الدكتور يوسف وهي فلسطينية أمريكية أستاذة في هندسة الطيران والفضاء الجوي في جامعة هارفارد وقد اتضح دورها عند الحديث عن تطوير صواريخ من قبل علماء وفلسطينيون ومسلمون وغير مسلمون ما جاء على لسان القائد نوفل للقائد أبي هيثم ص 187عن سلوان (ما أريد أن تعلمه بصفة سرية أن إحداهما زوجته دكتورة سلوان وهي من طورت طلاء الصواريخ والطائرات). وهنا يبرز دورها النضالي ومساهمتها في صناعة الأحداث وقد اتخذت من سلم المواقف موضعا طليعيا يكفل لها مكانة تاريخية مرموقة والمستقبل الذي أرادته واستشرفته صنعها قبل أن تصنعه.

أما تطلعات العودة فقد تمثلت بزينب والدة الدكتور هشام النحال. فقد مثلت كل نازح يحلم بالعودة إلى مسقط رأسه وقد عبرت عن ذلك من خلال حديثها الذي وجهته للدكتور يوسف حينما زارهم في غزة ص62 على لسان يوسف( جلست الخالة زينب بجواري وأمسكت بيدي وهمست، هذا أكل العباسية علمتني أمي طبخه حتى بعدما غادرناها وما زلنا نأمل في العودة لها). فزينب امتدادا لمن سبقها باقية على دينهم في العودة وطلب الأرض. أما بالنسبة للجيل الصاعد المناضل فقد وظف الكاتب الأطفال في نصه توظيفا رمزيا، هدف منه الكاتب إلى تصوير المستقبل واستشرافه انطلاقا من حاضر تشكل من أقوال وأفكار وأفعال هذا الطفل، فحداثة سنه تجعل منه رمزا للجيل القادم فكان أحمد وفاطمة قد أدوا دورا رمزيا، إلا أن أكثرها إحالة إلى المستقبل كان من خلال موقفها المناهض للإحتلال هو الطفل داوود من مخيم جنين حيث انخرط في العمل المقاوم فكان الحجر سلاحه بوعي مستقبلي يهدف إلى طرد المحتل واسترداد الأرض ونجد هذا ص214 ما جاء على لسان السارد عن داوود(نظر حوله يبحث عن حجر لا يعرف لماذا رفع رأسه، جاءت عينيه في عيني الجندي يصوب البندقية باتجاهه، كان الجندي يبتسم له، كان يحاول أن يحكم قبضته حول الحجر الكبير حتى لا ينفلت منه. سقط داوود وعلى وجهه نصف ابتسامة). مشهد يلخص موقف الجيل الصاعد تجاه الاحتلال وتمسكه بالدفاع عن أرضه حتى لو كان السلاح حجرا أهدته له أرضه. ويتضح لنا الموقف المتبنى من هذا الجيل قد جاء بعد قراءة متفحصة للواقع ووعي أحاط بجوانب القضية الفلسطينية ماضيا وحاضرا. وردود الفعل الصهيوني القاتلة للمقاومة في القطاعات غير المستسلمة قائمة مثل زيتونة ضاربة جذورها عميقا في بطن أمها الأرض لم تسقط يوما هذا وغيره جعل التوجه إلى المستقبل تحقيقا للممكن حقا مشروعا ينتصر في النهاية.

أما تطلعات المحتل فقد جاءت بتحصين دولتهم المزمعة بجميع الوسائل بهدف قتل وتدمير المقاومة وجاءت في رواية د. عصام موسى عن طريق تصنيع الفيروسات القاتلة ونشرها في أماكن المقاومة واستخدام طيور بريئة مثل النوارس كوسيلة لنشر الفيروس ويتضح هذا ممن خلال ما جاء ص186(لم نجد إلا عدة مئات من طائر النورس وللعلم هذه الكمية كافية لتدمر غزة وشرق مصر على أقل تقدير). ومن هنا نجد أن كل ما فعلته الشخصية الصهيونية في الرواية كان محكوما بفكرة مستقبلية هي تثبيت الدولة والمحافظة عليها من الانهيار والزوال وضمان عمر هذا الكيان. ما استوجب عليهم الإقدام على صناعة مستقبلية وأن الحفاظ على مكاسبها بأية طريقة كانت هدفا لا تراجع عنه.

وأخيرا نستطيع القول بأن الإستشراف في رواية فلسطين 2032 تجلى على شكل نبوءة تتمثل في تحرير فلسطين ودحر اليهود، رواية تنظر للمستقبل لرفض الواقع واقع العرب وتطبيع أغلبهم مع دولة المحتل لقد بحث د. عصام عن واقع أفضل وأكثر كرامة كما مهد لعصر جديد تنتفي فيه القطبية الواحدة التي تتربع على عرشها الولايات المتحدة فبعد جائحة كورونا تعددت القطبيات حين ظهرت دول أخرى تنافسها مثل الصين وإيران وتركيا وروسيا وهذا سينعكس على وجود دولة الاحتلال فهي لم تعد دولة الجيش الذي لا يقهر.

كما أن د. عصام يميل في الرواية إلى نظريات المؤامرة وعمليات تصنيع الفيروسات كبداية لحرب بيولوجية. رواية مثل هذه التي بين أيدينا لعل من أهدافها وصف المستقبل لشد انتباهنا للحاضر كما أننا نستطيع التقاط تنبؤات تحذيرية مثل تلك الفيروسات المصنعة التي سيكون مصدرها دولة الإحتلال.

***

قراءة: بديعة النعيمي

الحبكة السردية في صياغتها الفنية وتكوين نسيج رسالتها الفكرية الدالة، تمتلك حضوراً واقعياً بقوة على امتداد الزمن. الذي صبغ بلون الإرهاب السياسي والفكري. واقع مجحف في ابسط حقوق الانسان في شرعيته في حق الحياة، واقع مصادرة حرية الرأي والتعبير، واغتياله بالقوى الباطشة، هذه هي سلطة البعث، وتعتبر الحرية من الجرائم الكبرى تؤدي بصاحبها الى الموت في زنازين التعذيب الوحشي. رسالة السرد تغطي نهج ممارسات سلطة البعث في البطش والتنكيل بشكل واسع،بوضع المواطن في دائرة الضوء الضيقة، حتى تحسب خفقان نبضاته، ومراقب من كل الزوايا بمراقبة أمنية صارمة من الاجهزة القمعية الباطشة، وببساطة جداً أن تضيع حياة الانسان في دهاليز مراكز الأمن، دون سؤال وجواب، هكذا كانت سلطة البعث في تسلطها على العراق، جثم على صدور الناس بالمعاناة والتسلط الطاغي بطغيانه، وانتهج طريق شن الحروب الخارجية، الحرب ضد ايران، وشن الحروب الداخلية ضد الرأي المعارض لسياسته الوحشية، مثلما تدفع الانسان إلى الموت في جبهات الحرب، هي ايضاً تدفع الى الموت في سجونه الامنية، بمحاكمات صورية سريعة، حتى لا تعطي مجالاً ان يفتح المتهم فمه حتى لو ينطق بحرف واحد. لذلك الحدث السردي لهذه الأحداث، يلعب بها خميرة مخزون الذاكرة، او نتاج استرجاع الذاكرة، التي فاضت بهذا بهذا الكيل الطافح بالظروف المتشددة في قسوتها في ترهيب ورعب المواطن، هي محاولة في الإيغال بتلك الأحداث المنصرمة، بأحساس وجداني صادق على تلك المرحلة البغيضة، ليضع القارئ أو المتلقي في مشاهد حية مروعة من الممارسات الهجينة، في درامايتها وفعلها المتحرك بالوصف والتصوير والحوار، في حضور مؤثر في المعاني والدلالات البليغة. والتي تدل على فداحة كارثة الهوس المجنون بالتمسك بكرسي العرش. هذا في الجانب السياسي، ولكنه هناك شقاً في الجانب السياسي ايضاً، وهو جانب الرفض والتمرد على البطش والتنكيل وعدم الاستسلام ورفع الراية البيضاء، حتى في حمل السلاح في وجه سلطة البعث، أي المقاومة الانصارية المسلحة في جبال كردستان. شباب حمل حب العراق وهو يحمل الأمل الوطني حتى بالتضحية ومد يد العون والمساعدة للقرى التي تحيط ربايا الأنصار، حتى نالوا الثقة واحترام القرويين، في السلوك الانساني النزيه، والحاضر في كل شدة وعسر، وكذلك تناولت المجموعة القصصية (حزن في نافذة الفجر) التي تضم 26 قصة قصيرة جوانب متفرقة من الحياة والواقع. منها الواقع الاجتماعي للطبقة الفقيرة، المعدمة والمسحوقة التي تقع في سهولة براثن الاستغلال وخاصة المرأة الفقيرة التي تكافح من أجل توفير رغيف الخبز لعائلتها، لكنها في بعض الأحيان تقع في حبائل المكر والخداع، الذي ينتهي الامر بها بالاغتصاب وفقدان العذرية، عندها تدفع الثمن الباهظ من جانب عائلتها حفاظاً على الشرف، بغسل العار، تذبح من الوريد الى الوريد. وكذلك تطرقت المجموعة الى مشاكل الغربة والاغتراب والضائقة المالية والاقتصادية، تجعل المغترب لا يستطع تقديم المساعد الى منْ هو بأمس الحاجة القصوى إليها، يجد نفسه مشلولاً للمعاناة الشاقة، وكذلك مواضيع متفرقة آخرى.

- عينات من القصص القصيرة:4915 كفاح الزهاوي

1 - قصة (حزن في نافذة الفجر):

وهي تحمل عنوان المجموعة القصصية، يشير حدثها السردي الى امعان سلطة البعث في نهج الإرهاب والبطش في المعارضة السياسية من أجل ابادتها وشطبها من الخريطة السياسية في العراق. فقد اطلق نظام البعث العنان الى اجهزته الامنية والقمعية، أن تجر أي مواطن الى السجون والمعتقلات على أي شبهة بعدم الانصياع للحزب والسلطة، أو يرفض الايديولوجية الفاشية، فيضع حياته في خطر السجن والتعذيب الوحشي ضده، وتنزع منه انسانيته لجعله آلة جامدة صماء، وأن يكون دمية ببغاوية تعظيم وتمجيد قائد الضرورة. وأما ان يرسل الى القبر، مثل حادثة (حاذق) لم يسلم الى أمه إلا جثة هامدة مع التحذير الشديد بعدم اقامة مراسيم العزاء والبكاء، والام في حالة الصدمة المروعة امام جثة فلذة كبدها، تلك اساليب الأيديولوجية الفاشية (دخلت الى حجرة خانقة ذات ألوان متنافرة تفوح تفوح منها روائح كريهة، واذا بها أمام جثة هامدة صامتة، لقد جرى اعدام حاذق شنقاً بعد أن صدرت به حكم الإعدام في محكمة صورية سرية، سميت محكمة الثورة سيئة الصيت) ص9.

2 - قصة (على أطراف نهر بردى):

مغترب عراقي في سوريا يتسكع في الطرقات يبحث عن فرصة عمل، وهو يمر في أزمة اقتصادية صعبة، يعاني ضنك الحياة الشاقة، ويشعر بالضياع بعد اضطر للظروف الصعبة للوطن أن يأخذ طريق الهجرة، وخلال تجواله صادف امرأة في مقتبل العمر، تسأل عن الحافلات التي تصل الى دمشق، لكي تصل الى العنوان المكتوب في الورقة، عن رجل (ابو راوية) لكي يساهم في انجاز معاملة التقاعد زوجها الطيار، الذي توفي في تحطم طائرته التدريبية اثناء التدريب، وترك لها طفل دون معين، واوصلها الى مكان عنوان الرجل، ولكن عندما سألت عنه، كان الجواب لا يعرفه احداً ولم يسمعوا باسمه، وقعت في ورطة، بأنها لاتعرف احداً لتبيت ليلتها وتواصل البحث عن الرجل المذكور صباحاً (- أنت كنت رائعاً معي طول الوقت، كان لدي شعور جميل أنك انسان طيب وتحب الخير، وهذا الموقف خير مثال على ذلك، لدي سؤال قد يكون صعب عليَّ كأمرأة طرحه، هل يمكنني قضاء الليلة معك في منزلك ؟ قالت الجملة الاخيرة بصوت خفيض.

ثم أردفت قائلة لتفادي سوء الفهم.

-عفوا، لحين يوم غد، لا عرف احداً في دمشق سوى ابا راوية.

أجاب عادل بلهجة عبرت عن آسف.

- شكراً على اطرائك وانتِ ايضاً كنتِ رائعة جداً، ولكن مع الأسف أنا اعيش مع أربعة آخرين في الدار) ص27. وذهب كل منهما الى حال سبيله، في الاتجاه المعاكس.

3 - قصة (أنصار يرتقون):

تسرد أحداث حياة الجبل الصعبة والشاقة للشباب الذين تطوعوا في حمل السلاح ضد السلطة البعثية الطاغية، ضمن فرق حركة الانصار. وهم يخاطرون بحياتهم من سياسية التدمير والتجويع، وتجنيد المرتزقة (الجحوش) في المطاردة والقتال والتصيد الأنصار اينما كانوا، رغم هذه الظروف الشاقة، فأنهم يمتلكون روح المعنويات العالية ومواصلة التحدي والصمود والمقاومة، ويقدمون بامكانياتهم البسيطة كل الدعم والمساعدة والنجدة في حالات طارئة الى القرويين في محيطهم، وجعلوهم سوراً يحميهم من الجحوش، بأخلاقهم العالية.

4 - قصة (شارع 52):

 يدل الحدث السردي بأن حياة المواطن في خطر، في نهج الإرهاب والبطش، الذي أصبح عقيدة ومذهب وايديولوجية لسلطة البعث الحاكم آنذاك. فيتم الاعتقال وحتى إطلاق الرصاص في الشوارع من قبل اجهزة النظام الامنية. و(حكمت) خرج في الليل لحاجة احتاجتها عائلته. ولكن طال الانتظار ولم يعد الى بيته، ولم يتعود على التأخير ابداً، بدأ القلق ينهش هواجس زوجته طوال الليل حتى شروق شمس الصباح، ولم تعد تسمع بكاء طفلها في الليل ولم تذق طعم النوم مطلقاً، وبدأ الأمل يفقد بعد السؤال والتفتيش في دوائر الصحية وحتى مراكز الشرطة، والطب العدلي تفتش بين الجثث، لانها كما تواردت لها الاخبار، بسماع في الليل أو ليلة غياب (حكمت) اطلاق نار في شارع 52 في بغداد. وظلت سنوات طويلة خمسة وعشرين سنة تنتظر عودته، وبعد هذا التاريخ اصبح طفلها بعمر خمسة عشرين عاماً. في احد الايام وهي تتطلع الى سماع اخبار التلفاز عن اكتشاف مقبرة جماعية في احدى ضواحي بغداد في شارع 52، عن كشف مقبرة جماعية والتعرف على هوية المغدورين ومنهم الشاب المغدور (حكمت نوري الراوي) وعمره 25 عاماً، تجمد الدم في شرايينها، أنه زوجها المغدور.

5 - قصة (وريث الجن):

 الحياة كفاح صعب وشاق وخاصة للشرائح الفقيرة المعدومة والمسحوقة، التي هي منسية من السماء والأرض، بالحرمان والظلم. لكن دون خنوع واستسلام كما في حالة الشاب (صارم) انهى دراسته الاعدادية بالمعاناة لكن بروح التحدي والصمود يمتلئ عقله، رغم أنه شاب موهوب في الرسم وهو مصدر رزقه يعتاش عليه في قوته اليومي، ولم يتهاون في البحث عن عمل، ويسكن بيت مهجور، ووحيداً ليس له سنداً ومعيناً، وبعد البحث وجد فرصة العمل والسكن، وبدأ وضعه المالي يتحسن تدريجياً وبعد مرور أكثر من عام، اشتاق الى قريته وبيته المهجور. وحين وصل الى البيت المهجور، وجد تزاحم الناس حول جثة فتاة ملطخة بالدماء. سأل عن سبب جريمة القتل، وتبين له من حديث الناس، بأن الجثة المذبوحة تعود لفتاة فقيرة تبيع الخضار. ووقعت ضحية الخداع والمكر من احد المشترين، خدعها بدفع المال، وطلب منها أن تحمل الخضروات الى الباخرة، وتطوعت بسذاجة وطيبة، ولكن كانت نية الرجل دنيئة وسافلة، اخذها الى طريق مهجور وهناك ارتكب جريمة الاغتصاب وفقدان العذرية (- كانت ضحية الفقر والجهل.. كانت تعمل في الميناء وتبيع ما تنتجه العائلة من زراعة كالبطاطا والجزر وبعض الخضار، وفي أحد الأيام عندما وصلت الباخرة الى الميناء نزل رجل وهو من أفراد الطاقم وتوجه الى المكان، الذي اعتادت ان تقف فيه، وطلب منها شراء جميع المواد، ودفع لها ايضاً مبلغاً مغرياً.

وصاحبه يتألم بصمت وهو يصغي السمع الى كلماته واردف قائلاً.

رددت الفتاة الشابة:

- لكن هذا المبلغ كبير

 أجابها الرجل:

- لا عليك فأنتِ ستساعدني في حملها داخل الباخرة، وسيتم أخذ المبلغ في الاعتبار مقابل عملكِ) ص91. وهناك ارتكب جريمة الاغتصاب الدنيئة، ونقلت الى المستشفى، وادعى الرجل السافل بأنها جاءت برغبتها وبالمال المدفوع، مقابل عمله الفاحش واطلق سراحه. وكان نصيب الفتاة المسكينة الذبح من قبل اهلها، بذريعة غسلاً للعار.

× الكتاب: مجموعة قصصية / حزن في نافذة الفجر

× الكاتب: كفاح الزهاوي

× تاريخ الطبعة الأولى: عام 2023

× عدد الصفحات: 136 صفحة

***

 جمعة عبدالله

ذكرنا في المقالات السابقة أنَّ قِصَّة "السندباد البحري" قد وُجِدت مُستقِلَّة أوَّل الأمر عن قصص "ألف ليلة وليلة".  وربما كانت هي أوَّل ما قرأه الفرنسيُّون من قصص الليالي.  وإذا كان (فولتير Voltaire، -1787) قد قرأ الليالي، فمن باب أُولَى أنَّه قد أَلَمَّ بتلك القِصَّة، ونالت منه اهتمامًا، قد يكون أكبر من اهتمامه بالقصص الأخرى.

وستَجِد آثارًا من ذلك الاهتمام، أو الاطِّلاع على الأقل، في قِصَّة (فولتير): "صادق أو القَدَر Zadig Ou La Destinnée ".(1)  إذ يبدو (صادق)، الفتَى البابليُّ، شبيهًا إلى حدٍّ ما بـ"السندباد البحري"، الفتى البَصْري؛ فكلاهما يولد غنيًّا مرفَّهًا، يطمع في حياةٍ هانئةٍ سعيدة، ثمَّ تضطرُّه الظروف القَدَريَّة في فترةٍ من الفترات إلى الترحُّل.  وإذا كان (السندباد البحري) قد رحل سبع رحلات في البحر، فقد رحل صادق كذلك سبع رحلات في البرِّ: كانت الأُولى إلى (مِصْر)، والثانية إلى (بلاد العَرَب)، والثالثة إلى (البَصْرة)، والرابعة إلى (سرنديب)، والخامسة إلى (سوريَّة) و(الشام)، والسادسة إلى (بابل)، وفي السابعة خرجَ من (بابل) مغاضبًا، بعد أن زَيَّف السيِّد (إيتوباد) الحقيقة، وكاد يستولي على العرش، وهي الرِّحلة التي التقَى فيها بالناسك فانتقلا في طريق عودتهما إلى بابل من مكان إلى مكان، كما بُيِّن في مقالة سابقة.

ومثلما كان (السندباد البحري) مقدَّمًا عند المَلِك (مهرجان)، وقد نصَّبه مناصب مهمَّة في دولته(2)، فقد حدث كذلك مع (صادق)، في اتصالاته بالملوك.

وقد كان (السندباد البحري) يَصِف عادات البلدان التي ينزلها، كذِكره عادة تلك البلاد التي إذا مات أحد الزوجين دُفِن صاحبه معه، وكذلك ذِكر مَلِك (السُّودان)، إلى غير ذلك من عادات الشعوب وتقاليدها ودِياناتها.  ومثله فعل (صادق)؛ فقد وصفَ عادات بلاد العَرَب، ودِيانتها، وطريقة الحُكم فيها، وكذا في زيارته إلى (سرنديب).

وهناك شَبَهٌ كبيرٌ بين ما يَصِفه (السندباد البحري) من أنَّ أهل (جزيرة حَبِّ الفُلفُل) كانوا إذا مات الزوج أو الزوجة دُفِن الآخَر معه، وبين ما يزعمه (صادق) من أنَّ أهل جزيرة العَرَب كانوا إذا مات الزوج أحرقوا امرأته على أثره.(3)  إلَّا أنَّ الفرق بين النَّصَّين يتبدَّى من أنَّ موقف السندباد كان سلبيًّا جِدًّا حيال هذه العادة، بالرغم من أنَّه قد اكتوى بنارها هو نفسه؛ حيث إنَّه تزوَّج من تلك الجزيرة وماتت امرأته، وكانت هذه العادة المتوارثة تقضي بدفنه معها، مع أنَّه ليس من أهل الجزيرة.  فاكتفى بالعويل والصياح، وظلَّ في القبر حيًّا؛ لأنَّ القبر كان جُبًّا واسعًا يسمح بالحركة والأكل والشُّرب.  والأغرب أنَّه كان كلَّما أنزلوا ميتًا إلى ذاك القبر الجماعي ومعه آخَر حيٌّ، قتلَ الحيَّ وأخذَ زاده وشرابه الذي كان يُزَوَّد به.  وهذا يُضعِف تعاطف القارئ مع البطل، الذي تحوَّل إلى وحشٍ جبان، بلا مشاعِر، حتَّى مع الضحايا أمثاله.  وربما كان يتوقَّع القارئ، مثلًا، أن يتعاون السندباد مع الحيِّ الذي أُنزِل إليه، وبخاصَّة أنَّ أوَّل من أُنزِل إليه امرأةٌ، أُرغِمت على نزول القبر مع زوجها الميت، وهي تبكي وتصيح.  فجاء السندباد وقتلَها ليستولي على ما عندها من الطعام.  وهكذا كان يفعل مع بقيَّة من أُنزِلوا إليه، حتى استطاع أن يَنْقُبَ نَقبًا، أفضى به إلى مكانٍ بعيدٍ عن الأنظار، فهرب.(4)  أمَّا (صادق)، فكان موقفه أمام عادة تحريق النِّساء موقفًا إيجابيًّا نبيلًا، بَدْأً من التقرُّب إلى الأرملة (المُنَى) وإغرائها بالحياة وتنفيرها من هذا الغرور الأحمق، حتى إنها عرضت عليه الزواج بها أخيرًا. وانتهى الأمر إلى أنَّه أقنع التاجر العَرَبيَّ (سيتوك) بترك تلك العادة، بل انتهى الأمر إلى اقتلاع هذه العادة من جذورها في بلاد العَرَب، كما تحكي القِصَّة.  وفي هذا فارقٌ قيميٌّ حضاريٌّ بين الكاتبَين والثقافتَين اللتَين ينتمي إليهما النصَّان؛ فلئن تأثَّر (فولتير) بالليالي العربيَّة، فلقد أضاء فيها هاهنا بعض دياجيها البدائيَّة، ليتحوَّل النصُّ بين يدَيه من نصٍّ لا يرى في الحكاية أكثر من وظيفة الإمتاع والإدهاش إلى نصٍّ يحاول إلى ذلك أن يُضمِّن سرديَّته رسالةً إنسانيَّة، حول الاضطلاع بالمسؤوليَّة في الإصلاح والتغيير والتنوير.

وفي مقال الأسبوع المقبل نفصِّل القول في الملامح المشتركة والأساليب المتقابلة الأخرى بين قِصَّة (فولتير) و"ألف ليلة وليلة".

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

......................

(1)  (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين).

(2)  يُنظَر(1981)، ألف ليلة وليلة، (بيروت: دار التوفيق)،4: 881.

(3)  وقد تقدَّم القول في مقال سابق: إنَّ هٰذه العادة البراهميَّة الهنديَّة لم تُعرَف في عادات العَرَب، وإنَّما عُرِف أنَّ بعض أجلافهم كانوا يئدون بناتهم خشيةَ الإملاق أو العار.

(4)  يُنظَر: ألف ليلة وليلة، 4: 897- 906. 

 

 

شاعر غزير الإنتاج، له ثمانية وعشرون كتابا في الشعر والسياسة والصحافة والمذكرات والدراسات الأدبية باللغتين العربية والكردية، وكأني اكتشفه للمرة الاولى وأنا أتنقل بين نصوص مجموعته الشعرية (قصائدي) التي هي من إصدارات مكتبة زيان في السليمانية (٢٠٢٢).. مجموعة تعج بالصور والرؤى المتقدة، وتحتشد الرموز بين سطَورها الناضحة بالمفردات الصوفية أوالملتصقة بالارض وكأننا نجوس في عالم مولانا جلال الدين الرومي وشمس التبريزي والرهط الصوفي .. مخيلة حية ونابضة بالعشق الإلهي، وبالبحث عن الذات الانسانية وأسرار الوجود الفاني، إنه الشاعر والصحفي عبدالله عباس:

وإذا تحركتِ تتوجه عينيكِ .. الى عيني

فأن وجودي في روحكِ

فقط أنت تفهمينه: کیف هب؟

كيف تروين عطشه؟

كيف، انت وانا كلينا،

روح واحدة وسماء واحدة وغيم واحد،

ومطر واحد؟

هبة للعشق من الله ....

ورغم إنني أقرأ للشاعر منذ سنوات مديدة إلاّ انني لم اتوقف عند تداعياته الصوفية، ربما لأنه كشف عن نهجه في وقت متأخر، لكن الإقرار بدرايته الفذة بتوظيف الفكرة والمفردة تبرهن على باعه الطويل في هذا المضمار، فالحلم الذي يقود الى الأعلى والإنصهار في أتون العشق، وإنغمار الكون بالنور الإلهي، وقلبه الذي يستحيل الى فراشة لا تكل عن الدوران حول النار المتقدة حد الإحتراق، واليقين الذي لا يتزعزع ويتقد في اعماقه، كلها تشكل لب حواسه لرؤية العالم من حوله، وإكتشاف الاسرار الربانية في الكون في خضم الحياة والموت، والعقل والروح والقلب، وهي بلا شك تجربة مغايرة إلاّ أنها تلهم شعره بدلالات صوفية غنية كالخوف والطمأنينة والصخب والسكون والإنس والحق والجمال، دلالات معجونة بلهفة الوصل مع الحبيبة الأثيرة على الفؤاد:

روحك قنديل مشتعل َ..

عندما تلتقي بحبيبة قلبك

لا تسمح بغير نور الهدوء أن يقترب من إحساسك..

لا تنتظر من أحد أن يحمل هدوء حزنك.

عندما تشتعل روحك تصبح في حالة الذكر،

تنفذ كل حواجز الظلام..

ويقع الكون كله

ويمضي الشاعر في تجليه نحو السماء بعزم لا يلين. انه لا يبالي بتبعات هذا الاختيار في التنصل من إضطراب عالمه المادي، مرتقيا سلم السمو، ومتجرعاَ سطوة الوجع الرهيب لكي يتحول الحلم الى حقيقة مطلقة:

أما كنت انت صاحب الحلم

لبناء مدرج من بيتك باتجاه مصدرالشمس؟

تاتي الايام وتمر

يغطيك ظل حلمك

ويتحول مستقيم الدرج للصعود

إلى مسمار مغروس في قلبك. !!

استلهام آيات القران الكريم

ولا ينفرد عبدالله عباس في إقتباس صياغات من القران الكريم بإعتباره رافداَ مهماَ من روافد الشعر العربي الحديث والمعاصر، فقبله ومعه لا يكاد يخلو خطاب شعري حداثي من استعارة الأيات القرانية أو مضامين دينية مختلفة في مسعى لتوظيف لغة جديدة غير مستهلكة في متن القصيدة، كذلك قدرة هذا الخطاب الفريد على تجسيد المعاناة والاحساس الشفيف وتضمينه معانٍ رفيعة من الوحي الالهي. فمن سورة الكهف يقتبس شاعرنا من الآية الكريمة (ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين..). منفتحاَ على عالم جديد يتوائَم مع معطيات الطبيعة، وينبض بالعطاء الإنساني والنخوة والبذل النبيل:

واتبع السبب..

باب مفتوح على مدى الكون

ورغبة، عاصفة إلهية

من الروح ... الى الروح

ليختلط بالثلج و المطر ونسمة الريح

ثم أتبع السبب ! ..

وفي المسار ذاته يورد الشاعرالآية الكريمة (وخلق الجان من مارج من نار) مستلهما من الشعلة الساطعة ذات اللهب المشع إبتلاء إنسان بما يحيط به من النفاق الاجتماعي، ويعمق مشاعر الحزن في داخله:

يبكي العشاق، في هذا الزمن الرديء

المختفي في ثوب فضاض ملون كذباً

بالعشق العصري ! ...

وخلفه يتحرك صديق مخلوق

(من مارج من نار)

ولكن مآل هذا الاختبار العسير سيتمخض عن مراجعة الذات واليقين بحتمية التغيير وبالتبشير بجمال الطبيعة والاسى لما ينتظرالمتخلفين عن ركب العشق المقدس:

دون ارادة منا سنعود مرة اخرى

الى ظلال الشجرة المباركة

ونجلس على العشب الاخضر

كيفما يتغير الزمن وباي اتجاه

سيحدث هذا…

اسفا للذين خسروا السماء مبكراً

دون ان يتذوقوا العشق

ولا يكتفِ الشاعر بنبوءة العودة الى ظلال الشجرة المباركة فحسب وإنما يستلهم من عبير استذكار صورة أمه.. وتجلياتها العفوية المضمخة بالتوق الى السمو والرفعة الروحانية، أمه تلك المرأة التي (كانت نسمة جبلية منعشة، وضوءا تنير ليالي قريتها النائية شهربازار وتنوء تحت جَلَد الصبرالمرّ وتتضرع لله ان يهب ابنها أسرار العارفين والدراويش):

وفي صبر جميل ومر …

كانت أخت ايوب !

كانت صوفية قد ملأ قلبها نورالله

وقبل الذهاب إلى الفناء ... كان دعاءها من (المولى)

(أن لاترى موتك .. وتسمع شهرتك)

وترجو ان يهب لك لغة خاصة

كأنها تعلم…

سيأتي يوم تكون أيضاً درويشاَ للهموم

مضيئا بالحب المبارك.

في الرحلة العسيرة والشائكة في عالم الزهد واليقين، تنتشلنا نصوص المجموعة من ادران الارض وإفرازاتها المظلمة الى عالم السماء المشرق حيث فيوض الرجاء والرضا الرباني والأمان والسكينة المفتقدة، متوائمة مع مقولة شاعر داغستان الخالد رسول حمزاتوف التي تزين مقدمتها بأن (الشعراء ليسوا طيورا مهاجرة، والشعر دون التربة الأم شجرة بلا جذور، وطائر بلا عش) وهذا ما سعى اليه شاعرنا الكبير عبدالله عباس .

كلما حدقت بشغف الى وجهك

تتساقط علامات الشيخوخة من وجهي ! ..

وتعود روحي الى حديقة خضراء

العاشق الصادق هو من

(يواجه الله بقلب سليم).

***

محمد حسين الداغستاني

كثيرا ما نسمع بتصنيفات مثل: الأدب النسائي، أدب الطفل، أدب الشباب، الأدب السياسي، الأدب الإسلامي، الأدب الاشتراكي، الأدب الملتزم، أدب السجون، أدب المقاومة، الأدب العمالي، الأدب الصهيوني....

ومنشأ هذه التصنيفات جامعي مرتبط بالبحث الأكاديمي، وهو بالتالي عبارة عن مفاهيم إجرائية، تمليها طبيعة الموضوع وضرورة حصره وتحديده، لضبط دراسته أكاديميا، لكنها تحولت مع الزمن إلى مفاهيم ثابتة معيارية، يقاس بها الأدب، ويخضع في ضوئها للتمييز والتنميط.

وتصبح بعض هذه التصنيفات مضلِّلة، عندما تُغرَق في الإديولوجيا، إذ تبتعد كثيرا عن العلم والموضوعية، مثل الأدب النسائي وهو مفهوم تمييزي، ينطوي على خلفية ذكورية، ويكرس الميز بين نصفي المجتمع، فيمكن الحديث عن النسوية في الأدب سواء أكان رجاليا أو نسائيا، دون التمييز بين أدب للرجال وأدب للنساء، كذلك الشأن بالنسبة لما يسمى بالأدب الإسلامي، أو الأدب الاشتراكي، أو الأدب السياسي أو أدب الالتزام، وأدب الشباب... فهي مفاهيم إديولوجية مسجورة بكثير من الإبهام والالتباس.

أما أدب الطفل فهو الأدب المكتوب للأطفال، نظرا لخصوصية وحساسية مرحلة الطفولة في بناء شخصية الإنسان، وأهمية القراءة في هذا العمر من أجل تحري الدقة في الكتابة لبناء إنسان سوي، والحال أن كثيرا مما يكتب للطفل عندنا قد يكون مدمرا لنفسية الطفل وعائقا أمام نمو شخصيته وذكائه، محبطا مفرملا لجموح فكره وخياله الإبداعي، وفي الآداب الغربية يدمج أدب الطفل بأدب الناشئة في مفهوم واحد Littérature d'enfance et de jeunesse ويقصد به الأدب الموجه للأطفال والناشئة، ولذلك نفضل تسميته بأدب الطفل والناشئة.

فماذا يقصد الكُتاب والنقاد عندنا بأدب الشباب؟ ولماذا يميزونه عن أدب الطفل والناشئة؟ وإلى أي حد يمكن أن نعتبر مفهوم أدب الشباب علميا؟

ندرج مفهوم أدب الشباب ضمن التصنيفات المضلِّة، ولا نعتبره مفهوما علميا، فباستثناء مرحلة الطفولة (بين 0 و 16 سنة)، حيث التحديد العمري متحرك إلى سنوات العشرين في غالب الأحيان، فنسميه أدب الطفل والناشئة، إذ يهم مرحلة بناء الشخصية، فيُفرَدُ لها أدب خاص بها، باستثناء ذلك، لا نرى أن هناك أدب خاص بالشباب أو بالشيوخ أو بالنساء، فالأدب هو الأدب بعيدا عن معيارية التصنيفات، وليس في مفهوم أدب الشباب ما يستدعي استخدامه حتى في الدراسة الأكاديمية، نظرا لعدم دقته، ولانطوائه على ذهنية الحجر والوصاية.

يظهر الالتباس وغياب الدقة في إحالة المفهوم إلى مرحلة عمرية غير محددة تحديدا دقيقا، والأدب الناجح لا يرتبط بعمر معين، كما يشير إلى الجِدة والتجديد وروح الثورة والتمرد على الأفكار والقوانين الإبداعية السائدة، وفي نفس الآن يُلمِح هذا المفهوم إلى بداية دُربة الكتابة الأدبية والخطوات الأولى لتلمس طريق الإبداع، وهنا خلط كبير بين الشباب والناشئة، حيث عمليا يؤدي مفهوم "أدب الشباب" إلى إلحاق أدب هذه الفئة التي تمتد اليوم إلى ما بعد الخامسة والأربعين بدائرة النقص والقصور وعدم الأهلية الإبداعية، ما يعني حاجة الشباب إلى الحجر والوصاية.

 ذهنية الحجر والوصاية تتجلى في الكثير من المسلكيات السائدة في الوسط الأدبي والثقافي، يقف خلفها منظور استعلائي حيال الشباب، مستصغرٌ لقدراتهم الإبداعية، وهو في الحقيقة خوف دفين من الشباب الذي يمثل جيلا جديدا يحمل في أعماقه نزوعات جذرية، لو تبلورت في الأدب لزعزعت الكثير من قناعات ومسلمات المجتمع التقليدي القائم على الولاء لسلطة القبيلة وأعيانها وأطرها التنظيمية الممتدة في الحقل الثقافي في أرقى تمظهراته، حيث ذهنيات الشيخ والأتْباع والنقل ضد العقل وتكريس المقدس في الكتابة الأدبية من حيث هو تصورات وقوانين رثة للأدب، وعدم الاعتراف بالتّمَيُّز والاختلاف وممارسة التهميش والإقصاء، مع ضعف المنظور التنويري في الممارسة الأدبية، وطغيان نرجسية المبدع المنتفع من الوضع القائم ومن آليات إدارة الشأن الأدبي الرسمية والجمعوية، وتزايدِ خوفه من منافسة المتميزين خاصة منهم الشباب.

إننا نحتفظ بمفهوم أدب الطفل والناشئة وهو الأدب المكتوب من طرف المتخصصين من الكبار سنا لهذه الفئة، وهو أيضا ما يبدعه الأطفال والناشئة من نصوص أدبية قد تنبئ بنبوغ مبكر، ولكننا لا نجد مسوغا لقبول مفهوم "أدب الشباب"، بل يمكننا أن نزعم أن هذا المفهوم لا يعدو أن يكون صيغة مضلِّلة وضعها جيل من "شيوخ" الأدب ضد الشباب الصاعد، لوقف جموحهم الإبداعي ومنع تألقهم.

إن الأدب الجيد الناجح يكتب من طرف الشباب والكهول والشيوخ نساء ورجالا، والإبداع العميق المتطلع إلى الخلود هو الباقي وما عداه يُلقى إلى هاوية النسيان والإهمال، مهما كان عمر من كتبه، ولنا خير مثال في نماذج لا تعد ولا تحصى لا يزال أدبها خالدا وقد ولد في ريعان الشباب منهم على سبيل المثال لا الحصر طرفة بن العبد، الشابي، جبران، السياب، أحمد المجاطي، أمل دنقُل... وكم من الشباب المبدع اليوم يتألقون خارج الحدود فيما تُضرب عليهم عندنا أسوار الحجر والوصاية.

***

عبد القهار الحجاري

 

 

حين تحول مصادر الإبداع، الشعر إلى ترانيم مقدسة

1- عتبات النص / مداخل للفهم:

تقع المجموعة الشعرية الرابعة، للشاعرة بسمة المرواني "تعويذة قلب" في مائة صفحة وتحتوي على ثمان وعشرين قصيدة. وقد صدرت عن دار" يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع "، مصر، في حجم متوسط، في ديسمبر/ 2022 .

أ‌- الغلاف:

يعد الغلاف أولى العتبات لقراءة الأثر وقد إستوى كتابا إن جاذبيته بصرية بالأساس ومكوناته: صورة مع ذكر جنس الكتابة وذكر إسم المؤلف . تحتل الصورة التي توشح الكتاب أهمية بالغة لاسيما في علاقتها بعنوان المجموعة الشعرية. يحمل غلاف الكتاب صورة لإمرأة يبدو نصف وجهها الأيمن عين نجلاء وشعر يتدلى على كتفها منسابا إنسياب البحور الشعرية، يتدلى من أذنها قرط،أنف لا يظهر إلا جانبه الأيمن وفم تخرج منه زهرة تعتلي أعلى الأذن اليمنى، داخل إطار الصورة كلمة " شعر " للدلالة على جنس الكتابة التي بين دفتي الكتاب، فوق الصورة عنوان المجموعة " تعويذة قلب " وأسفل الصورة إسم صاحبة المجموعة الشعرية. في الجانب الخلفي للكتاب مقطع من قصيد " تعويذة قلب " مع صورة للشاعرة .

ب – عنوان المجموعة:

يعد العنوان عادة مدخلا مهما في قراءة المجموعة لأنه جماع النصوص والخيط الرابط بينها كخيط العقد يجمع جواهره فتنتظم النصوص المكونة للمجموعة إنتظاما يخفي إختيارا واعيا من الشاعرة قد لا يكون إعتباطا. صحيح أن كل قصيد هو نص مستقل بذاته، له هويته وله مسار تحكم به من وجوده بالقوة إلى وجوده بالفعل حتى إستوى نصا إبداعيا محملا بشتى صنوف الدلالة. " تعويذة قلب " هو عنوان لقصيدة وهبت نفسها لكامل المجموعة بأمر من الشاعرة التي رأت أن هذا العنوان جامع للأثر في كليته ويختزل مصادر الكتابة وأغراضها وهي أن تكون القصائد تعاويذ والتعويذة كلام منثور أو مغنى أو مرنم يتلى في صلاة أو يكون دعاءا أو تفكيرا تستدعى به قوى خارقة لبعث تأثير سحري في السامع، أو للتوقي من شر قادم، أن يصبح الشعر تعاويذ بالمعنى المجازي عندئذ يحق لقصيدة " تعويذة قلب " أن تعطي إسمها للأثر كله. لقد نجح الرسام إسكندر تاج في رسم صورة الغلاف مستوحيا مكوناتها من القصيدة فما ينثال من فم الشاعرة نابع من القلب وهو رقية للعين.

ب – عناوين القصائد / نوافذ للمعنى:

تختلف القصائد الثماني والعشرون من حيث الطول والقصر وذلك في علاقة بالنفس الشعري الذي يقتضيه كل نص شعري، كما تختلف لفظا وتراكيب لغوية ما بين تعريف وتنكير وما بين الجمل التامة والمركبات والتراكيب شبه الإسنادية. وردت بعض العناوين في شكل مفردة نكرة مثل " غبطة " (ص 4) و" دهشة " (ص 15) و" ملاك " (ص 45). إن التنوين الذي يلحق الأسماء النكرة يوجه المعنى ويؤثر فيه ويدل في حالات على المستقبل كما أنه في علم الشعر يدل على الترنم. إن القصائد التي عنونت بهذا الضرب من الألفاظ تشي بغلبة الموسيقى على مقاطعها وآنفتاحها على الآتي في تمش قائم على عشق الحياة من خلال الحب تلك هي مناخات قصيد " غبطة " . في قصيد " دهشة " نفس التمشي المنفتح على المستقبل يستثيره الحضور وآمتلاك الصباح مع إتساع الشوق في الأحداق، إيقاع القصيد المتولد من التنكير والمحيل على الترنم قائم على التملك الذي يوشح بداية كل سطر شعري (لي) ثم تستدعي لغة القصيد اللغة في فيض معانيها،متوجة بسوسن البلاغة. (ص16) .في قصيد " ملاك " عنوان يحيل على كائن مختلف، تنكيره لا يغير إنتماءه الجنس الملائكة والتي يتم إستدعاؤها لربطها بالطفولة والبراءة " الطفلة ملاك أمام النار " ملاك إخبار عن الطفلة التي هي بدورها كناية عن الحرية وهي تخفي تشبيها كأننا نقول طفلة كالملاك وهو تشبيه بليغ حذفت منه أداة التشبيه ووجه الشبه. أما الأسماء المعرفة فلنا ثلاثة أصناف، هي عناوين لقصائد: أولا الإسم المعرف بالألف واللام، " المساء " ص 41 و" البركان " ص(55)، يحتل المعرف بالألف واللام المرتبة الخامسة بين أنواع المعارف الستة وهي الضمير،العلم،إسم الإشارة، إسم الموصول والإسم المضاف. ويفيد التعيين والتحديد في إنتقاله من التنكير إلى التعريف وذلك بعد أن كان شائعا. نحن إزاء مساء وبركان معينين نتلمس ملامحهما في القصيدتين، لكأن العنوانين مبتدآن والقصيدتين إخبار – خبر – عن تلكما اللفظتين. إنه مساء مختلف عما نعرفه في تقسيمنا الزمني ترى كيف تمثلته الشاعرة ؟ ذاك ما سيكتشفه القارىء في ثنايا السطور الشعرية للقصيدة. كذلك الشأن بالنسبة إلى " البركان " تكشف القصيدة عن إنتقال من المعنى الذاتي la dénotation المتعارف عليه للكلمة إلى معانيها الحافة la connotation فتوظفها في سياقات مصطبغة بالتاريخ، المعاني الحافة هي تفجير للكلمة حتى يتلاشى المعنى فتضحى الكلمات على صدر خرس اللسان أشلاء (ص 56) ثانيا النوع الثاني من المعارف " العلم " وهو يحتل المرتبة الثانية في مراتب المعارف لذلك له قوته الدلالية، إنه يحمل ثقلا تاريخيا " هيستا " (ص 17) هي الدلالة في حلها وترحالها، فإذا كانت هيستا آلهة موقد النار في جبل الأولمب عند الإغريق وهي ربة عذراء تنازلت عن منصبها، فإن إستدعاءها في سياق حضاري مختلف ليتم توظيف تفاصيل حياتها تدريجيا ليقع في الأخير تقمص شخصيتها حد الذوبان تقول الشاعرة:" وأدركني أني مأخوذة بترف الحب والمعنى أجتاز لغات النار بأنساق المبالاة " (ص 18) من المعارف التي تواترت في عناوين قصائد المجموعة الشعرية المركبات الإضافية وعددها خمسة وهي على التوالي حديث النبض (ص 13)، صاد الصمت (ص 27)، مطلق الممكنات (ص 30)، أناشيد الزمن (ص 32)، يقين الجواب (ص 48). وهي تفيد التعريف والتخصيص، ففي قصيد " حديث النبض " نحن إزاء مجاز يحول إهتزازات الجسد إلى لغة وبهذا الصنف من اللغة تتأسس صنوف من العلاقات مع الأشياء من قبيل الوقت والصمت والجسد. في قصيد " صاد الصمت "،منذ السطر الأول تتحول الصاد إلى وسيلة بفضل حرف الجر " الباء " نلج بها عوالم القصيدة حيث وسائل التعبير صامتة الشعر، الجبين، الحدقتان، الوجه،...إيغال في الصمت وتكثيف للغة الجسد. في قصيد " مطلق الممكنات " يعاد ذكر العنوان في القصيد تقول الشاعرة: " وترحل بي أفكاري سارية على رخام ومطلق الممكنات " (ص 30) بعدها يتواتر حرف الشرط " لولا " يشرع لمطلق الممكنات الذي يفيض عن اللغة، لأن حرف الشرط المتواتر يدل على إمتناع شيء لوجود غيره فمثلا يمتنع كسر كل أبواب الألم وإنهماره لوجود الوهج في نقاء الياسمين لذلك يظل الوهج فتظل الغيمات الواعدة بالمطر ممكنا من الممكنات. في قصيد " أناشيد الزمن " تتواتر الأفعال في جل السطور الشعرية: أخيط، أصنع، أحث، أغشى، أحاول، أشدد، أنتشر والفعل حدث مقترن بزمن فمع كل فعل نشيد يتلى وأغنية يترنم بها. في قصيد " يقين الجواب " بحث لا يني عن اليقين / الصدق تستبد الأسئلة بالشاعرة وهي لا تجد أجوبة لا تشفي الغليل ربما وجدته في المطر " وحده المطر لا يكذب...وحدها العيون لا تكذب " ص(50)، يتأجل يقين الجواب " العبرة دوما في النهايات " (ص 51)النكرة المخصصة هي مرتبة بين التنكير والتعريف منزلة بين المنزلتين وهي بالصفة أو بالإضافة، في هذا الصنف من العناوين لنا أربعة قصائد: " يد من رحيق الصفاء "(ص 12)، ذائبة في أعماق النور " (ص 22)، " تعويذة قلب " (ص 37)، " وجائرة كمنجاتك " (ص 47): في قصيد يد من رحيق الصفاء، تبدو اليد التي مصدرها رحيق الصفاء هي المؤهلة لإخراجنا من المنطقة الرمادية التي تلاعبت بها التناقضات ومن سوء الفهم بحثا عن وجه الشمس الساطع يطهر النفوس من أحقاد ذوي الأرحام. في قصيد ذائبة في أعماق النور تستحيل القصيدة/ اللغة أذكارا نورانية تتلى ينبض بها القلب بحثا عن مدارات النور فبها نطل على عوالم يكاد سنا ضوئها يذهب بالأبصار حد الذوبان والتلاشي، يقول محمود المسعدي في حدث أبو هريرة قال: " في كم تسبيحة تعمى العين " . في قصيد تعويذة قلب مسار من الإنغلاق إلى الإنفتاح، يتوسل بتعويذة يجتاز بها القلب الوجع والجرح والدرب الحزين، ثم تنفتح أنا الشاعرة على ترف الحب والمعنى " ليسري في القلب دم البساتين وتزهر براعم الأمنيات " (ص39).في قصيد وجائرة كمنجاتك تتوسل الشاعرة بالكمنجة لكنها تجور عليها ولا تسعفها بما يروي غليلها ووجعها المنبعث من صوتها فقد ذكر الوجع ثلاث مرات في القصيد، لم يبق لها إلا أن تتماهى مع الحبيب " أنا كأنت هروبا من أنياب الزمن " (ص 47). قصيد واحد ورد في شكل " مركب بالجر " وهو " في بياض الياسمين " (ص 19) في هذا الشكل النحوي يكتسي حرف الجر" في " قيمة كبرى لأنه يضبط المعنى،يجمع المجرور- المضاف والمضاف إليه- بين حاستي البصر " البياض " والشم " الياسمين " والبياض للمخاتلة لكأنه ستار لإخفاء إنعقاد الجمر وعناق مجرى الكلمات وفتح الضلوع وحمل الجراح...تبحث الشاعرة في مسارها هذا عن فصل جديد من فصول السنة هو الفصل الخامس – مستقره القلب تشع منه الحياة وتسعد الروح (ص 21). النوع الأخير من العناوين هي عناوين المركبات الإسنادية وهي نوعان جمل فعلية وجمل إسمية. في قصيد " قالت العرافة " (ص6) مقول القول يظهر في القسم الأخير من القصيدة، جاء ليعلن نذر الشؤم التي تكهنت بها العرافة إنه صراع بين الكهانة والشعر، إنتصار الشعر يتجلى في تركيب الحصر: لن تظل إلا العيون الساهمة للشعراء يكتبون كلماتهم ..في قصيد " لا تهرب من مراياك " (ص 42)، قصيد قائم على النهي يحمل الخطاب على دعوة للثبات أمام المرآة حيث ترى حقيقتك كما هي ترى وجودك مشفوعا بسؤال الهوية " تكون أو لا تكون " والحقيقة الوحيدة هي الموت " لا صوت في الأخير إلا للموت " تزدحم الأسئلة الوجودية عن الكينونة / الذات في المرايا المعلقة على جدران الوقت الذي هو سجل تحفظ فيه أقوالك وأفعالك. في قصيد " وطارت حمامتي " (ص 52)، نحن إزاء جملة فعلية إستئنافية مقتطعة من القصيدة هي إهداء لروح أخت الشاعرة " سنية " مفعمة بالصدق وتنزف ألما على الفقد .هي مرثية تستلهم فراق النبي يوسف لأبيه يعقوب.(ص 54).في الجمل الإسمية إختارت الشاعرة ستا من قصائد مجموعتها لتكون على هذا الشكل النحوي وهو شكل يدل على الثبوت والإستمرارية. في قصيد " لولا خمر الشعر "(ص 2) يكون تركيب – خمر الشعر- كناية عما إستقر في الصدر من تراث شعري توارثته الأجيال والصدر كناية أيضا عن ثقافة شفوية قوامها الشعر بآعتباره ديوان العرب يروي تفاصيل حياتهم .و لكن نلحظ أيضا إنفتاحا على التراث اليهودي – المسيحي تمتح منه الشاعرة ما يخدم القصيد " أسفار داوود وخاتم سليمان " (ص 2).في قصيد " الحديث صلاة الفراغ " (ص 24) قصيد هايكوي قصير فيه تكثيف للمعنى بل للامعنى، للعدمية فما بين الهمس (الصلاة) والصراخ تأتي الكتابة لنسرج عليها نهاياتنا المؤلمة ولنعزف بصمت، وحده الحب يخرجنا من العدمية حيث يكتسي كل شيء معنى. في قصيد " الصمت ذكر يتلى " (ص 33) يتواتر إسم الإستفهام- ماذا- طلبا لماهية الأشياء المستفهم حولها، لتكون الإجابة أن الصمت أصدق إنباءا من الكلام عن حقيقة الأشياء إنه يختزل كل ما يجول بالخاطر.في قصيد " نحن لا نموت "(ص 35) جملة إسمية لا تدل على الثبوت والإستمرارية لأن خبرها جملة فعلية تنفي الموت وتحيل على الحياة بما هي حركة وتحول وتجدد. فطرح الزيف والخداع والنفاق لأنها الموت الحقيقي والبديل هو عشق الحياة وعشق الوطن وعشق الأمل.في قصيد " قلبي واضح على مفرق اللحظة " (ص 36) الخبر هنا مركب شبه إسنادي قائم على إسم الفاعل " واضح " تتخذ الشاعرة من القلب وسيلة لمواجهة الغياب وإثبات الحضور: الروح / الصوت/ الهذيان. إن القلب يجعل من صاحبة الأثر عنقاء تنتفض من رماد النسيان. في قصيد " العمر شاشة عرض " (ص 57) العمر الذي عاشته ممرات وعتمة وضياء وعلاقات تفتح لها نوافذ جديدة .لحظات العمر تحرسها الشاعرة بكثير من الأسئلة. يبقى دوما للقلب حضور في طقوس العبور من ضفة إلى أخرى بحثا عن سر الوجود.(ص59)

2- الحقول المعجمية وإحالتها على المخزون الثقافي للشاعرة:

بعد أن قرأنا المجموعة الشعرية قراءة عمودية، إنطلقت من عتبات النص: عنوان المجموعة ثم عناوين القصائد بحثا عن العلاقة بين تلك العتبات ومضامين القصائد، نسعى في القسم الثاني من هذه القراءة إلى النظر في متون القصائد ضمن تمش أفقي يبحث عن طبيعة سجلات القول التي تواترت في شتى القصائد.لقد كشفت اللسانيات الحديثة أن فعل القراءة بما هو تفكيك للنص وإعادة بنائه، تتحكم به ثلاثة مقومات: المقوم الأول النص/الشاعرة موضوع القراءة وقدرته على توليد المعنى وإستنبات الدلالة بغنائه وثرائه، فتتبع الحقول المعجمية التي إشتغلت عليها الشاعرة يكشف خصوبة النص الشعري من ناحية والمخزون الثقافي الذي تمتح منه الشاعرة صورها الشعرية وعمقها الفكري. المقوم الثاني: القارىء / الناقد بما يحمله من خلفية فكرية ورؤية جمالية وجهاز مفاهيمي .المقوم الثالث: الظرفية التاريخية والإجتماعية التي يقرأ في سياقها النص وهذه الظرفية تحدد توجهات القراءة ومجالاتها وتضبط مسارها.

أ – الموروث الإسلامي – التصوف:

يحضر الموروث الإسلامي بقوة بآعتباره أحد أبرز مكونات الثقافة الأساسية للشاعرة التي تتأسس عليها صيرورة الفرد إنفتاحا أو إنغلاقا.هذا الموروث هو صورة للبيئة التي عاشت فيها ورضعته منذ الولادة .مما يلاحظ أن هذا الموروث لن يظل على حالته الأولى بل سيخضع لعملية غربلة وتشذيب، ومما نلاحظه في حضور هذا المخزون في المجموعة الشعرية هو نزوعه الصوفي حيث تتواتر فيه المفردات المتعلقة بالرؤية القلبية وبالنبض القدسي وبالعشق الإلهي، إن مركز الثقل في كل ذلك هو القلب الذي يستدعى ضمن سياقات هذا الموروث- آنظر قصيد " لولا خمر الشعر " – في بعض الأحيان يمتزج ذلك الموروث بحضور الموروث الإغريقي- قصيد " هيستيا " – فنعثر على ذكر للمئذنة الشاهقة ولطهر الصلاة وللمشكاة التي تنضح بالنور. في قصيد " ذائبة في أعماق النور " نحن إزاء روح تطوف بعوالم البرازخ حد إنصهار الشيء في عدمه. كثيرا ما تستشهد الشاعرة في تدويناتها بجلال الدين الرومي وبابن عربي وإبن الفارض..أقطاب التصوف، هؤلاء يحضرون رسما لا إسما من خلال تشبع الشاعرة بآرائهم، إنهم يملأون عليها وعيها فتنثال أقوالهم في صور شعرية تعمق بها الشاعرة رؤيتها للوجود وللإنسان في الكون. إن إنسانية الفرد تتأسس على الفطرة السليمة فالحفاظ على النقاء من لوثة إبليس هو مقصد من مقاصد الحفاظ على النفس، تقول الشاعرة في قصيد " في بياض الياسمين ": " شوه إبليس النقاء والفطرة " . لا مناص من الحديث عن القلب ذاك الخزان الذي يحيا بقطرة ماء وكثيرا ما كني عن الذكر بالماء بآعتبار كليهما يحييان، تقول الشاعرة في قصيد " صاد الصمت ": " قطرة ماء ...قذفتها في القلب " تظل الروح المشرقة بالنور مطمحا يرنو إلى بلوغه الصوفي في عروجه متسلحا بالعرفان، تقول الشاعرة في القصيد نفسه: " سيول النور تزيل الغمام، تزيل الظلام من كل روح ."

