قراءات نقدية

قراءات نقدية

الاستحضار: أتساءل كما يتساءل بعض المثقفين والمسرحيين، كيف يمكن إعادة حَرارة الفعل الثقافي والإبداعي الذي تم افتقاده بناء على غياب الحضور الجماهيري في عدة أنشطة فنية وفكرية وإبداعية، وشبه انعدام المتابعة الجادة للشأن الثقافي والفني، مرفقا بشلل النقاش الساخن بين الفعاليات والمهتمين والمريدين، والعزوف الواضح والمكشوف لمشاهَدة العروض المسرحية، وبالتالي طبيعة الوضع، تفرض أن تعود بنا الذاكرة لتلك الأيام التي كان حضور القضية الفلسطينية في معمعان الركح المسرحي العَربي/ المغربي، حضورا متميزا من خلال حضور فصائل طلابية وأحزاب وإن اختلفت توجهاتها باعتبار أن القضية الفلسطينية أعيدت للمشهد السياسي/ الإجتماعي، بقوة الفعل لتختلط كل الأوراق التي رتبت بناء على عَودة واستحضار << لكع بن لكع >>؟ فهل ياترى ستستطيع بعض الفرق والجمعيات المسرحية، إعادة الروح لهاته المسرحية (1) ولماذا هذا العمل بالضبط، دونما غيره؟

 اعتقادا منا، إنّه يعبر عن راهنية اللحظة وإشكاليات المرحلة، للقضية الفلسطينية، ولكن هاته الإشكالية لازالت قائمة، وأمست راهنا بالكاد ! طبقا للتطورات الواقعة الآن في الضفة وغزة وجنوب لبنان لا فرق والإنزال الشعبي " عالميا " والمتعاطف مع القضية، باعتبار أن "فلسطين "جزء لا يتجزأ من الذاكرة الجمعوية / الكونية، لكل كائن يتطلع إلى عالم حرّ. رغم الإنزال الزجري، الذي صرحت به جملة من الدول (الغربية /الأوروبية) في حق المتعاطفين أو المحتجين ! مما يعطي للعمل شرعية تحريك نبضه فوق الركح، وتكريما حقيقيا من خلال استحضار " للراحل" أميل حبيبي" الذي يعَد بدون مزايدات شعبوية أو إيديولوجية [عاشق لفلسطين] لأنه حقيقة لم يغادرها، متعايشا كأهله؛ كل أشكال الإضطهاد والعنف والتنكيل، الذي مارسه ويمارسه "المحتل الاسرائيلي" حتى توفي – رحمه الله- على أرضها سنة (1996). 

 وإن كان البعض يعْتبر العمل (لكع بن لكع) جنس روائي، وأخرون يعتبرونه مسرحية، انطلاقا من المؤلف الذي وسمها بأنها "حكاية مسرحية" حتى أن "علي محمد طه " (سوري) يشير أنها تجديد وتجريب: لأن ما يقدمه إميل حبيبي هو ثورة على الأسلوب التقليدي، ومثلما كان مجدداً في المتشائل، كان كذلك في حكايته لكع بن لكع (2) ولكن شخصيا أعتبرها مسرحية، بكل المقاييس. وذلك من خلال الطباق الوارد في هاته الجملة: [لا مسرح ولا من يتعَبون، بل جمهور من أهل الحارة، ونحن من أهلها يجتمعون لقضاء أمسية أسطورية مع صندوق العجب (ص9)] أما من زاوية المقاربة والتفعيل الدراماتورجي نجد مثلا: [ويضاء المسرح. فإذا ببدور على جلستها، وهي مكتفة لا تريم. ويقف وراءها المهرج وبينهما الصندوق. هذا في زاوية. وأما في الزاوية الأخرى...(ص116)] وكثير من الإرشادات المسرحية، واردة في النص. ولاسيما أنني شاهدتها فوق الركح هنا وهناك. في زمن الإيمان بالقضية وكل القضايا الإنسانية. وبالتالي لما لا نستحضر ذاك الزمن، انطلاقا من هذا العمل، ك{نموذج} الذي يعتبر مراهنة إبداعية/ إشراقية، لحظة الإشتغال عليه من لدن أية فرقة/ جمعية. وكذلك بمثابة استحضار نوعي ورمزي لقضايا الأمة العربية بصورة عامة، من هذا النص المنبثق من بيئة معايشة ومعاشة، ومن معمعان معركة البقاء والموت، كتعبير صادق عن الوضع العَربي البائس الذي جعَل من القلق الوجودي، إشكالية تتخبط فيها الذات العَربية ويستوطنها القلق في جميع جوانب حياتها، ولاسيما أن "القلق يصيب عالم اللامعنى الذي نحيا فيه " حسب تعبير "هايدغر" وذلك نتيجة الظروف المتقلبة والأحداث المتسارعة والحصارالممنهج والمعيق للحرية والانعتاق ! وبالتالي فالاستحضار سيدفعنا كما دفع "المهرج" لفتح الصناديق المغلقة، أمام الأطفال الذين هم الذراع المستقبلي، لتحقيق الولادة والتجدد في الصراع. ومن خلالها يمكن أن نتساءل سويا: فهل للكع اليد الطولي في هذا القلق العَربي؟

ذاك السؤال:

{لكع بن لكع} من هُو؟ ففي(ص6) من النص نقرأ كتصدير "لا تقوم الساعة حتى يليَ أمور الناس "لُكعْ بن لُكعْ". حديث شريف. ويتكرر كتناص في قول المهرج في (ص156).

فلاغرو أن الحديث المذكور رواه الترمذي في جامعه و أحمد في مسنده، بحيث "لُكعْ بن لُكعْ" هُو ذاك [الكائن/ الشخص] الذي سيدخل حياة البشر في مرحلة أخيرة من حياتهم. بمعنى أن لكع بن لكع هو الانسان [اللئيم بن اللئيم] حسبما ما ورد في التراث الإسلامي. بحيث الخبث و القذارة والشر متأصل في هذه {الشخصية}المطروحة كعنوان، والمنبثقة من الموروث الديني كتناص مع الحديث النبوي الشريف. وبالتالي "لُكعْ بن لُكعْ" طرحه المبدع " حبيبي" رمزا من الرموز المثقلة في النص، وإن كان البعْض يشير بأن هنالك تنافرا بين العنوان والمتن: (في إشارة دالة إلى الواقع الذي تدير “الحكاية المسرحية” حديثها عنه وحوله. لكن النص، رغم الاتكاء الواضح على الحديث الشريف، فلا يستطيع أن يقنع قارئه بالعلاقة العضوية بين معناه الضمني وعنوانه (3) ولكن النص في تقديري، بتشكلاته ومعْطياته وفي أسلوبه. يعَد تجربة متفردة في المزج والتمازج بين التراث الإسلامي والحكاية والتاريخ، بمعطياته السلبية والإيجابية، واللجوء إلى الرمز و الرموز، وبالتالي:

* فهل {لكع بن لكع} هُو برجيس الصليبي؟ أم حكمون اليهودي؟[(واتفق في تلك الأيام أن برجيس الصليبي، أحد ملوك الأورام، خرج مع أخيه في مئتي ألف رجل من بلاد كسروان لمحاربة، حكمون اليهودي(ص52)]

* هل هو الإخشيدي: [(أنهم شاهدوا كافور الإخشيدي، من بعيد لبعيد. فكفروا بالرؤساء ولم يعد هذا الشكل يضحكم (ص)59]

* هل هُو: [(السيَّاف: بيدي أن أركعك)- (الشاب: أقوم وأقف.)- (السيَّاف: سأوجعك،، اقتلع أظافرك) (ص88)]؟

* هل هو: [(قلب الأسد أم شارب الدم؟ [(أبو شارب: أشم رائحة شواء ولا أرى لحما) – (قلب الأسد: سأسليك ! سأسليك !)- (أبوشارب: ماذا تبيع، يا أخ؟) – (شارب الدم: أخ؟..أخ !)- (قلب الأسد: أبيع لحما مشويا).(ص 92)]

*هل هو الشيخ المطرْطر؟: [(فيزمجر الشيخ المطرطر.)- (آخر: بالروح، بالدم...!)- (الشيخ: أزعجتنا هذه الصبية الطبالة.(ص118)]

*هل يكون الدغفل؟: [(يكسر رقبتك، أنا ربكم كسرى، ألم يكفك أنني أقمت ظهرك، وأعدت أمجادك (ص143)]

لكن عبر حوار مفاجئ بين (بدور/ المهرج) باعتبارهما شخصيتين رئيستين. يوحي برمزية التناص[(بدور: لُكعْ بن لُكعْ يليَ أمور الناس)- (المهرج: لا تقوم الساعة حتى يليَ أمور الناس لُكعْ بن لُكعْ") - (بدور: نخلعه ونعُود؟ (ص156) وثانيا ف" لُكعْ بن لُكعْ" هو بمثابة رمز للحاكم الطاغية؛ المتخلف؛ المستبد! و خصيصا [الحاكم الظالم] في فلسطين المحتلة. إذ بالإمكان إزالته من موقع المسؤولية انطلاقا من المقاومة كشرط أساس تجاه < لكع بن لكع > من هنا فالمسرحية تحمل بعْدها التحريضي، بلغة لا تخلو من السخرية والرمزية وبالمكشوف كذلك: [(هل يستطيع السجان أن يضحك؟ إذا قالوا لكم أن الضحك بلا سبب من قلة الأدب، كونوا قليلي الأدب ! شر البلية ما يضحك. فهل هناك بلية أشر من هذه البلية؟ اضحكوا(ص60) مقابل هذا نستشف لمسات التشاؤم والحزن والقلق بادية على الكاتب من خلال تعبيره، تجاه السياسة الظالمة على جماهير الشعب الفلسطيني: [(كلنا في الهمّ شرق، كلنا في الصبر شرق. كلنا في الصبر حمار.(ص67)] وفي سياق هَذا يتم طرح سؤال عريض: (فيا خالقَ ويا خَلْق متى تشرق الشمس في هذا الشرق؟ (ص 112]

في سياق النص:

تأكيدا ومن خلال القراءة الأولية لمسرحية (لكع بن لكع) نستشعر أننا ننجر تجاه مسرحية طليعية/ ملحمية، وهي كذلك فعلا. رغم أن العنوان يحيلنا لخطاب تراثي إسلامي، وبالتالي فالنص أساسا يتلاءم وروح العصر، بحكم الوقائع التي لازالت قائمة بين الإسرائيليين /الفلسطينيين، وبتقاطعات مجريات النص. الذي يغري بمسرحته وتمسرحه؛ قبل نقاشه وتحليله. وذلك لنوعية الرؤيا وتجربة الطرح في الكتابة ذات حمولة مفعمة ومثقلة بالأمثال الشعبية والتقاليد و الأشعار و الأزجال وبشخصيات وأسماء أدبية وفكرية راسخة في السجل التاريخي وفي الذاكرة المدرسية وحتى الشعبية. لكن أرضية النص- الحكايات- هي ليست بالصيغة التقليدية للحكاية- مثل: [مسرور السياف جدا. مسرور جدا (ص85)] ولكن محتفظا بالجانب الترفيهي للحكاية الشعبية.: [(شهرزاد: بلغني، يا مهرج الزمان. الطويل اللسان، أن السندباد في رحلته الأخيرة (138)] إذ يتم تداخل الحكايات التاريخية والخرافية بحكايات التجارب و الإكراهات اليومية ! والمبدع " أميل حبيبي" يذكي تفعيل الحكاية بقوله: [هل هناك من مرآة تعكس أفكار الناس ومشاعرهم أصفى من الحكاية الشعبية (ص51)] فعبرها يسرد" الكاتب" همومه وأوجاعه وغربته في وطنه. وفي نفس المجرى يتسرب النص لتفجير الأحداث المأساوية التي يعيشها وعاشها الشعب الفلسطيني، بذكر عِدة أمكنة على لسان "المهرج" والتي ألحقتْ بها جملة من المجازر المرتكبة من لدن العَدو الغاشم إبان احتلاله لفلسطين: [هل جاءكم خبر كفر قاسم، ورقصة الموت في كفر قاسم؟(ص30)] / [هذا ما جرى لبني تغلب ولحيفا ولمروج بن عامر ولحارات الناصرة التي بقيت وبقي أهلها(ص52)] / [فلا نستطيع أن ندرج فيهم مقابر يافا (...) فإنهم أقاموا فوقها فندق هيلتون (ص54)]

 وتأسيسا على ذلك فالنص أساسا قام: بعرض مساوئ الاستعمار بصور رمزية عبر وقائع مستقاة من التاريخ في كثير من الأحيان من أجل نقد وفضح الاستعمار، لتوعية وتنوير الشعْب المتفرج داخل المسرح(4) وبأسلوب ساخر جدا وتهكمي، مرفق بتصوير دقيق للسياسة الغاشمة على الشعب الباقي فوق التراب الفلسطيني كما قال المهرج: لبدور [(بقينا حرصاً على البقية يا بدور(ص16)] وبذلك مستحضرا بوعي وذكاء الموروث الديني الذي يتداخل ويتقاطع في السرد الحكائي، بغية تطعيم النص وتقوية بنيته السردية والأسلوبية: [(أرى ماردا ينطلق من قمقم محطم. قمقم من قماقم سيدنا سليمان الحكيم، حطموه عليه ليحطموه.(على لسان الفتاة / ص28)] / [ سمعت هذا المهرج، يوما يردد كلمة علي بن أبي طالب إن- أفعالكم أنطقتنا-هل تورطنا؟(ص58)]- [بدور: كل حزب بما لديهم فرحون(آية قرآنية) المهرج: صدق الله العظيم(ص68)] / [الشاب: كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا(ص 88)]

وهكذا ينتهج العمل رؤيته الطليعية / المقاوماتي، لأن مسرحية " لكع بن لكع" تتأطر في المسرح السياسي أو مسرح المقاومة الذي: [(يحمل كثيرا من سمات المأساة أو التراجيديا، ولكن ليس بالمفهوم القديم كما جاء في المسرح الإغريقي أو الكلاسيكية الحديثة فالبطل لا يموت من أجل خطأ ما أو بسبب عقاب الآلهة له. بل نجد مفهوما مغايرا للبطولة، مفهوما مقترنا بالشجاعة والإقدام لتحرير الوطن (5) مما نقبض من خلال الحوار بين الشخصيتين الرئيسيتين(بدور/ المهرج): بأن[بدر] الحاضر= الغائب. ما هو إلا رمز للمقاومة الفلسطينية: [(بدور: بدر قتله نفاذ الصبر من هذا الأمر) - (المهَرج: بَدر بريء. بدر بَطل) ص67] وإن كان النص تقنيا يمارس الخروج من السرد للحوار، ومن الحوار للسرد، الهدف منه توليد حِوار بديل/ مفاجئ، خارج التعليق والوصف الذي يكمله الجمهور المشاهد لما يصدر من[صندوق العجب] ! ليتحول إلى سرد مرة أخرى، فهذا فالتداخل والتقلب، هدفه تحقيق عنصر التغريب، موازاة بالتداخل المكاني والزماني، في المسرحية. حتى لا يَعْرف المتلقي الاستقرار، ولا يطمئِنّ للمُسلّمات، بين طرَفيْ هاته العلاقة [سرد/ حوار] بحكم أنه انتهج أطروحة بريشت[الملحمية] الملائمة أساسا لطبيعة الوضع السياسي، الذي يعالجه إميل حبيبي في " لكع بن لكع": [(المهرج: مجرد تشخيص لإثارة مشاعركم، على الطريقة العصرية (ص 43)] لأن المسرح السياسي لا ينمو إلاّ في ظل المجتمعات المتعطشة للحرية والمطالبة بها دوماً: (رغم أننا تأخرنا في طرق المسرح السياسي، إلاّ أننا حينما ولجناه، فلقد ولجناه من أوسع أبوابه، واستطاع المسرح العربي في الفترة الأخيرة، أن يقدم تجربة مسرحية ثرية تستحق الدراسة على مدى سنوات قليلة (6) وبالتالي فهذا النوع من المسرح يجادل الواقع ولا يحاكيه باعتبارأن: (المسرح السياسي لا يهتم بالفرد ولا يحاول تصوير شخصية لأنه أساسا لا يحاول التعرض لمشكلة فردية بل مشكلة جماعية (7) وإن يبدو بأن أغلب الحوارات [ثنائية] ولماما [ثلاثية] - (ك) [الجارية = أبو شارب = أبو شاربين] (أو) [المهرج = بدور[(أو) [السندباد= الدغفل](أو) [المهرج= شهرزاد] (أو) [الجارية = قلب الاسد] (أو) [ست الحسن= المهرج] (أو) [المهرج = الفتى= الفتاة] فهي تعبر عن الجماعة (النحن (في) الأنا) بشكل ضمني ورمزي كذلك: [(الشاب: ولدت بلا اسم)- (السياف: اسمك الحركي؟)- (الشاب: شعْب) ص87] ومفردة (شَعْب/ تكررت عِدة مرات في النص، وأكثر إيحاء عن "الجماعة" وحضورها الفاعل و الذي يمثل الصمود والتحَدي، والوقوف في وجه المحتل وسياسته الغاشمة: [(الفتيات: احصدوهم... احصدوهم... احصدوا.. (ص33)]

صفوة القول:

 فمسرحية "لكع بن لكع" نص يغري بالإيحاءات والقراءة الذوقية، ولكن ستتمظهر جماليته وخطابه الإيديولوجي؛ لحظة التمسرح واشتغال مفرداته وشخوصه فوق الركح. حتى نقف على عمق الرمز/ الرموز المطروحة، ولقد عبر عليها: [(المهرج: رموز، يا بدور. مجرد رمز، تتعَدد الأسباب والموت واحد. حيرني أمري. فأي الرموز أختار؟ (ص81)] فطبعا أي الرموز يمكن أن نختار؟ وما قصد إميل حبيبي من " رمزية "المهرج" وشخصيته التي اعتبرتها " شهرزاد " طويل اللسان/ ونعتبره (نحن) الناطق الرسمي للوقائع والأحداث بكل تجلياتها.

هل اختير رمزا، لكشف سجلات الحرب والمعاناة بين الفلسطينيين / الإسرائيليين: [(إن الحرب لا تعود، يا أولادي، بل تأتي. الحرب تقْدم. الحَرب تجيء (ص58)]؟ أم لتعرية أعطاب الواقع العربي وسيطرة اليأس على نفوس البعض وما تعاني منه، جراء القضية الفلسطينية؟

هل رمزية المهرج تكمن في الرمز الفلسطيني الذي لم يهاجر أرضه مثل بدور: [(بقينا حرصاً على البقية يا بدور(ص16) أو بمثابة صوت المقاومة الصادقة و ضمير صحوة الفلسطيني الخالصة: ["المهرج": أناديكم، أناديكم، تعال يا بدر. تعالي يا بدور ! كأننا يا بدر، لا رحنا ولا جينا (14)] بداهة هنالك أسئلة كثيرة ومتعَددة الجوانب والأوجه؟ أسئلة ليست غامضة ولا معلقة بل مفتاحها بين خطاب " لكع بن لكع"

***

نجيب طلال

........................

الإستئناس:

1) مسرحية - لكع بن لكع: ثلاث جلسات أمام صندوق العجب: حكاية مسرحية - لأميل حبيبي- / دار الفارابي- بيروت /1980

2) الشيء الآخر وإشكالية التجنيس الأدبي: رواية أم مسرحية بقلم: جواد العقاد/ رئيس التحرير صحيفة اليمامة في 3/07/2021

3) إميل حبيبي وصورة الباقين بأرضهم بعد النكبة- لفخري صالح- مجلة بيت فلسطين في 22/10/2022

4) فلسطين في المسرح المصري لسامية حبيب / ص25 - مجلة مسرحنا – عدد 843 بتاريخ 23أكتوبر2023

5) نفسه

6) مقدمة في نظرية المسرح السياسي - لأحمد العشري- ص4 - الهيئة العامة للكتاب مصر/ 1989

7) المسرح السياسي لعبدالعزيز حمودة ص 19 - مكتبة الأنجلو المصرية /1971

كتابة موازية لما هو كائن من النقد

اختلفت موازين الحياة بشكل كامل، واختلفت معها العلوم والفنون، ومن تلك العلوم (علوم اللغة والمنطق وعلم الكلام)، وأختلفت قواعد الحديث، وتعددت اللهجات في الوطن الواحد، فما بالك وأقطار شتى أو العالم أجمع، وما كان يصلح بالأمس ليس بصالح اليوم، ففي الأسواق الشعرية القديمة (عكاظ، والمربد) وغيرها الكثير كان النقد آنياً يقدم شفاهاً، لكنه بحجم اللغة التي ينظم فيها الشعر، لغة فصيحة عربية أصيلة لا شائبة فيها، وهي لغة الجزيزة العربية وصحرائها القاحلة التي كان العرب أنذاك يرسلون أولادهم لتعلم الفصاحة في النطق هناك.

لذلك كانت علوم اللغة وفنونها توازي أو تجاري تصاريف اللغة نفسها، والفنون الأدبية بمستوياتها سواء في الشعر أو الخطابة أو النثر والملحمة كانت تتطلب مستويات متقاربة أو مماثلة لما عليه الشاعر أو الأديب، لذلك كانت لغة النقد عالية في مضامينها متشحة بثقل ما يستخدمه العرب من تعابير وتصاريف لغوية معبرة عن الصورة التي تحويها القصيدة أو الفنون الأخرى (كالملحمة).

فنرى مثلاً عند أمرؤ القيس في معلقته (ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي وما الاصباح منك بأمثل)، لغة بتكوينات صعبة قد تصل حد التعقيد في بعض الأحيان، (كساع ليس له قدمان)، (كجلمود حطه السيل من عل)، كلمات لها ثقلها ووقعها على السامع، لكنها كانت تتناسب والفترة التي راجت بها، أما عن أجيال اليوم بعد أن هجرت القراءة وضاعت المعاني، وتبدلت العربية بالعشرات من اللهجات المحلية التي غيبت معان المفردات، واستبدلتها بما يتناسب وعصرها التي هي فيه، كان لزاماً أن تتبدل قواعد النصوص النقدية وتذهب إلى التبسيط تزامناً مع واقع العصر المعاش والذي يتصف بسرعة وتيرة الحياة وتبدل كل التقاليد والقواعد الزمنية واللفظية (المكانية والزمانية) بعد ظهور الإنترنت وتقارب المسافات وأختلاط المفاهيم وتداخلها، فما كان يصلح للأمس ليس بالضرورة هو نافع أو صالح اليوم.

إن عملية التفاعل التي يخلقها النص النقدي مابين الناقد والشاعر هي تعبير عن تفاعل ذو اتجاهين من عالمين مختلفين ربما، تجمعهما التجربة، وتلعب موازين الخبرة والذائقة النقدية للشعر أو العمل الفني عموماً لدى الناقد لتفسير ما أراد الشاعر أو الفنان التعبير عنه من مضامين في عمله .

وهنا تكون النظرية (المفرغة)، نظرية تبسيط النص النقدي ضرورة فاعلة تتناسب ومجريات العصر، وانحسار تاثير القراءة وهفوت بريقها الذي كان في العقود السالفة من القرن الماضي، فالعصر الثقافي التكويني اليوم يختلف جذرياً عما كان في الأربعينات والخمسينات وما تلاها وصلاً إلى السبعينات، التي أنفرط العهد الثقافي عامة خلاله، واستبدلت المفاهيم الثقافية عموما بغيرها، وعليه لابد للنقد أن يتماشى والتغيرات المطروحة والمستوى الثقافي الذي عليه الشارع ومنه يتمخض القراء.

لابد من اخراج (النص النقدي) من سيطرة (السلطوية) على شكله بالمجمل، وترك الجمود فيما يستخدم من تعابير هي أصلاً ثقيلة على سمع المتلقي، واستبدالها بمسميات قابلة للتناغم ولغة العصر التي تتسم بالتغيير، كما هو العصر الذي نعيشه اليوم، والحال عامة لاثبات ولا نمط يسير على سكته وبقوالب ثابتة يمتلكها البعض، فيما لايفهمها الغالب من القراء.

فليس بالضرورة أن يكون المتلقي على شاكلة الثقافة التي عليها الناقد، ومن يتعامل بالأسلوب الثابت والقوالب الجاهزة، ومدارس النقد النمطية الكلاسيكية، ليس بالضرورة أن يكون القارئ منتمي لتلك المدارس ولابالضرورة أن يعتنق تلك المناهج السلطوية المتسلطة على فكر القراء لتفرض عليهم قالب واحد يتبع مدارس أسست منذ عصر النهضة وما بعدها، حتى وإن أطلق عليها مسمى (الحداثة)، أو قيل أن ما يأتي به النقاد اليوم من منهج هو التجديد الذي يتوافق وطبيعة العصر وقوالب النص النقدي وقواعده الحديثة، وهو كلام لايعتد به كون كل مايطلق عليه حداثة في النص النقدي سيكون بعد سنوات قصيرة في عداد الكلاسيكي، ذلك أن المنهج المتبع في تشكيل النص النقدي ناتج عن قواعد المدارس القديمة في النقد ومنها بل أبرزها (المدرسة الكلاسيكية).

وأذكر أني قد سبق لي وأن قرأت نصاً يتناول أراء الأستاذ (محمد بنيس، أودونيس) وأرائهم مما يعتد بها في مجالات النقد، تفيد بأن (صعوبات الفهم للمنتج النقدي وفق الطرق التي أرستها المدارس القديمة على اختلافها من قبل القارئ يعد تقصيراً في وظيفة النقد الذي نراه وفق التصورات التي خلفتها المدارس الكلاسيكية قصوراً في ايصال معاني النص إلى القارئ، وتلك الصعوبات قد تكون ناجمة عن توظيف المصطلحات النقدية التي ينفر منها القارئ اليوم في غير مجالها، كاستخدام ألفاظ وجمل غير مألوفة أو صعبة الفهم أو أن تكون ذات عمق فلسفي يحمل تصورات غريبة على فهم القارئ. وبالتوافق مع ما جاء به (محمد بنيس، أودونيس)، نرى أن تغير الحال واقع مفروض وليس طارئ، وهذا التغيير شامل لايجزء، ومنه أن تسري قواعد ذلك التغير على النقد بوصفه جنس من أجناس الأدب، إن تغيرت تلك الأجناس فلا يقف النقد محصوراً في زاوية القواعد النافذة وفق التصورات الدارجة في أسس النقد.

من هنا جاءت دعواتنا للنظرية المفرغة (تبسيط النص النقدي) ونعني بالمفرغة، أي التي لاتحتوي التعقيد في تفسير النص كما في النقد القديم أو الدارج. والدعوة تقوم على أساس تضمين الاستبدال في النص النقدي، فلا يكتب بمضامين خارجة عن مألوف ثقافة العصر الذي نعيش، ومنه تستنبط ثقافة القارئ عموماً. وحسبي أن القارئ يبحث عن ما هو سلس بسيط يتوافق والقراءة السريعة التي باتت تشكل سمة العصر الحالي.

