قراءات نقدية
عبد الجبار نوري: دراسة نقدية للمجموعة الشعرية "مشاهدات مجنون في عصر العولمة"
لحميد الحريزي
توطئة: ان ثيمة ثقافة قدسية الوطن وحب الأنسان ونسغهِ الصاعد أستدامة الحرية والخبز من أهم الأساليب التي وظفها حميد الحريزي في مجموعته الشعرية " مشاهدات مجنون في عصر العولمة " يكشف أسرار ذاتهُ وأرهاصاتها السايكولوجية وتكاد تكون الثيمة الرئيسة في ديوانهٍ والتي شكلت البنية الهندسية المعمارية الرصينة للقصيدة ومن خلال هذه الأثارات الأيحائية الوطنية يتجه مؤشر بوصلتهٍ بأتجاه صناعة (الأدراك والوعي) عند الجماهير المسحوقة، لعمري هنا بيت القصيد في توفر (الوعي) عند الشعب المغلوب على أمره يعتبر (كود) الثورة حسب نبوءات الفيلسوف الألماني ماركس، أجزم إنها الوريث الشرعي لرقي القصيدة العراقية والعربية لقد أثارت طوفاناً تسونامياً جارفا من الكمْ الثري من الأسئلة حول طروحاته الفلسفية الترميزية ومحتوياتها الغرائبية والعجائبية والتشاؤمية لموضوع الساعة (حب الأرض وعشق الوطن والتأمل الواعد في أستراتيجية هيكلته أيقونة مبهرة بين الأوطان .
الموضوع: أحببتُ أن أقتحم قلاع ديوان حميد الحريزي هذه المرة بأسلوب نقديٍ مغايربمجسر سايكولوجي للكاتب وسوسيولوجي للنصية السردية للقصائد، يقتضي أخذ الحذر والحيطة والتركيزلأني أمام جبلين خطرين الأول فوبيا سيمياء العنوان المثير للجدل (مجنون وعولمة) والثاني التعامل مع كاتب متمرس وروائي قل نظيره وشاعرمتمكن يلعب بجميع أوراق فنون الشعر وصحفي أعلامي وجندي شجاع باسل وصبور في مهنة المتاعب وشخصية كاريزمية مهيبة ثابت الخطوة يمشي ملكا، خلال قراءة الفصل الأول من المجموعة الشعرية ترى نفسك أسيرا في جو ظلامي مرعب يقودك مجنون عبر مفازة (يباب) قاحلة تتصادم مع مطباتها ومتاهاتها وكأنك تجريبي مطوع لتجربة العالم الروسي (بافلوف) في تجربة المتاهات، حقاً وجدتُ في مجمل قصائده الشعرية إنها غرائبية الطرح أقتحامية وبكل جرأة يوجز حياتنا بجملة كبيرة من التناقضات صراع بين الجلاد والضحية وبين السارق والمسروق وبين المترف والجائع وبين الرابح والمنحوس والمتغطرس والذليل وجلها تتراكم وتزدحم في بودقة الصراع الطبقي للعم ماركس، وبهذه الآرهاصات المتضاربة قررت أقتحام أسوار الشاعر الكبير "حميد الحريزي"، وأحببت ُالنصية السردية للمجموعة وجدتها بوح سردي حكاواتي لأجيال مترعة بالدراما والتراجيدية المأساوية، يقول الكاتب حميد الحريزي عن نفسهٍ في نجوى حالم يبحث عن وطن حر وخبزٍ نظيف، وثمة فضول يثيرلدي سؤالا: أتعلم لماذا أنتحر همنغواي؟! وهو في صراع مرير مع المجهول وخيبات ذلك اليوم المنحوس لقد ميَز بين كائنين من البشركائن شرير وكائن أيجابي مصلح، فالأول وغد ووقح وأكثر قوة وتأثير وجاه وسلطة فهو سيد الموقف في دولة التفاهة والرثاثة حائز على الأغلبية المطلقة في مؤسسات ا لنهب في الدولة العميقة أو دولة (اللادولة) كما سماها الكاتب الراحل فالح عبدالجبار، والثاني كائن أيجابي لا مكان له في الأعراب عدا (لا) النافية، ووشم على الجبين وبتر الآذان . لذا أخاطب زميلي وأستاذي الشاعر الكبير حميد الحريزي (ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟ فالقوم في سرغير القوم في العلن!).