ب – الموروث اليهودي المسيحي:

إن الإشارات للتراثين اليهودي والمسيحي مصدرهما القرآن الكريم الغني بالقصص المتصل بأنبياء بني إسرائيل،يحضر أولئك الأنبياء بشكل فيه إجلال وإحترام مستمدين من إحترام الإسلام والقرآن لهم بآعتبارهم قد إصطفاهم الله لتبليغ رسالته ونشر عقيدة التوحيد. في قصيد " لولا خمر الشعر " توظف الشاعرة أسفار داوود ضمن سياق ما تعيشه من تحولات فتصبح الذات التي تعيش التجربة الوجودية تحتاج إلى المقدس، تأتي الأسفار لتعمدها تقول الشاعرة: " رتلوني بأسفار داوود " ثم لا بد للتجربة من زمان ومكان يحتضنها يأتي " خاتم سليمان " رمز للسلطة بآعتبار هذا النبي من الأنبياء/ الملوك ليضفي على التجربة شرعية، تقول الشاعرة: " أرخوني بخاتم سليمان " . لا ملجأ للشاعرة التي ترى الحقد يملأ العيون والحمم السوداء اللاظية تحيط بها، إلا الله الذي رأته بيقينها، فالكلام الدامس الذي يلفها يشبه ظلام البئر الذي رمي فيه يوسف، إلا أن خرزتها تلك ستكون نجاته من كل ما دبر له، تقول الشاعرة: " فإني رأيت الله...واهب خرزة البئر ليوسف وهي له ناجية. " في قصيد " وطارت حمامتي " الذي يمكن تصنيفه قصيدا رثائيا قائما على الحفر في ألم الفراق تستحضر الشاعرة علاقة النبي يعقوب بآبنه يوسف، فكلاهما قد إكتوى بألم البعد وعاشا ذلك إبتلاءا من الله آمتحن فيه يعقوب حتى إسودت عيناه فهو كظيم، نفس التجربة عاشتها الشاعرة عند فقدها لأختها إختبارا من الله لصبرها ولكن بأشكال مختلفة لذلك صاغت من إسم يوسف نسبة حولتها إلى صيغة الجمع تقول الشاعرة في قصيد " وطارت حمامتي ": " فلا يوسفيات خيالك قد بدت ولم يأت يعقوبي فيغرسك مجددا في القرب"

ج – التراث الإغريقي / الروماني:

إن عصر التدوين العربي هو عصرالترجمة التي تعلقت بصنوف من العلوم كعلم الفلك والطب والفلسفة ...ففي عهد المأمون شهدت هذه الحركة الثقافية عصرها الذهبي وعمل الخليفة على جلب الكتب اليونانية من بلاد الروم وحرص على ترجمتها. لامست الترجمة مختلف العلوم والمعارف الإغريقية والرومانية بآستثناء الشعرو المسرح الذي كانت نصوصه الشعرية تعج بأسماء الآلهة وبالأوثان مما جعل الضمير الديني المسلم يجد حرجا في ترجمتها لغلبة الميتولوجيا الإغريقية عليها ولكن مع ترسخ العقيدة الإسلامية – عقيدة التوحيد- توجه العرب إلى المسرح الإغريقي وترجموا نصوصه. وقد عملت الشاعرة على توظيف بعض أسماء تلك الآلهة المفعمة بدلالات رمزية في بناء صور شعرية تشي بآنفتاح الثقافة العربية الإسلامية وبقدرتها على تمثل تلك العناصر الإغريقية بغرض مد جسور التواصل بين الثقافات. لقد وفقت الشاعرة في توظيف بعض الأساطير الإغريقية والرومانية ضمن نسق بعض القصائد لتضفي على دلالاتها أبعادا أنطولوجية .ففي قصيد " لولا خمر الشعر " تشبه الشاعرة قلبها بقلب هيفستوس فكلاهما من نار وهو رب الحدادة والنار والصناعة رمز للقوة وللتعاطي مع المواد الصلبة تقول الشاعرة: " وقلبها من نار مقال هيفستوس " وتذكر هيستيا في القصيد نفسه آلهة موقد النار فبفضلها أدركنا أن النار تحرق، تقول الشاعرة: " لولا هيستيا لم تلمس النار ذات عصور لما أدركت أنها تحرق " .أن يتغنى القلب ببروميثيوس إله من آلهة الأولمب محب للبشر فذلك لأنه أعطى للبشر ما به يعطون لوجودهم معنى فقد سرق لهم من الآلهة فنون العمارة والبناء والنجارة وعلم الفلك وعرفهم الفصول والأرقام والحروف. تقول الشاعرة: " فكيف للقلب...و يتغنى ببروميثيوس رافع الصوت بمذاق رذاذ البحر ليكون المعطف على الجسد...رسائل كالآيات تورق بالإعتماد عند الأمجاد " من قصيد لولا خمر الشعر. في قصيد " غبطة " توظف الشاعرة آلهتين إغريقية ورومانية كيوبيد ودينوسيوس وكلاهما يحيلان على نشأة الحياة وعلى شرط إستمرارها بيولوجيا ونفسيا، لذلك جمعت الشاعرة بينهما فذكرت في البداية كيوبيد من آلهة الرومان، إله الحب الجنسي إبن الآلهة فينوس رمز الشهوة الحسية ثم عطفته بدينوسيوس إله الخمر (باخوس) وهو ملهم لطقوس الإبتهاج والنشوة والجامع بينهما المتعة، تقول الشاعرة: " وإني أحبك...مذ كانت الأشعار عند أصفياء الله خمرة وعند كيوبيد ودينوسيوس كلمة الحب متعة " في قصيد " شموخ بنفسجة " ذكر للعنقاء التي تتخذها الشاعرة ديدنها في مراودة الأمنيات والمستحيلات .تقول الشاعرة: " أطالع الأمنيات بنوازع العنقاء تستعذب ما يراد من المستحيلات " ثم ذكر لطائر الفينيكس الذي ذكره هيرودوت المؤرخ الإغريقي اليوناني الآسيوي، هو طائر يعمر خمسة قرون ثم يقوم بإحراق نفسه ليعود منبعثا من جديد من رماده كما تذكر الأسطورة. ثم إستعملت الشاعرة في قصيد آخر " تونس أدرى بشعابها " لفظة الفينيق تقول الشاعرة: " ينهض الفينيق وتزهر الأمنية " فكلتا اللفظتين ترمزان للتجدد والشباب. في قصيد " يد من رحيق الصفاء " وظفت الشاعرة أسطورة بينيلوب زوجة أوديسيوس الوفية لزوجها التي ظلت تنتظره وقد طالت غيبته بسبب مشاركته في حرب طروادة، إستدعتها الشاعرة لتعبر من خلالها عن وفائها لمبادئها ولنزوعها الفطري نحو الصفاء والنقاء، تقول: " أشارت بينيلوب قبلي في غيم الأسفار العتيقة أن راقبوا هذه الأرواح الموقدة في وجه الشمس بالوفاء والنقاء. "

د – معجم الوجدان والمخيال:

في إطار البحث عن التوازن بين العقل والقلب أو بين المنطق والعاطفة تعمد الشاعرة إلى البحث عما يخرجنا من إحراجات تلك الثنائيات وهو ما يجمع بين تلك المتضادات، إنه الوجدان تلك القوة الباطنية المليئة بالأحاسيس والإنفعالات والعواطف والميولات إلا أنها تظل مسيطر عليها من قبل العقل الذي يحافظ على توازن الفرد وصلابته. لذلك يبقى مصطلح " الوجدان " جامعا للإنسان في كليته، فكثيرا ما تفيض قصائد بسمة المرواني بهذا النزوع فتتواتر ألفاظا وتراكيب من قبيل " وتر الروح "، فيض قدسي " ألمس الروح " " أنا أحبك " ضمن قصيد غبطة، ثم " إبتسام الطفل " في قصيد قالت العرافة، و" الأرواح الموقدة..بالوفاء والصفاء " في قصيد يد من رحيق الصفاء، ثم " خرائط العيون " و" زرقة قلبي " و" صدق الإحساس " و" رهافة الأمل " في قصيد هيستا…إن المفردات التي لها علاقة بالوجدان إنما تقع ضمن رؤية تعمل الفلسفة من خلالها على رأب الصدع بين تلك الثنائيات القاتلة التي إذا إستبدت إحداها، قد تفقد الإنسان ما به يكون إنسانا. الوجدان كفيل بإرجاع التوازن المفقود للذات التي ظلت لقرون طويلة عرجاء بسبب إستبداد أحد قطبي التوازن: العقل/ القلب، العلم / الدين بمصير البشرية وإقصائه للطرف الآخر. عن الوجدان ينبثق تصور جديد لا علاقة له بالمزدوجات البالية ولكنه موحد للإنسان بصفته ذاتا متكاملة مزودة بعقل وخيال في آن وبشكل لا ينفصم، لهما دور في فعالية الإنسان ونشاطه. هذا التصور يعترف بنصيب الخيال أو المتخيل من تركيبة الإنسان ولا يحذفها، والشعر أقدر الفنون والأجناس الأدبية على تليين شدة العقل وصرامته وتحريك الخيال من خلال الصورة الشعرية القائمة على المجاز وعلى الإستعارة لذلك لا تخلو قصيدة من المجموعة من ذاك المنزع الوجداني، فمثلا في قصيد " في بياض الياسمين " تتخيل الشاعرة فصلا خامسا من فصول السنة تضيفه للفصول الأربعة، فصل له نكهة خاصة مرساه القلب- يسار الصدر- ومنه الحياة وبه الروح تسعد. صورة شعرية تجمع بين الحسي " القلب " والمجرد " الروح " بينهما برزخ تجسده لفظة " الحياة " التي تجمع بينهما ويكون ذلك ممكنا بفضل التخييل. تقول الشاعرة : " فيصيب بنكهة الفصل الخامس ذاك الذي مرساه عميق في يسار الصدر ومنه الحياة وبه الروح تسعد والبهجة تقيم ."

الخاتمة: مجموعة " تعويذة قلب " لبسمة المرواني هي صدى لنصوص متداخلة، تعددت روافدها وتنوعت مصادرها، نحن إزاء نص بصيغة الجمع تسمع في أرجائه أصواتا لثقافات مختلفة تمثلتها الشاعرة وآستبطنتها من خلال تجاربها الشعرية السابقة. إن هذا التناص l'intertextualité الذي كشفت عنه القراءة الأفقية من خلال سجلات القول التي تواترت في المجموعة لم تعد في النقد الحديث نقطة ضعف في النص الإبداعي أبدا، بل هو شيء حتمي وجميل لا بد من وقوعه وبالإضافة إلى ذلك يعد إشارة إلى سعة إطلاع الشاعرة ومعرفتها الثقافية وثراء قراءاتها، بل إن الكاتب المتمكن هو الذي يستطيع إستحضار النصوص السابقة لنصه بالشكل الذي يخدم نصه. إن تاريخ الأفكار تاريخ هجرة لا إقامة، تاريخ ترحال وعبور وهو ما يمنح الثقافة أهميتها وخطورتها. إن نقل المعنى من لغة إلى أخرى ومن ثقافة إلى أخرى وهو ما فعلته الشاعرة بآقتدار يعني إثراءه بآنفتاحه على أبعاد جديدة وتوسيع دلالاته الممكنة والمحتملة وبذلك يتساوى ناقل المفهوم بمبتدعه، لأن النقل في هذه الحال يكون خلقا وتأسيسا. (آنظر مقالنا: أسرار إنتاج المعنى أو الدلالة في حلها وترحالها، مجلة الجديد العدد 68، سبتمبر / أيلول 2020)

***

بقلم : رمضان بن رمضان

قراءة نسوية لأشكال المقاومة في رواية "أوركسترا الموت"

"أوركسترا الموت"، أول رواية تكتبها القاصة والروائية الجزائرية آسيا رحاحلية، نُشرت عام 2018، وفازت بالمركز الثالث في مسابقة دار النشر "الجزائر تقرأ". تدور أحداث الرواية في مدينة سوق أهراس الجزائرية، المعروفة تاريخيًا باسم طاغست، ويُعتقد أن اسم المدينة جاء من اسم بربري مركب يعني "سوق الأسود"، في إشارة إلى الأسود الأمازيغية التي كانت تعيش في المنطقة حتى انقراضها في عام 1930i. تشتهر المنطقة بخصوبتها العالية وزراعتها المتنوعة. ولد القديس أوغسطين (354-430)  أيضا في سوق أهراس. ويقال أن له صلة خاصة بشجرة الزيتون في المنطقة (لا تزال موجودة وسميت باسمه)، حيث كان يقضي وقتًا طويلاً بالقرب منها في الصلاة والتأمل والكتابةii. هذه الشجرة، التي تمثل  رمزا للسلام والوئام وطول العمر والأمل والولاء، يُنظر إليها أيضًا على أنها رمز لروح مدينة سوق أهراس التاريخية كمكان للتعددية وللثقافة، أعطت الكثير للعالم، من بين فروعها: أبوليوس المدوري، كاتب ياسين، الطاهر وطار، مصطفى كاتب، شهاب الدين التيفاشي، وآسيا الرحاحلية.

مثل شجرة الزيتون، تعبر آسيا رحاحلية في كتاباتها عن المقاومة والقدرة على التكيف مع المتغيرات والعيش بثبات وسط ظروف قاسية. قال عنها الروائي المصري ربيع عقب الباب: "صوت أنثوي ليس كأي صوت آخر عرفناه. جمع هذا الصوت رقة وشفافية وحلاوة كلمة أحلام مستغانمي، وقوة العرض والمحتوى لرضوى عاشور وسلوى بكر. وإذا كان النموذج يميل إلى أن يكون فريدًا، وأن يخلق عالمه الخاص، بعيدًا عن وجود الواقع، وانهيار نظام القيم". يضيف معمر فرح، صحفي جزائري: "هناك شيء جديد في كتابات آسيا الرحاحلية. تحتوي الرسالة على القليل من الأنوثة، لكن النص مثير لأنه يبتعد عن النضال النسوي الضيق ليقع في إطار الأدب الهادف الذي تتمثل فكرته الأساسية في الحرية. الأدب ثوري في اللاوعي، وحديث في شكله ".

  لطالما كانت الكتابة منفذاً هاماً للنساء لتخريب الأنظمة القمعية التي قيدت تاريخياً من حقوقهن والاعتراف بهن، ورحاحلية هي مثال لامرأة استخدمت كتاباتها لاستكشاف وجهات نظر جديدة والاحتفاء بهوية الأنثى. تقدم الرواية الجزائرية أوركسترا الموت نظرة ثاقبة فريدة على قوة الكتابة كشكل من أشكال المقاومة. من المثير للاهتمام كيف وظفت الكاتبة قوى مختلفة لتحدي النظام الأبوي القمعي، عبر منحها أصواتا ثابتة للشخصيات النسائية لمقاومة الأعراف القمعية بطرق مختلفة سنكتشفها في يما يلي.

- مخالفة التوقعات والتحرر من دور الضحية: 

بشجاعة كبيرة، وفي مجتمع يلحق وصمة العار بالمطلقات، منحت الكاتبة شخصية الرواية الجرأة لاتخاذ هذا القرار والاصرار عليه. يعتبر الطلاق في الأدب النسوي، شكلاً من أشكال المقاومة، حيث استخدم لتحدي الأعراف الاجتماعية السائدة في المجتمعات التي تحد من حرية المرأة. منذ بداية الرواية، صرحت رحاحلية أن زواج بطلتها حنان لم يكن أكثر من صفقة اقتصادية. يونس الزوج غني. يسدد ديون والدها ويوظف شقيقها فريد. في حين أن الزواج  يفترض أن يقدم مزايا اجتماعية ونفسية، مثل إحساس أكبر بالاستقرار والأمان، فإن زواج حنان لم يكن سوى خيبة أمل كبيرة. أدركت حنان أن "الزواج كان يرهقها. إنه يستنزف عقلها وجسدها وروحها. يحولها، كل يوم تدريجيا، إلى امرأة ناعمة مطيعة، محرومة من روحها، مثل دمية خرقة تفقد الطاقة لخداع نفسها ومن حولها. الطاقة للتظاهر بأن كل شيء على ما يرام وأنها سعيدة. التظاهر بالسعادة هو البؤس نفسه "(رحاحلية 25).

من منظور نسوي، يمكن اعتبار الزواج نوعا من القيود التي تحد من حقوق وحريات المرأة. تقيد الأدوار التقليدية للجنسين المرتبطة بالزواج من حرية التعبير لأولئك الذين لا يتناسبون مع هذه الأدوار. لذلك غالبًا ما يُنظر إلى الطلاق على أنه من المحرمات في العديد من المجتمعات المحافظة، كما يُنظر إلى النساء المطلقات في هذه المجتمعات على أنهن منبوذات فشلن في القيام بدورهن الأساسي كزوجة وأم. غالبًا ما يتم الحكم عليهن ووصمهن من قبل عائلاتهم ومجتمعاتهم، مما قد يؤدي إلى الشعور بالفشل والوحدة. ومع ذلك، تعتقد رحاحلية، كما أشارت على لسان بطلة الرواية، أن الناس يتزوجون ليكونوا سعداء ويطلقون من أجل العثور على السعادة والأمان مرة أخرى: " ليست نهاية العالم، لكن في مجتمع مريض، لقد أصبحت مشبوهة و خطيرة و ناقصة، و فاشلة ومسكينة وسيئّة الحظ و مدعاة للرثاء و عرضة لقلوب ضالّة، و غرائز  متشرّدة  تمسح  الشوارع بحثا عن جسدٍ سائغ " (رحاحلية 26). لكن بالنسبة لعائلتها، كان طلاق حنان نهاية الدنيا والكرامة والشرف. صرخت والدتها في وجهها، وقال والدها بنبرة تهديد مهذّبة "هذا البيت لم يعد بيتك، ستدخلينه ضيفة ليوم أو ليومين" (رحاحلية 25). لم تر حنان قط أنها فعلت شيئًا سيئًا. ولم يسامح يونس حنان على طلبها الطلاق وإصرارها عليه. يعتبرها إهانة لرجولته وطعنة في قلب رجولته، وفي نوبة فخر أخرجها من المنزل بالملابس التي كانت ترتديها، رافضًا أن يعطيها حليها وملابسها.

المثير للاهتمام في وجهة نظر رحاحلية، أنه رغم انتقادها للمعايير المزدوجة لمجتمعها، إلا أنها لم تصور الشخصياتها النسائية في كتاباتها كضحايا. الكل يعتقد أن الطلاق كارثة على حنان الا هي، حنان تصالحت مع حالتها:""أنا لست الضحية ولا الجلاد". كانت تقول لنبيل "أنا لم أنجح في الزواج .. إنه ليس بمأساة ولا نهاية الدنيا". أنا بخير "(رحاحلية 22). كما أن رحاحلية لم تصف البطلة بالحمل الوديع كما هو شائع في مثل هذه الحالات، ولكن كنمر صغير ينتظر الاحتفاء بحريته بمجرد أن يخرج نفسه من القفص: " كانت الصورة الخارجية ملمّعة و برّاقة، و حنان هادئة و مستسلمة كنمرٍ صغير يدرّبونه لكي يصبح قطا أليفا ! "(رحاحلية 24)

خلقت رحاحلية شخصية مستقلة، تتجرأ وتتحدى، وحتى رحم حنان رفض احتواء نفس لا تشبهها (أطفال يونس): "كل إجهاض هو حالة رفض" (رحاحلية 28). بعد طلاقها، وبعد زواج شقيقها فريد، بدأت حنان تشعر بعبء وجودها في المنزل، ورأت ضرورة الانتقال والعيش بمفردها في منزل وظيفي حصلت عليه من مديرية التربية والتعليم. لم يكن من الصعب إقناع والدتها، فالمشكلة كانت فريد. لم يعارض الأمر فحسب، بل اقترح عليها أن تعطيه الشقة ليستقر فيها مع زوجته، بينما كانت تعيش مع والدته. عندما رفضت حنان غضب: "كانت أمسية مليئة بالصراخ والغضب والبكاء. هدد فريد بقتلها وقتل نفسه. "ذات يوم سأقتلك أيتها العاهرة!" امتلأ المنزل بالصراخ والشتائم. ضرب بقبضته على نافذة الغرفة، وتناثر الزجاج في كل مكان، واندفعت الخادمات، وأغمي على والدتها وتم نقلها إلى المستشفى "(رحاحلية 26). قاطعها فريد تمامًا ونهى والدته عن استقبالها وزوجته من التواصل معها بأي شكل من الأشكال. لكنه علم أنها زارت والدته سراً وأعطتها المال، وأخذ هذا المال. أصبح عاطلاً عن العمل بعد أن قرر ترك العمل مع يونس بعد طلاقها منه .. "كأنه يجعلها تشعر بالذنب وكأنها مسؤولة عن كسله وانحرافه، ومرض والدتها ووفاة والدها. ربما تكون مسؤولة عن العلل التي تصيب المجتمع أو عن تدمير العالم! " (رحاحلية 31).

 - الحب الرومانسي لإصلاح الأنوثة المتضررة:

تظل الكتابة عن الحب غير التقليدي نوعا من المقاومة في الكتابات النسوية وكسر القيود. من خلال قصصهن، استكشفت النساء تعقيدات العلاقات التي لا تتوافق مع التوقعات التقليدية. الحب الرومانسي هو أداة قوية لمقاومة النظام الأبوي، لأنه يوفر وسيلة للنساء للاحتفاء بهوياتهن ولإعطاء صوت لتجاربهن، وإبراز جمال الحب بجميع أشكاله. تقول رحاحلية أن مدينتها تحارب العشاق: "طاغست ليست مدينة الحب". ومع ذلك، فهي تسمح لبطلتها بالتمتع بعلاقة حب رومانسية خارج اطار الزواج. بعد طلاقها، الوقوع في الحب لم يشغل بال حنان. ومع ذلك، مثل كل أنثى، احتفظت في مكان عميق في قلبها بصورة رجل الأحلام. لم تتخيل أن هذا سيحدث. عندما نصحتها صديقتها بالتفكير بحكمة، أجابت: "سنوات و أنا أمشي خلف عقلي مثل كلبة وفيّة و لم أكن سعيدة كما أنا اليوم.سأتبع قلبي و لو قادني إلى حتفي . على الأقل أموت مختنقة بعطر الحب . "(رحاحلية 50).

الحب هو قوة هائلة، ولديه القدرة على تحقيق الذات. من خلال الدخول في علاقات مبنية على الحب والتفاهم مع المحامي، تعوض حنان سنواتها الضائعة من الزواج البارد، وتتخذ موقفًا ضد النظام الأبوي: "اختفى العالم واختفى كل شيء من حولهم، الغرفة، الشقة، الجوار والأرض والسماء والناس. لا شئ. لا أحد إلا نبيل العاشق الأبدي الذي يعيش الحب بحواسه الخمس .. وحنان شعلة قلبه المضيئة "(رحاحلية 40).  على عكس زوجها، وجود نبيل في حياة حنان جعلها امرأة كاملة، متألقة، لديها إحساس كبير بأنوثتها، وجمالها، وجسدها، وأعطاها سببًا مهما للاعتناء بنفسها: ""لم تحب جسدها حقاً حتى اندلع الحب بينها وبين نبيل. رأت كم كان يتوق إليها، فاشتهت حضورها. اكتشفت جسدها بعينيه وكأنها تراه لأول مرة ”(رحاحلية 60). بدأت تهتم بمظهرها وتعتني بنفسها. أخذت وقتها في شراء الملابس والأحذية التي تناسبها بشكل أفضل واشترت منتجات التجميل. أعادت اكتشاف شغفها بالفن والموسيقى. مع مرور كل يوم، كانت تشعر براحة أكبر مع جسدها وتعامله باحترام وحب.

 - قوة الصداقة الأنثوية كوسيلة للمقاومة:

بينما عارضت عائلة حنان قرارها بشأن الطلاق، تزود الكاتبة بطلة الرواية بأداة مهمة للوقوف ضد النظام الأبوي: دعم الصداقة الأنثوية. غالبًا ما يتم التقليل من أهمية قوة الصداقة الأنثوية، ومع ذلك فهي أكثر من مجرد مصدر للدردشة والفرح. تتمتع الروابط النسائية بالقدرة على أن تكون مصدرًا للقوة والصمود، وشكلًا من أشكال المقاومة ضد القوى القمعية. إلى جانب دعم أختها، كانت صديقة حنان نوال التي تحمل أفكارًا ليبرالية حول الزواج وهي الوحيدة التي دعمت قرارها بالطلاق. تتمتع نوال بشخصية قوية ومتحررة ومتمردة وواثقة وجريئة. ترغب في الاقتناع بالزواج، لكن عقلها يرفض الاعتراف به. إنها لا تستوعب فكرة أن يحكمها شخص ما. "كل رجل لديه الرغبة في السيطرة وهي فطرية في الذكر". هي تقول دائما. "كل زوج، سواء كان واعياً أو لاشعوراً، يرى نفسه كأول إنسان بدائي. يخرج للصيد، يجلب معه الطعام، ويقف لساعات عند مدخل الكهف، يحرسه من الحيوانات المفترسة، وعندما يرغب في رفيقته، يسحبها من شعرها إلى سريره " (رحاحلية 26).

فكرة نوال عن "النصف" مثيرة للاهتمام والتفكير. تعتقد أن الزواج يجب أن يكون له فترة صلاحية مثل أي منتج استهلاكي آخر، مع إمكانية تجديده حسب الحالة. سيوفر ذلك مزيدًا من الحرية للشركاء، مما يسمح لهم باتخاذ قرارات بشأن العلاقة دون الشعور بأنهم محاصرون بها. علاوة على ذلك، سيوفر طريقة للأزواج لتقييم علاقتهم على أساس منتظم وإجراء التعديلات وفقًا لذلك. يمكن أن يصبح الزواج شيئًا أكثر مرونة وديناميكية، وليس ثابتًا ودائمًا. بهذه الطريقة، يمكن للأزواج أن يكونوا أكثر صدقًا مع بعضهم البعض وأكثر وعياً بديناميات علاقتهم.

في أوقات الشدة، يمكن أن تكون صداقة الإناث مصدرًا لا يقدر بثمن للدعم العاطفي والمعنوي. يمكن أن يوفر مكانًا آمنًا للتحدث والتنفيس والعثور على التضامن. هذا النوع من الدعم ضروري للمرأة لتشعر بالقدرة على مواجهة التحديات التي تواجهها. من تقديم المشورة والتشجيع. حتى الثرثرة التي لا معنى لها، تساعد حنان على الشعور بأنها ليست البط الغريب. في الواقع، تقدم الكاتبة تعليقات ساخرة وعميقة من خلال المحادثة بين الأصدقاء الأربعة، تكشف عن المكانة المتدنية للمرأة في مجتمعها. قالت نوال: "أنت تعلمين أنه كلما دخلت المطبخ أشعر وكأنني أدخل غرفة التعذيب من العصور الوسطى! الحمد لله أن الجنة لا طبخ فيها". وعلقت مريم: "هذا على أساس أننا نستحق الجنة!". ونظرت نوال إلى مريم وقالت وهي تضحك: ""في هذا الصدد، لا تقلقي. ربك كريم. امرأة دخلت الجنة لأنها أعطت الماء لكلب وأنت تطعمين زوجك وتسقيه منذ سنوات ”. حتى نكاتهم كانت تنتقد مؤسسة الزواج:" "في فيلم شاهدته منذ فترة، قالت صديقة لصديقتها التي التقت بها بعد غياب طويل: ظننت أنك ميتة؟ ردت الصديقة. لا ... متزوجة فقط! " (رحاحلية 34)

- الاختيار بين الحياة و الموت كمحاولة لتخريب النظام الأبوي:

بشكل عام، بالإضافة إلى كونه شكلاً من أشكال الاحتجاج، يمكن اعتبار الموت شكلاً من أشكال تخريب النظام الأبوي من منظور نسوي. الفكرة هي أنه من خلال اختيار الموت، فإن المرأة تتحكم بشكل أساسي في مصيرها وترفض الامتثال لتوقعات الأبوية باعتبارها خاضعة. بموتها، تستعيد السلطة التي سلبت منها وتستعيد استقلاليتها. إحدى الطرق التي استخدمتها الكتابة النسوية للمقاومة هي من خلال مفهوم الاختيار بين الموت والحياة كشكل من أشكال تخريب النظام الأبوي. في الرواية فضلت حنان الانتحار عندما اكتشفت أنها حامل من نبيل. إنها تعلم أن الحياة ستكون أكثر صعوبة مع مثل هذه الفضيحة، لذلك اختارت مصيرها. حنان يمكن أن تتنبأ برد فعل الجميع: "ستفقد والدتها الوعي، وسيرتفع مستوى السكر في دمها، وقد تموت على الفور. سيقتلها وستقضي بقية حياتها في شعور بالذنب. فريد؟ ولن يتردد في ذبحها مثل شاة جربة دون أن يضرب الجفن "(رحاحلية 62).

في الختام، يمكننا أن نقول بثقة أنه من خلال رواية أوركسترا الموت، تجاوزت آسيا رحاحلية الحدود المرسومة لنساء مجتمعها وسلطت الضوء على القضايا النسوية والصعوبات التي تواجهها النساء في مجتمع تهيمن عليه السلطة الذكورية. إنها تخاطر بإلقاء الضوء على هذه القضايا والتشكيك في الوضع الراهن، وهو شهادة على شجاعتها والتزامها بالتغيير. تصفها فوزية خليفي، راوئية جزائرية، قائلة: "من بين النساء اللواتي أُعطين مقاليد الجمال، في السرد والأسلوب، والقدرة على تمثيل حالة البطل. آسيا رحاحلية تمد يدها إلى ممرات الأعماق وتلامس نقطة النور .. روائية وشاعرة وراوية تكتب بوعي كبير وتعي جيداً أن الأدب هو صوت الناس." من خلال استكشاف هذه الموضوعات، توضح قوة الكتابة كشكل من أشكال المقاومة للمرأة وأهميتها في خلق مجتمع أكثر إنصافًا.

***

بقلم: د. كريمة عبدالدايم - الجزائر

قراءة نقدية في المجموعة القصصية: تأمّلات بعدسة القلم  للقاصة: نوميديا جروفي

صدرت المجموعة القصصية الموسومة بـ (تأمّلات بعدسة القلم) للقاصة الجزائريّة نوميديا جروفي عن دار الماهر للطباعة والنشر والتوزيع، في طبعتها الأولى عام 2019 م. وقد أهدتني القاصة – مشكورة – نسخة منها أثناء فعاليات المعرض الدولي للكتاب بالجزائر العاصمة في شهر نوفمبر سنة 2019 م.

احتوت هذه المجموعة القصصية على اثنتين وخمسين قصة قصيرة. وقد صدّرتها الكاتبة نوميديا جروفي بعتبة جاء فيها: " قصص الحياة تُكتب في القلب وليس في الأوراق " ص 5. وهي - لعمري – بمثابة عنوان ثان ومفتاح للمجموعة، يفضي بالقاريء والناقد إلى تحديد العلاقة الجدليّة بين الفنّ القصصي الملتزم بقضايا الإنسان المصيريّة ووحياته اليوميّة في أبسط جزئياتها وأضيق زواياها.

تقول الكاتبة في مقدمة مجموعتها القصصية: " هي قصص ليست منزلة من العلى بل من روافد المجتمع ففي عمق كل قصة هناك خبرة وما وراء كل خبرة عبرة حياة... إنّها قصص أظنّها كفيلة بأن تجعل القاريء يرحل إلى أعماقه ليحاور ذاته ويتأمّل حياته حتى يبلغ ملء نضجه الإنساني " ص 9.

إذن، هي قصص انتزعتها الكاتبة نوميديا جروفي من بين مخالب الواقع المرّ وأنياب الدهر، الذي لا يرسو على شاطيء، ولا يقرّ له قرار. رسمت فيها الكاتبة جزئيات مجتمع أنهكته العلل النفسيّة، والعقد الدونيّة، والاستسلام لليأس والقنوط. ففي قصة (شبح)، يتحوّل - فجأة - حب البطلة ووفاؤها وفرحها وحلمها المعسول إلى حزن فجنون فانتحار من أعلى الجبل " لطمت ومزّقت ثيابها وأخذت تركض هائمة على وجهها حتى وصلت أعلى الجبل من ذلك الجرف ورمت نفسها منتحرة " ص 15. وكان (تحليقها) ذاك من (أعلى)، لا يشبه البتّة تحليق الفراشات بين الزهور زهوا واستمتاعا، بل كان فجيعة وموتا محتوما، وسقوطا نحو (جرف) مميت. وهو مصير مأساوي يعرّي هشاشة النسيج الاجتماعي ويفضح ضعف الوازع الروحي في مجتمع يتسيّد فيه (فخامة) الجهل و(جلالة) الخرافة على قدسيّة العلم واليقين. مجتمع، ينظر إلى المرأة من زاوية ضيّقة ومنكسرة، لأنّها جسد لقضاء متعة جنسيّة، وعورة وجب وأدها في (قبر) دنيويّ، قبل طمرها في قبرها الترابيّ. مجتمع يتّهم المرأة ويلبسها ثوب الجاني، ولو كانت ضحيّة بشهادة نجوم السماء وكواكبها. وقصة (فاجعة) صورة لذلك، فقد وقعت البطلة ضحيّة اغتصاب من طرف لاجئين من مالي، وغم أنّها كانت يدها مشفقة عليهم. " كانت المسكينة تشفق على لاجئين من مالي تراهم دوما قرب بيتها فتطعمهم وتعطيهم الماء لحرارة الجو خارجا " ص 16. أجل، منحتهم الماء، أي الحياة، بينما منحوها الموت. ".. فدخلوا عليها وكانوا ستّة وهي امرأة لا حول لها ولا قوّة وأطفالها الأربعة نائمون في العليّة... وتعاونوا لتكبيلها ثم تناوبوا عليها فاغتصبوها جميعا " ص 16. هو مشهد فظيع جدا، لأنّها لم ترتكب تلك الخطيئة، بل أُكرهت عليها كرها، لكن لم يرحمها المجتمع، ولا زوجها الذي قال لهم، بعدما أخرج لهم صحنا من الطعام: " عندما تنهون الأكل دقّوا عليها واعطوها الصحن " ص 16. رغم أنّه مسؤول عمّا حدث لها. وطلّقها الزوج بعد جريمة الاغتصاب الوحشي، " ليظهر رجولته أمام الملأ الحاضرين.. " ص 18، ثم تفارق الحياة من وطأة الصدمتين ؛ صدمة الاغتصاب وصدمة الطلاق. فالقصة - بقدر ما فيها من عبرة لمن يعتبر وذلك عندما يكون جزاء الإحسان غير الإحسان - تدين بشدّة عنجهيّة الذكر الفاقد لصفات الرجولة الحقّة ضد المرأة الضحيّة في بيئة ذكوريّة أحاديّة النظر، تغفر للذكر المستبّد كل خطاياه في حق المرأة، بينما تعاقب المرأة على خطيئة لم ترتكبا رغبة وطوعا، نظرا لاختلال عقليّ وسيكولوجيّ في تلك البيئة. وهذا ما تظهره قصة (مذلّة ومهانة)، حيث تتعرّض البطلة، وهي امرأة شرقية يتيمة، مترفة ماديا، لكنّها تعيسة في حياتها. " أعيش حياة الترف، أنظري حجم البيت الضخم الذي أعيش فيه، عندي أفخم الأثاث، أسافر كل سنة لبلد، ولكنّني أتعس الناس " ص 42. تتعرّض للتعذيب النفسي الشديد من زوجها الذي وصفته قائلة: ".. زوجي زير نساء " ص 42. وحين سألتها جارتها عن سبب رضاها بالعيش معه أجابتها بهدوء: " ماذا أفعل؟ أين أذهب؟ إلى الشارع؟ أنا يتيمة ولا بيت عندي يأويني ويحمي أولادي من الفقر ويسترني من أنياب ذئاب الشارع... أنا مقهورة، ذليلة، مهانة، مسكينة، مجروحة، أموت في اليوم مائة مرّة " ص 43. فالمال وحده لا يصنع السعادة، والغنى وحده لا يبني أسرة مطمئنّة ومتماسكة وسعيدة، إذا انعدمت المودة والرحمة والقناعة والغنى العاطفي والنفسي. فقد يكون الترف بوابة مشرعة على الفساد الأخلاقي والاجتماعي، ووسيلة لإذلال الآخر وتعذيبه نفسيّا. لكن ما يلفت النظر هنا، هو إصرار الكاتبة على تقديم بطلة قصتها في موقف انهزاميّ واستسلاميّ وسلبيّ، لا مثيل له، لا تملك من أسلحة المقاومة غير الصمت والرضا والدعاء. " كلّما أنظر إليه أحترق في أعماقي، وأدعو له الربّ في صلواتي ليبتعد عن الوحل الذي تلطّخ به.. هذا أقل ما أستطيعه للأسف، فهو أب أولادي " ص 43. موقف خال من بؤرة التأزّم، الذي يُكسب الحدث القصصي صراعا دراميّا، غايته إثارة الإشكالية المطروحة وإظهارها ورصدها للرأي العام في صورتها النمطيّة لا الفردانيّة. ومهما كانت الأعذار، فإنّ القبول بالخيانةّ الزوجية على أنّها أمر واقع، هو أشد إيلاما من الخياتة نفسها. وكان على الكاتبة أن ترسم بطلتها في صورة إيجابية، أقلّها ما فيها، الرفض المطلق لسلوك زوجها الخائن لها جهرا وعمدا.

أمّا العيش مهانة تحت سقف خيانة زوجها لها مع سبق الإصرار والترصّد، بحجة خوفها على نفسها، وعلى أبنائها من الفقر والتشرّد وذئاب الشارع. فذلك – لعمري – أكبر خيانة للضمير والعفّة والحدّ الشرعي والقيّم الأخلاقيّة النبيلة والأعراف الأسريّة المشاعة والميثاق المتين والمقدّس للزوجيّة.

وهكذا، وجدنا القاصة نوميديا جروفي، قد قدّمت لنا في ثنايا قصصها شخصيات منتزعة من عالم الواقع المعيش، مطحونة حتى النخاع، وبنظرة موغلة في واقعيّة انتقاديّة داكنة، تتأرجح بين دروب اليأس والاستسلام والخيبة والضياع والموت بشتى الطرق الموجعة. تارة يوجعها القدر في أعزّ ما تملك ؛ في فقدان مفاجيء ومأساويّ لزوج، كما حدث في قصة (غلطة عمر) أو ضياع حبّ كما في قصة (بعد 18 عاما)، أو إعاقة بيولوجية دائمة نتيجة حادث مرور، كما جرى للطالبة الجامعية في قصة (صدفة غريبة). وتارة أخرى يصدمها الواقع المرّ، وما فيه من خيبات وتناقضات عجيبة بين مظهره ومخبره. فهذا يتنكّر لها كم في قصة (بين الماضي والمستقبل)، وذاك يحاول خداعها بكلام معسول لنيل مبتغاه الجنسي، كما في قصة (في مهبّ الريح).

ففي قصة (الموت) كانت نهاية الفتى الصغير، الحالم بالجمال والابتسامة والسلام فظيعة، وفيها إشارة إلى العشريّة السوداء والحمراء التي عاشها جيل التسعينيّات في الجزائر "... لكنّه ما كاد يعدو نصف الطريق حتى أصبح أشلاء متناثرة " ص 21. وكذلك كان مصير الطفل السعيد صاحب البالون الأحمر في قصة (طفولة موؤودة)، بعدما سلبت منه الحرب اللعينة نعمة الأمن في وطنه، والتي فرضها الأقوياء على الضعفاء، وبات الموت ضيفا بشعا يتربّص - دون موعد أو سبب - بالأسر البريئة والأحياء الآمنة دون رحمة أو شفقة. " كان الوطن يعيش بأمن وأمان في زمن ليس ببعيد، واليوم اختلف كل شيء، حيث أصبح الشعب مستضعفا في وطنه، الذي عشّش فيه الخوف والرهبة من موت بشع، كيف لا والموت أصبح ضيف الغفلة على الأسر والأحياء " ص 69. ذلك الموت العشوائي، الذي لا يميّز بين ضحاياه، بل يزهق أرواح الأطفال. " وما كاد يخطو خطوتين حتى كُتمت أنفاسه البريئة برصاصة اعترض طريقها سهوا فاخترقت جمجمته الملائكية." ص 70. وكأن الذنب هنا، ذنب الطفل الذي اعترض طريق الرصاصة، لأن الحرب أمست سيّدة المكان، احتلّت الشوارع، أين يجد الأطفال متسعا ومساحة للعب الكرة. وهي في الغالب عادة الأطفال في البيئات الشعبية الفقيرة. وحين تحرم الحرب الأطفال من ممارسة ألعابهم المفضّلة في الشوارع، وتغتالهم الرصاصات الطائشة، فهذا يوحي بأنّ المأساة فظيعة، وأنّ الوطن قد غرق في مستنقع حرب لا عنوان لها ولا خطوط حمراء أمامها. " طار البالون الأحمر في السماء ولحقته روح الطفل هناك بعيدا حيث السلام الأبدي " ص 70. وقد وظفت القاصة نوميديا جروفي ألفاظا سيميائية مثيرة في التعبير عن بشاعة الحرب مثل: عشّش – الخوف – الرهبة – موت بشع – ضيف الغفلة - كُتمت – اعترض – اخترقت جمجمته – الأحمر.

ما أقسى وطأة الموت على قلوب تعشق الحياة البعيدة عن أزيز الرصاص ودويّ القنابل. وما أتعس حياة جيل التسعينيات، الذي طحنته حرب بين الإخوة الأعداء، وحرمته من نعمة السلام والأمن وسبّبت له عللا وعقدا نفسية، دفعته إلى جلد الذات، وإلى سلوكات مميتة، مثل: الهروب من الوطن على متن قوارب الموت والمخدّرات والانتحار والعنف ووو.

و تواصل القاصة نوميديا حروفي في التنقيب في أعماق المجتمع الشرقي المريض عن خباياه. ففي قصة (الأم والابن)، تعرّي القاصة جانبا أسود من المظالم الاجتماعية، وهو عقوق الوالدين، حيث طرد الابن أمّه إلى الشارع بسبب زوجته، ناسيا أو متناسيا برّ الوالدين، وغافلا عن مآل العاق لوالديه، ومتجاوزا – بعنجهيّة – أحكام الشرع وتقاليد المجتمع الشرقيّ وأعرافه وقيّمه، سواء المحافظ منه أو المتفتّح. جاء على لسان الأم: ".. شاءت الأقدار، أن يأتي يوم ويرميني ابني في الشارع مع حزمة من ثيابي بسبب زوجته " ص 57. وجاء على لسان الابن العاق، مخاطبا أمّه: " اذهبي.. غادري.. واخرجي من بيتي فقد ضقت ذرعا بك. " ص 57.

لقد تنكّر الابن العاق ورمى أمّه التي حملته وهنا على وهن، وأرضعته حتى الفطام، ورعته إلى أنّ شبّ واشتدّ عوده وساعده. " وقَضَى ربُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إيَّاهُ وبالوالدين إحسانا، إمّا يبلغنّ عندكَ الكبرَ أحدُهُمَا أو كلاهُمَا فلا تقلْ لهما أفٍّ ولا تنهرْهُمَا وقُلْ لهُمَا قولاً كريما واخْفِضْ لهما جناح َالذّلِّ من الرَّحْمةِ وقُلْ ربِّ ارْحمهُما كما رَبيَّاني صغيرا " مسورة الإسراء 23 / 24.

و في القصة إيحاء إلى محاولة انسلاخ الجيل الجديد من هويّته بكل ما تحمله من قيّم نبيلة، بدعوى العصرنة الغربيّة الزائفة.

و لم تغفل القاصة زمن الحراك الشعبي الذي انطلق في فيفريّ 2019 م. وتناولته في قصة قصيرة جدا بعنوان (صلاة الشعب). بعد إعلان الرئيس – تحت ضغط المظاهرات المليونيّة السلميّة - عدم ترشّحه لعهدة خامسة، والصلاة هنا تعني الدعاء. وهي أقصوصة، تشبه ما عرفه العصر العباسي بفنّ (التوقيعات). وبقدر ما هي موجزة في لفظها، لكنّها عميقة في معناها. فقد عبّرت الأم - وهي رمز الجيل القديم والشاهدة على العهدات السابقة – عبّرت عن بهجتها، وكأنّها تخلّصت من كابوس، طالما أرّق حياتها. وهنا يظهر أثر التواصل بين الأجيال الواعيّة، ودور الشعب الحرّ في إحداث التغيير المنشود، وأحقيّته للتحية والتقدير والإجلال. فإذا أراد الشعب الحياة الحرّة، استجاب له القدر، أمّا إذا خنع واستسلم ورضي بالاستبداد، فإنّ مصيره الهوان والفناء.

لم تبتعد قصص الأديبة نوميديا جروفي عن معالم بيئتها الملأى بالمعاناة والمآسي اليوميّة التي تفترس الفرد كوحش ضار، والمحفوفة بالتناقضات الاجتماعيّة. فكأنّي بالقاصة، قد اتّخذت لها مجلسا شهرزاديّا، وطفقت تحكي دون تكلّف حكايات   شهدت أحداثها، بأسلوب سرديّ بسيط وواقعيّ (نسبة إلى المدرسة الواقعيّة) وخال من الخيال. مستغلّة تقنيّة الأنا الشاهد أو (التبئير الداخلي) كما سمّاه جرار جينيت. وفي أغلب الأحيان، جعلت القاريء يكتشف أن السارد (القاصة) تتحكّم في عالم القص وتوجه الأحداث، من خلال أسلوب بانوراميّ غير محايد. فغالبا ما جاءت نهايات قصصها منفصلة عن العقدة أو لحظة التأزّم، عبارة عن عبارات تلخّص المغزى والعبرة من القصة، تحمل معاني حكمية وعظية، وهذا تدّخل واضح وسافر من القاصة في توجيه الأحداث. كقولها - على سبيل المثال لا الحصر - في نهاية قصة (فاجعة): " صدق من قال: لا تكسر اليد التي تمد لك الخبز أبدا " ص 18. وقولها في نهاية قصة (انتحار): ".. وما أكثر هذه الأخطاء الطبيّة التي ذهب ضحيتها الكثيرون.. طوبى للحزانى لأنّهم يتعزّون. " ص 20. وقولها أيضا في خاتمة قصة (القهوة المالحة): " قد نشرب المرّ من أجل أحدهم فقط لأنّنا أحببناه من كل قلبنا وأنّنا نضحي بكل شيء في سبيل أن نبقى معه وحياتنا لا تستمرّ بدونه. إنّه الحب صانع المعجزات الذي لا يؤمن بالمستحيل أبدا " ص 97. وقولها في نهاية قصة (عشرون عاما وأنا أبحث عنك): " إنّنا لا بد أن نحصد ما زرعناه ولو بعد أيام كثيرة أو أعوام خيرا كان أم شرّا وليعطينا الرب الإله أن نصنع رحمة طوال أيّام حياتنا. " ص 131. وقولها في خاتمة قصة (بين العار والشرف): " قتلوا الشرف ليحيا العار " ص 148.

إنّ مثل هذه النهايات متروكة – في الأصل - للمتلقي، وهي حق من حقوق الناقد وواجباته ورسالته النقدية. وإلاّ ماذا بقي للناقد من اجتهاد نقدي؟ هي ليست من مهمّة القاص، لأنّ القصة في مضمونها العام، ليست مقالا فلسفيّا أو اجتماعيا أو أدبيّا، تستنتج العبر والمواعظ، وتمنح الحلول والنظريّات للمتلقّي. أعتقد أن القاصة نوميديا جروفي قد أقحمت تلك النهايات المنفصلة عن الأحداث في جلّ قصصها، وهذا شكل من أشكال هيمنة الساردة (القاصة) وسلطتها على النص. في الوقت الذي كان عليها أن تبقى محايدة عن النهايات القصصية الحاسمة أو المفتوحة، التي تفرضها فنيّات القصة القصيرة، من خلال توظيف تقنيّة التبئير الخارجي أو المعرفة المحايدة، التي تعطي لشخصيات القصة القصيرة دورا أكبر من دور (السارد)، حين يكون ناطقا بضمير الغائب.

و يلفت الانتباه، في هذه المجموعة القصصية، هو أنّ العديد من أبطالها أطفال معذبّون، بسبب اليتم أو الفقر والمرض والحرمان والقهر الاجتماعي. وقد قدّمتهم القاصة نوميديا جروفي في صورة أليمة ومؤلمة وتراجيدية، خاصة في قصص (البراءة) ص 146، و(الطفل والطبيب) ص 143، و(الوردة) ص 142، و(كلمة السر) ص 126 و(الموت) ص 21. و(طفولة موؤودة) ص 69، و(كأس الحليب) ص 98، و(الصندل) ص 100، وغيرها.

وعندما نتأمّل المقاطع السردية التالية: " دكتور، طفلي مريض وهو في حالة خطيرة جدا، أرجوك أن تفعل أي شيء لإنقاذه " ص 130. "... فالولد كان ضريرا " ص 142. ".. وما كاد يعدو (أي الولد) نصف الطريق حتى أصبح أشلاء متناثرة " ص 21. " طار البالون الأحمر في السماء ولحقته روح الطفل هناك بعيدا.." ص 70. " كان طفلا فقيرا يوزّع السلع على المنازل ليلا حتى يتمكن من إنهاء تعليمه، وفي ليلة شعر بجوع شديد.." ص 98. " طفل صغير يتيم في السابعة من عمره فقد والديه وهو رضيع.. " ص 100. "..و لأنّ اليوم كان العيد، فقد كانوا كلهم يلبسون الملابس الجديدة إلاّ هو الذي كان يلبس ملابس رثة، ونفس زوج الصندل الذي يصغر مقاسه عن قدمه.. " ص 100 / 101. تتّضح لنا صورة سوداوية لطفولة معذّبة وضائعة في مستنقع مجتمع لا مستقبل له. مجتمع يقتات من ترهات الماضي وخرافاته، ويتكيء على حاضر افترضيّ وفوضويّ، ويرنو إلى مستقبل أعنّته السراب.

كما كان للأنثى المقهورة والمهمّشة نصيبها في هذه المجموعة القصصية، فقد قدّمتها القاصة ضحيّة مجتمع ذكوريّ معقّد. فهي متّهمة ومذنبة رغم براءتها، تدفع ثمن خطيئة الطرف الآخر تحت سلطان القوّة والتسلّط. وكأنّها فرض كفاية في المجتمع. ففي قصة (مذلة وإهانة)، تعامل الأنثى كسقط المتاع، فهي – في نظر الذكر - مجرد كتلة من اللحم والعظم، منزوعة العواطف، وظيفتها جنسيّة لا أكثر. " زوجي زير نساء، كل نهاية أسبوع يأخذني عند أخته لتمضية يومي الخميس والجمعة... " ص 42.

وكذلك في قصة (فاجعة)، دفعت الزوجة الضحيّة، الطيّبة، الكريمة، البريئة، ثمن غلطة زوجها المتعجرف الذي " أدخل عليها غرباء وتركها وهي في أشدّ الحاجة إليها " ص 18. فبدلا من الوقوف بجانبها ومؤازرتها وحمايتها، قام بتطليقها، ليبدي رجولته المزيّفة أمام الناس. " تخلّص منها بطلاق ليظهر رجولته أمام الملأ الحاضرين... " ص 18. وهكذا يتحوّل الزوج من سند لزوجته وحام لها إلى جلاّد. وهو صورة واقعيّة لمجتمع ذكوريّ منافق، يمارس دور الخصم والحكم في الوقت نفسه.

وبعد، فقد وفقت القاصة نوميديا جروفي - في مجموعتها القصصية (تأمّلات بعدسة القلم) – في فضح خبايا واقع اجتماعيّ يرزح تحت نير التخلّف والخرافة والظلم والقهر والتهميش والعلل النفسيّة، ورصد سلوكيّات أفراده، بأسلوب سرديّ بسيط وسلس. فإن أغلب قصص مجموعتها السالفة الذكر، لم تخل من سلبيات وعثرات على المستويات التالية:

أ – ظهرت في المجموعة أخطاء إملائية ونحوية ولغويّة، مثل " وكان الوقت متأخر (متأخرا) – فكان جوابه سلبي (سلبيا) ص 19 - بعد فوات الأوان أي بعد أن نفقده للأبد – (ما دور أيّ هنا؟) ص 33 – ترك لها أموال (أموالا) ص 37 - أم لولدان (لولدين) ص 37 – فنقله بسيرة (سيارة) ص 39 – ولا ترى أحد (أحدا) ص 40 – هو ذا الظلام ينشر سواده ليلا ص 45 (تكرار المعنى) – ذو السبعة عشر عام (عاما) ص 46 – وجد طفل صغير (صغيرا) ص 127. أنت ابني الغلي (الغالي) ص 116. وهنا، أطرح سؤالا، طالما أرّقني ومازال، أين المدقق اللغوي في دار النشر؟ وما دوره؟ وما جدوى وجوده؟ لماذا غفل عنها أو تغافل؟ أم أنّه أكذوبة؟ أم أنّ بعض المدقّقين اللغويين يخونون الأمانة، ويخدعون من استأمنوهم؟ وأذكر أنّني قرأت كتابا مطبوعا لأحد الأصدقاء، فعددت فيه أكثر من ألف خطأ. فلمت مؤلفه على تلك الأخطاء الفاضحة، وسألته: هل مرّ كتابك على التدقيق اللغوي قبل النشر؟ فقال لي: نعم. (كما أخبره الناشر)، ثم أضاف: لقد عرضته على أستاذين جامعيين مختصين في اللغة العربية، قبل دفعه للمطبعة. فحوقلت واستعذت للغة الضاد من همزات الدعاة والمنتحلين.

ب – من المآخذ التي رصدتها أيضا، تلك النهايات في القصص، وهي تدخّل واضح من القاصة في توجيه القاريء، نحو المغزى العام للقصة، ممّا قد يحوّلها إلى مروحة للكسالى. كان على القاصة أن تدع ذلك للقاريء المتذوّق والناقد المتمكّن، كي يغوص في أعماق المعمار القصصي لاستنباط الهدف والمغزى العام.

ج – لم تعتن القاصة، جيّدا، بأسلوبها السردي، من حيث توظيف بعض الألفاظ في موضعها المعجمي أو المجازي، كما جاءت بعض العبارات مهلهلة الصياغة، طنباء، تحتاج إلى ترميم وإيجاز، إضافة إلى غياب علامات الترقيم في بعض المقاطع.

وبعد، فبالرغم، من المآخذ السالفة الذكر، فإنّ (تأملات بعدسة القلم) لنوميديا جروفي إضافة مفيدة للمكتبة العربية، ولبنة أخرى، تضاف إلى هرم القصة الجزائرية القصيرة الشبابيّة، وبريشة وعدسة نسويّتين.

***

بقلم الروائي والناقد: علي فضيل العربي – الجزائر

 

توطئة: تقول الكاتبة الروائية: "شهد الراوي" عن روايتها هذه وتجربتها في الكتابة: {روايتي عن أبناء جيلي ومدينتي بغداد التي غادرتها ولم تغادرني، عن طفولتنا ومراهقتنا وشبابنا وأمنياتنا وأحلامنا والتي حاولتُ أن أحميها من النسيان وأمنعها من الضياع، أنّها (الرواية النظيفة) كما يروق لي تسميتها لأنها لا تعتمد أشارة خارج منطق الأحداث التي صنعها الواقع والحلم والذكرى والوهم بعد الحد من دور العقل والمنطق في رسم النهايات الطبيعية المتوقعة، فهناك نهايات مفتوحة وأسئلة لم تتم الأجابة عنها، وهكذا هي الحياة بمجملها}. 

رواية  " ساعة بغداد " لشهد الراوي:

إنّها منجز أدبي وثقافي رائع متكامل بمعنى الكلمة من بنية معمارية بهندسة لغوية ونصيّة نثرية في السردية الحكاواتية وبرصانة أدبية بالشكل والمضمون.

