قراءات نقدية
رياض عبد الواحد: قراءة وتأويل لقصيدة "لا تسأليني الصبرَ عنكِ"

للشاعر يحيى السماوي.. خطابات الوداع العشقي
المقدمة: يحمل النص الشعري الحديث شحنة دلالية وجمالية متراكبة، تفرض على القارئ والناقد أن يتجاوزا المستوى الإخباري إلى فضاء أوسع من التفاعل التداولي والمعياري. وفي قصيدة "لا تسأليني الصبرَ عنكِ"، يقيم الشاعر خطاب وداع مركّبًا يتجاوز الرثاء إلى طقس اعترافي ميتاشعري يتقاطع فيه الغياب مع الحضور، والعاشق مع القدّيس، والجسد مع المعنى.
تفكيك العنوان: "لا تسأليني الصبر عنكِ"
التحليل الفونيمي:
يحمل النصيص توزيعًا صوتيًا متوازنًا من حيث الإيقاع الداخلي بين:
التكرار الجزئي لحرف "السين" (س، ص) بوصفه صوتًا مهموسًا يرمز غالبًا للهمس والانكسار.
تتابع الأصوات المجهورة مثل "ع" و"ن" تُضفي بعدًا وجدانيًا داخليًا.
احتلال الضمير "عنكِ" للموقع الختامي يمنح العنوان طابعًا حواريًا مباشرًا يحفز الانتباه.
التحليل الدلالي:
التركيب "لا تسأليني" يحمل رفضًا مستترًا لطلبٍ ضمنيّ، ما يفتح مساحة تأويلية لنفي يُخاتل الأمر. أما "الصبر عنكِ" فتنويع دلالي؛ إذ ينقل الصبر من كونه فضيلة إلى كونه عبئًا لا يُحتمل، إذ الحبيبة هي مصدر الفقد، لا الخلاص.
يحيل النصيص إلى خطاب استباقي داخل النص، تهيئةً لحضور الحبيبة في لحظة غيابه، وكأنّه يحتجُّ على فداحة السؤال بعد الغياب. ومن هنا تتشكّل بداية التوتر بين الإنشاء والخبر، بين الواقع والمُتخيّل، وهي سمة تداولية راسخة.
التحليل التداولي للنص:
المقام التداولي العام:
يُنشأ النص ضمن مقام وداعي افتراضي، يتخيّل فيه الشاعر موتَه والحبيبة شاهدة عليه. هو مقام اعترافي حميم، تنتفي فيه الضمائر الغريبة، ولا يخاطب فيه الآخر إلا بصيغة واحدة: "أنتِ".
"باركتُ موتي لو تكونُ مشيّعي
يومَ الرحيل وشاهدي ومودّعي"
هنا نلحظ فعلًا إنشائيًا ضمنيًا (باركتُ) يختزن داخلَه تمنّيًا غير مباشر، فالشاعر لا يبارك موته بوصفه حقيقة، بل بوصفه تخييلًا رمزيًا.
2. أفعال الكلام:
الخبر التحويلي: حين يقول الشاعر:
"يمّمتُ قبلَ الموتِ نحوكِ مقلتي
فهو لا يُخبر فقط، بل يُنجز "تحويلًا" في وجهة المصير؛ فالرحيل نحو الموت يمر بالحبيبة. هذا الفعل التحويلي هو لبّ المقام التداولي للنص.
الأمر التضرّعي:
"فلتَمسحي بحرير كفٍّ أدمعي"
"واستغفري لي عن خطيئةِ عاشقٍ"
هذان الأمران لا يحملان سلطة، بل توسّلًا، وهما يعبّران عن فعل استرحام ضمني يعمّق مقام الحنان الطقسي في النص.
المخاطب المفترض وسلطة الغياب:
تُوجَّه الخطابات للحبيبة، ولكنها لا تظهر كذات ناطقة. إنّها مخاطَبة ولكنها غائبة عن القرار الفعلي، وهذا يعزّز الوظيفة الشعرية للنص، حيث الغياب يتسلّل بوصفه قوّة دافعة للقول.
التحليل المعياري للنص:
الاتساق والاتّساق:
يعتمد النص على سرد شعري متّسق، يُشيّد على تتابع زمني (من التمنّي بالموت، إلى الطقس الشعائري، إلى الندم، ثم الحنين، فالتصعيد العرفاني في الحب)، وهذا ما يعطي القصيدة معيارًا عاليًا من التراتب البنائي.