الآغراض الشعرية في مجموعة الحريزي
- في أمراض عصر العولمة صخب الحياة، أنتشار الأنتاج الرقمي الأفتراضي، العزلة عن الواقع الأجتماعي، تفكيك الأواصر الأسرية، تكليس الذات البشرية والعاطفية الوجدانية، وأختار الوطن (العزلة) لمئة عام منذ ترقيم التأسيس المنحوس 1921 وأستنساخ المواطن (الطوعي) كما يسميه الفيلسوف الكندي آلان دونوفي كتابه دولة التفاهة إن ذلك المواطن الذي يمارس المخدرات والمسكنات المتمثلة بتوطين الغيبيات اللاهوتية وانتظار المنقذ!؟ وتقول القصيدة:
في قاعات الدرس
يعلمنا فن الخطابة أخرس
ومتسوُلْ أعمى
وشيخ الحي
يعلمنا فنون المنكر والرجس!
كأننا أمام عولمة جديدة ؟!
- ترميز زمكنة الواقع بأرختة سايكولوجية وسوسيولوجية المجتمع العراقي في عهد الحكومة السابقة لخمس وثلاثين سنة عجاف لا يعصرُ فيها ولا يطحن عدا طحن تدمير الروح العراقية والتي يسميها مُنظْرْ البعث الكاتب والمؤرخ " حسن العلوي " بجمهورية الخوف، عند تفحص سايكولوجية المجنون بطل المجموعة الشعرية في فصل الرقم المنحوس لعصر العولمة والذي يصرح بتشاؤمية شديدة من اللاوعي الباطني إن وحدهُ هو(العاقل) وغيرهُ في عصر العولمة هم المجانين، وعند الفلترة (الفرويدية) لهذا التصريح الخطير، يقول: إن التشاؤم قمة الوعي وأقصى درجات الرفض، ولفتت نظري قصيدة أخرى في مضمون التورية والترميزالمقصود في أدوات (النصب) هو الأحتيال وأدوات الجر هو قيادة الشعوب المقهورة كالخرفان، وقال فيها الحريزي:
الرقم المنحوس
العالم مشغول بسر عولمتنا
تمثلنا (الدي) فهي الرأس
أل (مقراطية) ذيل
يجرح عزتنا لا نقبلهُ
نحن علمنا الناس سر الحرف
وسر (النهب) وسر (الكرف)
فليتوجه كل العالم صوب قبلتنا
والعالم مشغول بسر عولمتنا
وقصيدة قطعان
قطعان مدينتنا
تعاف البرسيم
وتلتهم أوراق ورد الجوري
حمير مدينتنا
تُدرسْ ساستنا علم المنطق
وأدوات النصب والجرْ
- ينحو كاتبنا أحيانا كثيرة إلى الضغط على الحرف والنفخ فيه ليتحول إلى تمثيل الجملة بل الصورة الشعرية بفنتازية خيالية وربما مأساوية، بأعتقادي أنها عادية تجد سداها ولحمتها عند الكبار من الشعراء، قال فيها المتنبي:
يوماً رأيتُ الذئب يحلبُ نملةً – ويشربُ منها رائباً وحليبا، وقالت العرب: أعذب الشعر أكذبهُ؟!!!
غجرية ثملى
تنشد لحن (الهجع)
من فوق مئذنة الحي
المزينة بالدولارات النفطية
-في تقديس حب الحياة والحرية والديمقراطية مرادفة لفروض صلاة "أنتصر للحرية وحب الوطن" المجموعة الشعرية دعوة للحياة بشكلٍ مغاير، وثمة أحساس ما بين السطور أنها دعوة من الشاعر الحريزي لحبٍ عذري وصوفي خالي من الماديات والخاضعة للتجربة، أممية المحتوى أنسانية الهوى ويتماهى هذا الحب المقدس مع نهرٍ بلا ضفاف من الأنسنة والفضيلة، وهي دعوة تأمل باللجوء إلى العقل بتقديس الوطن والتراب، لا كما أنسان اليوم في عصر العولمة الرقمية المعصرنة حيث يطحن بأزيز آلات العسكرتارية وماكنات أمبراطوريات تجار الحروب العبثية ربما بعجلة غيلان النفط والدولاروالدم، وتجير الطبقة الوسطى إلى عالم اليأس والقنوط ومصادرة حرياته وسحق روحهِ بتقديس (السلطان) بشعاره أنا ربكم الأعلى المفرو ض قسراً، المجنون في هذه المشاهدة يستعمل ألفاظاً مستهجنة تحت عباءة جنونهِ من ناحية وبما يليق بحكام عصره من جهة ثانية، يقول الشاعر فيها:
من بركاتنا
جعلناكم خصياناً
لاتحزن
نساءكم سيطؤها سيدنا السلطان
أعفاكم من الشقاء
لاظلم بعد اليوم