صدرت الرواية في 2016 عن دار الحكمة والنشر في لندن، فقد صدرت طبعتها الثالثة من نفس الدار وبيع منها أكثر من 25 ألف نسخة، كما تُرجمتْ إلى اللغة الأنكليزية ولغات أخرى، وحصلت على جائزة الكتاب في أدنبرة المملكة البريطانية في يوم الخميس الأول من يناير 2018، والروائية العراقية شهد الراوي من مواليد 1986 وغادرت العراق عام 2003، وأبدعت في كشف  مأساة (جيل الحرب والحصار) من العراقيين الذين وُلِدوا أبان الحرب فأكتوت طفولتهم المبكرة بها وعايشوا حصار الموت البطيء وتهجروا قسراً، وتيتموأ وتشردوا قهراً، فهي تريد أن توصل القاريء: 

إلى أن السعادة تنبثق من ليل الألم الطويل وتستمر في سردها إلى حكايات أشبه ما تكون فنتازية من نسج الخيال في الأنتحار والهجرة إلى الفردوس المفقود، وسلاح الحصاراللئيم ينشب مخالبهُ في هذه الشريحة المترفة، أما بخصوص الطبقة الفقيرة المعدمة أنها سُحقتْ بلا رحمة وأنتهى وجودها لكون بعضها سار بقناعته إلى حتفهِ الأخير الأنتحار من فوق جسور دجلة، وتتخيّلْ الكاتبة: أن الناس يقفون طوابير طويلة يمارسون الأنتحار مجموعة بعد أخرى.

تدور أحداث الرواية في منطقة راقية من ضواحي بغداد في التسعينات من القرن العشرين، وترويها (طفلة) تجد نفسها في ملجأ محصّن ضد الغارات الأنكلو أمريكية، وتروي قصة جيل وُلِد من رحم الحروب العبثية وعاش حصاراً ظالماً وهُجر وهاجر في أعقاب كارثة الحرب والحصار، وفي ساعة بغداد تتابع عن كثب مأساة العراقيين تحت الحصار الأمريكي في التسعينات وما قبلها الثمانينات في حروب ظالمة عبثية لم يكن للعراقيين فيها ناقة ولا جمل وذلك بعيني طفلة عراقية كُتبَ لها أن تولد في بلد محاصر ولهذا تبدو رؤيتها للواقع ساذجة وسطحية أحياناً من خلال تبسيط الأمور إلى حدٍ كبير، ولهذا يمكن القول بأن الكاتبة أصبحت  ناشطة لحقوق الأطفال أمام العالم المتمدن وأرتقت لبعث رسالة صادقة وواضحة لجميع البشر، وتقوم فكرة الرواية على محاور متعددة في مقدمتها محور الحب ومحور ثاني يمتاز بالديناميكية والطرافة والتي أجاد فيها (عمو شوكت) والشخصية الجذابة المرحة (باجي نادرة) التي تمثل الأقليم الكردي، وفي نظر الروائية وبحبكة أدبية  تبدو للقاريء متقصدة أضفاء البسمة واللطافة على فجائعية وسوداوية تلك الحقبة المرعبة ممزوجة بالسخرية من شاعلي الحروب العبثية وسكاكين صانعي الحصار الظالم. 

وتبدأ الحكاية التراجيدية المأساوية في ساعة بغداد من داخل الملجأ المظلم، فكان أحتساب الوقت المحلي  في مدينة بغداد حسب الساعة الزمنية في تلك الفترة السوداوية المظلمة ذات البوصلة المضطربة وهي تحكي تأريخ بغداد الحبيبة وظلامية  سوداوية العيش، أما بنظر مواطنيها (البغادلة) وبحبكة سردها  الرصين لقد فقدوا الأحساس بالزمن وبكل شيء عدا الدموع وهم يتقاسمون مظلوميات النظام الشمولي ويعيشون بفراغ زمني موحش متمسكين بالقديم بكل عفويته وفطرته، وبحبكة (فنتازية) للروائية  تجعل المتلقي أمام جمهوربالرغم من أوجاعه ومرارة فجائعية الثمانينيات القرن الماضي  تقتحم زمن العصرنة الحداثوية حيث صار بالأمكان رؤية (أورنمو) رئيس القضاء الأعلا بقصره  في حي المنصور مستضيفاً الحاكم بأمر الأمبراطورية الأمريكية (بريمر) .

 أثارتْ الرواية ضجة أعلامية كبيرة لم يألفها الوسط الثقافي العراقي من المتلقين والقراء من قبل، تحاول شهد الراوي في روايتها " ساعة بغداد " أن تلملم شظايا أشتات العراقيين وتعيدهم سيرتهم الأولى يوم كانوا عراقيين وكفى !!!، ولأنها من عشاق الحرية ففي هذه الرواية أستعملت جُلّ أدواتها الأدبية لتعزيز صرح الحرية أنها تؤمن: أن الجمال أقوى من القبح، وأن الوطن أحلى من الشتات وأن طائرها الأبيض العراقي الأصل لا يخونها مطلقا وأن طار كان مصيرهُ أن يعود لعشه الوطن.

والرواية ساعة بغداد هي واحدة من أكثر الروايات العربية لأثارة للجدل نقاد كونها تخالف في أسلوب سرد الخطوات السوية للرواية العراقية والعربية، فقد أعتمدت شهد الراوي على شكل مغاير للبنية التقليدية التي تأسست عليها الأعمال السردية الكلاسيكية ويمكن القول أن شهد الراوي قد قطعت صلتها بالماضي بشكلٍ واضح، فهي من جيل الحداثة،  وما رأيته خلال قراءتي للرواية في الأسلوب المعاكس في أدبيات الروائية أقول أن الكاتبة عندما جاءت بنصوص مخالفة للواقع السوي هو من تأثير بيئتها في تلك المحلة التي عايشت الحروب والحصار، فتبرر شهد هذه التجربة  بالقول: 

-(عندما تولد في سنوات حرب الخليج الأولى وتجد نفسك طفلاً في ملجأ محصّن ضد غارات التحالف الدولي ثم ترى نفسك في حرب الخليج الثانية وأنت تعيش مراهقتك في الحصار المفروض على بلدك ثم تصحو في شبابك على سقوط بغداد لتواجه حرب أهلية، فلابد أن تأتي كتاباتك خارج السياقات السردية التي عرفتها الكتابة قبلك)، فهذه بعض الأختلافات المعاكسة لروايات الآخرين:

- تبدو الشخصيات غاية في التعقيد والأرتباك ومبهمة أحياناً وملغّزة في الكثير من الأحيان وخاصة في تمثيل الطفلة التي تختلط في ذهنها الوقائع وحين يمتزج الخيال بالملموس ويتعانق عالم الأحياء مع عالم الأموات.

- شهد تحررت من البطل التقليدي الواحد، فهي تحررت من الثيمة الرئيسية الواحدة معتمدة ثيمات متساوية من حيث العمق والشمولية وأبراز أهمية الأفكار في كل ثيمة على أنفراد كالحب والحرب والأرهاب والهجرة والأغتراب والأنتحار والشعوذة والنبوءة، أي يمكن القول – حسب قراءتي للرواية – لم تعتمد على البطولة الفردية بل الشاملة على مجموعة من الرواة مثل ناديا وبيداء وباجي نادرة والمشعوذ، فهي قد دمرت آليات السرد المتعارف عليها سابقاً كالذي سار عليه من الروائيين الفرنسيين بأنتهاك محدودية الزمكنة، فأعتقد هو مذهبها الأدبي الجديد في روايتها البكر وربما تنحو للتغيير لاحقا في نتاجاتها المستقبلية، وعلى كل حال أتمكن أن أجزم أنها أتجهت إلى مابعد الحداثية التي تقوم على تحطيم بنية السرد التقليدي.

- وتبرز مذهب الحب والعشق بين فتيات مراهقات في الرواية بشكلٍ ملفت بالرغم من طغيان التراجيديات المأساوية للحرب والحصاروهو شيءٌ مخالف للواقع السوي،بالأضافة إلى أن رواية "ساعة بغداد" في سردياتها لقصص الحب لا تنتهي بالزواج التقليدي كالمألوف في الروايات الأخرى. 

أخيرا/أنها حقاً رواية ممتعة ولذيذة يشعر المتلقي كونه هو أحد رواة "ساعة بغداد" في حكاية الحرب والحصار، لكوننا جميعاً تقاسمنا رغيفها وقلقها وخوفها ودفع ثمن رصاصتها الغبية في أعدام أبناءنا، وأستلب منا كل شيء عدا دموع أطفالنا، فساعة بغداد رواية حديثة  معنى ومبنى وشخصياتها مدروسة وهي تعايش التراجيدية الملهاة المأساوية قدمت سرداً وصفياً عن طفولتنا ومراهقتنا وشبابنا وحتى كهولتنا وهي تتحدث بلساننا عن خيالاتنا وأحلامنا الممنوعة وواقعنا المرْ في محنتنا وخسائرنا وأقدارنا، تألقت الرواية بكل ثقة لتنتزع الفوز لجائزة الكتاب في أدنبرة البريطانية وعلى التوقيع التأريخي للرواية العراقية، وأعجبت بفلسفة شهد الراوي حين توحي لك خلال التعايش ما بين سطور السرد الرائع بأن " الطبقة الوسطى هي صديقة الحكومة أما الطبقة الفقيرة فهي في عهدة الوطن.

 فتحية اكبار واجلال للروائية المبدعة "شهد الراوي" وإلى الأمام حيث مكانتك الجوزاء وشاهدة ناشطة وأديبة في سفر الذاكرة الأدبية العراقية .

***

عبد الجبار نوري

شباط 2023 ستوكهولم

 

في المجموعة القصصيّة: "حينما ابتلعت القمر" للقاص السعودي: حسن الشيخ.

وصلتني من المملكة العربية السعودية الشقيقة، مجموعة قصصية للأستاذ الأديب والناقد السعودي حسن الشيخ. تحت عنوان (حينما ابتلعت القمر)، وهي من جنس القصة القصيرة جدا. ضمت بين دفتيها وصفحاتها 117 خمسة وثمانون نصا سرديّا قصيرا جدا. يعتبر فنّ القصص القصير من أصعب الفنون النثريّة على الإطلاق، منذ أن أسس له الكاتب الروسي نيكولاي غوغول من خلال قصته الشهيرة " المعطف " في القرن التاسع عشر. لكن، ألا يمكن اعتبار فنّ المقامات وسرديّات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وفنّ التوقيعات في العصر العباسي وحي ابن يقظان في العصر الأندلسي إرهاصات مشروعة لظهور معالم السرد العربي ؟. وأنا أتصفّح مجموعة الأستاذ حسن الشيخ " حين ابتلعت القمر "، استوقفني عنوانها، كما استوقف امريء القيس صاحبيه، وتساءلت: هل اللغة هي مجرّد ساعي بريد حياديّ، أم هي حمّالة إبداع وفكر وشعور وتاريخ وتجارب إنسانيّة ؟ كيف يمكن أن يكون الرمز أقوى في النفاذ إلى الذائقة الأدبية النقديّة، وأسرع إلى بلوغ مرامي الكاتب المبدع ؟ فالقمر له رموز عدّة منها التجسّد والشخصيّة والخصوبة والحياة والتفكير والأطباع والأم والبراءة والعفّة والهدوء والحزن والشوق والتعزيّة. ومازال سحره يشغل الأدب والفن والعلم والفلك. لقد وظّف القاص حسن الشيخ لفظة " القمر " توظيفا سيميائيا مجرّدا من روح الرومانسيّة، للدلالة على فقدان التأمّل والهدوء، وللتعبير عن رفض واقعه الداكن والبحث عن الحقيقة المطلقة، والتطلّع إلى الحريّة المشروعة. لكن هناك بون ومساحة بين شعور المرء وموقفه، حين " يبتلع " ما يعشقه ويستسيغه ذوقه، أو يبتلع ما لا يعشقه وما لا يستسيغه. فالدلالة الصرفيّة لصيغة (افتعل)، تفيد المشاركة أو الاتّخاذ والمطاوعة غالبا، بمعنى قوّتها، لأنّ معنى قوّة الفعل والمبالغة فيه متأصّل في هذه الصيغة. كما تفيد الاجتهاد أو الاضطراب أيضا، لأن صدور الفعل من الفاعل يكون ذاتيّا دون أن يتعرّض إلى أثر خارجي. يقول القاص حسن الشريف في أقصوصته (حين ابتلعت القمر)، والتي حملت عنوان المجموعة وتحمّلتها، ص 83 " اتكأت على كرسي خشبي، وتطلعت إلى السماء بعينين. كسولتين. رأيت بأم عيني القمر بازغا فقلت: هذا هو وجهها

تطلعت مرة أخرى إلى السماء، فلما رأيت النجوم بارقة، قلت: هكذا كانت تبرق عينيها.

تطلعت إلى السماء، ولم أرى شيئا. فتذكرت إنها في داخلي، حينما ابتلعت القمر ".

والصواب (لم أر)..

هكذا إذن، حين يبحث المرء المأزوم نفسيّا، الرازح تحت نير اللاانتماء، يبحث عن الحقيقة خارج ذاته، فلا يجد لها ظلاّ، وإذا به يكتشفها كامنة في أعماق ذاته. ويتطلّع إلى تغيير العالم الخارجي، وتغيير صورة الآخر وسلوكه تغييرا إيجابيّا، بينما ذاته ترفس في أغلال السلبيّة والقصور. عندها يعجزعن هزم أزمته، والتخلّص من براثينها.يقول القاص في أقصوصته (البحث عن بحر الدمام) ص 84 / 85: " حينما دخلتُ مدينة الدمام

تداخلت الرؤى والأحلام والذكريات البعيدة

هنا حي العدامة.. هنا منزلنا وبقالة العم صابر وهنا ملاعبنا.

وهناك حي الطبيشي ومنزل والدها، ومنزل عمها، ومحل الخياط الهندي الذي تقف عند بابه لكي تٌخيط فساتينها عنده.

حاولتُ البحث عن البحر الذي كنتُ ارتاده يوما بصحبتها.

ولكن ورغم كل محاولاتي

لم أجده

ولم أجدها. "

أجل، يصبح البطل (الأنا) السارد، ضائعا بين الرؤى والأحلام والذكريات التليدة، أي بين الماضي والمستقبل. فهو واقع بين زمان ومكان جميلين، كانا يحضنان حبيبته، تفوح منهما عطور الحب في حي العدامة وحيّ الطبيشي، ودكان الخياط الهندي الذي يخيط فساتين حبيبته، ومنزل والدها، والبحر الذي كانا يرتاده صحبتها. وكم للبحر من رمزيّة وسمات استدلالية وميتافيزيقية الخيال ووجود تاريخي وتراثي. فهو يوحي بمعان إيجابية مثل: الوطن، والحنين، والأمل، والصمود، والصديق، والعطاء، وذكريات الطفولة. أما النواحي السلبية للدلالات الرمزية للبحر، فهي: الضياع، والمنفى، والمحتل. فقد ابتلعت المدنيّة الحديثة والصناعة النفطيّة رومانسيّة الدمام، بالخصوص بحرها وخليجها، الذي يشبه شكل نصف القمر.

إنّ القاسم المشترك بين سرديّات هذه المجموعة القصصيّة، هو المعاناة والحنين والأمل. وقد حاول القاص حسن الشريف، أن يتخفّى – قدر المستطاع – خلف لغة شعريّة ومجازيّة ورمزيّة وزئبقيّة الملمس. ولعلّ ذلك ما جعله يخفي في قرارة نفسه الكثير ممّا كان يودّ قوله ونقله إلى المتلّقي. يعبّر القاص عن أزمة جيله على لسان السارد في أقصوصة (أنا لا أخاف الموت) ص 78، بقوله: " من منكم لا يخاف الموت !

أنا لا أخاف الموت أبدا، رغم إنني أخشى المرض. "

لماذا ؟ لأن الموت راحة جسديّة وسفر إلى عالم الخلود في دلالته الماديّة المباشرة، بالإضافة إلى رمزيّته. بينما المرض معاناة وألم عرضيّان ينهكان الجسد، وله أيضا من دلالات رمزيّة ومخارج مجازيّة في متون الشعر والنثر قديما وحديثا، خاصة عند الأدباء الرومانسيين والرمزيين. فالأمم المريضة بأمراض مزمنة، هي أمم في حالة موت سريريّ اكلينيكي.

ما لم يقله القاص أكثر ممّا قاله، وما أخفاه من وراء سرديّاته المجازيّة أخطر ممّا أظهره. وكأنّي بالقاص حسن الشيخ، قد وظّف لغة الصراخ والرفض والاحتجاج والتمرّد على الواقع السياسي والاجتماعي بأسلوب التخفّي وراء لغة مظهر الحيّاد لمراوغة مقصّ الرقيب. ولنتأمّل ما جاء في الأقصوصة التالية (سرّ الغرفة العلويّة المقدّس) ص 71." سر الغرفة العلوية المقدس

إلى الآن لم يستطع أحد الدخول إلى الغرفة العلوية التي حذّر جدي من الدخول إليها.

فمنذ أن حافظ جدي على سرها لآماد طويلة، جاء دورنا نحن لنحافظ على سرها المقدس.

فمن الغرفة العلوية يأتينا الخير والبركة والسعادة. ويأتينا النور من الظلام

وإلى بابها نلتجئ من غِير الزمان والظلمة والقهر. ونشكو ظلم الطغاة.

إلا أي منا لم يهتك الستر المقدس، ويلج على داخل الغرفة منذ أيام الأجداد السابقين.

فما خلف الباب لا يعلمه إلا من هو خلف الباب. ".

ألا تعبّر هذا القطعة السرديّة، عن أزمة مجتمع منغلق، تمارس فيه السلطة السياسيّة الطاغيّة والظالمة في غرف (مظلمة) هواية الوصاية على الرعيّة بقوّة الرعاية (المقدّسة)؟ بلى، هي ظاهرة عربيّة بامتياز، وجدت تربتها الخصبة لتنمو وتتجذر و(تتقدّس) في كنف الجهل والاستسلام والركون للقابليّة والقدريّة.

إنّ نقد الأنظمة السياسيّة في البلاد العربيّة (طابوه) محرّم، يجرّ صاحبه إلى مسرح التخوين والعمالة للأجنبي والمحاكمة والمساءلة والسجن أو النفيّ، أو ربّما الإعدام. لأنّ الحاكم العربيّ، مخلوق معصوم لا يأتيه الزلل من بين يديه ولا من خلفه. حاكم لا يعترف إلاّ بالولاءات، وإن هوت به إلى الجحيم، ويحارب الكفاءات بشتى السبل.

وإذا كان الهمّ السياسي، قد شغل القاص حسن الشيخ في بعض سرديّات هذه المجموعة، فإن همّه الأكبر من جراء التضييق على الحريّات الفرديّة والجماعيّة قد أرّقه، لأن حرمان المواطن من حريّته، سيؤدي بالضرورة إلى ضياع الوطن وخضوعه لسيف الأجنبي. لا يمكن لوطن (القطيع)، مهما كان جنسه وموقعه، أن يحافظ على حريّته وكرامته. لأنّ حريّة الجماعة من حريّة الفرد، وحريّة المواطن صون لحريّة الوطن. ولا يمكن – أيضا - أن تشاد الحضارة بالعنف والقهر واليأس والكراهيّة، وخارج أسوار الحريّة الراشدة والعدل. ولعلّ ما جاء في أقصوصته، المعنونة ب (ترسيم الحدود)، ص 64، يميط اللثام عن ذلك الهمّ المؤلم، يقول القاص حسن الشيخ: " يأتون بخرائطهم ومناظيرهم وببدلهم الزرقاء والخضراء، لكي يرسموا الحدود على أرضنا وفي دواخلنا بطباشيرهم الفحمية السوداء.

ومن خلفهم صبية صغار يلعبون، يمحون بأرجلهم ما يرسمه الجنود من حدود. ".

لكن، سنّة التغيير والأمل قائمان - دوما – في نفوس أجيال الخلاص. فمهما طال الليل، فإن الفجر قادم لا محالة. صغار اليوم هم شباب الغد ورجاله، هم الذين يحملون على عواتقهم رسالة الحريّة والإصلاح لم ينسوا، ولن ينسوا تفاصيل اغتصاب الصهاينة لوطنهم وضياع أرضهم ونكبة آبائهم وأجدادهم ومآسيهم، كما تمنّى ابن غوريون، مؤسس الكيان الصهيوني في مقولته: " الكبار يموتون والصغار ينسون ". وانتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين المحتلّة خير شاهد على بطلان ترّهات الصهايّنة.

لم يغفل القاص حسن الشيخ الهمّ الاجتماعي الإنساني، في صورته (السوداء). فإذا كان الكاتب أو المفكر أو الفيلسوف، يعاني من فقر الحريّة في مجتمع اللاحريّة، فإن الفرد المسحوق يئنّ تحت عجلات العوز المادي. ممّا يضطر إلى الترحال والهجرة مئات الأميال أو آلافها من أجل لقمة خبز مغمّس بالشقاء والإذلال والمعاناة والغربة والوحدة والحنين والشوق والتضحيّة. لقد حرّكته ظاهرة الخادمات الأسيويات في الخليج والشام، وأدمت قلبه المرهف. يقول القاص حسن الشيخ في سرديته (أنا جوانا دانييلا)، ص 74 / 75: " عندما قبلتُ بالعمل هنا، بعيدا عن أهلي وعن وطني، كان الأمر تحدياً كبيراً. سأعيش مع أناس لا أعرفهم، ولا أنتمي إليهم، ولا أتحدث لغتهم، بل ولستُ على ديانتهم.

أنا جوانا دانييلا من الفلبين البعيدة. قدمتُ إلى هذا المكان البعيد لأوفر لقمة العيش لأطفالي الصغار الذين تركتهم عند زوجي.

أنا الخادمة جوانا دانييلا ضحّيتُ بحريتي، لأجعل من غد أطفالي أكثر سعادة. فلا تجعلوا من غدي أكثر تعاسة. "

أليس ذلك إدانة صريحة لتلك (الظاهرة المشينة) ولبعض المجتمعات الأسيويّة، التي عجزت عن صون كرامة رجالها وشرف رجولتهم وذكورتهم وحريّة نسائها، لمّا أجبرت نساءها على الهجرة إلى بلاد قاصية من أجل لقمة خبز لأطفالها الجوعى ؟ والأقصوصة صورة تعكس كفاح المرأة الأسيوية الفقيرة، والشعور الرهيب بألم العيش في مجتمعات اللانتماء، غريبة الملّة واللسان والانتماء، وتضحيتها من أجل البقاء، في عولمة دروينيّة ورأسماليّة، عنوانها، البقاء للأقوى وليس للأصلح. وفي أقصوصة (جيوش البرابرة) ص 15، يقول القاص: " جاءت جيوش البرابرة تجتاح حضارة ايامي، واجتاحت جموع التتار مواطني.

وهذا أنا وحيدا جائعا عاريا بعد ان سلب الجنود متاعي، ووقفت على قارعة الطريق أنوح كالثكلى.

اليوم تعلمتُ أن التقط اغصان الأشجار اليابسة لأصد كل الغزاة. فتوقف التاريخ.". يفضح القاص راهن أمتّه وهزائمها وانكساراتها المتتاليّة في صراعها ضد الآخر اليهودي والنصراني. وهو صراع تعدّدت أشكاله وأنماطه ؛ صراع عسكريّ وفكريّ وثقافيّ وعقائديّ وأخلاقيّ واقتصادي. فالبرابرة المعاصرون مازالوا على عهود أسلافهم في القرون الوسطى. يقتلون الأطفال والنساء ويذبّحونهم ويعذبون الأبرياء ويضطهدونهم بأبشع وسائل التعذيب. ما أشبه سقوط فلسطين في أيدي الصهاينة بليلة سقوط غرناطة في أيدي القشتاليين. ما أشبه هوان الأمة اليوم وخضوعها لأعدائها وخنوعها لهم بهوانها في أواخر أيام الرجل المريض والامبراطوريّة العثمانيّة المتهاويّة.

ومن خلال تتبّع سرديّات هذه المجموعة القصصية. يمكن استخلاص أهم العناصر التي شغلت القاص حسن الشيخ وأرّقته. وأهمها، وفي المقام الأوّل؛ الحريّة المسؤولة بمفهومها الإنساني المعيش (حريّة التفكير والتعبير في إبداء الرأي)، لا الفلسفي الميتافيزيقي. فهو على وعي تام، بأنّ الإنسان المنزوع الحريّة شبيه بجسد بلا روح. وأنّ أزمة العالم العربي تكمن في غياب حريّة الفرد والحوار المنتج، وهذا يفضي به إلى معيشة ضنكى، معيشة مجرّدة من العزة والكرامة والإباء وصون الذات الجسديّة والعقليّة من مغبّة الذوبان في العبث والعدم. أمّا العنصر الثاني، فهو غيّاب العدالة الاجتماعيّة كواقع ملموس في حياة الفرد والجماعة. فقد استُعمِل العدل - والذي على أساسه يقام الملك – كشعارلخدمة أهداف سياسيّة فقط، لا لتحقيق فريضة رباّنيّة، وخدمة رسالة إنسانيّة. أما العنصر الثالث، فهو التمّرد والرفض، فقد هدف القاص حسن الشيخ، إلى تحريك خبايا اللاشعور وإيقاظ الضمائر التائهة في مدن الاستسلام واليأس، وذلك من خلال توظيف سيميائية الرمز والإسقاط والتوريّة. كما ورد – مثلا - في أقصوصته (القلعة العالية)، ص 39: " أتطلع الى السماء من نافذة زنزانتي العالية، ولا شيء غير الظلام والصمت، العصافير على شجرة النبق هدأ صفيرها. ولا أسمع سوى همهمات الحراس في باحة السجن الهادئة منذ عشرين سنة وانا انتظر محاكمتي التي لم يحن وقتها بعد، كل شيء كما هو في هذه القلعة العالية. الوجبات الرتيبة، والوجوه، والكتب القديمة، والجدران، لم يتغير شيء سوى تزايد أعداد المسجونين في هذه القلعة الكئيبة. "

إنّها لوحة قاتمة اللون، تعبّر عن مجتمع عربيّ مغلول الأفكار النيّرة، ومحكوم باللامعقول في زمن سيادة العقل والحكمة والمنطق والديمقراطيّة الرشيدة. مجتمع تتحكّم فيه الأحاديّة المستبدّة والفردانيّة المطلقة، تحت شعار أنا أو الفوضى، أنا أو لا أحد.

و الخلاصة، يمكن اعتبار سرديّات المجموعة القصصية (حينما ابتلعت القمر) للقاص حسن الشيخ، إضافة - لا بأس بها - إلى المكتبة السعوديّة والعربيّة. وهي أقاصيص لم تخضع في بنائها لمنطق توالي الأفعال تبعا لسياق الحكاية (بداية / عقدة / حل) في الحلقة السرديّة الكلاسيكيّة.

وما على القاص إلا الانتباه إلى بعض الهفوات الإملائية والنحويّة الواردة في بعض الأقاصيص لتصويبها في الطبعات اللاحقة.

***

بقلم: الناقد والروائي:

علي فضيل العربي – الجزائر

ألمحنا في المقالات السابقة إلى التصوُّر العامِّ الأوربيِّ للمرأة الشَّرقيَّة، الذي استُقي من "ألف ليلة وليلة"، قبل أيِّ مصدرٍ آخَر.  ولئن صحَّ بعض ذلك التصوُّر، فإنَّ بعضه لا يعدو خيالًا "ألفليليًّا".  وتتمثَّل آثاره في قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، في مظاهر، منها تصوير المرأة ممتهنةً غالبًا، وبخاصَّةٍ في بلاد العَرَب، حتى إنَّها لتُحرَق، على حدِّ زعم الراوي.  وهناك القصور الحافلة بقوافل النِّساء اللَّاتي يحرسهن العبيد والخصيان، كما في الفصل المتعلِّق بحكاية (الباسليك).  بيدَ أنَّك ترى في المقابل الأميرات المترفات والملِكات المتوَّجات.  هكذا تَظهر تلك الصُّورة الطبقيَّة المتقابلة في "صادق" كما تظهر في الليالي العَرَبيَّة.

ولعلَّ تصوُّر المرأة خائنةً، عديمة الوفاء، أو قليلته على الأقل، هو من أهمِّ ما يُلحَظ من تشابُهٍ في تصوير المرأة بين قِصَّة "صادق" و"ألف ليلة وليلة".  وتبرز خيانة المرأة زوجها في عِدَّة مواضع من "صادق"، أهمُّها خيانة المَلِكة زوجها.  وتلك إحدى الأفكار الرئيسة في قصص الليالي، في مثل قِصَّة "السلطان محمود صاحب الجزائر السود"، وغيرها.  وإلى جانب الخيانة، تبرز الغيرة القاتلة.  أمَّا النظرة العامَّة إلى مكائد النِّساء، وغرائزهن، ودوافعهن، وما إلى ذلك من أسرارهن- كما بدت في زوجات مَلِك (سرنديب)، في فصل "العيون الزُّرق"- فإنَّ أصله واضحٌ من قصص الليالي في حكايات مكائد النِّساء وحِيَلهنَّ المتعدِّدة، وأُولاهنَّ (شهرزاد) نفسها.

-2-

وتُصادفنا موضوعةُ الحِيلة في قِصَّة "صادق" كما تصادفنا في "ألف ليلة وليلة".  وهي في كلا النَّصَّين لأهداف مختلفة.  منها ما يكون لكشف حقيقة، كالحِيلة التي أجراها (صادق) ليعرف صِدق امرأته (أزورا) في حُبِّه، وكالحِيلة التي اتَّخذها مَلِك (سرنديب)، بمساعدة صادق، لكشف أمانة المرشَّحين لبيت ماله، أو لكشف وفاء نسائه.  ومن الحِيَل ما يكون لجلب منفعةٍ أو دفع مضرَّة، كالحِيلة التي احتالها (كادور) في سبيل إنقاذ صادق والملِكة، بعد كشف أمرهما عند الملِك، أو الحِيلة التي قامت بها الأرملة العَرَبيَّة (المُنَى)، من أجل إنقاذ جسدها من الحرق، وإنقاذ صادق من ثورة الكهنة.  وقد تأتي الحِيلة لعملٍ شَرِّيٍّ، كتلك الحِيلة التي أعدَّتها زوجة الحسود للإيقاع بصادق وامرأة المَلِك (مؤبدار)، أو كالحِيلة التي سرقَ بها (إيتوباد) اللَّأْمَةَ البيضاء من صادق، بعد أن تفوَّق عليه في المبارزة، التي تسابقا فيها على عرش المملكة.  وكلُّ تلك الضُّروب من الحِيَل عهدناه في قصص (شهرزاد) بكثرة.  منها، على سبيل المثال، ما نقرأ في (الليلة 672)، من "حكاية أحمد الدنف وحسن شومان مع الدليلة المحتالة وبنتها زينب النَّصَّابة"(1).  إلى غير هذا من النماذج، التي كثيرًا ما ترتبط بالمرأة، متمخِّضةً عن الثقافة الذكوريَّة في شيطنة الأُنثى، هنا وهناك.

-3-

وقد جرت العادة في ليالي (شهرزاد) أن يظهر علينا البطل متَّصِفًا بصفات الفُروسيَّة غالبًا.  وصفات الفُروسيَّة هناك كانت الشجاعة، والفِطنة، والجَمال الخُلقي، والخَلقي.  وقد يجمع البطل مع هذه الخصال: الثقافةَ، والعِلمَ الواسع، والحِكمة الفاضلة.  وقد تمثَّلت تلك الصفات الفروسيَّة في شخصيَّة (صادق)؛ فهو فتًى جميلٌ، ذكيٌّ، مثقَّفٌ، شجاع، له من الحِكمة، والعِلم، والخُلق، مثلما كان لأبطال القصص الشهرزاديَّة.

ومن أوجه الشَّبَه بين النَّصَّين أن تتمثَّل فطنة البطل في تحليل الأمور والاستعانة بالقرائن.  كما فعل (صادق) عندما عرف صفات كلبة المَلِكة وجوادها بقرائن من آثارهما، لينال بذلك جائزة الأربع مئة مثقال محمولة إلى داره في موكب.  وهي الصورة عينها التي تتكرَّر مع بعض الأبطال الشهرزاديِّين.

والبطل في "ألف ليلة وليلة" غالبًا ما يكون شاعرًا، يُنشِد في مختلف المواقف.  مثال ذلك ما تَقرأ في قصَّة "أنس الوجود مع محبوبته الورد في الأكمام"(2)، وفي غيرها.  وتتكرَّر في قِصَّة (فولتير) الصُّورة نفسها في شخصيَّة (صادق)، الذي أدَّت به إلى السجن بِضْعةُ أبيات كتبها.  وإنْ كان يبدو أنَّ (فولتير) إنَّما أقحم هذا في قِصَّته لتصوير بعض المشكلات التي كان واقعيًّا يعانيها هو في حياته.

وفي مقال الأسبوع المقبل ننتقل إلى مقارنة قِصَّة (فولتير) بقِصَّة "السندباد البحري".

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..............................

(1) (1981)، ألف ليلة وليلة، (بيروت: دار التوفيق)، 5: 990. 

(2) م.ن، 4: 707- 725.

 

عن دار الوسط اليوم في رام الله صدرت مؤخّرا المجموعة القصصية الجديدة للكاتبة والشاعرة هيام مصطفى قبلان، تزيّن لوحة غلافه لوحة الفنانة لينا صقر مصطفى، تقع في 120 صفحة وتحتوي على اثنتين وعشرين قصة قصيرة.

تفتتح المجموعة قصة «أفقد نفسي»، بطلتها هي إمرأة شابة، وربما من المثير للعجب أن اسمها يهودي، راحيل، رغم كونها عربية من عائلة عربية، قرويّة، تقليدية، تعود برفقة زوجها وابنها الصّغير إلى بيت أهلها الذي نشأت فيه في القرية، بعد غياب عشر سنوات. راحيل، التي توفّيت والدتها وهي صغيرة، فقدت حنان ودفء الأم منذ ذلك اليوم، واضطرّت هي وأختها فريدة للخروج للعمل في الحقول والكروم والبيوت، وتفاقمت معاناتها بعد زواج الأب من رحمة، إمرأة شابة وجميلة، تصفها الكاتبة بأنها «ذكيّة بحنكتها ومكرها وضعت كل طاقتها بتقريب الأختين لها وكسبهما» في البداية، وبعد ذلك كشفت رحمة عن وجهها الحقيقي بعد أن أنهت راحيل المدرسة وتمّت خطوبتها على سعيد الذي أراد الزواج من راحيل بعد أن طالت فترة الخطوبة، بموافقة راحيل، إلا أن زوجة أبيها، رحمة، أقنعت زوجها أن راحيل ما زالت صغيرة السّن والأفضل تأخير الزواج حتى يكمل سعيد تجهيز البيت.

وعندما طلبت راحيل من رحمة استقبال أهل خطيبها لتحديد موعد الزواج، ينكشف وجهٌ آخر لرحمة لم تكن تبديه، فيتّضح لراحيل أنها بلا رحمة، حيث «لم تمنحها فرصة أن تكمل كلامها وكأنّ الدّنيا انقلبت والنيران اشتعلت في جسدها»، ثم تتفاقم الأزمة العائلية بشكل مفاجئ وغريب، تقوم راحيل من بعده بفعل مفاجئ وجريء، يحوّل مسار حياتها إلى نقطة اللاعودة. «أفقد نفسي» هي قصة اجتماعية ميلودرامية عن صراع الخير والشر، عن فقد الأم وفقد الأب من بعده رغم وجوده الجسدي.

وتصف الكاتبة في قصة «ضوءٌ متكسّر» حالة انكسار رجل بعد فشل علاقة حبّه مع إمرأة لا نعرف اسمها ولا اسمه، فالكاتبة لم تسمِّهما بأي اسم، وسردت القصّة بضمير الغائب، وكأنّها قصدت بذلك أنها قصة يمكن أن تحدث مع أيّ رجل مهما كان اسمه ومع أيّ إمرأة مهما كان اسمها.  وتبدأ القصّة بمشهد تصفه الكاتبة بأنه «متكسّر الأرداف ينعكس على وجه الماء»، حيث تقترب سيّارة إمرأة من بطل القصة، وكان «متأكّدًا أنها هي، تمرّ هذه اللحظة كأزيز رصاصة من أمامه، ودخان سيارتها من الخلف يتعالى في الأفق».4886 هيام قبلان

لم تلتفت المرأة نحوه، رغم أنها كانت تعرفه جيّدًا. حيث تسرد لنا الكاتبة كيف تعرّف الرجل عليها مصادفةً في مقهى وباحت له بالعديد من أمورها الشخصية في ذلك اللقاء الأوّل، فأحسّ نحوها بشيءٍ ما مغاير كان يبحث عنه دائما، شيء مختلف لم يعرفه في النساء من قبل، و«مارس معها لعبة الحب حتى الذوبان... ولم يكن مجرد إحساس، بل إنه الانصهار والتّماهي بمن يحبّ». لكنه، في تلك اللحظة، أدرك أنه فشل في علاقته، وبقي حائرًا وتائهًا، يتساءل في داخله: هل كانت خدعة؟

أما بطل قصة «نقرات الكعب العالي» فهو رجل وحيد وحزين بعد أن طلّق زوجته، زهرة، المطيعة، الخدوم الصّامتة، التي لا ترفع إلى زوجها النظر حتى في أصعب اللحظات، يجلس كل صباح أمام النافذة ليختلس النظر إلى العمارة المقابلة لشقّته، حيث يرى المرأة التي «تمشّط شعرها الليليّ الطويل، تسترخي على الكنبة بقميص نومها الشّفاف الذي يكشف عن جسد بضّ ومشاغب»، فيشعر بدوار من تلك الأنثى التي دوّخته. وفي يوم من الأيام حين عرّج على المقهى القريب ليرتشف قهوته، لم يصدّق عينيه، إذ رآها هناك بجسدها الرّشيق، أميرة أحلامه. فسار وراءها مأخوذًا بسحر جمالها، بعطرها الزكيّ الذي يفوح منها، بكعبها العالي الذي كلّما ابتعدت نقراته «ينفكّ رباط حذائه، يتحلحل، يطير ويتطاير». ويتمنى لو يتوقّف الزّمن ليلامس شعرها، ويصمت الكون ليتنفّس ليلها ويغرق في عينيها. ولا بدّ أنه أحسّ حينها كأنه عاد مراهقا شابّا إذ ذكّرته ملاحقته لذات الكعب العالي كيف كان يلاحق بنت الجيران في حبّه القديم بين البيوت المتراصة، ثم يقارن في ذهنه تلك المرأة ذات الكعب العالي بزوجته التي طلّقها، زهرة، التي يتذكّرها بجلبابها الطويل، وكيف كانت «تخنقه رائحة الرّطوبة التي تنبعث من تحت جلبابها ومن قدميها المتشقّقين، وهي تهرول حافية على الطريق الترابيّ المؤدّي إلى الحقل». في هذه المقارنة بين المرأتين تنتصر ذات الكعب العالي على ذات الجلباب الطويل في جذب الرجل والاستحواذ على قلبه، أو هكذا تبدو للوهلة الأولى، لكن الكاتبة تفاجئنا في نهاية القصة بلحظة تهزّ النفس وتحرق القلب حين تخبرنا كيف يختفي ظلّ تلك المرأة ذات الكعب العالي و«ويهوي حلمه المدنّس من ثقوب السّراب».

وفي قصة «بعد أن كبُر الموج» التي تحمل عنوان المجموعة، تصارع الراوية، بطلة القصة، مجتمعها وأهلها من أجل حبّها وعشقها للكتاب، الذي تصفه بكل مواصفات الحبيب: «تلهث أنفاسي، وأدري أنني أستسلم لسحرك العارم. حين دسستُ رائحتك بين خصلات شعري لأول مرة، تجوّلت، تابعتَ خطواتي المهرولة، تجولتَ معي في شوارع المدينة، ودخلتَ ورائي إلى حانوت الملابس. كم تعثّرتُ خجلا وأنت ترمقني نصف عارية أمامك. انتابني شعور مراهقة يتورّد خدّها البتول، دون استئذان تتأبّط ذراعي وأختلس النظر إلى الوراء.» ذلك الحبيب الذي حاولت عبثًا التخلّص منه برميه في البحر، وتقاوم الطّعم وتقرّر ألا تتبعه. «أردتُ أن أخلعك مني، كما تخلع الشعوب حكامها، كما تُهدم في الوطن المساكن، كما تُنزع الطفولة من أثداء الأمهات وكما يسقط القتيل وراء القتيل مضرجًا بدمائه.» لكن، رغم كل الضغوط والقيود التي حاولوا تكبيلها بها، وقفت أمام أمّها بكلّ شجاعة، عندما اكتشفت ما تكتبه في أوراقها التي تخبّئها تحت فرشتها فنهرتها، أدارت لها ظهرها، في حركة تدلّ على الثقة بنفسها وبحقّها في الحبّ، وسألتها: «أين أوراقي التي تحت فرشتي يا أمي؟»

 ثم أضافت: «هذه أوراقٌ تخصّني وحدي»، مذكّرة أمّها بحقّها في الخصوصيّة، حتى لو كانت ابنتها، فلها كيانها الخاص، حاجاتها ورغباتها، ولا يحقّ لأحد، حتى لو كانت أمّها، بفرض رغبته عليها ولمس أوراقها الشخصية. وكان على الكاتبة الاستمرار في لهجة الراوية الصّارمة مع أمّها خلال تلك المواجهة فلا تتلعثم ولا يتوقف الكلام في حلقها ولا تحاول الصّراخ بعلو صوتها، كما فعلت، فكلّ هذه الأفعال تدلّ على التردّد والضعف، بل كان عليها أن تقول لها ببساطة ورزانة كلّ ما قالته لها في نهاية القصّة دفاعًا عن حبّها. 

«بعد أن كبُر الموج» هو الإصدار التاسع للكاتبة هيام مصطفى قبلان من قرية عسفيا، التي أصدرت حتى الآن خمسة دواوين شعرية، نصوص أدبية بعنوان «بين أصابع البحر»، رواية «رائحة الزمن العاري» عام 2010، وهذه ثاني مجموعاتها القصصية، بعد مجموعة «طفل خارج من معطفه» عام 1998. وعن سبب اختيارها لكتابة القصة القصيرة تقول هيام: «كتابة القصة لم تكن بمعزل عن فكري وتفكيري وقدرتي، فالقصة كأيّ جنس من الأجناس الأدبية تأخذ حيّزا كبيرًا ومهمًّا بين كتاباتي، اخترتُ هذه المرة إصدار مجموعة قصصية لأنني أشعر أنني متمكّنة من كتابة قصة بكل ما فيها من عناصر وتقنيات القصة القصيرة، القصة لا تتطلب مني غير أن أكون على علم مُسبق وتجربة في كتابة القصة، فقد درستُ عن القصة والرواية في دراساتي العليا وكان قراري بإصدار المجموعة حيث أتى بعد كتابتي لمعظم قصص المجموعة من قبل وقد كنتُ أريد أن أطلق عليها اسم (نساء) ،جمعت القصص وترويت، لكن تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن، فقدتُ ابني ومرضتُ، حاولتُ التوقّف عن الكتابة لفترة لأعود لقصص مجموعة (نساء)، لكن مشاعري في تلك اللحظة والفترة الزّمنية التي صارعتني قبل أن أصارعها ألحّت عليّ الاستمرار بكتابة باقي القصص التي وُلدت من رحم الألم والصّدمات والمعاناة، خاصة الإحساس بالموت والفقدان والغربة والحنين للأمس!»

نلاحظ أن معظم قصص المجموعة تتحدّث عن نساء يعانين من الظّلم والقهر والاضطهاد في المجتمع العربي الذّكوري. فماذا يميّز بطلات القصص عن غيرهن من النساء؟

تقول هيام: «كل بطلة من بطلات قصصي لها شخصيتها المختلفة والخاصة التي تميّزها: مثل المرأة المقموعة المظلومة، والمرأة المتسلطة القوية، والمرأة الخائنة، والمرأة المناضلة، والمرأة الضعيفة الوفية، وفي نفس الوقت جميعهن يخضعن للاضطهاد في مجتمع عربي ذكوري وعقلية قبلية متوارثة».

الدير الذي لجأت إليه فاتن، الحقول والكروم التي عملت فيها فريدة، القطيف في حقول التّفاح التي تعمل فيها أم سماح، الكروم التي في أطراق القرية، الغابة الممتدّة وشجرة التّين القريبة من البيت...  كلّها تذكّرنا بنكهة قرية الكاتبة، عسفيا. ومن هنا يتبادر إلى الذّهن السؤال: إلى أي حدّ تكتب هيام في قصصها عن قريتها وعن البيئة التي نشأت بها؟

عن ذلك تقول هيام: «أكتب عن البيئة والمكان ليس فقط في قصصي، بل واضح في روايتي «رائحة الزمن العاري» وفي قصائدي أيضا عن المكان والطبيعة، وتعلّقي بكرمنا في أطراف القرية ونكهة قريتي التي ولدتُ فيها ونشأت وترعرعت، من يتناول شعري وقصصي يشعر أن (أدب المكان) يتواجد في كتاباتي وهذا ما أطلقه عليّ بعض النّقاد لتعلّقي بالمكان وما يسمى ب (توبوفيليا)، فحين نتحدّث عن المكان ونصفه لأن المكان قد يكون مرجعا يوفّر للكاتب بداية وانطباع أوّلي، حيث الحكائي الذي يكتنز مضمونات مأخوذة من الواقع ووظيفته توفير مرجعية لانطلاق الإبداع لدى القاص أو الروائي وكأن المبدع يستشرق واقعًا جديدًا رغم المعاناة التي يمرّ بها في واقعه، فلا زمان دون مكان طبعا، ولا سرد للقصة أو الرواية دون الاهتمام بالمكان والجذور فالذّات البشرية تمزج ما بين المكان الواقع والخيال ليصبح المكان فضاء لا يخلو من الرّمزية والإحساس والواقع المتخيّل فهو امتداد للشخصية وانتقالها من جغرافية المكان إلى الدّلالات الرّمزية والفكريّة وأقول: أن للمكان مكانة خاصة في كتابة السرد عند الكتّاب وأنا منهم».

مداهمة المرض الخبيث بعد رحيل الابن في «دون خيار»، الإصابة بمرض السرطان الذي اختار منطقة حساسة من جسد المرأة في قصة «فوق سرير أبيض»، السقوط في سرير المرض في قصة «سرب ضجيج»، كلّها توحي بتجارب وآلام شخصية اختبرتها الكاتبة بنفسها. فإلى أيّ حدّ تعبّر قصصها عن تجاربها الشخصية؟ 

تقول هيام: «ليست جميع قصص المجموعة هي تجارب شخصية، من الواضح في مجموعتي أن فقداني لابني وقتله غدرًا، ومداهمة المرض الخبيث بعد رحيله بفترة وجيزة ناتجة عن تجربة شخصية ومعاناة وانكسارات وصدمات، أما باقي القصص فتعبر عن المجتمع والواقع الذي نعيشه، فماذا تغيّر؟ الرّذيلة والفساد والعنف والقمع والخيانات والمصالح الشخصية والطبقيّة والعار والأقاويل والسّمعة كلّها ما تزال موجودة وتؤثّر طبعا على القاص الذي ليس بيده مصباح علاء الدين، ولا سيف الحق والعدالة ولا قدره لتقويم الأخطاء في المجتمع بل التطرّق لمثل هذه الظواهر هي امتداد لتربية وعقليّة متوارثة، وآن الأوان أن تتغيّر، ورسالة الكتّاب والأدباء ليس الحياد لا في الشعر ولا في القصة ولا في الرواية، لأنّ موقف الحياد  قد يزيد من الآفات في مجتمعنا وهذا ما لا نصبو إليه بأقلامنا».

«بعد أن كبُر الموج» للشاعرة والكاتبة هيام مصطفى قبلان، التي لها العديد من المشاركات في أمسيات ومهرجانات محلية، عربية ودولية، هو كتابٌ يستحقّ القراءة والتّمعّن والإبحار في معاني قصصها المُستقاة من الواقع المرير للمجتمع العربي، وتدعو إلى واقع أفضل في مجتمعنا للمرأة والرجل على السّواء، فألف مبروك للأديبة هيام مصطفى قبلان وإلى المزيد من الإبداع.

***

بقلم: حوا بطواش

 

وُجدت القيم الإنسانية لتكون الضوابط التي تقودنا نحو حياة أفضل. وتظهر في السلوك الظاهري لدى الإنسان سواء الشعوري منه أو اللاشعوري.

وتُعد القيم الإنسانية من المتغيرات التي يُستند إليها في تفسير الواقع الإجتماعي بمختلف مظاهره. ونجد منها الإيجابي ونقيضها السلبي، حيث نستطيع الإستدلال عليها عن طريق التعبيرات المختلفة من خلال اللفظ أو السلوك الذي يسلكه الشخص سواء كان شخصيا أو اجتماعيا.فالسلبي منها يجعل الشخص من أخطر الوحوش وأكثرها تدميرا للحياة. بينما الإيجابي يجعل الشخص إنسانا بناءً للحياة معمرا لهذه الأرض.وقد كرس الأدباء هذه القيم في كتاباتهم. حيث برزت في نصوص الروائيين.

 وما وجدناه من خلال قراءة الحرب التي أحرقت تولستوي، للكاتبة "زينب السعود"، من إصدارات الآن ناشروون وموزعون/2023،  أن الكاتبة أبرزت العديد من القيم الإنسانية من خلال ما جسدته من أحداث واضطرابات نفسية واجتماعية وأخلاقية عانت منها شخصياتها بسبب الحرب التي اندلعت بين روسيا وأوكرانيا. ولعل البعض قد يتسائل عن السبب الذي دفع الكاتبة لإقحام نصها في حرب ليست لنا! إلا أننا نجدها تبرر سبب تناولها للموضوع وهي تعلن للمتلقي ص170 على لسان السارد (فهذه الدولة التي تُقصف وتُدمر هي التي تنتج الخبز الذي يقتات به السواد الأعظم من أبناء هذه الكرة المستديرة). كما أن زينب السعود أرادت إيصال رسالة للعالم عبر شخصية يوسف الدور الخطير الذي يؤديه الصحفي وما يحمل هذا الدور من قيم إنسانية.

المرأة كانت واحدة من القيم المهمة التي طرحتها الكاتبة وقد جسدتها في أكثر من شخصية لكن الأبرز كانت شخصية جمانة. وجمانة مثال المرأة القوية المثقفة المحبة صاحبة المبدأ زوجة الصحفي يوسف الذي تم تكليفه لإدارة مكتب إعلامي في أوروبا الشرقية وتحديدا في مدينة ماريوبل الأوكرانية. فتحملت مسؤولية البيت والأولاد بالرغم مما كانت تعانيه من عذاب نفسي وشوق للزوج والحبيب وخوف وتوتر من فقدانه في دولة نزلت بها حرب لم تكن بالحسبان. ونلخص قيمة تلك المرأة المحبة المضحية القوية فيما جاء على لسان الساردة عن يوسف بعد أن جاءت كلمة أحبك على لسان جمانة عبر الهاتف ص97 (كان قد استسلم منذ فترة لفكرة أنها قد تكون كرهته بسبب انشغاله بعمله، وإجازاته المتباعدة، وتحملها مسؤولية الأولاد وحدها، واضطرارها للتخلي عن أحلامها وطموحاتها). ومن هنا نستنبط أيضا قيمة مهمة وقفت عليها الكاتبة بعمق وهي الحب. فحب جمانة ويوسف كان الدافع لهما ليصبر كل منهما على الوضع الذي وضعته الظروف فيه.

كما أن جمانة تحلت بقيمة إنسانية وهي الوفاء فبالرغم من البعد الذي حال بينها وبين صديقتيها سارة وأفنان إلا أنها ظلت وفيه لهما ويتضح هذا ص84 من خلال ما جاء عن سارة على لسان الساردة (تنصت إليها كلما دار الحديث بينهما، تاركة لها مساحة كي تخرج ما بداخلها من تمرد على كثير من المتناقضات التي تواجهها في علاقتها المضطربة بزوجها..)

وتجلت قيمة الحياة في النص وقد أولتها الكاتبة اهتماما وعناية. ذلك لأن التشبث بالحياة هي طبيعة جُبلت عليها النفس البشرية وتتضح هذه القيمة في كثير من المواقف منها ما جاء عن رشا طالبة الطب التي تدرس في جامعة كييف على لسان الساردة ص106(كانت هذه أول مرة تختبئ فيها داخل قبو تحتمي بجدرانه من نيران القصف). ومن خلال قيمة الحياة والتشبث بها تعري لنا الكاتبة النفس البشرية التي تحولت عند البعض إلى كتلة من الأنانية. وقد أتت على هذا في عدة مشاهد وكيف تعامل الأوكران تجاه الطلاب العرب. وقد أزاحت الحرب اللثام عن التمييز العنصري تجاه سكان العالم الثالث. نذكر منها ما حصل عندما قرر أؤلئك الطلاب مغادرة كييف إلى لفيف عبر القطار. فعلى لسان الشرطي ص142 لطالب الطب معاذ عندما اعترض على منعهم الركوب (قاطعه الشرطي بنبرة مستفزة :أأنت أوكراني؟ طبعا لا، إذا لا يحق لك ركوب القطار، الأولوية للأوكرانيين). والتمييز العنصري، هذه القيمة السلبية أدت إلى إلغاء قيمة العدالة فالطلاب العرب لم تتم معاملتهم بالمثل، ما عرضهم إلى الشعور بالإذلال النفسي بسبب فقدانهم لحقوقهم الإنسانية بسبب جنسيتهم العربية المهمشة في بلاد الغرب. والعدالة كقيمة إنسانية تعطي الشخص قيمة مهمة وهي الحرية، وقد لجأت الكاتبة إلى تصوير حجم الخسارة والإنهيار الذي تتعرض له الشخصية الإنسانية من خلال هؤلاء الطلاب حين يتم التهاون في ممارستها لحريتها والتي هي حق طبيعي لكل إنسان. فحين مُنعوا من قبل الشرطي من ركوب القطار فهذا يعني بقاءهم في كييف للموت وهذا لا يعني سوى أنهم باتوا مسلوبي الحرية. وبما أن الحياة هي ضد الموت فقد كان الجميع يصارع من أجل النجاة من الموت الذي بات يهدد الجميع دون استثناء. فبرزت قيمة جديدة وهي الصراع. وهناك من يصارع من أجل راحة الجميع وهذا يتضح في مواقف الصحفي يوسف فقد بذل نفسه ووقته حين تأخر في كييف مع الطلاب العرب بالرغم من إصابته إلى أن اطمأن أنهم غادروا، كما وهبهم المال حينما ساهم بنصف أجرة الحافلة التي ستقلهم إلى لفيف، ويتجلى هذا فيما جاء على لسان يوسف حينما أخبرمعاذ بأن صاحب الحافلة طلب مبلغا كبيرا ص192 (أنا سأتكفل بنصف المبلغ، عليكم أن توفروا نقودكم كي تتمكنوا من الخروج من لفيف إلى بولندا). وهذه هي التضحية، قيمة من أسمى القيم الإنسانية فقد بذل يوسف نفسه ووقته وماله من أجل الطلاب العرب، كما أنه في خط الدفاع الأول حينما وقف أمام كاميرته لنقل الخبر الصادق للعالم ولم يأبه بالموت ومن هنا تأتي قيمة الشجاعة التي تحلى بها هذا الصحفي.

ولأن القيم الإنسانية أساس بناء المجتمعات وضمان استمراريتها فقد تزاحمت في رواية الحرب التي أحرقت تولستوي مثل بر الوالدين، الشكر، الأمانة، التضامن، الإنتصار وغيرها مما لا تتسع له هذه القراءة.

وبقي القول أنه من الواضح بأن الحرب التي أحرقت تولستوي عكست ما اكتسبته الكاتبة زينب السعود من ثقافات وعلوم وأحداث معاشة ووقائع اجتماعية ونفسية مما ساعدها على بناء عالمها الروائي الخاص.

***

قراءة: بديعة النعيمي

الحقيقة بهرتني الشاعرة المغربية الكبيرة بهذه القراءة النقدية الرائعة لقصيدتي (الزلزال) فكان من واجبي أن أنشر هذه الدراسة القيمة ليقرأها الأصدقاء الأعزاء والتي تثبت أن الأستاذة نبيلة حماني ناقدة متمكنة بالإضافة لكونها شاعرة جميلة.