الكفاءة الإنشائية:
الصورة الشعرية ذات صبغة عاطفية وميتافيزيقية عالية، يتجلّى فيها:
استعمال الطباق والتوازي:
"مُمَسّدًا باللثم... مُغمضًا جفني"
احتشاد الإيحاءات الجنسية الطهرانية:
"عذراءُ يستسقي العناقَ ويرتعي"
"نسكٌ عفيفُ الإثم غير مخلّعِ"
تُوظَّف اللغة في أقصى طاقتها الانفعالية لخلق حالة رمزية عن جسد "العاشق" الطاهر الذي لم يُدنّسه إلا العشق، وهذه صورة قلقة ومعقّدة ومركبة.
تعدد مستويات الخطاب:
النص يعمل على أكثر من طبقة خطابية:
خطاب جنائزي شعائري.
خطاب اعترافي غزلي.
خطاب وجداني روحاني.
وهذا التعدّد يمنح القصيدة شرعية معيارية بوصفها تتجاوز حدود النمط الواحد.
جماليات الصورة الشعرية وديناميكيات التلقي:
"أنا يا ابنة الريحان نهرُ صبابةٍ
مائي "عراقٌ" و"السماوةُ" منبعي"
تُستثمر هنا رمزية الماء، والانتماء، والجغرافيا الحميمية. يربط الشاعر بين البنية الوجدانية والفضاء الوطني، ليؤكّد أن الحب لا ينفصل عن الأرض، عن المنبع.
هذه الصورة التداولية تفتح أفق التلقي نحو "تجربة الهوية العاطفية" بوصفها امتدادًا لهوية المكان.
البعد النفسي – قراءة في ضوء الأطروحة اللاكانية:
الرغبة كمركز للذات الناقصة:
بحسب "جاك لاكان"، فإن الرغبة ليست نزوةً آنية بل بنيةٌ تأسيسية للذات، لا تنبع من الحاجة بل من الفقد. وهذا الفقد هو ما يحرّك الذات للبحث عن "الآخر" الذي يمنحها وهم الاكتمال. وفي النص:
"باركتُ موتي لو تكونُ مشيّعي"
الرغبة هنا لا تتوجه إلى الحضور بل إلى رغبة الآخر، وهو من أهم مفاهيم لاكان: الرغبة هي رغبة الآخر.
"واستغفري لي عن خطيئةِ عاشقٍ
من قبل عشقكِ قلبه لم يخشعِ"
الرغبة مُضاعفة: ليست في العشق بل في الخشوع الذي تمنحه "الآخر" للحب، وكأن العاشق لا يكتمل إلا من خلال نظرة الحبيبة التي تمنحه الغفران.
الجسد كعلامة دالّة لا ككينونة:
"تتلو على جسدي المسجّى آيةً
ترجو الأمانَ لخائفٍ مُستشفعِ"
الجسد هنا يتحول إلى مرآة للهوية الناقصة. ليس مهمًا أن يموت الجسد، بل أن يُعرَف (أن يُسمّى، أن يُغفر له)، أي أن يدخل النظام الرمزيّ، وهي حاجة لاكانية لتثبيت المعنى، لأن الهوية بلا تسمية، تظل قيد التّيه.
الخيال والواقع: الإنشطار بين المتخيّل والرمزي
لحظة "التشييع"، "التقبيل"، "الاستغفار"، كلها صور متخيّلة لرغبة اللاوعي في نيل الاعتراف الرمزي من الآخر، لكن الحبيبة لا تحضر كفاعل، بل كمتلقٍّ صامت. إذًا، يبقى العاشق أسير دائرة لاكانية: "الرغبة في الآخر" دون التمكّن منه.
"لا تسأليني الصبر عنكِ فما غدي
إن كان غير ظليل خدركِ مهجعي؟"
الطفولة المستدامة: إرجاء النضج العاطفي
"قد جاوز السبعين وهو طفولةٌ
عذراءُ يستسقي العناقَ ويرتعي"
هنا يظهر جليًا "الطفل الداخلي اللاكاني"، وهو بُعد نفسي يتجلّى في تكرار الحاجة للآخر عبر أطوار العمر. فالرغبة في "العناق"، في "الارتواء"، هي محاولة لاواعية لتعويض النقص الأول.