للكل الحق ب(---) السلطان ؟؟؟
تتزين صدورهن
بقلائد مرصعة بكرات من براز السلطان
نساء لا تنجب إلا بأمر من (---) السلطان
- تزخر المجموعة الشعرية لنظرية التضادات والمتقاطعات فكرياً وعقائديا وسلوكيا من خير وشر وحرب وسلم وعقل وقلب وحب وكراهية والمحلل والمحرم والمؤمن والملحد والمجنون والعاقل والرحمن والشيطان والحقيقة والزيف والحرية والعبودية، وتلك علامات تكاملية جمالية في ديوانه الجديد المجموعة الشعرية في "مشاهدات مجنون في عصر العولمة"
عاش الأمير
كلنا حمير
أسجد للمنصور والمعتصم
والمؤيد بالله
فهو الأول والآخر
- من سيمياء ديوان الحريزي ترى شيئاً من الغرائبية ملفتا للنظرتحمل دلالات ملتهبة وهامة بل منبعثات محرقة تقتحم ممنوع الممنوع ليقدم مدونة غريبة مفاجئة لم ينتهي الجدال فيها تأريخيا بعد، حسب أعتقادي الأدبي: إنهُ نجح في تقديم ملحمة شعرية في التناص والأسلوب والقصد، يتكون النص من 13مشهدا تراجيديا بنكهة الهزيمة والقهر والأحباط، وسمى المشهد الأخير بالمشهد المنحوس، يقول:
أنا صوت (القواد) وربان
المقود
أنا السيد الأعلى
أنا الأله الأعمى
أنا راعي القطيع الأسمى
أنا الأ ول أنا الآخر
أنا الوحيد الأوحد
أنا المعبود وأنا العابد
-ومن مشاهدة أخرى للمجنون معارضته للسلطان الوالي والذي يحكم العباد بموجب نظرية الحق الآلهي وترميزها يقصد أصحاب القرار السياسي في العراق العظيم بأستعمال التهمة الجاهزة (التجاوز على التفوبض الآلهي) والحكم بالحد الشرعي بالموت كما جرى قديما للحلاج بتهمة الزندقة، وحديثا قريبا في العهد الصدامي كانت خشبة الموت جاهزة لتهمة شتم رمز العراق الأوحد يقول فيها الشاعر:
ممنوع
ممنوع كل شيء
ممارسة الموت
في الشارع مقبول
أما الفرح محظور
حتى خلف الباب المقفلة
-أخيراً: إن الشاعر " حميد الحريزي " يقدم بعض الرؤى الباعثة على التأمل والتفكير منها حب تراب الوطن والتمسك بالحرية والحب والجمال والسلام على الوطن للوصول إلى المدينة الفاضلة (اليوتوبيا)، والتمسك بمدرسة الحياة والحرية، وصفحات من حكومات الصعاليك والدولة العميقة واللادولة، ومع الأسف الشديد في زمننا زمن منصة التواصل البغيض نجحت في ترميز التافهين حيث صار بأمكان أية جميلة بلهاء ووسيم فارغ من ذوي عاهات قطع الأرحام ونكران الجميل أن يفرضوا أنفسهم عبرعدة منصات هلامية غير منتجة وهو زمن ألصعاليك فكلما تعمق الأنسان بالأسفاف والأبتذال والهبوط كلما أزداد جماهيرية وشهرة، تنشرجيناتها الشريرة والمدجنة عبر المنصات الهابطة وما أكثرها تعمل على تفريخ اليأس والقنوط والأستسلام التام لنظام التفاهة حكومات الصعاليك حيث أستنساخ (المواطن الطوعي) وهات يا عجب!! حين تنتشر فايروسات الدعاوي الكيدية والمخبر السري بتشغيل ديناميكية المقاصل وخشبات الأعدام وكانت ضحاياها الآلاف من الأبرياء، أحدهم منذ ثلاثين عاما أعدم صوت الجنوب الفنان صباح السهل في 1993ضحية بشاعة النظام الشمولي السابق أثر دعوة كيدية من زوجته الثانية، حيث كانت له آخر أغنية شجية مؤثرة (بلايا وداع) كلمات شاعرالفراتين عريان سيد خلف ولحن الكبير جواد أموري: مثل الماي من ينشف بلايا وداع –تدريني هرش أوجرت بيه الكاع – يا رخص البشر من ينشرى وينباع!!!؟
***
عبد الجبار نوري: كاتب عراقي مغترب
في نيسان 2024
.....................
هوامش
- مصير العولمة بين التشكيك والمواجهة – عثمان محمد عثمان
- الأخوة الأعداء – ديستوفيسكي
- دولة التفاهة – آلان دونو