إن أهمية النقد على الساحة الثقافية يتشكل منها حجر الأساس في بناء المشهد الثقافي نحو إنتاج رؤية أعم وأشمل، فالناقد يتناول النص بطريقة مغايرة لما عليه القارئ، وما لايدركه القارئ يفسره الناقد، لذلك فالناقد الحصيف هو الذي يعمل بتوافق الأسس وسرعة رتم الحياة وما يتطلبه استدراك القارئ للمعاني، وتوضيح الصورة التي يضمنها الشاعر أو الكاتب في ثنايا نتاجه الأدبي.

لكن قد يقول قائل أن هذا التحول في حالة النقد قد تفتح الباب لحوار يطول ولاينتهي إلى شيء، ولاينال القارئ منه إلا الضياع وسط ما يطرح من مفاهيم وتنظيرات في النقاش الدائر بين مؤيد ومعارض، وهذه ايضاً تدخل ضمن تفصيل دعوتنا لحل مثل هذا الاشكال، فنحن لاندعو لترك الجذور أو الأسس التي عليها النقد بقدر ما تتضمن دعوتنا التبسيط في طرح النص النقدي وفق أسس وعناصر بناء وتكوين النص، أي عدم الخروج على الأساسيات بل تجاوز ما يشكل صعوبة في الفهم عند القارئ، إلى التبسيط ثم التبسيط وبعدها التبسيط.

ولنذهب إلى مثل معين للتقريب، فبدلاً من استخدام مصطلح (التناص) الذي يتداوله النقاد كجزء من أساسيات صنعة الكتابة، ولتبيان حرفية الناقد في ما يكتب، نقول التشابه في النص أو التشابه في التناول الشعري أو السردي عموماً، (التشابه)، وهو المعنى الحرفي لمصطلح (التناص)، هناك من يذهب إلى تأويل المصطلحات، وطرح تفسيرات ومرادفات عديدة لها اعتراضاً على استبدال المصطلح، والطرح بصورة مبسطة، وهذا من حق أي ناقد أو اديب يتبنى المنهج الكلاسيكي أو الواقعي أو غيرها من مدارس الأدب ومذاهبه، إلا أن المحصلة لاتعدو أكثر من نقاش عقيم لايقدم للفكرة أي اضافات وسيبقى القارئ حائر بين من يعترض ومن يدافع، وتلك هي اللاجدوى بعينها.

سيداتي سادتي ...رتم الحياة تبدل شئنا أم ابينا، وهذا التبدل، وهذا التغيير سيطال كل شيء ومنه تلك الأشياء هو المنهج النقدي، فقد ذهبت تعاليم الكنيسة، وذهبت معها تنظيراتها التي تبين إنها من ابرز أسباب تخلف أوربا في تلك القرون وظهرت مراحل التنوير والانفتاح بعد الثورة الفرنسية، وثبتت أراء أرسطو، واخذ العالم الثائر بما جاء به روسو وفولتير بعد عصر الكنيسة.

اليوم نقول بعد الذي شهدناه من هول التغير الذي لفت صفحاته مشاهد العالم أجمع، ووصلت أن يطال هذا التغيير حتى القيم الإنسانية، فهل سيسلم النقد، هي دعوة للتمسك قبل التخلي، التمسك بالأسس والمحافظة عليها، وضرب التعقيد والتشدد والتمسك بصعوبات ما يكتف النصوص، إلى تبسيطها وجعلها في متناول الجميع فهماً وتفاعل.

***

سعد الدغمان

دراسة في اللغة والتخييل في رواية (العرّافة ذات المنقار الأسود) للروائي د. محمد إقبال حرب

مدخل: "السردية الروائية لا يمكنها أن تتحقق في الواقع إلا إذا اعتمدت على التخييل باعتباره استراتيجية إبداعية لجلب المتلقّي نحو عوالم متعدّدة وممكنة التحقق في الواقع...[i]

لكنّ هذه العملية التخييلية لا تتيح إمكانية القبول لدى المتلقي إلا بواسطة اللغة، فاللغة هي الأداة الوحيدة للكاتب في صنع عالمه التخييلي وبناء فضائه الروائي واقتحامه بالشخصيات التي تعطي للفضاء بعده الزماني والمكاني بأقوالها وأفعالها وحركاتها وانفعالاتها، وبناء الحدث وتنامي الصراع ... إلى ما هنالك من عناصر البنية الروائية.

منذ الصفحات الأولى من روايته حاول الكاتب أن يقنع المتلقي بوجود عالمٍ آخر هو عالم الدجاج باختيار أسلوبٍ سرديٍّ ولغةٍ خاصة، لا سيما في السرد والوصف؛ فهل وفّق إلى ذلك؟ وهل كانت لغته في كلّ عناصر الرواية: السرد والوصف والحو ار، لغةً مؤتلفةً متجانسةً مع عناصر التخييل؟

ومن جهةٍ أخرى هل كانت لغته، لا سيما في الحوارات، متوافقةً مع عالم الطيور ومتوافقةً مع صفات كلّ شخصيةٍ من شخصياته الرئيسية، ودورها الوظيفي والدلالي في أحداث الرواية؟

في هذه الورقة النقدية سنحاول التحرّي عن لغة الكاتب، ومقارنتها، للفحص عن مدى تآلف عناصرها في عالم التخييل في الرواية، وهل نجح الكاتب في استغلال عناصر الرواية المختلفة في طرح رؤيته الخاصة.

لكن قبل البدء، لا بدّ من بعض الحديث عن بنية رواية العرّافة ذات المنقار الأسود، إذ اختار الكاتب أن يبني روايته في عالم الطيور، الدجاج بالذات، وهذا أمرٌ مطروقٌ في السرد العربي والعالمي، حيث كان عالم الحيوان فضاءً لحكايات كليلة ودمنة، ليهرب كاتبها من مواجهة السلطة بآرائه وأفكاره الحقيقية، فحمّلها على لسان الحيوانات، ومع ذلك لم ينجُ من البطش.

أمّا ابن طفيل فقد اختار المزج بين عالم الحيوان والإنسان في قصته الفلسفية (حي بن يقظان)، وكان ذلك اختياراً ملزماً، كي يكشف رؤيته الفلسفية في مآل حي بن يقظان وحتمية إيمانه بخالق للكون والطبيعة، تتماشى مع فلسفته في الوجود، ورؤيته الإيمانية.

وكذلك جورج أورويل استند على مزرعة الحيوانات وصراعاتها في نقده للنظام القمعي، ووضع رؤيته المعارضة للنظام الستاليني.

فإن هذه الرواية حاولت إعادة رسم صورة الصراع البشري القائم على التمييز وأدواته السلطوية: الغيبية والنفسية والقمعية في مجتمعٍ متخيّل، ليسجّل الكاتب رؤيته المندِّدة بهذا الصراع ومن يقف خلفه، وليجعلَ المتلقي، في نهاية قراءته للرواية، يندد أيضاً، وينحاز إلى رؤية الكاتب، من خلال ردود الأفعال التي أدارها الكاتب بمهارة، وباختياره موضوعاً يكاد يجمع على مدى شرّه كلُّ البشر، وكل ذلك من خلال استغلاله طاقة اللعة في الحوارات والسرد والوصف.

أولاً: الفضاء الروائي

من حيث بنية الرواية الزمانية والمكانية، فإن التخييل لعب دوراً كبيراً في تأثيث الرواية وتمهيد البنية المكانية ببيئة خيالية تنتمي، في عناصرها الأساسية، إلى عالم الطيور، هو أقرب إلى عالم ميتافيزيقي من حيث إنه عالمٌ ليس له وجود، نجح الكاتب في بناء العالم المكاني للرواية وأعطى للخيال طاقته الكاملة في ملء الفضاء المكانيّ بالعناصر، سواء في الأبعاد الكبرى كالمكونات الجماعية للمجموعات الدجاجية في أماكنها (ممالكها) المختلفة وما ترمز إليه من دلالات: "اجتمعَت للدّيك الذهَبيّ مقاديرُ الحُكم فأقام مَزرَعة واحِدة تضُمُّ بِضعَة آلاف من بني دَجَاجة توارثَها أحفادُه حتى اليوم. لم يتخَلّف عن إقامَة الوَطن الجَديد إلا شراذم قَليلَة منبوذة أقامت عَشوائيات دَجَاجيّة... على مرّ العُصور، أَصبَحت المزرعةُ وَطنًا لأحفَاد سَيّدنا سَهم، والمزارِع الأصغر المحيطَة بها ما هي في الحَقيقَة إلا عَشوائيات تمثّل أطيافًا من العالم الدَجَاجي المنبوذ "[ii]

أو بالعناصر الدقيقة للأماكن الداخلية والتفاصيل التي تمنح المكان صورة واقعية، وتبثّ فيه الحياة، وإن كان أساسها الخيال:

"وَصَلَ الجَميع إلى مَزبَلة أنيقَة تحفُّها من الجوانِب مظاهرُ النِعمة ببساطَة الطبيعة التي أضفَت على الجوّ حُبورَ الاستقبال وراحة النَفس"[iii]

وفي الزمان لعب الكاتب بالخيال لعباً جميلاً، مستخدماً طاقة اللغة وتنوّعها في إضفاء حالةٍ من الصدق في بناء فضائه الروائي، يظهر ذلك في لغة السرد والوصف على وجه الخصوص، مثلاً:

"للمزارِع هنا وحدَة روح وتاريخ يتّخِذان وَقَفَات عِزّ أزليّة من عَهد سَيّدنا نقَّار، رمز وُجود الريشيّات، مرورًا بمُجدّد العهد الدّيك العبقَري الشهيد سَهم، إلى عصرنِا هذا، عَصر البَيض الكِلسي الحاضِر الذي شهِد استقَرار بني دَجَاجة في هضَبة آمَنة تتربَّع على سُلطتها المزرعة الذهَبيّة العَظيمة [iv]

أو استخدام جميل للتوقيت والتأريخ في فضائه الدجاجي المتخيّل:

"كما سَمِعتُ أنهم بعد عدة دروات تَفقيسيّة سيُعلِنوننا مُستَعمَرة لهم ويسلُبونَنا ثَرَواتنا"[v].

ابتدأ الكاتب أحداث الرواية بزمن له أهمية من حيث الدلالة والرؤية التي سيحمّلها الكاتب في روايته عبر الأحداث القادمة، يقول في الصفحة 15: على لسان الراوي العليم: "بعد معركةِ المَناقير الكُبرى، تفرّق من بَقي حيًّا من بني دَجَاجة شِيعًا وأفرادًا لسَنوات طِوَال حتى بدأ الدّيك الذهَبيّ بجمعُ الشّتات في أرض الوَطن التي نشأ عليها «سَهم » العَظيم[vi]"

والإشارة إلى أن زمن الأحداث يقوم على أنقاض الزمن البشري، منشئاً ما يشبه الحقب الجديد، فإذا كانت الأرض مرت بحقب سيطرت فيه الديناصورات وحقب للسرخسيات، وأحقاب جيولوجية متعاقبة كانت تتميز بسيطرة نوع من الحيوانات أو النباتات، فإن الكاتب أراد أن يخلق حقباَ جديداً يؤرخ بانقراض مملكة الإنسان وبناء ممالك الدجاج. هذا التأطير الزماني يفتح أمام الكاتب إمكانيتين دلاليتين: فمن ناحية يعطي لزمن الرواية بعداً مستقبلياً غير محدّد في حيزّه المستقبلي، ما يخفف لدى المتلقي من حدّة الفجوة التخييلية في الرواية كلها التي تجعل الهيمنة لجماعات الدجاج الضعيفة، وهذا التناحر والصراعات التي تحاكي صراعات البشر، إذ لا أحد يدري ماذا يحمل الزمن في امتداده المستقبلي البعيد.

ومن ناحية ثانية، يستفيد الكاتب في كثير من تفاصيل الرواية، وبعضها ذو أهمية، من ملامح البشر وبقايا عصرهم، محرّكاً للأحداث مثل مفهوم الشّوّاية التي تعطي دلالتين أيضاً، دلالةً واقعية هي المحرقة التي لا يخفى معناها وتاريخها ونتائجها على أحد، ودلالةً أخرى ميتافيزيقية استمدها من التراث الديني من مفهوم الجحيم والعذاب بالنار التي يخيف بها طغاة البشر شعوبهم المقهورة عبر أدواتهم الدينية، أو يجد فيها المستضعفون الأمل باعتباره مصدر غيبي للعدالة المفقودة.

بقي أن نشير إلى خطأ سردي بنيوي في الرواية، حيث أر ّخ الكاتب على لسان الراوي لأحداث الرواية أنها تقوم على أنقاض الحضارة البشرية، كما أسلفنا، وفي الصفحة 208 يقول الكاتب على لسان إحدى الشخصيات: "نحنُ نتعرّض باستمرار للهَلاك على يدِ البَشر..."[vii]

ثانياً: الشخصيات

وهي تحيلنا إلى الحوارية وتعدّد الأصوات:

"يؤكد باختين أن العمل الروائي يتشكل من مجموعة من أصوات وخطابات متعددة، وأنها تتحاور متأثرة بمختلف القوى الاجتماعية من طبقات ومصالح وغيرها...>[viii]

وباعتبار اللغة، حسب أدوارد سابير هي "طريقة إنسانية خالصة وغير غريزية لتوصيل الأفكار والانفعالات والرغبات بواسطة نسق من الرموز تت ولد توليداً إرادياً"[ix]، فهنا تصبح مهمة الكاتب أصعب كون المشاهد الحوارية تدور على لسان طير أعجم، لا يعرف عن مشاعرها ورغباتها، وكيف تعبّر عنها، لذلك لجأ الكاتب إلى لعبة تخييل جميلة، تضيّق الفجوة بين الخيال المحض، وهو لغة الدجاج، وبين اللغة التي لا بدّ من استخدامها، باعتبارها الوسيلة الوحيدة في عملية إرسال الخطاب، بإعطاء الشخصيات أسماء ذات دلالات تشير إلى المكانة في مجتمعها مثل (العرف الأكبر، الديك الذهبي، العرّافة، الآمر، الزعيم..)، أو ظيفية محدّدة، مستخدماً معجماً لغوياً غنياً وعارفاً بعالم الدجّاج، مثل: (ضجاج، صيّاح، ودّان، ريشة)، أو قطع المشاهد الحوارية بتدخّل الراوي العالم ليصف لنا حال إحدى الشخصيات وهي تتحدث، في محاولة لكشف مشاعرها، أو أفكارها... تلك الحالات الإنسانية الخالصة، وكذلك تحميل الشخصيات مشاعر وإرادة وأفكار الإنسان وأهدافه وتخطيطه، وكل ما يملك الإنسان من إرادة ومشاعر ورغبات مستخدماً تقنية الأنسنة أو التشخيص في عملية التخييل؛ وهنا نجد أن اللغة لعبت دوراً هاماً في السرد والوصف، حيث اعتمد، على الوصف كثيراً في جعل عملية التخييل تصبح واقعاً روائياً منسجماً مع شخصيات الرواية وبنيتها الزمانية والمكانية، مستخدماً عناصر الطبيعة وعالم الدجاج في وصف المكان والزمان والشخصيات، وكذلك في سرد الأحداث على لسان راوٍ عالم.

كان الكاتب موفقاً في لغة الوصف، وصف الشخصيات ووصف المكان والزمان، وحتى في اختيار الأسماء، فجاءت لغته متنوعة في مفرداتها، مرنة متحركة في تراكيبها، مناسبة للغرض وتحمل فيها درجة من الإقناع، لكن لغة الحوارات، وإن كانت متغيرة في مضامينها الفكرية ورؤاها المتنوعة حسب الشخصيات ودلالاتها ووظيفتها الروائية. إلا أن تراكيبها كانت متماثلة مع لغة السرد، لغة الراوي العالم، فلم نلمح تنوّعاً كبيراً من حيث درجة الوعي، والاهتمامات المختلفة، والأهداف... والحوار، كلام الشخصية، يختلف عن السرد أو الوصف كونه يحمل في ثنايا اللغة أفكار الشخصية وعوالمها وعالمها الروحي والسمات الفردية التي تميز كل فرد عن آخر في عملية الكلام.

ربما مردّ ذلك أن الوصف والسرد يكون دور الروائي فيهما دوراً أسلوبياً يعبر عن مهارته في التقاط التباينات الدقيقة واختيار الألفاظ التي تناسب تلك التباينات، حيث إن العناصر التخييلية في الوصف والسرد لها مرجعية واقعية، لها مثال في الذاكرة يمكن أن يوظفه المؤلف في عملية التخييل، وتحميله الدور الوظيفي والدلالي المناسب حسب مهارة الكاتب وقدراته الأسلوبية، بينما في لغة الحوار، في هذه الرواية بالذات، وكون أبطالها من عالم الطيور البكم العجماء، ليس لها مثال واقعي يستلهم منه ويبني عليه في عملية التخييل.

الموضوع والرؤية

الكتابة الروائية ليست مجرّد سردٍ مبني على خيال واسع، بلغة ناضجة مرنة، إنما هي استراتيجية يتبعها الكاتب ليسجل من خلالها موقفاً ورؤية وفلسفة في العالم المحيط به.

الأحداث في الرواية متخيلة؛ لكنها انعكاس – على مستوى اللغة فقط- للعالم البشري أفرغه الكاتب من دلالاته المباشرة الحقيقية والواقعية التاريخية، ليضعها في إطارٍ تخييلي له دلالاته الخاصة التي- وبسهولة- يدرك القارئ إحالات تلك الدلالات وإمكانية حدوثها في العالم البشري الواقعي، واقعيتها تكمن في إمكانية تحققها، وهذا هو الدور الأدبي للعملية التخييلية.

بما أن التيمة الأساسية التي قامت عليها الرواية هي تيمة التمييز بكل أشكاله، وما ينتج عنه من صراعات وحروب وإبادة وبطولة وخيانة... فإن صورة هذا التمييز تظهر جلياً في اختيار الأماكن ووصفها، بل وحتى أسماؤها ذات الدلالات المباشرة أحياناً.

الأحداث الرئيسية في الرواية التاريخية تأتي في الحوارات في غالبيتها، الأمر الذي يدفع بالمتلقي إلى الانحياز مع هذه الشخصية أو ضد تلك، وبالتالي إلى ما تمثله دلالياً في إسقاطها على الواقع التاريخي. وهنا لعبة الكاتب في الأيهام وطرح رؤاه وأفكاره ومعتقداته الشخصية بشكلٍ مختفٍ على ألسنة الطيور، نقرأ مثلاً:

الحَكيم: أنظُر إلى رِجال الدين من البَشَر الذين صوّروا الله عزّ وجلّ مخيفًا مُرعبًا يَنتظِر ابن آدم على هَفوة ليُدخِلُه النار ويُعذّبه مُستلذًا بصَيده، مع أن الله رحمن رحيم كتَب على نفسه الرَحمَة.. يَفعَلون ذلك ليُخيفوا الناس، فأضحى بنو البَشَر لا يَعبُدون الله لما هو أَهلٌ له، بل خوفًا منه"

الزَعيم: ماذا تنَتظِر من شَعبٍ جائِعٍ، خائِفٍ ما عاد يَعرِفُ صَديقه من عدوِّه؟ إنهم شَعبٌ مَشلولٌ مُنهَكُ القِوى فاقدُ الوعي الآن."

زغلول: أحجارُ الحَياة الكريمةِ قد تكونُ في أي من رُكامِ المتاهات، لذلك عليك التّنقيبِ والتمحيصِ وإجراءِ الاختبارات حتى تَعلَم المزيّف من الحقيقي، كي تفوزَ بالجَوهَرَة الأُم، فيشِعَّ قَلبُك بنورِ الحَقيقَة وتتفَتّحَ خزائنُ حِكمتِك قَرابينَ لعُرفِك المقَدَّس.

وعلى العموم، حفلت الرواية بالأفكار والرؤى المختلفة التي تظهر رؤية الكاتب وفلسفته في كثير من الأمور المهمة، ذات الأثر الكبير في المجتمع الحقيقي، الذي لم تكن الرواية وعالمها الدجاجي إلا إسقاطاً له، وترميزاً:

"يابني دَجَاجة لا يوجد علمٌ ضارّ، بل مخلوقات شرّيرة تُحيل العِلم إلى وَباء"

"قَضى القديس الأوّل شَهيدَ مؤامرة، وقَضى الثاني شَهيد خِيانَة، وكلتاهما - الشهادة والخِيانَة - كانت الأصل أجدادا لا يتذكّر التاريخ وُجودَه."

"أن أَفضَل وسيلة لتحطيم الشَعب الدَجَاجي الملوّن أو أي شعب آخر هو التوغّل في معتقَداته لاستثارة بؤر الكراهيّة بهدف زَرع اُصول الفتن والحِقد والكراهيّة في النُفوس والقُلوب من أجل إبقاء الولاء للسُلطان"

رواية العرافة هي إعادة استحضار تاريخ الصراع البشري؛ لكن ليس استعادة مرآوية، نسخ أو تسجيل، لكن المؤلف اختار القضية الأكثر تأثيراً في مسيرة التاريخ العالمي؛ ولا يخفى على القارئ أنى هذا الاختيار بحد ذاته يحمل رؤية الكاتب وتصوره الخاص.

الحوارات بين الشخصيات، لاسيما الحوارات التي تحمل حجاجاً أو جدالاً، هي حوارات بين الكاتب المتخفّي خلف شخصية ما من شخصيات الرواية، وبين شخص مفترض مخالف يضعه الكاتب أمامه في عملية التخييل، ويطرح الأسئلة المعارضة المحتملة، ويجيب عنها من خلال حوارات عميقة، أعطت للرواية بنيتها الفكرية التي تميل إلى الفلسفة، هي فلسفة الكاتب ورؤيته.

الرواية ليست رواية فلسفية ولا تاريخية ولا واقعية أو سريالية. هي رواية أفكار، تنبع وتتشعب من فكرة واحدة رئيسية هي فكرة الحروب والصراعات بين البشر، ليطرح، من خلال نتائجها الكارثية في الفضاء الروائي، فكرة السلم، ليدين أسباب الحرب، التفرقة بكل أشكالها بين المجتمعات وبين الافراد في المجتمع الواحد، فكرة السلطة وما تستلزمه من أدوات عنف وخطط هدامة مدمرة.

***

بقلم: منذر فالح الغزالي

.......................

[i] . محمد سيف الإسلام، قراءة في كتاب الرواية العربية ورهان التجديد للدكتور محمد برادة، موقع إسلام اون لاين

[ii] الرواية ص 15

[iii] الرواية ص46

[iv] الرواية ص 20

[v] الرواية ص 211

[vi] الرواية ص 15

[vii] الرواية ص 208

[viii] ويكيبيديا

[ix] محمد خرماش، جدلية اللغة والواقع في الخطاب الروائي- مقاربة نظرية/ موقع علامات، 13/8/2020

النص السردي يمتلك براعة التجديد والابتكار في الصياغة الفنية في تقنياتها الحديثة، تتجاوز التقليد والمألوف، إذ يملك خاصية الصراع بتصاعد الفعل الدرامي في سرد حكاية النص، وخاصة ان الاستاذ (شوقي كريم حسن) يمزج السرد بالدراما، ليشكل الثنائي في تقديم الحدث في البنية والأسلوب، هذه المنهجية برع بها بشكل فائق ومرموق، في الاتجاه الروائي أو القصصي الذي يسلكه، يصب في الاتجاه الواقعية الجديدة أو الواقعية الانتقادية، ويوظف معالم الكوميدية / التراجيدية (المضحك / المبكي) متدفقة من الخيال والواقع، على خلفية فكرية عميقة الدلالة والاشارة، في عمق الرموز الدالة في المعنى والمغزى، في تناول مفردات الواقع بحجمها الاجتماعي والسياسي الطاغي للحقب والمراحل التي مرت على العراق، وأخذت صبغتها الخاصة ومتميزة. نجد براعة التمرد والمشاكسة في الشخوص، في الشخصية الواحدة، التي تدور حولها الحدث أو الاحداث في النص السردي، وفي لغته المشوقة في غاية البساطة، حتى تشعل السخونة في الحدث الدرامي / السردي، في تنقلاتها وتحولاتها نحو الذروة. مما يخلق براعة في النص القص بتحويله الى مشاهد تصويرية في الصورة والوصف، يتناولها بكل شجاعة وجرأة في المكاشفة الصريحة، في عمق الإحساس والشعور، ليجعل القارئ يعيش احداث السرديات، هذا ما نجده في المجموعة القصصية (عربة ماركس المنسية) بشكلها الانتقادي الساخر، وفي روحية صبي متمرد ومشاكس. كأنه يريدان يصعد الجبل الى القمة ليمسك الوهم والحلم، وان لا يهادن ولا ينحني للعواصف مهما كانت شدتها، كما وعد وتعهد الى والده المرحوم كما جاء في الإهداء (الاهداء... الى كريم حسن شهاب.... الذي علمني أن مواجهة الظلم مهمة أنسانية، شريطة ألا تكون مرتبطة بمصالح شخصية ضيقة الأفق، وأوصاني، ذات غضب... (مجنون من تسيره أوهام محال الى تحقيقها) لذلك نتابع ونلاحق ذلك الصبي المجنون والمتمرد، كأنه في غابة الوحوش الكاسرة ليسرق منهم الحلم، او انه يحاول ان يمسك الريح براحة يديه، هذا الصبي الجنوبي القروي، عينيه متورمة بالاحمرار، وجسده النحيل، يحاول أن يطفر على مراحل طفولته جزافاً، لذلك يدخلنا في رحلة حياته العجيبة، مليئة بالجنون والتمرد (كان الصبي الذي كأنه يرفل لاهثاً ممسكاً بطرف الثوب المقلم بخطوط خضر مسطرية، يطبق أجفانه ويتأوه لاحساً جفاف شفتيه المالحتين، ثمة عالم آخر يشده إلى وجوده، عالم تأخذه الاحلام إليه لحظة تلفح حرارة الشمس باطن قدميه الراكضتين دوما) ص6. ولكن روحه مليئة بالتمرد والانتفاض، ولم يغادر أحلامه، وحتى لو هذه تغادره دون وداع، يظل صامداً في جسارته وتحدياته، رغم ان يزرع أحلامه في أرض قاحلة وجافة تعبث بها الاتربة (- لمَ أنت هذا بعد هذا الكد المضني؟ ولمَ غادرتك الاحلام دون وداع؟ ما الذي جنت سنواتك غير تراب مملوح وأرض قاحلة، وحدك أيها الغريب الضائع في متاهات مدن روحهِ. وحدك تبقى ووحدك تغادر).

× قصة: قوافل الشط

(لا غرابة في أني أقدم جنوني بين يدي صديقي المغدور فيصل غازي الثاني المبجل) ص12. تبقى الحقيقة الصادمة، أن مقتل الملك الشاب المغدور، فتحت صندوق (باندورا) بكل الشرور والعدوانية والمجازر لم تتوقف حتى يومنا هذا. حكاية السرد تتناول الواقع آنذاك بشكل أسلوب ساخر وانتقادي. نقتطف بعضها رغم أن الحياة لا تخلو من مشاكل وعثرات، ولكن كانت الحياة تحمل البساطة والتواضع بدون بهرجة فاقعة من الملك حتى أصغر مواطن بسيط. كانت الحياة تحمل نكهة خاصة في مذاقها الحلو والمتواضع، منها مسؤول النادي بأمر حكومي من مدير الناحية، كتب في لافتة عريضة في باب النادي مجموعة ممنوعات (كتب المسؤول عن النادي. ممنوع الغناء، وممنوع الرقص، وممنوع الحديث بالسياسة، ممنوع جداً الهتاف ضد الحكومة بعد منتصف الربع الثاني من ثمالات العرق المغشوش) ص12 مما حدى بزبائن النادي تركه والتوجه الى ضفاف الشط والبساتين، ولكن لتلطيف الجو في قائمة الممنوعات وتخفيفها، بما صرح به مفوض الشرطة بقوله (يحق للمواطن الغناء وتجاوز حدود الهذيان، بشرط أن تكون سورية حسين، وحلوة الطباع لميعة توفيق) ص13. ومدير المستوصف يحاول أن يتصالح مع المضمد المنفي، ان يسمح له بتناول القصائد الممنوعة ومنها واهمها قصيدة (أين حقي) وارسل إليه حارسه الشخصي مع نصف قنينة (عرق) عربون المحبة والتصالح.