الشعر بوصفه إعادة صياغة للرغبة:
كل القصيدة يمكن أن تُقرأ بوصفها إعادة سرد لحلم الموت/الاعتراف/الحضور، ولكن بواسطة لغة رمزية تُحاكي خطاب الطقس الديني، بما يعيد تشكيل الذات بواسطة القانون الرمزي للعلاقة مع الآخر.
الخاتمة:
لقد كشفت القصيدة عن بنية لغوية وعاطفية تستبطن طقس الوداع عبر لغة مشبعة بالتضرع العشقي والانعتاق العاطفي. ومن خلال التحليل التداولي والمعياري والنفسي اللاكاني، تبيّن أن النص لا يشتغل على اللغة بوصفها وسيلة للتعبير، بل كأداة لتشكيل العالم والغياب معًا.
ا شكّل النصيص مفتاحًا لولوج تجربة شعرية عميقة، إذ النداء هو وسيلة لتثبيت المستحيل، والرفض هو شكل من أشكال الرجاء. أما استعمال الأساليب الإنشائية فكان محمّلاً بدلالات فائقة الانضباط الوجداني، تقود إلى مركز الذات اللاواعية المتصدّعة.
***
رياض عبد الواحد
......................
لا تـسـألـيـنـي الـصـبـر عـنـك
للشاعر: يحيى السماوي
بـاركــتُ مـوتـي لـو تـكـونُ مُـشَــيّـعـي
يـومَ الــرَّحــيــل وشــاهِــدي ومُـوَدّعـي
*
تــتـلـو عـلـى جَـسَـدي الـمُــسَــجّـى آيـة ً
تـرجـو الأمـانَ لـخـائِــفٍ مُـسْــتــشْــفِـع ِ
*
ومُـمَــسّــداً بالـلـثـم ثـغـريَ .. مُـغـمـضـاً
جـفـنـي وتُـبـعِـدُ سـاعـدي عـن أضـلـعـي
*
يَـمَّـمْـتُ قـبـلَ الـمـوتِ نـحـوكِ مُـقـلـتـي
فـلــتـمــسـحـي بـحــريــر كــفٍّ أدمـعـي
*
واسـتـغـفـري لـيْ عـن خـطـيـئـةِ عـاشـقٍ
مـن قـبـلِ عـشــقــكِ قــلــبُــهُ لـم يـخــشَــعِ
*
لــمْ يَــدَّخِــرْ زهْـــراً لــجُــوع فَــراشَـــةٍ
يـومـاً ... ولا عـن كــأسِــهــا بــمُــمَــنَّـعِ
*
خَـبَـرَ الــهــوى طـفـلاً .. صَـبـيّـاً .. يـافـعـاً
وازدادَ كـهْــلاً ـ غــيــرَ عــشــقٍ ـ لا يَـعـي
*
قد جاوزَ " الـســبـعـيـنَ " وهـو طـفـولـةٌ
عــذراءُ يـســتـســقـي الـعــنـاقَ ويَـرْتـعـي
*
مُــتـبَــتّــلُ الــنَــزَواتِ ... حـتـى طــيــشُـــهُ
نُــسْـــكٌ عــفــيــفُ الإثــمِ غــيــرُ مُـخَــلَّــعِ
*
يُـدنـي مـن الـخـمــس الــطــبـاقِ ســريــرَهُ
ســكــرانُ .. لــكــنْ مــنْ رحــيــق تــمَــتـُّـعِ
*
فـنـديـمُـهُ فـي الـلـيـل سُــهــدٌ ... والــضـحـى
صـوتٌ بَـعــيــدُ الـرَّجْـعِ يُــثـمِـلُ مـســمـعـي
*
أنـا يـا ابــنـةَ الــرَّيـحـان نــهــرُ صَـــبــابــةٍ
مـائـي " عـراقٌ " و " الـسـماوةُ " مَــنـبَــعـي
*
لا تـســألـيــنـي الـصَّـبـرَ عــنــكِ فـمـا غـدي
إنْ كـان غــيــرَ ظـلــيــلِ خـدركِ مــهــجَــعـي؟