قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: قراءة في قصيدة (رحلة المجوس) للشاعر ت. س. اليوت

رحلة الأمكنة في اللازمن

توطئة: يقيم الشاعر الإنكليزي (ت. س. اليوت) كما يتضح من أبنية قصيدة (رحلة المجوس) موضع بحثنا، تلك الحالة التمييزية بين الشعر كونه احساسا وبين وسائلية الأغراض والوسائط التي تجعل من الخطاب الشعري صورة تماثلية في موصوف (ملحمة الأوضاع الفعلية) خصوصا وأن جل مؤديات الأدوات الوظائفية في حاﻻت قصيدة الشاعر، حلت في حدود إتصالية وشريط تأملات تلك الرحلة المجوسية في حراكها وزمكانها وفضاءاتها، وتوصيفاتها المشتملة على صوت (الرائي الشعري؟) امتدادا نحو حلقات وحيثيات التوليف بين (سياق النص - زاوية الرؤية). نقول لعل الشاعر اليوت في موضوعة نصه كان ينظر إلى حاﻻت وإيحاءات نصه عبر منظوري (العين العارفة - البوصلة الشاهدة) ذلك لأن جميع أحوال النص جاءت في مسار لغة مسرودة ومحاطة بجميع مرايا الأحوال المصحوبة بشرائط فعلية الحوادث ومعرضها التعويلي على إنتاج دﻻﻻت تبقى متصلة ومشدودة الى فحوى المد العنواني في عتبة المركز النصي:

في البرد القارس جئناها،

في شر وقت من العام

لأن تزمع فيه رحلة، ومثل هذه الرحلة الطويلة،

الدروب عميقة، والطقس حديد. ص19

ان السارد الشعري هنا يسعى إلى مد مكونات الحال إلى حالة تفقدية من الإحصاء الاطاري للملفوظ، في حين يباشر على استعادة مواقع اللفظ الدوالي - صورا - من داخل التأشير الفعلي للوصف المحكي (في البرد القارس جئناها، في شر وقت من العام) لا شك أن وحدات الحكي ﻻ تستأثر بأي وسيلة تحديدية ما، خصوصا وأن مستوى وحدات القول كانت احوالية وظرفية عبر خطابها المتصير بصوته الآنوي وبمستواه الخفي في الاوضاع الصوتية للمنطوق الملفوظي (الدروب عميقة، والطقس حديد) يبدو لنا أن الوحدات الدوالية بصورتها الاقرارية، تضعنا إزاء دﻻﻻت وضعية التشير في الشكل والعلاقة والبناء والمسافة بين الدال ومدلوله، فقد ﻻحظنا في الآن نفسه، بأن موجهات (الوصف الخارجي) تغطي أغلب مساحة العلاقة الشعرية، خصوصا وأن الراوي الشعري غدا حضوره تداخلا وتشابكا ومزجا بين (الرائي - الشاعر) وهذا بدوره ما وجدناه من خلال المقاطع اللاحقة والأولى من النص.

ملامح المستعاد وتقلبات هوية الاحوال

لعل من أهم دﻻﻻت قصيدة (رحلة المجوس) في كونها تشكل في ذاتها، عدة حاﻻت مستعادة، من شأنها ان تعيدنا إلى ذاكرة الأزمنة وتعاقباتها في مواضع الاستذكار:

كان الشتاء في منتهاه

و الجمال نال منها الجرب،

في ذائب الثلج باركات.

كانت تمر بنا أوقات نتحسر فيها

على قصور الصيف في السفوح، والشرفات

و الصبايا الناعمات.

إن لحظة مثول المحدد الزمني (الشتاء في منتهاه) يدلي بحقيقة مرارة دﻻلة التشبث بفصل الشتاء، ذلك لكون زحف الموسم الصيفي على قافلة الرحلة قد جعلت الإبل (الجمال نال منها الجرب) لذا فهي من شدة لوعتها كانت تستلق بأجسادها فوق (في ذائب الثلج باركات) وهذه الوجوه الاحوالية المريرة جعلت من حاﻻت الذوات متحسرة على اثارات من ذاكراتها في ديارها التي لم تحدد وجهتها في النص قصدا وعلامة (تمر بنا اوقات نتحسر فيها، على قصور الصيف في السفوح) ولهذا فأن المستويين (السردي - الشعري) يذهبان مذهبا بليغا في مرسل الأداء القصدي في أغراض القصيدة، لذا أغلب الجانب الوصفي والتصويري بتلقائية على جميع افعال استعادة الذاكرة وتكريس أثر الغربة على الذوات كيانا حماﻻ لتقاويم عادات مفردة وجماعية من كيفيات القول (وهناك حداة الجمال وسواقها يلعنون، ويدمدمون بالشكاة ويولولون هاربين) وتتعدد وظائف الدوال في التأثير والحضور - مصدرا للاحزان - إلى جملة  (الحداة = السائقون) فهؤلاء هم أكثر ضررا في الرحلة المجوسية اليبابية، بخاصة وأن شبح الجوع والظمأ وفقدان الأنس بات ظاهرا عليهم في السلوك والأقوال: (ويصرخون في طلب الخمر والنساء.. ونيران الليل تخبو، وليس لنا مأوى) تحفظ الذاكرة للسارد ما كان يفتقده القوم الرحل من غرائز الشرب والمأكل والجسد، فهم في أوج تلاوين شحوب المقام وقصور الوصول إلى ما يخص رغباتهم، وذلك بعد زحف عواصف الليل على ركبهم في اعماق البراري والخوف والقلق من الموت جوعا عطشا.