أولا: القصيدة:

الزلزال

شعر: د. جمال مرسي

(بعد الزلزال المدمر في سورية وتركيا في السادس من فبراير لعام 2023م والذي راح ضحيته الآلاف ما مبين شهيد ومصاب.. ندعو للشهداء بالرحمة والمغفرة وللمصابين بتمام الشفاء):

بــالأمـسِ كـــان لـنـا بـيـتٌ يُـجـمِّعُنا

والـيومَ سـالتْ على الأطلالِ أدمُعُنَا

أشـلاؤنـا انْـتَـثَرَتْ فــي كــل نـاحـيةٍ

لــم تَـبـقَ غـيرُ ريـاحِ الـفقدِ تـصفعُنا

نُـشـيِّعُ الأهـلَ والأصـحابَ فـي كَـدَرٍ

فــمــن تُــــراهُ إذا مُــتـنـا يُـشَـيِّـعُـنا

بــالأمـسِ كُــنَّـا هُـنـا نـلـهو بـحـارَتِنا

الـشمسُ تـرمُقُنا، والـنجمُ يسمعُنا

يَــمـوءُ فـــي بـيـتِـنا هِـــرٌّ، نـلاعِـبُهُ

ويـصـدح الـبـلبلُ الـشـادي فـيُـمْتِعُنا

يـبـدو الأثــاثُ سـعـيدًا لــو نُـجالِسُهُ

و يــزدَهِـي بـجـمـالِ الـزَّهـرِ مـربَـعُنا

كـانـت تُـقيمُ عـلى الـجُدرانِ مـكتَبَةٌ

نـغـوصُ فـي عُـمقِها عـصرًا فـترفَعُنا

وكــان جِـيـرانُنا مِــن نـفـسِ طـيـنتِنا

مـا كـانَ عـن وصـلِهِمْ أشـياءُ تَمنَعُنا

كـانـتْ لَـهُـم طِـفلَةٌ، إبـنٌ، وخَـادِمَةٌ

وربَّــةُ الـبَـيتِ فِـي الأحـضانِ تَـزرَعُنَا

كـأنَّـنَـا بَـعـضُـهَا، لا شــيءَ يَـفـرُقُنا

عـن "بـاسمٍ"، و"صـبا" لـما تُـوَدِّعُنا

وحِـيـنَ تُـقـبِلُ أُمِّــي بـعـدَ مـطبَخِهَا

نَـلتَفُّ مِـن حَـولِهَا جَـوعَى فَـتُشبِعُنا

يــا لـلـمساءِ الـذي يَـأتِي بِـنُورِ أَبِـي

تُـحِـيطُهُ فِــي ظَــلَامِ الـلَّـيلِ أَذرُعُـنَا

يَـجِيءُ، فِـي يَـدِهِ حَـلوَى لِـيُسعِدَنا

وحَــــولَ تِـلـفَـازِنَـا يَــحـلُـو تَـجَـمُّـعُنَا

حَـدِيـثُهُ الـعـذبُ يُـشـجِينَا ويَـمـنَحُنَا

مِــن فَـيـضِ خِـبـرَتِهِ مَـا كَـانَ يَـنفَعُنَا

والــيـومَ نـجـلـسُ والأنـقـاضُ بَـاكِـيَةٌ

مِــن تَـحتِنا، وسِـيَاطُ الـمَوتِ تَـلفَعُنَا

يـا مـوتُ كـيفَ أتـيتَ اليومَ فِي سِنَةٍ

تـخـتارُ مِــن بـيـنِنَا الآلافَ، تَـفـجَعُنَا

تتلو: "إذا زُلزِلَتْ"، هل حَانَ موعدُها

يَـا مَـوتُ، أم جـئتَ مُـختالًا تُـرَوِّعُنَا؟

وتُـنـذرُ الـخـلقَ أَنْ أشـرَاطُهَا ظَـهَرتْ

نَـعَـم.. ومــا كــانَ يُـنـجِينَا تَـضَـرُّعُنَا

أقـــدارُ رَبِّـــيَ قَـــد فَــاقَـتْ تَـصَـوُّرَنَا

و الـهَـدمُ نـَحوَ جَـليدِ الـمَوتِ يَـدفَعُنَا

يـا مـوتُ رِفـقًا بِـنَا، صِـرنَا بِـلا سَكَنٍ

وراحَ تــحـتَ ثَـــرَى الــزِّلـزَالِ أَروَعُـنَـا

فَـمَن سَـتَشرَبُ بـعدَ الـيومِ مِن دَمِهِ

و هَـل هُـناكَ، هُـنا، أم أيـنَ مَصرَعُنَا

4876 جمال مرسي ونبيلة حباني

ثانيا: القراءة النقدية:

يظل الشعر لغة الروح والقلب، ودفق الأعماق وخلجات الروح، ذلك الزلال الذي يتدفق من الدواخل وينسكب فيها، الشعر هو ذلك الشلال الهادر المريء الذي ننهل منه في كل الحالات ومع كل الظروف، حزنا كانت أم فرحا، تعبا أم ارتياحا، وجعا أم شعورا بالرضي، حبا أم خذلانا...

الشعر يسع الإنسان وامتداداته اللامتناهية في الوجود، يسع كل ما يعتمل في النفس الإنسانية، لذلك أقول: إن الشعر هو الصدق الإنساني والحقيقة التي لا تظهر إلا فيه وبه ومنه، وما المجازات والانزياحات والتحليق في الخيال إلا حقيقة ذلك الصدق الذي لا يرى إلا في الشعر بكل أشكاله..

ففي زمن استشرى فيه الوجع، وتفصمت العرى، وأحس الإنسان بوطأة الحياة وثقلها، بغربة عن نفسه وعمن حوله، تصبح القصيدة دفقا وشلالا من المشاعر المعبرة عن واقع مر، وحياة مليئة بالمتناقضات والمشاعر المتباينة...

من هذا المنطلق أعرض في قراءة انطباعية عاشقة لقصيدة الشاعر المصري الكبير الدكتور "جمال مرسي" والتي عنونها ب " الزلزال"

من خلال القراءة الأولية للعتبات الخارجية للنص،يكون أول ما يثير الاهتمام ويلفت الانتباه هو هذا العنوان "الرمز"، العنوان الكبير حجما والمقتضب حروفا "الزلزال" هذا الزلزال الذي هو علامة دالة قوية صادمة تحل بالمكان فتدمره وتهدمه، وتغير معالمه تماما، وتحل بالزمان فتسمه وتطبعه، ليكون التغيير المنذر.. الآتي بالشتات والفقد والموت والوجع الشامل، سواء بالنسبة للذي عايش هذا "الزلزال" ونال من ويلاته موتا وتشريدا، فقدا ومرضا، فقرا وعوزا،ضياعا للماضي والحاضر، تكبدا لحسرات لم تكن في الحسبان.. أو بالنسبة للذي سمع عنه ورأى صوره المفزعة فظلت مشاعر الهلع والخوف مسيطرة عليه، باعتبار ما كان وما قد يكون، وما قد يسلط عليه من مآسي محتملة أينما كان وفي كل أنحاء الأرض..

الزلزال فضلا عن ذلك، يحمل دلالة السرعة لفاجعة لا منتظرة، فاجعة لا تبقي ولا تذر، لا تترك فرصة لأخذ الحيطة والحذر...

من هذا المنطلق يكون لعنوان القصيدة " الزلزال " دلالة رمزية إيحائية وواقعية معيشة..

تتمثل في أن العالم يعيش زلزالا فضلا عن الزلزال الواقعي زلزالا من نوع أخر، زلزالا طال القيم والفكر والثقافة، طال المجتمع والاقتصاد والسياسة والقيم، طال كل مجالات الحياة فأصبح الإنسان يعيش أزمة لا قبل له بها، توازيها سرعة التغيير مع الاغتراب والذهول والحيرة..

إذن هو زلزال التغيير.. هذا التغيير الذي ليست لنا به قابلية والذي لم يكن متوقعا ولا خطط له سلفا.. الزلزال كان مباغتا مس أمن وسلامة وطمأنينة الفرد والمجتمع..

فالزلزال حدث حقيقة ومجازا، طال أوطانا بأكملها، دمر وشتت وشرد وأغرق المدن في ركام من الثرى والغبار، في ركام من المواجع والأحزان.. مس كل جوانب الحياة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا فكانت الفاجعة كبرى، والكارثة لا قبل لأحد بها حتى من يعتبرون أنفسهم من عظماء هذا الكوكب..

استمرارا في استقراء العتبات الخارجية للنص من عنوان وبداية ونهاية نجد الشاعر يستهل قصيدته قائلا:

بالأمس كان لنا بيت يجمعنا

واليوم سالت على الأطلال أدمعنا

أشلاؤنا انتثرت في كل ناحية

لم تبق غير رياح الفقد تصفعنا

فالبيت الأول ومن خلال شطريه "يُجْمِلُ" القصيدة ومضمونها..

يستهل الشاعر قصيدته بالحديث عن "الأمس" في إشارة إلى الزمن الماضي، هذا الزمن الذي ولى وانتهى، تاركا في نفسه كل الأثر الجميل، ما جعل الشاعر يتوق إليه ويتمنى عودته، ويستشعر مرارة الفقد لهذا الزمن من أول شطر في القصيدة، فكان الحديث عن "الأمس "الذي تنعم فيه بالأمن والأمان والطمأنينة والسكينة والود والمحبة والدفء..وكل معاني الانسجام والارتياح والحميمية والألفة بين من كان في هذا الزمن وهذا البيت...

وقد يكون البيت هنا رمزا وإشارة إلى الروابط التي تجمع بين أبناء الوطن أو بين الأوطان العربية، والسلم والأمان الذي تنعمت به، فكان التعاون والتكافل بين الشعوب، وكانت الطمأنينة التي يشعر بها الإنسان العربي سواء داخل وطنه أو خارجه..

فدلالة "البيت" لها إيحاءات، تمثلت في أن البيت كان مبعث الطمأنينة والسكينة والبشر والفرح، وكل معاني الصفاء والود والشعور بالدعم والسند.. واليوم غدا البيت شتاتا وخرابا وأطلالا نقف عليها فنبكي ماضيها وحاضرها، ونفزع حين التفكير في غدها الآتي، كل ذلك هو رمز ودلالة لما أصاب الكثير من الشعوب العربية من تشرذم وانكسار وفقر وانهزام وشتات فوق وطأة الزلزال الحقيقي..

إنه "البيت "العربي،الذي طاله الهدم والانهيار إثر زلزال تصدعت له الأوطان، وانهدمت به الأمجاد، وضاع الحق في الكرامة والحرية..

بتعبير أوضح إنه زلزال "الربيع العربي"، بل وما قبل الربيع العربي في مخطط مدروس من قبل قوى الهدم والاستبداد..

الفارق الوحيد هو أن الزلزال ظاهرة طبيعية، وكارثة بيئية لا دخل للإنسان فيها، لأنها ابتلاء من الله عز وجل، واختبار لمدى الرضا والصبر والإيمان..

أما الزلزال الذي طال الوطن العربي، فقد كان زلزالا من صنع البشر لأجل هدم حضارة عمرها مئات السنين، والاستيلاء على الثروات والحد من المد العربي الذي كان يبشر بصبح قادم وحلم يتحقق..

إذن هو "زلزال" الهدم للبيت الذي جمع هذه الأسرة الموحدة تحت لواءات عدة، أهمها الدين والعرق واللغة والقيم والعادات والتقاليد والثقافة والأعراف، زلزال كسر القلوب وأهان وأدمى قبل أن يقتل..

هدم البيت فبكينا على أطلاله، وسالت أدمع الأمة حسرة وألما، بؤسا وعوزا، انكسارا وحسرة على ماض هيهات أن يعود..إنه البكاء على أطلال هذا البيت الذي تشظت أشلاؤنا منه إلى كل الأنحاء، فعم الشتات والتشرذم والبؤس وأصابنا هول الحقيقة المرة، وصفعتنا أيدي الأسى ولاحت رياح التغيير في الأفق صاخبة مرعدة مزبدة، ولم نكن قد حسبنا لها أي حساب.. ولم نتوقع مرارة ولا هول الدمار الداخلي والخارجي الذي طال كل شيء فينا..

لتأتي خاتمة القصيدة كآخر العتبات الخارجية والتي هي استمرار لفكرة فقد "البيت" والسكن إذ القصيدة تنحو في وحدة موضوعية تامة وانسجام متناهي، وتراص للبناء والفكرة، ما يمنحها قوة ووحدة موضوعية، وما يجعل القصيدة تنمو أفقيا وعموديا لتمضي في الغرض الذي كتبت له وهو في اعتباري غرض "الرثاء" رثاء النفس ورثاء البيت الذي تعرضت لرمزيته ودلالته ورثاء الأهل وكل ما بالحياة من أحياء وأشياء..

إذن هو رثاء البيت الكبير رثاء "الموروث الثقافي والحضاري" ومن هم جزء منه وأعمدة أساسية ينبني عليها البيت، ليستمر الشاعر في الحديث عن شبح الموت الذي هو رمز للنهاية، نهاية حقبة من تاريخ الأمة، ونهاية زمن كانت تنعم فيه بكل مقومات الحياة الكريمة المستقرة،التي كانت في نمو وصعود وتسامي... إلى أن انقلبت الموازين وحل ما قد نسميه زمن الموت الذي يشرب الدماء، فيتعاظم ويطغى ويتمرد، يعيث في الأرواح قتلا وتنكيلا، لدرجة وصل فيها الأمر بالشاعر- والذي هو رمز "لوجدان الأمة "وصوت لصرختها، ولسان ينطق بحال واقعها -.. أن يحدث الموت ويسأله ويخاطبه في أسى وحزن وألم..إلى أين؟ وأين سيكون مصرعنا؟..على اعتبار انه ما زال في الأمة أحياء سيقاومون ويناضلون لأجل الخروج من الأزمة وتجاوز الدمار وتحقيق النصر.. لكن بأمل ضئيل واستشعار للرعب من هول الفاجعة.. ومع ذلك لم يفقد الأمل فمازال هناك إصرار على التحدي والمقاومة..

لازال هناك إنسان رابض في الأعماق، وأركز هنا على لفظ "إنسان " على اعتبار أن الإنسان هو أصل القيم، وبانيها والمحافظ عليها بخلاف كلمة" بشر" هذه الكلمة التي تحمل معاني القسوة والسوء والضرر والانتهازية وغيرها من المعاني الخالية من معنى الإنسانية.

إضافة إلى ذلك هناك دلالة أخرى هامة في النص ومن الثيمات الأساسية في القصيدة إنها ثيمة "الأم " ورمزيتها.

" الأم" هذا الكائن الملاك الذي يضيء حياة الإنسان، الكائن المتفرد في عطاءه، الكامل في محبته، الوفي الأمين المضحي، الذي لا يستمرئ الحياة إلا بالتضحية والبذل والاحتضان، إنها الأم تلك الشجرة الوارفة الظليلة المثمرة الدانية القطوف، التي هي عماد البيت والأسرة والتي يجتمع حولها الكل، فتكتمل البهجة، من إليها نعود في الفرح والحزن، من تدثرنا وتمسح على رؤوسنا ونواصينا..وبذلك تكون "الأم" هنا رمز "للوطن " هذا الوطن الذي لا يمكن إلا أن نحتمي به ونعود إليه مهما ساءت الظروف والأحوال..

يقول الشاعر "جمال مرسي" في البيت الحادي عشر من قصيدته "الزلزال":

وحين تقبل أمي بعد مطبخها

نلتف من حولها جوعى فتطعمنا

إذن هي "الأم " مصدر القوت والشبع،مصدر الرعاية والعناية والاهتمام، الأم نبع المحبة المطلقة اللامشروطة، لتكون الأم هي "الوطن" الذي يحمي ويظلل ويأوي ويسامح..

إضافة إلى ذلك هناك دلالة "الأب " في القصيدة، فهو رمز الحماية والرعاية والدعم النفسي وقد شبهه الشاعر ب"النور" الذي يضيء فيزيل العتمة، الأب نبع الخير ومن نتكئ عليه فيدعمنا، ويتحملنا،الأب المثل الأعلى، رمز السلطة والقوة والاستقرار والإعالة، إنه الضمير والوازع الأخلاقي الذي يملي شرائعه وقوانينه، إنه رمز الحب الخالص وعباءة نحتمي بها ليعم الأمان.. للأب دلالة اقتصادية أيضا فهو الكافي وهو المانح وهو من يحقق الاكتفاء، المرشد المعلم المدلل الهادي.. هذا الأب الذي له موعد للعودة ألا وهو "المساء"

من هنا نستشعر رمزية الأب في القصيدة ورمزية الزمان أيضا " المساء" الليل مبعث العتمة والظلمة والرهبة والخوف من المجهول.. إذن هو "الأب" بعودته يجلي النور، ويحقق فكرة البطولة لدى الأبناء، يمد بالعطف والإرشاد فيكون الحماية والسد المنيع أمام كل المخاطر.. وبحلول "الزلزال" فقد السند والمدد والطمأنينة والأمان الذي كمن في رمزية غياب "الأب" و"الأم "..

و تصادفنا في القصيدة الإشارة إلى المنحى الديني الاعتقادي الذي يطبع النص بمسحة إيمانية قوية لدى الشاعر، ويظهر بشكل جلي في المقاطع الأخيرة من القصيدة

إذ يقول الشاعر في البيت السابع عشر من قصيدته

تتلو "إذا زلزلت" هل حان موعدها

يا موت، أم جئت مختالا تروعنا؟

كذا البيت الذي يليه

وتنذر الخلق أن أشراطها ظهرت

نعم..وما كان ينجينا تضرعنا

إذن هذا التناص الذي وظفه الشاعر انطلاقا من النص القرآني والآية الكريمة من سورة "الزلزلة" يقول عز وجل "إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان مالها.." (سورة الزلزلة)

أذن يمتح الشاعر من معين القرآن الكريم الذي هو حاضر في نصه بشكل جلي والذي يبين عن الإيمان القوي، والعودة إلى الله في المواقف الحرجة وغيرها لدى الإنسان المسلم

الإيحاء القرآني هنا لسورة "الزلزلة " هو تأكيد على عظمة الخالق وقدرته التي لا حد لها، وتأكيد لحقيقة المآل الذي سيصير إليه الكون والوجود في قيامة حتمية لا راد لها...

على هذا يكون الجانب الإيماني أساس في كيان الشاعر وسند عند اشتداد الأزمات ومآل وملاذ،

وإن حانت الساعة فلا مُوقف لها، مهما تضرعنا وتوسلنا فزمانها محدد عند الله عز وجل وهو وحده من يعلمه..

أقدار ربي قد فاقت تصورنا

والهدم نحو جليد الموت يدفعنا

إيمان قوي في قدرة الله عز وجل وفي النهاية المحتومة لكل الخلق

واستشعار لجلال الموت وسطوته في هذه الظروف الصعبة لدرجة أصبح فيها جبارا ماردا مع هذا الزلزال العملاق الذي ذهب بكل شيء إلا الأمل الكامن في عمق كل الشاعر وكل من ظل على قيد الحياة ما يجعل الشاعر يخاطب الموت، ويسأله رفقا بالخلق الذين سامهم الوجع والعذاب والتشرد والبحث عن مآل

ويستمر في مخاطبة الموت وسؤاله، تراه الدور على من؟ وإلى أين..؟

تظل القصيدة مليئة بالإشارات والإيحاءات المتواترة التي لها دلالاتها في القصيدة "كالجيران" و"القطة" التي تموء و"البلبل الشادي" و"الأثاث" الذي يسعد بلمة الأسرة فيزداد ألقا وجمالا..

إلى حين الوصول لرمزية "المكتبة"..

هذه "المكتبة " التي هي إشارة من الشاعر للفكر والعلم والمعرفة والتنوير..

يقول الشاعر في البيت السابع من قصيدة "الزلزال "

كانت تقيم على الجدران مكتبة

نغوص في عمقها عصرا فترفعنا

إذن هناك رمزية "المكتبة" التي هي علامة هامة في القصيدة،تتعلق بالفكر والعلم والأدب، هذه المكتبة التي ضمت كتب "ابن رشد "و"ابن خلدون" و"ابن طفيل" و"الجاحظ "و"المتنبي" و"ابن المقفع" و"البيروني" و"شوقي" و"ابن عربي "وغيرهم..المكتبة التي صارت في خبر كان، فقد نهب الفكر وترجمت الكتب العربية ثم أحرقت بعد ذلك قلم يبق لها اثر.. وما بقي ما هو إلا النزر اليسير،الذي يدل على ما وصل إليه الفكر العربي من علو وسمو ومجد، فنسب الفكر لغير أهله والعلوم لغير مكتشفيها..

فضلا على العقول العربية التي تهاجر فتسهم بشكل كبير في التقدم العلمي والتكنولوجي الغربي والتي لا يشار إلى أثرها وعبقريتها ودورها المهم والأساسي.. والنماذج كثيرة على ذلك.

كانت تلك رمزية المكتبة في القصيدة فانهيارها وجدرانها لاشك علامة موجعة وقوية، هذه المكتبة التي صانها الفكر العربي عبر الزمن، لكنها انهارت وضاعت في هذا "الزلزال" وظلت أطلالها شاهدة عليها ليوصف الفكر العربي بالتخلف والرجعية دون إنصاف أو إحقاق للحق..

إذن هل ضاع الحلم الكبير الذي هو رابض في كل منا؟ هل حقا خيم الموت والأسى لحد الخنوع والاستسلام للموت؟ هل وهل...؟ تلك تساؤلات عدة طرحها الشاعر في مناحي مختلفة من القصيدة المغمسة بالحزن والأسى بأساليب متنوعة للاستفهام أذكر منها قوله:

يا موت كيف أتيت اليوم في سنة..؟

هل حان موعدها؟

أم جئت مختالا تروعنا؟

من ستشرب بعد اليوم من دمه؟

وهل هناك هنا، أم أين مصرعنا؟

والسؤال هنا هو لم يطرح الشاعر تساؤلاته؟ لم الاستفهام؟ لم هذا الكم من الأسئلة..؟ هل حقا فقد الشاعر الأمل؟ ووصل إلى تقبل الموت والدمار والخراب الذي أصبح عليه العالم، رامزا له ب"الزلزال" الذي حل موتا مظلما، غيب المباهج وأرخى سدول الدمار والأسى؟

من خلال استقراء القصيدة نجد أن "الزلزال" مهما كان قويا فإنه لابد فيه من ناجين، ومن نور ينبعث بين الركام، فالأمل لم تخب شرارته بعد، وتلك الجذوة المشتعلة تحت الرماد حتما ستكبر لتؤكد أن هناك أمل وحياة وناجين من هذا الزلزال..

إذن طرح السؤال في اعتباري هو انتفاضة داخلية في عمق الضمير الإنساني، والوعي الفردي والجماعي لدى من مسهم الزلزال.

فالكبوة لا تعني الموت، أو السقوط الدائم، بل تعني أن هناك ناجين سيبحثون عن منفذ من تحت الركام، سينهضون ويحيون ويقاومون الموت والدمار، سيحيون ويبنون ويقاومون لأجل تحقيق الحلم الذي لن يخبو ولن يندثر..

وهنا أحب إن أقف عند رمزية الأبناء ورمزية الأسماء

فالأبناء هم رمز الاستمرارية والبقاء ومقاومة الفناء وتحدي الزمن والإصرار على الحياة.

ليكون الطفل والطفلة في القصيدة من يختزلان الجنس البشري الذي لا يمكن أن يستمر إلا بكليهما.

فهما وأقصد بذلك الطفلين "باسم" و"صبا " شتلات الحياة الآتية،وبرعما الأمل ويقين الاستمرار مهما كانت العواصف قوية والموت مستأسد جبار..

يقول الشاعر في قصيدته الزلزال البيت العاشر من القصيدة"

كأننا بعضها، لا شيء يفرقنا

عن "باسم" و"صبا" لما تودعنا

ف"باسم " هو رمز المستقبل المنشود، الذي نأمل وننتظر أن يكون باسما، مبهجا،قادما بكل ما نأمل من رخاء ونماء وتطور، "باسم" المستقبل الواعد للأوطان،الآخذ إلى مدارج السمو والنمو والتطور الحتمي الذي لابد وأن يكون...

أما "صبا" فهي الطفلة الرمز، التي تهب بنسائم الخير، والخصب والعطاء والنماء، صبا المرأة المستقبل الواعد، التي يزهر بها الوطن فيكون جنانا وارفة ظليلة وقطوفا دانيات،" صبا" دلالة الخير التي ستعم كل المجالات فكرا وعلما وأدبا واقتصادا وغيرها..

"باسم" و"صبا" لم يكونا اختيارا اعتباطيا من قبل الشاعر، وإنما هما عمق الدلالة المختزلة في القصيدة والتيمة التي تبرز خيط النور والضياء في للقصيدة..

فمع " الزلزال " وانهياراته وما ضاع خلاله، ستكون "صبا" و"باسم" من نجا من هذا الزلزال ومن أخذ المشعل وبني من جديد، يتأكد ذلك من خلال التساؤلات العديدة التي طرحها الشاعر في النص.. والتي تعني الأمل في غد أفضل، رغم ما خلفه الزلزال من دمار وموت ووجع..

النص زاخر بالدلالات والإيحاءات التي تحكي واقع الأمة بمنتهى الدقة والرمزية والإيحاء وكذا بمنتهى الشاعرية والعذوبة والروعة والانسياب، والجمال اللغوي والتعبيري شكلا ومضمونا، فالقصيدة محكمة السبك قوية البناء، تنساب انسيابا وتنهمر من القلب والوجدان

عاطفة الشاعر فيها صادقة متأججة فياضة بمشاعر الأسى والحزن لسبب هذا الانهيار، وهذا الزلزال الذي طال كل شيء ومحا كل شيء واغتال الحياة وجمالها.

عاطفة بات الحزن رداءها، والوجع مصدرها، والأسى على ماض ولى، وحاضر لا ينذر إلا بالحزن والوجع.. هو جرح مأتاه ما حل بكل شيء جميل في العالم، مأتاه هذا الانهيار في كل شيء ومأتاه آمال وأحلام لم تتحقق، لكن المفارقة هنا تمثلت في خيط الأمل الرفيع الذي ظل صامدا والذي تجلي من خلال توالي الأسئلة، هذه الأسئلة التي كانت أسلوبا بيانيا، له دلالاته العريضة منها استمرار الأمل والتشبث بالحياة والبحث عن فرصة للنجاة، واستعادة الماضي الذي كان كل البهجة في مشاعر وأعماق الشاعر..

من حيث بناء القصيدة نجد الشاعر قد وظف معجما دلاليا تراوح بين الحزن والفرح، فهناك الماضي السعيد، وهناك الحاضر المأساوي الموجع، وهناك انتظار الآتي والتساؤل حوله..

ومن الحقول البارزة في نص قصيدة الشاعر الدكتور جمال مرسي "الزلزال" هناك حقل الفرح والذي تشير إليه العبارات التالية:

بيت يجمعنا – كنا نل هو بحارتنا –الشمس ترمقنا –النجم يسمعنا-يموء في بيتنا هر –نلاعبه –يصدح البلبل الشادي- فيمتعنا – يبدو الاثاث سعيدا – يزدهي بجمال الزهر مربعنا –نغوص في عمقها عصرا – فترفعنا –جيراننا –ما كان في وصلهم أشياء تمنعنا –تقبل أمي –تشبعنا – نلتف حولها –يأتي بنور أبي –تحيطه أذرعنا – في يده حلوى –ليسعدنا – تزرعنا -.....

ثم هناك المعجم الدال على الحزن ويتمثل في قول الشاعر:

سالت على الاطلال ادمعنا –رياح الفقد – تصفعنا – في كدر –يفزعنا –تودعنا – جوعى – ظلام الليل –الانقاض باكية – الاطلال – تروعنا –بلا سكن – اروعنا – تنذر – سياط –...

المعجم الدال على الموت في قول الشاعر:

أشلاؤنا في كل ناحية – نشيع الأهل – إذا متنا – سياط الموت – يا موت – تفجعنا – الزلزال –جليد الموت –مصرعنا – أشلاءنا –إذا متنا – تشرب من دمه...

أذن هناك تراوح بين الماضي السعيد المليء بالحياة والحاضر التعيس الحزين الذي سطا فيه الموت على كل شيء ولكن هل ضاع الأمل؟

كما أشرت تبقي لغة الشاعر في القصيدة قوية متينة منسابة فصيحة بعيدة عن الغموض والغرابة سهلة الألفاظ، واضحة تميزت بجمال الأسلوب، وقوة البناء والتركيب، موحية شفيفة تنساب بعذوبة في اللفظ والمعني قوية التعبير مع انزياح مكن من رمزية عالية وتكثيف للدلالات..

قصيدة يمكن أن ندرجها ضمن ما يسمى بالسهل الممتنع وذلك في اعتقادي أكثر قوة وإبداعا وإيصالا..

وظف الشاعر في قصيدته كما من المحسنات البديعية التي أضفت على النص حلة من الروعة والعذوبة والجمال شكلا ومضمونا نذكر منها

الطباق

اليوم - الأمس

بيت – أطلال

طفلة – ابن

امي – ابي

العصر الليل

جوعى – تشبعنا...

الترادف

يلهو – نلاعبه

يصدح – الشادي

تقيم – نجالسه

تودعنا – تشيع

الموت – الفقد

بيتنا - سكن

التكرار

زلزلت – الزلزال – إذا زلزلت

الأمس – الامس

بيت – بيتنا

متنا -الموت -يا موت...

بهذا تكون القصيدة الشعرية المعنونة ب"الزلزال " لصاحبها الشاعر الدكتور "جمال مرسي" هي كم من الدلالات الإيحائية في من أول العنوان إلى آخر القصيدة..

تظل قصيدة "الزلزال " فياضة بالجمال وأناقة الإبداع وصدق الفكرة والإحساس وبلاغة اللغة وجمالية الصورة الشعرية ورمزيتها فضلا عن قوة البناء والقالب الذي صيغت فيه ما يخلق الانسيابية والعذوبة التي لا تشعر معها بأي انقطاع أو فصل بين وحدات القصيدة وبخاتمة يتساءل فيها الشاعر عن المآل؟

بنيت القصيدة على بحر البسيط وتفعيلاته هي

مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن

مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن

هذا البحر الذي لا يكتب عليه إلا المتمرسون في علم العروض..

لا يسعني إلا أن أقول في خاتمة هذه القراءة الانطباعية لقصيدة "الزلزال " للشاعر الدكتور "جمال مرسي "إلا أنها قصيدة من أجمل ما قيل في الشعر الإنساني، وفي التعبير عن مواجع الأمة وعن الضمير الإنساني في لحظات الحزن والوجع، إنها في غاية الشاعرية والعذوبة وصدق التعبير فهي انهمار فياض لدواخل المبدع الذي يعبر عن خلجات الإنسان لغة وتصويرا وأسلوبا وبناء

وما الأسئلة في اعتباري إلا جذوة الأمل الكامنة خلف كل الأوجاع، فبعد الزلزال لابد من إشراقة أمل بغد أفضل، ولم لا ونحن نحيا بالأمل..فلا بد وأن ننتظر الآتي، والآتي هو حتما نور الصباح وخروج "باسم" و"صبا "من تحت الأنقاض وبناء مستقبل مضيء

***

نبيلة حماني

 

 

لهيب المكابدة في جسد ملتبس

أنقرة

من المدهش حقا ان يتصدى كاتب لمعضلة سايكولوجية شائكة و بلغة رصينة ووصف آسر وهو يجوس في دخيلة نفس معذبة مشحونة بالغضب والضنك والرفض لطبيعتها الفسيولوجية فيؤدي الكاتب دور الطبيب النفسي الذي يجتهد للنفاذ الى تلك الذات الموجوعة والثائرة ويعبر بعمق عن هواجسها ورغباتها ومشاعرها الدفينة بإقتدار مشهود.

فالكاتب والشاعر عبدالحميد صافي العاني في اخر كتاب روائي له والذي يحمل عنوان (ريحانة والآخر) المطبوع في القاهرة في العام 2019 تصدى لموضوع شائك متفرد قد يندر مثيله في المكتبة العراقية من خلال محاولته الجريئة للكشف عن أستار نفس مضطربة لفتاة إسمها (ريحانة) تنتمي فسلوجياً الى بني جنسها وكان يجب أن لا تكون كذلك، لكنها بسبب خلل عضوي ولادي في جهازها التناسلي وجدت نفسها في أتون ازدواجية مؤلمة بحيث يتعذر توصيفها بين الرجولة والأنوثة رغم إصرارها وبعناد غير مجدي على فرض ذكوريتها عبر سلوكها واحاسيسها الناضحة باليأس والمكابدة المريرة.

وريحانة وهي شخصية حقيقية عاصرها العاني (فتاة تجاوزت العشرين عاما من عمرها.. نحيفة ذات وجه طفولي، أطلت على الدنيا في غرفة شبه مظلمة بسبب انقطاع الكهرباء في خضم صرخات الأم نتيجة عسر الولادة فجاءت عليلة وحجمها صغير بحجم (قطة صغيرة) عاينتها القابلة فأكتشفت أنها ذات عيب خلقى فى موضعها التناسلي، فعاهدت الأم بعدم اذاعة السر حتى لأقرب الناس.) لكن الطب عجز فيما بعد في علاج الحالة وبقي العائق العضوي حائلا دون ممارستها الوظيفة الطبيعية كذكر، فإستحالت الى كائن إنساني فاقد النوع لا هو ذكر ولا هو انثى!

من هنا ومنذ إدراك ريحانة محنة حاضرها وغدها الغامض المفجع. نشب في داخلها صراع رهيب كان الوحش الضاري في اعماقها يفتت قدرتها علي الاحتمال، ويحيل ليلها الى كابوس محرق.

(هكذا هي..أو هي والآخر روحان في جسد.. رغبتان متصارعتان، متقاتلتان، جنسان متنافران.. الواحد يأنف الآخر.. ريحانة الأنثى وريحانة الذكر.. كل يريد تدمير الآخر.. ما أعجب هذا الجسد.. وما أقسى تلك الرغبة الجامحة كجواد بري لا يقوى أحد على تسييسه وامتطائه.. وما أعجب ذلك الشيء الرابض في أحشائها كذئب حاصره الجوع حد الاستغاثة والغثيان)

ويواصل العاني رصد محاولات ريحانة المضنية في محاولة إقناع الاسرة والبيئة المحيطة بها بتخطى مظهرها وسماتها الانثوية أوالانتماء الى عالم الذكور، إلا أن هذه الارادة جوبهت بالرفض التام لانعدام المعطيات العضوية في جسدها، وهي في سبيل تحقيق هذا الهدف المستحيل تحدت انوثتها المفروضة عليها وأشعلت صراعا سايكولوجيا زلزل كيانها داخليا على جبهتين، مع نفسها ومع المجتمع معاَ لإرضاخهما وإجبارهما على التعامل مع قناعتها الراسخة بغض النظر عن اعضائها الحيوية الملتبسة التي تخونها وتفتقر الى تحديد هويتها الذكورية ونوعها الانساني.

ويخوص العاني الى أعماق ريحانة ويلتقي مع المحللة النفسية الالمانية كارين هورني التي ارجعت مثل هذه الحالات إلى الصراع النفسي باعتباره ظاهرة ملازمة للإنسان وأن هذا الصراع يرجع إلى القلق الأساسي الذي يعاني منه بصورة دائمة ومستمرة نتيجة إحساسه بضعفه وعجزه عن مواجهة القوى الطبيعية والاجتماعية..

وتتوالى الاحداث والوقائع المثيرة والمتضاربة في حياة ريحانة.. ويسبر العاني غور هذه النفس الملتاعة سواء بتشريحها وكشف دوافعها العميقة او من خلال زجها في أتون مواقف تضج بالحرمان والشبق والتمرد على انوثتها.. فهناك تارة (ريم) الجارة المحرومة التي افلحت في غوايتها بعد اكتشافها بالغريزة وجود وحش ذكوري داخل ريحانة، وتارة اخرى صداقتها المتينة مع (نرجس) تلك الفتاة الجميلة ذات العينين اللوزيتين والقوام الممشوق والتي كانت الاثيرة لديها اثناء زمالتهما في الكلية ، فعشقتها بقوة وحاولت ان تبوح لها بلواعج قلبها المكلوم لكن نرجس تزوجت وهاجرت مع زوجها، وتارّة أخرى بعد تعينها وعملها في المكتبة العامة بعد تخرجها وسط دهشة العاملين فيها كون هويتها واوراقها الرسمية تشير الى أنها انسة في حين ان مظهرها الخارجي يشي بكونها ذكراََ بعد ان تزينت بزي الرجال وقصت شعرها وصارت تجلس وتدخن في المقاهي وتلج صالونات الحلاقة الرجالية وإختيار اسم ريحان لمناداتها، كل ذلك جاء امتدادا لواقعة إقحامها الغريب في الماضي اثناء عملها كصبي يتصيد الرجال في الشوارع ويجلبهم الى احدى النساء التي حولت دارها الى مرتع للباحثين عن المتعة !

ويتجلى كل هذا الدفق المتشنج ليرسم العاني سمات شخصية مأزومة تتقاذفها عواطفها المتناقضة وتدفعها إلى ردود أفعال متباينة تصل إلى حد الغرابة أحيانا. فحالما تعود نرجس من رحلة الهجرة بعد فقدان زوجها في حادث، تلتقي بها ريحانة بالصدفة وتتلقفها بفرح طاغ ولا تدع الفرصة الذهبية تضيع من بين يديها وهي منهارة تبكي بحرقة لما ال إليه حالها، فحاولت (أن تمسك بيد نرجس الرقيقة الأنامل ثم تراجعت في اللحظة الأخيرة وسألتها بتوسل بعد أن قرأت الأمان فى عينيها: نرجس.. بحق كل غالٍ عندك.. وبعد أن استمعتِ إلى كل ما سمعت أجيبيني بصراحة عن سؤال ظل يداعب روحي الحيرى العطشى..هل تقبلين بي زوجا لك ؟!)

(هل جننت؟ أأنت مخبولة؟ أنت بحاجة إلى طبيب نفساني لمعاينتك، ابتعدي عني.. ابتعدي!

أمُسكت ريحانة بيد نرجس لتهدئتها وإسكاتها. لكنها دفعتها بقوة فهوى جسد ريحانة النحيل على الأرض مخذولاً وعيناها الغائرتان بالألم والحرج تطاردان نرجس التي هرولت كالمجنونة متوارية عن أنظار ريحانة الكسيرة.. فيما دمعة حائرة قد طفرت وأفلتت من محجرها..!!)

الخلاص الدراماتيكي

ويركن العاني الى تصعيد وتائر الاحداث الى نهاياتها القصوى باسلوب سلس ومدهش يتسم بالمهارة والدفق والعنفوان، وفي بحث الذات المكدودة لريحانة عن راحة مفقودة وأمن ضائع، تلج غرفتها وتتناول علبة السجائر لترتشف سيجارة بإشتهاء غريب، إلا أن باب الغرفة إرتج وفُتح على مصراعيه فإذا بها أمام شقيقها الأكبر الذي (إندفع إليها كثور هائج وهو يرسل صفعة إلى وجهها ارتدّت لها جدران الغرفة ولطمة أخرى أقسى وأعنف!! والدم يتسرب دفاقاً من أنفها والتبغ تمازج مع الدم وتناثرا سوية فوق السرير.. أيتها الساقطة.. أتدخنين..؟؟ صفعة أخرى.. ولا زال الدم ينبجس من فمها راعفاً فوق السجادة القديمة‏. -أنا رجل! رجل.. رجل.. رجل!!… الصفعات تترى وتتهافت على وجهها سراعاً ولم ينقذها من تلك اليدين إلا صرخات الأم :(كف يدك عن هذه المسكينة. -  دعيه يثبت رجولته..ها نحن رجل لرجل! تجيب ريحانة بتحدٍ وصراخ مجنون تضج به جدران الغرفة).

في خضم هذا المشهد المدوي تختار ريحانه قدرها المحتوم.. فتتجاهل دقات امها الباب مرات ومرات.. آنذاك يناديها شقيقها بحزم وتحد : ريحانة!!.. ريحانة !! افتحي الباب وإلا سأحطم رأسك ولم تجب ريحانة.. (فدفع الباب بقوة فانفتح محدثاً ضجةً عالية، كانت الغرفة معتمة إلا من نور مندلق من حوش الدار الذي أضاء شيئا نحيفا متأرجحاً ومتدلياً بحبل من قماش.. إنه جسدها.. جسد ريحانة القتيل والذي كان يدور مع دوران المروحة ! صراخ الأم وعويلها مع ابنتيها أنساهن الجسد المدلى الذي كان يرتدي ثوبا نسائيا فضفاضاً ويعتلي الرأس شعرٌ صناعي طويل…).

قد يرى الكثيرون الان ان هذه المشكلة لم تعد معضلة حقيقية في المجتمعات الغربية الحديثة، بل وأصبح المثليون يتمتعون في العديد من الدول بحماية قانونية، لكن العاني تصدى في هذه الرواية لقضية مختلفة تماما. ففيها تناول موضوعا من المواضيع المهمة في مجال التحليل النفسي وما يترتب عليه من اشكالات النقص في التكوين الجسدي والجنسي والذي يشعل في داخل صاحبه صراعا ضاريا وشعورا عارما بالنقص مقارنة بالاشخاص العاديين فضلا عن ان ظاهرة زواج المثليين ذاتها مرفوضة في مجتمعاتنا العربية او الدينية المحافظة والتي تحكمها الشرائع السماوية والمصدات الاجتماعية الصارمة. وكان انهاء ازمة ريحانة  بتلك النهاية المأساوية والتي أسدل بها العاني الستار على هذه الملحمة الإنسانية الدامية منطقيا، ورغم بعض المآخذ على بعض احداث الرواية مثل تخفي ريحانة بهيئة صبي في ماخور أو عرض الزواج المستحيل على صديقتها، إلا أنها لا تقلل من قيمة الرواية الريادية كونها اضافة نوعية مهمة، وانجاز ابداعي لحالة نادرة تناولت موضوعا فريدا يساهم في إثراء المكتبة العراقية التي تفتقر لمثل هذه المعالجات الجادة في مجال الصراع والجنس الملتبس وتداعياته النفسية الموجعة على حياة الإنسان.

***

محمد حسين الداغستاني

في ديوانه (رجاء على شفاه العدم) الصادر عن دار الدراويش 2023 تولَدُ عند الشاعر أ. د. عادل الحنظل القصائدُ موشّحةً بألم الغربة، وجراح وطنٍ خلّفه وراءه، لكنّه ما انفكّ مغروساً في نفسه. لذا يتناوب هذان الجرحان (الغربة والوطن) معظمَ قصائده، ليُصوّرَ معاناته في غربته المكانية، ومعاناة غربة الوطن؛ لما ابتلي به من نكباتٍ وقادةٍ ينهشونه، لذا نجده يستلهم قصة قابيل وهابيل؛ ليضفي عليهما صورةَ الحاضر بين الأخوين في وطنٍ واحد: أحدهما يريد أنْ يُغيّر نحو الأفضل، والآخر لا يشاركه هذا الأمل والرغبة والهمَّ، فنجد هذا الإسقاط الفنيّ في تناصٍّ مع قصة ابني آدم قابيل وهابيل كما وردت في (العهد القديم)، وكيف قتل قابيل أخاه هابيل والسبب، وهي القصة التي ورد ذكرها في القرآن أيضاً دون ذكر اسميهما: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) المائدة 27 .  وقد ورد التناصّ في قصيدة الشاعر "قابيل":

هابيلُ

هل أنتَ الذي ضحَى

لكي نأتي الى الدنيا

بثوبِ ملائكةْ

أم كنْتَ مقتولاً

لأنَّ أخاكَ أعرضَ أنْ تكونَ مشاركّهْ

وهنا تورية (ترميز) الى ما يحدثُ في الوطنِ منْ قتل قابيلَ (الحاكم/ السلطة) لأخيه هابيلَ (المحكوم/ الشعب) كي لا يشاركُهُ في الحكم. وهو تضمين بين صورتين تلتقيان في دلالتهما واشاراتهما. إنّ عدم قبول قابيل لأخيه هابيل هو صراعٌ على السلطة والكرسيّ مثلما يحدثُ في العراق، وهذا في إشارة الشاعر من القصة واستلهامها. هاتان الصورتان المتضادتان والملتقيتان في مضمونهما الإنساني بوجهيه السلبي: الشرّ المستحكِم، والقتل المتعمّد من أجل مصالح ذاتية زائلة. والوجه الإيجابي: الخير الهادف والمناضل منْ أجل صالح الإنسان. هذا الصراع يخلق شرخاً اجتماعياً أخلاقياً في نسيج الوطن وشعبه، فيؤدي الى صراعٍ يقتل فيه الأخُ أخاه (قابيل وهابيل).

هذا التقابل وتصوير حالتين هو سمّةٌ من سمات قصائد الديوان، وقصيدة "غربتان" مثال آخر لهذه المقارنة بين الذاتي/الشاعر، والجمعي/الوطن، فهو يعاني الغربة بعيداً عن أرضهِ وبلاده، والوطن يعاني الغربة بمَنْ يتسلطون عليه، منَ الغرباء، ومِنْ أهله ومِنْ خارج أهله فيما وراء الحدود، وهو ماكان وراء رحيل وهجرة الشاعر:

كلانا غريبان

رمَتْها سُدىً بذرةٌ في العراءْ

وأنكرَني موطنٌ لا يصونُ الوفاءْ

الوطنُ رمته بذرةٌ منه في العراءِ؛ ليُمسيَ غريباً متجرّداً من ثوبهِ وقيمه السامية. أمّا هو الشاعر فقد أنكره الوطنُ الذي لا يصون الوفاء، أي وطن عاقّ، وهو هنا يستخدم المجاز، فيرمز بالوطن الى البذرة الناكرة، أي الذين يتحكّمون بمصيره فيطاردون الأوفياء من أبنائه، فيضطرون للرحيل، ليلقوا بأنفسهم في أحضان بلاد غريبةٍ علّهم يعثرون على الأمان والطمأنينة والحياة الكريم. لكنّهم يقعون فريسةَ الغربةومعاناتها، تماماً مثل وطنهم الغريب اليوم بسبب معاناته من حكامه. فمعاناته إذن مزدوجة بين وطنٍ عاقّ (المتحكّمون برقابه)، وغربةٍ أعقّ:

وطني كامرأةٍ تدورُ بضرعِها

تسقي بهِ نذلّاً يُباركُ ذُلَّها

كالنخلةِ العَيطاءِ والعَوجاءِ

ترمي تمرَها

في صحنِ جيرانٍ

وتحرمُ أهلَها

(من قصيدة لولا ثراك)

ويستمر الشاعرُ في القصيدة بذكرَ علّةَ غربته ورحيله عن؛ محاولاً إفهام المتلقي مسببات نظرته السلبية الى أوضاع بلاده والتي دفعته ليلقي بنفسه في أحضانِ ديار الغربة:

والمجدُ مجدي

لو وجدْتُ العزَّ في عليائهِ

ما ينفعُ الذِكرُ الجميلُ

وملءُ كفيَّ الحصى

أأُسامُ ذُلاً

كي يُقالَ يموتُ حتفَ وفائِهِ

وطني يُفرّقُنا الرحيلُ

وكأنّهُ هنا يُبرّرُ غضبه من وطنه، وهو ما يدفعُه الى التعبير عمّا في داخلهِ والتبرير للقارئ عن هذا الإحجام عن تمجيد الوطن الذي لاقى فيه الإجحافَ والظلمَ واللاعدالة. لكنّه في ثنايا قصائده يفتح لنا نافذة العِلّة الكامنة وراء ذلك. هي ليست الأرضُ التي سقتْه ماءَ النكران، إنمّا المتسلطون عتاةُ الجور والعسفِ والإضطهاد. الشاعر د. عادل الحنظل تمتدُّ محبتُه وجذور مشاعره في عمق الوطن. وهذا ما نقرأه بجلاء في قصيدة "ما بعد أسوار النفاق":

ابنُ النخيلِ أنا ومربعيَ الشجرْ

مرأى السماءِ لديَّ ما بينَ السَعَفْ

وأعدُّ بينَ الخُوصِ أنجمَها

فتأتي دونها عِشتارُ تدعوني إذا الليلُ انتصفْ

معها يغني الكَرْمُ أغنيتي

ويثملُ فوق مائدتي الرُطَبْ 

يهتزُّ مِنْ حولي الوجودُ

فينثني حيناً وأخرى ينتصبْ

يختالُ حسّي حينَ تعزفُ لحنها

 نرى هنا، بوضوحٍ لا لبسَ فيه، أنّ ارتباطه بأرضهِ وثيقٌ، محبةً لا انفصام عنها، وبذا فإنّ كلَّ ما نقرأ من غضبٍ دفين، إنّما هو حالةٌ من معاناةِ الغربةِ والاضطرار للرحيل، وهي سويعاتٌ وتمضي.

القلق الوجودي:

نقرأ في الديوان صوراً مُعبّرةً في قصائد عن إحساس الشاعر بالقلق (الوجوديّ)؛ وهو بين فكَي الغربة، وما تجرُّه من أحاسيسَ واخزة لروح الإنسان الذي يصعبً عليهِ التآلفُ مع مجتمع جديد غريبٍ روحاً وثقافةً، وهو ما يوقعُه في حيرةٍ، واضطرابٍ وألمٍ يحدثان جرحاً غائراً في روحه الشاعرة الحساسة، وهو ما يدفعه الى أنْ ينفّسَ عبر القصيدة عن هذا الجرح والألم. فالقصيدة هي وسيلته في التعبير عن أحاسيسه، يقول في قصيدة (حائر):

أنا حائرٌ

يقسو عليّ العمرُ في رغباتهِ

ويزيدُ رشّ الماءِ فوقَ الطينِ قلبي

كي يمرّغَني

إذا أفلتُّ منْ نزواتهِ

*

يا جامعَ المتناقضَينْ

هل ذاكَ منْ نكدِ الزمانْ

أم تلكَ منْ حسناتهِ

أيصحُّ أنْ تضعَ الجحيمَ على مشارفِ جنّةٍ

أم أنَّ سعدَكَ في لظى جنّاتهِ

الغزل:

يشتملُ الديوان أيضاً على مجموعة من القصائد الغزلية، وهي ليست غزلية تقليدية تصفُ المحاسن والجمال، وتتغزّلُ بمفاتن الحبيب، وتعبّر عن الشوق الحارَ واللهفة والغرام الحرّاق، إنّما هي أقرب إلى الأحاسيس التي تراود الشاعر وهو يحبّ، فيعبّر عنها بصور ولغة تصفها وتقدّمها على طبقٍ شعريّ جماليّ، وتصوغُ ما تبثه في نفسه من لواعج  ومشاعر. يقول في قصيدة "كرّ الشوق":

أبصرُ في عينيكِ ضياعَ الصبرْ

ونزوعَ غريقٍ أفلَتْهُ الطوف

فيمورُ على شفتيكِ نداء

فمُكِ الفاغرُ كالموقدِ يلتمسُ الجَمْر

يدعوني أنْ أنحرَ ذاتي بعناق

 وأنا أعشقُ بينَ يديكِ النحرْ

وكما نقرأ له في قصيدة "تراتيل":

امنحيني ليلةً

أو بعضَ ليلْ

واشرحي صدراً

يغذُّ السيرَ غذّا

*

أُشعِلُ ذكراكِ قناديلاً

تخيفُ الصمتَ حولي

وتراتيلاً

***

عبد الستار نورعلي

 أيلول 2022

تمهيد: قبل الخوض في تلابيب ديوان شاعرنا الأريب سي الطلابي لابد من التذكير بأن الرجل جامع مانع فقد جمع بين العديد من الحسنات فهو كاتب ومخرج مسرحي وممثل قدير،وقاص خاض تجربة السرد والحكي بكل أريحية،وهو أيضا شاعر زجال تشبع بروح التراث الشعبي والأصالة المغربية القُحة،لهذا نحن أبناء مدينة خريبكة نعتبره خير سفير للمدينة إلى جانب أسماء أخرى نعتز بها ونقدرها خير تقدير.

1) مدخل:

وعود على بدء نعود للحديث عن ديوان "فعلي يلكاني" المولود الجديد لسي إدريس والصادر عن جامعة المبدعين المغاربة، يحتوي فهرس هذا الديوان على أربع وعشرين قصيدة متوسطة الطول،وتقديم راق للفنان الحسين السطاتي.

الولوج لديوان الصديق الطالبي يقتضي أن نطأ عتبته ممثلة في عنوانه فعلي يلقاني،وهذا العنوان يذكرنا بلفظ شائع بين العامة وهو " كلا يلقى فعلو" أي أن ما تقترفه يدا المرء من خير أو شر سيتحمل وحده نتائجها،والشاعر يعلن عبر عنوانه مسؤوليته المسبقة عن فسيفسائه الشعري وتطريزاته الجمالية،العنوان مقتبس من قصيدة "شاد العسة" وكان بمثابة قفلة لهذه القصيدة:

في مرس الكلام

حاضي لخوا ليفيض

مول الشي

مانا كساب

شوية زهواني

نشتت زريعة السفا

في ڭاعة البراني ...

عاد راسي حاجة وشان

خماس مني تراس

فعلي يلڭاني .

إذا تجاوزنا العتبة وولجنا المتن،فإننا نجد أنفسنا أمام فيض جمالي دافق يمتح من قاموس البادية الأصيل والموروث الثقافي الشعبي الحامل لجينات تاريخ الهوية المغربية المتأصلة التي تميز المغاربة عن غيرهم من الشعوب،لأنها تؤسس لعلاقة وجدانية راسخة بين الذات الشاعرة ووجدان الأمة.

بداية الديوان تتوشح بشذرات زجلية عميقة،مهد بها الشاعر لنصوصه .وضمنها حِكما ذات بعد انساني حاول من خلالها مقاربة النفس البشرية ومحاولة الكشف عن تأثير الغريزة في البشر:

راڭد على غدرو

وبايت يتسارى

في ڭلوب الناس

*

نقرب ليا ننساني

نهرب مني نلڭاني

هذه الشذرات هي بمثابة جسر للعبور إلى عوالم الشاعر ودخول صرح إبداعه الموشى بسحر الكلام وتواشيحه الناطقة بالجمال، في قصيدته الأولى خيط الجراية التي تتضمن مجموعة من الاستعارات والتشبيهات، فالشاعر كان حريصا على استغلال عملية النسج التي تتم من خلال إعداد السدا كخطوة أولى تتم في الشارع العام وتكون فرصة للعامة لنفح النسوة ببعض القطع النقدية " كبياض أو فتوح" وهو تقليد أصبح اليوم شبه منعدم،لتبدأ فيما بعد عملية النسج داخل البيت باستعمال الطعمة، الشاعر عمد إلى نسج الكلام وتشكيله في تركيب جمالي ذو بعد دلالي عميق، يقول:

نغزل ظل الصوفة

نلوح البياض في غربال الفتوح

ناوي نڭرج هينوكة الكلام

قبل ما يشفڭ الصبح

في ڭلب اللي بايت ينج

البهوت بين الطوارف .

عادة نستعمل كلمة نكرج للتعبير عن إنهاء عملية النسج سواء تعلق الأمر بزربية أو جلابة أو حرشيش وهنا الشاعر يتوق لا نهاء هينوكة الكلام قبل شقشقة الصبح. على من في قلبه مرض.

سنكتشف أننا كلما أوغلنا في الصرح الإبداعي للشاعر إدريس الطالبي،يصادفنا زخم شعري معبر وذو حمولة فكرية وثقافية عميقة، وقوة جمالية على المستوى اللغوي وتوظيف للأمثال الشعبية السائدة بالمنطقة التي ينتمي إليها الشاعر، وكذلك بعض الأحداث التي تناولها المخيال الشعبي عبر العيطة الخريبكية الأصيلة.

بكرةعلال

علال

درويش بحالك وبحالي

علال بڭرة يكساب

جطو في ورث غريب

وكلب ياريت كون كان سلوڭي

جحموم يبات يقيدح

كاسر لعباد

بڭرة غارزة الذات وجابت في ليام

ميشدها طيكوك ماعندها تويتر ولا فايسبوك

مرة مرة تروف بڭطرات حليب

بكرة علال عنوان يحيل على الماضي الضارب في القدم الذي كنا نسمع عنه ولم نعشه، بكر علال مصطلح أطلقه المتفقهون من المغاربة في بداية الاستقلال على القطيع المخدوع بلغة فئة من الساسة كانوا يُعلّمون أبنائهم ويدفعونهم للمناصب العليا وبالمقابل يسخرون أبناء الشعب لأعمال السخرة

في نص بكرة علال هناك لغة مُشبعة بالخلفية الرمزية وقوة التلميح،فالبقرة هي الوطن الذي لا يملك فيه الفقراء إلا الفتات،هذا الفتات الذي لا يتردد بعض الساسة الفاسدين من سلبهم إياه.

عراضة جات لعلال من دوار غريب

ولو طارت زردة علال مايزڭل

السفة المردومة والبڭري مخضر بالزبيب

تزيزعلال ولبس حوايجو الكبار

ومشط الفريزي ودار الريحة

وڭبل مايسڭد وصى بلاك على ميرزة

يحظيها ويديها فيها

وڭبل مايڭيدهم بجوج بطوال مثين

صوت صارف ڭايداه كلبة عيشورية

تسمع من بعيد

بلاك عينو خضرا وجاه بلوغ الكلب ولد الكلب

بقى يتحرحز ويتركل وينقز

تابع خزيت

خف من البرق أولاد علي الفراقشية ضربوا ليه النقب

ساڭوا البڭرة وخلاو الكلب

كملات الجوقة وتفرتكات الناس

وعڭب علال مسري يتڭرع

بين كدا وشعب

جاتو السخفة ورفداتو الكربة

مللي مالقى لابڭرة لاكلب

عرف الخيات سمرو ليه على الحفا وداروها بيه

تسنى حتى بان ليه الزهواني

شعل معاه بهراوة لمسلانو

مللي ڭاع هذه لهطة في بوك

ڭوليا نحضي زمري بيدي

ياولد الكلب

الزردة رمز لتلك الهدايا المسمومة التي يقدمها بعض المرشحين للضحك على البسطاء من أبناء الشعب .قبل الانقضاض على أرزاقهم.