قصة: عربة ماركس المنسية:

التحليق في عولم الوهم بعقلية صبي وقح، يشاكس حتى اوهامه بالتمرد عليها (- أنت لن تقوى العبور إلى ضفاف المعاني القصية، تحتاج إلى عدة وقبول. أنت لن تقوى على فعل سبر الاغوار هذا، كن مع الاقرب، واترك البعيد يجيء اليك..... حيرتك تنث مطراً مالحاً من الارتدادات التي تزيدك نفوراً) ص23. تتوغل مسرودة الحدث السردي بالمعنى الرمزي البليغ في المعنى والمغزى الدال. بأن رجل غريب الأطوار دخل الى القرية في ليلة ماطرة ليكسر مرايا الواقع ويقلبها على العقب بالضجيج والصخب (لا أحد يدري كيف ظهر الرجل كث اللحية في قريتنا، سمعتهم يقولون، أنه ما جاء ولم يراه احد يدخل مرابعنا.. لكنهم وجدوه ذات ليلة راعدة ماطرة) ص23. وانكشف سره بأن هذا الرجل كث الشعر واللحية جاء من بلاد الفرنجة (ليسكن ديارنا المفعمة بالصمت. بعد أن أعلن جهاراً (أن الدين افيون الشعوب) لاحقته السن الغوغاء، بعد أن امطرته بوابل من السباب، وامطار من الحجج مطالبة برميه في لجج البحر، وهذا ما قام

به كهنة المعابد، الذين تضررت مصالحهم قبل مصالح الفقراء والمساكين) ص24، وأصبح الصراع محتدما في منع زعزعة سلطة كهنة المعابد المطلقة، لذلك أن هذا الرجل كث اللحية يعزف في الفراغ في ارض لا ينبت فيها العشب، (- يا سيد نبؤتنا تقول، يدرككم الموت لو كنتم في بروج مشيدة.. عُد من حيث اتيت، ان استطعت عد) ص24.

× قصة أمنيات:

تطرح سؤالاً جوهرياً في مفهوم الحرب ومشعليها، دائما وقودها الشرائح المسحوقة والمظلومة يرجعون في توابيت الموت. ليتنعم أصحاب الجاه والنفوذ....... تتحدث عن ضحية رجع من الحرب مبتور الساق وينتهي به المطاف بالسجن، و يتندر عليه مسؤول السجن بالاستهزاء والسخرية (أعرج البين من أجل ماذا فقدت ساقك؟ وأضعت سنوات عمرك هباء منثوراً؟ كنت اتابعك بشغف وحب وتفاخر، وانت تركض مثل غزال شارد، مجتازاً الحاجز تلو الحاجز. يصفق لك الجمهور ويهلل بأسمك.... ما كان عليك أن تبقى منتظراً موتك) ص31.

× قصة: وقف منتهي الصلاحية

سلاح الطغاة الحيل والمكر بجانب السيف، وانتاج ثقافة التمجيد والتعظيم والتقديس، للضحك على ذقون الجهلة والاغبياء حكاية السرد في رمزيتها العميقة، تتحدث عن مجون وهوس وبذخ الباشا (مراد باشا) حول القصر الى مجون وخمر ونساء ومتعة، تقودها جاريته المحبوبة (درة الملك) التي تعرف كل اسرار القصر، ولكن بعد موت (مراد باشا) تحولت الى عاهرة مبتذلة ومنبوذة، وخشية من فضح أسرار القصر، دبروا أمر مقتلها، وبعد موتها، اصدار القصر فرماناً، ببناء مزاراً باعتبارها سيدة مقدسة، بما جاء فيه (تقديساً لسيدة العفة والبهاء والرفعة، مولاتنا درة الملك، قررنا بناء مزاراً يكون مكاناً آمناً، لتلاقي العشاق والمتيمين حباً، وعلى الجميع التهيؤ لدفع الضرائب والمستحقات، دون تأخير وتخاذل)ص59.

× قصة: مزار الغريب هتلر

دائماً وابداً الطغاة والأباطرة يركبون حصان بدعة الإنقاذ ودعاة التحرير، أعوانهم يرفعونهم على الأكتاف بالمجد والتعظيم والقدسية، ويبثون رياح الرعب والخوف في نفوس معارضيهم، ليذهب الى جهنم من يتطاول على الحضر الأعظم المقدس (قال الملأ، بعد ان تيقن ما سعت إليه أحلامه صار يقيناً

- لابد من مزار.. لمنقذنا الآتي من بلاد البرد، يدعونا لحفظ هيبة حضوره) ص82. فهذا ليس بغريب وعجيب ان تقام اضرحة مقدسة لهتلر وامثاله من الطغاة، ونتذكر الحقيقية المرة، ألم يطالب احد من النخبة الحاكمة الحالية، بإقامة تمثال من الذهب للغازي المحتل جورج بوش؟. ألم يقدم سيف الامام علي (ع) سيف ذو الفقار هدية الى وزير الدفاع الأمريكي القاتل؟

والقادم أتعس

***

جمعة عبدالله – كاتب وناقد ومترجم

 

قراءة في كتاب رسائل إلى أميرة من سلالة الآلهة للدكتور علاء الحلي

على مدى اكثر من ستين عاما قرات كثيرا من الكتب والدواوين والقصص والروايات والدراسات، بعضها كانت قراءات منهجية، فرضت عليَّ من قبل المعلمين في الابتدائية والمدرسين في الإعدادية والاساتذة في الجامعة، وبعضها كانت انتقائية تتبع رغباتي المدفونة في اللاوعي، وخلال كل هذه السنين، وجدت بعض المواد التي وقعت بين يديَّ بإرادتي، او وُضعتْ بينهما عنوة وكأنها لوح شوكولاتة سويسري شهي، ما إن تبدأ بقضمه وتذوب عصارته بين فكيك حتى تشعر بلذة تنقلك إلى عوالم أخرى بعيدا عن واقعك مهما كانت منغصاته، وتحلق بك في أجواء رياض المتعة ورفاهية الفكر حيث تتألق الجمل وكأنها قلائد نحتت من أحجار كريمة، ونظمتها يد فنان بارع يعرف كيف يخلق الجمال ويقدمه لك ليغير مزاجك نحو الأحسن، ويُحسِّن شعورك، ويمنحك طاقة إيجابية. ووجدت بعضها الاخر وكأنها نحتت من جلاميد صخر قاس، تجرح كفيك إذا تعلقت بها، وتنحدر بك نحو الاسفل بعيدا عن قمم المتعة، فتشعر وكأنك تغرق في أكداس غبار نقلته اليك عاصفة صحراوية هوجاء. وبين هذا وذاك، وجدت بعضها الآخر عديمة اللون والشكل والرائحة، لا تشعرك بوجع ولا بفرح ومتعة، وهي مجرد ملهاة فارغة، تشعر بعد الانتهاء منها بندم كبير على الوقت الذي قضيته معها.3966 علاء الحلي

ولقد كان هذا الشعور يلازمني باستمرار، لم أنجح بالتخلص منه؛ لا عندما اقتني كتابا ما فحسب، بل وحتى حينما يهديني أحد الاصدقاء كتابا من تأليفه، فأضطر عادة الى قراءته او تقليب صفحاته بعمق خوف ان يطلب رأيي فيه إذا التقينا مجددًا، كان شعورا يتحكم بطاقتي الإيجابية ويحدد مساراتها ويقلص خياراتها.

هذا الشعور الذي يسعدني أحيانا ويحزنني أحيانا أخرى، كان قد تأجج في داخلي وانا استلم نسخة من كتاب (رسائل إلى أميرة من سلالة الآلهة) الذي اهداه لي صديقي الدكتور علاء الحلي، ولأننا اتفقنا أن نلتقي مجددا بأقرب فرصة، وجدتني منساقا للبدء بتفحصه حتى قبل أن نفترق، لأكون مستعدا للتحدث عنه، فشعرت لحظتها وكأن مبخرة تتصاعد منها نسمات وعي تأسرك فلا ترغب بفراق أجوائها قربتها يد معطاءٍ إلى أنفي، حينها استعجلت الرحيل على أمل أن أختلي بالكتاب في مخدعي بعيدا عن محيط الطوارئ ومؤثرات الفوضى،  واذا بي اجد عالما زاخرا بوهج من نوع خاص، عالمٌ تشعره يلفح وجهك بغرور، ويغور عميقا ليدغدغ شغاف قلبك، ويدغدغ مشاعرك كالسحر.

ولأني قارئ نهم، لي أسلوبي الخاص بالتعامل مع الكتب، قررت بداية أن أؤدي طقوسي الخاصة بقراءة الكتب العزيزة على قلبي قبل أن أحضن هذا الكتاب، ففي عقيدتي أن بعض الكتب تكاد تكون مقدسة، تتطلب قراءتها استعدادا نفسيا وعقليا وجسديا، مع استحضار جميع الحواس وتفعيلها لتؤدي مهامها بدقة توصلك الى شواطئ المتعة، متعة أن تكتشف من خلال الكلمات والأسطر معجمية تعيد لك ترتيب معاني مفرداتك المتناثرة على أديم الفوضى لتعطيها تنغيما آخر أبعد ما يكون عن النوتات الموسيقية المعروفة، نوتات لا تعرف النشاز  ولا تحتاج الى مايسترو يضبط إيقاعها، فهي بحد ذاتها إيقاعا يشبه تغريد البلابل في صباح ربيعي.

أول ما استوقفني بالكتاب ذلك الإهداء العذب بشطريه الرجالي والنسائي، ففي شطره الرجالي تلمس وفاءً يترجم معنى الإخوة: "إلى صديقي الفخم رواد الجبوري الشاهد الوحيد على جميع انتصاراتي وانكساراتي". وفي شطره الأنثوي تلمس لوعة من نوع عذري: "إلى رَحيل: تلك التي أحببتها بالنيابة عن كل الذين لم يعرفوها في هذا العالم".

غير ذلك، جاءت آراء الأصدقاء في مقدمة الكتاب لتضفي عليه وهجا إن لم يكن بحاجة إليه فهو قد زاده بهاء، وكانت الوقفة الأولى مع الأخ والصديق العزيز الدكتور علي الطائي الذي كتب عن أدب الرسائل موضوعا توضيحيا أورد فيه خلاصة تنامي وتطور هذا الفن منذ العصر الجاهلي مرورا بعصر البعثة المشرفة ثم العصرين الأموي والعباسي، مشيرا إلى أسماء من برز في هذا الفن وأبرز الرسائل التي كتبت، ليختم بالتحدث عن فن الرسائل في العصر الحديث، ثم توجيه الدعوة للنشء الجديد ليهتموا بهذا الفن الذي كاد أن يندثر، وبعدها اعلن عن مشاعره الحقيقية وهو يقرأ هذا الكتاب ولتكن خلاصة رأيه: "اتت هذه الرسائل متميزة بدقة المعاني وبحسن التوظيف وبراعة السبك كأنها طوع قلمه، إذ كلما قرات سطرا منها تاقت العيون والعقل الى السطر التالي مترقبة بشغف الملهوف".

أما الوقفة الثانية فكانت مع الناقد والأديب الصديق كامل الدليمي وقد جاءت مكملة لما بدأه الدكتور علي الطائي في حديثه عن أدب الرسائل، حاول الدليمي من خلالها أن يثبت بالدليل بأن فن كتابة النثر كان موجودا منذ العصر الجاهلي وأنه تطور بتطور حياة العرب ولاسيما بعد البعثة المحمدية وقيام ونشوء الحضارتين الأموية والعباسية، ليبدأ بعد ذلك في استيضاح متن الكتاب ومضمونة، وليخرج بنتيجة لخصها بقوله: "لم أكن أدري حين قرأت باهتمام بالغ وشغف كبير أن يكون ما كتبه علاء الحلي بهذه الأطر الفنية الناضجة، ولكن الذي جعلني الى وضع هذه المقدمة لهذا الفيض الأدبي المؤنق هو العمق العاطفي والمعرفي الذي شكل رصيدا دقيقا للكثير من المعاني الإنسانية التي تحملها هذه الرسائل".

رحلة مع المتن:

من المؤكد أنها ليست بالمهمة السهلة؛ أن يتبنى الناقد تفكيك نص فلسفي تمت صياغته بأسلوب أدبي، وفق أسلوب فن كاد أن ينقرض هو فن المراسلات، إذ جمع الحلي في مادة الكتاب ومضمونه بين تخصصه الأكاديمي الفلسفي، وذائقته الأدبية، وأكاديميته التطبيقية، وثقافته الأسرية والمجتمعية ذات الجذور الغائرة في عمق المجتمع، وما أكتسبه من معايشته لبلد كان من أجمل بلدان العرب (لبنان) على مدى عقد كامل، وتجربته الحياتية بكل إشكالياتها وتعقيداتها ليخرج بنتيجة تسحر الألباب.

إن من المتعارف عليه أن الكتابة ليست بطرا، ولم تكن في أي مرحلة من مراحل سيرورتها بطرا، حتى عندما كانت مجرد رموز صورية مسمارية، بقدر كونها حاجة يقينية لابدية، فرضتها مطالب العيش وتعقيدات الحياة لتحفظ حقوقاً، ثم لتترجم هذه الحقوق، ثم لتتحول إلى مرآة تعكس كوامن معاناة الإنسان الذي تأبط الوجع منذ أن وعى وأدرك جسامة وخطورة أن يكون إنسانا في دنيا التوحش والدونية والهمجية والعبث، ولاسيما بعد أن أدرك أن خير وسيلة لتفريغ أوجاع الروح هي البوح بها ولو في بطن بئر في صحراء التيه، وكم من مرة سعى العقلاء الذين أوجعهم ثقل ما يحملون إلى بوادي النسيان الأبدي، لا لتجارة ولا لمكسب ولا للقاء حبيب، بل ليجدوا الفرصة للبوح بما في كوامن أنفسهم للريح وذرات الرمل، ليتشظى دون أن يعثر عليه أحد.!

هذا بالضبط ما أراد الحلي الإشارة إليه بقوله: "لقد وجدت نفسي معنيا بالكتابة كأولئك الذين عاشوا بالكلمة وللكلمة ومن الكلمة.... ولذا سوف نظل نكتب ونكتب حتى إذا فرغنا من الكتابة ولم يبق شيء آخر نكتبه؛ ربما سنحترق او ننتحر بملء ارادتنا الخاوية من دون اي تردد! فهكذا فعل الكثيرون من قبل". (ص:34)

إن تمجيد الكتابة كونها الوسيلة الوحيدة لتدوين المضمر الذاتي (ص: 38) يبدو مثل الكتابة نفسها تماما، فالكتابة مجدٌ كان غاية المأمول قبل أن يتحول إلى الإسفاف المعاصر الذي خلقه الخواء الفكري، فالكتابة كانت ثورة حقيقية، وضعت قدم الإنسان على قاعدة صخرية صلبة مكنته من الانطلاق بتسارع مهول أوصله لما هو عليه اليوم، وهو ما أراد الحلي التأكيد عليه بقوله عن الكتابة: "وذلك النهر يا عزيزتي ما زلنا نكتشفه في كل يوم، ونغترف من معينه، فما أروع أن يحترق كاتبٌ في عملية مكتوبة لكي يشرب الآخرون من تجاربه" (ص: 38)

وربما لهذا السبب دون غيره، أورد الحلي في كتابه المنمق هذا أحاديث عن تجارب العمالقة من أدلاين فيرجينيا وولف إلى ستيفان تسفايغ وإرنست منغواي وخليل حاوي وفلاديمير ماياكوفسكي ورينيه فيلهلم وبول توماس مان وتيوفل غوتيه وفان خوخ وبول غوغان وكافكا، اتخذهم كلهم شواهد على حقيقة ما أراد إيصاله بأمانة مطلقة. وبرأيي أن مجرد إيراد هذا العدد الكبير من الأسماء في رسالة واحدة؛ فيه دلالة عميقة على موسوعية الكاتب وجرأته في طرح أفكاره دون وجل من الإكراهات التي قد تواجهه في مجتمع يعبد الأمية ويعشق الجهل، مجتمع تتحكم به القبائلية والدين والموروث العتيق المتآكل وشراهة البدوية السابتة فينا منذ الأزل، مجتمع أدمن رسم الخطوط الحمراء، وكان أول المتنازلين عنها دون إكراه، وقد وضحت غايته هذه من خلال قوله مخاطبا (رحيل) ومن خلالها مخاطبا جميع المعترضين الحقيقيين والمحتملين: "وكل الذي أريده منكِ هو أن تتحملي طريقتي في هذه الرسائل فقط، لأن الدرب إلى قلبك وعر جدا ومعوج، فقد لا أصل إليك بالسرعة الممكنة كما تتصورين" (ص: 47.) وهذه ترجمة حقيقية لوجع العبثية التي يستشعر هواجسها المثقف الذي يُجابه بالصد دون النظر إلى صدق نواياه.

وهذا ليس تخمينا فجا، إذ تبدو العبثية واضحة، يؤطرها يأس من تغير الحال للأحسن مع بواكير رسائله المأزومة، هذا ما يستشف من قوله: "حين يجد المرء نفسه مرغما على كتابة ما يحسه.. فذلك يعني انه يقف أمام خيارات صعبة، تجبره أن يكون مشلولا بكل تفاصيله المرئية واللامرئية من دون أن ينظر إلى باقي الأشياء الأخرى، ربما لأنه مؤمن جدا أن التفاصيل الماضية لا تصلحها كتابة الرسائل أبدا" (ص: 48.).

بدت جميع رسائله التي ناف عددها على اثنين وعشرين رسالة، حتى مع توهج لواعج الحب بين ثناياها، ولمسة الحب التي تطغى على أجوائها المشحونة بالحركة، والنابضة بالحياة وكأنها محاولة لانتقاد العالم.. الحياة.. الكون.. الوجود.. السلطة.. تقليدية التدين.. الوطنية الزائفة.. النفاق السياسي والديني والقبلي، وأشياء كثيرة أخرى، ولذا وصفها بأنها رسائل فزعة (ص: 231.) كيف لا وهو يؤمن بأن الفقراء ينامون ممتلئين بالكلام الذي لم يقولوه بعد (ص: 80.) ويرى أن السؤال يكون أحيانا غولا؟ ولكن ذلك لم يمنعه من التحدث عن حقيقة الأسماء والتاريخ منتقدا الذي طوع آلة الدين لصالح مكاسبه الأخرى (ص: 96.) ساعيا بكل ما أوتي من قوة من أجل انقاذ الإنسان من هشاشته وضعفه لأنه لم يخرج بعد من (الطور الجاحظي) المستهلك، لأنه وضع الكتاب والفكر جانبا والتزم بالدعاء للدين بالنصر وعلى الكافرين بالويل (ص: 126ـ 127.) ولم يردعه من أن يمجد حراك الشباب من خلال رسائل عن "قيود تحت نصب الحرية" (ص: 144.) و(أغداق من بعض نخيل تشرين) (ص: 154.) و(فتنة الأعراب القديمة) (ص: 168.) و(المضحون في الأرض) (ص:208.). وفي الختام اجتمعت خلاصة مضمون الكتاب تحت عنوانين مشاكسين مهمين:

الأول: كان توطئة تحت عنوان "حين تكون الرسائل شاهدا على موت ساعي البريد" (ص: 34.) وهو العنوان الذي افتتح الكتاب به، وكأنه يستشف موقف بعضهم مما سيقول.

والثاني: كان خاتمة تحت عنوان "انطلاق ساعي البريد إلى وجهته" (ص: 230.)، وابتدأه بقوله: "في ختام هذه الرسائل؛ التي سأبعثها بيد ساع لا أعرفه، لا أضمن لك يا عزيزتي أنه سيصلك عما قريب، فربما سوف يحترق في خضم هذا المستحيل الباذخ، ولا يرجع مرة أخرى، إذ لا مطر على سطح الشمس، ولا وجود لرذاذ بارد هناك" (ص: 230.)

أما تقييمه لعمله فقد أوضحته تلك الالتفاتة المبهمة التي ختم بها السطر الأخير من حكايته بادئا بكلمة (ربما) بكل ما تحمله هذه الكلمة النافرة من فخامة ورهبة وحيرة ودهشة وانبعاث واستشراف لمستقبل مجهول غير مضمون: "ربما سأكتب لك ثانية، وربما لن أكتب أبدا، ولكني مؤمن جدا يا حبيبتي أنك مبهرة تستحق كل هذا العناء" (ص: 233).

فهل تستحق الحياة منا كل هذا العناء؟ إنه سؤال غير تقليدي والجواب عليه نسبيا لا تتفق الآراء بشأنه، ولكن الشيء المؤكد أن الحياة لو لم تكن تستحق كل هذا العناء لما برز فيها حملة المشاعل الذين يحرقون أنفسهم لينيروا للآخرين دروب حياتهم.

وآخر ما أريد التنويه عنه رأيي في أنه تبقى هناك حاجة ملحة لمثل هذه النتاجات الناضجة والضاجة بهمس كالصراخ، ليس لإحياء أحد فنون الكتابة التقليدية، وأقصد به فن المراسلات الذي كاد أن ينقرض فحسب، فذلك أمر مفروغ منه، وحاجة لابدية أعتقد أن جميع الأدباء معنيين بها، بل ولضخ دفقات من الجمال في حياتنا المعقدة المليئة بالإخفاقات والمنكدات والانكسارات والهزائم، وحسنا فعل الدكتور الحلي في تناوله هذه المهمة الصعبة في هذا الوقت بالذات.

صدر الكتاب عن دار النخبة للطباعة والنشر في جمهورية مصر العربية عام 2022، بواقع 233 صفحة حجم 20× 14 بغلاف جميل تزينه صورة امرأة بأجنحة وكأنها ملاك يقف في روض تحيط به فراشات الأمل وأوراق بعثرتها الريح، فجاء متوافقا مع المضمون.

***

الدكتور صالح الطائي

صدر حديثا عن دار المتن 2023  المجموعة القصصية البكر للقاص سعد نزال (محاولة اللجوء الى الجنة) وقد ضمت ثلاث عشرة قصة قصيرة هيمنت على عوالمها الشخصية المأزومة التي تعاني من اضطرابات نفسية واجتماعية حاول الكاتب سبر اغوارها من خلال انفعالاتها ومزاجها المتقلب مقتربا في شكله التعبيري من الفانتازيا التي تشتغل على المبالغة في رسم ملامح غير مألوفة للشخصية ولأحداث مخالفة لمنطق الواقع والطبيعة وهو ما كانت عليه معظم شخصيات واحداث قصص المجموعة.

ابطال قصص المجموعة هم خليط من حيوات حائرة وخائفة ومتوترة تعاني من الاغتراب الداخلي فهي تعيش الحاضر ولكن يحركها الماضي ويدفعها الى استحضار حوادث مؤلمة تشكل محورا لمعظم قصص المجموعة، وقد حرص الكاتب على ترجمة فلسفة افكاره التي كشف عنها اهداء الكتاب المتضمنة نبذه للعنف والدعوة الى اتخاذ الطرق السلمية وسيلة للوصول الى الأهداف وذلك في اتخاذ (اللجوء) عتبة لعنوان مجموعته  فاللجوء هو الفرار من واقع سيء فيه عنف واضطهاد الى واقع آخر أكثر أمنا وسلام  وجاء التماهي مع هذا المبدأ في قصة (لن أكون هناك ثانية) التي تقوم على فكرة الثأر، فـ " صابر " طالب الهندسة المسالم وبعد سنوات من تخرجه يفكر بالانتقام والثأر لكرامته التي أهانها يوما أحد مسؤولي اتحاد الطلاب عندما قام بصفعه في نادي الطلاب وأمام زميلاته وزملائه وسببت له تلك الصفعة فقدان السمع، وقد سكت حينها على الاهانة بسبب سطوة ذلك المسؤول الطلابي الشرير والمتعجرف وكاتب التقارير المتعاون مع دوائر الأمن، ولكنه يعود بعد سنوات ويقرر قتله والثأر لكرامته ويعد العدة لذلك لكنه عندما يقابل خصمه المعتدي يتراجع في اللحظة الاخيرة ويتخلى عن فكرة القتل والعودة الى انسانيته ونبذ ما ساورته نفسه بالانتقام من خصمه فيأتي هذا التحول بمثابة الخروج من جحيم فكرة العنف واللجوء الى جنة التصالح مع الذات والاستقرار النفسي .

والمهيمن على قصص المجموعة ابطال يعانون من امراض نفسية متنوعة من بينها التوتر والقلق الشديد وكذلك فقدان الاهتمام وكلها  حالات نفسية واحدة من تداعياتها الأرق وصعوبة النوم حيث تتجلى مشكلة الأرق لدي عدد غير قليل من ابطال القصص ومن بينها قصة (لدغة فزع) فبطل القصة" عبودي " يعيش صراعا مع الأرق نتيجة التخيلات الشريرة التي جاءت بها مشاهدته فيلما يحكي عن مدينة افتراضية تدب فيها العقارب الضخمة وتهدد سكانها حيث يعود هذا المشهد  بالبطل الى أزمة رافقته من صباه عندما تعرض الى لدغة مزدوجة من عقرب عند بيت خالته ثم يأخذ بالقارئ الى عوالم اللاواقعية وذلك بتخيل خروج العقارب من شاشة التلفاز محاولة الهجوم عليه وتنتهي القصة وهو ممسكا بصندله لمواجهتها .

و يعود الى مشكلة الأرق في قصة اخرى هي (اللجوء الى الجنة) فالبطل شخصية تعيش الأرق والقلق  في آن واحد، فهو يخشى الاستغراق في النوم خوفا من فوات موعد اقلاع طائرته لذا يزجي الوقت المتبقي على الموعد في الشرب و(التفكير في الفلسفة ونشأة الحياة والعقاب والثواب والجنة والنار ص57) ويتطلع من نافذة الفندق الى حركة المارة مخمناً اسرار كل واحد منهم  ويتساءل مع نفسه عن امكانية طلب اللجوء الى الجنة ثم فجأة يأخذ حقيبته ويتوجه الى المطار، وبعد اسهاب في وصف المطار والاجراءات ــ وكلها تفاصيل لم تضف شيئا الى جوهر القصة ــ وفي الصالة عند البوابة الاخيرة من المطار يواجه عارضا صحيا يتخيل فيه المسافرين الذين في الصالة وقد تحولوا الى كائنات غريبة (شاهدت كائنات غريبة ومخيفة، بعضهم برأسين وغيرهم بآذان طويلة منتصبة، اخرون بقرون ملتوية وذيول .... ص63) وعند صحوته من هذا العارض يهرع الى الطائرة التي اوشكت على الاقلاع وفي كرسي الطائرة يعيش كابوسا اخر هو سقوط الطائرة ويتخيل نفسه في الجنة بين الحوريات ولا يصحو من كابوسه الا بعد نداء المضيفة تأمره بمغادرة الطائرة لوصولها ارض المطار ومغادرة جميع ركابها .