1- جمالية الأوضاع الحسية وتمفصلات محكيات السرد:

ﻻ شك أن القارئ إلى قصيدة (رحلة المجوس) يعاين مستوى صعود المكان على الوحدة الزمنية، وطغيان السرد على الشعر جملة وتفصيلا، وذلك للارتباط النواتي حيال تداعيات عنصر المكان وحاﻻته القائمة بين (السارد = الكيان المكاني) خلوصا نحو مواجهة ذلك النوع من المنتج الحسي في الأوضاع والمخاطبات والوصف والأخبار:

ثم هبطنا، في السحر، واديا دفيئا

نديا، تحت خط الجليد، يتسم برائحة الخضرة.

و قد يتبين أن العلاقة القائمة بين (الأوضاع الحسية) و (محكيات السارد الشعري) بوصفهما كيفية خاصة تتناسل من خلال مرتكزاتها المحورية، بذلك التناظر العواملي الذي غدا محددا ب (العامل الذي يصف الحال = العامل المتلقي لذلك الحال) وهذه المنظومة العواملية تبرز في موضوعة النص، كحالة علائقية مهيمنة يسودها - الاتصال ممكنا - والانفصال واقعا في مرجحات ثنائية علاقة (النفي - الاثبات) فعلى سبيل المثال تواجهنا غالبا في مقاطع المتن النصي، ذلك التركيز حول ثوابت عواملية في ظهورات محسوس الاشياء، ولكن المعوق الكبير في حوارية النتائج، تبقى رهينة مجاﻻت النفي والفناء في محل النص ومضمونه كحال هذه الجملة السابقة من النص (الاصوات تغني في مسامعنا - وهي تقول إن هذا كله كان حمقا) لهذه العارضة (كان حمقا) نستخلص حقيقة ثبات (الحس الداخلي) وكيفية رفضه من خلال تحققاته كعلاقة واقعية مستشعرة في الوعي المدرك للخارج الوجودي. لذا فأن خطوط (الحلم - اللاحلم) تتجاوز دليل واقعة (الرحلة المجوسية) ذلك لأنها ثيمة سياقية تتوطد في حدود المعلوم السببي، ولكنها من ناحية المحقق بالواقع الحسي، فبدت وكأنها مأوى الحجم الفاعل.

2- العلاقة المكانية ومؤشرات الحركة البرانية:

تسود في جملة مقاطع النص تلك الاوصاف للحال والاحوال الفعلية من علاقة (الرحلة المجوسية) نحو مقتربات تداول تفاصيل وصفية مشفوعة بالوصول بالدﻻلة إلى (تفعيل = تفاعل) الواقع بالتخييلي المستأثر بأشد عوامل التوصيف السردي:

وكان جواد عجوز يعدو خببا في مرعاه

ثم أتينا حانا تكلل مداخله أوراق الكروم

وست أيد تلعب - الزهر -

بقطع من فضة مقامرات،

لدى باب مفتوح.

و أقدام ركل الزقاق الفارغات./ص20

على هذا النحو واجهتنا رؤية معادﻻت الزمكانية موضوعا وشكلا داﻻ للوجود المكاني، حيث الايقاعات الصوتية للمنطوق اللفظوي بدت كحقيقة مدركة بسياقات متزامنة في صيغ (صوت السارد - محاور صفات - شعرية التأثيث المشهدي) وعلى هذا النحو توافينا الاجزاء المقطعية في قصيدة الشاعر ضمن عناصر محكية متصاعدة بزخم دﻻلي عميق في احاسيس الشاعر وأفكاره ورؤاه.

- تعليق القراءة:

لا شك أن القيمة التشكيلية في محصلات قصيدة (الرحلة المجوسية) كانت عنصرا فعالا في البؤرة الدﻻلية المكانية ذات الادوات الموصوفة سردا محكوما بمشارف صوت السارد الشعري، لذا فإن الزمن في النص غدا سلالة غابرة، مركزة على دﻻﻻت التجوال والتحول عبر (الزمان = المكان) ناهيك عن تحقيق العمق الأدائي في لغة حوادثية تقارب القوالب النثرية وصوﻻ إلى لغة سردية تواصلية قائمة على أوصاف (طقوس المكان ؟) و الفضاءات الاغترابية الموحشة القادمة من معطيات (صوت الأنا - احوال الأشياء) وصوﻻ منهما إلى طاقة حافزية متكونة واصفة الواقع الجوال في قعر بؤس غياب يقين الأمنيات:

و لكننا لم نعد نحس راحة هنا

في الناموس القديم

بين أقوام أغراب، بآلهتهم متشبثين

و أني لأكون سيعدا بموت آخر./ص26

و في ضوء هذه المعطيات نرى أن دور السياق المؤول للسارد الشعري، صار يشكل الحالة التمثيلية لجل ممكنات الرحلة الحلمية، فلربما هي خصب دﻻلة ترميزية في مقصدية المخاطب والرائي أو لربما هي صيغة ما تكشف عن حال موت السارد منذ أزل حكاية النص أو ٱنها مخطوطة في رحلة حلم المكان في اللازمن واللاوجود، سوى كونها وصايا ذاكراتية تتحدث في تخييلات الأمكنة الأليفة والموحشة عن رحلة أسفار مجوسية قاهرة.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم