قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: تأويل الجسد والغياب.. قراءة في قصيدة الشاعر الفلسطيني سعد الأبطح

في هذه القصيدة الكثيفة بالشحنات الرمزية والدلالية، يتداخل الحسي بالميتافيزيقي، والوجداني بالوجودي، حيث تُستثار الأسئلة الكينونية الكبرى من خلال مشهد شعري حميمي مكثّف. سنعمد في هذه الدراسة إلى قراءة النص من زوايا أسلوبية ونفسية ورمزية وهيرمينوطيقية، للكشف عن الطبقات العميقة التي تحتشد خلف ظاهر اللغة.

ففي مجال البنية الأسلوبية والصور الشعرية نجد أن الشاعر الأبطح قد قال في مطلع قصيدته: "كنتُ سألتُكِ: في حديقةٍ من شجر الشوح، أنسيرُ نحن أم نطيرْ؟".

ينبني المشهد على سؤال يُعلن بدء التيه، في تداخل ما بين الحسي (الحديقة، الشوح) والرمزي (الطيران/السير)، لتبدأ عملية تفكيك الإحداثي المكاني والزماني، التي سيهيمن عليها التخييل الشعري. هذا الأسلوب الاستفهامي يمنح النص نبرة قلق وجودي وشك تأملي.

استخدام الشاعر الأبطح لصيغة الحوار بين (الأنا) و (الأنثى) يعمّق هذا الانزياح الأسلوبي، حيث تتحوّل القصيدة إلى فضاء بين صوتين: صوت ال(ذات) الباحثة عن يقين، وصوت الـ(أنوثة) التي تجيب بالتيه والتدفق، يقول: "قلتِ: إننا نتدفق، وأننا في بلدٍ خفيضْ... دعنا ننجرفُ".

هذا التدفق الرمزي يشير إلى الذوبان في آخر، في أنثى، في مصير مشترك. الأفعال: "نتدفق"، "ننجرف"، تخلق شعرياً انعداماً للثبات، وموسيقياً انسياباً إيقاعياً متناسباً مع المعنى.

في سياق التحليل النفسي والرمزية الإيروسية. تحضر الـ(أنوثة) بوصفها (ذاتاً) كلية، كأنها الكون المصغّر، أو الأنطولوجيا الأخرى التي توازي الكينونة الذكورية. فالمرأة هنا ليست فقط موضوع الحب، بل هي الوعي واللاوعي، الجغرافيا والزمن، يقول الشاعر سعد الأبطح:

 "قلتِ: بعد حربٍ وقبل حربْ، لكنك الآن معي ولسانُكَ في فمي".

في مشهد التوحد هذا تتلاشى الحدود بين ال(أنا) وال(آخر)، في تقاطع شهواني–روحي يمثّل ذروة الإيروسية الشعرية. فـ"لسانك في فمي" يتجاوز الحسّي إلى التداخل الكلّي في الذوات، وكأن الذات الأخرى صارت موطناً بديلاً.

أمّا الإشارة إلى "فرجكِ رائحةَ بحرٍ وطعمَ الندى عليه مالح"، فهي تكثيف جريء لتشابك الرغبة بالعنصر الطبيعي (الماء، الملح، الندى)، مما يضفي على الجسد بعداً كونياً، تتجلى فيه الإيروسية لا بوصفها انفعالاً جسدياً بل طاقة كونية.

من ناحية المنهج الرمزي والهيرمينوطيقي (التأويلي) يحاول الشاعر الأبطح أن يسحبنا إلى كل مشهد في القصيدة باعتباره قابل للقراءة الرمزية، بل يبدو كأن النص بني على مستويات متعدّدة من المعنى. فعلى سبيل المثال:

 "تفتحين باباً سرياً فننسابُ خلفَ غيابِكِ، في مدينةٍ مهددةٍ بالإختفاء"

يمكن تأويل هذه العبارة كرمز لفقدٍ داخلي (نفسي أو روحي)، أو كتأويل لهروب الذات من وعيها المقهور إلى منطقة اللاوعي المهدّدة بالتلاشي ("مدينة مهددة بالاختفاء"). ثم تأتي الإشارة إلى "قمرٍ واحدٍ فوقنا"، و"واحد هو فوق نيرانِ قبائل الماساي والعرب"، في استعارة مكثفة لتوحيد المتناقضات: الحب والحرب، ال(ذات) وال(آخر)، الإفريقي والعربي، في ضوء قمر واحد، هو رمز الوحدة الكونية في وجه التشظي القبلي.