2) الصورة الشعرية والايقاع:

 من المتعارف عليه أن الصورة الشعرية هي تركيب لغوي لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لوجود علاقة بين شيئين، وهي تبنى بأساليب متعددة من أهمها: المشابهة والتجسيد والتشخيص والتجريد. وتستند على مكونات ثلاث:

1) اللغة من خلال الألفاظ يوصل الشاعر المعنى

2) العاطفة وهي تعبير عما يخالج ذات الشاعر من أحاسيس

3) الخيال ويستند عليه الشاعر لنقل صور وتمثلات تتجاوز الواقع

ويجدر بنا التأكيد على أن هناك أيضا مُكوّنا التشبيه والاستعارة التي قد تكون صريحة أو مكنية وأصلها تشبيه حذف أحد طرفيه.

فإلى أي حد نجح شاعرنا في منح المتلقي صورا شعرية ماتعة؟

إن سبر أغوار نصوص الشاعر إدريس الطلبي يجعلنا نكتشف أنه اشتغل على تطوير الصور الشعري داخل النص حيث جعلها تتحرك وتُثري النص .فداخل هذه الصور الشعرية نجد توظيفه للتضاد والمقابلة لرصد تلك الحركة داخل النص وكذا المقابلة لخلق الجمال،ومنح المتلقي فرصا متعددة للتأويل والاستمتاع بتوهج هذه الصور ورفع درجة الوعي لديه بقيمة الكتابة الشعرية الزجلية،وهناك نماذج متعددة

القلم مني دواية

نغنيك وحدي

المداد بحر فيك دوايا

طرزني منك سطر

رشمني غناية

في صدر الوقت

نڭولك

مدي فيك جزر

مواجك فيا بحر

نغرق بك آية

لبسة مشطوحة

في كف البصر.

في هذا النموذج نكتشف الاشتغال القوي لسي إدريس على الصورة الشعرية،وتوسله بالتشبيه "المداد بحر" تشبيه بليغ وأيضا الاستعارة حيث تتجاوزمستواها الدلالي المتداول إلى المستوى الايحائي وذلك بتوظيف ألفاظ تتجاوز معناها الحقيقي لتؤدي معنى ثانيّاً في بعد مجازي"رشمني غناية في صدر الوقت،مواجك في بحر"

بالنسبة للايقاع: يقول ابن فارس المتوفي سنة 395م ميلادية: "إن أهل العروض مجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع، إلا أن صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم،وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة" أما عند ابن طباطبا فيرتبط الإيقاع باعتدال الوزن وصواب المعنى.في حين عند المحدثين فإن الايقاع هو التتابع والتواتر ما بين حالتي الصمت والكلام؛ حيث تتراكب الأصوات مع الألفاظ والانتقال ما بين الخفة والثقل ليخلقا معًا فضاء الجمال.

والايقاع: داخلي يستند على الموازنة (يعني أن يكون البيت متعادلًا في الأوزان والألفاظ،) والتكرار(هو مجموعة من الوظائف من أبرزها لفت الانتباه والتأكيد على المعنى ونحو ذلك). وخارجي وهو العروض والقافية.

فألى أي حد نجح الشاعر إدريس الطالبي في تطويع نصوصه بشكل يخدم نسق التتابعات والإرجاعات ذاتِ الطابع الزمني والموسيقي، ليقوم بوظيفة جمالية مع غيره من عناصر تشكيل النص الشعري ؟وإلى أي حدّ نجح في صياغة شعره على النحو الموسيقي الذي يتناسب وخلجات نفسه ودفق مشاعره؟

والبارح خير وسلامة

شفت العدة ولات

في يد الهراب

والكلاب تحالاو

على رجلين الطلاب

والبارح خير وسلامة

شفت البلاد طالية الحنة

سالفها ساد عين القبلة

موسدة كف الريح

والبارح خير وسلامة

شفت البحربحال إلى مريض

ومغطي بدربالة

والبارح خير وسلامة

شفت برا عمية

مغنبرة بفليج

وتابعها مخيط عوج

والبارح خير وسلامة

شفت الحجامة

هازين رايات بلا لون

كيڭولو كلام زوين

فيه ريحة الند

والبارح خير وسلامة

شفت يد كبيرة

باردة بحال الثلج

كطفي النجوم

وكتهرس عروش الغنباز

والبارح خير وسلامة

شفت الوقت زعفان

كيبري على عكاز

في جيوب ليتامى

والبارح خير وسلامة

شفت الليل هاز شمعة طافية

وكيتسارى بين القبور

والبارح خير وسلامة

شفت وشفت وشفت

ومــــــــــــــــــا عقلت

في قصيدة خير سلامة نلمس جمالية الايقاع الداخلي من خلال تكرار لفظ "خير وسلامة" بشكل حقق الانسجام ما بين الألفاظ والمسموعات اللتان تؤديان معًا إلى تحقيق الغاية التركيبية التي تؤدي إلى الوصول إلى غاية البلاغة والبيان.

كما نلاحظ أن الطالبي استغل كل الإمكانيات الإيقاعية المتاحة لتحقيق تناغم موسيقي يخدم البنية الجوهرية للنص

خاتمة

لقد استطاع إدريس الطالبي كشاعر وفنان مسرحي متألق أن يفتح للمتلقي فجوات للرؤيا من خلال متن لغوي شعبي، يتضمن صورا شعرية متوهجة وايقاعا موسيقيا يمتح من العيوط والتراث الشعبي، ولغة لصيقة بالواقع اليومي، جمعت ما بين كل المحسنات اللغوية والعلاقات المتبادلة بين نص وأخر وهذا لعمري مدعاة لتقديم تهانينا شاعرنا القدير وتمنياتنا بطول العمر والصحة والعافية

***

محمد محضار

بلاغة اختصار الزمن

اذا كان هناك تاريخ  للتدوين قد ساير الثقافة الاسلامية منذ صيرورتها وتواصلها العام والخاص، لكان هناك قطب لا نختلف عليه لتلك الثقافة، وبافتقاد ذلك التدوين فقدنا قيم مهمة، حيث نحن نقر ونشهد بأن القرآن قد وحد اللهجات العربية المتعددة، ولم شمل تلك اللهجات التي فيها الكثير من الشواذ والدخائل الغريبة، وكذلك الاختلافات المتعددة في صيغ التعبيرات، وكذلك فقدان التنقيط كان ايضا احد الوجوه العصيبة، وما كانت سمة التأطير القرآني في وحدة لغوية بنظام صارم نشهد الى اليوم اثره، وكان يلزم ذلك ترجمة للمستوى البلاغي واللساني، وقد شهد القرآن قبيله البشري، وكان علي الانموذج اللغوي الخلاق، وكان بطاقة بلاغة جديرة أن يكون ابلغ قرين او قبيل للقرآن، حيث كانت بعض المفاهيم القرآنية تحتاج دليل ايضاح او اعادة انتاجها مفسرة بوضوح، وكان اعتزال علي ليكسب طاقة مضافة من الخطاب القرآني، وليس في حدود الحاجة الهابرماسية، بل لدى علي طاقة خلق، فكان القرآن المدون بلا نقاط، وتلك كانت احد المظاهر اللغوية الحساسة، حيث لولا جهود علي في اطار التنقيط لكانت لغتنا العريبة تشابه أي لغة من اللغات الاخرى، لكن جدارة علي اللسانية ومعرفته الخلاقة جعلت اللغة العربية ليس فقط تختلف في تلفظ بعض الحروف، بل شكل التنقيط احد اهم قيم اللغة العربية، ويرجع فيها الفضل الى علي حيث اوكل الامر الى تلميذه ابو الاسود بعد أن رسم له جميع الامور الدلة بوجه تام لا اشكال فيه .

اذا كان أهل المنهج المدرسي يعتبرون أن سوسير قد بلغ حدود مهمة تنظيرا في المظهر اللساني ومضمونه بحدود قصوى ازليا، ويعتبر سوسير الصيرورة في التفسير المنطقي والبعد النظري، وقد اصبح سوسير نظريا المثال وعداه هو درس من دروسه، وفعلا شهد التاريخ الحديث سطوة ابعد من حدود النظرية لسوسير لا يختلف عليها اثنان، ولن تجد عقلا عربيا فكر بأن لسانيات علي لا قبيل لها ولا نظير، لكن لابد من القول بأن أهل المعرفة الحرة قد اتصلوا كليا بعلي، كرس مختصر لتاريخ اللغة واللسانيات، وكانت هناك مطابقة فطرية من قبل علي واعية للتطورات التاريخية، وحكمة ومعرفة خلاقة ازلية خارج وداخل وحدة الزمن في أن، وقد أسست بلاغة علي منهجا للحكمة البليغة بعد اختصار منظومات فكرية كبرى وعليا وملاسة الاطر العلمية مباشرة، ليمسك خطاب علي اللساني بجهتي العلم والمعرفة على السواء، ومن يدقق في ثنايا خطاب علي يجد صحة ذلك مباشرة بوضوح .

إن المنطق العقلي يؤكد إلى حد ما لا يمكن الاستعاضة عن تاريخ من التدوين العلمي، لكن نحن قد حرفنا علي من موقعه العلمي المعرفي وبتحييد فطري وعاطفي الى منطقة الجدل والخلاف والمخاصمة،  وبذلك قد ضاع منا مؤسس علم اللسانيات الازلي وصاحب البلاغة الفوقية الاجدر، وسلطة خطاب علي هنا هي نوعية والكونية ايضا فقوله اللساني البليغ الذي يختصر افاق علم اللسانيات الرحبة - لولا أن الكلام يعاد لنفد -، وفي تفسير موضوعي توصيفي نجد علي قد اختصر علم اللسانيات بكل مستوياته بجملة واحدة لا غير، وصراحة تلك البلاغة الاستثناء، وقد انفرد بمنهجية بتلك الجملة واضح بعدها الكوني العام والخاص ،والذي يتوافق مع أي عصر، ولكن بعد تلك الجملة الفلسفي في مفردة الناقد الداعية للأطلاق التكوينية الصفة ولكن هنا صفة تدعم مغزى الأخرى وتلك الجملة المتصلة بالتاريخ الطويل هي صيرورة وتتحمل أن تكون سيرورة ايضا .

اذا كان سوسير قمة هرم نظرية علم اللسانيات فإن علي فوقه تلك الهالة التي لا يحتوي بلاغتها عصر معين ولا زمن ما، فعلي الوحيد الذي جعل اركان البلاغة تنصهر في بوتقة معرفته الخالصة، والتي هي قد اختصرت ايضا الزمن والتاريخ، وذلك ما تفرد به خطاب علي وبلاغته وحكمته الروحية، وعلي لك يرسم للبلاغة خطط اولية، فإنك تجد في كل جملة له ثمة جدارة متناسقة بلاغيا ومختصرة للزمن معرفيا، فهو غي صيغة الخطاب البلاغي يرى – البلاغة افصاح قول من حكمة مستغلقة، وابانة عن مشكل – وفي تفسير مضامين تلك الجمل لسانيا نجد لابد من تبويبات وخانات، فالإفصاح البلاغي يأخذ مدى واسعا الى حد ما، وقد يتطور بلا هوادة لولا اغلاق الحكمة، والتي هي هنا تشكل المعاد الموضوعي للمنطق العلمي، والمعرفة الخلاقة في خطاب علي الذي اختصر الزمن وجرد التاريخ من مقوماته، هناك جهة ضبط روحية له، وعلي لا يجعل الكلام يتيه عن مقاصده البلاغية،  فتمنيه لو كان يملك رقبة بعير ليمضغ الكلام، وتلك المسؤولية الموثقة بلاغيا كانت فطرية عند علي وهي جزء لا ينفصل عن كيانه، والمواقف كثيرة في تاريخ علي وافاق حياته الحزينة، وما استطاعت اجدر حالات الاستثناء وفي اصعب المواقف من تضييق الافق عليه، وهو الذي جعله واسعا ورحبا، وسؤال اليهودي لعلي عن اعداد صنفي الطيور فأحاله الى اجابة سريعة لا يملك غيره قدرة بلاغية تماثلها، وتلك البديهة والاستجابة لعلي هي اقرب لما نجده اليوم من ميزة الكترونية في الانترنت .

الكيفية التي يمكن تفسير بلاغة علي وكسر حدود اللغة معرفيا، تحتاج الى تأمل تلك البلاغة التي تمحورت في صيرورة، قد كانت للغة فيها أن تكون في صيغ تعبير هي خارج التصنيف العلمي، وجنس اللغة الادبي / الفلسفي بحكمة الغايات هو السائد في المضامين والتعابير، فتملكت اللغة طاقة مضافة، واصبحت بلاغة التوصيف بملكة تفرد، وقوام اللغة افقيا يمتد في كسب معاني تزيد من رصانة الحكمة، وعاموديا يكون امتداده نحو خلق المضمون المدهش، أي سيخرج اللسانيات من النطاق الى المبادرة المتنوعة الاستدلال، لكن بغاية وقصد محدد ومعين، والخطاب لا يدرج هنا في السائد والمتداول، بل ارث شاقولي ينتهي عند علي بعد استلامه من النبوة وبرجمته بشريا، ومن بعد تحيله النبوة التي هي مدينه العلم الى بابها، ليكون الخطاب كلمة السر، ومن ادراك كلمة السر تلك، في المضمون العرفان اللغوي الدخول في عالم الخطاب، ومن جانب الوجود هي تعريف متفرد على المضامين والجوهرية، بعد ذلك ينفتح عند التلقي على التعدد، ويكتسب الخطاب عضويا عبر التلقي قراءة، ويتقابل افق العرفان اللغوي مع افق الخطاب العضوي .

اذا كانت العرب قديما قد عرفت علم المعاني، فكان السبب الاساس هو توفر ذلك المناخ البلاغي النوعي، ولكن ذلك تم في ازدهار مباني اللغة من نحو الى معاني الى بلاغة، ومن المشار اليه لعب عبد القادر الجرجاني الدور المهم في نوع من الذوق النقدي، ولكن دور مؤسس علم الاصوات وايقاع اللغة كان دوره اكثر اهمية، بالرغم من عدم اكتساب قصد المضمون بشكل واسع، فالخليل اجتهد في انتاج علم الصوت من افق جانبي وليس بمباشر، لكن علي اوقفنا على صيرورة المنهج اللساني وعلم البلاغة، فالقول الفلسفي الذي حدد لنا معالم المنهج البلاغي الذي يرى فيه علي (البلاغة قول افصاح عن حكمة مستغلقة، وابانة عن مشكل)1، ولدينا في المنظور الفلسفي وحدات تقابل وتبادل، فالحكمة المستغلقة يستبدلها المشكل الفكري، والتقابل لتوسيع الفهم من الجهة المعرفية، ومن جهة التبادل يمكن أن يتكشف المشكل بالتدريج ويبان افق من افاقه يتيح للتلقي الوصول الى احد الغايات، لكن الفهم والتعرف لا يكون الا توافقيا في الجانب الإنساني، ولا يكون هناك أي اشتراط ايديولوجي من التلقي، فسيفسد او يضبب جهته ويفقدها الميزة الامثل للتلقي .

يشكل انكار أن النبي ورسول الله محمد مدينة علم، صراحة اسقاط للنبوة من جهة، ومن جهة اخرى الغاء للرسالة، فالمدينة هي مجموع المضامين العلمية وابواب الحكمة، والقانون الالهي المشرع، والسفر الوجودي لسيرورة متن التاريخ، وهنا ايضا قبل البدء في التحلي الشامل الوقوف على مسألة جدلية تخص ثقافة النبي، والتي اعتبرها البعض هي فقط سمعية، وهذا بدوره يجعل مدينة العلم خالية من الافق الوظيفي، فهي مرتبط بما يسمع النبي الاكرم ومن ثم يقوم بإبلاغه بوجه عام، ومن الطبيعي تكون هناك جهات تلقي مختلفة هنا، ومن طبيعة القول المنقول سمعيا التحول من افق الى اخر، والدين الرباني اذا قصر على حدود السمع، صراحة سيفقد اهم عناصر التداول، واعتقد ذلك من اهم الموجهات التي دفعت علي بن ابي طالب الى توثق القرآن وتدوينه، وذلك بحد ذاته يمنح علي بلاغة مضافة، فهناك معرفة مضافة تكون في تلقي ما تلقاه مسموعا في تلقيه مدونا، لكن غرضنا في تفسير ثقافة النبي بأنها ثقافة سماع وتدوين، ولدينا دليل عضوي، فلا احد من الفرق والمذاهب في أن النبي طلب ورقة وقلم في اللحظات الاخيرة من حياته ليكتب الوصية .

نحن نسعى بالقدر الممكن الى فصل الفكرة عن التاريخ السياسي للدين، والذي نعتقد قد بدأ بعد وفاة النبي التي اقفنا النص امامها بحيرة، ولا ندري امات او قتل، ولكن نؤمن بأن النبي مات جسديا ولكن قتل معنويا، ونجد سيرورة بلاغة علي ايضا سعت لتجاوز تلك العقبة، وتمكن من جعل البلاغة الديناميكية وسيلة لقهر النفس البشرية، وتمكن من اعادة صياغة اللغة وفق دراما الحكمة اذا جاز التوصيف، وتمكن علي من خلق عالم لغوي يوازي جوهره مظهره، وتلك اللسانيات المنفلتة من كل سياق الا افق المعرفة اللسانية، فهي تتصل به مباشرة، وهناك ما نسميه بالمثال الكمي للغة، والذي هو يدخل في حسابات المنهج اللساني المعرفي، على اعتبار أن اصل الفكرة ناتجة عنه، وأن كانت هي مثال واقعي بكل ابعاده، وحقيقتها مستمدها من اللغة الديناميكية، أي يشكل الكم الوجود البياني للغة من جهة، ومن جهة اخرى يتمحور هناك الدعم الموضوعي لحقيقة التفوق المعرفي المستمدة من الحقيقة الأولى للمعرفة اللسانية ، وكما علينا تقبل الأمر الفكرة بشكل تقليدي، فعنصر اللغة ذاته، ولا نسعى لتعقيد الأمر بوجهة نظر مقابلة، هي فقط متصورة من افكار ترى أنها مقنعة، وتقابل تلك الفكرة المستمدة من واقع اللغة الفلسفي والمعرفي والفكري، وهذا الكم يقابله مثيل له، لكن هذا المثيل يختلف موضوعيا، حيث افق الدلالة والمعنى والبلاغة اوسع بكثير .

اذا كان النبي مدينة للعلم، وفي سابق التاريخ عرفنا هناك باب يمكن من خلاله الدخول الى تلك المدينة والعلمية والمعرفية بذات الانية، فمدينة العلم لابد من مفتاح شفرة دخول في هذا العصر الالكتروني، فعلي كود تلك المدينة وشفرتها، وصراحة في التفسير الموضوعي نجد ثمة التباس واسع انتجته كتب الدين السياسي في العصر الاموي والعصر العباسي الذي تلاه، ونحن لسنا ازاء ذلك الجدل اساسا، لكن تلك منطقة معتمة وضبابية، وفيها العديد من الصور التي نرى المدينة من خلالها.

بوضع اخر، ولابد من اعتراض فلسفي او معرفي يعارض ذلك الانتاج المشوه لبلاغة النبي، وبالرغم من عدم التأثير على مقومات المدينة الاصيلة، لكن العقل البشري قد دخل في اوهام عدة، وسيقت حشود بشرية الى صورة ليست معدلة بل صنعت برعونة للنبي، ومن الطبيعي اذا تأثرت المدينة يتأثر الباب، والباب بما أنه النفس الخارجي للمدينة وافق الاستدلال المباشر، فهو اذا تشوه تشوهت المدينة ايضا، ولكن بالرغم من تتابع وتدفق الريح الاصفر الرعناء، يبقى الباب ذلك الرمز الجدير بالمقدرة ذاتها التي اتصفت بها المدينة، وبقي يمثل افق الاشهار الدال تماما على تماسك بنية المدينة، ومثلما قيل يعرف الكتاب من عنوانه، فكذلك ايضا يعرف البيت من بابه، وذلك الباب التعيد عتبة واعلان، ينجذب لنا النقاء الروحي وطموح التعرف النفسي وتنصرف عنها السذاجة والرعونة والجهل، ولسنا هنا ازاء مفارقة او افق فيلولوجي نقصد به المقارنة بيد دور واخر.

مشكلة العالم طيلة التاريخ هي تكمن في السعي الى اختصار وحدة الزمن، فنحن البشرية نتحرك في سيرورة زمن عضوي، وبحالة اختصار وحدة الزمن تلك الى حد مناسب سيتخلخل نظام الكون، وسنكون بلا حالة ثبات عامة، وسيتغير شكل الحياة الى صورة مدهشة ومثيرة، لذا فالوحدة الزمنية للزمن العضوي هي التي تحافظ على نظام الكون بهذه الصورة المعتادة تاريخيا، ونحن لسنا بصدد وحدة زمن البشرية، بل ضربنا ذلك المثال لندرك من خلاله تحول اللغة من وحدة زمن الى اخرى يجعلها تمر بتغيرات كبرى، وهنا ايضا تكون وحدة الزمن هي الفيصل الذي نفصل من خلاله ما بين وحدة زمن اللغة الاجتماعية ووحدة زمن اللغة الادبية، وكذلك نلك اللغة اللونية في اللوحات التشكيلية، والفصل ما بين جنس لغة واخر هو امر ليس بالهين، ونعتقد هناك صعوبة كبيرة امام المعرفة اللسانية في فصل لغة من اخرى داخل اطر الجدول اللساني للتعيين والتحديد، ونحن هنا ازاء جنس لغة علي بن ابن طالب، والتي هي بوحدة زمن من الصعب أن نضعها في مسمى اصطلاحي، ولكن وحدة الزمن تلك هي التي تأهلت بلاغة علي في خطابها من خلالها، وعبر تلك الطاقة الزمنية تفجرت انهر البلاغة  لتمس ذلك الظمأ البشري، ويلزم أن تدعم وحدة الزمن للبلوغ مناطق غير ساكنة الا مبدئيا، والوقوف على المسالة وتحليلها بعمق، وصراحة التفكير الافقي هو بعيد عن فكرتنا التي نطرحها هنا، فهي اعمق من حدود ذلك الافق، وهو لا يشكل تقدما في الوعي ليلامس الفكرة جوهريا، وعادة ما يعتمد على فكرة مسبقة هي مرتبطة بالأفق العام للمعنى، لكن ذلك ليس ازاء السعي المعرفي للغة، والهدف الى اكتشاف مضامين اخرى للمعنى ابعد مما وصل اليه الحقل النقدي، ونرى أن قيمة التفاضل تشكل اهمية في دراستها، وقد يلمس علم اللسانيات منطقة حساسة لم يبلغها سابقا.

إن قيم التوازي البنيوي بين مستوى وحدة زمن واخرى يسعى لتأكيد البرهنة بكل الوجوه الممكنة، وبين مستوى يهدف الى اثبات الخطاب بكل الميزات الممكنة، والسعي اللغوي في كل من الجهة الاولى هو سعي تداولي في اكثر من سياق وظيفي، وليس في سياق محدد، فالتفسير الموضوعي هنا يؤكد في اكثر من اتجاه في متطلبات اللغة للبرهنة على ذلك الوجه بالصيغة المثلى، واما في تأكيد الخطاب فتشتغل اللغة على المضامين اللغوية، لتكون بالتالي وجهة نظر احاطية، يكون فيها توازي البرهنة فيما بلغته من ضمانات لذلك، والخطاب الذي اهلته اللغة الى مضمون توافقي .

في تفسيرنا الموضوعي لعي ما بين الذات والخطاب، نجد ذلك الانزع البطين قد تفرد ببلاغة لا ضغوطات نفسية عليها، وتكون احيانا تلك اللاغة في صيغة رياضيات، وهذا ما يجعل علي احد اساب تطور مفهوم اللغة، فالقول ثلاث لا وجود لهن الا بثلاث، وتلك سمات من بلغ حد الانزع، فقد نزع عن نفسه كل اثر نفسي او انفعال ايديولوجي، وبل غ اقصى حدود المفهوم في النقاء، وكان الوعاء للمعاني والحكم والعبر، بل اوسع وعاء واجدر، ولم يكن يوازي علي مخلوق في كونه ليس بابا لمينة العلم بالصيغة التقليدية، بل تلك البوابة التي هي تمثل المظهر النوعي للمدينة، واذا قلنا مدينة العلمة يعني نحن ازاء الحقيقة الصافية تماما، ولا يمكن لغير تلك البوابة الموازي بالشكل لمضمون مدينة العلم، وبما أن اللغة مدينة العلم تحتاج الى وعاء مناسب لها، وعلي امتلك افضل مقدرة بل طاقة للتوافق لما تتطلب مدينة العلم، وليس هناك افق فربابة او نسب كان هو احد الاسباب الموجبة لذلك، فلا النبي محمد هو بنفس قبلي، ولا في نفس علي ذلك الغرض السياسي .

***

محمد يونس محمد

......................

1- علم المعاني بين الاصل النحوي والموروث البلاغي،  د. محمد حسين الصغير، الموسوعة الصغيرة دار الشؤون الثقافية – ص 13

المطلب الثاني: جماليات التشكيل الزمكاني للهيكل المعماري للرواية

يصوغ حامد فاضل أحداث روايته بسردٍ تقليدي ينمو ويتفاعل مع الأحداث والشخصيات وتنقلها في المكان، لكن سرده يأتي ممزوجًا بالشعر، فتغدو روايته ومضات شعرية يفيض فيها الدفق الشعري في بعض المفاصل بغزارة أكثر من السرد نفسه الذي يشكل جسد الرواية حتى تتحول في بعض فصولها البالغة (20) فصًلا إلى ملحمةٍ شعرية(1)، وهو حين يقيم شعره وسط الرواية لا يسعى إلى استعراض قدرتها الشعرية قدر تلمسه طريقة مناسبة لجعل الحياة الداخلية للرواية أكثر صدقًا وشاعرية ونبضًا بالحياة.

تظافرَ كلٌّ من السرد والحوار والوصف والسيرة الذاتية وتناسل الحكايات في تشكيل متخيل الرواية، فقد روى الكاتب سيرته الذاتية مع أخوته ووالديه من لحظة انتقالهم من منزلهم في منطقة العالية بمدينة الشامية إلى مدينة السماوة(2).

ومن أمثلة استخدامه لتقنية الحوار، حوراه مع الشيخ النوري عن نشأة السماوة وتاريخها(3).

نخلص مما سبق إلى أنَّ رواية بلدة في علبة لحامد فاضل، اتكأت على لغة شعرية ووصفية جميلة وتناص قرآني(4) ضمّنه روايته بكل حرفية، وصنعة فنية متقنة، استطاعت أنْ تمرر في أنساق ثقافية مضمرة تخفت وراء هذا الجمالي، كشفت عن مأساة الإنسان ومعاناته وبؤسه وفقره وقهره بصورة مستمرة، على مدى أربعة قرون.

زمكانية القهر والاستبداد والجوع والحرب والأمية:

لقد كشفت الرواية عن معاناة الشعب من دكتاتورية الحزب الواحد والحاكم الجبار، بمطاردة مَن يخالفه الرأي وسجنه أو إعدامه، ونزوح الكثير من أهالي البلدة، والحصار الخانق وتداعياته، حيث افتتح روايته بالحديث عن سنوات الفقر والفاقة يقول: "ضغطنا البطون بالأحزمة. رضينا بما قسمته لنا كف القدر، وحمدنا الذي لا يحمد على مكروه سواه.. انفرط عقد البلدة. سُجن من سُجن، قُتل مَن قُتل، مات من مات، هاجر من هاجر، وبقي الذي لا يملك ثمن الهجرة"(5).

ثم يروي لنا قصته الخاصة، حيث كان أبوه مصورًا فوتوغرافيًا ترّبى على الروح الوطنية منذ نعومة أظفاره، وشارك في كل الأشكال النضالية والجماهيرية؛ في المظاهرات والاضرابات والاعتصامات، وتوزيع المنشورات السياسية، والمشاركة في الفعاليات النضالية الأخرى، بما فيها المشاركة في فعاليات اتحاد الطلبة الذي انبثق تأسيسه خلال وثبة كانون، في ساحة السباع في بغداد، لكن هذه الروح المفعمة بالروح الوطنية بالنضال الجسور لا يمكن أنْ تكون بدون دفع ضريبة كبيرة فادحة، فقد فصل من مدرسته الثانوية، واعتقل وسجن وتعذب وتشرد، وعانى المعاناة القاهرة حتى اضطر تحت وطأة التهديد بالسجن والاعتقال، وتشديد الخناق والحصار عليه، أنْ يغادر هربًا مع عائلته إلى مدينة الشامية ولكن بعد ثورة 14 تموز عام 1958 رجع إلى مدينته الأصلية السماوة: "توقفت أمام بيتنا المتواضع في منطقة العالية بمدينة الشامية، سيارة خنساء استعار محركاها رغاء جمل، لتمضي بنا إلى مدينة السماوة. حيث قوّض أبي خيمة غربته بعد عام من قيام ثورة 14 تموز عام 1958 التي أتاحت له فرصة العودة إلى مسقط رأسه"(6)، ولكن هذه العودة تخللها صراع حياتي شرس، صراع من أجل توفير الحياة البسيطة والمتواضعة لعائلته وتوفير لقمة العيش، التي كانت تعاني الفقر والحرمان، ورحل عن الحياة، وترك العبء الثقيل والمرهق إلى ابنه لكنه ترك الأرشيف الثمين بالصور الفوتوغرافية في العلبة.

أصبح الابن معلمًا لكن كان يعاني شظف العيش المرهق بالراتب الضئيل الذي لا يكفي عائلته، إلا أيامًا معدودة، حتى اضطر إلى بيع جميع الأثاث الذي يوجد في منزله، يقول: "وتحت شعار (إلى أن يفرجها الله) بدأنا حملتنا بالفراش الزائد، والكماليات التي لم يعد لها مكان في زمن القحط والجوع والمرض.. أجهزنا على الأرائك... ولأن الكهرباء لم تعد تزورنا إلا على استحياء، فقد تخلينا عن المراوح السقفية، واستعضنا عنها بمهفات الخوص التي ازدهر سوقها في صيف بلا كهرباء،... "(7).

كما اضطر إلى العمل في بعض الأعمال الشاقة والمرهقة، إلى جانب وظيفته التعليمية، من عامل بناء إلى عامل فرن إلى أعمال مرهقة أخرى ليسد رمق الجوع والفقر، في ظل الحصار الدولي الخانق حتى اضطر أنْ يخبز خبز التنور ليبيع الخبز لكي يساعد زوجته المريضة، حتى فكّر في الرحيل إلى السعودية عبر البادية الصحراوية لكن محاولته فشلت، رغم أنه وصل إلى مشارف الحدود ليرجع إلى عائلته يصارع الحياة الشاقة والمتعبة، وقد عجز عن توفير الحليب لطفله الرضيع، وكانت مناجاته الأخيرة كالغريق الذي يتشبث بالقشة من الغرق، كان معينه الصور الفوتوغرافية لتسد رمق جوعه وفاقته وعوزه في وضعه المخيب بالخيبات المحبطة في حياته التي جفت فيها السنين بالجفاف العجاف(8).

ومن صور الاستبداد الفعل الذي يقوم به مدير المدرسة، حيث يشتم كل تلميذ لا يعجبه بلفظة (الزنديق)، بالإضافة إلى الانتهازية والنفاق الذي اتّصف به، يقول الكاتب عن مدير المدرسة: "وهو يقف أمامنا في الاصطفاف الصباحي ممسكًا بعصاه (العلوية) التي اقتطعها من السدرة الكبيرة الشامخة في حديقة المدرسة. يلوح بها هاتفًا بأعلى صوته ولثلاث مرت: "عاش الزعيم عبد الكريم قاسم" نردد بعده الهتاف زاعقين إلى أقصى مدى تسعفنا فيه حناجرنا الصيرة.. وأتذكر أيضًا حين أصبحت في الصف السادس كيف جاءنا المدير نفسه مهرولًا في أعقاب حركة 8 شباط 1963 ليأمرنا بإنزال صورة عبد الكريم وتمزيقها ناعتًا الزعيم بالزنديق"(9).

وفي حواره مع الشيخ يتحدث عن البلدية التي تهدم بيوت الفقراء (التجاوز القانوني)، ولا أحد يعترض عليها في وقت تعترض فيه على إسرائيل وهي تهدم بيوت الفلسطينيين، يقول: "كيف أنسى يا سيدي الشيخ ذلك الرجل الظريف كاتب العرائض المعروف لخطه الجيد وأسلوبه المميز، أليس هو مَن أجبر القائم مقام بعريضة واحدة على إيقاف هدم بيوت الطين الكائنة في مدخل المدينة بحجه تشويه المنظر.

أيدني الشيخ وأردف:

إي والله صحيح، تذكرت لقد كتب في تلك العريضة كيف يتسنى لنا أن نطالب المجتمع الدولي بمساندتنا لمنع البلديات الإسرائيلية من هدم بيوت العرب في فلسطين، وبلدياتنا تهدم بيوت المواطنين الفقراء، وأتذكر أن عاملًا بسيطًا من سكان تلك البيوت كان قد اشترى شجيرة زيتون وعاد بها فرحًا ليزرعها ففوجئ بالشفل وهو ينطح سياج بيته"(10). هذا هو حال الحكومة التي وصفها مردان سائق السيارة المعروفة بسفينة نوح، بقول الرصافي: "لا يخدعنك هتاف القوم بالوطن، فالقوم في السر غير القوم في العلن"(11).

وقد قدَّم فاضل في روايته موضوع الاستبداد السياسي في قطار الموت، وهي المجزرة الكبرى التي أعدها الفاشست للسجناء من أحرار العراق وخصوصًا من الشيوعيين وأصدقائهم، بنقلهم بقطار مغلق مبطن بالقير في حر تموز اللاهب من سجن رقم واحد في بغداد إلى سجن نقرة السلمان في السماوة، وقد كان الفاشست على يقين من أنَّ السجناء سيهلكون  خنقًا في الطريق، عندها هبت السماوة من جميع الشرائح والأجناس لنجدة هؤلاء السجناء وخلاصهم من براثن الموت المحقق(12). بالإضافة إلى الفساد والإهمال والحروب المتتالية التي عانت منها مدينة السماوة(13).

كما تفصح لنا الرواية عن محاربة الأنظمة السياسية للتعليم في السماوة، ففي حديثه مع الشيخ النوري يقول: "أكاد أجزم يا شيخي أنَّ السياسة والمذهبية والإفتاء تعاونت ولفترة طويلة على حرمان المدن الجنوبية من التعليم.. العثمانيون كانوا لا يحبذون تأهيل أهل الجنوب حتى لا يتبوؤن مناصبَ في الدوائر الرسمية، ورجال الدين يفتون بحرمة المدارس لأنها تعلم الناس أنَّ المطر من البخار.!

اعترض الشيخ:

ولكن العثمانيين أسسوا مدرسة ابتدائية في منطقة القشلة بالصوب الصغير.

ذكر أبي أن تلك المدرسة كانت خاصة لأبناء العصملية ولم تكن لأبناء الفقراء.

وماذا عن المدرسة التي أسست في الصوب الكبير؟

سرعان ما أغلقت يا شيخي.. فقد حدثني أبي أنَّ المتنفذين يريدون أنْ يبقى الناس غاطسين في مستنفع الأمية والجهل كي تسهل السيطرة عليهم..."(14).

زمكانية الثورة والنخوة الأصيلة:

نتوقف أمام حدثين بارزين في أرشيف مدينة السماوة، سجلت عبرهما صفحات من البطولة والمجد والوطنية في الملاحم البطولية؛ أولهما: قطار الموت، والثانية: صفحات المجد من بطولات جسورة التي أشعلت شرارة ثورة 1920، في مقارعة الاحتلال البريطاني وإجباره على التفاوض.

لا شكَّ أنَّ الملحمة البطولية الخالدة التي طبعت بصماتها بشكل بارز تاريخ العراق السياسي المعاصر، بأنها امتلكت تراثًا مجيدًا بطوليًا يشع بالأنوار الوطنية الحقة حين هبّت الجموع الغفيرة، رجالًا ونساءً وأطفالًا، في النخوة العراقية الأصيلة، في إنقاذ 500 سجين سياسي من براثن الموت في قطار الموت، وهم في أنفاسهم الأخيرة، الجريمة الرهيبة في وحشيتها التي أرادت ارتكابها سلطة الفاشست البعث، ولكن لولا يقظة وفطنة ووطنية سائق قطار الموت، الذي خالف الأوامر الصارمة بالسير البطيء، حتى يموتوا اختناقًا في صيف تموز اللاهب في الطريق، قبل وصولهم إلى مدينة السماوة، فقد انطلق بأقصى ما يستطيع من سرعة، وكسب أربع ساعات من عشر ساعات في الطريق، وكان في استقبال قطار الموت جموع غفيرة من الناس التي تجمهرت وتقاطرت في جموعها محطة القطار، في نجدة وإنقاذ حياة السجناء السياسيين، وهم بين الحياة والموت، فقد هبّ أهالي السماوة الأبطال، أهل الغيرة والشرف والنخوة والوطنية الأصيلة، هبة رجل واحد، وكسروا الأقفال الحديدية وأخرجوا السجناء، ومنعوا رجال الأمن والشرطة من الاقتراب منهم، وهم في حالة يرثى لها "شارفوا على الموت وأنزلوهم إلى رصيف المحطة، حيث تمددوا عراة واهنين، لا يستطيعون الحركة. كانوا يشيرون بأيديهم طالبين الماء، ويستنشقوا الهواء بعمق، وهم يطلقون الحشرجات، فأسرع الناس إليهم، بالماء والملح واللبن والخبز والرقي، ويمنعون رجال الشرطة والأمن من الوصول إليهم"(15).

والحدث الوطني الثاني الذي أشعل شرارة ثورة 1920، وتسجيل ملاحم بطولية مجيدة، برجالهم الأشداء وشيوخهم بالروح الوطنية الوثابة، وفي يوميات الثورة المجيدة، وهم يسطرون صور البسالة والبطولة في المقاومة الجسورة، حتى تكبيد العدو خسائر فادحة، وأجبر على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.

ويعرض حامد كيف واجه الأجداد قوى الاستعمار وكبدوه خسائر فادحة، ويشير إلى أنَّ السمة العامة للعراق مع الاحتلال الإنجليزي له أوائل القرن العشرين هو الاضطراب وعدم الاستقرار، ودلالة هذا الأمر هو أنَّ الطرفين المستعمِر "بكسر الميم" والمستعمَر "بفتح الميم" لم يكونا قادرين على التعايش أو الاستمرار، بالتالي كان كل منهما يتربص بالآخر وينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض عليهم، ورغم لجوء الإنجليز إلى جميع الأساليب لإدامة سيطرتهم بما في ذلك افتعال المعارك بين الفئات العراقية المختلفة إلا أنَّ الوعي الشعبي نجح في تجنب الانزلاق إلى الفخ الطائفي، غير أنَّ هذا المناخ لم يتواصل فيما بعد ثورة1958 ، حيث كان التحالف الذي قام به هشًا؛ مما أدى إلى تفجير الصراعات فيما بينها بسرعة، فضلًا عن أنَّ صيغة نظام الحزب الواحد أدت إلى عزلة النظام ونرجسيته، وبالتالي عدم قدرته على تجديد نفسه، وهو ما كان يسهل للقوى الخارجية أو المتضررة إسقاطه النظام.

ويخلص حامد إلى أنَّ ثورة العشرين رغم عفويتها وعدم وجود قيادة موحدة لها ورغم فارق السلاح ونوعيته بين الطرفين كانت أول ثورة عربية في الشرق تقوم ضد الاحتلال وقواته، وقد كبدت المحتلين خسائر قادته وغيّرت نظرتهم للكيفية التي يجب أنْ يحكم بها العراق، وهو ما تمثل في التخفي وراء واجهة وطنية؛ لأنَّ الحكم الاستعماري المباشر يستفز المواطنين ويؤلبهم ضد الغزاة في حين تكون المتاريس الوطنية قادرة في بعض الأحيان على امتصاص النقمة وتأجيل الانفجار المحتمل.

ثم يعرض قصة أشهر رجال الرميثة في حكاية الليرات العشر، وهما الشيخ شعلان أبو الجون، والذي أرسل من سجنه في سراي الرميثة تلك الرسالة التي خلدها التاريخ، والشيخ غثيث حرجان الذي استلم الرسالة وأحسن تفسيرهاـ، فكانت عود الثقاب الذي أشعل الشرارة الأولى للمستعمر الإنجليزي، حيث أرسل الإنجليز شرطيين ببلاغ استدعاء لحضور الشيخين، ولكنهما بعد المباصرة بينهما ظن الشيخ غثيث أنَّ الإنجليز نيتهم الغدر، فذهب الشيخ شعلان وبقي الشيخ غثيث، وحين وصل الشيخ شعلان إلى مركز الرميثة قبل ظهر الجمعة الموافق 29 حزيران 1920، كان الضابط الإنجليزي منزعجًا، ودار حوار ساخن بينهما، ثم اقتادوه إلى السجن، فقال الشيخ شعلان لجماعته "سلمولي على الشيخ غثيث، وكلوله يكول شعلان أريد ملابس، وعشر ليرات، كون يوصلن كبل ما يودوني باجر بالقطار لمواجهة الميجر ديلي حاكم لواء الديوانية"(16).

وحين سمع الرجال بالعشر ليرات تناخوا لجمعها، لكن الشيخ غثيث فهم مضمون الرسالة، واختار عشرة من خيرة الرجال، ثم اختار عشرين رجلًا آخرين، وأمرهم أن يكمنوا في محطة القطار مقابل الرميثة مقابل الحامية البريطانية ليقوموا بإسناد الرجال الذين سيهاجمون سراي، وانطلق الرجل عصر السبت وعند وصولهم بستان آل أسود القريب من الرميثة، وذهب حبشان كاطع إلى السجن لزيارة الشيخ شعلان فرفضوا إدخاله حينها رجع إلى جماعته وصوبوا بنادقهم ناحية السراي، واستنفر أهل الرميثة والعشائر المجاورة لها حتى طوقوا الحامية البريطانية من أربع جهات، واستولى الفلاحون على الباخرة، واندلعت الثورة في كل شبر من الرميثة والسماوة والخضر، حتى حدود النجف والديوانية، إلى أن أجبر الإنكليز على طلب الهدنة،ـ والقبول بالمفاوضات، وتوقيع الاتفاق في مدينة السماوة يوم 20 تشرين الثاني 1920(17).

التسامح الديني والاجتماعي:

كغيرها من المدن العراقية في جميع أنحاء العراق كانت جميع الديانات اليهودية والمسيحية والإيزيدية والصابئة والإسلامية، كما مختلف القوميات تعيش بسلام ومحبة وتضامن في السماوة، قبل أنْ تنتشر عدوى وباء العرقية والطائفية النتنة في زمن (الديمقراطية) الأمريكية.

وقد كان الكثير من أهل الديانات المختلفة يعملون في حقل التدريس يقول الشيخ النوراني في حوراه مع سلام: "عندك زيا اليهودي مثلًا كان معلمًا للحساب في مدرسة الرشيد، وقد غادر العراق إلى إسرائيل بعد إسقاط الجنسية في العام 1950 بقرار من نوري السعيد.. عندك الصابئي نسيم هو وابن عمه صبري درويش كانا معلمين في مدرسة المنصور، وكان هناك معلمين من المسيح أيضًا.

المسيح موجودون على هذه الأرض منذ القدم وما يزالون... أنا عندما كنت تلميذًا في الصف السادس في مدرسة المنصور الابتدائية، كان معلمنا في الرياضيات مسيحي اسمه يونان، يحبنا ونحبه؛ لأنه رجل فاهم، طيب، ومتواضع على العكس من معلم الرياضة الذي كان مغرورًا..."(18).

***

د. سحر ماهر أحمد

.......................

(1) انظر: بلدة في علبة، ص21،31، 90، 91، 176، 177، 178، 180، 242.

(2) بلدة في علبة، ص45.

(3) بلدة في علبة، ص27-44.

(4) انظر: بلدة في علبة، ص13، 23، 27، 29، 32.

(5) بلدة في علبة، ص13.

(6) بلدة في علبة، ص45.

(7) بلدة في علبة، ص14.

(8) انظر: بلدة في علبة، ص14 وما بعدها.

(9) بلدة في علبة، 71.

(10) بلدة في علبة، ص151.

(11) بلدة في علبة، ص152.

(12) بلدة في علبة، 196-200.

(13) بلدة في علبة، ص259.

(14) بلدة في علبة، ص82.

(15) بلدة في علبة، ص220.

(16) بلدة في علبة، ص238.

(17) بلدة في علبة، ص240- 248.

(18) بلدة في علبة، ص95-96.

تألقت النصوص الادبية (النثر والشعر) في حبكتها السردية في جمالية اللغة وايقاعها وانسيابها الشفاف، التي عبرت في ابداع عما يجيش في أعماق الوجدان والمشاعر الطافحة في مخزون الذاكرة في محطات قطار العمر قرابة أربعة عقود ونصف، أي منذ زمن البعث الى يومنا هذا، في تداعياتها التعبيرية والفكرية، على ضفاف لغةجميلة تغري القارئ وتدفعه بتأثيراتها الحسية الى التأمل والتفكير، في أحداث مرت على العراق، ورسمته بالشكل الواقعي والفعلي في مسيرة السيرة الحياتية، في ازمنة ومنعطفات مختلفة من المجازفات. ان النسيج اللغوي يشير بتألق على القدرة في امتلاك ناصية اللغة وجمالها الحسي في الاختيار المفردات، التي لها صدى ورنين مؤثر. وهذه الرحلة الطويلة هي جزء من تاريخ العراق المضطرب، في استنزاف قدرة المواطن على تحمل الأعباء والمعاناة بسبب الإرهاب الفكري والسياسي، في وطن انحرف عن جادة الصواب الى الطريق الوعر بلا عودة، وانتهج سلوك نهج الذل والخنوع للمواطن حتى يخلق الخيبة والإحباط، لذلك أصبحت الحياة والانسان لعبة شطرنجية، على ايقاع التيه والضياع بلا انتظار، حين تجهمت الاجواء بالغبار والسموم (غبار مشبع بسواد الغربان حط فوق المدن / شددنا الرحلَ... حملنا ما تبقى لنا من ضلوع دون وداع، / تهشم الزمن وانسكب) ص210. حتى لم يتدارك العمر أن يلتقط أنفاسه. لم يعط فرصة تنفس الصعداء بدون رحمة. كأنه الحكم بالقصاص الصارم، ان يترك كل شيء حتى يسابق الزمن الوحشي قبل أن يطبق مخالبه المفزعة. يترك كل شيء. الماضي بالضياع. ويجهز نفسه في الرحيل. نحو الدروب المجهولة، طريقها الوعر مليء بالمخاطر والمجازفات، فما على السنونو سوى أن يحمل الوطن الجاحد في أعماق قلبه، ويذهب في منعطفات الزمان بما تحمله الاقدار اللاحقة. هذا صيغة النصوص الأدبية، في لغتها العميقة وما تحمل من صدق المشاعر التي اكتوت بنار تداعيات الواقع ومجرياته المنحرفة، التي داس بانتهاك صلف على القيمة الإنسانية مرغها في الوحل، ووجد نفسه في خضم العواصف المجازفات على مراحل مختلفة من الازمنة. هكذا سكب مخزون الذاكرة، يسرد الاحداث بضمير المتكلم. الذي وجد نفسه بين المطرقة والسندان بدون خيار ولا رجعة (لو قيل لي أمامك خياران... لاخترت الثالث! / عساي أرتب النسيان... واتعلم من دروس عثراتي! / اوضب أحلامي بصورة مغايرة... / وانتقي بداية آخرى لولادتي، كيفما أشتهي أنا... / لا بطلاً، ولا قرباناً، ولا ديكاً عاطلاً يبحث عن كومة قمامة يعتليها! / فقد أقوى في ليل البردِ على البرد... / يصفعني صوت كأنه أتٍ من بئر جف ماءه / × هيهات إنك تطلب المستحيل... قد فات الاوان) ص13. وليس هناك سوى السير في طريق المحنة بجروحها التي لا تندمل، في معايير الزمن المقلوب، ربما جرذ يخرب حاسوب المطارات الدولية، لكن هناك ايضاً جرذ آخر يحكم دولة، ويدعي أنه حارس البوابة الشرقية للامة، ويطلق العنان لشن الحروب الداخلية والخارجية، يطلق العنان للقبضة الحديدية والارهاب الوحشي. يطلق العنان للخراب والدمار وإراقة سفك الدماء وخنق الارواح حتى بالسلاح الكيمياوي (رحماك يا سائس الزمان، قد فاض بنا الصب، فيما تسرق من لحظات تنقضي... / لحيظات خاوية استطالت دهراً / واخرى مكتنزة، خطفت مثل شهاب... / ترى أين تخبئها، وماذا تفعل بها؟! / إن خبأتها في بئر، نشتري دلواً... / وان خبأتها في مغارة، سيدلنا عبق الذكرى... تحرقها؟ / نلم رمادها، نعجنه، نصيره ايقونة تسلينا في ما سيأتي) ص99. إنها رحلة أوديسة (نسبة الى أوديسا الاغريقي) من منبع الطفولة الى مراحل العمر الاخرى، في رحلة الشك واليقين، كمن يبحث عن شهادة حسن السلوك في الوقت الضائع، طالما الوطن انحدر وتدحرج الى الهاوية، حين غزته غربان الشؤم. وخرج من رحمها اللصوص والقتلة، واصبحت الحياة عبارة عن بهلوان سيرك (قم، أترك السيرك، فلا مكان لك بين مهرجانات البهلوان، وألعاب القفز على الرقاب / هذا السيرك تضحك فيه حفنة على بقية الناس، وترضى أن تروض أمة على الغباء والنفاق.. / بالتساوي، توزع الشعارات بين الناس... / قم، يا هذا، فلن يكفكف دمع السماء أحد.. / قم فما زال في باطن العراق حجارة لم يقذفها الزلزال بعد.. / أفق، أنهم يتحايلون على الذاكرة.. / يرمون لها عظمة تتلهى بها) ص126. فما عليه سوى لملمة نفسه على عجل قبل فوات الاوان، فالغربان الوحشية تتربص في السماء والأرض، وتحسب كل شاردة وواردة، ليس هناك وقت تداوي الجروح و البرابرة على الابواب (سلاماً أيها الارق... / سلاماً أيها الوسن.. / الغفو يقرؤكما السلام براية بيضاء، / - لا سبيل الى سلم بيننا ومن أي نوع كان!، فقد خلقنا أعداء وكفى! / تمنيت ذات وهم أن أصل معهما، لو الى هدنة.. / أقبل حتى بمؤقتة، كي استرجع واصل الى احلامي / الزمن يجرجر عربته المتهالكة بخيول شمطاء / غربتي تطيش بي، معول أخرق يصادر فرحتي، فلا يبقى لي سوى الوحشة) ص110. من مهازل القدر السخيف أن يكون العراق لعبة تتقاذفها أقدام البرابرة والتتار الجدد في غزواتهم ويلبسون العراق وبغداد ثوب الحداد والحزن، ويتفتت الاحبة والاهل والاصدقاء، وتتحول مرابع الطفولة والشباب الى أماكن غريبة وموحشة، ويلف الظلام بعباءته على البيوت (هذا الغول الذي حول الناس الى كائنات تلوذ بظلام زوايا البيوت، تتفنن في اجتراح الحيل - المعجزات. للافلات من الموت بأي ثمن؟! / نموت عطشاً! هل يصدق العالم أن بلاد الرافدين وبغداد، التي كانت أم الدنيا طراً - تموت عطشاً) ص72. تدحرجت كرة الثلج ووصلت الى الاحتلال، وينفجر السؤال بالرأس: ماذا يريد المحتل من الوطن؟. وكيف تدير قمامته التي جلبها معه أدارة شؤون الناس؟ ولكن العجب!! (العجيب، ليس في الاحتلال الاجنبي، وانما تقهرني تلك العقول السائدة، التي تدعو الى الامتثال المداح لما يفرض علينا من سكينة القهر... أن نكون طيبين، طيعين ومتحضرين! / أن نفسح المجال للمحتل وزبالته بالتربع على أقدارنا ومستقبلنا) ص142. إنه وجع الناي والذاكرة من بشاعة التي تمشي على الارض و تكبر وتتمدد (فاجع، باطل... ما نراه اليوم! / كنا نمسك بهدب الحلم، ونؤمل النفس ان ما فات قد ولى... / وما سيجيء، لابد ان يكون أحسن لكن هيهات والف هيهات) ص206. وهذا يستدعي أن نفزز السؤال بعلقمة المر: منْ يحمل لوثة العقوق، نحن أم الوطن؟

***

جمعة عبد الله

 

لقد أصبحت قصيدة النثر، منذ مدة قصيرة، زهرة كبيرة في حديقة الأدب العربي، فاستقطبت أقلاما من مختلف الحساسيات الجديدة، وذلك بعد رفضها ومعارضتها في بداية نشوئها من طرف أعلام الشعر العربي ونقاده. لكنها نمت شيئا فشيئا حتى أصبحت تيارا شعريا بخصائصه الحالية، غير أن توهجها الحقيقي راجع إلى الإمكانات التعبيرية التي تتيحها للشاعر الرافض لقيود الوزن، سواء في الشعر العمودي أو شعر التفعيلة، بل رفض أيضا للأغراض الشعرية المبتذلة، لمعانقة الواقع بكل تموجاته وتناقضاته، وفي هذا السياق تأتي تجربة الشاعر الحبيب اعزيزي الذي نسائل ديوانه "رؤى بروكوست العجائبية" الصادر عن دار بصمة سنة 2022.

الشعر صوت السماء، والنثر صوت الأرض، لكن القراءة الأولية للديوان، تسقط هذه المعادلة، وتجعل الشعر، في هذه التجربة، صوت الجحيم، صوت إن كان صوتا، أو لعله أنات وصرخات مدججة بالحمولة الثقافية والدينية لأساطير هندوسية مثل "شيفا"، وفرعونية مثل "الأنوبيس"، وإغريقية مثل "بروكوست"، علاوة على رموز مثل الكرسي الهربائي والسمام والعمال.... استراتيجية الشاعر في بناء نصه الشعري مختلفة ومغايرة، وهي التي تخلق تميزه وفرادته، يقول في قصيدته الأولى "النّظر بنصف عين":

وأَنظُرُ إليَّ

ولو بنصف عينٍ

من تحت الكرسيّ الكهربائيّ

غربَ الجحيمِ

هناكَ

تحت أحذيةِ الفيالقِ

فأنا أحبو في الشارعِ الرئيسيِّ

هنا

بين سرايا الخوذاتِ

العسكريةِ

ولم أجد وجهكَ المسروقَ

بين الأجسادِ التي

سقطت

صباح هذا الغروب

مقطع شعري يعكس القلق الوجودي العميق من الخسارة التي لا تعوض أبدا، والبحث الدائم عن المعنى في عالم اللامعقول، الذات الشاعرة القلقة تتخبط في السديم، ينتابها العجز والتيه، ينظر الشاعر إلى نفسه بنصف عين، فالضمير المتكلم، والهوية المتشظية، جعلته لسان إنسان يعيش شقاء الحداثة حيث يستحي المرء من النظر إلى نفسه/وطنه، أو النظر ربما إلى ما آلت إليه الأمور، وما آلت إليه الأمور هو الجحيم، الحياة جحيم، والشاعر مناضل يصور السقوط التراجيدي للمعنى، قتل رمزي للإنسان مع استحضار دلالات الكرسي الكهربائي، وسيلة الإعدام، ليرى غرب الجحيم، أحذية الفيالق والخوذات العسكرية، القبح الذي يحاصر الإنسان ويطفئ ابتسامته، فهناك في الحياة/الجحيم يقول: لم أجد وجهكَ المسروقَ، فالوجه هنا، يفتح آفاقا كبيرة للتأويل، الوجه/الوطن، الوجه/الحرية، الوجه/الحب، الوجه/العدل... لكن القلق الوجودي الذي رافق صوت الشاعر في جل قصائده، يهمس بين الفينة والأخرى باقتراب النهاية التراجيدية.