ويجد الكاتب صعوبة في التخلص من نمط الشخصية المضطربة التي هيمنت على عالمه القصصي فحاول في عدد من القصص اعادة التوازن النفسي لشخصياته الا انه سرعان ما يعود الى ذات الشخصية التي تشعر بالخواء والعجز والمبتلاة بالأرق وهذا ما كشفت عنه قصة (ليلة بشعة جدا)، فشعيب شاب يصيبه الأرق من تناوله فنجان قهوة ويعتقد انه اخطأ في مقادير تحضيرها ويجعل من الأرق رفيق ليلته يتبادل معه الذكريات ويقوم فيها الأرق على استفزاز ذاكرة شعيب باستحضار حوادث مرت به في الماضي من ايام الابتدائية والثانوية والجامعة ومن ثم فترة العسكرية  ولا ينفك الأرق من تدمير شعيب بالكم الكبير من الذكريات حتى بعد ان يرفع رايته البيضاء بقوله (ان الكل ميتون) .

ويحاول الكاتب تقديم نمطا اخر من الشخصيات المأزومة المصابة بمرض الوسواس والايمان بالنحس والشؤم وذلك في قصة (ما بعد الحداثة) حيث ينتاب البطل شعور غريب يتلخص في ان حقيبته التي اشتراها منذ مدة طويلة هي سبب انقطاعه عن السفر ويرى ان حقيبته القديمة التقليدية الخالية من أي مظهر للتطور قد رزقته طيلة خمسة عشر عاما بعدد كبير من السفرات على عكس حقيبته الحديثة الكاملة المواصفات التي توقفت سفراته منذ شرائها لهذا يبقى متعلقا بالحقيبة الأولى رغم الصوت الذي يأتيه من الغيب يؤنبه على ولعه وتشبثه بالماضي . ويستمر الكاتب في تقديم الشخصيات الغريبة الأطوار مثل بطل قصة (بقايا انسان) الذي هو نزيل احدى المصحات وشخصية البطل في قصة (حوار خارج المألوف) الحائر في تساؤلاته عن اسباب عدم حق الجماد من كراسي وملاعق الاعتراض والمشاركة في الحوار والنقاش الذي يدور بين الاصحاب في جلساتهم ويجيب على سؤاله يمكن ذلك لأن (بعض الاحياء المشاركون هم في حقيقتهم جمادات ناطقة ص 132) .

وفي عدد من قصص المجموعة يتخذ القاص من المفارقة والمقلب والنكتة المفرغة من الدلالة موضوعا لها وهو ما اعتمده في قصة (قبيل دخول الجنة) التي يضع شخصيتها الشاب الجنوبي " فيصل " في مأزق عندما يلبي دعوة صديقته الفتاة الثرية لتناول الغداء في مطعم فاخر مطمئنا من انها ستتولى دفع الحساب لكنها تغادر المطعم وتتركه حائرا في كيفية تسديد قائمة الحساب الباهظة التي لا يملك حتى ربع ثمنها وتعود في اللحظة الاخيرة لإنقاذه من الورطة، ويسري الحال  ايضا على قصة (إفطار آخر صيف) التي تجمع بين المفارقة والقلق فالبطل يعيش أرقا غريبا ويراقب عقارب الساعة العاطلة عن العمل ثم يتوجه الى المطبخ لإعداد فطوره المفضل بيضة مقلاة بالزبدة وتأبى البيضة على الانشطار والاندلاق في المقلاة مما يضطر الى القاءها بقشرتها الى المقلاة وعند انتشار رائحتها وجاهزيتها للأكل يفقد شهيته ويذهب الى فراشه بعد ان يكتشف انه اختار بيضة مسلوقة . أما قصته (الزواحف الكوميدية) فهي لا تعدو أكثر من تعاليم عن كيفية اصطياد حسناء اثناء السفر، وكذلك قصة (مهمات خارجية) فهي الاخرى لا تخرج عن اطار النكتة ففيها أب يعاني مشكلة تقاعس الابناء عن رمي كيس النفايات الأمر الذي يضطره الى حمل الكيس بنفسه والتوجه الى حاوية الأزبال والذي يتوجب عبور الشارع العام وبسبب الحاح سائقي سيارات الاجرة على الركوب يضطر الى الصعود في واحدة والطلب من السائق انزاله عند اقرب حاوية مما يثير غضب السائق الذي اعتبر الأمر سخرية منه وفي الاخير يعود الأب مع كيس النفايات لعدم الاهتداء الى الحاوية .

ان قصص (محاولة اللجوء الى الجنة) وكما اسلفت زخرت بالشخصيات غريبة الأطوار التي تجمع ما بين المأساة والشفقة والتي الفناها عند كتاب عالميين وقد أعادها الى الأذهان القاص "سعد نزال " بثوب وحكاية جديدتين، وفي الأخير عندما تقرأ لقاص يخوض تجربته الأولى في كتابة القصة تتوقع ان تجد ارتباكا في توظيف تقنيات السرد وانفلاتا في السيطرة على مسار الأحداث بحكم قلة التجربة ولكن مجموعة (محاولة اللجوء الى الجنة) جاءت على مستوى عال من النضج الفني والتحليل النفسي لشخصيات القصص وبالتالي تعد المجموعة مكسبا للسردية العراقية .

***

ثامر الحاج امين

ينتمي الكاتب الراحل كمرحلة معرفية إلى جيله الذي عايشه، ولكن عندما نطرق أبواب كتاباته المرحلية سنلاحظ أنها مازالت تعيش معنا، ومن هنا ارتأيت أن نكون مع إحدى المناهج المعرفية؛ ومنها التكوين الدلالي الذي كان يرافق الكاتب بكتاباته المعرفية كحالة للمدلول الأول، وأما كحالة للمدلول الثاني فيكون عن مكانة الابستمولوجيا وعلاقتها بالحقول المعرفية، باعتبار الكاتب الفلسطيني قد قدم عدة روايات مختصة في الهمّ البيئي الفلسطيني وهي قضيته الأولى، فنظرية المعرفة والدلالة المعرفية متناسبتان تماما في الخوض عبر علم المناهج؛ والتقائهما من خلال العلاقات الواردة في نقاط الاختلاف وتوافق في كلّ رؤية مكتوبة، باعتبار أن النصّ الكنفاني قد خرج من الرؤية الذهنية وأصبح في رؤية الآخر.3959 غسان كنفاني

من الروايات التي كتبها الكاتب الراحل غسان كنفاني رواية (عائد إلى حيفا)؛ فبالرغم من وجهة الاحتلال الصهيوني فإنّ الكاتب يشير إلى العودة من خلال التفكّر والدخول إلى مناطق الفلاش باك، وأستطيع أن أقول أن (وضعية أوغست كونت) الفلسفة الوضعية تتناسب تماما بتفكيك جواهر الأشياء، فالعمل بدأ عام 1948، وبما أن تحرير الموضوع يبدأ من الرواية، فإنّه ينسف جزءاً من الحاضر ويجعلنا " الكاتب " مع الأشياء وماهيتها، فالبحر يعود إلى حيفا، الأزقة البنايات القديمة والناس المهجرة، كلّها خرجت في مناطق تفكرية أراد الكاتب أن تكون حاضرة، والمنهج المعرفي الذي تولاه الكاتب، هو حضوره قبل اغتياله عام 1972؛ إذن نحن في منطقة الكتابة الكنفانية طالما أن الاستدلال يشير إلى الكاتب.

(في نظر المدرسة الفلسفية المنطقية؛ نوعان فقط من المعارف المشروعة: معارف ترتبط بصور الفكر ومنشآت اللغة، ومعارف ترتبط بظواهر الواقع ومعطيات التجربة... وبما أنّ هذا النوع الأخير، أي المعارف العلمية، يرتدّ في نهاية الأمر إلى ما نقوله عن الأشياء الواقعية، فإنّه من الضروري إخضاع لغتنا، أي حديثنا عن الأشياء، لتحليل منطقي صارم، حتى تعبّر عمّا تقدّمه لنا " محاضر " التجربة، من غير زيادة أو نقصان. – ص 28 – مدخل إلى فلسفة العلوم – الدكتور: محمد عابد الجابري).

أمّا عن المساحة السردية وأصول الأشياء، فهناك التأسيس وهناك الأصل، فلا تشغل الذهنية سوى ما تركته تلك العوائل من بيوت وأشياء بأصولها الفلسطينية، وقد اشتغل الكاتب غسان الكنفاني بين الأصل وترتيب الأشياء وهو يشغل مساحة من الاسماء التي اعتنقها، فنحن الآن بين (دوف) و(خلدون)، وبين المزهرية وريشات الطاووس السبع. فللأشياء التي تمّ البحث عنها تأسيسها وسببيتها؛ فما هو سبب تواجد عوائل أو أشخاص شغلوا بيوت غيرهم؟

إن الإشارة التي أشار إليها الكاتب، كانت غائبة، فالمنطوق الذي تحوّل إلى خط مكتوب، لا يكفي بأن يكون حجة من الحجج التي يعتمدها الكاتب، ولكن طالما أن الإشارة تحتاج إلى المشار إليه (حسب نظرية أولمان) فإنّ النصّ الكنفاني يقودنا إلى دوال حقيقية، وتتعدد هذه الدوال الغائبة منها والحاضرة، فالغائب يحضر، والحاضر هي الأشياء التي مازالت على قيد المنظور المقرّب، أيّ أنّ هناك محسوساً مرئياً من الممكن أن نشاهده بالعين. فالبنية السردية التي ظهرت في المتن، هي البنية المضعّفة، أي أن الكاتب بتأكيداته، راح يرتب الأشياء بهدوء وذلك بالرغم من الفوضى والصعوبات التي واجهت وتواجه المرء الفلسطيني الآن وفي كلّ الأزمنة؛ وفي نفس الوقت تقابل القوي مع الضعيف، مثلما تتقابل أفعى مع طفلٍ بحرب لانهاية لها، فسمة التقابل أن تتقابل الأفعال الحركية مع الأفعال التموضعية، فالحركة التي تبنّاها الكاتب، حركة الناس في كلّ مكان، وكذلك حركة الأشياء، فالهواء ساكن، وهو من الأشياء، والمحطة التي وضعنا فيها، تحوي على الإنسان الحقيقي والإنسان المصطنع؛ أي، أن هناك كينونة واقعية، تحولت إلى كينونة جديدة، وقد كان للفعل الدلالي الأهمية في تحريك هذه الكينونة من وإلى.

تحوّل الطفل من فلسطيني إلى (إسرائيلي)، فنمتثـل أمام سبب وذريعة، فالذريعة هي الحادث الذي يسبق الحادث السببي مباشرة؛ لذلك فقد تمّت النتيجة، فنحصل على نتيجة وذريعة، ومن خلالهما نبني الحالة التي واجهت تلك العائلة؛ وقد أكد أبو خلدون (أيّ خلدون؟ ياصفية؟ أيّ خلدون؟ أي لحم ودم تتحدثين عنهما؟ وأنت تقولين إنّه خيار عادل! لقد علموه عشرين سنة كيف يكون. يوماً يوماً، ساعة ساعة، مع الأكل والشرب والفراش... ثمّ تقولين خيار عادل! إن خلدون أو دوف، أو الشيطان إن شئت، لا يعرفنا! أتريدين رأيي؟ لنخرج من هنا ولنعد إلى الماضي. انتهى الأمر. سرقوه. – ص 49 – عائد إلى حيفا – غسان كنفاني). لقد تخلّص الكاتب من العقلانية، وأنبت الواقع الذي تمسك بالظاهراتية؛ وهو واقع الرحابة والجذرية، ومن هنا كانت قياسات الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، حيث ربط المعنى بالمعنى، فالمعنى الأوّل الطفل والأهل والتهجير القسري، والمعنى الثاني، تربع عائلة " بولونية " على عرش جديد، وخصوصاً أن المرأة لم تنجب أولاداً، ومن خلال هذه العلاقة الرمزية والتي كانت سببية بالدرجة الأولى،  أثرت على الشكل والدلالة، وأدت إلى معرفة الغنيمة؛ فترجعنا العلاقة إلى موضوع القيمة اللغوية التي ظهرت من خلال الحوار بين الرجل والمرأة وبين المرأة والمرأة، ويُظهر الكاتب أيضا درجات الوعي بين الطرفين، والحالة التي يعرضها، مسارها التوليدي، أي أن هناك عدة نماذج متشابهة حدثت في مناطق عديدة، ونتيجتها السلب والقتل والتهجير لتكون نماذج علائقية بين الماضي والحاضر.

لقد كشف الكاتب عن عدة مناطق في رواية (عائد من حيفا)، وأهمّ تلك المناطق، عودة البرعم المتروك والذي تعوّد على طقوس مختلفة تماماً، وأستطيع القول إنّ الكاتب اتخذ من هذا المنظور رمزاً للكثير من الحالات والظواهر التي حدثت أيّام الغزو الصهيوني؛ لذلك فالماضي تمّ نسفه في الواقع، ونسف الماضي ليس برغبة من أصحاب الأرض، بقدر ما كان بقوّة المالك الجديد.

إنّ الأشياء تخرج من الداخل، فكلّ شيء من حولنا كان داخلياً، والآن أصبح لا قيمة له، نعم لأنّه الحداد الذي برقع المدن كلها، مدينة مدينة، وشجرة، شجرة، ويبقى رأس الفطنة والصراع اللذان بالفعل التقطا  الشخصية، ومن هنا نستطيع أن نكون مع عدة شخصيات، فالوارد الذي أمامنا وما ذكره الكاتب، ينقلنا إلى حوادث متشابهة، ومنها صورة الشهيد التي بقيت متآخية مع الجدار، لتصبح جزءاً منه، ومنها استطعنا أن نعرف العشرين سنة التي مضت، فهي معنى للطفولة وبمستقبل منسوف؛ ويبقى العالم الذي كان أجمل قبل الضياع بالرغم من بساطته، وإنّ الاحتجاج الذي نعيشه الآن أصبح أكثر قوة وملائمة، وذلك بسبب الضياع والتحولات النفسية، والفراق والأنين المدجّج، فإذا فقدنا وطناً، سنفقد أولاداً، ولا فرق هنا عندما يكون الموت خاصية ملعونة، وعندما تكون التحوّلات ذات ممارسة تربوية منحازة تماماً.

الدالة النصّية في المنظور الكنفاني

من أهمّ دالات النصّ التي رسمها الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، دالة المعنى؛ حيث انتمى إلى حالات فلاش باكية، وهي دالة الماضي وحضوره في القيمة الصغرى، وهي حالات تذكرية تمرّ على الأشخاص ومدى تذكرهم بالشوارع والأزقة. وتعدد الدالات في المعنى وظلال المعنى لدى الكاتب كثيرة، ولكن لو نتوقف أمام الدالة النفسية لكلّ شخصية اختارها المؤلف، فسوف نضع أصابعنا على النصّ والنصّ المختلف، ومدى تأثر فعل الإثارة على جميع الدالات المرسومة،

فقد وظف الكاتب اللغة النفسية وهو يشرّح للمتلقي ظاهرة الهجرة القسرية، بالرغم من كلّ ذلك، نلاحظ أنّ المرأة تعبّر عن ذلك، بالدموع، بينما لا تفارق الرجل السيجارة لكي يطفئ وضعه النفسي ويتحلى بالصبر، أو على أقلّ تقدير نظراته المعبّرة، فقد كانت لغة العيون تخبرنا بمدى تعلّق الفلسطيني ببيته وببيئته التي تركها قسراً.

تشكّل العتبات النصّية النماذج الدالة على النسق الكنفاني، بداية من العنونة التي دلّت على إحدى المدن الفلسطينية (حيفا) فلم يخف الكاتب منظوره المستهدف، بل أراد أن يكون الوضوح المباشر كعلامة دالة على المتن، وجعلها مظهراً ذا طبيعة مرجعية؛ وهي ظاهرة التقصّي والبحث بين الشخصيات التي مرّرها على المتلقي، وكلّ شخصية اعتبرها نسقاً دالا على ما يمتلكه، فقد عنون شخصياته من خلال العلامة السيميائية ذات الحمولة المكتنزة بالدلالات.

لقد استفز الكاتب متلقيه من خلال الحوارات التي حدثت بين المالك الأساسي وبين المالك المغتصِب؛ ومن هنا زرع التأمّل، فالغاية التي تواصل معها غاية حجاجية، وقد استطاع من خلال هذه النظرية (نظرية الحِجاج) أن يكون القارئ محرّضاً ومستمسكاً في بعض البيانات الأصلية، ولم يفارق التيقظ والتبصر والاعتصام والتمسك بالحكمة والفرق بين الأرض وبين النزيل بالقوّة. وإذا عددنا الدالات والأنساق، فسوف نتوقف عند نسق الأرض، ونسق الشعور، ونسق القناع (التخفي خلف أقنعة مستعارة)، ومن أهم الدالات أيضا، نسق المتكلّم (المحاوِر والمحاوَر) حيث أبرم الكاتب اتفاقاً بين هذه الأنساق لكي يتوصّل إلى نهاية مصيرها معلّق لانهاية لها طالما أن هناك قوّة تجبر الآخر على التخلّي والسكوت. (إن المتكلم "يمثل من النظرية البلاغية منـزلة مرموقة، فهو طرف أساسي في عملية الكلام وعنصر فعال في تحديد خصائص النصّ إذ على عاتقه تقع كلفة إخراجه على سمت يستجيب لمقتضيات الوظيفة والإبانة والمقام. - التفكير البلاغي عند العرب - ص:248). وهو الذي يشخّص الحركات الدلالية التي تنقلب عند النحوي إلى مفاهيم.

***

كتابة: علاء حمد – العراق

تتحقق بنية الحبكة في هذه القصة التي تحمل عنوان "تحديد الرمز الرئيسي" للكاتبة الكردية عصمت صوفي هي عنصر أساسي يشكل جوهر الحكاية ويجعلها مثيرة ومشوقة. يتم تقديم الأحداث بشكل متسلسل ومتدرج، حيث يبدأ التوتر ببطء ويتزايد تدريجياً مع تطور الحبكة. هذا التصاعد في التوتر يجعل القارئ يعيش معاناة بارفين ويتوقع بفضول ما ستواجهها فيما بعد. الكاتبة تقوم بإطلاق تلميحات ورموز تترك للقارئ مجالًا للتفكير والتوقعات، مما يجعل القصة تبقى مثيرة حتى النهاية. عصمت صوفي، هي كاتبة موهوبة ومخرجة أفلام وناشطة. وُلدت ونشأت في إقليم كردستان في إيران، وبعد عدة سنوات قضتها في الولايات المتحدة، انتقلت إلى العيش في النرويج. تميزت عصمت صوفي بأعمالها الأدبية والسينمائية التي حصلت على جوائز متعددة، مما يُظهر موهبتها وإبداعها في مجالات متعددة. باقتباسها للأحداث بأسلوب متقن وبنية حبكية تمتاز بالإثارة والتشويق، تنقل عصمت صوفي قرائها إلى عالم بارفين وتحدياتها. من خلال تقديم الشخصيات والصراع الرئيسي بشكل دقيق، تشد انتباه القارئ وتجعله يتطلع بفضول إلى مزيد من تطورات القصة ومعرفة مصير بارفين. تبرع الكاتبة بشكل استثنائي في استخدام قصتها للكشف عن تفاصيل العالم الذي يعيش فيه الشخصيات وكيفية عمله، وهذا يضيف بالتأكيد طبقة أخرى من الغموض والاهتمام للقصة. من خلال وصف البيئات والأماكن بعناية دقيقة وإظهار التفاصيل الدقيقة في حياة الشخصيات، يأخذ القارئ في رحلة استكشافية داخل عالم القصة القصيرة. يتميز هذا العالم بقواعده الفريدة والتي تؤثر بشكل مباشر على سلوك وتصرفات الشخصيات. تلك التفاصيل تسلط الضوء على التشدد والقسوة التي تعيشها بارفين وكيف يجب أن تتكيف مع هذا العالم القاسي. هذه الطبقة الإضافية من التفاصيل والغموض تجعل القصة أكثر عمقًا وتعقيدًا، وتجذب القارئ إلى الانغماس في هذا العالم الفريد والتفكير في مفرداته وتحدياته. الشخصيات في القصة تمثل جزءًا مهمًا من سحرها وجاذبيتها. بارفين كشخصية رئيسية تتميز بقوتها وعزيمتها في مواجهة النظام القائم، وهذا يعكس تصميمها على تحقيق الحرية والعدالة. يشعر القارئ بالتعاطف والتشجيع نحوها، حيث تجسد رمزًا للصمود والتحدي. من جهة أخرى، تظهر الشخصيات الأخرى في القصة بأبعاد متعددة، مما يضيف تعقيدًا إلى الحبكة. هذا التنوع في الشخصيات يثري الحكاية بأبعاد نفسية مختلفة ويضيف عمقًا إلى التفاعلات بينهم، مما يجعل القصة أكثر جاذبية وإثارة للاهتمام. الشخصيات الثانوية في القصة تلعب أدوارًا مهمة في إثراء العالم الذي تعيش فيه بارفين وفي تطور الحبكة. تتنوع هذه الشخصيات بشكل لافت، فمن الممكن العثور على العائلة المعقدة التي تتكون من الوالدين الشاحبين والأشقاء الشبان الذين يعبرون عن مشاعرهم بطرق مختلفة. بالإضافة إلى ذلك، تظهر شخصيات ثانوية تمتلك أدوارًا مهمة في تصاعد التوتر وتطور الحبكة، مثل الحارس الذي يعرف بارفين ويحاول مساعدتها وصديقتها سهيلة التي تبدو وكأنها تخونها في النهاية. هذا التنوع في الشخصيات الثانوية يساهم في تعقيد الأحداث ويجعل القصة أكثر إثارة واهتمامًا، حيث يتفاعلون مع بارفين بطرق متنوعة ويكشفون عن جوانب مختلفة من شخصيتها والعالم الذي تعيش فيه. تعكس القصة موضوعات مهمة وعميقة تتعامل معها الشخصيات ببراعة، مما يضيف بعمق إلى عناصر الحبكة والشخصيات. تتناول القصة قضايا مثل الخيانة والتضحية والثورة ضد النظام القائم، مما يعكس التوترات والتحديات التي يمكن أن تواجه الأفراد الذين يسعون للتغيير في عالم يسوده القمع والاستبداد. يتم تسليط الضوء على الصراع الدائم بين الفرد والسلطة، وكيف يمكن للإرادة القوية والتصميم الشديد أن يلعبا دورًا حاسمًا في تحقيق التغيير والعدالة. تظهر بارفين كشخصية تجسد هذه القيم والمبادئ بشكل قوي، حيث تثبت قوتها وتحديها للنظام القائم، وهذا يلهم القارئ ويشجعه على التفكير في قضايا مماثلة في العالم الحقيقي. لغة وأسلوب الكاتبة في هذه القصة يشكلان عنصرًا مهمًا في إثراء تجربة القراءة وجعل القصة أكثر جاذبية. تتميز الكاتبة بلغتها الوصفية والجميلة، حيث تستخدم تصفيف الجمل ببراعة وتختار الكلمات بعناية لإيصال أحداث القصة بشكل مثالي. تُضفي هذه اللغة الجميلة جوًا من الغموض والتوتر على القصة، مما يبني توترًا متصاعدًا ويحتفظ بالقارئ في حالة من الاهتمام والترقب طوال القصة. الوصف المفصل للعالم والشخصيات يساعد في إيجاد صور حية في أذهان القراء، مما يعزز من تفاعلهم مع الأحداث والشخصيات. إن استخدام اللغة والأسلوب بشكل متقن يعزز من جاذبية القصة ويسهم في تعميق تأثيرها على القارئ. الاستخدام المميز للصرخات والهتافات في القصة يمثل أداة درامية قوية تعزز من التوتر والعاطفة في السرد. تظهر الصرخات والهتافات كتعبير عن الثورة الداخلية لدى الشخصية الرئيسية، بارفين، وتمثل وسيلة لها للتعبير عن رفضها للنظام القائم والقمع الذي يفرضه عليها. هذه الصرخات ترمز إلى الصراع الداخلي والتحدي الذي تواجهه بارفين وموقفها القوي في مواجهة الظروف القاسية. بالإضافة إلى ذلك، تعكس الصرخات والهتافات تفاني بارفين في السعي نحو الحرية والعدالة، وكيف يمكن للأفراد الأقوياء والمصممين تحقيق التغيير والمقاومة ضد القمع. يشكل هذا الاستخدام الدرامي للصوتيات أحد العناصر الرئيسية التي تساهم في نقل الرسالة العميقة للقصة وتعزيز معنى الصمود والتضحية من أجل الحرية والعدالة. تعتبر رسالة القصة حول قوة الإرادة البشرية والاستعداد للتضحية من أجل التغيير والحرية من أهم العناصر التي تلهم القراء وتشجعهم على التفكير في الصمود والمقاومة في وجه الظروف الصعبة. من خلال شخصية بارفين، نرى كيف يمكن للفرد أن يقف ضد النظام القائم ويصمد في وجه القمع عندما تكون لديه الإرادة والتصميم. تظهر بارفين كنموذج للتحفيز والتصميم الشديد للتغيير، حيث تتخذ خيارات تضحية تكون محورًا لتحقيق الحرية والعدالة. هذه الرسالة تلهم القراء للنظر في قوتهم الشخصية وقدرتهم على تحقيق التغيير الإيجابي في العالم من خلال الصمود والتصدي للمصاعب والظروف الصعبة. تعكس القصة أهمية الثبات على المبادئ والقيم الإنسانية في وجه القمع والظلم، وهي رسالة تستحق التأمل والتأمل. بشكل عام، تعتبر هذه القصة تحفيزًا قويًا للقراء لاستكشاف عوالم جديدة وأفكار معقدة. يتميز النص ببنية درامية ممتازة، حيث يتم تصاعد التوتر والإثارة بشكل طبيعي على مر الأحداث، مما يجعل القراء ينغمسون في عالم القصة بشغف وفضول. يستخدم الكاتب لغة جميلة ووصفية ببراعة، مما يساهم في إبراز التفاصيل المعقدة للعالم الذي تعيش فيه الشخصيات وكيفية عمله. تقدم الشخصيات في القصة تنوعًا كبيرًا وتعقيدًا، مما يضيف عمقًا إلى الحبكة ويثري العالم الذي تدور فيه الأحداث. بارفين كشخصية رئيسية تمثل رمزًا للقوة والتحدي، وتشعل حماس القراء لمتابعة مغامرتها. الشخصيات الثانوية تلعب أدوارًا مهمة في تطور الحبكة وتضيف توجهات مختلفة وأصواتًا فريدة للقصة. تعبر القصة عن مواضيع مهمة مثل الخيانة والتضحية والثورة ضد النظام القائم، وهي تسلط الضوء على الصراع بين الفرد والسلطة وكيف يمكن للإرادة القوية والتصميم الشديد تحقيق التغيير. توجه القصة رسالة قوية حول قوة الإرادة والتصميم في مواجهة القمع والظروف الصعبة، وهي رسالة تلهم القراء للنظر في قوتهم الشخصية وإمكانية تحقيق التغيير الإيجابي في العالم. اللغة والأسلوب المستخدمان في القصة يعززان من تأثيرها بشكل كبير، حيث تتميز الجمل بالوصف الدقيق واختيار الكلمات الفعالة التي تسلط الضوء على التفاصيل المهمة وتعزز من جوًا من الغموض والتوتر. الاستخدام المميز للصرخات والهتافات في النص يضيف لمسة درامية وعاطفية إلى القصة، مما يعزز من تفاعل القراء مع الأحداث والشخصيات. باختصار، تُعد هذه القصة إضافة قيمة للأدب، حيث تجمع بين عناصر أدبية متقنة ورسالة قوية تلهم القراء للتفكير بعمق في مختلف الجوانب الإنسانية والاجتماعية. تظل القصة مثيرة وجذابة طوال تطورها، وتترك في ذهن القارئ تأثير.

***

زكية خيرهم

ثنائية الوطن والحب والفرح المؤجل

بفيض من التلقائية، وببساطة متناهية وانسيابية وئيدة، تلج بنا الشاعرة غربة قنبر الى عوالم سخية بالمشاعر الحية والمعاناة المفعمة بتجليات الوطن الموجوع والحب الآفل، وتداعيات الغربة عبر نصوصها الشعرية المبثوثة بين دفتي مجموعتيها الصادرتين في القاهرة (رهن التحقيق الاول - 2022) و(لست إمرأة عابرة - 2022). في مسعى تعكس خلالها فاعلية نفسية مرهفة تستمد من الواقع رؤاها، ومن تجربتها الحياتية الغنية وسيلة للافصاح عن خلجات تؤرقها وتجسدها حروفاَ تقطر لوعة بأسلوب يتسم بالمباشرة والحزن في مسار لا يختلف كثيرا عن السمة الشائعة في أغلب النصوص الشعرية النسوية الحديثة في كركوك .

ورغم اللغة الواضحة والتناول الشفيف للمسائل المثارة في النصوص، فشاعرتنا تبسط مساحة واسعة من شعرها لثنائية الوطن والحب دون أن يفقد المحتوى نبضه الرومانسي المفعم بالخيال والعنفوان، والمقرون بلقاء مستحيل وفرح ضائع:

كلما فاح عطر ذكراك

أود أن أضيفك يوما

الى اليوم الثامن من الأسبوع

وفرحتك المؤجلة كمواسم الفرح في وطني

متى يعلن قدومها؟

متى تكسر قضبان سجني..

وأنعم كالعصافير بجناحين..

وريش مخضب بدم ساخن؟

فرحي أنت أحد أسبابه

تعطر ناصية أيامي .

وعتبة قلبي وشرفات عيني مزهوة بك

وحزنك في أعماقي كامن

فمتى ياترى أحظى بوصلك. أغداَ؟

ومن منا للغد ضامن؟

فتمر عجالة في دروب أمنياتي

وإناء صبري مكسور يبحث في ليل صدك

عن حجر آمن!

وليت الأمر يقتصر على الأمنيات، فالدروب مقفرة، وانفاس المارة ترصدها أعين الرقباء والعسس الذين يكمنون في الزوايا الخالية ويغتنمون الفرص لكبت الفرح المحال والذي لن يتبرعم على الشفاه الا بتغيير الأحوال:

أعيد ترتيب قدح الشاي

ومع أول قطعة جبن بنكهة ضحكتك

رأيت إعلان حظر التجوال

للقبض على كل من يتناول جبنا

أو حلوى بنكهة الضحك

أو يفرح في وطني دون تغيير الأحوال.

وتمضي غربة في مزج مدهش بين تطلعات القلب الملهوف لنبضة ودٍ من الحبيب وبين تطلعات الفقراء والمهمومين من أبناء الوطن بكلمات بسيطة في الظاهر، لكنها معبرة ونافذة ترقي بقدرتها على توظيف الصورة الشعرية للنص لكي يفيض بأحزان الناس اليومية ومظاهر١2 معاناتهم للظلم والتعسف:

خذ بقايا قلبي

ووزع القطع الاخيرة منه…

كي تكون حروفي في متناول الفقراء

على الواقفين في طوابير الخبز

والمتلهفين على الأحر من الجمر

لنبأ عودة أبنائهم من المنفى

على العشاق الحالمين بعش تجمعهم

خذ الجزء المعافى منه لأيتام بلادي

وامنحني النبضة الأولى …

حينما رأيتك!

ورغم قتامة السماء، فالشاعرة في لحظة آسرة تتخطى تداعيات حزن المواسم المرّة وتستعين بدفقها العاطفي فتلون بارقة الحب في حضرة العراق وتتحدث إليه بعذوبة العاشق موحية بأن الأمل المعطل سينحسر لتروي عطشها المقدس ببزوغ فجر الفرح من جديد:

تراب العراق في عطش

كي تلثم بحروفكَ جسده الطاهر

يحمل عبق أنفاسكِ المسجاة بالورد والرياحين

مطرزا بكلماتكِ الني أقترن بها إسمك.

وقصيدتك التي لم تكتمل

عن حبك الأبدي للعراق

تنتظر بزوغ شمس حرفك

قبل المآق .

رموز التأريخ الملهمة

وفي مسعىً لتعزيز بنية النص التجأت ض الى استدعاء الشخصيات التأريخية والتراثية كالنبي أيوب والحلاج وأبن المقفع باعتبارها وسيلة تعبيرية مهمة قاصدة بذلك تشكيل رؤيتها الشعرية وإثراء المضمون في محاولة لإضفاء سمات تقنية الاستدعاء لتحقيق بؤرة جذب للمتلقي وتكوين الصورة الشعرية التي تجسد مدلولات الصبر والاحتمال والألم المضني المتمثل بسير الشخصيات الثلاث التي تمثل أقسى درجات المكابدة وبالاخص انتقائها للفيلسوف عبدالله ابن المقفع الذي عذب بطريقة بشعة حيث ربطوه وبدأوا بتقطيع أجزاء من جسمه، ثم أرغموه على أكل لحمه ثم قطع أطرافه وصلبه وتركه الى صباح اليوم التالي وهو يبدي جلدا و صلابة واحتمالا يتجاوز قدرة الانسان وبهذا الإستذكار الرهيب تحقق الشاعرة الدفقة الشعرية ذات الطابع الدرامي الذي لون حركة النص ومثيراته الدلالية:

أدمنُ ليل الغربة بقنطار صبر

اغدو كأيوب النبي

ينزف جرحي الندي

اصرخ اين الحق

كالحلاج وابن المقفع؟

فبقطع أوصالي أزداد صبرا

ولن اجزع!!

من هذه السوداوية التي تؤطرالواقع المبهم والحالك تستعين غربة بالحلم للتهرب منها وتستلهم حركة يد الحبيب على الكتف في دالة مفعمة بالحنان وهي ذات يد الوالد التي ترمز للأمان، ولا شك أن هذا التناص بين اليدين تشكل طاقة فريدة في لغتها الشعرية والتي تضفي على النص ألقاً وجمالاً سلساً يشعر المتلقي بقرب كبير من النص و يضعه في دائرة المشاركة الوجدانية:

ويدك الرابضة على كتفي

جيش قادم من عهد ولى

يسترجع ايام مجده

حينما كان صبيا

ولم استفق من الحلم

الا حينما لمست يدك

وكانت حنونة مثل يد ابي!!

الا أن الحبيب يخيب ظن الحلم الغريد، ولا يقل قسوة عن الظروف الجاثمة على حبيبته، بل أنه يمضي في صده الى نحو غير متوقع رغم أرق الكلام وأجمل البوح:

كلما أضع رأسي على الوسادة

أثور على كل مؤامرات الاحلام

التي تحاول إقناعي

منذ الولادة

إن رؤيتك في الاحلام

طقس من طقوس العبادة.

و ...

أبعثر تويج الازهار

على دربك كي تعثر بها

ويمتلئ المكان بعطرك.

ولكن… .

كنت دوما أتوقع أن ينصفني حكمك

إلى أن أحيلت أوراقي

إلى دار إفتاء قلبك

فكان الحكم علي شنقا.

وفي خضم هذا البوح الصادم أحيانا والعذب أحيانا أخرى تجمع غربة نصوصها بين السلاسة وبين الوضوح القريب من السرد وبين الخيال الجامح الذي يكد لادراك عالم سحري مطلق لكن المحصلة في النهاية وطن موجوع وحبيبٌ غائب وأمانٌ مفقود!.

***

محمد حسين الداغستاني

 

القصّة

عندما كان الشاعر الفرنسي الرومانسي لامارتين (1790-1869) يستجمُّ في بحيرة (بورجيه) المعروفة بمياهها المعدنية خارج باريس لمعالجة مرض ألـمَّ به عام 1816، تعرف على فتاة جميلة اسمها جولييت شارل (سماها لآمارتين أوليفير في رواية كتبها.) جاءت للغرض ذاته، فكانت علاقة بينهما. وبعد انتهاء مدة الاستجمام، ذهب كُـلُّ منهما إلى سبيـله بعد أن تواعدا على اللقاء بعد سنة عند البحيرة ذاتها. وانقضى عام على الفراق، عاد لامارتين مرة ثانية إلى البحيرة، ولكنَّ جولييت لم تكن هناك، حيث اشتد بها المرض فماتت بعد بضعة أشهر نتيجة فشل جهاز التنفس، فكانت هذه القصيدة التي اشتهر بها لامارتين. 

هناك روايات عدّة فيها بعض الاختلاف ولكن الجوهر واحد.

ترجمتها

لمْ تحظ قصيدة رومانسيّة بشهرة عالمية كما حظِيَتْ قصيدة لامارتين (البحيرة) فقد ترجمت إلى العربية نثراً وشعراً ربّما عشرات المرّات. وكل ترجمة دلّتْ على مدى الدراية بموضوعها والإلمام بلغة المترجم عنها أو فهم ما قصده الشاعر والقدرة على سبك الترجمة لإبراز القصيدة بجمال وروح تجعل القارئ لا يشعر بأنّها مترجمة. وهذا يعتمد على مدى إمكانية المترجم تقمّصَ شخصيّة الشاعر أيضاً. وهنا يُجيز للمترجم أن يضيف كلمات أو جملاً غير موجودة في الأصل على ألّا يخل بروح الأصل أو يغيّر معنى القصيدة أو يحرّفها عن الأصل وبما لم يقله الشاعر، وبخاصة إذا كانت الترجمة شعراً موزوناً مقفّى. وعلى هذا الأساس جاءت ترجمات أحمد رامي، أحمد الصافي النجفي، عبد الحق فاضل وغيرهم لرباعيّات عمر الخيّام بصور مختلفة جداً، وحتّى جاء بعضها منحرفاً عن الأصل. ولكنها ، كلّها، سمّيت برباعيات الخيّام! وهكذا كانت ترجمة (البحيرة.) وهنا أذكر المقطع الأول والثاني من قصيدة (البحيرة) التي ترجمها هؤلاء كاملة وكل ترجمة تختلف عن الأخرى من حيث الحس والتفكير أو الأسلوب أو المطابقة مع الأصل.

French

Ainsi, toujours poussés vers denouveaux rivages,

Dans la nuit éternelle emportés sans retour,

Ne pourrons-nous jamais sur l’océan des âges

Jeter l’ancre un seul jour ?

**

Ô lac ! l’année à peine a fini sa carrière,

Et près des flots chéris qu’elle devait revoir,

Regarde ! je viens seul m’asseoir sur cette pierre

Où tu la vis s’asseoir !

English

Thus, always pushed towards new shores,

Into the eternal night carried away without return,

Will we never standing on the ocean of ages

Drop anchor for just one day?

**

Oh lake, the year has scarce run once more round its track,

And by these waves she had to see again,

Look! I have come alone to sit upon this rock

You saw her sitting on.

الترجمة

بهجت عباس

وهكذا تدفع بنا إلى الأمام في ظلام أبدي

نحو شواطئ جدد بلا عودة.

ألن نتمكن أبدًا على محيط العصور

من الرسوَّ على ميناء ولو ليوم واحد؟

**

يا بحيرة! بالكاد شارف العام نهايته،

وعند هذه الأمواج الحبيبة التي كانت ستراها مرة أخرى،

انظري! لقد جئت وحدي لأجلس على هذا الصخرة

التي رأيتِها جالسة عليها!

أحمد حسن الزيات

أهكذا قضى الله أن نمخر في عباب الحياة

مدفوعين في ظلام الأبد من شاطئ إلى شاطئ،

دون أن نملك الرجوع إلى ملجأ،

أو الرسو ذات يوم على مرفأ؟

 (ليس في الأصل شيء عن قضاء الله كما إنّ الترجمة ليست دقيقة)

**

انظري! أيتها البحيرة

ها هو ذا العام قد كاد يشارف تمامه،

وأنا وحدي بجانب أمواجك الحبيبة

أرتقب عبثًا عودة جوليا إليها،

جالسًا فوق الصخرة التي كنت ترينها جالسة عليها!

(العام شارف تماماً أي مضى، وليس كاد يشارف كما جاء في الترجمة. كما لم تأت في القصيدة جملة " أرتقب عبثاً عودة جوليا إليها")

**

ترجمة الدكتور محمد مندور

أنظل هكذا منساقين أبدا إلى شواطئ جديدة محمولين دائما وسط الليل الأبدي بغير رجعة؟

أوما نستطيع أن نلقي بمرساتنا يوما على شاطئ الزمن اللجي!

**

أيتها البحيرة ! لم يكد العام يتم دورته ومع ذلك انظري

ها أنا وحدي جالساً فوق هذه الصخرة

التي رأيتها جالسة عليها

وإلى جوار أمواجك العزيزة التي كانت ستعود إلى رؤيتها

**

سعيد محمد الجندوبي

هكذا، يُلقى بنا دوما نحو سواحل جديدة،

وفي الليل الأزليّ نُؤخذ بدون رجعة،

فهل بمقدورنا يوما، على سطح محيط الدهور

إلقاء المرساة ولو ليوم؟

**

ألا يا بحيرة! ها هو الحول قد دار

وعند الأمواج الحبيبة التيّ كانت من جديد ستراها،

أُنظري! ها أنا اليوم جئتُ وحيدا، لأجلس على تلك الصّخرة

الّتي طالما رأيتِها جالسة عليها!

وهذه ترجمات عدّة للمقطعين المذكوريْن (الأول والثاني) شعراً مقفّى أترك التعليق عليها للقارئ الحاذق ليقارن بينها ومدى التصاق كلّ ترجمة منهن بالقصيدة الأصل، كما جاء في الترجمة النثرية لهذين المقطعين أعلاه)

علي محمود طه (مهندس)

ليت شعري أهكذا نحن نمضي

في عباب الى شواطئ غُمض

*

ونخوض الزمان في جُنح ليل

أبديّ يُضني النفوس وينضي

*

وضفاف الحياة ترمقها العين

فبعض يمر في إثر بعض

*

دون أن نملك الرجوع الى ما

فات منه ولا الرسوّ بأرض

*

حدّثي القلب يا بحيرة مالي

لا أرى (أولفير) فوق ضفافك

*

أوشك العام أن يمرّ وهذا

موعد للقاء في مصطافك

*

صخرة العهد ويك ها أنا عُدت

فماذا لديك عن أضيافك

*

عدت وحدي أرعى الضفاف بعين

سفكت دمعها الليالي السوافك

**

 ابراهيم ناجي (طبيب)

من شاطئ لشواطئ جُددِ

يرمي بنا ليلٌ من الأبدِ

*

ما مرّ منه مضى فلم يعد ِ

هيهات مرسى يومه لغدِ!

**

سنة مضت! وختامها حانا

والدهر فرّق شملنا أبدا

*

ناج البحيرة وحدك الآنا

واجلس بهذا الصخر منفردا!

***

بهجت عباس (صيدلي) 

وهكذا في عباب البحر قد مَخرتْ

بنا السفينة نأيـاً عـنْ مراسيهـا

*

في ظلمـةٍ طوّقـتـنا غيرِ زائـلـةٍ

فلا صباحٌ يُـرَجّـى من حـواشيها

*

يجري بها البحر قُدْمـاً لا رجوعَ لها

ولا استراحةَ يوم راح يُسديهـا

*

تمرّ حيرى بشُطآنٍ بلا عدد

لكنهّا لا ترى مرفـا فيُـؤويهـا

**

أيا بحيـرةُ هلاّ تنظرين إلى

عـَوْدي وحيـداً وذكرى منْ لياليها

*

من بعد عام مضى قد عُدتُ ثانية

أعلـّل النفسَ لا شيءٌ يُسلّيـهـا

*

كاانت على الصَّخرة الصّماء جالسةً

والموج يرقص مختـالاً حوالِـيها

*

والآنَ أجلس وحدي فوق صخرتها

والنفسُ في شَجنٍ مَنْ ذا يواسيهـا؟

***

نقولا فياض (طبيب لبناني)

أهكذا أبداً تمضي أمانينا

نطوي الحياة وليل الموت يطوينا

*

تجري بنا سفن الأعمار ماخرة

بحر الوجود ولا نلقي مراسينا؟

*

بحيرة الحب حياك الحيا فلكم

كانت مياهك بالنجوى تُحيينا!

*

قد كنت أرجو ختام العام يجمعنا

واليوم للدهر لا يرجى تلاقينا

*

فجئت أجلس وحدي حيثما أخذت

عني الحبيبة أي الحب تلقينا

***

 اشتهرت هذه القصيدة رغم التصرّف الكثير في ترجمتها، كما يرى القارئ،  وهي على غرار قصيدة ابن زيدون التي مطلعها:

أضحى التنائي بديلاً من تدانينا

وناب عن طيب لقيانا تجافينا

***

عبد العزيز السيد مطر (أستاذ جامعي مصري)

يا إلهي! حرت في بحر الزمان!

هام فلكي في ظلام لا نهائي

*

لا أرى الشاطئ يدنو، أو أرى

أين أمضى، ما أمامي؟ ما ورائي؟

*

طالما ناديت، أرجو مرفأ

لسفيني، دون جدوى لندائي

**

جئت وحدي ها هنا مستلهما

حدثيني، هل توافي يا بحيرة؟

*

شارف العام تماما، فاشهدي

ما ألاقي من تباريح وحيره؟

وعلى هذا المنوال كانت بقية مقاطع القصيدة في كلّ الترجمات ولا استثناء!.

وهنا نلاحظ أنّ (روح) القصيدة الأصل موجود ولكن الهيكل مختلف. فكلّ مترجم (أضاف) كلمات أو جملاً ليست موجودة في الأصل، بل يكاد بعضها يكون بعيداً عنه. ولكن الدكتور أبراهيم ناجي أختزل الأصل بحذفه بعضه، فجاءت ترجمته مركّزة محوّرة. والنتيجة هي أنّ النقّاد أجمعوا على أنّ كلّ هذه الترجمات هي بحيرة لامارتين!

وهذه القصيدة كاملة حسب ترجمتي لها:

وهكذا في عباب البحر قد مَخرتْ

بنا السفينة نأياً عنْ مراسيهـــــــا

*

فـــــي ظلمةٍ طوّقتنا غيرِ زائلةٍ

فلا صباحٌ يُرَجّى من حواشيها

*

يجري بها البحر قُدْماً لا رجوعَ لها

ولا استراحةَ يومٍ راحَ يُسديهـــــــا

*

تَمرُّ حَيْرى بشُطآنٍ بلا عدد

لكنّها لا ترى مرفا فيُؤويها

*

أيا بحيرةُ هلاّ تنظرين إلــــــــى

عوْدي وحيداً وذكرى منْ لياليها

*

من بعد عام مضى قد عُدتُ ثانية

أعَلّلُ النَّفسَ لا شيءٌ يُسلّيهـــــــا

*

كانت على الصَّخرة الصّماء جالسةً

والموجُ يرقصُ مختالاً حَوالِيهــــــا

*

ويقذف الرّغوةَ النّعسى على قَدمَيْ

جوليا حُنوّاً فتشدو فـــــــي أغانيها

*

والآنَ أجلس وحدي فوق صخرتها

والنفسُ في شَجنٍ مَنْ ذا يواسيها؟

*

تذكـــــــــــري ليلةً والأنسُ يغمرُنا

ولا نرى غيرَ دنيا الحبِّ نَرويها

*

جرى بنا القاربُ السّهمان في مرح

تحت السّماء وفوق الماء ساريهـــا

*

وكلّ ما حولَنا صمتُ ولا صَخَبٌ

إلاّ المجاديفَ تشدو في مساعيها

*

لكنّ صوتاً لهُ سحـــــــــرٌ وهيمنةٌ

أصغتْ له النفسُ فانزاحتْ غواشيها:

*

يا أرضُ رِفْقاً بنا لا تُسرِعي أبداً

وطَوِّلي ليلةً رقَّتْ معانيهــــــــا

*

وأنتِ، أيتهــــا الساعات، لا تَثِبي

دعي الصّبابةَ ترعى منْ يُداريها

*

وخَلّيانا نعُبُّ الحبَّ في رغَــــــدٍ

وأسرعي مَعْ كئيب النفس داميها

*

وقصِّري ليلةً طالت على نَكِدٍ

مُسهَّدٍ راح بالأشجان يقضيها

*

لم يسمعِ الدهرُ صوتَ الحبِّ عن عَمَدٍ

إذْ يكرَهُ الحُبَّ والأزهارُ يُذويهـــــــا

*

فالصُبحُ قدْ هَتَكَ الليلَ البهيَّ بلا

عَطفٍ، ففارقتِ الأفراحُ راعيها

*

بحرُ الزمان ضنينٌ كله ضِغَنٌ

يمزق العمرَ والأيامُ يَطويها

*

إنَّ الزمان ليجري في تدفّقِهِ

وإنَّ أمواجَهُ لا رحمةٌ فيها

*

فلنَغْتَنِمْ فرصةً عَنّتْ على عجلٍ

مَنْ لمْ يُبادرْ إليها ليس يَجنيها

*

ولْنتْرعِ الكأسَ أفراحاً مُشَعْشِعةً

فإنَّ جَذوتَنا الأقدارُ تُطفيهــــــا

*

فليس للمرءِ مَرفا يستجيرُ بِهِ

وليس للنفس شُطآنٌ فتَحْميها

*

تجْري بنا لُججُ الأهوال مُسرعةً

نحو النِّهايةِ لا شيءٌ سيَثنيهــــا

*

فيا بحيرةُ يا ما ليلةٌ شهــــدتْ

حُبّاً تقضّى سريعاً في دياجيها

*

ويا صخوراً على الشَّاطي تداعبُها

الأمْواجُ في جذلٍ والماءُ يُرويها

*

وأنتِ يا غابةً سوداءَ مُظلمةً

تُجدّد العمرَ دوماً في مراعيها

*

لكُمْ خلودٌ فلا دهرٌ يُحطِّمُكمْ

ولا الرياحُ أو النَّسْماتُ يفْنيها

*

تذكّروا اْثْنيْنِ عاشا في ربوعِكِمُ

تساقَيا الحُب صَفْواً في أعاليها

***

- على سبيل التقديم:

إن السردَ فعلٌ إنسانيٌّ محضٌ اختص به الإنسانُ دون الكائنات الحية الأخرى، وبذلك استحق أن يكون كائنا ناطقا ساردا بامتياز. فالسرد موجود في كل مكان وزمان، كما أشار رولان بارت، ومن ثم، يعد مكونا حضاريا وأداة لإنتاج المعرفة في صور من صورها المتعددة؛ أي أنه فعل بناء إنساني ما دام هذا الأخير يتوسل اللغوي، وغير اللغوي، لتأثيث الكون أولا، وللتعبير عن مكنونات نفسه الباطنية ثانيا، وعن همومه وآماله وطموحاته ومخاوفه وأهواله ثالثا؛ إنه الفعل الذي بموجبه يعبر الإنسان عن كينونته الوجودية، ويشكلها ويخلقها سواء أكان الخلق شفاهة أم كتابة.

ولئن نحن أردنا أن نقدم تعريفا للسرد، فلا بد أن نقول إن السرد أو "القص فن قديم قدم الإنسان، وليس فنا مستحدثا كما ألفنا أن نقرأ. وارتباط القص بالإنسان منذ القدم يعد ضرورة لنمو فكره وتطوره، فالقص ينشأ من جهاز معرفي لدى الإنسان هو بمثابة مركز التقاء بين داخله وخارجه"(1). أما التعريف المدرسي المبسط لهذا الفعل الإنساني المعرفي، فإنه لا يعدو كونه "نقل الحادثة من صورتها الواقعة إلى صورة لغوية"(2).

وهكذا، يتربع السرد على قمة الوجود الإنساني؛ إذ يتوسله الإنسان بغية مشاركة رؤيته للوجود، ويتفنن، من خلاله، في تشكيلها في أي قالب قصصي شاء؛ ذلك "أن الاستعداد القصصي خاصية إنسانية يشترك فيها جميع الناس"(3)، بيد أن هذا الاستعداد لا يعني أن طرق وأساليب السرد لدى الإنسان متشابهة، وإنما تختلف هذه الكفاءة السردية من شخص لآخر. ولئن نحن أخذنا كاتب القصة مثلا، فإنه "يختلف عن كل إنسان في أنه ينظر إلى الأشياء الواقعة نظرة خاصة. فهو لا يقف منها عند السطح، ولكنه يتعمقها ويفرز عليها من أفكاره وخياله، ويجعل لها تكوينا آخر وفلسفة أخرى، ثم هو يختزن كل ذلك في نفسه ليستغله في يوم من الأيام"(4).

وفي هذا المساق، نشير إلى أننا سنحصر حديثنا في نوع قصصي محدد: القصة القصيرة، ومرد ذلك إلى كون الفن القصصي يضم أنواعا قصصية متعددة: "الرواية، القصة، القصة القصيرة، الأقصوصة"(5).

1- القصة القصيرة:

في البدء، نشير إلى أن كل عمل قصصي، مهما كان نوعه "لا يستوي حتى تتوافر له عناصر بذاتها. فهناك حوادث وأفعال تقع لأناس أو تحدث منهم: وبذلك يوجد العنصر الثاني وهو عنصر الشخصية. ووقوع الحادثة لا بد أن يكون في مكان وزمان، وهذا هو العنصر الثالث. ثم هناك الأسلوب الذي تسرد به الحادثة، والحديث الذي يقع بين الشخصيات. والعنصر الأخير هو الفكرة أو وجهة النظر"(6).

لقد قدمت للقصة القصيرة تعريفات وتحديدات متعددة، تتفق كلها في عناصر بنائية وفنية محددة، وتختلف في عناصر أخرى حسب الرؤية والمرجعية المعرفية التي يصدر عنها النقاد والمنظرون لهذا الفن القصصي. فعز الدين إسماعيل يحددها على الشكل الآتي بعدما فرغ من تحديد القصة؛ لأنه يقيم تمييزا بين كل من القصة والقصة القصيرة والرواية: "وأما القصة القصيرة فهي حديثة العهد في الظهور، وربما أصبحت في القرن العشرين أكثر الأنواع الأدبية رواجا"(7)، ويعزو ذلك إلى كونها "أغرت كثيرا من الشبان بكتابتها رغم أنها في الحقيقة أصعب أنواع القصص"(8) فضلا عن كون عصرنا قد تميز "بالآلية والسرعة، ومئات الصحف والمجلات تحتاج كل يوم لمئات القصص"(9).

ومن ثم، فإن التعريف أعلاه، يصدر في تحديده للقصة القصيرة عن فعل تلقيها الذي يرده إلى طبيعتها من جهة، وإلى الطلب المتزايد الذي تقدمه المجلات والصحف والإذاعة إلى كتاب القصة القصيرة. بيد أن وجود "ربما" في التعريف، يجعلنا نطرح السؤال التالي: هل تعد القصة القصيرة أكثر رواجا في القرن العشرين؟ وما المعيار الذي توسله الناقد ليصدر هذا الحكم؟ ويعزى سؤالنا إلى كون آراء نقدية وتنظيرية كثيرة تجعل من الرواية الجنس الفني الأدبي الذي بات يتربع على عرش الأجناس الأدبية منذ القرن التاسع عشر.

ويعرفها شارلز ماي (charles May) قائلا: "إنني أتفق مع بوريس إيخنباوم في أن القصة القصيرة شكل أساسي وأولي. بل إنني أشير إلى أنها شكل له صلة وثيقة بالسرد البدائي، الذي يجسد التصور الأسطوري ويلخصه، والذي يكون من سماته التكثيف لا التوسيع، والتركيز لا التشتت"(10). ولئن كان التعريف الأول يركز على الأسباب التي أدت إلى ظهور القصة القصيرة، ومن ثم رواجها وإقبال الصحف والمجلات عليها، فإن تعريف شارلز يحاول أن يؤصل لهذا الجنس الأدبي، وذلك من خلال العودة إلى الأشكال البدائية التي يرى أن القصة القصيرة تطورت عنها، لذلك يجعل لها صلة وثيقة بالسرد البدائي في صورته الأسطورية، وسنجد له تعريفا آخر يضيف "الرومانس" بحسبانه مهدا وأصلا من أصول القصة القصيرة؛ حيث يذهب إلى القول: "إن القصة القصيرة- في رأيي، وكما يؤكد فراي بالنسبة لشكل الرومانس- هي الجوهر البنائي لكل قص، وذلك في أخذها عن الحكاية الشعبية والأسطورة"(11). وفي سياق آخر، يضيف قائلا: "ومع ذلك فإن للقصة القصيرة في الغالب مبدعا موحدا، وحيث إنها نشأت منذ بداياتها في حضن الدوريات، فقد ظهرت غالبا مفردة، حتى وإن كان نشرها في شكل كتاب هو ضمانة بقائها النهائية"(12). فهو، من خلال تعريفاته التي أوردناها، يسعى إلى التأصيل للقصة القصيرة مقدما بعض خصائصها، ومن جهة أخرى، تشير تعريفاته إلى أن هنالك تقابلا مضمرا بين الرواية والقصة القصيرة، كان حاضرا في ذهنه أثناء تحديد خصائص هذه الأخيرة.

ورغم التعريفات والتحديدات المتعددة، تظل القصة القصيرة نصا أدبيا "يتعامل مع الوجدان، وتتم صياغته بحيث يصبح مؤهلا لإنتاج المتعة والمعرفة الإنسانية"(13).

2- خصائص القصة القصيرة:

إن لكل جنس أدبي خصائصَ ومميزاتٍ تُميزه عن الأجناس الأدبية الأخرى، بيد أن فكرة وجود جنس أدبي خالص كانت وما تزال محط نقاش وجدل بين النقاد والمنظرين، ومرد الأمر إلى التداخل الذي يكون بين الأجناس من حيث المقوماتُ البنائيةُ والفنيةُ. وهكذا، يمكن القول إن أهم ما يميز القصة القصيرة هو كونها لا تستخدم "التفاصيل بشكل خارجي تماما، وبطريقة ثابتة في الزمان والمكان (ولكنها) لا تستغل إلا تلك التفاصيل الضرورية والنافعة للقصة. ويبدو التقدم فيها وكأنه متجه إلى هدف وحيد. وعلاوة على ذلك، فهي أكثر ارتباطا بصيغة الرومانس منها بالصيغة الواقعية"(14). فهي، حسب هذا التصور، لا تفرط في سرد التفاصيل والجزئيات، وإنما تنخل وتصطفي منها ما يعد ضروريا لبناء الحبكة الفنية باعتبارها "من المفهومات الشائعة لها شيء يضاف إلى السرد ليجعل من الأشياء المسرودة بناء متماسك الأجزاء، يؤدي هدفا واحدا"(15).

أ- التكثيف، ووحدة الانطباع:

إن كاتب القصة القصيرة يجنح غالبا إلى التركيز والاختزال، ذلك أنه، وكما أشرنا سابقا، يركز على الضروري والمهم في الوقائع والأحداث اليومية، وبذلك تكون القصة القصيرة لقطة أو ومضة من الحياة الإنسانية، يسلط، من خلالها، القاص الضوء على جانب من جوانب الكائن الإنساني، ولعل هذا ما "يجعل صفة التركيز أساسية في القصة القصيرة، فهي أساسية في الموضوع، وفي الحادثة وطريقة سردها، أو في الموقف وطريقة تصويره، أي في لغتها"(16).

وإلى جانب التركيز، نلفي في القصة القصيرة نزوعا نحو "وحدة الانطباع" كما ذهب إدغار آلان بو؛ ذلك أن الأحداث والشخوص والزمان والمكان والفكرة، كلها عناصر ومكونات تتضافر وتتشاكل فيما بينها لتحقق وحدة الأثر لدى القارئ. فحتى وإن تعددت المشاعر والأحاسيس داخل القصة القصيرة، فإنها تصدر عن موقف واحد يسعى نحو هدف واحد، ومن ثم تحقق القصة القصيرة وحدتها وتماسكها فنيا وجماليا ودلاليا.

بيد أننا نود أن نطرح بعض التساؤلات حول وحدة الانطباع، ومدى صمودها حينما ننتقل من القصة القصيرة المفردة إلى مجموعة قصصية تضم قصصا متعددة: هل تفقد القصة المتفردة وحدتها الشكلية داخل سياق كلي لمتوالية قصصية؟ وهل تحافظ على السمة المميزة لها، وهي وحدة الأثر/ الانطباع، في ظل تجاورها مع قصص أخرى للكاتب نفسه؟

وفي هذا السياق، نورد تصورا لشارلز ماي يذهب فيه إلى "أن القصص في مجموعة واحدة- رغم وجودها بين دفتي نفس الكتاب- تدعونا إلى النظر إليها مفردة، لأن كل قصة تمنحنا إحساسا بأنها مغلقة"(17)، ويرجع هذا الانغلاق والتماسك إلى أن " متوالية القصة القصيرة، وهي تنبني في غياب الهيكل السردي الصلب للرواية، تعتمد على تنوع الإستراتيجيات النصية لكي تصل إلى الوحدة والتماسك"(18). لكننا نتساءل: كيف تحقق المتوالية القصصية وحدتها وتماسكها؟ ما التقنيات والأدوات التي تربط بينها أثناء فعلي الإبداع والقراءة؟؛ ذلك أن المتوالية القصصية تضم قصصا متعددة، وهذا المجموع يتضافر ليقدم وحدة شكلية ودلالية متماسكة، باعتماد مجموعة من الأدوات يحددها شارلز ماي في" أدوات تقنية بسيطة من قبيل العنوان، والتقديم، والقول المأثور، وقصص الإطار، بالإضافة إلى أدوات أكثر عضوية مثل الرواة المشتركين، والشخصيات المشتركة، والصور والمواضع والتيمات"(19).

هكذا، يدفع شارلز ماي إلى الاهتمام بالمجموعة القصصية في كليتها، ومن ثم، سيكون الاهتمام منصبا على إسهام كل قصة منفردة في تشكيل وبناء الدلالة الكلية للمجموعة، كما أن كل قصة قصيرة ستسهم في الربط بين القصص، وفي توليد المعنى وتكوثره ليصب في نهر واحد يحدده القاص قبل وأثناء عملية الإبداع، ويعضده أو يرفضه القارئ أثناء فعل القراءة، ومرد الأمر إلى كون "قصص الكاتب قد تتخذ بين يديه حكاية جديدة، وتكشف عن معان جديدة، له هو نفسه، ولقرائه في نفس الوقت، حين يتم جمعها في مجلد واحد"(20). فهل تكون القصة القصيرة، حسب هذا التصور، جنسا يأبى التقيد ويسعى إلى التوسع كما الرواية؟ وهل تكون الرواية قد ضاقت ذرعا من التوسع، ومن ثم تتوخى العودة إلى التقيد من خلال تقسيمها إلى فصول؟

إن وحدة الانطباع التي تميز القصة القصيرة، تغدو محط مفارقة يعرضها شارلز ماي في قوله: "وعلى خلاف ما يحدث في فصل من رواية- نقرؤه ونحن نتوقع ما يأتي بعده، ونحاول أن ندمجه في الكلية الجمالية للعمل- تظل القصة القصيرة داخل المتوالية تشير إلى كمالها الشكلي، حتى في الوقت الذي ندرك فيه تكرارية النموذج والتيمة وتطورها"(21) ، ومن ثم، تزداد المفارقة وضوحا حينما ندرك أن " السمة المميزة للقصة القصيرة- وحدة الأثر التي يفترض أنها تميزها كنوع- تساعد على جعل كل قصة أكثر انفتاحا على ما هو أبعد من دلالتها المفردة، وأكثر انفتاحا على الدلالات المتشعبة التي يستدعيها سياق القصص المترابطة"(22).

ب- الوحدة الزمنية والمكانية:

إن سمة التركيز والتكثيف لا تطال عنصر الأحداث والوقائع، ووحدة الانطباع فحسب، وإنما تؤثر على عنصر: الزمن والمكان والشخصية أيضا. أما الزمن، فإنه لا يعرض في القصة القصيرة في صورته التطورية، وفي ارتباطه بالوجود الإنساني في عموميته، وإنما نلفي كاتب القصة القصيرة يلتقط لحظات وومضات زمنية تبدو جزئية، ولكنها محملة بحمولات نفسية تبرز حالة الكينونة في لحظة زمنية مكثفة، تكون قمينة بأن تغطي مسيرة زمنية طويلة بتلويناتها وخصوصياتها. وهكذا، يحق لكاتب القصة القصيرة أن يتنقل "في الزمن كيف شاء، وليجتز الشهور والسنين، ولكن الذي يجعل عمله قصة قصيرة- رغم ذلك- هو الوحدة الزمنية التي تتمثل في القصة"(23)، ذلك أن القاص يقدم للقارئ تجارب ومعلومات كثيرة في إطار وحدة زمنية مكثفة ومركزة. والشيء نفسه ينسحب عن المكان؛ لأن القاص، وبحكم طبيعة الإطار الذي تنتظم داخله عناصر قصته، ليس بمقدوره أن يتجول في أمكنة متعددة كما هو الشأن في الرواية، بيد أن هذا لا يعني أن القصة القصيرة لا يمكن أن تضم أماكن متنوعة، وإنما آية الأمر أنه يكون محاصرا بكم المؤثرات والإفرازات التي يتركها كل مكان في مجرى الأحداث وفي تحديد دلالاتها وخصوصياتها، فكل مكان يأتي محملا بتجارب الشخصية وأثرها فيه وتأثرها به؛ أي في فعلها وانفعالها في المكان والفضاء عموما. ومن ثم، يغدو القاص مطالبا بتكثيف وترميز أمكنته حتى يتمكن من القبض على خصوصياتها في علاقتها بوقائع قصته وشخصيتها وزمانها، وبالتالي يسهم في تحقيق وحدة الانطباع.

ج- الشخصية:

إن تعدد الشخصيات والأحداث والأصوات والمعاني، يعد خاصية من خصائص الرواية حتى وإن كانت باقي الأجناس الأدبية تشاركها في البعض؛ إنها "نسق فسيفسائي وثيق الارتباط بالواقع في كل حركاته الموروثة والجارية، وبالذهن والشعور والخيال والرمز ضمن أبعاد دينية وتاريخية واجتماعية وثقافية، تخوض سبلا مختلفة عن المألوف في خلق حياة حقيقية غير فانية، لتجاوز تلك القناعات القاتلة"(24). فكون الرواية "تسهم في تشخيص المتشابك وتوسيع المتخيل الاجتماعي (...) ذلك أن أسئلتها نابعة من تفاصيل المعيش ومما يندمج في ثنايا الصيرورة ورحلة الذات المتحولة"(25)، يدفع بها إلى الانفتاح على تعدد الشخوص، والقوى الفاعلة عموما، في بناء أحداثها وتحقيق كفاءتها الفنية الجمالية والدلالية. كما أن "الرواية بطبيعتها نوع غير منته، وقدرها أن تظل هكذا إلى الأبد، وهي بالنسبة لباختين "النوع المعبر عن الصيرورة"(26). لكن القصة القصيرة، بإطارها المحدد، لا يمكنها أن تستوعب قدرا كبيرا من الشخوص، لذلك نلفيها تؤْثر "أقل عدد ممكن من الشخصيات، خلافا للقصة والرواية، حيث يكثر الأشخاص"(27).

3- بين القصة القصيرة والرواية:

تعدُّ القصةُ القصيرةُ شكلا فنيا يتميز ب"قصره وصغر حجمه؛ إذ يعد فنا متصفا بخاصية التكثيف (فالقصة) تلتقط وتكثف وتوجز وتضمر ولا تعلن، بما أنها تتميز ببعدها اللحظوي الجزئي، وليس الكلي"(28).

إن بين القصة القصيرة والرواية اختلافات نوعية كثيرة، وسنجملها في ما قدمته لبيبة خمار في كتابها "النص المترابط"(29)، ويعزى هذا الاختيار إلى كون الباحثة قد قدمت قائمة من الخصائص النوعية التي تميز بين الجنسين من حيث الشكلُ الفني، والجماليُّ، والموضوعاتي، فضلا عن خصائص نسبية في العدد والطول والقصر من جهة، ولكون أي حديث حول القصة القصيرة قد لا يستقيم إن لم نستحضر نظرية الرواية، وذلك لأسباب عديدة تختلف من منظر لآخر.

الرواية - القصة القصيرة

- طويلة وفضفاضة (مدفع بعيار كبير، وطويل المدى)

* قصيرة (بندقية تصوب على أهداف محددة، كالومضة، أو الحفنة، أو قصة تقرأ في ساعة، أو دقيقة...)

- مجموعة من الأحداث المتشابكة والمختلفة (الضوء القوي)

* لحظة، أو لقطة واحدة وهدف واحد تسخر كل عناصر وتمفصلات النص لوصوله، وهذا ما يسمى بوحدة الأثر حسب "إدجار آلان بو". وقد تكون هناك قصص بآثار متعددة. لكنها تظل رغم ذلك كحزمة ضوء.

- الحرص على تواجد الكثير من الفواعل أو الأبطال قصد تقديم صورة مصغرة عن التركيبة المجتمعية (مدينة مأهولة بالناس).

* وجود بطل أو اثنين يعيشان الأزمة (منزل صغير به شخص أو أكثر) وقد يكون البطل فكرة، شيئا، حلما، أو هوسا...

- قد تهتم الرواية بلحظة التنوير

* بنيتها هي بنية الكشف لاهتمامها بلحظة الإضاءة أو التنوير (كشف حقائق إنسانية، نفسية، واجتماعية..) وإن كانت بعض القصص لا تهتم بهذه اللحظة.

- ترقب القارئ فيها متتال وبعيد زمنيا.

* الترقب فيها لحظي يخص واقعة بعينها، وهدف واحد.

- الاهتمام فيها ينصب على ملامح الشخصيات وحالتهم النفسية وعوالمهم الداخلية.

* الاهتمام فيها ينصب على موقف الشخصية.

- أزمات وانفراجات متعددة ومختلفة.

* أزمة واحدة وانفراج، وحل. وقد يكون هناك رصد للأزمة دون تقديم أي حل كنوع من النهايات المفتوحة أو المعلقة.

- بناء مفتوح غير مكتمل يرصد مصائر الشخصيات

* بناء مغلق، ومكتمل يرصد موقف الشخصية، ومصيرها في لحظة متقطعة زمنيا ومكثفة. لكن هذا الانغلاق مسألة نسبية حيث نجد قصصا منفتحة وغير مكتملة. ويتم في الغالب التنويع في معمارية القصص التي يضمها العمل الواحد.

- عدم ظهور آثار البنية (لا تهتم بالبداية ولا النهاية قدر اهتمامها بالوسط وطريقة نمو الحدث وتتبع الشخصيات حسب إيخنباوم).

* الاهتمام بالاستهلال والقفلة أو الخاتمة؛ حيث تظهر آثار البنية. ولا يتم الانزياح عن هذه التقنية إلا في بعض الإبداعات التجريبية.

- العناية بالتفاصيل، والعمل على إبطاء الحدث، ووصل العناصر المتقابلة، والمراحل الزمنية المختلفة.

* الاعتماد على التركيز، والاقتصاد، والاقتضاب.

- نهوضها على كل أشكال التناص.

* اعتمادها التناص والتضمين.

- جنس هجين، ومختلط. بالإضافة إلى الهجنة على المستوى اللغوي؛ حيث يلتقي الفصيح بالعامي أو الدارج.

* الهجنة الأجناسية واللغوية.

***

..................................

- الإحالات والهوامش:

(1) نبيلة إبراهيم: فن القص في النظرية والتطبيق، سلسلة الدراسات النقدية، مكتبة غريب، ص3.

(2) عز الدين إسماعيل: الأدب وفنونه، دار الفكر العربي، ط1: 1976م، ص187.

(3) نفسه ص180

(4) نفسه ص180

(5) نفسه ص 199

(6) نفسه ص 184

(7) نفسه 205

(8) نفسه 205

(9) نفسه 205

(10) نقلا عن خيري دومة: القصة الرواية المؤلف، دراسات في نظرية الأنواع الأدبية المعاصرة، دار شرقيات للنشر والتوزيع، ط1: 1997، ص 80

(11) نفسه صص 80-81.

(12) نفسه ص90

(13) فؤاد قنديل: فن كتابة القصة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط1: يونيو 2002، ص 7.

(14) خيري دومة ص 80.

(15) عز الدين إسماعيل، صص 185-186

(16) نفسه ص 203

(17) خيري دومة، ص94.

(18) نفسه ص 90.

(19) نفسه ص 90.

(20) نفسه ص 98.

(21) نفسه ص 101

(22) نفسه ص 102.

(23) عز الدين إسماعيل ص 202

(24) شعيب حليفي: ثقافة النص الروائي، شركة النشر والتوزيع المدارس، ط1: 2016، ص 6.

(25) محمد برادة: أسئلة الرواية أسئلة النقد، شركة الرابطة، ط1: 1996، ص9.

(26) خيري دومة، ص 12.

(27) عز الدين إسماعيل ص202.

(28) وفاء مليح: الكتابة بالضمير الأنثوي في السرد المغربي الحديث، ط1: 2022، دار الأمان للنشر والتوزيع الرباط.

(29) لبيبة خمار: النص المترابط، فن الكتابة الرقمية وآفاق التلقي، دار رؤيا، ط 1: 2018 ص: 94-95-96-97.

محمد رشيد نسري شاعر كوردي يزاوج الطبيعة دوما في قصائده، فكل جزيئة من جزيئات المناظر الخلابة في بلدته لها انعكاساتها ووقعها الخاص في أناه، فهي مرآة عاكسة لِما في روحه الشاعرة، وكاشفاً ضوئياً بصوته المحكي عن صدى تجلِّياته التعبيرية المؤثِّرة باستنطاقها الصوري الحركي التي تجذبه إليها .

إنها مرآة واقعه، للماضي التالد، والحاضر الراهن الحالي، واستشراف الغد المستقبلي الآتي. وتحاول مخيلته أن تصنع منها صور شعرية بانورامية جميلة تدغدغ مشاعر المتلقي، لأن الطبيعة لديه ليست صورة صامتة بل هي حركة تفاعلية مع نظرته تجاه نفسه والآخر . لذا تراه دوما يستدعي الآخر من خلال ما تعكسه الطبيعة في أناه وتصنع منها خطابه المستقبلي .

والمتخيل الشعري لديه ليس وليد تبئير الرؤى في الطبيعة الصامتة فحسب، بل هو إنتاج لانعكاسات هذه الرؤية في جهازه المتخيلي كمعطى موضوعي يتجسد، ويتشكل عبر المتخيل كي يكتسب دلالات جديدة .

في قصيدته المنشورة في صفحته يوم 23/10/2023 (هلو ڕابە  - أستفق) يخاطب الشاعر أبناء شعبه كي يستفيقوا من كسلهم وحيث العالم المتحضر غزا الفضاء وهم لا يزالوا أسير فراشهم:

خەلک فـڕی چو عەســمانی

هێشتا تو یێ دناڤ گالێ ڕا

دێ هلو زی ژخــەوێ ڕابــە

ســەحکە کـــریـار وحـنـێـرا

الآخرون طاروا وغزوا الفضاء

وأنت لا زلت تتقمط فراشك

انهض واستفق من نومك

وانظر الى الأعمال الجادة والبطولات

وفي قصيدته الجميلة (دیــکـلــو ڕابـــە ســـحــارە – أيها الديك أستفق إنه الصباح) يستدعي تراث قريته المرتبط بصياح الديك والذي يعني بزوغ الفجر ليحث الآخر الذي هو أبناء شعبه كي يستفيق من سباته العميق ويجعل من أحلامه حقيقة، فمثلما يدغدغ صياح الديك في الفجر، فلاح قريته كي يذهب الى الحقل هكذا يستدعي الشاعر أبناء شعبه للعمل من أجل خلاص نفسه . نص كهذا يحمل مفهومه النصي من إيحاءات نفسية مُثيرة وطاقات إيجابية تعبيرية تترك صداها على نفسية المتلقِّي  فيقول:

دیــکـلــو ڕابـــە ســـحــارە

ڕاکــە خــەلکــێ نـڤســـتی

بو یێ بێ پێژنە ئەڤ شارە

ئەگەر چیە خاڤی وسستی

بیانـی بــو خــو هشـــیارە

هێشتا مە ڕیس نەڕســتی

تـــو گازی بـکە جــــوتـیـارا

سپێدەیە وەختێ جــوتـــی

أيها الديك استفق لقد حان الصباح

نادي للنيامى أن يستفبقوا

فالمدينة قد أكتنفها السكوت

ما الذي دفعك تتقمط الضعف

والاجنبي يعي مصالحه

ونحن لا زلنا ننتظر الغزل والنسج

نادي للفلاح أن يستفيق

إنه الصباح وقت الفلاحة

تراه في قصيدته هذه يجعلك تعيش القرية لتستأصل منها العبر، فإذا لا تزاوج الديك الذي هو صورة معكوسة لضميرك لا يمكنك بناء وطنك، ثم يعود وينادي الراعي (القائد) ليستفيق هو الآخر من سباته العميق، والامام لينادي من أعلى المنابر ... الشاعر لا يزال في مرحلة النظال ولا يزال يرى الأمل في كل مظاهر الطبيعة لذا علينا عدم الاستسلام لما قال وقيل فتراه يخاطب الديك ليفق الراعي هو الآخر من نومه  :

شڤانی ژ خــەو هشیارکـە

دا پـەزی بـەردەت چـــەرێ

مەخەل و هەوشـیا دیارکـە

فـەرە ســـپێدێ بـــدەیە ڕێ

بەربەســــتا ژ ڕێـکـێ ڕاکـە

أفق الراعي من نومه

ليدع خرافه تمرح في الحقول

دع وسعة الصباح  يفرش على الطريق

وأزح الحجارة والصخور من الطريق

يحاول الشاعر في ترانيم هذه المُدوِّنة الشعرية الجميلة الغور جليَّاً في طيَّات تمظهراتها الشعرية البارزة واستنطاق صورها في شعر نحاول في قراءتنا هذه إبراز الرؤية الذهنية للشاعر داخل التعالق الذي رسمته القرية في ذاكرته من خلال البناء المشهدي وقصدية التعبير على  المستويين التاريخي والحاضر، النضالي والجمالي من خلال سرده لمشاهد صياح الديك وأرتباطه بالنضال وبأفعال من أجل تحقيق الذات، متكئاً على ثلاثة مكونات تتشكل من خلالها الأحداث وهي "الشخوص (الديك، الفلاح، الراعي، إمام المسجد )، والفضاء الزمكاني (القرية في الماضي) والحوار.

وفي قصيدته (ئوبونتو) المنشورة في صفحته يوم 11/2/2023  يستنبط العبر من توظيفه لتراث فلسفي أفريقي مستخلصا أن الخلاص لا يكون إلا من خلال التكاتف وبذل المزيد بدلا من أن يعاتب حظه كونه وحبيبته لم يحققا ما يرومون الوصول اليه . ومع هذا نجده في قصيدته (ژدەنگێ تە  - من وقع صوتك) يحقن شعبه بالامل فبصرخه واحدة بين جباله الشاهقة ترى العشرات من أعداءه تسقط من شدة صداها، فالحزن الذي يتراءى في أعين شعبه يتراءى له بارقة النجاح:

ژ دەنگێ تە هەسار کەفتن

پێر و ترازی بشەڕکەفتن

ڕوندک ژ چاڤا هاتنە خارێ

ئاخینگ ژ ناخێ من دەرکەفتن

من صدى صوتك سقطت المجرات من السماء

ومجاميعها تتصارعان

وعيناي تذرفان دمعاً

وأنفي يخر دما

تُشكّل الذَّات عصبَ الغنائية في محور قصائده لذا تراه ينصهر وذاته في معالم الطبيعة وانعكاساتها فتتحول الى الأثر الأدبي الذي يتكلم فيه الشاعر بمفرده، ولذلك فإنّ الذي يتكلم في شعره الغنائي إنّما هي ذاته الّتي ترتبط بـمفردات واقعية ملموسة لذا ترى واقعه الملفوظ ينشدّك إلى تلفُّظ موسيقى أنينه وشجاه.

وفي قصيدته (هندەکێت هەیــن – بعضهم) يستخدم التكرار للمفردة (هندەکێت هەیــن – بعضهم) كي يصف أبناء شعبه ما لهم وما عليهم لذا تره يستخدمها في بداية كل بيت كي يزاوج أيقاعها مع انعكاس مضمونها من خلال مجسَّات خيوط حبله السري الشعري فهو يُضفي على هذه التَّكرارات الشعرية المتناوبة شيئاً خاصَّاً من روحه الذاتية للتخفيف من شدَّةِ غلواء الصراع الداخلي ومن آثار جيشانِ إرهاصاته النفسيَّة التي يعيشها الشاعر ويواجهها في حياته الشخصية  سواءٌ أكانت تتعلّق بواقعه الذاتي الاجتماعي أم بواقعه السياسي الراهن الحاضر.

إلا أن الشاعر من فرط حبه للطبيعة يزاوج بينها وبين جمال الأنثى فحين تطل ينشرح الربيع ويمد يديه ليعانق الكون وكأن تموز قد عاد وعاد معه الخصب (في اسطورة نزول عشتار الى العالم السفلي) .

فالإحساس بالجمال، والوعي الجمالي بالأشياء هو ما يمنح الشعرية خصوصيتها الفنية ومداركها الشعورية العميقة فكل شئ فى اللوحة الشعرية يخضع لمعايير التناغم واللحن والإيقاع لمعنى حب الحياة المفعمة بالتناغم وبالأحاسيس المشرقة، الخالية من التوتر والقلق حين يخاطب أناه والتي هي بحد ذاتها الأنا الجمعية فلا ينفصل الانفعال الذى يحدث عن طريق البصر عن ردة فعله الحسي، بل هما يتداخلان بفضل ميل الإحساس للامتداد والامتزاج بأشياء أخرى . فيقول في قصيدته (ژدوریا تە – من فراقك):

ژدوریــا تە دلــێ نــازک نــــا دەبــری

ژ جوانیـا تــە گـــولا بهـارێ کر گـــری

تو چوی و تــە ئەڤ ژیانا تاری کــــری

وەرە توی خــەمل و ڕوشــا ڤێ دنیاێ

تو زی وەرە دا گەش ببیـت ڕەنگێ بهار

دا نە مینن ل ناڤ دلادا گــری و زێمـار

من فراقك تقطعت أوصال القلب

ومن جمالك تفتحت أزهار الربيع

ذهبت وجعلت هذه الحياة مظلمة.

تعالِ .. فأنت الجمال وأنت النهار لهذه الدنيا

أسرعي تعالي كي يتزين الجرح بلون الربيع

ولا يبقى في القلب وقتا للهموم

يمتاز شعره الغنائي بحرارته وتأثيره في المتلقي، ويشبع فيه التفجير الداخلي فوصفه لشيئًا معينًا لا يقتصر على الجانب المادي وحده؛ لأن عاطفته الجياشة وطموحه يتجاوزان الإحساس بالواقع، لذا يسعى لبلوغ شعره نوعًا من ارتياد إلى عوالم ما وراء الطبيعة، فهو يرسم ملامح وحدود الموصوف وهو يعيش عالمه .

ورغم كل هذا الجمال والصفاء في طبيعه وطنه نراه يتساءل من أين جاء الشر (مشيرا الى حرب الأنفال) وقلع الصفاء من سماءه ودب الخراب بأرضه حين قصفت إحدى مدنه بالكيمياوي فتراه يقول في قصيدته (ئەنفال – أنفال):

ژبیابانا توزەک ڕابو

ژ بەحران لافاوەک ڕابو

ژ عەسمانا عەورەک ڕابو

وەڵاتێ من کر کاڤلستان

کر تارستان

من الصحراء هبت عاصفة

ومن البحار فاض فيضان

و في السماء تراكمت غيمة

حولت وطني الى دمار

بل حولته الى ظلام

لذا في كل قصيدة من قصائده تتجسد ذاتيّته في الصوت الفردي الحميم، والذات الصغيرة في خوفها، وفي أحلامها الكسيرة وتشوُّفها لعالمٍ أكثر عذوبة ورأفة وأقلّ هدير .

ولعل هذه الانفعالية الواضحة، حملت الشاعر على اختيار مفرداته القادرة على استيعاب طاقاته الانفعالية، بما يثير المتلقي، وبمعنى آخر تصدمه بما تحمله من شحنة توترية، يقوم اساسها على العلاقة القائمة بين محور الذات الشاعرة والمتأثرة، ومحور الموضوع الذي لازم ولا يزال يلازم هواجس شعبه، والتي إما أن تكون علاقة تنافر وخصام أو علاقة وئام ونضال . وهذا ما تجسده مقطع آخر من قصيدته (أنفال) بقوله:

وەڵاتێ من کر کاڤلستان

کر تارستان

کێلبێن دڕندەکێ دلڕەش

وەک سەیێ هار

پەنجێن وی ژەحر ژێ دباری

دناڤ وارێ من دا

چونە خار

جعلوا من وطني خراب

ودمار

أنياب وحش حاقد

كالكلب المسعور

مخالبه تمطر سماً

أوغل في دياري

أن الأفكار والصور الذهنية لاترد للشاعر بصورة عرضية، بل تتقادم على شكل ومضات، وهذه الصور لاتضىء إلا حينما يتحرر شعبه من المشاغل الجزئية التي لازمته من الماضي كي تخلق حلماً بلغة ألوان الطبيعة الخلابة والتي اتحدت مع ذات الشاعر، واندمجت مع خياله ونفسيته.

ومما يلاحظ في لغة الشاعر أحيانا تأتي انفعالية حين يتعلق الأمر بالوجود، أنها لغة انفعالية، تمتاز بنغمتها الصاعدة، التي تبرز أنماطا لغوية ذات طبيعة عتابية .

وختاما نقول:

إن المتخيل الشعري لدى الشاعر الكوردي محمد رشيد نسري يفتح مداليل الجملة الشعرية، ليرسم لنا لوحات فنية تعكس الطبيعة . وما يعزز شعرية متخيله هو بداعة النسق الوصفي، وحيازته التصويرية وكما هي في قصيدته التي يخاطب الديك ومن خلالها يخاطب أبناء شعبه أو شريكته في الحياة وحيث تنطلق القصيدة من لوحة فنية عادية مألوفة لمن عاش في القرية فتسارعت مخيلته بإعطائها طبقات من الدلالة كي تكشف لنا ذائقته الشعرية . وقد جاء استخدام الشاعر للمفردات ذات الايحاء الموحي من جهة، والتماهي بالجمال من جهة اخرى واضحا . متمنياً لصديقي الشاعر محمد رشيد أفقاً رحباً وعطاءً ثراَ .

من قصيدته (شین ژڤان):

ل بن وێ دارا

شین ژڤان

ژ ڕوژگارێن

پڕ ئێش و ژان

پەیڤ نڤێسین

گوتن هوزان

ژ پەیڤ و ڕستا

پیتێن ناڤێ تە

وەریان

تحت تلك الشجرة

التي كانت يوما محطة لقاء

من ذكرياتها الأليمة

تجسدت الكلمات

وكونت الأشعار

ومن الكلمات والجمل

تساقطت حروف اسمك

***

نزار حنا الديراني

ساشا سوكولوف من أكثر الكتاب الروس المعاصرين غرابة وأهمية في الأدب الروسي الحديث. ومن الروائيين القلائل الذين أعادوا التفكير بجرأة في أفضل التقاليد الأدبية الكلاسيكية، وأعطوا الأدب الروسي صوتا حديثاً وعالمياً. يتسم أعماله بالثراء اللغوي، وإستخدام واسع النطاق لتقنيات ما بعد الحداثة والسريالية والغروتيسك. روايته الأولى والأهم "مدرسة الحمقى" أثرت بشكل كبير في تطور النثر الفني الروسي المعاصر، وجلبت له شهرة في جميع أنحاء العالم .بعض النقّاد الروس يقارنه بجيمس جويس لموسيقى نثره وإستخدامه تقنية سيل الوعي. ترجمت أعماله إلى الإنجليزية والألمانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية واليونانية والبولندية والكورية ولغات أخرى. ونشرعن حياته وأدبه عدد هائل من البحوث والرسائل العلمية في روسيا وخارجها، وأشاد العديد من النقاد والباحثين برواياته التجريبية.. فاز بجائزة أندريه بيلي (1982)، وجائزة مجلة اكتوبر (1986) وجائزة بوشكين الدولية (1996).أخرجت السينما الروسية فيلماً وثائقياً عن سيرته وإبداعه، بعنوان " ساشا سوكولوف –آخر كاتب روسي.

حياة حافلة بالأحداث

ولد ساشا سوكولوف في 6 نوفمبرعام 1943 في العاصمة الكندية أوتاوا، حينما كان والده فسيفولد سوكولوف نائبا للملحق العسكري في السفارة السوفيتية. ولكن العمل الحقيقي لسوكولوف الأب كان إدارة شبكة تجسس في الخفاء، تعمل في كندا وأمريكا، لصالح الإتحاد السوفيتي، مهمتها الحصول على أسرار صنع القنبلة الذرية. وعندما إكتشفت السلطات الكندية أمر هذه الشبكة، تم إستدعاؤه على عجل إلى موسكوعام 1947. كان على ساشا الصغير، الذي عاش في ظروف مختلفة تماماً، أن يتكيّف مع الظروف الجديدة للواقع السوفيتي. لم يحبه أولاد الجيران- كما قال سوكولوف نفسه- بسبب الرخاء الذي لم يكن لديهم. كانوا يسخرون منه، ويتلفون ملابسه، أو يشعلون فيها النارأحياناً. ونتيجة لذلك بدأ الصبي لأول مرة في العيش في واقع موازٍ . في عام 1950، دخل المدرسة، لكن نظام التعليم السوفيتي كان مزعجا له، ما أدى في كثير من الأحيان إلى حدوث مشاكل مع المعلمين. ومع ذلك، فقد أكمل تعليمه الثانوي بنجاح باهر، ودخل بسهولة، المعهد العسكري للغات الأجنبية أولاً. لكن حبه للأدب ورغبته الكبيرة في الكتابة قادته بعد عامين إلى قسم الصحافة في جامعة موسكو الحكومية. ومارس مهنة الصحافة دون انقطاع عن دراسته، وخلال ذلك تشكلت رؤيته الخاصة للعالم . كانت الحرية مهمة جدًا بالنسبة إليه. انضم إلى جمعية ضمت عددا من الكتّاب الشباب الموهوبين اطلق عليهم تسمية "أصغر جمعية للعباقرة"، التي عارض أعضاؤها اتحاد الكتّاب السوفيت الخاضع لهيمنة السلطة. وبعد عام ونصف، تم حظر الجمعية.

في عام 1962 حاول سوكولوف مع صديق له الهروب من الاتحاد السوفيتي. وأمضى ثلاثة أشهر في السجن لمحاولته عبور الحدود مع إيران، وأطلق سراحه بفضل والده، الذي كان له صِلات جيدة بكبارالمسؤولين . ثمّ قضى ثلاثة أشهر أخرى في مصح عقلي متظاهراً بمرض عقلي لتجنب تجنيده الإجباري في الجيش. كما يتذكر سوكولوف لاحقًا، كان هذا هو المكان الأكثر حرية في البلاد - هنا كان يمكن للمرضى، أن يظهروا معارضتهم للنظام السوفيتي دون خوف من الملاحقة والإضطهاد..

 ويقول في مقابلة صحفية :"اعتقدت أنه بما أنني أردت أن أكتب ما أريد، فيجب أن أغادر هذا البلد، لأنهم هنا لن يسمحوا لي بنشر كتاباتي . كنت مغتربًا داخليًا لسنوات عديدة، ثم سئمت من هذه اللعبة. إلى متى يمكنك أن تكره البلد الذي تعيش فيه؟ أو بالأحرى، ليس الوطن، ولا الشعب، بل النظام".

كتب سوكولوف رواية "مدرسة الحمقى" في أوائل السبعينيات في ظروف عمل إبداعية غير مألوفة إلى حد ما: في الريف الهادئ في منطقة تفير، على ضفاف نهر الفولغا. هنا، في مزرعة الصيد في قرية بيزبورودوفو، وجد سوكولوف الشاب ملاذا ووظيفة، كحارس بعد هروبه من موسكو . وعاش في هذه القرية لمدة عام ونصف (مايو 1972 - نوفمبر 1973). أنجز خلالها روايته الأولى، التي تقع على تخوم الواقع والخيال.

كان من المتعذر نشر هذه الرواية الطليعية علانية في الإتحاد السوفيتي. لم يكن الأمر يتعلق بالمحتوى، حيث كان الكتاب خاليًا من أي نقد مباشر، سواء كان سياسيًا أو أيديولوجيًا أو اجتماعيًا، ولا يتناول موضوع الحياة اليومية السوفيتية، الذي يكمن في خلفية القصة، بل يتعلق بالشكل الروائي الحداثي، الذي كان يعد خروجاً على مبادئ" الواقعية الإشتراكية" المفروضة على الكتّاب السوفيت.لذا نشرت الرواية في المجلة الأدبية السرية "ميتروبول" - المطبوعة على الآلة الكاتبة بنسخ قليلة - التي كان يصدرها كوكبة من ألمع الكتّاب الروس الممنوعين من النشر. لاقت الرواية إإستحسان القرّاء المتلهفين إلى الأدب الجديد.

ويقول سوكولوف :" بعد ذلك قابلت امرأة نمساوية اسمها يوهانا شتايندل. كانت تدرّس اللغة الألمانية في موسكو. وساعدتني في تهريب مخطوط "مدرسة الحمقى". لم يكن بيننا حب رومانسي كبير . قالت:"هل تريدني أن أخرجك؟" واتفقنا على أن نقدم الوثائق المطلوبة لتسجيل زواجنا لكي أتمكن من السفر معها إلى الخارج .ورفضوا طلبنا، وتم طردها من البلاد .وبدأتُ إضرابا عن الطعام إحتجاجا على ذلك، وخضتُ صراعا طويلا مع الكي جي بي. كانت خطيبتي النمساوية لديها اتصالات على أعلى مستوى في البرلمان النمساوي، وكتب المستشار كرايسكي رسالتين إلى بريجنيف، يناشده فيهما التدخل والأمر بالسماح لي بالرحيل. وفعلا حصلت على إذن بالمغادرة. أثيرت ضجة في أوروبا حولنا ! كان من المثير للغاية أن تذهب إلى أوروبا لتصبح بطلأ لفترة قصيرة. بعد نشر صورنا في الصحف والمجلات النمساوية، كان الناس يتعرفون علينا في الشوارع، ويبادرون بالحديث معنا ويعطونا المال. كنا تجسيدا لفكرة اتفاقية هلسنكي لعام 1975 التي نصت على السماح بالزواج بين مواطني الدول المختلفة، والسماح بالسفر بين دول القارة لأسباب شخصية. لكن زواجنا يدم طويلا، لأنه كان زواجا شكلياً ".

صدرت "مدرسة الحمقى" عن دار النشر الأمريكية "أرديس"عام 1976، .وترجمت سريعاً إلى الإنجليزية والعديد من لغات العالم. بحلول هذا الوقت، كان سوكولوف يعيش بالفعل في الولايات المتحدة. كانت مراجعات النقّاد الغربيين والأدباء الروس في الشتات لـ" مدرسة الحمقى" متحمسة، من بينها، برزت مراجعات نينا بربروفا، وجوزيف برودسكي وفلاديمير نابوكوف الذي وصف الرواية بأنها :" مأساوية وساحرة ومؤثرة للغاية".

في أثناء إقامته في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ألقى ساشا سوكولوف محاضرات في الأدب الروسي في جامعات مختلفة. وبعد صدور روايتيه «بين كلب وذئب» (1980) و«باليساندريا » (1985)، توقف عن النشر، رغم انه واصل الكتابة، والإحتفاظ بما يكتبه في أدراج طاولة مكتبه.. اكتسب بسبب عزلته وإبتعاده عن الدعاية، لقب "سالينجر الروسي". ولكن، على عكس سالينجر، لم يقطع اتصالاته مع العالم، واستمر في كتابة المقالات والمواد النقدية وإجراء المقابلات بين حين وآخر على فترات متباعدة.

في ذروة فترة البريسترويكا( إعادة البناء) عام 1989، زار سوكولوف الاتحاد السوفيتي لأول مرة بعد الهجرة، ونشرت مجلة " أوغنيوك" الروسية الواسعة الإنتشار مقتطفات كبيرة من " مدرسة الحمقى " مع مقدمة ضافية للكاتبة الروسية المعروفة تتيانا تولستايا . زيارة سوكولوف القصيرة الثانية إلى روسيا في مايو 1996 كانت لمناسبة فوزه بجائزة بوشكين الأدبية المرموقة. نشرت "مدرسة الحمقى" كاملة في روسيا لأول مرة في عام 1990، وفي العام ذاته، أصبح سوكولوف رئيسا مشاركا لجمعية كتّاب عموم الاتحاد لدعم البريسترويكا . يعيش سوكولوف حاليا في كندا، فهو مواطن كندي بالولادة، ولكنه لا يستقر طويلا في مكان واحد، فهو دائم السفرإلى هذا البلد أو ذاك .

مدرسة الحمقى

باختصار شديد، هذه رواية عن صبي ذكي وغريب يعاني من انفصام الشخصية . إن منظور الصبي للعالم المحيط هو منظور شخصي وذاتي تمامًا، ولا يستطيع التصالح مع الواقع. وهو غير طبيعي في نظر الآخرين، ولكن وفقا لسوكولوف، هو أحد القلائل الذين لم يفقدوا مشاعرهم وإدراكهم الحي للواقع . في وقت مبكر جدًا، فهم الطفل الموهوب، الذي يتمتع برؤية خاصة، أنه لا يوجد مكان له في هذا العالم القاسي. في البداية يبدو أن الشخصية الرئيسية تتحدث بكل بساطة عن هراء. ولكن الأمرمختلف تماما. فهو لديه "مشاكل مع الزمن"، فهو لا يعرف في أي زمن يعيش: في الماضي أم الحاضر أم المستقبل. إنه يعيش في عالم لا يوجد فيه موت، لأن كل الأموات أحياء.يكمن الأمر فقط في أن "الناس لا يختفون على الفور، بل يتحولون أولاً إلى شيء مختلف عن أنفسهم في الشكل والجوهر.يتناهى إلى الصبي من بعيد موسيقى خافتة للفالس .

من الصعب ألا نرى هنا إشارة إلى رقصة القديس فيتوس، الفتى الشهيد. لكن هذه ليست تشنجات جسدية. هذه هي الرقصة التي يتحرك فيها نص الرواية بأكمله. يفتح البطل الباب ويجد نفسه في مغارة قلعة ميلانو مع ليوناردو دافنشي، ثم يقاتل مع جار ساحر، ثم يتذكر محادثاته مع "وزير القلق".

 ما يبدو في البداية محض هراء يصبح إكتشافاً. وندرك أن ما يحدث ليس جنونًا، بل شيئًا مختلفًا تمامًا. ضاع البطل في الوقت المناسب، ولا يعرف عن الموت شيئاً، ولا يعرف تفاهة الحياة. هو في كل مكان وليس في أي مكان. لكن ها نحن، بحسب المؤلف، نجلس في مدرسة الحمقى، بأنظمتها الغبية، وقواعدها المعيبة التي يريد الجميع ضبط كل شيء فيها على معيار واحد. على الرغم من عدم وجود معايير. هذه رواية عن الحرية التي سعى الكاتب دائمًا من أجلها، والتحرر من المواقف الاجتماعية والمبادئ الزائفة. وأيضا رواية عن قوة الخيال والأحلام.

المعمار الفني

أول ما يلفت انتباه القارئ في هذه الرواية هو الصوت السردي، الذي يتأرجح بين ضمير المتكلم المفرد " أنا" وضمير المخاطب المفرد " أنت" وضمير الجمع "نحن" .. يتم سرد أجزاء كبيرة من النص من قبل الأنا المتغيرة للبطل المجهول، والتي تبين أنها صوت في رأسه.

بطل سوكولوف مصاب بالفصام الذهني وتلميذ في مدرسة خاصة للمعاقين .لا يخرج الحدث أبدًا عن عقل بطل الرواية المضطرب حتى عندما يبدو السرد وكأنه محادثة؛ تتكون الرواية بأكملها من مونولوج داخلي واحد. كل ما يحدث في هذا الكتاب يحدث في اللغة فقط.

لا يتقيد سوكولوف في "مدرسة الحمقى"، بأي متطلبات معيارية في الكتابة السردية : هنا يمكن أن يبدأ الحوار بشخصية واحدة، ويستمر بأخرى، وينتهي بشخصية ثالثة؛ هنا مستويات الزمن مختلطة بشكل معقد. الماضي لا يسبق الحاضر، والحاضر لا يسبق المستقبل؛ هنا يمكن للشخصية أن تتحدث عن موته المؤكد، وتجري حوارًا بعده.

ما يبدو فوضى في عالم «مدرسة الحمقى» يخفي نظامه الخاص: شخصيات وحوارات وأحداث، تمزقها تفاصيل أخرى، تعود من جديد إلى صفحات الرواية، لكن على مستوى مختلف، ما يثري الرواية،  ويثري القارئ بالمعرفة حول هذا العالم ويجعل رؤيته وجهاً لوجه. يبدو هذا الأسلوب للوهلة الأولى وكأنه نوع من الكتابة العفوية، لكنه مع تقدم السرد نحو النهاية يكشف عن تنوعه ويبدو فوضويًا فقط ظاهرياً. إن التركيز على تحرير القوة البلاغية للغة، وإستجلاء الأعماق الشعرية والغنائية المخبأة فيها، وتحريرها من الخطية السردية وديكتاتورية المؤلف، هو بالطبع هدف ما بعد الحداثة. وأفضل صفحات أعمال جاك دريدا و جيل دولوز وميشال فوكو هي أمثلة كاملة للأدب الشعري. سوكولوف أعاد إنشاء ما بعد الحداثة الشخصية الخاصة به على صفحات النص. نعم، هذا هو بالضبط ما تظهره "مدرسة الحمقى"، وإذا كانت مرحلة ما بعد الحداثة المبكرة غنائية، عاطفية، مليئة بالتلميحات، فإنها في الوقت ذاته صادقة وحقيقية.

العيش في ملجأ اللغة

يرى سوكولوف، أن الكاتب المبدع هو الذي يتقن اللغة التي يكتب بها بشكل عميق، ويجعل القارئ ينسى الحبكة. ويقول إن السنوات العديدة التي قضاها في القرية بين الأميين من كبار السن الذين لم يقرؤوا كتابًا واحدًا في حياتهم سوى الكتاب المقدس، أعطته أكثر مما تعلمه خلال خمس سنوات من الدراسة الجامعية : “كبار السن حفظوا العهد الجديد، والصلوات، والإنجيل عن ظهر قلب تقريبا.لم ينتهكوا التقاليد الروحية، وحافظوا على حيوية الفكر، واستعاضوا عن التقاليد الأدبية بالتراث الشفاهي : حكايات شعبية واقعية أو خرافية، وابتكار كلمات جديدة ". نثر سوكولوف نفسه يتألف من حكايات وكلمات جديدة، ولغته مرنة وغنية بشكل مدهش تثري اللغة الروسية. ويقول في مقابلة صحفية :" إن تخصصي في الأدب هو الأسلوب وتطوير اللغة. لأن اللغة تحتوي على كل شيء.اللغة نفسها مشبعة بالمشاعر والأفكار. وأنا لا أقيّم النص من حيث الحبكة، ولكن من حيث الأسلوب".

ويضيف قائلاً :" أقوم بدمج الكلمات. عندما أرى أنها لا تتوافق معًا، أحذفها ببساطة. يجب أن يتردد صدى الكلمات مع بعضها بعضا بطريقة أو بأخرى - ليس فقط في المعنى، ولكن أيضًا في الصوت. .. من الضروري العثور على الصوت الصحيح والتنغيم المناسب ولحن العبارة. ما يهمني هو كيفية عمل اللغة، وهذا النوع من الرقص اللغوي. لو كنت قد ولدت في زمن آخر، في مكان آخر، في عائلة أخرى، لكنت أصبحت ملحناً، لأن اللغة هي أحد أشكال الموسيقى". سوكولوف جعل اللغة الروسية موطنه الوحيد، وجنته الوحيدة، وملجأه، الذي لن يخونه أو ينتزعه من نفسه أبدًا .

لا يوجد أحد بين الكتّاب الروس اليوم من أحب اللغة الروسية حد الثمالة، وكشف عن ثرائها الباذخ وقدراتها الفائقة في التعبيرعن أدق خلجات الروح والمشاعر الإنسانية مثل سوكولوف .عند قراءة روايات أبرز الكتّاب الروس المعاصرين ( تتيانا تولستايا أو ميخائيل شيشكين، أو فلاديمير سوروكين أو فلاديمير شاروف أو فيكتور بيليفين وغيرهم)، ندرك مدى ضخامة تأثير سوكولوف في النثر الروسي الحديث، وشجاعته الأدبية، و وتصميمه على التجريب، والابتكار الإبداعي وإغناء اللغة الروسية..

***

جودت هوشيار

 

تمارس السلطات الشمولية وعلى مرَّ العقود، وعلى الصعيد الاجتماعي فنون المخاتلة والوهم، لكي تجعل التابعين لها ينهلون من رحيق هذا الخدر اللذيذ لعقول ألغت وجودها، وينغمسون في نعيم الوهم الأبدي مغيبين عن الواقع، والعقل والمنطق، والتفكير، وعن مجريات الأحداث.

إن ثقافة الوهم التي تصنعها السلطات المستبدة وتوجدها في أفرادها لا تقوم بالضرورة على الخداع والكذب، بل هي تزرع هذا الوهم  وترسخه بكثافة في تجاويف الوجدان والخيال، والعاطفة . فضلا عن أن الادبيات الشمولية النفعية مفعمة بثقافة الغيبيات والقدريات، واليقينيات الماورائية المطلقة. فهي تحاول أن تقدم تفسيرًا للواقع المعقد بشكل يجعله متسقًا ومنطقيًا، ومقبولا لجميع المنضوين تحت لوائها، كما تحاول إحاطة هذا الواقع بهالة من القداسة العقدية؛ ليكتنف شتى جوانب الحياة الاجتماعية بشمولية صارمة تهيمن على حياة الأفراد.

في الدولة الشمولية لاوجود للفرد ولا يعرف الا بوساطة علاقته بالمجموع، وتصبح الدولة المطلقة والمقدسة مشروع عبادة حقيقية، كما يجري عسكرتها لتحقيق أكبر قدر من الهيمنة على الأفراد والسيطرة عليهم، وهو ما سعى النص الروائي الى قوله بوساطة فرمان سلطان دولة الحجر الأعظم: (فرمان سلطان حجر الانس والجان ... أيها الناس في كلِ مكان أنَّ قوانين دولة الحجر واضحة لا تحتاج الى شرح وتفسير . تقول الفقرة الزعرورية في دستور دولة زعرورستان الحجرية، أن كل من يخالف تعاليم وأوامر ونواهي مليكنا المعظم، حفيد السلالة الحجرية المقدسة . يرجم بالحجر حتى تزهق روحه وحتى يكون عبرة لمن اعتبر// الرواية صفحة158) يكشف النص عن محاولة احتواء العقول ووضعها في عبودية دائمة، لقمع أية رغبة في التمرد واستئصالها من منبعها، وذلك بوساطة إلغاء النية في ذلك مهما كانت الظروف السياسية والاجتماعية السائدة، فهي حالة من حالات تجميد أي حراك قد يحدث على مستوى البناء التحتي للدولة. بل وتجميد مجرد التفكير به، ومن ثم يتم الحفاظ على البناء الفوقي وضمان بقائه كما يخبرنا النص (واخيرا يا رعية السلطان. اياكم والفتنة، فإنها ما دخلت دار قوم حتى فرقتهم وأذهبت ريحهم. انصحكم بالهدوء والابتعاد عن اماكن الشغب. وقانا الله واياكم وساوس الشيطان// الرواية:124) السلطات الشمولية مع رفضها الاعتراف بالفرد، تدفع العقل الانساني الى التخلي عن حريته حين يقتصر المدى الذي يذهب اليه العقل على مجرد تلقي الاوامر المفروضة عليه وتطبيقها، وفي أحسن الاحوال إعادة تأويل تلك الاوامر وفق ما تسمح به السلطة التي تطرح على الفرد حينذاك يقينا مماثلا لليقين الإيماني الذي يعتنقه، وأن الخروج عليه يصبح نوعا من التجديف والزندقة، وتمتلك تلك السلطة القدرة على الفعل والتأثير بما يتجاوز إدراك الفرد حتى للأفكار التي تقوم عليها سياستها. فهو يطيع قبل أن يسأل كما في إجابة" القهرماني" على تساؤل صديقه "الحسام الجرجراني" عن موقف الناس من سياسة ملكهم الحجر الأعظم:

(- ماذا يعتزم الناس أن يعملوا؟

- سمعت أنهم سيقولون: نعم.