قصيدة الشاعر الأبطح تشحنك بالموسيقى والإيقاع الداخلي. حيث تتوزع القصيدة على جمل شعرية نثرية ذات نَفَس إيقاعي داخلي يتشكّل من التكرار الصوتي والتموجات النحوية والصرفية. ففي قوله:

 "عيناك سريرنا: تغمضيهما فينفتحُ الحلمُ، تفتحيهما فتنثني ركبُ الخيولْ."

يتداخل الإيقاع مع الصورة الشعرية، فـ"تنثني ركب الخيول" يوقظ في المتلقي مشهداً ديناميكياً منسجماً مع فعل الفتح والإغلاق، كأنّ العينين جهاز تحكم في الميتافيزيقا.

كما أنّ التكرار التناوبي للأسئلة والإجابات يمنح النص بُنية إيقاعية أشبه بـالـ"دويو" الموسيقي، حيث تتماوج الأصوات بين ال(ذكر) و(الأنثى) في لحن وجودي– شهواني.

في الختام، يسحبنا النص بطريقةٍ شبه سرية نحو فلسفة الجسد بوصفه أفقاُ شعرياً.

إن قصيدة سعد الأبطح ليست فقط نصًاً شعرياً بل هي تأمل وجودي في معنى الألفة، الهوية، والغياب. يتقاطع فيها النفسي بالرمزي، والجسدي بالروحي، ليولد نص مفتوح على تأويلات لا نهائية. الجسد هنا ليس جسداً، بل نصًّاً يُقرأ، ويُشمّ، ويُسمَع.

إنه جسدٌ يعبُر، يشتهي، ينسى، ويحلم، في حوارية شعرية يتعذّر اختزالها في قراءة أحادية.

بهذا تكون القصيدة تجسيداً شعرياً لما يُمكن تسميته: المخيلة الإيروسية الكونية، حيث يتجاوز الحب منطقه الفردي إلى أفقٍ يتاخم الفلسفي والكشف الجمالي في آن.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...................

نص القصيدة:

كنتُ سألتُكِ: في حديقةٍ من شجر الشوح، أنسيرُ نحن أم نطيرْ، قلتِ: إننا نتدفق، وأننا في بلدٍ خفيضْ، فاترك

قلبي وامسك يدي، ودعنا ننجرفُ.....

حسناً، وفي أي زمنٍ نحنُ؟،

قلتِ: بعد حربٍ وقبل حربْ، لكنك الأن معي ولسانُكَ في فمي

قلتُ: بربكِ هوناً، لألتقط نفسا وأميزَ الحدَ بينكِ وصورتي عنكِ.

 آخر الحديقةِ والمساء، تفتحين باباً سرياً فننسابُ خلفَ غيابِكِ، في مدينةٍ مهددةٍ بالإختفاء...، فبأمكِ مهلا، فأنا

مسافر ٌ إلى وحدتي غدا

قلتِ: انظر لصاحبنا،من تسميه بخفةٍ حجراً كبيراً، فإن صدّقتَ أنه قمرٌ واحدٌ فوقنا، صدّقتَ أنَّا واحدٌ مع بعضنا، وواحدٌ هو فوق نيرانِ قبائل الماساي والعربْ. صدقتِ... حتى أن لفرجِكِ رائحةَ بحرٍ وطعمَ الندى عليه مالح.

وعيني ؟

عيناك سريرنا:

تغمضيهما فينفتحُ الحلمُ، تفتحيهما فتنثني ركبُ الخيولْ.

وصوتي؟

- يعذبني نمشٌ غير واضحٍ فوق الخدود -

وصوووتي ؟

آه، صوتكِ شكلُ روحِكِ،

ويُجفلني حين تنهرينَ به شرودي و كيف تحزين ببحَّته أعناقَ الوعول.

أخرج من رأسك وتعال إلى حلمتيّ يافتى، فلقد خرجنا طويلاً في إثرِكَ، وقلنا حسبنا معكَ، قُصرَ ليلِنا وفوزنا بالصدى والزبد.

آخرُ الليل في آخرِ ليليةٍ سَمِعَ قلبُكِ ما أفكرُ به، ففاحَ عطرُك منعا لسوء الفهم، أنا فقط كنت أنوي تغطية جمرَكِ برمادي، لينام قبل ذهابي، فهبَ الهوى من كل صوب.

 

في المثقف اليوم