ديوان يحمل بين طياته مشاعر مشاعر الغضب والتيه والقلق، تقابلها مشاعر إنسانية نبيلة (الإخلاص، الوفاء، الكرامة...) ما فتئ شاعرنا يحفر لها لحدا تلو آخر، لتهيمن صورة القبح على الجمال، القبح الذي عبر عنه شاعرنا بلغة شعرية أضفت عليه سحنة شعرية وحمالية، وهذا ما قصدناه في العنوان "جماليات القبح...". تظهر في عالم القبح شخصية الشاعر/الإنسان/المناضل متأبطا صورا شعرية تجعل القبيح جميلا، فما فائدة الشعر إن لم يعبر عن انتكاساتنا وخيباتنا، يقول الشاعر:

أشمُّ رائحةَ جسدكَ

في هذا الزقاقِ

وأعرفُ

أنك لا تستطيعُ النداءَ

لا تستطيعُ

رفعَ الرأسِ يا وطنِي

خارجَ أسوارِ بيضةٍ

فارغةٍ من الآحِ

الوطن جسد يحترق، وتلك لعنة الشاعر المناضل، أن يعيش بؤسه وهو يفكر بالمدرجين بدماء القهر والفقر، يشم شاعرنا رائحة الوطن/الجسد في الزقاق، ويعرف أنه لا يستطيع النداء، حرقة الانتماء، وقلق وجودي ليس لمصير فرديّ، بل لوطن مثخن بالجراح، وكأن الديوان رثاء يملؤه الصراخ المتواصل في الجحيم، لاسيما في قصيدة "المثول بين يدي كلاب الجحيم" والتي يقول فيها:

اسمع زعيمَ الثورةِ النَّاعمةِ في اليسار

اسمع المناضلةَ التي توبخُ هذا الصباح زوجها الجذريّ الخائن

اسمع الدركيّ

اسمع الوزير الذي أعفيَ البارحة

استراتيجية انتقاد عوالم الجحيم/الواقع في قالب شعري سردي يقوم على التوازي وصنع عجائبية العالم، عجائبية تخلق شعرية دلالية موغلة في رمزيتها، يقول في قصيدة "بروكوست العجائبية":

اليومَ هاتفتُ بعض الملائكةِ

من هاتفي الخلوي طبعاً

*

أني أريد النوم رجاء ليوم كاملٍ

في هدوء جذري مثل حذاء مرميّ

مثل من ينتظر وصول كارثة

ها هو شاعرنا يطلب الخلاص، خلاص روح قلقة تبحث عن الارتماء في اللامعنى علها تستعيد توازنها في هذا العالم/الجحيم. والجحيم هنا ليس مكانا بل هو أقرب إلى الجحيم السارتري، الإنسان الجحيم. كما يبدو أن الشاعر أضناه القلق الإيديولوجي الثاوي بين أنفاسه الشعرية، لنلاحظ تغيرا في بعض قصائده التي تنزع إلى السخرية كأسلوب لمواجهة القبح، وهو ما صنع أسلوبا شعريا يجمع بين الصورة الشعرية الساخرة وبشاعة الواقع، يقول في قصيدة "المؤمنون بسماء ونصف":

لازلنا نبكي بأفواه باردة جدّا

تماما مثل سفينة مقلوبة في مرسَى

نكره النظر نحو الأسفلِ

والمساواة بين الجنسينِ

في الرأي والملكية العامة

في التخلص من معلبات الميتافيزيقا

الكوميديا السوداء، أو حين تصبح السخرية أسلوبا لمقاومة الألم والظلم والانتكاسة، أليس سخرية أن يبكي المرء بفاه بارد جدا مثل سفينة مقلوبة في مرسى؟ إنها شعرية الخراب، شعرية الجحيم الموغل في حميميته. هكذا يتسلح الشاعر بأسلوب السخرية كاستراتيجية لمواجهة التشوهات، ودمى أحدب نوتردام التي تسكن الإنسان الشرقي، راسما صورة كاريكاتورية عن أرضنا الجحيم، يقول:

الأرض تهرب

وتهرب ظلال الأشجار

المطر في أرضنا

مثل كلب تعرض لعقاب لا إنساني

يا للعجب

تستمر السخرية في قصيدة "الرباط أو انتظرني نصف صيف: تقول المدينة":

في مدينتي القديمة

ثلاث نسوة يحملن باقة ورد صغيرة

واحدة تسير في اتجاه موعد حب في الحظيرة

واحدة نحو الحفل التنكري

وأخرى في اتجاه المقبرة

يا له من حب، ويا لها من مواعدة، حيث يكون مكان اللقاء حظيرة والحفل التنكري ومقبرة، سخرية يوجه من خلالها الشاعر سهام النقد للمجتمع الغارق في تناقضاته. تستمر السخرية اللاذعة للعالم/الجحيم في قصيدة "الشعر أيضا كلب من الجحيم" والتي يقول فيها:

صديقي بابلو

تسألني اليوم عن الحب والزمن

عن الشعر والحريات

نحن شعب يعض على كم القميص كل مساء

ندرب ما تبقى من الأسنان تحت اللهى

على الرفع من درجة التأهب

إلى اللون البرتقالي

كما تمرن دور الحضانة النزلاء ضد التبول اللاإرادي

يمكن القول إن تجربة الشاعر الحبيب اعزيزي، تجربة تعكس حساسية جديدة، تجمع بين الإيديولوجيا الثورية التي اتخذت الشعر مطية لمخاطبة القراء/ الجماهير، واللغة الشعرية الزاخرة بالانزياحات الدلالية القائمة على صور شعرية مركبة تشكل عنصر الدهشة والعجائبية في خلق العالم الشعري، علاوة على أسلوب السخرية الذي لجأ إليه الشاعر لتقليص المسافة بين المشبه والمسبه به في التشبيه، والمستعار له والمستعار منه في الاستعارة، وكلما كانت المسافة كبيرة نبعت الشعرية العزيزية، إنها الفجوة مسافة التوتر بلغة كمال أبو ديب، والانزياح بلغة جون كوهين... كل هذا لخلق جمالية القبح طبعا.

***

عبيد لبروزيين

دراسة في عوالم روايات أحمد سعداوي.. تداعيات السرد في مواقع تعالقات الزمن الإيهامي، الفصل الخامس ـ المبحث (3)

توطئة: إن الأساس البنائي في مشروع ومحاور رواية (باب الطباشير) لأحمد سعداوي، تنتمي في مسار أفعالها وتفاصيل محبوكها السردي، على ذلك السياق من اللامتوقع، إلى جانب التوافر التقديري في الأعطية الوصولية إلى مغزى ما تكنه ملامح السرد من مداليل غاطسة في مدارية أحداث لها من الدقة وحسن الصوغ، ما يجعلها تبدو كرواية عازمة في ذاتها أن لا تمنح مواقفها الأحوالية بذلك اليسر والتماثل الخطي المتفق حوله في أغلب الأنماط الروائية الصادرة حديثا..وفي ذات الوقت عندما نتابع خطوات المحكي في السرد، تباشرنا تخمينات شتى بأن سعداوي في مشروع رواياته، يطرح لنا ذلك الواقع المحفوف بالتداعيات والعلامات الإيهامية والتوغل في أوجه متنكرة من تعالقات أزمنة متعارف عليها وأخرى أضحت وكأنها حوادث في الممارسات الأكثر مراجعة في ما قبل النص أو إعادة الأفعال الشخوصية بأدوار عكسية من الارتباط والإدراك الحسي لها والذي غدا بدوره أي المقروء النصي، متخذا لذاته هوية صراعية في الإجراءات الوظائفية في محاور ووحدات النص.وبعبارة موجزة نقول أن المواقع المتقدمة من رواية (باب الطباشير) أخذت تهم بقلب الأدوار والأغراض العاملية، وذلك في حصرها أو تعطيل زمنها داخل أعطيات مشفرة من التعاقب في مرتبة عكسية في مستوى خاص من تأويلات الممارسة السردية .

ـ الغيبوبة السردية في دائرة الأزمنة الطباشيرية:

1ـ ارتداد الزمن أو تعطيل الحدود الزمنية الواصلة:

إن الاعتقاد الراسخ لدى القارىء بأن مجمل علاقات تفاصيل الرواية، تتبين في مستوى تمثيلات خطية في الأداء والفعل الزمني، ولكننا كلما تقدمنا في معاينات الأدوار العاملية الفعلية في المحبوك السردي، لاحظنا بأن أغلب أدلة الوجود التعاقبي في السرد، يكشف لنا عن نسخة ذلك الموقف الذي تعرض فيه الشخصية علي ناجي إلى ذلك الطلق الناري من جهة غير محددة.أما بخصوص الزمن الذي ورد قبل هذه الحادثة، فيظهر لنا كحالات رابطة قريبة من الأفعال المباشرة أواللا مباشرة، أي أن الشخصية غدا يسترجعها وكأنها تنضوي عبر علاقة إيهامية ما، كحادثة موت الدكتور واصف وذلك الدفتر المحمل بأشكال رمزية من لغات سومرية مطلسمة..إلى جانب كل هذا وذاك نلاحظ بأن نقطة حياة الشخصية علي ناجي بدا عليها التغير والتحول بين مواجيد العوالم الإيهامية، بفرض أن حالة الغيبوبة هي من أدخلته في توليدات تلك الأزمنة التي أحجم فيها اللاوعي الباطن لدى الشخصية ليعايش أحداثا هي خارج موضوعة العلاقات المنصوصة في أهداف الرواية، لذا وجدنا علي ناجي أصبح حالة متزامنة بين غيبوبة الاطلاقة النارية، وبين العودة إلى حياته الجديدة التي تجسدها الأزمنة التعويذية في ذلك الدفتر الذي تسلمه من الدكتور واصف، والذي أطلع على بعض تعويذاته ذلك الممرض العجوز محمد سدخان، وها قد أرتحل بالفعل عبر بوابة عوالم الطباشير..تلك الحياة الثانية، في حين كان علي ناجي يغط في تداعيات اللاوعي ومجمل تفاصيل كانت أغلبها ترجيعات من العقل الباطن.

2ـ آليات الحياة الأخرى:

إن أغلب وظائف ودلالات الفصول الصاعدة من الرواية، كان يعتمدها سعداوي في الكشف عن المصادفة التي سمحت بعدم موت علي ناجي، بعد ما كانت إصابته بذلك الطلق الناري مجرد إصابة سطحية غير مؤثرة: (لكن صدمة الإطلاقة النارية وحرارتها هو ما تسبب في إغماءته لأسبوعين./ ص104 الرواية) ومن هذا القبيل أصبحت مؤولات الحادثة تقع في نقطة مخاوف شقيقه عمار، ما جعله يسارع في نقل شقيقه الأكبر إلى موضع غرفته في المنزل العائلي القديم.وفي ظل هذه الأجواء الجديدة من عيش علي ناجي في غرفته غدا خاضعا إلى قيود سلوكيات شقيقه التي تمتاز بالورع والتقيد بهالة من اللوازم التدينية لشقيقه عمار.وعلى هذا الحال بقي علي ناجي دون خيارات ممارسة حياته مع معاقرة الخمر، لأن ذلك هو من التابوات لدى شقيقه عمار والذي كان يسعى إلى خلق تراتيبية جديدة في حياة الشقيق الأكبر، بالمزامنة مع الكوابيس والأحلام التي راودت علي ناجي في عوالم غيبوبته: (عبورا إلى عوالم، وأحاديث عن تأهيل القصر الجمهوري ، لإعادة تشكيل الحكومة ./ص106 الرواية)هكذا تتضح للقاري حالات الشخصية علي ناجي وهو يسترجع بقايا ذاكرة متعلقة بأحداث عقدوية غابرة تحكمها انثيالات أزمنة مترسبة في اللاوعي الشخوص لديه، كذلك ما حاول استذكاره أيضا من خلال عمله الإذاعي وما كان يبثه من تعاويذ وطلاسم، كان قد عثر عليها في ذلك الدفتر الأسود الذي تسلمه من الدكتور واصف: (خلال هذه السنوات كلها، لم يفكر كثيرا بمصير صديقه العجوز السابق، لقد مات على ما يبدو./ص109 الرواية)ومن الجدير بالذكر ما يكشفه لنا السارد العليم، بأن الشخصية العجوز لم يتوفاه الأجل، بل إنه فقد سلامته النفسية والعقلية: (كانت الحالة الصحية للدكتور واصف سيئة، مع سبعة أمراض صار يتغنى بها./ص110 الرواية) ويكشف لنا السارد عن سيرة حياة العجوز (ص112 ـ ص113 ـ ص114 ـ ص115 ـ ص116 ـ ص117 ./الرواية) مع شقيقه رافد عبر أحداث ومواقف انتهت بالعجوز إلى الاستقرار في بيت العائلة القديم فيما يظل يكرس ذاته بالعناية بأجواء عزلته المتوحدة مع براعم الحديقة وكيفية وصوله إلى علي ناجي الذي كان قد سمع صوتا في الإذاعة الكردية الناطقة بالعربية يشابه صوته: (هل يكون هو نفسه علي ناجي ؟ ./ص117 الرواية) .

3 ـ حكاية الموظف المتخفي ونقوش الجرة السومرية:

إن القيمة السردية التي تظهرها أحداث رواية (باب الطباشير)تتلخص في كون الروائي، لا يقدم أفعال سرده بروح عفوية دون خلفية مدروسة إلى ما يقوم بإنشاءه من مصادقات ومواقف مختلفة في محاور السرد.فهو وبطريقة مؤولة صار يجسد خيوط الربط بالصور والمواقف والأفعال التي تخدم تمثيلات أنساقه الدلالية.لذا فإن سقوط علي ناجي في حادث إصابته بالعيار الناري، وزمن وقوعه في الغيبوبة ما هي إلا أدلة ممنتجة تدعم ديمومة عرض التفاصيل لكل شخصية في مسار فعلها ودورها في الرواية.وهذه الأفعال الناتجة من هذه الشخصية كالدكتور واصف مثالا لها العلاقة المتممة لأوضاع العامل الشخوصي المتمثل بعلي ناجي، أي أن عمليات الارتداد والإعادة في المنتج السردي تصب إلى حدود أولية أو لنقل توسطية حدوثها من ذي قبل ، إذ لا يجسد هذا الأمر سوى حضورا خاصا بالشخصية ومحاورها المتنقلة، أما فيما يتعلق وروابطها التركيزية كحال سيرتها الحياتية كما حدث الأمر مع الدكتور واصف وشقيقه ، فلم تكن من إطار التحقيق التفصيلي في أوليات ظهور الشخصية.وعندما حان دور الرابط الذي يؤشر على تحقق زمن كيفية تبيان ظهور الدكتور واصف كشخصية اقترن ظهور خليفة سيرته مع كيفية وصول تلك الجرة السومرية إليه من خلال ذلك الموظف في المتحف.هنا أحاول أنا شخصيا ليس بالحديث عن حكاية الأحداث في الرواية ، بقدر ما أحاول تشخيص قدرة الروائي على ربط وترتيب وسبك مؤشرات أحداثه السردية في محاور زمنها الموضوعي المتقن، وذلك بربط كل سيرة لشخصية مع نمو علاقاتها بالخطاب الزمني والأحوالي من دلالات التداخل بين (السابق ـ اللاحق)وعلى صعيد هذا البناء نتعرف على كيفية عثور الشخصية واصف من خلال باطن تلك الجرة على تلك التعاويذ التي قام بنقلها إلى ذلك الدفتر الأسود الغلاف، والذي أصبح أخيرا يذاع بواسطة علي ناجي على شبكة الأثير.

ـ العوالم الطبشورية وإزاحة الأبواب المطلسمة:

علاوة على ما أطلعنا عليه في مباحث دراستنا أعلاه، حيث وجدنا جملة مختلفة من صيغة الأحداث والأفعال والحركة الشخوصية، لذا لاحظنا جميعها تتركز على حياة المحاور الأكثر توغلا في صيغة التضمين للأبعاد الإيهامية من الأحداث المعاشة عبر الصيغة الزمنية والسردية.

1 ـ مقتضيات المفتاح التعويذي:

لعلنا عبر هذه المخصوصيات من أنساق العنوانات المبحثية الفرعية، نسعى إلى مقاربة الفضاء المحدد ـ تجسيدا وتحليلا وتمثيلا ـ ولا غاية من خطابنا النقدي هنا، دون الإيغال في التفكير والمراجعة والتقويم، حتى وإن كان مقصدنا هنا بدا أكثر تسجيلا وحدود آليات الموصوف السردي.أقول أن من أهم مميزات رواية (باب الطباشير) صيغة الحكي فيها على صعيد بنائي واسلوبي ودلالي، ما يدعونا إلى مقاربة الأثر النصي من ناحية المكونين (الحكائي ـ السردي ) وعلى هذا الأساس واجهنا جملة من الاحتمالات في وظائف الزمن (التوافقي ـ المغاير ـ المتعالق ـ الظاهراتي ـ التجاوزي ـ المزامن) وهذه الوظائف في الأبعاد المنظورة في وظيفة الزمن تنساب كشبكة محددات من الوحدات السردية، التي خلقت لنفسها سمات نوعية في النقلة المركزية من مرحلة إلى أخرى من السرد في الرواية.ففي دلالة الجرة السومرية وأحوال النقوش الطلسمية في باطن الجرة، ثمة تعازيم تقود قارئها إلى عوالم محتملة من الزمن الارتدادي والاستباقي، وإلى ذلك النوع من الزمن المعطل: (لم يحدث الكثير منذ أن أخبره الصوت الضاحك عبر الهاتف أن حياته قد تغيرت.لقد أنتقل عبر الباب الطباشيري من عالمه الأول إلى آخر جديد ومختلف - يحدث هذا الأمر تحديدا خلال النوم..بعد أن تكون قد قرأت التعويذات السومرية ./ص129 الرواية) ولكن ما أخبرنا به السارد في سياق الرواية، بأن علي ناجي هو ممن قرأ تلك التعاويذ في البرنامج عدة مرات، ولكن من سوء حظ علي ناجي إنه أصيب في رأسه في غضون زمن تلك القراءات التعويذية، فلم تباشره أية متغيرات ما في شوارع حياته المنصرمة من بعد حادثة الغيبوبة، وهنا يحق لنا أن نتساءل رويدا:هل ما حدث لعلي ناجي من تداعيات حلمية أثناء غيبوبته هي المراد بها من حالات الكشف إلى العوالم اللاسترجاعية أو اللامرئية مثلا؟أم أن سعداوي أراد من وراء هذه التداعيات بالزمن المخاتل سردا إظهار المادة المحكية ارتباطا بمساعي التقطع والتعالق الذاتي والموضوعي؟.لاحظنا في أكثر من رواية لأحمد سعداوي نفسه، حيث ترجح في آلياتها السردية ذلك المتقن من عملية (سرد المخاتلة) فالمادة الحكائية وتباعا لمكوناتها من شخوص وزمن ومكان وخطيات حقيقة أو متخيلة، منقادة إلى ذلك اللازمن الخطي في سير الأحداث، فيما نجد الفضاء وأحواله خاضعا لتراتيبية انقطاعية ـ مخاتلة، أي أن حكاية السرد تبقى في دائرة الانقطاع الخطي.وفي مثل هذا النوع من السياقات في روايات سعداوي ، واجهتنا تحديدا رواية (باب الطباشير) ومسار أفعال شخوصها المتحركة ضمن زمن (المخاتلة السردية) والتجاوز بالأحداث نحو نقاط ومواقع استباقية واسترجاعية، حيث يتبين بالأخير منها تفاصيل أثار حكايات مفصلة تتفرع وتبزغ من انفلات تقدمات تداخل النسيج السردي وتفكيكه إلى عدة وحدات من التشعب في سرديات النص.

1 ـ الترهين التبئيري في مداليل رؤية الحدث الروائي:

إذا تأملنا سير عملية الخطاب السردي في بعض فصول رواية (باب الطباشير) لتوصلنا إلى حقيقة تنظيرية مفادها أن الخطاب السردي في النص يحتوي على صيغة تقنية تشمل انطلاقة الموضوعة الروائية بكافة مستوياتها ومحتوياتها من نقطة تموقع السارد في الجهات الشخوصية ، التي يمكن الإحاطة فيها بصورة زمنية استجابية ومؤثرة.فالراوي يمكنه أن يحكي الأحداث بعد وقوعها بصيغة الآخر الشخوصي ومستحدثات موقعه من السرد، سواء كان حاضرا أو مرصودا من أفعال ما قبلية، كما الحال في هذه المسافة من تموقع الشخصية علي ناجي: (الشيء الذي فاجأ علي أكثر أن وجه الضابط المرتبك ذي الشارب السميك كان مألوفا..أنه صديقه القديم عبد العظيم حامد..يبدو أكبر بهيئة متعبة وجسد ممتلىء، ولكنه هو ./ص134 الرواية) فالراوي هنا هو أداة يتم من خلالها إدراك (الموقع ـ الجهة ـ المسافة) فيما تبدو شخصية علي ناجي بمثابة الموقع الزمني بين زمن الاستعادة وفعل المشاهدة.ذلك أيضا ما حدث مع علي ناجي وهو يتعامل مع المتغيرات في أحوال الشخصية واصف: (قال الدكتور واصف: أنت في الحياة السابقة دخلت في غيبوبة، ولم تنم.التعويذات السبع، تفتح لك بابا داخل الحلم تدخل منه لتنتقل إلى عالم آخر./ص140 الرواية) وبهذا المعنى الفنتازي فإن أغلب أحداث حياة رؤية السرد مبنية على حوادث (مخاتلة ـ إيهام) وحتى باقي مجريات الوقائع يحددها الفاعل الذاتي كفاعلية حلمية يشكلها برؤياه الذاتية وعبر زوايا نظر مستحدثة في أفعال الشخوص والزمن والمكان ومنظور تفاصيل تجربة روائية (داخلية ـ خارجية) تتناقلها تحولات الاختلاف والتجريب والحلمية والإيهام والمخاتلة في رؤى الفضاء الروائي.

ـ تعليق القراءة:

يمارس الروائي والشاعر أحمد سعداوي في أوجه تجربة رواية ( باب الطباشير) أدوات تحاكي طبيعة النصوص الميتاحداثوية وعلاقاتها المشروطة في حدود بنيات مقصدية ذات دلالات ومداليل تظهر لنا القيمة الروائية، كتجربة تفاصيل فاصلة وواصلة في مجمل تمثيلاتها الإشارية والإيحائية والوصفية والإخبارية.وعلى هذا النحو بدت لنا تمظهرات الأفعال الشخوصية في متن النص، وكأنها توقعات في اللامتوقع، كما وتبدو الموضوعة من جهة ما صنيعة مخيلة ترتكز في الملازمة مع الأحداث في صورتها الواقعية أو اللاواقعية عندما يسعى مؤلفها في جعل الذوات كإيهامات متحركة داخل بنية نسيج سردي مخاتل في الوظيفة ومؤشرات الزمنية المحفوفة بصيغة الميتاروائية.يمكننا القول إجمالا أن مستويات رواية (باب الطباشير) عبارة عن شواغل ذلك الراوي الذي يلتزم بالمنظور الشخوصي النفسي عبر مسافة فاصلة وواصلة بالوقفة والوصف والديمومة بالمكونات التقانية التي توفر جملة من العلاقات الزمنية والأحوالية إلى جانب ذلك الانطباع بأن الخطاب الروائي يختص بالعلامات المخاتلة في الرؤية والأحداث والأفعال في تمثيلات السرد الروائي: (لدينا ما يكفي من الهم بعالمنا الواقعي، كي يشغلنا عن مصائر أخرى، يمكن أن نعيشها في حيوات غيرها، ولدينا من الأوهام المتشابكة مع الحقائق، ما يكفي لشغلنا لوقت طويل بمهمة فك غزلها المتداخل./ص213 الرواية) من هنا وهناك ..ومن رواية إلى أخرى تتمثل أمامنا عوالم روايات سعداوي عبر سيروراتها بزمام (التخييل ـ زمن العوالم الأخرى ـ الحلم بالمقابل المختلف) فمثل هكذا سرود روائية تم توظيفها بصور من قابلية (المخاتلة السردية) تتكفل بإنشاء تلك العوالم الانزياحية في موضوعة الاشتغال والاستجلاء والبلوغ القرائي نحو ذلك المراد المغاير في الرؤية والسياق والمعنى المخاتل في المقروء المفترض بالامتداد والانتهاء والمفتوح والمغلق في أوجه خواصية التجريب الممتدة عبر أفضية النوع الروائي المختبر .

***

حيدر عبد الرضا

في ديوان "الحديقة التي رَسمت" للشاعر محمد الجباري

يرسم الشاعر المغربي محمد الجباري، في ديوانه "الحديقة التي رسمت"1، عالمين متجاورين متصارعين يَصِحّ أن نسميَ أولها عالمَ النفس الشاعرة الحالمة (أو العيش داخل الحديقة)، وأن نسمي ثانيهما عالم البشر والحجر (أو خارج الحديقة)، وبين العالمين تذهب رؤى الشاعر وتجيء باحثة عن سبيل للحفاظ على العالم الأول حيا طريا وحمايته من أن تزحف عليه كائناتٌ من خارجه فتُحيله هباءً وخواء.

1- داخل الحديقة:

في إيجاز وتكثيف يرسم الشاعر عالما من كلمات تطرزها أحلام، وذكريات، ورؤى محلقة في سماء الحق والخير والجمال. يؤسس حديقة تشتهيها كل نفس ترنو إلى سماء لا يكدر صفوَها شيء، ولا تَشينُها لطخة حزن:

في الحديقة التي رسمتُ

كلُّ العشب كان أخضر

السماء زرقاء

صافية حتى من غَيمةٍ بيضاء

لا يُسمع فيها سوى خرير مِياهٍ

تنحتُ الحجرَ أشكالاً

تَليقُ بالـمَعنى..

كان الوردُ بكل ألوانه الممكنة

الطيورُ جوقةُ عازفينَ

والفراشاتُ

راقصاتُ باليه

يُلقينَ بمَناديل الحزنِ

خارجَ الصَّحو

(الحديقة التي رسمت، ص09- 10).

خُضرةُ عُشبٍ، وزرقةُ سماء، وخريرُ مياه، ووردٌ بألوان شتى، وطيورٌ عازفة، وفراشاتٌ راقصة...عالمٌ من جمال لا سبيل إليه إلا بالسفر في أعماق النفس التي لم تُحِلْها مدنُ الإسمنت جُثةً تسير إلى قبرها لاهية ساهية. هكذا يصوغ الشاعر عالمه الأثير، فيسمع ما لا يسمعه الكثيرون، أو يسمع في قوة ما يَصِلُ أسماعَ الغير خافتاً مهموسا:

هذا الخريرُ

أرهَقهُ الحَجرُ

في رحلةِ النَّهرِ

حتى لا يكادُ

يُسمعُ له صوتٌ

لكنَّ صَخَبَهُ

يغمُر شَرايينَ الذّاكرةِ

كأنه معزوفةٌ

تُرصِّعُ

جَبينَ السِّنين الجَريحة

 (خرير، ص32).

في الذاكرة المزهرة والنفسِ الشاعرة يُسمَع واضحا ما أرهقَ الحَجَرُ مسيره، وأحالَ صوتَه خفيضا..فيها يُسمعُ خريرُ النهر، هديرُ الموج، تغريدُ البلبل، زقزقة العصفور...معزوفة تضمد جراح السنين، وتُغرق النفسَ الظمأى للفرح في نهر من الطمأنينة المشتهاة.4870 محمد الجباري

2- خارج الحديقة:

لكن الشاعر كائنٌ من لحم ودم، يأكلُ الطعامَ ويمشي في الأسواق، وهو مضطر إلى الخروج من حدائق الفرح، والنزول من سماء الصفو إلى أرض الأحزان.

في حركة الخروج هاته يكتوي الشاعر بنار حياةٍ فقَدَتْ معناها الإنساني، فيشكو خواءَ الأفعال من دلالاتها، ويبكي فراقَ الأسماء لمقاصدها، وينوءُ بما يتراءى أمامه من صور العذاب، فيقول في حسرة:

هذه رأسي

أمشي بها عاريةً

تحتَ مظلاتٍ مثقوبةٍ

رأسي التي لا تحتملُ

كلَّ هذا السَّيْلِ

منَ القُبلات المغشوشةِ

وزحفَ الأدخنةِ

وثرثرةَ الجَماجِم

(تحت مظلات مثقوبة، ص05).

هي رأسٌ/ ذاتٌ أصيلةٌ حالمة داخلَ واقع يَحْتلُّه الزَّيف.. ذاتٌ يُحزنها بُعْدُ الشُّقَّة بينها وبين سَيْلٍ من الذوات النقيضة كما يتضح من التقابلات الضدية التي يكشفها المضمَر في هذا المقطع الشعري:

هذه رأسي  وتلك رؤوس مغايرة

أمشي بها عارية خلافا لأكثر الرؤوس

رأسي التي لا تحتمل [الزيف] لى العكس من الرؤوس التي تحتمله..

ويبلغ التقابل الضدّي أوْجَه بالموازنة بين "الرأس"، في مطلع القصيدة، وبين "الجماجم" بعدها بأسطر، فـ"الرأس" حيةٌ، عاقلة، مفكرة، يَقِظة، صريحة، واضحة، عارية، أما "الجماجم" فميتة لا تنتج سوى ثرثرة لا طائل من ورائها.

على أن "الرأس" في النص تُشير، كذلك، إلى القلب الحي النقي، لذلك نراها تَضيق بـ"القبلات المغشوشة" وتنفر من"زحف الأدخنة"، وتَزوَرُّ عن "ثرثرة الجماجم" ازْوِرارا. إنها رأسٌ غارقة في بحر من المعاناة والألم؛ وذلك لأنها تواجه فريدةً وحيدةً سَيْلاً من مظاهر الحياة الزائفة.

ولأن الزيف شقيقُ التفاهة فإنه يسعى لأن يتسلل رويدا رويدا إلى حديقة الشاعر/ الإنسان، ليَعيثَ  في أحلامه وصفائه ورؤاه، فلا يملك الشاعر - وهو الذي لا سلاح له إلا الكلمات - سوى أن يقول مستفهما:

في الحديقة التي لم أرسم لها بابا

كلُّ المنافذ الـمُحْتمَلة كانت مُغلقَةً

لم يَكن في الأمر سوءُ تقدير

أو شططٌ في استعمال الفُرشاة

فمِنْ أين تسَلّل الذُّبول إلى وُرَيْقات العُشب

وانتصبتِ الحُفَرُ بعِنايةٍ

في الممَرّات؟

(الحديقة التي رسمت، ص11).

إنه استفهامُ حيرةٍ واتّهام، فـ"الحُفَر انتصبتْ في الممرات بعنايةٍ" وتخطيطٍ لإفساد الحديقة الفاتنة، ولم تنشأ بفعل عوادي الزمن!

ومع حزن الشاعر لما أصاب حديقته، فإنه لا ينكفئ على نفسه، وأنّى له أن ينكفئ وهو يحمل هموم الإنسان، ويستشرف عالما يسعد فيه الجميع؟ من أجل ذلك رأيناه يُحذّر، ويُنذر، ويشكو افتقاد الأماكن للحميمية، والنقاء، وخفقات الأفئدة، ورعشات النفوس، فيقول في لغة قريبة من مدارك الكثيرين:

ليس ثَمَّةَ أكثرُ عَبَثا

من أن تستيقظي الآن

فليس الصباحُ على ما يُرام

ولا الأمكنة الحَميمةُ

نَفضتِ الغُبارَ

حتى مَواعيدُ المساءِ

بلا رَعَشات

(ليس الصباح على ما يرام، ص08).

ليس الصباح على ما يرام مع أنه زمن الإشراق والضياء، فامكثي بعيدا عن هذا الخراب، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، أيتها النفس المنجذبة إلى النور.

3- ملاذ النفس الحالمة:

كيف السبيل إذاً إلى إنقاذ النفس من هذا الخراب المحيط بها من كل ناحية؟

ما أحوجنا إلى أن نتأمل فلسفة الأطفال وهم ينسجون عالما من الفرح والسعادة في بساطة آسرة:

الطفلُ

في باحة الدار

لا يحتاج لأكثر

من خيوط الشمس

يغزل منها

قبعة الأحلام..

ولا لأكثر من سُحبٍ عابرةٍ

يعصر منها

عطرَ الأسرار 

(طفل الباحة، ص21).

من وحي الاستغناء يُفجّر الطفل أنهار الانتشاء، مكتفيا  بخيوط الشمس والسحب العابرة "في باحة الدار" حيث لا سَقفَ يحول بينه وبين مناجاة السماء وتَنزُّل الضياء.

وإلى جانب "صوفية الطفولة" يسلك الشاعر شِعْبا مفضيا إلى عالم الطبيعة حيث تلتقي النفس بأصلها التكويني (التراب) فتَذكُر فطرتها، وتستلذ هذا اللقاء الذي لا تجود به مدن الإسمنت والضوضاء:

رائحةُ التراب

عِطرٌ

لا هو مُتاحٌ

في مُدن الإسمنت

ولا في أروقة المَتاجر

عطرُ التراب

لَذةٌ

أثرٌ لا يمَّحي

(عطر التراب، ص62)

ولا ينسى صاحبُ الحديقة، وهو يقول حَيَّ على الطفولة والطبيعة، أن يُؤذّن في الإنسان أن انظر إلى نفسك، وتأملها، فثمة مواطن الجمال في دواخلها غطّتها "أهوال" الحياة المعاصرة التي تُدني المرءَ مما حَوْلَه، وتُبعده عن أعماقه ودواخله؛ إن النظر إلى الأعماق وصَقْلَها مدخل إلى النور. يقول الشاعر في مقطع من نصوص المجموعة:

" قد تغربُ الشمسُ

قبلَ موعدها

فمَن يُضيءُ الأرضَ

سوى النور الذي

في قلبك"

(يا أنت، ص 28)

نعم إذا استنار القلبُ أضاءَ الكونَ من نوره! فهل إلى استنارة القلوب من سبيل!؟

ذاك سؤال النفس الشاعرة التي تبحث عن خلاص للإنسان من ظلمة العيش الرتيب.

***

أبو الخير الناصري

.....................

سليكي أخوين، طنجة، ط01، 2020م. 

على الرغم من أنَّ الفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787) يُصنَّف، في أدبيَّات الثقافة العقديَّة، على أنَّه ملحِد، أو كان، على أقلِّ احتمال، شاكًّا غير متألِّهٍ، فإنَّ ما في قِصَّته "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "من تصوير الإيمانٍ بالقضاء والقَدَر، وبالقُوَّة الإلهيَّة الخارقة- التي تتحكَّم في مصائر البَشَر والأشياء، والتي كانت المِحْوَر الأساس للقِصَّة- يحمل إشاراتٍ تَشِيْ بحالٍ ذهنيَّةٍ مغايرةٍ لما عُرِف عن فِكْره واعتقاده.  وربما كان هذا بتأثُّرٍ بما اطَّلَع عليه من التراث الشرقي، ومنه قصص "ألف ليلة وليلة"، التي كثيرًا ما تتمركز حول هذا المِحْوَر.

ومثلما كان التشابه بين "ألف ليلة وليلة" وقِصَّة "صادق" في (فِكرة القَدَر)، كان التشابه بينهما في موضوعة (المرأة والعِشْق).  فقد كانت المرأة محرِّكًا للأحداث القصصيَّة في الليالي العربيَّة، وهي تلعب الدَّور نفسه في قِصَّة "صادق"؛ من حيث إنَّ النِّساء في النصَّين أكثر من الرِّجال، وأفعالهن أكبر شأنًا في الأحداث غالبًا، وهنَّ مِحورٌ يدور حوله الصِّراع، في أغلب الأحيان.  والنِّساء، في النصَّين معًا، منهنَّ المَلِكات والأميرات ومنهنَّ الإماء والجواري.

وكذا فإنَّ العِشق الذي تدور حوله معظم الليالي العَرَبيَّة، له المكانة نفسها في قِصَّة "صادق".  فالمرأة إمَّا عاشقة أو معشوقة.  والحُبُّ يأتي من أوَّل نظرة، كما حدث بين (صادق) والمَلِكة (أستارتيه)، فيما هو شبيهٌ بالعبارة كثيرة الترداد في الليالي العَرَبيَّة: "فنظرَ إليها نظرةً أعقبتْه ألف حسرة".  ليأتي، بعد شهقة الحُبِّ الأُولَى، الفِراقُ والأَلَم، الذي قد يتعدَّد ويتشعَّب، إلى أنْ يسنح اللِّقاءُ مرَّةً أخرى، مثلما في قِصَّة "قمر الزمان بن المَلِك شهرمان"، وغيرها من قصص الليالي. 

ومواقف الفِراق والرحيل متشاهبة هنا وهناك. مثل فِراق (صادق) أرضَ العَرَب إلى (سرنديب)، إذ جعل يقول في نفسه: ""وا حسرتاه!  أَيَجِب أنْ أُمعِن في السَّفَر حتى أجعل بين (أستارتيه) وبيني أبعد الآماد!  ولكن يجب أن أخدِم مَن أحسنوا إليَّ."  قال ذلك، ثمَّ بكَى، ثمَّ ارتحل." (1)

أضِف إلى ذاك تلك المبالغات المجنَّحة في وصف العواطف.  كقوله: "ومضَى هذا الهارب العظيم، حتى إذا بلغ تَلًّا مُشْرِفًا على (بابل)، التفتَ إلى قَصر المَلِكَة، ثمَّ أُغمِيَ عليه، ولم يُفِق من إغمائه إلَّا ليسفح الدمع ويَتَمنَّى الموت... ثمَّ صاح قائلًا: "ما حياة الناس إذن؟..."."(2)  فهذه الإغماءات ليست بفرنسيَّة خالصة، بل هي عربيَّةٌ مألوفةٌ في قصص الليالي العَرَبيَّة، كأنْ تقرأ في (الليلة 326): "لمَّا سمِعَ شِعر الجارية، صرخَ صرخةً عظيمة، وشَقَّ ما عليه من الثياب، وخَرَّ مغشيًّا عليه...".(3)  ومثلها في "صادق" قوله: "فلمَّا نُمِيَ إليه هذا الخبر، خَرَّ مغشيًّا عليه، وانتهى به الألم إلى حافَّة القبر..."(4)، في وصفٍ لما انتابه من وقْع الخبر عن زواج (أوركان) بـ(سمير).  ومثل هذا كثير.

ومن هذا القبيل المبالغةُ في وصف جمال المرأة، كأن يقول: "ولم يرَ الناس قَطُّ قَلبًا أشدَّ تأثُّرًا من قَلب (سمير)، ولا رأى الناس قَطُّ فـمًا أشدَّ سِحرًا، يُعْرِب عن شعورٍ ساحرٍ، بألفاظٍ من نارٍ، يُمليها الاعتراف بالجميل."(5)

ومن أوجه الشَّبَه بين "صادق" و"ألف ليلة وليلة"، في وصف المرأة، ذلك الوصف الحِسِّي وتشبيهاته الذي كتبه (فولتير) عن الشابَّة العَرَبيَّة (المُنَى)، مجسِّدًا جمالها أمام الكاهن الشيخ.(6) هذا إلى جانب اتِّخاذ الإغراء الجِنسي سلاحًا في بعض المواقف لمواجهة الأعداء، كما في احتيال (المُنَى) على رئيس الكهنة وأتْباعه، من أجل عفوهم عن (صادق).  وهو ما تنبثُّ نظائره في "ألف ليلة وليلة". 

وفي مقال الأسبوع المقبل نتتبَّع محاور أخرى تتوازى بين قِصَّة (فولتير) و"ألف ليلة وليلة"، بالإضافة إلى علاقتها بقِصَّة "السندباد البحري".

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

....................

(1)  فولتير، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 81. 

(2)  م.ن، 55- 56.

(3)  (1981)، ألف ليلة وليلة، (بيروت: دار التوفيق)، 4: 619.

(4)  فولتير، 18.  وكذا يُقارَن ما فيه، 103- 104، بـ"ألف ليلة وليلة"، 4: 598.

(5)  فولتير، 17.

(6)  يُنظَر: م.ن، 78- 79. 

 

قراءة في القصة القصيرة تحت عنوان "النورس" للكاتب سعيد عثمان

قصة رائعة باستثنائيتها الإبداعية. العنوان أثار وجود كائن فارض نفسه على حياة الشواطئ. إنه النورس. في كلمة واحدة عنون الكاتب نصه بدون أن يفضح رسالته، باعثا لنا معان ودلالات جذابة، ومثيرا في نفس الآن انتباه القارئ داعيا إياه للاستعداد بما يكفي من اليقظة للتأمل في الكلمات المتبقية. النص له عقدة متسلطة عامة ومحورية ومعاشة اتخذت شكل معادلة في الرياضيات يصعب حلها. تقابل متعة الروح مع تطورات الواقع المتعبة شد القارئ من البداية وبقوة. تفرعت هذه العقدة بأبعادها في باقي فقرات النص واتخذت أشكالا متنوعة ولدت كل واحدة منها نفس السؤال المحير: "هل ساعات أيامنا تستحق اسم حياة؟".

مفهوم الحياة في القصة يستأسد على ذوات مجتمعاتنا، فيمقت تراكم أحداثها. حتى الكتابة والإبداع الأدبي والإعلامي اعتبرهما الكاتب تكرارا قد يكون أقل جودة من انتاجات الماضي. العودة التأملية أمام المرآة المهترئة التي طالها الصدأ، تُذَكِّر البطل بتكرار التفاهة القاتلة للمتعة وتضعه بين براثن الروتين المضني. عاد أماما ثم عاد وتشبث بتكرار العودة محملقا سطحها إلى أن خاطبته التجاعيد وتسلط المشيب بفقدان معنى الحياة. مصمصةُ الشفاه والتهكم بهز الكتف ودوران الرأس كتعبير عن انفعاله على واقع مرفوض لم يهدئ من روعه: "لا شيء اليوم بجديد .. لا شيء كل يوم بجديد!  ومثل كل يوم قبل الغروب، ومع شح الوحدة والاغتراب وغياب الجليس والأنيس".

حتى الهروب إلى الأدب والإبداع الفني أصبح لا فائدة من ورائه ما دام الواقع يجسد لوحات الدراما والأحزان الإنسانية الجارحة للقلوب الوائدة للإرادات:"أعرف كم يُرهقني صوت الزحام ونباح الكلاب وتسارع الجموع نحو الفراغ".

الحياة بجوار الشواطئ قد تخلق الفجوات التي تساعد على استعادة الأمل، لكن للأسف الشديد تستبد أحداث ساعات الواقع فيكون مصير التجديد الضعف والهوان: "تعلو أصوات ارتطام الأمواج المتزايدة بالصخرة القريبة، أهب فزعا وانتفض مثل فارس عجوز يشحذ سيفا ثلم نصله واهترأ غمده؛ اشتد جذعي وانتصب....". يمكن لحياة الشاطئ بكائناتها الحيوانية أن تساعد القلم على نقر الكلمات...: "تستكين الجوانح؛ يشرد الذهن ويتحرر الخيال...".

البطل يتشبث بانبعاث الأمل في خلق سعادة لحظات حياته ...لا تكاد تمر لحظة واحدة دون أن تداعب فكرة ما خياله أو يتبلور في وجدانه عنوان مقال جديد أو مشروع رواية لم تخطر ببال بشر، أو نبتة قصة تطل بأنفاسها بين الظلال .. تتداخل حياته مع حياة النوارس الطليقة، فيحلق بمخيلته عاليا حول الشراع والسفين، فيحلم بالنهر والبيت والسماء والمطر، ويتأمل خضرة الحقول ودخان المصانع، ويرسم عرق الزّراع والصّناع .. وضحكات النساء والرضا المرسوم فوق وجوه الكادحين ..". يصطدم بالوجوه البائسة المعتدى على كينونتها، فيهاجمه الأسى من جديد... لا يرى شيء .. لا شيء، سوى الرمال الشاحبة وهدير الأمواج في انتظار اكتمال تسلل الظلام.

في نهاية المطاف يجد السارد نفسه يدور في فراغ حلقاته المتشابكة، يجتر ذكريات جيل التعاسة، جيل هزمه واقعه. مرت سبعون خريفا وسبعون شتاء، ليجد نفسه وسط الغيوم ينظر في صفحاته الفارغة......

إنها حياة لا تتجبر لتحافظ على دفئها. انتفاضة على الذوات بهالة العظماء لا يقابلها إلا نفسية العاجزين. هي درس حياة للبحث عن سعادة ومتعة اللحظات في مجتمعات الجنوب. فلنقل لأرائكنا ومناضدنا التي ملت من وجودنا ولم تعد تتحمل خمولنا واستكانتنا: "اطمئني... سنكسر المرايا المهترئة المخيفة....."

***

الحسين بوخرطة

.............................

النورس / سعيد عثمان

 ليست المرة الأولى التي ألاحظ فيها كم سحقتها السنين وطالها الصدأ، تلك المرآة الضبابية القديمة التي تتململ على سطحها ملامحي، وأنا أتأمل غزو التجاعيد وتسلط المشيب .. عقود مضت وأنا أمصمص الشفاه في دهشة كل مرة، أهزّ الكتف ثم أدير الرأس وأهمس ساخرا وأنا أبتعد: - لا شيء اليوم بجديد .. لا شيء كل يوم بجديد! ومثل كل يوم قبل الغروب، ومع شح الوحدة والاغتراب وغياب الجليس والأنيس؛ أصطحب قلمي ووريقاتي وأزحف متهالكا نحو ركني المعتاد في شرفة منزلي، وأمام بريق اللون الأرجواني على صفحة المياه وخفقات جناحات النوارس حول السفن الرابضة؛ أسند الرأس، ألتقط الأنفاس للحظات، وبنصف وعي أنتظر المغيب وفرار أخر شعاع منهزم  أعرف كم يُرهقني صوت الزحام ونباح الكلاب وتسارع الجموع نحو الفراغ، وأعرف أيضا كم أتململ ضجرا للحظات؛ لكن من بعد طول اعتياد، سرعان ما يتسلل الانفصا. أغمض العينين قليلا، أغيب عن المكان .. تشتد صرخات النوارس تقتسم فتات الغنيمة الأخيرة لهذا النهار، وتعلو أصوات ارتطام الأمواج المتزايدة بالصخرة القريبة، أهب فزعا وانتفض مثل فارس عجوز يشحذ سيفا ثلم نصله و اهترأ غمده؛ اشتد جذعي وانتصب، أخذت أصفُّ كومة الأوراق بهمة مفتعلة، أتحوْصَل حول نفسي، وأتظاهر بتواتر الإلهام وأنا أنقر بالقلم في رتابة فوق حرف طاولة البامبو العتيقة. حين تستكين الجوانح؛ يشرد الذهن ويتحرر الخيال، كعادتي في مقعدي الأثير، لا تكاد تمر لحظة واحدة دون أن تداعب فكرة ما خيالي، عنوان مقال جديد .. مشروع رواية لم تخطر ببال بشر .. نبتة قصة تطل بأنفاسها بين الظلال .. وعقب الرشفة الأخيرة ها أنذا أدع فنجان قهوتي جانبا وأغوص من جديد في مقعدي، أنحني قليلا، أمسك بالورقة والقلم. للحظات وجدتني أغفو قليلا وأختفي عن الوجود، مثل نورس طليق أحلق عاليا حول الشراع والسفين، أحلم بالنهر والبيت والسماء والمطر، أتأمل خضرة الحقول ودخان المصانع، أرسم عرق الزّراع والصّناع .. وضحكات النساء والرضا المرسوم فوق وجوه الكادحين .. أتأمل هرولة التلاميذ بحقائبهم الثقيلة، وأسمع كلمات غزل لشاب اشتم نسمات أريج يشِعّ خلف ابتسامة فتاة  مثل كل مرة، لا أعلم تحديدا كم استغرقني الأمر، لكنني فجأة شعرت بالبرد يتغلغل في جسدي، ودبيب التنميل يقتحم أطرافي. انتفضت .. نفضت ذلك الخدر الذي اجتاح رأسي .. نظرت أمامي ومن حولي.. لا شيء .. لا شيء، سوى الرمال الشاحبة وهدير الأمواج في انتظار اكتمال تسلل الظلام. تغوص الشمس أكثر وأكثر في الأفق، تشهق روحي وأنا أراها تحتضر، أحدق في تسلل الظلام في الفراغ .. لفحتني هبة ريح باردة، أنكمش، ينتابني اليأس، أفقد الأمل، أنظر مرة أخرى في أوراقي المتساقطة، أكتشف أنني كنت طوال الوقت أحدق ساكنا في الفراغ، وأن أقلامي جافة وصفحاتي خاوية، وأكتشف - مثل كل مرة - أنني طوال الوقت لم أكن أفعل شيئا، سوى أنني - مثل كل مرة أيضا - كنت أدور وأدور في فراغ حلقاتي المتشابكة، أقتات خوفي، وأجتر ذكريات جيلنا التعس، جيل هزمه واقعه. سبعون خريفا انقضت، سبعون شتاء ولّت لياليهم وأدبرت، وها أنذا وسط الغيوم ما زلت أنظر في صفحاتي الفارغة.. أجلس في نفس المكان، أغوص في اللاشيء، أراقب هجيع كل نورس جريح، وشهقة كل سفين راحلة .. ومن بين ثنايا الذاكرة أستعيد رجيع بعض هتافات آمال غابرة، ألثغ يائسا بالدعاء لكل غريق طوته فورة كل موجة عاتية. مثل نورس عجوز فاتته وليمته؛ عدت أدراجي متثاقل الخطى، وجدتني أتوقف قبالة مرآتي القديمة، أصارع الضباب والغيوم والصدأ، أتصنع الابتسام، أحدق فيها، أخاطبها. هذه المرة خلتها تصرخ في أذني: 'أيها الأحمق الموتور، علامَ الشقاء والحزَن؟ أي خير يُرتجى من رسم حرف جديد ؟ كل الحكايات مروية، كل اِلروايات مسرودة، ما ظلت الآذان صماء مصمتة. على غير قناعة هدأت جوانحي، وضعت وريقاتي وأقلامي في مكانها المعتاد،وانتظرت.. مثل كل مرة، غروب شمس يوم جديد. .....

***

 

(للبيع حذاء لطفل، لم يلبس قط) يقال بأن هذه أول قصة قصيرة جدا وهي للكاتب الأمريكي أرنست هيمنجواي كتبت عام 1925 وقد عدها أعظم ما كتبه خلال تاريخه الإبداعي.وهناك من قال بأن القصة القصيرة جدا ولدت بشكلها الفني في مستهل القرن الرابع عشر عندما كتب جيوفاني بوكاشيو الديكاميرون وتعني عشرة أيام بالإيطالية. أما في الوطن العربي فقد كانت بداياتها منتصف القرن العشرين.

القصة القصيرة جدا هي لون من ألوان الأدب الحديث. وقد جاءت كنتاج للتغييرات التي أصابت العالم، وقد تعرضت لعمليات إجهاض كثيرة في بداية تكوينها.لكن ما يشاهده الراصد لهذا الفن سيجد بأن الساحة الفنية تشهد نموا مضطردا في مجالها.

تعتمد ال ق ق ج تقنيات تتميز بها عن غيرها من الفنون الأدبية وهي استلهام التراث (التناص)، الاقتصاد اللغوي، التكثيف والمفارقة. وقد ارتأيت دراسة تقنية المفارقة وذلك لأن مجموعة وخزات نازفة زاخرة بها.

والمفارقة تستخدم في ال ق ق ج كتقنية قصصية بهدف الابتعاد عن السرد، كما أنها تبعث الإثارة والحماس في نفس المتلقي. وتسهم في منح النص القوة والعمق وذلك عن طريق محاورة الأضداد بطريقة توحي بعدم الاتساق كي يدرك المتلقي حجم التناقض في الواقع المعيش.

والمتلقي لوخزات هاني أبو انعيم يلاحظ أنه حاول أن يسلط الضوء في العديد منها على تلك المتناقضات والمفارقات التي التقطها من الواقع والتي تحفل بها حياتنا كبشر.

ففي القصة الموسومة ب وظيفة (حاضر بالفضيلة، وغادر يلعب القمار). نلاحظ بأن القاص بنى قصته على المفارقة في السلوك لشخصية وجدت توازنها في القيام بالفعل ونقيضه دون أدنى شعور بالحرج. كما ويهيمن التقابل على مكونات القصة فالفضيلة التي حاضر بها مقابل لعب القمار الذي قام بفعله.

فهذا التناقض يصنع لدى المتلقي مفارقة عجيبة حينما تخالف أقوال الشخصية أفعالها، فهذه القصة تعكس واقعا ديدنه النفاق والكذب.

وفي القصة الموسومة ب تمرين (تبرعت بقرنية لزوجها، ظل يحدق بالممرضة) وفيها نجد الكاتب قد طرح نوع من أشكال المفارقات الخفية وهي التي تعتمد على الألفاظ الموحية غير المباشرة والتي تفتح باب التأويل. فبعد أن ضحت الزوجة بنصف بصرها وتبرعت له بقرنيتها كانت ردة فعله التحديق بالممرضة. وهنا تكمن المفارقة فبدلا من حفظ المعروف من طرف الزوج للزوجة قابله بالنكران. كما نجد نفس المفارقة في القصة الموسومة بتماد (حمله على كتفيه احتفاء، تمخط بقلنسوته).

وفي القصة الموسومة ب إيمان (حمله الجوع على زيارة بيوت أبنائه، وجد الجميع صياما) وهنا نجد القاص وقد نسب إلى الأبناء فعل الصيام وأراد أن يقول شيئا آخر وهو أن الأبناء لم يقدموا على تقديم الطعام لأبيهم الجائع.وفعل الصيام يقابله الإيمان وفعل الأبناء لم يكن من الإيمان وهنا تأتي المفارقة التي تم طرحها كقضية وجدانية عن طريق موقف قاس وهو موقف ألأبناء من أبيهم وقد سببت صدمة ودهشة للمتلقي.

كما نلحظ استخدام الكاتب للكوميديا السوداء وهي من أهم منتجات المفارقة في ال ق ق ج وقد تجلت في القصة الموسمة ب فرض كفاية (دعاهم إلى الجهاد، وأوصى سائقه بإيصالهم) وتبدو المفارقة هنا بذلك الشخص الذي ينصح ثم لا يطبق نصائحه على نفسه، فبطل القصة الذي يدعو الناس إلى الجهاد تخلى عنه وأوصى سائقه بإيصال المتطوعين منهم.

وفي القصة الموسومة ب قناع (سترت كامل عريها، وخلعت برقع الحياء) وتكمن هنا المفارقة السلوكية فالمرأة بالرغم من سترها لكامل جسدها إلا أنها تعرت أخلاقيا فكان لباسها قناع تخدع به المجتمع وتظهر عفافها بينما هي في الحقيقة غير طاهرة.

وفي القصة الموسومة ب ذاكرة (حملته في أحشائها مغتبطة، وافته في قصره تجهم) وهنا نجد المفارقة الوصفية قد برزت، فالأم التي حملت جنينها طيلة شهور الحمل وكانت مغتبطه بهذا الحمل وكان رحمها البيت الذي يحميه ويمده بالغذاء على حساب صحتها ثم سهرت وربت وحينما كبر وانفصل في بيته غضب حينما زارته، فهذه القصة تعكس حالة إنسانية واقعية تكثر في مجتمعاتنا وهي جحود الأبناء لفضل الآباء.

ونجد المفارقة الحركية وقد تجلت في هبوط(ارتقى على أكتاف الناس.وسقط من عيونهم) فالارتقاء هو ضد السقوط وهذه المفارقة كانت وظيفتها تعرية الأمراض المجتمعية التي تنمو وتتغول عند البعض فبعد أن منحوه مركزه أشاح عنهم ولم بنظر إلى مشاكلهم فسقط من عيونهم.

بقي أن نقول بأن هاني أبو انعيم قد استخدم في وخزات نازفة أساليب بلاغية وأسلوبية في كتابة مجموعته مثل التكثيف، التلميح، الإيجاز، التناص، السخرية والرمزية. كما أنه حاول انتقاء مفردات ذات رمزية وإيحاء لعناوين ومضاته القصصية. وقد نجح في سبر أغوار حالات إنسانية شتى بلغة ناقدة وساخرة

الكتاب: من إصدارات دار فلاور للنشر والطبع والتوزيع/2014

***

قراءة: بديعة النعيمي

 

دراسة في عوالم أقاصيص إدغار ألن بو.. الزمن القصصي بين المجرد التمثيلي والمحسوس الشواهدي

توطئة:

أن القارىء إلى تجربة أقاصيص الكاتب الأمريكي إدغار ألن بو، في بعض نماذجها، يعاين بأن هناك حالات خاصة من تمظهرات أوجه الأشياء المنصوصة في نسيج وفضاء النصوص القصصية، لعلها بدت منجهة أخرى كمفاهيم حسية ـ تصورية، من حدود زمن (تراكيبي ـ التصاقا بالمجرد) ولهذا النص أزمنة (إظهارية ـ معلنة) ولكن من المتعذر على قارئها الإهتداء إلى جملة متتاليات دلالاتها التمثيلية، إلا في صيغة معينة من احتمالات المعنى الآخر من تأويلات المعنى النصي المقابل أو المتوارى.فالزمن إذن مظهر تلفظي وملفوظي في حيز ممارسة خاصة من (النفسي ـ السيكولوجي ـ المحسوس الشاهد) فيما تبقى غايات زمن القص ممزوجة بذاتية الشخصية الحكائية التي بوصفها المجال الإجرائي من صوت السارد العليم عبر منظوره المبئر في الرؤية السردية.

ـ قصة: جزيرة الجنية .. فضاءات الوحدة كصوت سردي.

من خلال العلاقة القائمة بين (المبئر ـ المبأر) تتوزع ظرفيات المحور الشخوصي في حكاية اتخذت لذاتها من عنصر المكان ـ الطبيعة، الممارسة الكاملة في بث تفاصيل أكثر توصيفا من حال (السارد / الناظم الخارجي) وصولا إلى رؤية ووعي شخصية هائمة في أوج لغة اللحظة العفوية من (الأنا ـ العالم) وفي إطار صيغة الوصف في محمول خطاب النص، نكتشف بأن التفاعل الضمائري للمسرود راح ينحو بالحكاية إلى تصورات إيهامية تتصل عبر محاور ثلاثية القطب (الناظم ـ الخطاب القصصي ـ المرسل إليه بلا حدود) كما أن الناظم الخارجي العليم قام في إطار هذه الوحدات من القص، بخلق نوع من التماهي بين لغة الأحوال في الطبيعة إلى عمليتي التبئير والسرد في مفاصل زواية الرؤية في فضاء النص التخومي.

ـ قصة: القلب الذي كشف السر.. الفاعل الذاتي وهستيريا جوانية القلق.

في الكثير من الأحيان يقدم لنا ألن بو نصه القصصي ومحوره الناظم من خلال تعالي الصوت الضمني عبر الرؤية في دمجية علاقة ملحوظة ـ إذا استثنينا من ذلك صوت الناظم المركزي ـ بأعتبار أن دوره مقتصر على بناء (الأفضية ـ رصد الزمكانية ـ صوت المتكلم) مما يفسح المجال أمام مسرحة الأحداث الحوارية والأفعال الشخوصية في مهمة رؤى ذات حصيلة ثيماتية وتأملية بالتطلع إلى التمازج بين (السارد ـ المبئر) أي بين الذي يتكلم والذي يرى، وقد ينفصل الحال، فيقوم الناظم الضمائري بسرد الأحداث من منظور أحوال الفاعل الشخوصي.من خلال قصة (القلب الذي كشف السر) تواجهنا اضطرابات صوت الناظم الذي غدا بالنيابة معبرا عن حال الشخصية رغم وجودها التمثيلي في الحكي عاملا وذاتا.فالمستوى في رؤية هذا النص يتكرس عبر وصف المكان من خلال تبئير المتكلم إلى تبئير فضاء الحادثة السردية، أيضا تواجهنا حالة هستيرية من الفاعل المتكلم، وهو يسعى إلى فعل قتل ذلك الرجل العجوز صاحب العين الزرقاء، دون أدنى عرض لأبسط المداليل التي دفعته إلى قتل ذلك الرجل.وإذا راجعنا بداية النص، سوف تتبين لنا الرؤية الخاصة في محاورات هذا الفاعل المتكلم: (صحيح ! ـ إنني عصبي جدا، عصبي بشكل مرعب ـ كنت دائما، لكن لماذا تزعمون أنني مجنون؟لقد شحذ المرض حواسي ـ لكن لم يهدمها ـ لم يفل من حدتها ـ صارت حاسة سمعي أكثر إرهافا من حواسي الأخرى./ص118 النص القصصي) إننا هنا أمام فكرة توحي لنا بالاعتقاد الجازم بأن هذه الشخصية مصابة بلوثة نفسية متجلية تحققا في إدراك طابع من نوبات الوساوس القهرية.لذا فهو عبر وحدات النص، يظهر لنا بأنه يتسلل ليلا إلى غرفة ذلك العجوز صاحب العين الزرقاء إلى محاولة قتله، ولكنه كان في الوقت نفسه يخشى من رفع لهيب فتيل الفانوس حتى لا يقوم ذلك العجوز بمباغتته بين لحظة أو أخرى. وبعد أن تظهر لنا الأحداث بأن الشخصية قد قام فعلا بانتزاع حياة العجوز أخيرا، ودفن جسده تحت بلاطات خشبية من ذات غرفة المجنى عليه، تبقى هناك الوحدة التي لم يتمكن من القضاء عليها وهي نبضات قلب العجوز، بل صوت تلك النبضات قد تحولت إلى دوي مفجع داخل جدران الغرفة والأرضية وبعض الأشياء، فيما تبقى الصورة المفجعة الأكثر مفارقة في النص أن أحد جيران منزل العجوز قد تنبه ليلة مقتله إلى صدور صرخة ما أفزعته، ما دفعه الأمر إلى الاتصال بالشرطة، وهكذا يعطي وجود رجال الشرطة داخل منزل الرجل المقتول انطباعا للقاتل بأن هناك ثمة نبضات يسمعها هو وحده دون رجال الشرطة، وعند عملية استبداد حالة القلق والوساوس في قلبه ، راح يكشف للشرطة بأمر موضع النبضات الحية أسفل بلاطات الغرفة ذاتها للمجنى عليه.وعلى هذا النحو من النهاية المفارقة تنتهي أحداث القصة، وهي ترسم في أذهاننا المرتقبة ذلك الاحتقان الدلالي بأن إدغار ألن بو لم يسع في مكونات قصته إلى خلق المفارقة، بقدر ما أراد إظهار بأن فاعله القصصي كان يعاني من وساوس القلق القهري، وربما هو حتى لم يقم بقتل العجوز بل هي أوهامه القهرية التي دفعت به إلى صحبة كونه قاتلا للعجوز الذي لم يكن مقتولا موجودا إلا في مخيلة الفاعل الشخوصي.

- قصة: موريلا.. النموذج الشخوصي وتوليفة نبوءة الزوجة

1ـ روحانية الحلم المحتمل وانعقاد واقع الحلم:

إذا عاينا من جهة غاية في الأهمية أن زمن السارد هو زمن الحكاية، متحركين بوصفهما ـ عنصرا مركبا ـ يجعل من هوية الشخصية في النص مجرد ـ زمنا وسائطيا ـ تحققيا، ويمكننا الجزم بأن الصورة السردية في مجال القصة القصيرة، من الممكن أن تتمحور في أوجه ارتباطات العامل الشخوصي كآلية مؤدية، ولكنها تبقى في الوقت نفسه مع موجهات السارد العليم الميثاق الأولي والأخير في تحريك آليات النص إجمالا.توافينا موقعية السارد في ملامح وتقاسيم حكاية (موريلا) عن طريق موازاة زمنية بين أحداث وقعت وأحداثا سوف تعتمد اللحظة الأكثر اختبارا وهوية الأدلة السردية في دلالات موضوعة القصة.فهذا بدءا صوت السارد العليم الذي أتخذ من الشخصية في القص، كأداة واقعة لأحداث غير مألوفة وغير متوقعة الحدوث إطلاق: (كانت موريلا على ثقافة واسعة..لم تكن مواهبها عادية، وكانت طاقتها الروحية هائلة ..أدركت ذلك وأصبحت مريدها في مناسبات عديدة..وسرعان ما أتضح لي أن موريلا، لدراستها في بريسبورغ، كانت تعرض أمامي عددا كبيرا من هذه الكتب الروحية المعتبرة بشكل عام ـ ولئن أصبحت مع الزمن موضوع دراستي أنا أيضا، فذلك عائد إلى تأثير القدوة والعادة./ص123 النص القصصي) أن آلية التراتب المنصوص في حكاية النص، ينطلق كما هو واضح في الظاهر الأول من القص، تحديدا من نقطة الانطلاق الصفرية حيث حدوث بعض الأشياء المتعلقة بالقيل من التعريف الملامحي بالحكاية أو الظروف التي جعلت من شخصية موريلا تختار عقد الزواج بالسارد الشخوصي.ولا يهم لدينا أية بوادر تتعلق بفكرة الحب أو الزواج، ولكن يهمنا فهم مدى الحب أو المقابل بالحب عن حب الزوجة لزوجها، فهو في سياق المستهل أي ـ السارد الشخصية ـ أوضح لنا في هذه الجمل التي يرد لنا عرضها من قبل: (لم أكن أظهر أي تعلق بها ـ ولم أتحدث عن الحب) أي أن هناك حالة من الحب الأحادي أو من الطرف الواحد كما يقال دارجا:ولكن أن لم يكن هناك مشاعر حب كيف وصف موريلا بأنها أحدثت نارا في كيانه بادىء ذي بدء؟وما وجه المحفز من التركيز للسارد الشخصية حول تلك الكتب الروحانية التي انتقلت بالعدوى في حب قراءتها واقتناءها من قبل الشخصية؟ في حين أنه ذكر لنا بأنه لم يكن حبا جادا لموريلا؟. ولعل نظرة متقدمة في متتاليات القص والأحداث، نلاحظ السرعة التي تتحول بها موريلا إلى فتاة تجد لذاتها العزلة والوحدة: ( حينما كنت أغوص في الصفحات الملعونة وأشعر بالفكر الرجيم يتأجج في داخلي..كانت موريلا تأتي، وتضع يدها الباردة على يدي وتجمع من رماد فلسفة ميتة بضع كلمات غريبة مهيبة كانت تنحفر، بمعناها الغريب في ذاكرتي.إذاك، كنت أستلقي إلى جانبها طوال ساعات، حالما ، وأغيب في موسيقى صوتها./ص123 النص القصصي) لإسباغ صفة الزمانية استخدام السارد ـ الشخصية، هذه العبارة (في ذاكرتي:شعور الألفة ـ الذات الطفولية ـ / الذاكرة = الخيال = الذات المتنقلة عبر الزمن) كما وتتحدد لفظتي (أغيب = حالما) بما يماثل (الكارثة ـ البراءة) ومجموع هذه الوحدات في النص، لها مجالا ومفعولا ساحرا في التوهم أو اللاإمكان، لأن الواقع لا يغيب حتى ولو بلغ جميع المحتملات التخييلية فهو الواقع بالبقاء الكينوني، لا البقاء الهيرمينوطيقا.وعلى هذا النحو يمكننا معاينة دلالتي (أغيب / أحلم) ضمن واقعها النصي والشخوصي، على إنها دليل اللامباشرة من ناحية كون الشخصية قد غاب في غيبوبة إيحائية، ومن هذا الباب يمكننا تصور أن الشخصية صار يحلم ومنذ أول زمن تفاعله مع زوجته مع هذا المشروع الروحاني في كتب التنجيم.

2ـ غربال التأويل وممكنات آفاق الحلم النصي:

أن المسار التوليدي في قصة (جزيرة الجنية) هي ضمن مرحلة القص الحلمي، الذي راح منه الشخصية يعاين جمال الطبيعة ولغة الجداول وتساقط الأوراق عن الأشجار وانحسارات الضوء عن أخاديد الصخور السوداء، كأنها أشباح جنيات في مواقع سطوح الأنهر والشلالات: (تابعت، حالما: الدورة التي أكملتها الآن الجنية هي دورة سنة قصيرة من حياتها، لقد أجتازت شتاءها وصيفها، واقتربت سنة من الموت، ورأيت جيدا، وهي تدخل الظلام./ص117 قصة: جزيرة الجنية) ناهيك عن أن الأمر ينطبق أيضا على ملامح الحلم أو الدخول في اللاواقع عند مرور الشخصية إلى غرفة العجوز ذا العين الزرقاء في قصة (القلب الذي كشف السر): أتصور، أنني هناك أفتح الباب رويدا رويدا، وأنه لم يكن يحلم حتى بما أفعله./ص119 .الملاحظ أن الأمر في كلتا القصتين يعاود ذات الشفرة من الملفوظ الحبكوي، حيث بدت العلاقة ما بين الشخصية في قصة (جزيرة الجنية) وقصة (القلب الذي كشف السر) والقصة (موريلا) ذات العلاقة الترسيمية في إحالات الذات الحالمة، إذ تكون التقييدات الدلالية مقصورة في مستوى المعادل الوظائفي تحديدا، وليس هناك أية متغيرات في لعبة الحبكة وتحولاتها الاختبارية للقارىء.أن الأمر الذي بات واضحا من خلال الزوجة موريلا التي كانت تماثل علاقة روحية في ذات زوجها، ليس لكونها كزوجة حبيبة ، لا أبدا وإنما لكونها: (حتى يسري الرعب أخيرا في هذا الصوت، ويسقط الظل فوق روحي./ص 124 قصة: موريلا) لعل القارىء النبه أو اللبيب إذا جاز لنا القول، إذا تمعن في مجال إمكانية النمو السردي في حياة الشخصية الزوجة، لربما يجدها كعلاقة بين (الفاعل المنفذ ـ المغزى الحكائي) ولأجل الحصول على عملية التحول نعاين ما راح يشعر به الشخصية الزوج: (موريلا لم تكن سوى امرأة، وكانت تذوي يوما بعد يوم ـ هل أقول إنني كنت أتطلع بلهفة ضاربة إلى لحظة موت موريلا./ص124) لعل من المثير القول منا بأن أغلب عوالم أقاصيص ألن بو ما يتم توظيفها في حدود آفاق معالجة ذات أهداف تصب في اللامتوقع أو ما يصح تسميته (التفارق الذروي) فالقاص ومنذ قصته (القط الأسود) وهو يسعى إلى تخليد المتمثل الشخوصي في حالة صراعية من اللامسمى أو المجرد أو الملامتوقع.والحال مع الزوجة موريلا لم تتم في حدود اعتباطية أن لم نقل اختلافية في جملتها الواسعة والمفيدة.حاول من جهة الشخصية السارد، توضيح أن الفارق في مسألة اللاإنسجام في مكنون علاقته الزوجية مع موريلا، كانت بمفعول قوى روحانية ـ شيطانية، على حد ظنون الشخصية، ولكن حتى بعد فعل موتها، نكتشف بأن السياق السردي لم يوضح لنا ذلك، ولو بإشارة عابرة، حتى نلمس لاحقا بما قالته الزوجة قبيل موتها وكأنها نبوءة ما لا يجوز الإفصاح بها إلا عند فلول صاحبها: (قبلت جبينها وتابعت: ـ سأموت، مع ذلك سأحيا؟ ـ أكرر أنني سأموت، لكن في أحشائي شهادة لهذه العاطفة..وحينما ستذهب روجي سيعيش الطفل، طفلك، طفلي أنا، موريلا.. لكن أيامك ستكون مليئة بالكآبة ـ الكآبة التي هي أكثر الانفعالات بقاء./ص125) .

3ـ ملحمة تناسخ الأرواح ومقاليد أسطرة الروح الحلمية:

لاشك إن من أبرز كتاب الحقبة الأكثر غرائبية ذاتيا وموضوعيا، ما شهدتها أقاصيص إدغار ألن بو، من مسار به مضمونية وشكلية ترجح الوجود الغرائبي كصفة رمزية واسلوبية ودلالية من نوع خاص ومبطن بأسمى أوجه جماليات الصياغة ومعايير الصنعة الهادفة في دليلها البنائي.وعلى هذا النحو وجدنا مختارات (القط الأسود) التي قامت بنقلها إلى العربية الأستاذة الناقدة القديرة خالدة سعيد، ملاذا لمعاينة عوالم أقاصيص هذا القاص العالمي الفذ.أعود مجددا إلى أجواء قصة (موريلا) لأقول أن الصراع مع الموت والولادة، هي من مشروطيات كتابة بو القصصية، فلا نعجب من كون الأرواح تتلاقح عند موتها اعتقادا وتخييلا وتوهما ، ذلك لأن ألن بو يوسم مضامين نصوصه، بتلك الأوجه من الغرائبية والسوداوية المدقعة، ولكنها غرائبية حلت في حدود مؤهلات خاصة من الصياغة والرؤى والأفكار والبناء الذي يخولها قبولا وتصديقا وابداعا وتأملا واعيا.ولو عدنا إلى متن الأحداث، لواجهتنا تلك الفتاة التي عاشت بعد موت أمها لسنين عدة تتجاوز العشرة أعوام وهي دون أسما ولا حتى اختلاطا مع الناس..عاشت الفتاة حياة أمها شكلا وموضوعا ودالا وخاتمة: (لكن موريلا حملتها بيدي الأثنين إلى القبر، ثم ضحكت بمرارة وأنا أضع الثانية في الضريح حين لم أجد فيه أثرا لموريلا الأولى./ص127 النص القصصي ـ انتهت) .

ـ تعليق القراءة:

ختاما يتضح لنا أن الاعتقادات تغلب أحيانا على ذائقة الكاتب مهما كان نصه مشروعا تصوريا مؤثرا.ولكننا نعود إلى وجهة نظرنا النقدية لنقول أن الشخصية موريلا لا تتوفر في نسختها الأولى والثانية على أبنتها المطابقة لها، بل أن ما هو صائبا أن الشخصية موريلا هي ذاتها في الأولى والأخيرة، وما حدث فعلا هو أن الشخصية كان متماثلا في غيابه الحلمي الذي أفقدته الأجواء الروحانية في تلك المجلدات إحساسه بالزمن والمكان وهوية الآخر,ورغم هذا التقدير أو سواه، تبقى قصة (موريلا) بوصفها الزمن القصصي المجرد والتمثيلي والمحسوس بمقرونية كون الشاهد الوحيد على حقيقة النص هو ذلك الناظم الأوحد الذي خلق لنا منظورا مبئرا كفاعلية شاهدة على تفاصيل الرؤية السردية الإطارية البرانية عبر مظهرها الدال في محورها الداخلي الأكثر عمقا وتدليلا في المستوى الشكلي والمضموني التفردي في بناء محتملات وخيارات ووسائط المؤول القصصي.

***

حيدر عبد الرضا

للشاعرة الحزائرية فائزة أحمد خمقاني في مجموعة نرد

عن دار كلاما للنشر والتوزيع صدر للزميلة فائزة احمد مجموعتها الشعرية (نرد) عام 2022 - الجزائر - وهي تجمع بين طياتها باقة من القصائد التي تستمد خاماتها الشعرية، من معطيات الواقع وافرازاته الدالة في عمق الاحساس الصادق، كي تكشف لنا صيرورة الواقع بظواهره المحسوسة واللامحسوسة، بمعنى آخر هي مجموعة صور لتشظيات مرآتها وانعكاسها في متخيلها الشعري الذي قام بإعادة تشكيلها وفق رؤية جدلية بين الذات الشاعرة والآخر، وحيث تتبدى وشائج وعلاقات تجعل من الشاعرة أن تطمح إلى كل ما هو جميل في هذا العالم.

تسعى هذه الدراسة الى رصد التحولات التي طالت الذات الشعرية للشاعرة فائزة من خلال نردها الذي يعكس لنا في كل رمية صورة جديدة لما تحمله ذاتها من الضجيج اليومي والقلق والوجع النفسي الذي يعتصر ذاتها فتراءى لي أوجه النرد على شكل مرايا تجسد الصورة الحقيقية.

ولكون عالم المرايا عالم مدهش و جميل و مخيف، فمرآتها تعيش معها في مجموعتها هذه كي تحاورها عندما يتعلق الأمر بتجسيد صورها الرقيقة والمتحركة كي تعبر من خلال دلالة متخيلها الشعري الى دلالة الواقع كونه مرتبط به عضوياً.

فالمرآة عند الشاعرة فائزة تعددت انعكاساتها الصورية مثلما تتعدد أوجه حجرة النرد، كونها (المرآة) تتقمط شخصية الشاعرة لتعكس ملامحها من خلال رمي حجرة النرد ففي كل رمية تطرح صورة جديدة وكأنها رمزا وعلامة تحقن الأضداد بالمجاز. فأستخدمت الشاعرة حجرة النرد ووظفتها بشكلها الصريح فجاءت الصورة لديها متعددة السمات والصفات وهي تبحث عن الذات والهوية، ولكن ليست بمفهومها الأثني أو الديني أو السياسي بل هويتها الانسانية وكما تقول في نصها (هوية):  

أنا ابنةُ المَاءْ.

لا يعْنِينِي الظَمَأُ الرَابِضُ فِي القلُوبْ

و أنا مُوسِيقَى الصّباح

لا شَأْنَ لِي بِنَشِيجِ الأرجُوحَةِ المَعْطُوبَةِ فِي مَساءٍ بَارِدْ

أنا الضِّدَانِ اجتَمعَا في وجهِ المَجَازِ فأرْبَكَاهْ

لي غَمزةُ الشَّمسِ أرَاها ...

لا يَرَاهَا سِوَايْ

إذن هويتها مرتبطة بمعالم الطبيعة، الماء، الموسيقى، المتناقضان - بمعنى الخير والشر) فصورتها مرتبطة بكل ما هو جميل كأشراقة الشمس، فلا شأن لها بعطب الأرجوحة وبكائها.

في قصيدتها هذه تكشف لنا الشاعرة شكل هويتها فتارة هي ابنة الماء وفي الاخرى هي موسيقى الصباح و... إلا أن صورتها هذه تجمع بين دفتيها ضدان متناقضان مجتمعان في صورة واحدة (الخير والشر، المادي والروحي، ما تحلم به والواقع، ..).

إلا أنها كأي فتاة تحلم ان تكون لها وحدها غمزة الشمس ودفئها ونورها و... إلا أن صورة الواقع أحيانا مغايرة وهذا مرتبط برمية نردها (الحظ) والصورة التي تعكسها وجه النرد، لذا نجد مخيلتها قادرة على التلاعب بتشظيات نردها لتصنع لنا أشكالاً عدة ولكل شكل مراكز التبئير لرؤاها والتي من خلالها تقوم بإنتاج الرؤى التي تربطها بواقعها كمعطى موضوعي يتجسد، ويتشكل عبر المتخيل، ويكتسب دلالات جديدة فتارة تعكس مرآة وجهها صورة المقام، الموسيقى) كي تجعلها ترقص وتتمتع بالحياة وتبني لنفسها معبداً وجنة ووطناً، وفي الأخرى تعكس صورة صلابتها وقوتها في مواجهة المصاعب من خلال اعادة ترميم الوجه الذي يتراءى لك حزينا وتلملم كل ما يجعلك تراه خراباً في جمال الطبيعة، وتعيد قلبها الى مكانه كي ينبض بالحياة بعد أن يجمع أوراق الخريف الصفراء من وجه الارض... وفي صورة أخرى تجسد صورة رمل الشاطئ الذي جمع بين أحضانه ذكريات جميلة وفي صورة أخرى (قصيدة) ترسم لنا صورة لشعاع شمس كان قد عانق طفولتها و...

من هنا نقول كان اختيار الشاعرة لعنونة مجموعتها موفقة كقراءة أولية للمتن، فالنرد هذه اللعبة البسيطة والتي تعتمد على الحظ من جهة وفي فن الرمي من جهة أخرى جعلت منها الشاعرة المنصة التي تتكئ عليها لجمع تشظي مراياها وتعقب انعكاساتها في مخيلتها كي ترسم لنا صورة شعرية بانورامية تتحرك أمامك كلما سرت خلفها... ولأن للنرد أوجه عدة هكذا تكون لصورها أوجه عدة فصورها الشعرية هي من نوع التي ترسمها لنا المرآة المحدبة وليست المسطحة كون صورها في حركة مستمر تجعلك تسير خلفها بتلهف كي تصطاد لؤلؤها وكما في قصيدتها (لستُ حزِينَة):

لست حزينة

أنا فقطْ أُرتِّقُ الرُوْحَ بماء السَّمَاءْ،

أُلَمْلِمُ خَيبَتِيْ... وأدسُّها في خَاصِرةِ اللَّحظَة،

و أغِيبُ عَنِّي فِيَّ

أُخْفِي كلَّ هذا الخراب عَنِ العُيون الَّتِي حَاصرَتْ بزوغ الشمس في عيني...

أتوهُ داخلِي

أتلمَّسُ حَوافَ النورِ

فأحترقْ

حيث تراها في قصيدتها هذه وكغيرها من قصائد المجموعة تتلاعب في تشظيات مخيلتها الشعرية فتسيل منها صورا عدة من خلال انعكاسات مرايا حجرة نردها المتشظية والمكونة لعناصر اللوحة التي يرسمها خيالها، حيث غاصت مخيلتها في عمق ذاتها المحملة بتجربة إنسانية فأستطاعت أن تستثمر مزايا النرد والمرآة بكل ما فيهما من رموز عكست لنا صورة الأنا في ذاتها لنرى فيها الآخر المتحد مع أناها مكونا بذلك الأنا الجمعية، كي تصبح صوتا داخليا يحث القارئ للسير قدما في قراءة نصوصها الأخرى، لذا تراها تكرر المفردة، لست حزينة) للتخفيف من شدَّةِ غلواء الصراع الداخلي الذي تعيشه الشاعرة، والتقليل من آثار جيشانِ إرهاصاتها النفسيَّة واحتدام تداعياتها الشعورية التي تواجهها كأي إمرأة في حياتها الشخصية سواءٌ أكانت تتعلّق بواقعها الذاتي الاجتماعي أم بواقعها المحيطي البيئي والجمعي في الوقت الراهن لذا تراها تكرر وتقول:

... لستُ حزِينـــة ولكن في رأسِي قطة انتهتْ من حَرْبٍ طويــــــلة...لستُ حزينة. أنا فقطْ مُحَاصرَةٌ بالذكرَى.. لستُ حزينة ولكن قلبي غادَرْ يلاحقُ ورقَةً صفْراءَ تــــاهتْ... لستُ حزينة ولكن القلبَ الذي غادَرْ ارْتَطَم بِطَريقٍ منْ جمرْ... لستُ حزينة ولكنّي أحبُّ الصمتَ...)

نجد إفرازات مخيلة الشاعرة وتشظياتها تجعلك تجري وراء لوحتها المتشظية كي تنقلك من مكان لآخر، وهذه التشضيات هي صور لصراعاتها الداخلية والقلق النفسي الذي يعاني منه الانسان والمرأة بصور خاصة وكما تقول في قصيدتها هذه:

لستُ حزِينـــة

ولكن في رأسِي قطة

انتهتْ من حَرْبٍ طويــــــلة

قطة تلعقُ جراحَها في صمت

تنزوي بعيدا عن أطفال الحيِّ المُشاكسين

تبرقُ في عينيها رغبةُ انتقام

ثم تخْمدُ عندَ أوَّل خُطوةٍ مِنْ قَدَمٍ مَكْسُورة.

وهكذا في قصيدتها، حضور) حيث تطرح عدة أوجه لحضورها من خلال انعكاسات الصور التي رسمها الرمل في مخيلتها وكما تقول:

(سلامٌ على الرملِ يعرفُ سرَّ الحِكاية ويعرفُ لونَ العُيونِ التي نَــامتْ على سَفْحٍ من دمُوع... سلامٌ على الرملِ يعرفُ لونَ الصَّباح ويرسمُ في الأفقِ بَحَّة ريْحِ صديقَــة... سلامٌ على الرملِ يعرفُ وجهَ القَصِيدة ويغفرُ لَها وَجَعَ الغيــابْ، ...)

الشاعرة تستخدم التكرار لتؤكد على أن الصورة هي انعكاس لذاتها وصراعها...

إن دراسة دلالة الصور التي تعكسها مراياها ما هي إلا توثيق للحظات فرحها وتوترها وقلقها، لما ينتابها من هاجس النزوع الى الزمن الجميل الذي ترسمه لنا من خلال ما تحلم به كاشفة لنا عن مآزق التصدع والانشراخ في ذاتها التي تحلم دائماً بعالم جميل خالٍ من كل وجه قبيح.

إنَّ الكتابةَ بلغةِ الحُلم والرؤية قد يُثري البنية العميقة من الدّلالاتِ الخفيَّة، ذلك لأنّ الشّاعرةُ تسعى إلى تعديلِ المُهشّم في نفسها من خلال طرحها لأوجه عدة لصورتها المتشظية عبر المرآة، وهي تدعوك إلى البحثِ والتأمل عن ذّاتِها الحقيقيّةِ التّي تسعى إلى تكوينها، وكأنها تعيش حلمها الإبداعيّ؛ لذا فإنّ التّعبير بلغة المرايا، قابلٌ للتماهي مع العوالم الخياليَّة التي تنتجها مخيلتها، من أجل خلقِ توازنًا نفسيًّا للذّاتِ، من خلال اللّجوءِ إلى حجر النرد والصور التي تعكسها مرآتها مكوناً صور عدة تُحقّقُ فيه رغبتَها الجامحة وكما تقول في قصيدتها، للاحتمال مزاج يقين):

لِنَتَفِقْ مُنْذُ البِدَايَة

أَنَّنِي لَا أكْتُبُ لَكَ

و أنَّكَ هَامِشٌ لِكُلِّ مَتْنٍ أَنْحَتهُ

مِنْ بُخَارِ الرُّوح

لِنَتَفِق أَنَّكَ لَمْ تَكُنْ يَوْماً هُنَا

و أَنَّنِي لا أَجْتَهِدُ أبَدَا في جَعْلِكَ صِفْراً

بَائِساً يَسَارَ كُل الأرْقَام الّتِي أَكْتُبُهَا

علَى خَطِ الوَجَع.

وفي قصيدتها (ورطة) وغيرها من القصائد تلعب السردية دورها لتجعل من قصيدتها هذه وكما في قصائدها الأخرى سيرة ذاتية تفصح الشاعرة من خلالهم عن مكنونها الداخلي لما يحمله مفهومها النصي من إيحاءات نفسيَّة مُثيرة وطاقات إيجابية تعبيرية تترك خلفها إيقاعية موسيقية قادرة على دغدغة نفسية المتلقِّي، لذا كانت وقائع تردها مرآةً عاكسةً لِمَا في الرُّوح الذاتية للشاعرة الظاهرة المتجلِّية والخفيَّة المُضمرة. إنها مرآة واقعها في الماضي والحاضر، واستشراف الغد المستقبلي الآتي لتقول لنا:

بين النُور و بيني ورطَة

تشبهُ الحُبَّ...

تُشبِهُ حُلما لذيــذا تسرّب خِلسَة

إلى القلبْ

نلاحظ القلق الشعري والإنساني حاضر في نصوصها التي وشحتها بأسلوب سلس وبصور جميلة مفعمة بالعديد من الأسئلة الغير مباشرة والمحيرة، بين رغبتها في تقمط جمال الحياة والطبيعة وما يقف في الاتجاه المعاكس لشل حركتها، لقد جاء النرد في قصائد الشاعرة فائزة بدلالات متشظية طبقا لما تعكسه مرآتها الداخلية معبرة عن الصراع والضياع فكانت لمراياها وظيفة سردية وتعبيرية معبرة عن الصورة الشعرية وهي توسع دائرتها لتنقل اِنعكاساتها الى أنا القارئ مثلما تتوسع دوائر الحجرة المرمية في مياه البحر وهي تحاول اِقتحام الشواطئ والأمواج.

ومن الجدير بالذكر أن الشاعرة اختارت عنونة مجموعتها من خلال تناصها على قصيدتها (أوشام على خاصرة الخيبة – مقام الغياب) والتي تقول فيها :

تلك الحفرة السوداء التي يسمونها

حظ

سَتسْحَب قلبَك

نحو

هاوية لعينة

يسمونها مجازا:

حُبْ !!!

وختاما أقول:

اِحتلت الصورة الشعرية مكانا أساسيا في تكوين شعرية نصوص الشاعرة فائزة أحمد خمقاني في مجموعتها هذه، لقدرة الصورة الشعرية على رفد اللغة بالدلالات العميقة، وخاصة عندما يكون الخيال الشعري هو البؤرة المركزية لكل نص شعري.

الشاعرة استثمرت بكفاءة العناصر الحسية في الطبيعة البشرية للقيام بإعادة تشكيلها وفق ما ترسمه لها مخيلتها من معان ودلالات فرسمت لنا بكلماتها الجميلة والرقيقة صور لمظاهر محسوسة عن طريق الاستعارة فمنحت المشهد سيلاً من الصور المتدفقة والجميلة وهي تشحنها بالمشاعر والأحاسيس والدلالات من خلال مزج رؤياها بالواقع مزجاً تخيلياً عميقاً.

فالمتخيل الشعري لديها يسعى إلى لملمة الصور التي تعكسها مرايا نردها فتتشظى داخل ذاتها وحيث تتصارع لديها كلا القوتين المتناقضتين، المادي والروحي) من أجل رسم صورة الأنسان الجميلة بما يتوافق مع تصورات ذاتها الداخلية، الأنا) مستعينة بمرايا نردها ففيها ما يوحي بالالتصاق بين رؤيتها الشاعرة وذاتها لذا جاءت نصوصها الشعرية محملة بالرقة والجمال وموفقة للتعبير عن أناها .

***

نزار حنا الديراني

يوحي للقارئ منذ الوهلة الأولى الى عنوان الكتاب او الرواية ان هنالك بعداً فلسفياً يتماهى مع العنوان، أو يتوارى خلف هذا العنوان بعداً درامياً مليء بالصراع الإنساني، أو كأن هنالك شيء يلامس القلب حال مطالعة العنوان، وهذا ما نجده في بعض الروايات او الكتب، ولكن في القليل منها.

تعتبر رواية بلد العميان للروائي البريطاني هربرت جورج ويلز الذي كتبها في عام 1904 هي واحدة من الروايات العالمية التي ظلت ترسم في الآفاق صدىً لا يزال يطفق على عالمنا السياسي والاجتماعي، والذي عُرف بكتاباته عن الخيال العلمي، ولا شك فأن روايته المشهورة (آلة الزمن) التي كتبها عام 1895، شكلت انعطافاً كبيراً في أدب الخيال العلمي حين صدورها.

إن جزءً من أسرار هذه الرواية، يسعى في النظر بين زوايا الانسان المخفية، التي تتصارع داخل الانسان في كل عصر وزمان، فتكون نتائج هذه الصراعات، ارهاصات تخرج لنا بتجربة إنسانية، هي من تراكم معرفي او نظري ليحدد شكل العالم الافتراضي، الذي ربما نعيشه في يوم ما، او كرؤية مستقبلية يحدد ملامحها المبدع في كتاباته، وإذا ما سرحنا في أغوار النص الروائي، لاكتشفنا في أبطالها شخصيات تماهي الواقع أو ما نعيشه اليوم في عصرنا الراهن.

إن رواية بلد العميان، التي ركز فيها جورج ويلز على عالم بطله (نيونز) الذي رماه قدره ان يقع بين مهاجرين تعرضوا الى طغيان الأسبان فهربوا منهم بحثاً عن الخلاص، إلا أنهم وخلال هروبهم ومسيرتهم الجماعية، تعرضوا الى انهيارات جبلية حجرية، مما عزلتهم عن عالم البشر، في واد عميق مجهول، في رؤية خيالية صنعها الكاتب الذي عرفناه في كتابته السابقة بأسلوبه المتقن في الخيال العلمي، ومن جراء ذلك، أصاب هؤلاء المهاجرين مرض وهو نوع من العمى ظلوا يتوارثونه جيلاً بعد جيل، ولأكثر من خمسة عشر جيل من الزمن، فيكتشف بطل الرواية (نيونز) فيما بعد إن هذه الأقوام غريبة الأطوار والعيش والتعامل مع طبيعة الحياة والتقاليد في كل تفاصيل حياتها، ولا يعرفون شيئاً عن نعمة البصر، وعندما يرميه القدر في العيش أو طلب الزواج منهم فيما بعد، وبين اقناعهم بالحياة وبهجتها، وإن هنالك شيء أسمه البصر او العين البشرية، إلا انه يفشل بأقناعهم فشلاً كبيراً.

لقد أراد هربرت جورج ويلز ان يمنح رؤيته العبقرية الى أهمية العقل وسموه في التعامل مع البشر مقارنة بالعين البشرية، لقد أراد ان يرمي بإسقاطاته على روايته، فهو يريد ان يقول عندما تكون انت العاقل في زمن يراك الآخرون مجنوناً او ان تكون صاحب البصر والبصيرة في مجتمع جاهل أعمى.

فهو يسعى لتكريم العقل البشري وقدسيته ليعطينا دلالة واسعة وواضحة بقدرته واهميته الذي من خلاله يفرق الانسان بين الخير والشر، والحقيقة والخيال، والخطأ والصواب،.. هنا يحاول الكاتب بتوظيف عالٍ الدقة والصياغة الفنية، ان يسقط أفكاره المستقاة من الكتب السماوية التوراة والانجيل والقرآن، عن الأقوام التي تعرضت الى غضب إلهي، ولكن بتحوير في بناء النص الروائي، وهنا يكمن التحوير التقني الدرامي بين أسطر البناء الروائي ليعطي بعداً لحبكة الصراع وذروته كلما تقدمنا في ثيمة النص.

فيمنح بطله (نيونز) في الرواية الذي عاش صراعاً داخلياً بين ان يظل على قناعته بقبول الواقع الذي يفرضه عليه بالتخلي عن بصره بين هؤلاء القوم من العميان، الذين ولدوا من سلالة من أجيال متعاقبة عُميان، أم ينصاع إليهم لما أرادوا منه بقلع عينيه مقابل الزواج من (مدينا ساروته) التي أحبها.

فالعمق الدلالي الذي يقتنصه الكاتب في شخصية الانسان الذي يعيش بين عالم غير طبيعي او غير مألوف وخارج عن قياسات الزمن، وعالمه الحقيقي الذي هو عاشه، إنما يسعى للوصول الى المعادل الموضوعي مع الحياة الحديثة التي يعيشها الانسان، فيعطي لنا صور مقاربة لما نصارعه نحن في حياتنا المعاصرة.

فالرواية تبحث بعمقها الفني والدراماتيكي عن أشياء تتشابه أو تكاد تتطابق مع ما يعيشه الفرد اليوم في مجتمعاتنا على كوكب هذه الأرض، لقد سعى جورج ويلز أن يغوص في رمزية ابطاله ويحاول ان يؤول الواقع الذي كان ينظر اليه نظرةً متشائمة، وهو الذي عاصر أكبر حربين عالميتين الأولى والثاني في تأريخنا المعاصر.

فإذا أردنا اسقاطها على واقعنا الاجتماعي، لنجدها تعبر عن ضعف الحق أمام الباطل، عندما لم يجد الحق من ينصره في عصرنا الراهن، وما تعيشه مجتمعاتنا اليوم من اضطرابات تفرض عليها بالإكراه كما هو الحال مع بطل رواية بلد العميان.

فهي رواية الفلسفة التي تبحث في صراع الحياة، وليس المشكلة بالعمى الذي يصيب العيون، إنما العمى الذي يصيب القلوب والنفوس، وبالتالي فهو نتيجة الجهل الاجتماعي الذي يتقبل الخطأ على أنه هو الصواب بعينه، أو عندما يجد الجهل الأرض الخصبة التي تمنحه النمو والانتشار السريع وتقبله العقول الجوفاء.

فالجهل هو من يقود للتيه بالمجتمعات، إذا ما تخلت عن عقولها وهي تجري وراء اللامعقول، لقد أراد الكاتب ان يبعث فكرة رائدة الى كل مجتمع جاهل ومتخلف وتسوده الفوضى والفساد السياسي، فضلا عن انتشار العنف والطائفية والقبلية فيه.

بلد العميان هو كل مجتمع يسوده الجهل والفوضى والفساد والتخلف والفقر والعنف والتعصب بسبب أفكار مدمرة وهدامة، ومُهيمنة عليه، أو دعوة تنويرية تواجه برفض وريبة وعنف.

إن الأسلوب الذي قدمه هربرت جورج ويلز في هذه الثنائية العالية بين العمى ونعمة البصر ومنحهما قوة أدبية في جسد الرواية، إنما لتعبر عن النزاع القيمي والثقافة الإنسانية، فالكاتب يخفي وراء النص الروائي بعداً آخر، ألا وهو ان الانسان الأبيض الذي يعنيه بالرجل الأوربي، هو منقذ البشرية على كوكب الأرض، وهو القادر بحكم تمكنه (كما يرسمه لنا الكاتب) من قدرات تتفوق على الجنس الآخر من البشر، وهو يستطيع التغلب على معظم الصعاب كما هو الحال في الرجل السوبرمان وغيره.

لقد لعب كتاب كثيرون على هذه اللعبة بتورية فنية، توزعت بين الرواية او القصة او الدراسات الفلسفية والإنسانية، بتوظيف قيم غربية، وبسط مفاهيم القدرة العقلية من الذكاء على بقية الشعوب الأخرى بدول العالم الثالث..

ورغم ما يقدمه الكتّاب بكل الفنون الإبداعية، لابد من الأخذ بعين الاعتبار، إن الفن والادب كثيرا ما يوازي في طروحاتهم بعداً فلسفياً يتوارى بين دفتي الرواية، لكن ما أراد هربرت ويلز أيضاً، ان يرمي على روايته ليقول: عندما تكون انت العاقل في زمن يراك الآخرون مجنوناً أو ان تكون صاحب البصر والبصيرة في مجتمع جاهل أعمى، فهي أسقاط على واقعنا الاجتماعي الذي يعيشه عالمنا المعاصر، فليس العمى عمى العين، إنما هو العمى عمى القلوب، وبالتالي يجعل الانسان جاهلاً فيضيع المجتمع حينذاك بجهله وفوضاه.

***

د. عصام البرّام

 

يعتبر موضوع المراة من أبرز الموضوعات التي اهتم بها الأدب العربي ومن هنا كانت القصة وخصوصا الواقعية الأقدر على رسم شخصيات تعكس صور المرأة بحيث تكون أقرب من الحقيقة ومن الواقع الإجتماعي.

ومن هنا فقد تطرقت مجموعة وداد أبو شنب، من إصدارات الآن ناشرون وموزعون/2021،  إلى إثارة قضايا متعددة تخص المرأة بدءا من موضوع الأسرة وانطلاقا من الزواج مرورا برصد العلاقة بين الزوجين والأبناء وانتهاء إلى ما قد تؤول إليه هذه العلاقة من انفصال وغيره. كما عرضت موضوعات أخرى تخص المرأة مثل العنوسة ،الخيانة ،تعدد الزوجات ،كبت حريتها بأغلال العادات البائدة. وبالرغم من أن المتلقي يلمس من الكاتبة تعاطفا ضمنيا مع المرأة إلا أنها جعلت لصوت الرجل حقا ففردت له مساحة ضمن مجموعتها لسنا بصدد الحديث عنها في القراءة التي بين أيدينا.

وقد تعددت صور المرأة في هذه المجموعة فجاءت لتلامس وتحاكي الواقع. فأظهرت من خلال تلك الصور مواطن معاناة المرأة كالأرملة والمطلقة والوحيدة والمستسلمة العاقر وغيرها الكثير من الصور نستعرض بعضها في هذه القراءة.

جسدت وداد أبو شنب صورة الزوجة الباهتة المستكينة والمغلوبة على أمرها في شخصية أم علقم في القصة الموسومة ب (أم علقم) فعلى لسان الساردة عن أم علقم التي كانت مثالا للمرأة الشرقية التقليدية ص101( كانت تخفي قهرها العائلي عن الجميع بابتسامتها البسيطة ،وإن ظهرت أحيانا أمشاج الحزن التي تغلغت مع العمر وأصبحت جزءا من تجاعيد وجهها). فأم علقم ذات شخصية مستسلمة لواقعها لا تحاول التمرد حيث الزوج ميسور الحال يكدس أمواله تاركا إياه لتعمل في بيوت الناس قانعة بحرمانها. إلى صورة المراة المهشمة من طرف الزوج حيث أنها ليست من ضمن دائرة اهتمامه وقد جسدتها في شخصية بطلة القصة الموسومة ب (الحلم الأخير) التي لم تمنحها الكاتبة اسما ربما لتعمم القضية. فعلى لسان الساردة عن البطلة وهي تتوجه بصحن الفاكهة حيث يجلس زوجها فتتمنى منه كلمة حلوة أو لمسة يد تشعرها بحنانه ص21( أخذ التفاح من يدها بصمت ،ودون أن يلتفت إليها....قررت النوم واللجوء إلى أحلامها حيث تلتقي زوجها الحنون...حققت كل ما أرادته ورحلت في هدوء،دون جلبة ودون اعتراض). فإهمال الزوج وبروده مع زوجته وعدم مبالاته بها صنع عندها فجوة عاطفية جعلتها تلجأ إلى الهروب من الواقع إلى النوم من أجل أن تعيش الحلم. فتسبب بموتها. وقد ذكرت الكاتبة إلى طريقة رحيلها التي كانت صامتة ودون اعتراض فكانت بمثابة دعوة للمرأة أن ترفض هذا الإهمال فتعترض وتتمرد.

كما جسدت ألوان الاستبداد والتعاسة التي تعانيها المرأة في بيئة تحكمها التقاليد القديمة فصورت لنا الكاتبة صورة المرأة المسلوبة الإرادة التي فقدت حريتها أمام مظاهر التسلط الذكوري من اختيار شريك حياتها. فالبطلة حياة في القصة الموسومة ب(حياة؟!) التي تعيش في أسرة، الأخوات فيها خادمات للأخوة الذكور. أسرة ترفض التنوع في الزواج. فتعشق زميلها البدوي في الجامعة وتعلن تمردها بالرفض بعد أن يقرر الأب تزويجها قسرا لتنتهي القصة ص104(شعرت حياة بشر قادم،أو بخير عارم،لا خير بعده وشربت الكأس كلها وهي مدركة تمام الإدراك أنها آخر ما تشربه في هذه الدنيا..). وبهذا الاستسلام من طرف البطلة المسكونة بالحلم يأتي الموت لينتزع منها فرصة الحياة التي حلمت بها.وهنا تتجلى لنا صورة البطلة الحالمة المتمردة ثم المستسلمة التي تقبلت الموت وهي تعلم، حيث تعلن الكاتبة إخفاق حياة في إسماع المجتمع صوت قلبها واختيارها لأنها تحمل استعدادا مسبقا للخضوع.

كما رصدت لنا الكاتبة صورة المراة المكتئبة في القصة الموسومة ب(اكتئاب ما بعد الولادة) فالبطلة تصاب باكتئاب ما بعد الولادة وسط واقع يرفض هذه الحالة ولا يتقبل أعراضها التي تصاب بها المرأة من قلق وخوف. فبطلة القصة تنفر طفلها مرة ثم تبالغ في اهتمامها به وسط انتقاد الزوج والحماة ويتضح هذا ص56 عن البطلة على لسان الساردة (خوف من الرضيع وعليه كان يقودها إلى قمة الجنون.جعلت الجميع ينفر منها).

وتأخذنا إيفا إلى الأم العجوز التي أخبرت بطلة القصة الموسومة ب (بالعكس..عابرة سبيل) والتي اجتمعت بها في عيادة الأسنان بعد حوار دار بينهما أنها تبدد وحدتها في عيادات الأطباء وصالونات التجميل. فهذه الأم التي أنجبت وربت ولها أبناء وأحفاد وأفنت صحتها وحرمت نفسها من الملذات من أجل الأبناء باتت تعاني الوحدة وتخافها ويتجلى هذا بما أفصحت عنه للبطلة بقولها ص43( كان بودي أن أمررك قبلي أيتها العابرة،لكنني أخاف البقاء وحيدة في فراغ قاعة كبيرة).وفي نفس القصة يتجلى عالم المرأة الإبداعي حيث جعلت من البطلة كاتبة لتفسح المجال لحروفها بأن تتفجر من بواطنها فتخرج كالماء الزلال الذي يشفي من الآلام فتكون الكتابة هنا بمثابة العلاج من تلك الآلام التي تضعفها كأنثى لتنطلق كأقوى عنقاء.

وإيفا متنوعة متجددة كتنوع وتجدد المرأة لذلك نجدها تعري المرأة من ضعفها وخنوعها وتأخذ بيدها لترفض الخنوع لواقع يسلبها كرامتها وحقها في الاستمتاع بالحياة فنجدها في القصة الموسومة ب (كعكة الطلاق) تلك المرأة القوية التي تتمرد على التقاليد فتصنع كعكة الطلاق ثم تهاتف طليقها ليأخذ أغراضه ففي ص32 على لسان الزوجة لطليقها بعد أن أحضرت جرة من المطبخ (الله معك! وكسرت الجرة خلفه لتخلق بداخله رعبا وذلا يسمانه ما عاش على هذه الأرض...أغلقت الباب ونادت أطفالها وقالت فلنحتفل بكعكة الحرية). وهنا نجد البطلة وقد تخففت من ذلك الزوج الذي كان يسلبها حريتها بالتمرد على المجتمع وتقاليده.

ثم تنطلق بنا إيفا إلى قصة (همس القواقع) لتكشف لنا عن صورة المرأة الحالمة العاشقة والمحبة التي سرعان ما تدمجنا معها لنرافقها في أحلامها وعشقها فنتوه في همس قواقعها كما تتوه هي ومنها تنقلنا إيفا إلى صورة المرأة الباحثة عن الذات فنجدها في قصة (مفهوم خاطئ) لتقول لمن مارس عليها سطوته الذكورية بعد أن ظنها انساقت له فكان المدار الذي قيدها ولن تخرج عنه يوما ص90 (أنا الكوكب الدري، أنا مداري).

لقد رصدت وداد أبو شنب الكثير والكثير من صور المرأة في قصص واقعية كل واحدة منها تحتاج إلى قراءة كاملة منفردة.

بقي أن نقول بأن إيفا كشفت عن مرجعية ثقافية غنية بالمعرفة الخلفية الزاخرة بكم معرفي أدبي،فني وعلمي استطاعت وداد أبو شنب أن تصهرها في مجموعة سردية موحية أبدعت في كتابتها بقصد إيصالها كرسالة مهمة للمجتمع.

***

قراءة بديعة النعيمي

تَقديـمٌ: إذا كان  الشِّعر العربي التراثي القديم يُشكلُّ الشغلَ الشاغلَ لنفوسِ كثير من جمهور النَّاسِ؛ كونه (ديوانَ العربِ)، وسجلهم الأدبي المالئ لِمِساحة حياتهم اليومية، فضلاً عن أنَّ العَرب أُمَّةَ خطابٍ بلاغيٍ مكين، فإنَّ المقابل لهذا الشَّاغل الكبير لفكر المتلقِّي حديثاً في هذا العصر هو السرد النثري. أي عصر السرديات بمختلف أجناسها اللَّونية، وعلى وجه التحديد الرِّواية والقصة القصيرة جدَّاً التي تتطَّلب من كاتبها العليم حذاقةً فنيَّةً شديدةً وتقنياتٍ إنتاجية عاليةً ذكيةً في الإبداع والإمتاع.

فهذا هو عصر الرِّواية، عصرُ التَّحوِّلات الأدبية الإبداعية والمتغيِّرات الفنيَّة السريعة التي تلامس بحقٍّ حياة الإنسان العربي المعاصر، وتلبِّي جزءاً من احتياجاته الفكرية والجمالية المُلحَّة وهمومه. مثلُ هذا الاهتمام اللَّافت بالسَّردياتِ، ولا سِيَّما القصة القصيرة مكَّن كُتُّابها ومبدعيها إلى التَّفَنُّنِ في التنوِّع بأساليب كتابتها، فـ (الأسلوبُ هو الرَّجلُ)، أي الكاتبُ، كما يصفه الفرنسي جورج بوفون.

وعلى وفق نسق هذا التأسيس الجمالي الإبداعي فقد تعدَّدت أساليب الكُتَّاب في السرد القصصي إلى أربعة أساليب رئيسةٍ بالغة الأهمية: أسلوبٌ غنائي ذاتي وجداني، وأسلوبٌ ساخرٌ تَهَكُّمي، وأسلوبٌ سِيرِي ذاتي أدبي عُرِف بمصطلح (اليوغرافيا)، وأسلوبي دَراميٌّ بَصَريٍ أقرب في مفارقاته الحدثية إلى التمثيل بوقع محاكاته الفعليَّة وحركية شخوصه الفواعلية المرتبطة بوحدتي الزمان والمكان التي حدَّدها رولان بارت عناصرَ رئيسةً للسَّرد الحِكائي، خاصَّةً في كتابة الرّوايات السَّرديَّة.

1- الأُسلوبُ الغِنائي الوجدَاني:

الأسلوب في الحدث السردي الطويل، ولا سِيَّما في (الأدب الوجيز)، أدب القصة القصيرة جداً يشكلُّ فنيَّاً مهمازاً ضوئياً لافتاً من خلال فضاءات بنيته اللُّغوية التي تكاد تتميَّز بأنَّها بنيةٌ شعرية تقترب كثيراً في سيرورة خطابها الموضوعي السَّردي إلى الغنائية في دلالتها الذاتية الوجدانية. وعلى الرُّغم من أنَّ شِعرية الصيغ الغنائية تحتلُّ أهميةً بالغةً في التَّحكُّم بِلغةِ النسيج السَّردي القصصي، فإنَّها لا تقع في حبائل شباكها الشعريَّة الغنائية الوجدانية البحتة المعروفة أدبيات الشعر العربي القديم الحديث على حساب سردية النصِّ الحكائي الحدثي الفعلي للقصة أو الروايَّة.

وهذا المشترك الأُسلوبي الفنِّي يجعل من القصِّ الذاتي القصير الذي يعتمد على تجارب ذاتية في أغلبه، يلتقي في بؤرته الغنائية وثقل مادته الرئيسة بعناصره المشروطة، وأعني بذلك، التكثيف، والاختزال أو ما يُعرف بالاقتصاد اللُّغوي، والاختيار، والإيحاء، والترميز، وتقنية الانزياح اللُّغوي الدلالي النصِّي التعبيري، والمفارقة الإدهاشية الماتعة، وجماليةُ حُسْنِ قفل خاتمةِ النهاية الصادمة.

وإنَّ الاحتفاء بالذات القصصية يندرج فنيَّاً في النقدية السردية الحديثة تحت ما يسمَّى بالأسلوب الغنائي الوجداني الذي يمنح الذات السرديَّة قدراً كبيراً ومُهمَّاً من جماليات الروح مع نظيرها الآخر. ويرى الدكتور صلاح فضل أنَّ الأسلوب ذا الطابع الغنائي، "تُصبِحُ الغلبة فيه للمادة المُقدَّمة في السرد حيث تتَّسق أجزاؤها في نمطٍ أُحادي يخلو من توتر الصراع، ثُمَّ يعقبها في الأهمية المنظور والإيقاع" (1). ومعنى ذلك أنَّ الذات السَّردية الوجدانية مصدر صناعة الحدث وموئله هي الصراع الذاتي الداخلي بعينه، وأسلوبية الإيقاع الفنَّي التعبيري للوحدات السردية الموضوعية.4844 مجموعة كتب

ومن النماذج القصصية الهائلة الأكثر نضجاً وإمتاعاً في التدليل على نسق غنائية الأسلوب الوجداني في التعبير عن وقع فعليتها الحدثية الذاتية نصًّ قصة(هَزيمةٌ) للكاتب الرائد القاصِّ  حنون مجيد الذي تغنَّى بواقعة هزيمة بطله في هذه الأسطرة التي شَعَّرَ فيها لغةَ السَّردِ تشعيراً ورسمَ حدودَ تلك الهزيمة على خريطة مجسَّاتها الغنائية، فترجمَ صراعها الذاتي بهذه الزفرات السَّردية المتنامية:

" تَمتدُ صَحرَاؤُهُ بِلَا حُدُودٍ..

عَلَى يَمِينِهِ خَلَاءٌ مُوحِشٌ كَئِيبٌ..

وَعَلَى يَسَارِهِ جِدَارٌ مَشرُوخٌ آيلٌ لِلسُقُوطِ؛

تَتَقاومُ عِندَ قَاعِدَتِهِ ظِلالٌ آخذَةٌ فِي الاِنحِسَارِ.

لَا مَهرَبَ مِنْ شَمسٍ مُحْرِقَةٍ تَشتَدُّ حَرَارَتُهَا وَتَلْهَبُ جَسَدَهُ كُلِّ آنٍ..

لَا مَلَاذَ وَلَو إلَى حِينٍ .. قَالَ:

ضَمَّ رَأسَهُ بَينَ يَدَيهِ..

وَاِرتَمَى تَحتَ الجِدَارِ ! (2) "

فالقاص حنون مجيد لا يسعى جاهداً في انثيالاته السردية إلى تتابع الوعي الحدثي لبطل قصته بهذا المنظور الغنائي الوجداني فحسب، بل  يهبُ محيطه الخارجي وعالمه المتحرك بهذا التوصيف الحكائي القصي المتنامي في تصاعد الحدث وارتباطه بقوى الطبيعة المتحركة في الخفاء والتجلِّي.

ونذهب إلى رائد آخر من روَّاد القصة العراقية القصيرة الحديثة، ذلك هو القاص البصري العتيد محمَّد خضيِّر ونستغور أعماق أسلوبيته الوجدانية في قصته (حكايةُ المُوقدِ) التي هي إحدى مدوَّنات مجموعته الأثيرة (المملكة السوداء) الدالة بعتبتها النصية على ثيمة رمزية نصَّها الموازي للواقعة الحدثية. وبالتحديد نستدل بمفتتح هذه الحكاية التي جعل الكاتب ختامها دليلاً تعضيدياً لمطلعها لمن يودُّ جواباً متسائلاً في سماع حكاية موقد أخرى. فلنبحر في يمِّ  أسلوب خضيرالغنائي الانزياحي:

" لِكُلِّ مَساءٍ حِكايةٌ. حِكايةٌ وَاحدةٌ. فِي أَولِ المَسَاءِ -عِندَمَا تَسكِتُ عَصافيرُ البَردِ عَلَى سِدرَةِ البَيتِ، وَتَكفُّ طُيُورُ (الدَّرَّاجِ) فِي أَحرَاشِ الحَلْفَاءِ خَلفَ البَيتِ عَنِ النَّداءِ المُنَغَّمِ- تَأتي الجَارةُ المُقوسَةُ الظَّهرِ، الَّتي تَحملُ نُدبَةَ (خُزَامَةِ) فِي أَرنبةِ أَنفِها اليُمنَى، وَتَدْلِي قَصيبَةٌ رَخوةٌ بَيضاءُ مِنْ طَرَفِ فُوطتهِا، تَرتَخي بَشرةُ وَجهِهَا، وَقَدْ انمحَى حَاجبَاهَا (يَا لِجنياتُ الجَنوبِ! أَيُّ وَجهٍ رَقيقٍ بِلونِ التُّرابِ تَمِلكُ!)، وَلَو كَشَفتْ عَنْ أُذنِهَا اليُسرَى ؟ لَأصبحَ فِي الإمْكَانِ مُلاحظةُ الفَجوةِ الَّتي تَركَهَا القِرطُ الثَّقيلُ فِي شَحمَتَهَا (قَالتِ الجَارةُ: فِي مَساءٍ مَا، بِأنَّها كَانتْ تَضعُ قِرطينِ مِنَ الفِضةِ العَتِيقةِ، وَأنَّ أَحدَ القِرطينِ  كَانَ ثَقِيلاً فَاقتَطَعَ جُزءَاً مِنْ أُذُنِهَا حِينَ سَقَطَ فِي (الشَّريعَةِ) الَّتي كَانتْ تَغَسِلُ فِيهَا حَضَائنَ اِبنِ مَخْدُومِها الضَابطَ العِثمانِيِّ (3)".

هكذا يمضي القاص البصري الجنوبي محمَّد خضير بنسغ أسلوبه الوجداني الصوري الذاتي الساحر في وضع اللَّمسات السردية والتقنيات الفنيّة والجمالية لحكاية شخصية بطلة قصته الخادمة المرأة العجوز التي منحها منقبة جنيات الجنوب في إظهار شخصيتها وديمومة حركتها في جٍّو معماري بيئي يزدان بعناصر الطبيعة الجنوبية البَصْرِيَّةِ الغنَّاء. والتي أرَّخ ارتباط مكانها وزمانها إبانَّ العهد العثماني من خلال الشخصية الهامشية الضابط العثماني المتولي لأمر المدينة الجنوبية.

فالقاص البصري حين يقول في مفتتح مدونته القصية: (لكلِّ مساءٍ حِكايةُ. حكايةٌ واحدةٌ في أول المساء)، وتحديدا للزمن في بدء المساء، فهكذا تقصيص محدَّد يُحيلنا إلى أجواء تراث (ألف ليلة وليلة)وسحر تأثيرها على مخيال الكاتب، وبالذات حين يكون المؤثِّر إشارةً إلى مثيولوجيا شهريار وحكاياته الليلية الأسطورية مع شهرزاد بطلة الألفية، وإن اختلفت رؤى المضمون السردي لكلتا الحكايتين، لكنْ لكل مساءٍ أو ليلةٍ حكايةٌ، وأيَّةُ حكاية عذبة تنماز عن وقع مثيلتها السردية الأخرى؟

وللتدليل على فاعلية الأسلوب الغنائي، نقرأ بتأمُّلٍ ما كتبته القاصَّة الكربلائية المثابرة أمل حمزة خضير نصَّ قصتها (مُعاناةٌ) التي وردت ضمن مجموعتها القصصية (نَحيبُ المَقصَلَةِ) الدالة على  ثيمة عتبتها العنوانية الفنيَّة. ذلك النصِّ الذي هيمنت فيه ترانيمُ النّبرةِ الشعريَّة الأنوية على وقع خطى الّسَّرديَّة بأسلوبها الغنائي، والذي وظَّفت الكاتبة حكايته الواقعية على لسان فتاة تُعاني الوجع الإنساني الكبير. فجاء الخطاب النصِّي التسريدي مُعبِّراً عن تجلِّيات عتبته العنوانية الدالة على وظائفه الأربع التي وضعها (جيرار جينيت) له بمدونته، وهي:(التعينية، والوصفية، والدلالية الضمنية المُصاحبة، والإغرائية). فلننظر إلى ما تُسطِّرهُ هذه القاصة الواعدة بِجدَّة القصِّ القصير:

"خَرَجَتْ تَحتَ عَبَاءَةِ اللَّيلِ، تَوَجَّهتْ نَحوَ بَيتِ أَحدِ وُجَهَاءِ الحَيِّ وَأَغنِيَائِهِ،

وَانْتَظرَتْ طَوِيلَاً حَتَّى اِنطَفَأَتِ الأَنوَارُ وَأُسدَلَ الظَّلَامُ سَتاَئِرَهُ؛

أَسرَعَتْ لِمِكَبٍّ النِّفايَاتِ لِتَجمَعَ بَقَايَا طَعَامٍ تَسُدُّ بِهِ رَمَقَ أَيتَامِهَا (4)".

إنَّ ما يميز الأسلوبية الوجدانية لقصة (معاناة) أنَّ بطلتها امرأة من الوسط الاجتماعي الذي يعاني آثار الفقر والفاقة والحرمان الدائم. فهي على الرغم من ذلك العوز الطبقي تُغضي حياءً ومهابة خشية أن يفضح سرها الحالي ضوء النهار وتتكشف حقيقتها الإنسانية في شعورها بالعدم  وحاجتها في جمع النفايات من أجل أن تحيي بها آيتامها الذين ينتظرون عودتها لسدِّ رمقهم إثر الجُوع الكافر.

2- الأُسلوبُ الساخرُ المكينُ:

إيجاباً قد تنحرف بوصلة الأُسلوبيَّة القصصية المعاصرة عن حركة مسارها الإبداعي المألوف إلى خطِّ نَجْدٍ أسلوبي آخر أكثر نضجاً وتقدُّماً وجمالاً وبلاغةً في منظور الخطاب السردي؛ كون لأسلوب الانزياحي الدلالي الجديد يعتمد في بنيته النصيَّة الحدثية على فنِّ السخرية اللَّاذعة المُرَّة ولُغة التَّفكيهِ والانتقاد الحادِّ الذي يُشخِّص بدقةٍ غيِر مُباشرةٍ مواطنَ الخللِ البائن، وبواطن المقموع والمسكوت عنه من التابو السِّياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الدِّيني للواقع المعاش. كما ويستحضر فقاعات تمظهراته المُنتفخة، ويستجلي آثارَ سَقمِ عُيوبه المرضية المتفشية غير السَّويَّة.

تلك هي المصادر والأنساق الظاهرة والخفيَّة التي استأثرت باهتمام عين المبدع الثالثة وألقت بظلالها القصصية المثيرة على مرآة تفكيره العاكسة لصورها. مما كان لها في وعيه الثقافي وحسِّه الأدبي نصيبٌ وافرٌ وحظٌّ من صور الاستهجان والسخرية والتحقير والتصغير والرفض والاحتجاج في بلاغة خطابه السَّردي عبر أثير مجسَّات قصِّه اللَّاذع؛ لتتصيَّر صوراً كاريكاتوريةً و(إيموجية) حركية قصيَّة معبِّرة عن رفض هُويَّة الواقع المعيش، ومُعَرِّيَةً حقيقتهُ للخروج من عنق الزجاجة المقيَّد إلى واقع جديد حُرٍّ مُغاير في مِساحته التعبيرية لِجَلدِ ذاته الآيدلوجية المعطوبة بهذا الساخر.

فمثل هذا التسريد المائز عذوبةً في تركيبه اللُّغوي المكين يُسمَّى بالأسلوب الساخر في واقعيته السحرية، والذي يعشقه الكاتب النابه ويتبنَّاه موقفاً دفاعياً وسلاحاً هجومياً ناجعاً؛ كونه أسلوباً جزئياً نابعاً من شخصيته الوجودية التي تقدِّسُ الحريَّة والتَّحرُّرَ والاستقلالية. التي وجدت في هذا الأسلوب الفنِّي وسيلةً صوريةً نقديةً لاذعةً من خلال صناعة الضحك والاستهزاء المبطن لعيوب الواقع المُشين.

أسلوب السُّخرية، أحدُ أساليب العصرنة السردية الهادفة غير المباشرة التي تُظهر بأيقوناتها المعايب والهنَّات الأخلاقية والسلوكية المُستهلكة لحركة المجتمع وسير الأنظمة السيادية الحاكمة. واعتمدَت سخرية النسق القصصي على أسلوبيَّة المُحاكاة في معالجة الأمور المستعظمة الكبيرة، والتعريف بها من خلال آليات الأُسلوب الفنِّي الكاريكاتوري الذي يصل كثيراً إلى حدٍّ المبالغة والتسخيف والإذلال في إظهار صور المنق في إظهار صور المذموم أو المنقود بالصفات السلبية.

وقد يتَّخذ الحدث الموضوعي الأسلوبي القصصي الساخر من التَّنَدُّر وسيلةً من خلال التَّلاعب بالألفاظ وإناطتها معانٍ غير معانيها الأصيلة للنَيلِ من جوهر الحقيقة المغيَّبة والمسكوت عنها عمداً. ويحدث هذا كلُّه عبرَ إيجاز الفكرة وتكثيفها أو الإضاءة إليها، مما يُخرجها عن هدف موضوعها الحقيقي لمعناها الأصلي؛ لغرضٍ إصلاحها أو ترميمها عبر تسريد آليات الذمُ أو الهجاء المُقذِع بِها.

ومن نماذج مختاراتنا القصصية القصيرة الدالة بجمالياتها اللُّغوية السردية على فنيَّة هذا الأسلوب التهكمي الساخر قصة (مُحلِّلُ سياسي)، لِضَاري الغَضبان الذي يرصد فيها صورة عقابيل الواقع السياسي المعيش المرتهن بطريقةٍ ساخرةٍ مُؤثِّرةٍ ومستهجنةٍ، والذي وصل فيه هرم الفساد إلى رأس المُحلِّل السياسي نفسه، أي كاشفُ أُسَ الفسادِ فاسدٌ تحت مظلَّة المَستور المغيَّب. فلنتأمَّل التقاطات عدسة عين الغَضبان البَصريَّة وما تحكيه من مفارقات صورية عجيبة تُلامس حركة الحياة الجديدة:

" ظَهَرَ المُحلِّلُ الاِستراتِيجِي عَبرَ الشَّاشةِ عَلَى الهَواءِ مُباشِرَةً، وَهوَ أَنيقٌ بِبدلتهِ وَرَبطةِ عُنُقٍ حَمرَاءَ، وَقَميصٍ بَنفسجيٍ، وَكَانَ يَنتقِي كَلماتِهِ بِدِقَةٍ، وَخَلفهُ سِتَارَةٌ بِأَزرَارٍ جَميلةٍ بَراقَةٍ... تَكَلَّمَ عَنِ الاِستراتيجِيةِ وَالتَّكتيكِ، وَتَلاقِي الحَضَارَاتِ، وَتَلَاقُحِ الأَفكارِ، وَأَزمَاتِ المَاءِ وَالبِترولِ، وَنَبَّهَ لِمستقبلٍ غَامضٍ، وَحَذَّرَ مِنْ مَغَبَّةِ عَدَمِ الاِنتباهِ لِرُؤاهِ...

قِطَّةٌ مَلعونَةٌ سَوداءُ دَخَلَتْ مِن  خَلفِ المُحلِّلِ، فِي البَدءِ أَهملَهَا وَأَكمَلَ تِلاوَةَ رُؤاهِ التَّحليليةِ السِّياسيَّةِ؛ لَكنَّهَا دَارَتْ وَتَكَرَّرتْ حَركَتُهَا المُقلِقَةُ لَهُ، وَيَبدُو بِأنَّهَا تُطَاِردُ فَأْرَاً، فَأَزعجتُهُ بِتَحريكِ السِّتارَةِ، وَلَمْ تَنفعْ مُحاولاتُهُ بِمِسكِ السِّتارَةِ بِيَدِهِ، فَسَقَطَتْ وَبَانَ كُومُ القُمَامَةِ خَلفَهُ! فَاِرَتَبَكَ وَتَحَرَّكتْ الكَامِيرَا؛ فَظَهَرَ الرَّجُلُ دُونَ بِنطَالٍ ! وَبِلَا مَلابسَ دَاخليةٍ (5)".

ولا أدلُّ على فنيَّة التعبير الأسلوبي السردي الساخر المكين ما كتبه القاصَّ الساخر بامتياز محمَّد سيِّد كرم الموسوي في نصِّه القصصي الموسوم  بـ(تَبعيَّةٌ)، الذي تماهى فيه مُتندِّرَاً بأسلوبه الساحر الرصين مع واقعة الاقتصاد الوطني المحلِّي الذي لم يتحرَّر من قيود تبعيته الأجنبية الدَّوليَّة، والمقصودة موحياته السيميولوجية بتدمير بنيته الداخلية وتعطيلها من خلال عجز مدخلاته الداخلية، وربطه خارجيَّاً بتبعية مخرجاته. فلننظر بإمعانٍ إلى ما تقوله إضاءةُ السيِّد كرم الساخرة ونقرؤها:

" بَعدَ أَنْ أَكمَلَ الخَبِيرُ الاِقتصادي مُحاضَرَتَهُ، دُعِيَ إِلَى وَلَيمَةٍ، كُلُّ مَا فِيهَا مُستورَدٌ، بَعدَ سَاعَاتٍ أَخرجهَا مِنْ جُوفهِ صِناعَةً مَحليّةً بِامتيِازٍ (6)".

بهذه الروح الإنسانية الساخرة يؤطِّر السيِّد كرم ألفاظه ومعانيه الدلالية بصبغة انتقادية لاذعة في كسر توقُّع خطوط المألوف الاعتباري؛ لينتج منه رؤاه السردية لا لغرض الإمتاع والدهشة فحسب، بل لإصلاح منظومة الفساد وعرضها على المتلقِّي الواعي لمحاربة آفة الواقع المعطوب واجتثاثه. ولنأخذ صورة أخرى من صوره السروديَّة الماتعة، نصَّهُ(أولياءُ الخُبزِ)الذي حَمِلَ اسمَ المجموعةِ:

"يَوَم سَقَطَتِ الدَّولةُ بِضَربَةٍ جَويَّةٍ مَاحِقَةٍ، كَانَ يُشَاهِدُ النَّهبَ بِعَينٍ بَاكِيَةٍ وَيُردِّدُ: تَبَّاً لَكُم مِنْ لُصُوصٍ، لَدَى عَودتِهِ إِلَى البَيتِ، تَخَيُّلُهَ فَرَحَ أَطفَالِهِ بِرائِحَةِ شُواءِ الخُبزِ هَوَّنَ عَلَيِه ثِقلَ كِيسِ الدَّقيقِ عَلَى ظَهرِهِ(7).

3- الأُسلوبُ الدَّرامِي:

ومن أساليب القصِّ السَّردية الجديدة في أدبيات القصة العراقية المعاصرة الأسلوب الدرامي الذي لجأ إليه ثلَّةٌ من كُتَّاب الدَّراما المَهرةِ السيناريست، وغيرهم من أدباء القصَّة القصيرة ممن يجدون في هذا اللون من القصِّ مُفارقاتٍ كبيرةً ماتعةً. وذلك كونُ الأُسلوبُ الدِّرامي؛ هوَ أُسلوب تعبيري عن حقيقة (أدب المفارقات) القصصية التي هي أبرز المزايا الشعريَّة في السَّرد، والذي تكون فيه المقدِّمات أو مطالع العمل الأدبي القصصي تُخالف خواتيم النهايات في ثيمة العمل القصِّي الدرامي.

تلك النقطة الضوئية الصادمة التي تجعل من المتلقِّي أو القارئ للعمل الأدبي في  حيرةٍ من أمره حيال تلك الشخصيات القصصية الفواعلية المتحركة، الأمر المُحيِّر الذي يُلجِئ المتلقِّي إلى التفكير أو المشاركة الفاعلة بما ستؤول إليه الأحداث في العمل، وكيف تنتهي. ولذلك فإنَّ لفظة (الدراما) التي أخذت جذورها وأصولها الحقيقية من اللُّغة الإغريقية اللاتينية القديمة، تعني (الفِعْلَ) أو(العَمَلَ) الأدبي السردي القصصي المملوء فضاءً بشحنةِ التناقضاتِ الكثيرةِ التي تكتنفه فنَّاً إبداعياً جميلاً.

وتأتي أهمية الأسلوب الدرامي  من كون (الدراما) كفعلٍ حدثيٍ مؤثِّر تُمثِّل بؤرة الحدث القصصي المضيئة ومركز نواته الحقيقية اللَّافتة التي عرفتها شعوب الحضارات الإنسانية القديمة. على الرُّغم من أنَّها لم تضعها ضمن إطار فِّني مُعيَّنٍ بذاته؛ ولكن الأهمَّ في ذلك أنَّ الأسلوب الدرامي الذي ينتهجه القاصُّ بلغته الماتعة يهتمُّ اهتماماً كبيراً بالتفاعل الإنساني على أرض الواقع سواءٌ أكان ذلك التفاعل القصصي الدرامي كوميدياً (إيجابياً أم سلبياً)، وكما هو حاصل –إجرائياً- في الأعمال الدَّرامية التَّمثيلية والسينمائية لأشهر الأدباء السَّردة من القصاصين وكُتَّباب الدراما السيناريست.

ويؤكِّد الدكتور صلاح فضل أنَّ ما يعطي الأهميةً بميزةَ الأُسلوب الدرامي، هو ما أنْ "يُسيطر فيه الإيقاع بمستوياته المتعدِّدة من زمانيةٍ ومكانيةٍ مُنظمةٍ، ثُمَّ يَعقبهُ في الأهمية المنظور وتأتي بعده المادة (8)". ويضيف فضل في الوقت نفسه "أنَّه لا توجد حدود فاصلة بين هذه الأساليب، إذ تتداخل بعض عناصرها في كثير من الأحيان (9)". وأنَّ هذا التداخل الأسلوبي المتشابك هو ما يمكن أن نسلط عليه الأضواء الإجرائية الكاشفة لرؤاه الفنية والجمالية من خلال التطبيق العملي لنصوص الأسلوب الدرامي الذي أبدع في تقصيص تسريده ثلةُ من الكُتَّاب المائزين.

ومن نافلة القول التبصيري، أنَّ ما يُميِّز أساليب السرد الأربعة في القصِّة العراقية القصيرة، أنَّها فعلاً أساليب مُتجدِّدة ذاتَ بنىً لغويةٍ غيرِ ثابتةٍ، وغيرِ نمطيةٍ في تخليقها السردي الحكائي، فهي تتبَأورُ في بوصلتها الاتجاهية مُنفحةً تارةً على الشعر في غنائيتها الذاتية، وتارةً أُخرى تنصرف في تجلياتها الأسلوبية إلى الفنِّ البَصَرِي الحركي الدرامي التمثيلي، وتارةً ثالثةً تظهر في أدبيتها الإنسانية السيرة الذاتية لبطلها الحقيقي الأديب الكاتب أو بطلها الرمزي الراوي العليم في تحاكيه وتشاكله الوجداني مع المروي له، وتارة رابعةً تلتحم في أسلوبيتها الإنتاجية السردية اللَّاذعة مع فنيَّة التعبير التهكمي الساخر المحبَّب إلى النفس وسيلةً وغايةً في كشف آفاق عقابيل المحجوب من المستور عن هُوية الآخر السلبي الذي يشكل بؤرة الحدث الساخر بطريقةٍ فنيَّةٍ سلسةٍ وغير مباشرةٍ في التصدِّي لجذامير آفة الفساد الذي يَمخرُ عُباب الحياة المجتمعية.

ومن يتأمَّل نصَّ القاص السومري إبراهيم دكس الغراوي (بيتُ الوجعِ) الدالة موحياته الإشارية على متن نصِّه الموازي الرئيس، والذي جاء ضمن مجموعته القصصية السومريَّة(سفنٌ ورياحٌ)، سيلحظ فنيَّاً تمظهرات الأسلوب الدرامي بصور مختلفةً وبشكلٍ مُتجلٍ في مفارقاته الفاعلية والفعلية ووحدته الزمكانية المحدَّدة بزمانٍ ومكانٍ مُعينٍ ما كما يحلو لـ(رولان بارت) أن يُسميها في تنظيره. تلك المفارقات الحركية التي كانت أكثر تأثيراً وتجلِّياً في خاتمة قصته التي اخترنا سطورها الآتية:

"رَفَعَ رَأسَهُ قَلِيلَاً، لَملَمَ أَذيَالَ ثَوبِهَ، سَكَتَ وَأطَالَ السُّكُوتَ، تَلَقَّفنَا فُرصةَ سُكُوتِهِ لاِستذكَارِ مَا أَسقطَهُ القَلَمُ مِنِ الكَلَامِ سَهوَاً. ولكنَّ آهةَ الرَّجُلِ الَّتي خَتَمَ بِهَا ذَيلَ لَوحَةِ أَقوالِهِ شَدَّتنَا إِليهِ ثَانِيَةً لِنُكمِلَ مَا قَدْ يُضيفُ قَالَ: -الشَّيءُ الَّذي يُرعُبُنِي يَا سَادةُ أَنَّ أَحفادِي الأيتَامَ، وَلِحَدِّ الآنَ يَتَعَامَلُونَ فَيمَا بَينَهُم كَأَضدَادٍ رُغمَ أَنَّهُم تَحتَ سَقفٍ وَاحِدِ...(10)".

والرائي بعين ثالثة لدلالات هذا التقصيص الختامي، سَيجسُّ ما وظَّفه الغراوي من تناقض فنِّي عجيب بين تصرقات هؤلاء الأحفاد الحدثية، وموقفهم الشعوري المتضاد حيال بعضهم، على الرُّغم من  أنَّهم يَقبعونَ تحتَ مظلةِ خيمةٍ، وهذا يشي بأنَّ الخلاف مهما كانت حركته الدَّرامية لا تمنع من تعدُّد الآراء وتباين المواقف، وكأنَّهم طيفٌ من الأجناس الإثنية والمذهبية يجمعهم وحبُّ طنهم الكبيرٌ العراق الواحدٌ.

ونذهب إلى بصمة كاتب آخر للبحث عن وقع تجلِّيات أسلوبية القصِّ الدرامي وجماليات تناقضاته الفنيَّة المؤثِّرة عند القاص البَصْري جابر خليفة جابر في مشاهد قصته (الحِصانُ قَائدُ العَرَبَةِ)، والتي جاءت ضمن مجموعته الفكرية الفلسفية (زَيْدُ النَّارِ) التي جسَّد فيها واقعة الحدث الدرامي تجسيداً حركياً متنامياً في مشاهده التصويرية التي تبعث على التأمل والاستغراق المعرفي لرؤى المفارقة:

" قَذَفَتنِي الصَّدمَةُ بَعِيدَاً عَنِ الحُوذِي وَعَنِ الخِزَانةِ الخَشبيَّةِ الَّتي رَأيتُهَا تَتَدَحرَجُ مُتَهَشِّمَةً مَعَ العَرَبَةِ والحِصَانِ وَأعدادٍ مِنْ حَيوانَاتِ السَّيركِ وِالأحصنَةِ الصَّغِيرةِ تَتَساقطُ مِنْهَا مُتدَحرِجَةً عَلَى المُنحدَرِ، بَينَمَا شَرَعَتُ رُغمَ آلَامِي وَرُضوضِي فِي صُعودِ السَّدَّةِ ثَانِيَّةً، وَفِي نِيَتِي شَرِاءِ خِزَانَةٍ للتَّخَلُّص مِنْ مَلَابِسِي(11)".

فجابر كان حريصاً في تقفيله الختامي المماهي لواقعة الحدث السحريَّة على تخليق مفارقة تناقضية درامية تشدُّ المتلقي للتفاعل معها، وكأنكَ أمامَ مشاهدَ مسرحية تتحرك فيها الفواعل الشَّخصية والفعليات.

وللأسلوب الدرامي حركته الفعلية الحدثية النابضة بالإثارة، وأثره التوقُّعي التعبيري الفنِّي التصويري الشاعري الذي يُضفي على حركية التمثيل في الخطاب السَّري قوةً سحريةً وجماليةً مذهلةً تلقي بظلالها الوارفة تأثيراً إبداعياً مباشراً في نفس القارئ والمتلقِّي وتحمله على التواصل البصري والرؤيوي في الإمتاع والمؤانسة والأبداع والإتباع.

وهذا الأفق الجمالي الدرامي نجد انثيالاته الأسلوبية في نصِّ قِصَّةِ(لصُّ الأبواب المواَرِبَةِ) للقاص والكاتب والسيناريست الجنوبي الميساني ضاري الغضبان، وتحديداً في مجموعته الواقعية الساخرة (نَادِي الُحفَاةِ) التي تمثِّل أُنموذجاً واقعياً لرؤيا المدينة الفاضلة، الفائزة بالجائزة الثانية في مسابقة الطيِّب صالح الدولية العالمية للكتابة عام 2021م في السودان، فلنقرأ خاتمة هذه القصة الماتعة:

" وَمَعَ بَرقٍ شَدِيدٍ أَمطَرَتِ السَّمَاءُ، وَهوَ يَبتَعَدُ أَكثرَ نَحوَ ضَوءِ الفَجرِ الَّذِي يُقَاوِمُ حُلُوكِ الغُيُومِ، بَدَأَ يَتَبَلَّلُ، بَينَمَا اِنحَدَرَتِ المَفَاتِيحُ مِنْ تَحتَ المِعطَفِ تَتَسَاقطُ عَلَى الرَّصِيفِ بِالتَتَابُعِ، وَلَمْ يَتوقَّفْ لِجِمعِهَا؛ بَلْ اِبتَعَدَ مُبَللاً وَمَفَاتِيحُ فَتحِ الأَبوابِ المُغلَقَةِ تَتَناَثرُ خَلفَهُ وَيُغَطِّيهَا المَطَرُ المِدْرَارُ(12)".

هكذا يُصوِّر ضاري الغضبان –درامياً- ضبط إيقاع مشاهد شخصيته بطله اللِّصِ ويرسم مسار حركته، ويهبها أرفع صورة درامية جمالية مغايرة لنسق نظائره اللُّصوص الأُخر. فهو لصٌّ موسوم بعلامة الأبواب الموَارِبَة لا المُغلقة المؤصدة. واللَّافت أنَّه ينمازُ بخصالٍ وقيمٍ أخلاقيةٍ وسلوكيةٍ لصوصيةٍ فيها من الالتزام المبدئي المُغاير، حيثُ المروءةُ والإقدامُ والإحجامُ والبسالةُ والتأثُّر، على الرُغم من سلبيته اللصوصية الممقوتة.

4- الأُسلوبُ السِّيري الذَّاتي:

من بين الأساليب الأدبية المهمَّة التي هيمنتْ إبداعياً بفضاء تمظهراتها الفنيَّة الرائدة على فن السرد النثري، الأسلوب السِّيري ذو الطابع الأدبي الحكائي القصصي أو الروائي الذاتي. وإنَّ هذا الأسلوب هو الذي يقترب فيه الكاتب أو (السارد) كثيراً إلى ما يسمَّى بـ(اليوغرافيا الذاتية)، والتي تُعنى بفن سرديَّات الكاتب أو الشخص لسيرة حياته الأدبيَّة كاملةً أو اقتطاع جزء منها بشكلٍ فنَّي يوظَّف فيه آلياتات وشرائط وتقنيات وعناصر الفن القصصي أو الروائي الحديث الذي يلفت الأنظار بجماليات تسريده الحكائي المُتقن وسحر تأثير لغته المحبَّبة إلى نفس القارئ والمتلقي النابه العليم.

فإذا كان الأُسلوب في القياس اللُّغوي المُعجمي يعني معناه، الطريقة أو السُّنَّة أو المذهب أو المنهج الإبداعي اللُّغوي الذي ينتهجه الكاتب في الحياة الأدبيَّة، فإنَّ مصطلح (السِّيري الذاتي) في واقع الأمر يصعب وضع أو تحديد تعريفٍ اصطلاحيٍ دقيقٍ أو ثابتٍ لهذا اللُّون الأدبي السردي؛ لكونه أكثرَ الألوان أو الأساليب الأدبيَّة مرونةً وشفافيةً وتأثيراً من الأساليب الثلاثة الأخرى، وأقلَّها وضوحاً وبياناً. فهو في الأعمِّ الأغلب إمَّا أن يتراوح -طوليَّاً وعُرضيَّاً- ما بين تقنُّع الكاتب أو السارد أو الراوي العليم للحكاية بسرد للأجزاء الخاصَّة بحياته الذاتية والأدبيَّة، أو بعرض وتوظيف وتوثيق كُلِّي ليومياته الشخصية أو اعترافاته الأوغسطينية ذات الطابع الشخصي البَاتِّ للمروي له.

والكاتب القاصُّ أو الروائيّ في هذا النوع الكتابي الأدبي الذي يجمع في مكنوناته السرديَّة بين مدخلات الإيجابي والسَّلبي قد يعترف بمدوناته القصصيَّة التسريديَّة بجملةٍ من الأخطاء والهنّاَت أو الهفوات التي ارتكبها في مرحلةٍ ما، أو مراحل حياته الزمنيَّة. والتي أخذت منه مأخذاً نفسياً كبيراً في توجيه بوصلة مسيرة حياته الذاتية نتيجة عوامل داخلية وخارجية مؤثِّرةٍ كبيرةٍ كان لها الوقع المباشر في بناء وتأسيس أو هدم شخصيته الوجودية الذاتية، (أكون أو لا أكون) في حلبة التحدِّي.

وحين نبحث عن أصول مصطلح فنِّ( السيرة الذاتي) في أبجديات اللغة الإنكليزيَّة، نجدُ أثر أصوله الحقيقية تُشيرُ إلى اليونانية أو اللَّاتينية، والتي تعني في أقرب معنىً لها، هو مفردات المعنى (الذاتي أو الحياتي أو الكتابي)، والتي أشرنا لها مسبقاً بكيفيَّة سرد الكاتب أو الأديب أو الشخص لجوانب مختلفة من قصَّة حياته. ولعلَّ مثل هذه الأصول تُحيلنا إلى الإشارة إلى أنَّ أوّل من عكف على استخدام وتوظيف مصطلح السيرة الذاتية تطبيقاً، هو الكاتب والسفير الدبلوماسي والعسكري الأمريكي المعروف في الأوساط الدَّوليَّة(وِليام بي. تَايلور جُونيور). والذي كان قائداً عسكرياً  في جيش الولايات المتحدة الأمريكية إبّاَن حرب فيتنام، والحائز على وسام النَّجمة الذهبية لهذه الحرب الدَّولية كما تشير وقائع سيرته التعريفية والمهنية الدبلوماسية في مواقع شبكة المعلوماتية.

وعلى الرغم من كلِّ ذلك، فإنَّ استخدام مفهوم مصطلح (السِّيرة الذاتية) مسجَّلٌ كما تُشير  الدوريات الأنكليزية بواسطة الكاتب( روبرت ساوذي) عام 1809م بمعناها الحالي المعروف الذي أخذ اسمها فقط في بدايات القرن التاسع عشر. وتُشير صحائف المرويات والأخبار التاريخية إلى أنَّ أوَّل شخصٍ كتب سيرته الذاتية مدونةً تعود زمنياً وجذرياً إلى أُس العصور التاريخيَّة القديمة.

وعلى وفق تلك الأصول التأسيسيَّة، فإنَّ مفهوم مصطلح السيرة الذاتية تطوَّر تطوِّراً كبيراً في أبجديَّات الفنِّ الكتابي من مفهوم محتواه الأصلي إلى المحتوى السَّردي الأدبي القصصي الأكثر نضوجاً واتساعاً فنَّاً وبلاغةً في عملية الإبداع والابتداع الكتابي النوعي.

والفرق كبير بين اللَّونين، أنَّ الأُسلوب السيري الذاتي يستعرض حياة كاتبه الأدبي بشكلٍ لافتٍ مُنذ لحظة التكوين الوجودي الأول لخليقته الذاتية على الأرض. في حين يعتمد كاتب السيرة الذاتية بشكلٍّ عامٍ في مدخلاته ومخرجاته السِّيرية الفنيَّة على مجموعة كبيرة من الوثائق والمستندات وعلى بيانات وجهات النظر. كما ويعتمد كذلك على أفق ذاكرته الفكرية في تدوين وتوثيق سيرته الأدبية الذاتية، كمال هو الحال في مذكَّرات عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الأدبية في كتابه المجَزَّأ بأجزاءٍ مُتعدِّدة (الأيام). وقد تكون السيرة الذاتية اعترافات محضةٌ مثل اعترافات القديس أوغسطين.

ويبدو لي أنَّ هذا اللون الكتابي من المذكرات السِّيريَّة، والذي يرتبط ارتباطاً كبيراً بفنِّ السِّيرة الذاتية يُركِّز كثيراً على هُويَّة الآخر المَروي عنه، في حين يقلُّ تركيزه السِّيري على بؤرة الذات خلال استعراضه التوثيقي لآفاق مسيرة حياته الشخصية. في الوقت الذي يبذل فيه الكاتب أو الرائي السردي جهداً كبيراً في تواتر قصِّه الحكائي، ويتوخَّى فيه الدقة الموضوعية لواقعة الحدث السردية.

وقد يكون توظيف الذات السيرية بشكلٍ مغاير فيه من إشارات التمويه الفنِّي والتعمية الرمزية والتقنُّع الإشاري في الارتباط بواقعه التاريخي والاجتماعي والثقافي والزمني؛ وذلك من خلال تتابع فنيَّة الاستباقات والتأخيرات الهندسية لوحدة الحدث في كتابة التسريد الذاتي أو ما يُسمَّى بتقنية (الاستقدامات والاسترجاعات)التي يتناول فيها الكاتب إنتاجه السردي عبر أثير تلك التقنيات الحديثة التي توجز جانبا ً مهمَّا ً وكبيراً من أثر حياته السِّيرية المُتراتبة إلى أحضان القارئ والمُتتبع لنتاجه.

هذا هو التباين السردي الواضح بين المفهومين، الذي جعل الفرق جليَّاً وكبيراً بين الأُسلوب الأدبي لفن السيرة الذاتية وفن كتابة المذكَّرات. والأسلوب السيري الذاتي يركِّز في مروياته الحكائية القصصيَّة على حياة الكاتب، ويُسلِّط الضوء ارتباطياً على زمكانية العصر الذي عاش وترعرع فيه جذريَّاً ووجوديَّاً؛ كونه المنبت الأصلي لتاريخه الحياتي الأدبي. في الوقت الذي نجد فيه أسلوب سرد المُذكِّرات النثري أقلَّ تركيزاً؛ ولكنْ أفقه الكتابي أكثر اتساعاً وحميميةً في توظيف سريان مذكَّراته وسهولة جريان مشاعره وأحاسيسه وخلجاته وحرارة دفء تدفق عواطفه الذاتية بِيُسرٍ وتساوقٍ فنِّي.

ومن بين النماذج الإبداعية الجميلة للتدليل على خاصية وقع الأُسلوب السِّيري الذاتي مجموعة (وطن عيار 7.62 ملم) القصصية للكاتب والإعلامي والقاصِّ المثابر محمَّد الكاظم الحائز فيها على جائزة الطيِّب صالح  العالمية للإبداع الكتابي عام 2013م في السودان. فلنقرأ بإمتاع شديد أولى بواكير هذه المجموعة قصته التي وسمها بالعنوان اللَّافت والمثير بتركيبه السردي للتفكير والتأمُّل، (سيرةٌ غيرُ ذاتيةٍ لِمؤلِّفِ الكِتَابِ وقُرَّائهِ)، والتي ينشرُ فيها الضوء مضيئاً على جانب كبير من محطَّات حياته الشخصية المحتدمة، وينقل فيها معاناة شعبه الآسر وفوران وطنه الجريح العراق بلغة الراوي بضمير المتكلِّم المباشر على غرار ما يتحفنا به الجاحظ في بيانه وتبينه،(إنَّ الكلمةَ إذَا خَرجَتْ مِن القَلبِ وَقَعتْ فِي القَلبِ، وَإذَا خَرَجَتْ مِنَ اللِّسانِ لَم تَتَجاوزْ الأُذنينِ). فلنرى ما يقول:

" اِثنَا عَشَرَ بَلَدَاً حَمَلْتُ حَقَائِبِي إِليهَا بِرَغبَةٍ مِنِّي أَحيَانَاً، وَبُدونَ رَغبَةٍ أَحيَانَاً أُخرَى، كَانَ الوَطَنُ يُرافِقنِي فِيهَا مِثلُ عُيُونِ أُمِّي، لَكِنَهُ لَيسَ الوَطنَ الَّذِي تَركتهُ يَرتَدِي ثِيَابَ الخَاكِي ، وَيَتَنَاوَلُ صَمُّونَ الجَيشِ والبَارودَ وَالبَيَانَاتِ العَسكريَّةَ عَلَى الفُطُورِ، َويَأكُلُ لَحم َالمُوتَى عَلَى الغَدَاءِ. وَيتَعَشَّى بِمَا تَبَقَّى مِنْ جَسَدِ الوَطَن (13)".

على الرُّغم من اللغة الشاعرية الرصينة التي كُتِبتْ بها سطور هذه الدفقة السيرية الأثيرة، فإنَّ ما يلفت النظر في توصيف سرد الكاظم القصصي التوثيقي طيَّات سطوره الوطنية النارية الملتهبة غلياناً وحنقاً، والنازفة ألماً ويأساً ومرارةً وارتكاساً ونكوصاً على ما آل إليه واقع الشعب الاعتباري المُعاش. ذلك الجرح الذي اختلط فيه الهمُّ الذاتي الفردي الخاص بأنَّات الوجع الجمعي الوطني العام، وامتزجت فيه مشاعر الهجس الجزئي الذاتي بالحال الشعبي الكُلِّي الوطني. فأيُّ وطنٍ هذا العراق؟!

فكانت التقاطات عدسة القاص الصورية صادقة الرؤى في التعبير عن مشاهد وصور عسكرة المجتمع العراقي إسبارطياً في حقبة زمانية ما، تعدُّ من أصعب حقب تاريخ العراق المعاصر والحديث دمويةً من حكم النظام البعثي البائد الذي تسيَّد البلد ثلاثة عقودٍ ونيفٍ من السنين العجاف الخاليات من الفرح. سنون الوجع التي يشعر فيها المواطن بعدمية وجوده الإنساني المسيَّر لا الحُّرِّ الذي مضى حياته أسيراً حَسيراً كسيراً يعيش دوامة نفقٍ مظلمٍ في بلدٍ ليس فيه بوادر الرخاء والأمل المنشود سوى الموت وجعجعة الحروب. ورغم كلِّ ذلك يبقى الوطن رفيقاً للدرب كعيون الأُّمِّ حُنُواً.

وفي جانب قصصيِّ سيري أخر لِهمِّ الذات من التقاطات محمد الكاظم الصورية عن آثار وجع الحصار الاقتصادي الأمريكي الذي ضرب الاقتصاد الوطني العراقي وجوَّعَ أبناء الشعب إبَّان حكم النظام الجائر. الأمر الذي أودى بانهيار منظومة القيم والأخلاق وتفتيت وحدته المجتمعية المتماسكة وحمل المواطن على أن يتنازل عن بعض مبادئه السامية، ويُضحِّي بقيم ِعرضهِ وشرفه وعزة نفسه من أجل أن يسدًّ رمق جوعه وعوزه وفقره؛ لأنَّ الجوع ظالم لا يعرف المبادئ والقيم والأخلاق. وحكاية الحصار التي استمرت أكثر من عقد من الزمن تتحدث عنها قصَّة محمد الكاظم الدالة على عنوان رمزيتها السِّيريَّة العميقة،(من أين يأتي الموزُ يا تشيكيتا ؟)، والتي يجسِّد فيها الصور سارداً:

"اِفتَرَسَتْ وَجهَهَا الصَّغيرَ عَلامَاتُ اِنكِسَارٍ ذَليلَةٌ وَبَدَأتْ تُرَدِّدُ كَلماتٍ مُبَعثَرَةً مُتَلَعثِمَةً اِستطَعتُ أَنْ أَفهَمَ مِنْهَا إِنَّها مُسْتَعِدَّةٌ لَأَنْ تَنَامَ مَعِي مُقَابلَ عِشَاءِ الأَولادِ. وَفَهِمْتُ أَنَّ لَونَ بَابَ بِيتِهَا أَزرِقٌ مَكتُوبٌ عَلَيهِ يَا اللهُ (14)".

ونفهم من عبارات الكاظم السردية التي تحبس الأنفاس حياءً، وتُقطِّع نياطَ القلب مَهابةً وتُدْمِي علائقه الروحية وجعاً، تلك التي يتحدث فيها عن حال لسان بطلته المرأة العجوز رائياً سردياً  حكيماً شاهداً على جور العصر، وَراوياً سِيرياً عليماً بسيرته لقرائه. ونفهم منه بجلاءٍ في تفكيكنا الدلالي الفني لشفرات مرموزاته السِّيرية أنَّ (الافتراس) صفة دلالية وحشية اختصت بها المخلوقات الحيوانية البهائم لا الإنسان العاقل الذي تظهر عليه أُمارات التشظي والتبعثر والتلعثم نتيجة الشعور بالحياء والخوف والتردُّد من أمر جللٍ يداهمه بغتةً أو قصداً. وأنَّ الجمع التوحُّدي بين ثنائية التضاد في الصفات العقلانية وخلافها البوهيمية أمر ليس بالسهل اليسير، وما يُلقَّاه إلَّا قاصٌّ سيريٌّ مكينٌ.

ونفهم من دالة (النوم) مقابل ثمن عشاء مع الآخر الفاسد الفاجر، انتهاكٌ للشرف الرفيع وعدوان على حرمة التابو المقدَّس للمرأة الحَصَان. ونفهم من دالة اللون (الأزرق) أنَّه لون سماوي محبَّب من ألوان الطبيعة المتحركة والثابتة. ونفهم من دالة لفظ الجلالة (الله) أنَّ البيت تحفُّه رعاية الله وتحرسه ملائكة الذات الإلهية العظيمة، فكيف يُدنَّس بالعار القميء والذُّل والانكسار وينتهك الشرف العزيز؟! بهذه اللغة الحكائية القصصية الجميلة والأُسلوب البلاغي الرفيع تُصنع السِّير الذاتية الفردية والجمعية وتنتج أدبياً وفنياً لينتفع بها القارئ ويتمتَّع المتلقي بمحتواها الدلالي الفنِّي الجمالي.

وبأسلوب سيري صادق التعبير، وحسٍّ إنساني ذاتي عالٍ كبير التقدير ينقل لنا في سِفرِ مجموعته القصصية (الثلاثيةُ الأولى) القاص والروائي العراقي المغترب جُمْعَة اللَّامي شذراتٍ ضوئية متفرقة من تاريخ حياة سيرته الذاتية. تلك الدفقات الروحية الشخصيَّة التي يُصوِّر فيها مشاهد من انتمائه الفلاحي الطبقي الجنوبي في قصبةٍ من قصبات نشأت طفولته الأولى قضاء الكحلاء التابعة لمدينة العمارة السومريَّة. حيث مرابع  الوطن الصغير والأهل والأحبَّة وأصدقاء العمر والرفقة الخلَّان.

ويستحضر اللَّامي حكائياً تأثيرات مرابع أطلال منبت صباه على طفولته النقيَّة البيضاء حين يوثّق بحبٍّ أجزاء مبثوثة من سيرته الطفولية الأولى متماهياً مع عناصر الطبيعة الريفية الساحرة لهذه القصبة الصغيرة ومدوناً لمرويته الرمزية شخصية أخته (مريم بنت مطر) التي كانت حاضنته الطفولية مثل والدته الفقيدة، فيرسم فنيَّاً وجماليَّاً في معمار هندسة أقانيم قصته صورَ الأُمِّ الرؤوم الشفوق العطوف الدائم. ويكتب بشغف الملهوف عنها بلغة الراوي العليم بأسرار قصته السيرية نثاً:

"ضَمّتنِي مَريمُ بِنتُ مَطَرٍ إِلَى صَدرِهَا، فَاستَروَحتُ عِطرَ أَزاهِيرِ الهُورِ، وَسَمِعتُ صَمتَ مَاءِ الكَحلاءِ، وَنَادتنِي قُبرَاتُ حُقُولِ الحِنطةِ، وَالتصقَ فِيَّ عُمقُ قَلبِي حَنينِ النِّياقِ، بَينمَا كَانتِ الأَرضُ صَفراءَ مِثلَ ذَهبِ جَداتِنَا، وَالسَّماءُ زَرقاءَ صَافيةُ مِثلَ قُلُوبِ عَذرَاواتِنَا. مَريمُ بِنتٌ مَطرٍ، هيَ أُمِّي. وَإذْ أستعيدُهَا الآنَ مِنْ حَضرةِ المَوتِ، لَأتحدَثَ عَنهَا – يَا شَقيقةَ رُوحِي- فِي حضرتِكِ فَلأنَّ رُوحَهَا حَلَّتْ فِيكِ، فَأنتِ الآنَّ- أُمِّي وَحَبيبتِي وَأُختِي، وَأَنتِ سَمَائِي الَّتي ألتحفُ، وَأَرضي الطَّهورُ الَّتي أتوسَدُ، وَأَنتِ بَساتينُ الرِّضَا وَغَاباتُ الشَّوقِ الَّتي لَا تَفْنَى(15)".

فجمعة اللَّامي في تلابيب قصته هذه يجمع في نصِّ محتواها الَتقنُّعي البسيط بين حميمية ثنائية لأسلوبين الغنائي الوجداني، والسيري الرمزي الذاتي كلَّ عناصر الجمال الفني وتقنياته السردية. فالإيجاز اللغوي، والتكثيف الاقتصادي الدال على جلال المعنى، ورمزية موحياته القريبة والبعيدة، وعنصر الدهشة والإمتاع، وإنسيابية شعرية عذوبة الأسلوب، وعمق وحدة الحدث الموضوعية المرتبطة شخوصه بزمان ومكان محدَّد ما، كلُّها عناصر أساسية مهمَّة التزم بها الكاتب لكي يمنح قصَّ السرد الحكائي السيري جاذبية القبول، وحسن الرضا لدى المتلقِّي الواعي أكان قارئاً أم ناقداً؟

ولم تقتصر إضاءات الكاتب السيرية في توثيقه الواقعي لمراحل من حياته الشخصية عن جذور سنين طفولته الذاتية فقط، بل تحدَّث راوياً من خلال شخصيات أبطال الرئيسة والثانوية والهامشية  عن مدينته الأُمِّ العمارة وعن أحداث متفرقة في بغداد الأزل وفي معتقل السلمان بالسماوة، وعن الرمادي الغربية وخارج حدود الوطن الكبير، لبنان وسوريا ومدن وعواصم كبيروت ودمشق الشام.

وَنُحَلِّقُ في تأملاتنا الفكرية ممعنين النظر مليَّاً في قصة (وحيداً في ليلة النسيان) للقاص والروائي حسين محمَّد شريف، والتي حملت عنوان المجموعة القصصية ذاتها، يُحاول الكاتب في دهاليز هذه القصة الدالة على سمة عنوانها الدلالي أنّ يجمع بين الواقع والمخيال السردي الأسطوري. ويسعى بوضوح إلى أن يتعرَّف القارئ على أشياء كانت مبهمةً غامضةً في مسيرة حياته. وفي مثل هذا اللون يمكن للقارئ أنْ يُميِّز من الذي كتب السيرة القصصية الأدبية، هل هو الكاتب ذاته أمْ بطل قصته المحكي(الرمزي)؟ومثل هذا النموذج  نقرؤه للقاصِّ في ثنايا سطور قصته هذه مُجسِّداً القول:

" كَانَ رُكوبُ الحَافلَةِ بِلَا نَوافِذَ أَيسرَ مِنْ هَذَا الرُّكُوبِ الَّذي كَادَ أَنْ يُوقِفَ قُلُوبَنَا فِي وَسَطِ بَحرٍ مُتَلاطمٍ هَائِجٍ، وَمَعَ آلافِ القَوارِبِ عَلَينَا الوُصُولُ إِلَى اَللَّا أَينَ، وَكَانَ القَائِدُ مَسؤولَاً أَمامَ المَلَأِ هُناكَ عَنْ الإخفاقِ بِالوصُولِ؛ لِأنَّهُ لَو صَارَ ذَلِكَ لِتَعَيَّنَ عَلَى القَائدِ العَودةُ إِلى السَّاحلِ مِنْ جَديدٍ لِقِيادةِ قَاربٍ آخرَ حَتَّى يَصلَ دُونَ فُقدانِ أَيِّ مِنْ زُمَلَاءِ الرِّحلةِ.الأنَ فَهِمتُ لِمَاذَا رَفَضَ الشَّيخُ قِيادةَ القَاربِ ؟ وَقَدْ فَهِمتُ أَيضاً بِأنَّهُ ذُو خِبرَةٍ بِهَذَا المَكَانِ بِناًءً عَلَى رُدُودِ أَفعالِهِ تُجاهِ كُلِّ شَيءٍ هُنَا (16)".

إنَّ موحيات هذا التسريد السيري الأدبي التي يرويها بطل هذه القصة والتي يقف وراءَها مُتَقَنِّعَاً بِماسكِ التَّمويهِ والتَّغطيةِ العمياء الكاتبُ نفسُهُ الذي ركب البحر برحلة المجهول نحو التِّيهِ، والتي رمز لها بالوصول إلى نقطة (اللا أينَ)، بؤرة التلاشي والضياع أمام ثُلة من المُهرِّبينَ محترفي الطريق في المخادعة والنصب والاحتيال المادي الذي راح ضحيته آلاف المهاجرين الفارين من  جحيم جور حكَّام بلادهم، ومثل هذا القصِّ التسريدي ما هو إلَّا أجزاء من محطَّات سيريَّة واضحة.

ونخلص القول في الخروج إلى نافلته في الإشارة إلى أنَّ الأدبيات الأسلوبية لكتابة فن السيرة الذاتية الأدبي تؤكد بجلاء منقطع النظير أنَّ كاتب السيرة الذاتية في مدوَّناته القصصية الجمعية قد يجمع فيها أكثر من أسلوب سيري هادف المحتوى الحكائي والفنِّي، على الرغم من أنَّ لكلِّ كاتب أوقاصٍ أو روائيٍ مبدعٍ أسلوبهُ الفنِّي التعبيري النثري الذي يُميز خاصية معجمه السردي الذي عُرِفَ بهِ عن نظائره الآخرين من الكُتَّابِ والأُدباء المبدعين في حداثة المشهد السردي المحلي والدولي. وأنَّ التعددية الأسلوبية الموضوعية في الكتابة ليس عيباً أو وصماً مخلَّاً ينال من شخصية الكاتب الأدبية المعروفة، وإنَّما هي دليل فكري  وإبداعي يوشم مقدرة المبدع الأمكن عن العاجز.

ووفقا لما تقدّم من قراءات تأملية في نقد أساليب سرديات القصة العراقية الحديثة، ولا سيَّما القصة القصيرة، والقصيرة جدَّاً أس حداثة الأدب الوجيز نثراً وشعراً يبقى الأسلوب الذاتي للكاتب سواء أكان معجمه السردي وجدانياً غنائياً أو تهكُميَّاً سَاخراً أو درامياً تمثيلياً بَصريَّاً أو سيرياً أدبياً، هو العلامة الفارقة في الحكم على المُبدع، وهو الموجِّه الفنِّي الإبداعي والشاخص الأميز للكاتب.

وتبقى في الوقت ذاته قدرة الكاتب الرائي التعبيرية وامتلاكه لأدواته اللُّغوية الثرَّة التي هيَ سلاحه الأسلوبي في مستوياته المعرفية الابستمولوجية في بناء تراكيبه الجُملية السليمة وتدفق عباراته النظمية القويمة،هي الفيصل الحقيقي للمنتج السارد الذي يُمسك بتلابيب النص وينسج خيوط عباءته.

***

د. جبَّار ماجد البَهادلي

........................

هَوامشُ الدِّراسة

1- د. صلاح فضل، أساليبُ السَّردِ فِي الِّروايةِ العربيَّةِ، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق سورية، ط 1، 2003م، ص 9.

2- حنون مجيد، وَردةٌ لِهذا الفُطُورِ، دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد- العراق، ط2، 2019م، ص 58.

3- محمَّد خضير، المملكة السوداء، وزارة الثقافة والإعلام، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد- العراق، ط2، 1986، ص 113.

4- أمل حمزة خضير، نحيبُ المَقصلةِ، دار الوارث للطباعة والنشر، كربلاء- العراق، ط 1، 2020م، ص 31.

5- ضاري الغضبان: رهانُ العقابيلِ، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكُتَّاب في العراق، بغداد- العراق، ط 1، 2022م، ص 22.

6- محمَّد سيِّد كرم الموسوي: أولياءُ الخبزِ،، منشورات اتَّحاد أُدباء وكُتَّاب ميسان، مطبعة أشرف وخلدون، العمارة- العراق ، ط 1، 2022م، ص 54.

7- المصدر السابق نفسه، ص 7.

8- د. صلاح فضل: أساليبُ السَّردِ فِي الِّروايةِ العربيَّةِ، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق سورية، ط 1، 2003م، ص 9.

9- المصدر السابق نفسه، ص 10.

10- إبراهيم دكس الغراوي: رياحٌ وسفن، مطبعة سراج، النجف الأشرف-  العراق، ط2، 2019م، ص 111.

10- جابر خليفة جابر: زَيدُ النَّارِ، المكتبة الأهلية للنشر والتوزيع، البصرة- العراق، (ب ط)، 2017،  ص 61، 62.

11- ضاري الغضبان: نادي الحُفاة، الشركة السودانية للهاتف السيَّار(زين)، مطابع الهناء، الخرطوم- السودان، ط1، 2021م، ص 212.

12- محمَّد الكاظم: وطن عيار 7.62ملم، بيت الكتاب السوري، ط 1، 2020م، ص 15.

13- المصدر نفسه، ص59.

14- جمعة اللَّامي: الثلاثية الأولى، مؤسسة عمون للنشر والتوزيع، عّمّان- الأردن، ط1،

2000م، ص 46، 47.

15- حسين محمّد شريف: وحيداً في ليلة النسيان، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكُتَّاب في العراق، بغداد، ط1، 2021م، ص 33، 34.

ثَبْتُ المَصادرِ والمَراجعِ

* إبراهيم دكس الغراوي، رياحٌ وسفن، مطبعة سراج، النجف الأشرف-  العراق، ط2، 2019م.  

* أمل حمزة خضير، نحيبُ المقصلةِ، دار الوارث للطباعة والنشر، كربلاء- العراق، ط 1، 2020م.

* جابر خليفة جابر، زَيدُ النَّارِ، المكتبة الأهلية للنشر والتوزيع، البصرة- العراق، (ب ط)، 2017م.

* جمعة الَّامي، الثلاثية الأولى، مؤسسة عمون للنشر والتوزيع، عَمَّان –الأردن، ط!، 2000م. 

* حسين محمَّد شريف، وحيداً في ليلة النسيان، منشورات الاتَّحاد العام للأدباء والكُتَّاب في العراق، بغداد-   العراق، ط1، 2021م.

* حنون مجيد، وردةٌ لهذا الفُطورِ، دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد- العراق، ط2، 2019 م.

* د. صلاح فضل، أساليبُ السَّردِ فِي الِّروايةِ العربيَّةِ، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق- سورية، ط 1،  2003م.

* ضاري الغضبان، - رهانُ العقابيلِ، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكُتَّاب في العراق، بغداد- العراق، ط 1، 2022م.

- نادي الحُفاةِ، الشركة السودانية للهاتف السيَّار(زين)، مطابع الهناء الخرطوم- السودان، ط1، 2021م.

* محمَّد خضيِّر، المملكة السوداء، وزارة الثقافة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد – العراق، ط2، 1986م.

* محمَّد سيِّد كرم الموسوي، أولياءُ الخبزِ، منشورات اتَّحاد أُدباء وكُتَّاب ميسان، مطبعة أشرف وخلدون، العمارة- العراق،  ط 1، 2022م.

* محمد الكاظم، وطن عيار 7. 62ملم، بيت الكتاب السوري، دمشق- سورية، ط1، 2020م.

في المثقف اليوم