- وهل هناك غير نعم؟

- انهم تعودوها.

- متى تعتقد أن سكان وادينا سيقولون: لا؟

- لا اعتقدهم قائلين........ الرواية:54)3947 ناجي التكريتي

يسعى النص الى أخبارنا بأنه هكذا يجري إعداد الفرد في هذا السياق منذ نعومة أظفاره، ليأخذ الأمور كما هي دونما مجادلة أو تساؤل، أو تطلع الى التغيير، فهذا النمط المجتمعي الخاضع دوما يغذي بذور الاستبداد وينمي جذوره وفقا لمصالح الطبقة الحاكمة (تذكر فقط يا صاحبي أن هؤلاء الغزاة الوحوش الذين تشير اليهم قد وجدوا الشمس تتأرجح على حافات الأمواج فأسرعوا إلى طمسها في أعماق النهر، فلو كانت عالية حصينة لما استطاعوا الوصول إليها قط. أعني أن كل سلطان يتربع في قمة البرج، يحبس الشمس فيبقى الظلام هو المسيطر على الدوام.......الرواية:40).

وفي الوقت الذي عمدت السلطة الشمولية في النص الروائي قيدِّ الدرس الى استعمال المعطيات والمتاحات؛ من أجل تطويع الفرد وإخضاعه لمفردات ايديولوجيتها القمعية التي تؤكد اقصائه وهامشيته في المجتمع، في حصر أدواره في اطر ضيقة. اظهرت الرواية أن الثقافة لايديولوجيتها الشمولية قادرة على أن تكون عوامل منتجة ومحفزة لتشكيل خطاب معارض، أو ثقافة مضادة يتبناها الفرد ليواجه بها استراتيجيات المصادرة، والتهميش، والاختزال، كما هو الحال مع أبي زيد القهرماني، وصديقه الجرجراني (فهل الاجدر بنا أن نعيش في ظلام؟ أو نهجر وادي الظلام؟

- الاحرى بنا أن نجعل الشمس تشرق في وادي الظلام.

- ونهضا سوية، وما أن خلفا شاطئ النهر وراءهما، حتى كان أبو زيد القهرماني يناجي نفسه متأملا:

- أنا لا أستطيع العيش في وادي الظلام فأنا اذن موجود.

بينما كان الاخر يفكر بصوت عال:

- انا أريد أن تشرق الشمس في وادي الظلام، فأنا اذن موجود.....الرواية:58) يظهر النص أن  تلك الثقافة انتجت صورة  على وفق مقتضيات ثقافية أخرى تجنح نحو ضرب المنظومة الحاكمة الهاجعة والتمرد عليها (- ماذا يحتاج الأمر في تصورك؟

- الى اشعال الشرارة الأولى.

- أخاف الا يصدقنا احد.

- المهم أولا أن نصدق نحن انفسنا.

- اننا واثقان من الامر.....سيصدق بنا الاخرون اذن، الامر يحتاج الى عمل.

وقال ابو زيد اقهرماني:

- الحقيقة اردت أن اقول ...لماذا نعطي دائما الأهمية للاجماع؟ ولماذا نؤمن برأي الأغلبية ؟ ولماذا يقدس الناس الرأي العام.

التفت إليه الحسام الجرجراني موضحا:

- لا شك أن مجموعة عقول خير من عقل واحد والعقل الكلي أشمل من العقل الفردي وعقل الجماعة أبعد نظرا من عقل الفرد... ولكن مع هذا قد يبدع عقل ما لم يستطع أن يبدعه جيل بأكمله.. وقد يكتشف عقل طريقا سليما على الرغم من عدم ايمان الاخرين به....الرواية :82)، إن الفرد بوساطة حركته وفعله في المبنى السردي برز بوصفه مهيمن ناتئ، ومحورا مركزيا يغذي البنية السردية بما يضخه فيها من تلميحات مضمرة حينا، وتصريحات مباشرة حينا اخرى، فكان الاحتجاج والتمرد، واللجوء الى المعرفي والثقافي من أهم الوسائل المتبعة للتخلص من عمليتي التنميط القسري، والوصاية المطلقة.

وعليه فإن متسع الحرية الذي وجد الروائي ناجي التكريتي نفسه فيه أسفر عن ولادة نص متنوع الأسلوب، والصوغ الفني المتراوح من بنية نص تقليدي إلى اقصى أشكال التجريب، لم يتجاوز فيه المحرمات السياسية حسب بل تعدى فيه كل الثوابت المنطقية، والتقاليد والقيم الشكلية المبالغ في صرامتها، فغدت الرواية جريئة كاشفة عن الاستراتيجيات الثابتة التي تعتمدتها السلطة الشمولية في التعامل مع المكونات المجتمعية الخاضعة لسيطرتها، أو تلك التي تريد اخضاعها، هذه الاستراتيجيات  تتمثل في ترويج فكرة الامتثال والتبعية، وترسيخها في الوعي الجمعي، وتجذيره في البنية اللاشعورية للأفراد.

***

د. مسار غازي

 

اجـتراح قـول: كل المدن؛ وكل الأقطار؛ تزخر بطاقات مبدعة وخلاقة. في عدة مجالات فنية وإبداعية وابتكاريه، لكن اللامبالاة وعَـدم الرعاية الامتدادية، والاهتمام سواء بالتشجيع من لدن الوسط العام أو حتى من رفاق الحي وأصدقاء الفصول الدراسية! أو التعْـريف بتلك الطاقات عبر وسائل الإعلام " الجاد" و" النبيل" وبالتالي فعامل اللامبالاة، والتي أمست ظاهرة مستفحلة في كل الميادين والمجالات، تقتل تلك الطفرة الموهبية في أعماق صاحبها، لتتشكل فيما بعد أمراض وعقد نفسية كالاكتئاب / الانطواء/ القلق/ الجنون/هلوسات/..../وهذا يلاحظ في المجال المسرحي/ السينمائي/ تحديدا، والآن اخترق المجال الغنائي! مقابل هذا هنالك رجالات أعطوا الشيء الكثير، لكن لا أحد أنصفهم ولو بكلمة ماكرة، مخادعة . لما قدموه في مجالهم، حتى الذين صعَـدوا على أكتافهم تنكروا لهم في كتاباتهم أو تصريحاتهم، وحتى الذين يحاولون أرشفة المسرح في المغـرب، لا يعْـرفونهم، لأسباب تكمن في عَـدم المجايلة، وفي عملية الإقصاء من لدن من يستحضرون الذاكرة في بعض اللقاءات، و في عدم التنقيب الجاد والبحث المنهجي / الموضوعي، من طرف من يسعى للتوثيق، رغم شبه غياب الوثيقة وغيرها. ومن بين الوجوه والأسماء التي ناضلت وكافحت عِـشقا للمسرح بدون خلفيات انتهازية أو وُصولية:الفنان المسرحي[أحمد أكريطيط] وبالتالي أي قول يمكن أن نطلقه على هذا الفنان الذي كابد واجتهد وتقاتل من أجل إعلاء صوت المسرح بمدينة الخميسات وخارجها، طبعا رفقة جملة من الأصدقاء ورفاق دربه في جمعية النهضة، إلا ما قاله: أبو حيان التوحيدي في مجلده: "الصداقة والصديق" [.... فقد أمسيت غـريب الحال، غـريب اللفظ، غـريب النحلة، غـريب الخلق، مستأنساً بالوحْـشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، ملازماً للحيرة، محتملاً للأذى، يائساً من جميع من ترى] لأنه أبى أن يعـود للركح وشغبه، فاكتشف أن تموقفاته وتصوراته الأثيرية والكفاحية: غير منسجمة مع التهافت المادي، وإنتاج التافه من قمامة التفاهة!

بَـين الإسْـم والـوجه:

فالمسرحي "أحمد أكريطيط " المزداد سنة 1953، كان اسما لامعا في الخميسات، ويعَـد وجها مسرحيا، وطاقة خارقة في التشخيص، وذلك بشهادة أصدقائه ومن شاهده فوق الركح، إذ كان له حضوره وقوته في فرقة "الطليعة المسرحية" التابعة لجمعية "النهضة الثقافية" بمدينة [الخميسات] رفقة العَـديد من الوجوه والأسماء الفاعلة والمناضلة في فضاء أول جمعية ثقافية/ مسرحية تأسست بالمدينة سنة 1970 فلا نغـيب هذا التاريخ الذي كان متسما بالاحتقان والتوتر، ورغم ذلك ترأسها - الأستاذ - قيد حياته [محمد بالقاضي] رحمه الله. رفقة... عبد الحق التمسماني / لحسن حمامة / بوعبيد الزعزاع / لحسن أزدو/ طباش فرحاتي/ أمينة البوش/ بوحسيس عبد القادر/ شوقي الحمداني/ عبد الحق الحريري / أحمد الحريري /الهائج أحم/ حمادي ماني / أحمد المصلوحي /عبدالكريم برشيد/ نعيمة عكوط / فاطمة الكداري / سعيدة أبسباسي/ عبدالله اعروشن/ العربي بوعبيد/ محمد الجوهري/ محمد الزيدوني /.../ أسماء وفعاليات كثيرة من الصعب ذكرها، بحيث الأخ" أكريطيط" عَـرف المسرح كجنس أدبي مبكرا، وهولا زال في الطور التعليم "الابتدائي" وذلك عبر الكتب التي منحه إياها "أخوه الأكبر": وخاصة مجموعة مسرحيات للكاتب الفرنسي [راسين وكورني] وازداد تشبعه به أثناء ولوجه صفوف التعليم الثانوي، بناء على حضور المسرح وبقوة في [ثانوية موسى بن نصير] وذلك من خلال مسرحية (أهل الكهف) لتوفيق الحكيم التي كانت مقررة في دراسة المؤلفات، ووجود بعْـض الأساتذة الذين يعشقون الفن المسرحي؛ والذين ساهموا في تأسيس جمعية النهضة ك:لحسن حمامة/ عبد الله بناني /ع الحق التمسماني/برشيد / عبد الحفيظ الحجامي/..../ ولكن قبل أن ينخرط في الجمعية كان في إحدى النوادي، التي كان روادها يقومون ببعض السكيتشات والقفشات بقاعة دار الشباب (محمد الزر قطوني) أو في " الكنيسة" وانخراطه في مجموعة (الموشحات العربية) التي كانت تنشط في المناسبات، ولكن بعْـد تأسيس جمعية النهضة الثقافية التي شكلت فضاء لتجمع المثقفين بالمدينة، كان من بين الأوائل الذين انخرطوا فيها، فـشارك رفقة .../عبد العزيز النافري / سليمان العامري / أحمد الشناوي/ حسن أونير/ أحمد الغازي / محمد حربوش / لحسن أوزدوا / أحمد عروشن / محمد بجطيط / بوعبيد العَـربي/.../ في أول عمل لها "مسافر الليل" لصلاح عبد الصبور وإخراج عبد الكريم برشيد. والتي تم عرضها على خشبة دار الشباب محمد الزرقطوني، فتلتها أعمال أخرى: كمسرحية (ثوب الإمبراطور) لعبد الغفار مكاوي و إخراج عبد الكريم برشيد ثم (حكاية جوقة التماثيل) سعد الله ونوس .و(رباعيات المجذوب) تركيب (مونطاج) هاته الأعمال كان " المبدع أحمد أكريطيط" له فيها حضور قـَوي، من خلال تعبيرات وجهه ورهافة جسده المطاوع للتشخيص؛ لكن حينما تم طرح أحد الأعمال لطاولة النقاش؛ كان هنالك نقاش وتحفظات واعتراضات؛ مما فضل (هـو) الانسحاب من جمعية النهضة.

بين جمعية النهضة والجَـرس

انسحابه تم في 1972 رفقة عبد العزيز النافري / سليمان العمري / محمد المصلوحي/ حميد المرداسي /عبد الكريم العمري/.../ ليؤسس جمعية "الجرس للمسرح والموسيقى " على غرار [جرس الكنيسة] التي اتخذوها مقرا لهم. والتي كانت بمثابة دار للشباب . وسيكون حميد المرداسي رئيسا للجمعية و أحمد أكريطيط كاتبا عاما . فشرعوا في إنجاز وإنتاج مسرحية "الذياب فالجلاب" من تأليف" أكريطيط" وإخراج (عبد العزيز النافري) لكن في 1973 سعـت بعْـض الأطراف الضغـط على الفنان" أكريطيط" بطرق حبية . للعَـودة إلى جمعية النهضة، وتجاوز الخلافات، مما رضخ للأمر(؟) فتجمدت جمعية " الجَـرس للمسرح والموسيقى " ليعـود للجمعية ؟ ربما كان يؤمن بمقولة "تشي جيفارا" إن الطريق مظلم وحالك، فإذا لم تحترق أنت وأنا فمن سينير الطريق؟ ولكن من حقنا هنا أن نتساءل: أليس قانون الحريات العامة يبيح تأسيس الجمعيات/ النقابات/؟ أليس في الإبداع اختلاف واختلافات؟ إذن فلماذا يتم وقتئذ: حرمان فضاء الخميسات من التنوع والتنافس الفني والإبداعي، ولاسيما أن المنطقة – إثـنية - تفرض الإختلاف والتنوع! هل لإبقاء هيمنة بعض الأطراف على المشهد المسرحي بالمنطقة ؟ أم لاستغلال قـُدرات ومهارة المسرحي "أكريطيط " والركوب على طيبوبته وطاقته الإبداعية ؟ باعتباره أثيري ومكافح، وهاته الشهادة لو لم تكن لما تنازل عن [جمعية الجرس] لتبقى أنشطتها متجمدة؛ إلى حين ظهور شباب جدد شرايينها وحضورها الفني في المشهد المسرحي. من بينهم /محمد الصغير/ اسويرتي محمد / سلام العـَربي/ نور الدين الطرياوي/.../

فإبان عودة المسرحي "أحمد أكريطيط "شارك في مسرحية " الحومات "لبرشيد إخراج عبد الحق التمسماني والتي شاركت في المهرجان الوطني لمسرح الهواة بطنجة. لكن المفاجأة سيتم اختياره من طرف (فرقة المعمورة) التابعة لوزارة الشبيبة والرياضة!! لينتقل من مسرح {الهواة للاحتراف} مشاركا في عمل " العنترة في المرايا المكسرة "كتابة لعبد الكريم برشيد وإخراج عبد اللطيف الدشراوي. لتقوم بجولة والمشاركة في المهرجان المغرب العـربي ب[موناستير- تونس] وبهذا يعتبر المسرحي [أحمد أكريطيط] أول مسرحي من "مدينة الخميسات" يشارك في مسرحية وطنية وذلك سنة 1975 . ولكن الفرقة لم تستمر فعاد لجمعية النهضة ليتم تقديم مسرحية (قابل وهابيل) من تأليف وإخراج [أكريطيط] والتي شاركت في المهرجان الوطني لمسرح الهواة الذي أقيم بمكناس سنة 1976، ولهذا العَـرض حكاية تحتاج لتحليل من زاوية علاقة السلطة بالمسرح(أي) كان سيمنع العمل من العرض والمشاركة في المهرجان الوطني ؟ بحيث أعطى "عامل المدينة " ذاك الوقت! أوامره لمنع دخول الجمهور لرؤية المسرحية والاستمتاع بها...مما أدى المنع إلى احتجاجات وفوضى عارمة واصطدام بين الجمهور وأعوان السلطة! أمام...(سينما مرحبا) . ورغم ذلك تم العرض بحضور لجنة التحكيم ورجال وأعوان السلطة، فقط... وبعد هاته المشاركة في جمعية النهضة الثقافية . انتقل لجمعية الجرس للمسرح والموسيقى بعد تجديدها ليتم إعادة تقديم مسرحية (الّذياب بالجلاب) للمبدع "أكريطيط وإخراجه " أواخر سنة 1976. وبعد توقف عاد بمسرحية (عبيدات الرمي) من إخراج محمد الصغير سنة 1987 ففي هاته السنة سيهاجر لمدينة بروكسيل/بلجيكا، فأسس رفقة رفيقه في جمعية النهضة "علال بورقية "فرقة البروليتاري الفنية" لينجز مسرحية (هموم السلوم) لكن بعد عودته لأرض الوطن، توقف نشاطه وشغبه الإبداعي فوق الركح سنة 1990 لأسباب خاصة به، ليعتكف على كتابة وتأليف أعمال مسرحية، لكن لم تـر النور بعْـد؟ من بينها(المهرج الغريب/السيرور/ القفاز والحذاء /.,,,/)

قـِـــــف:

الإشكال الإبستيمولوجي (أي) نقف أمام علامة (قف) المنصوبة في لوحة قصدير، خوفا من" ذعـيرة "مفاجئة!! ولا نقف وقفة إجلال، واحترام .... وقفة ليس فيها ولو نسمة استعباد، أو إذلال . بل وقفة فيها شهامة ومروءة وإنصاف أمام وجوه وبعـض الأسماء التي أمست مغمورة، ومنوجدة بيننا! وهي التي عبدت الطرقات الفنية لنا من لا شيء، لتحقيق كل شيء(نسبيا) رغم أننا ضيعنا أجزاء من ذاك الشيء!! نتيجة إهمالنا لها، وممارسة اللامبالاة في حقها، فبإعادة قراءة ما خطته ذاكرتنا، وما أرسله لنا المسرحي" أحمد أكريطيط" بنوع من الاقتضاب، نظرا لعامل النسيان/ التقادم:نستشف أشكالا من المعاناة والمكابدة، التي كانت تعانق وترافق هَـذا المسرحي المبدع. الذي هو نموذج ووجه من وجوه مسرحية أعطت وأغنت الساحة الفنية والمسرحية بالعطاء الكثير، لكن لم تنل حظها حتى بكلمات مخادعة: تخفي الرياء والنفاق حتى! ولا وجود لها من قبل ولا بعد على صفحات الإعلام، لماذا ؟ لأننا لم نعد نحترم أو نخـاف من قف الأخلاقية ....!!!

***

نجـيب طلال

بقلم: إيلينا سافاج

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

الروائيات الكارهات للبشر وشخصياتهن تجعلني متفائلة بمستقبل نتجاهل فيه الكمال الأنثوي. مشاكسة، ومنحرفة جنسيًا، وذكية جدًا بالنسبة لوضعها التاريخي، وربما فاسدًة: هذا ما أبحث عنه في الراوية أو البطلة. لقد اكتفيت من الأمل، والإنجاز، وتميز النساء. لقد سئمت من التركيز على الإيجابيات. الأمر الأكثر إثارة للاهتمام بالنسبة لي هو الشخصيات التي تعكس مدى فظاعتنا وتعرضنا للخطر والإرهاق التام. وفقًا لجدول قراءة الكتب الذي أحتفظ به، أقضي حتى الآن عامًا جيدًا جدًا بالنسبة للروائيات الكارهات للبشر.

في بداية رواية فيجديس هيورث "منزل في النرويج" (2014)، نلتقي بألما، فنانة نسيج في منتصف العمر تعيش في منزل اشترته بثمن بخس بعد طلاق ودي. تقوم ألما بتشييد شقة الجدة وتأجيرها لأشخاص عابرين مثل "The Pole" (لا يمكن أن تنزعج ألما من معرفة الاسم الأول للمرأة - بولندي جدًا، صعب جدًا)، وابنة بولى الصغيرة. يوفر الإيجار خطًا صغيرًا من الدخل لتكملة رسوم الفنان غير المنتظمة. "لم تكن تريد أن يكون لها أي علاقة بمستأجريها،" يكتب هيورث، "لم تكن تريد رؤيتهم؛ لقد أرادت فقط أن يذهب المال إلى حسابها المصرفي كل شهر ثم تنسى وجوده هناك.

سجادات ألما الضخمة معلقة في المباني العامة، ضخمة بقدر ما هي غير مرئية. وتعتقد أن إحداها ربما تمارس سحرها غير المرئي، بالطريقة التي تؤدي بها الهندسة المعمارية عملها: "الطريقة التي ثبت أن محيطنا يؤثر علينا، على الرغم من أننا لا ندرك ذلك".

بطلة رواية هجورث هي امرأة مختلة وظيفيا، ولكنها ليست مأساوية. تعمل طوال الليل على مفروشاتها، وتشرب زجاجات النبيذ في الساعات الأولى من الصباح حتى تنام. عندما يصل أطفالها البالغون لقضاء العطلات مع أطفالهم، تفهم ألما واجباتها تجاههم، لكنها تدرك أيضًا، تمامًا، أنها تريد رحيلهم.

ألما مالك عقار مهمل وأناني ومنافق. لكن "منزل في النرويج" ليس مسرحية أخلاقية. نعم، ألما تناضل ضد القمع الجماعي للنساء؛ إنها تفكر بعمق وبشكل بنيوي في مجتمعها. لكنها أيضًا غير راغبة في تطبيق أفكارها النقدية على نفسها.

لسبب ما، هذا أمر حيوي للغاية. فها هي المرأة التي ليست عيوبها العميقة ناجمة عن صدمة، أو عن أمها أو أطفالها؛ إنها لا تستجيب للفقر أو خيانة الذكور أو تدميرهم أو الإمكانات الفنية غير المحققة. يتم تنظيمه بواسطة العنف الاجتماعي وعامله. إن متعة عدم تكيف ألما لا تكمن في كونها بطولية، أو شجاعة، أو حتى متمردة بشكل خاص. (يكتب هجورث أن "ألما لم يسبق لها مثيل، لقد أدركت الآن ... التقت ببعض النساء الغاضبات والمتمردات. نعم محبطات ومعاقات عقليًا، لكن ليس متمردة.") يدور رضا هذه الشخصية حول حقيقة أن عيوبها هي ارتباك شائع. للعديد من الذين يعيشون في مجتمعات غير عادلة ووحشية.

شخصيات مثل ألما شغلت قراءاتي هذا العام، والتي امتدت لأعمال سيغريد نونيز، ودوريس ليسينج، ولين تيلمان، ودانزي سينا، وجامايكا كينكيد (الذين أصبحت الآن مكملاً لهم). لقد أذهلني بطريقة ما شخصيات نسائية نسوية غير محتملة: في بعض الأحيان معتلة اجتماعيًا إلى حد ما، أو متواطئة بوقاحة، أو تقاوم روايات الناجين. ليس قدوة. ليس حذاء جيد. عدم "امتلاك كل شيء" (إنهم نوعًا ما يرفضون كل شيء).

لكن الشخصيات نشطة. تجسد النساء آمال وإخفاقات النضالات السياسية للأجيال السابقة، ويفعلن ذلك بطريقة تجعلني متفائلة بالمستقبل، حيث قد تتحرر النساء أخيرًا من الأمل في الكمال. بدور فيلانيل من سلسلة الروايات والمسلسل التلفزيوني التي تحمل نفس الاسم Killing Eve (2018-)؛ مثل Fleabag لـ Phoebe Waller-Bridge؛ مثل أورسولا، ملكة البحر التي نصبت نفسها بنفسها، من فيلم ديزني الحورية الصغيرة (1989).

الشيء الذي كنت أشعر بعدم الارتياح لسنوات عديدة هو مدى عدم ارتياحي للموجة الرابعة من نسوية الإنترنت. لماذا يجب أن أشعر بهذه الطريقة؟ أنا أيضًا غاضبة من طبيعة الرجال والأذى الذي يسببه الرجال في كثير من الأحيان. لكن في كل مرة تخرج رواية وفي عنوانها كلمة «فتاة» أو «امرأة»؛ في كل مرة يظهر مقال جديد على الإنترنت يعلن أن المرأة هي هذا أو ذاك، وأننا قد تدربن على أن نكون صغيرات ومهذبات، وأن حياتنا تتمحور حول التضحية بالنفس، وأننا متبعات رائعات للقواعد، وهذا على حسابنا - شيء ما بداخلي يذبل. أفكر، بدلاً من ذلك، في النساء اللاتي لا يقبلن تلك الأفكار، اللاتي يتفاقمن بسبب غضبهن وخيبة أملهن، واللائى - حتماً - يتركن ذلك يشوههن.

لماذا أعترض على ادعاء النساء بالنسوية حتى أحرر عقولهن وقلوبهن؟ لماذا لا أستطيع أن أرحب ببساطة بانتشار المنظمات النسائية والمهرجانات والمجموعات والمجلات والحفلات؟

أعتقد أن هذا أمر يجب القيام به مع الكيفية التي تعمل بها سياسات الهوية المعاصرة على تسطيح وتجانس ــ وتشجيع التمثيل الذاتي غير الصادق والمضخم والاستغلالي. عندما تقرر النساء توحيد قواهن ضد هيمنة الذكور، فإننا نتشجع على الاعتقاد بأن اضطهادنا يؤثر علينا بطرق يمكن التنبؤ بها وتكرارها. لنفترض أنه بسبب بعض التكوينات الاجتماعية التاريخية، فإن النساء أكثر تضحية بأنفسهن من الرجال. أو، قد يكون من المقدر لنا أن نختار عائلاتنا على أعمالنا الفنية، مما يؤدي إلى الحزن الحتمي على الإمكانات غير الحية. أو، نظرًا لأدوارنا المفروضة تاريخيًا كعاملات منزليات نحافظ على وحدات اجتماعية جماعية، فإننا مهيئان للاشتراكية الذاتية، وبالتالي أفضل في تقاسم السلطة والموارد.

والمشكلة هي أن هذا السرد، كإطار سياسي، يتجاهل حقيقة قدرة المرأة على العنف، والجشع، وخداع الذات، وانعدام المسؤولية. قدرة المرأة على أن تكون فاعلة في حياتها الخاصة، حتى عندما تكون أفعالها مدمرة. ماذا يحدث عندما يفترض أن تكون المرأة متحضرة وتتصرف المرأة بطريقة غير أخلاقية؟ كيف نحاسبها؟

هذه الشخصيات التي أجدها مثيرة هي النساء غير الاجتماعيات أو الخيريات على الإطلاق أو الجيدات في فعل أي شيء، بخلاف الشرب مباشرة من الزجاجة وتدمير حياة الآخرين (وحياتهن). الجدلية، العدائية، الفقيرة والغاضبة. بنات متناقضات، أمهات متناقضات، شيوعيات متناقضات، لامبالاة متناقضة. النساء اللاتي يرفضن دفن الأحقاد أو يرفضن تمامًا حقيقة اضطهادهن. وبعبارة أخرى، فإن اضطهادهن لا ينتج بالضرورة صفات اللطف أو المرونة أو الإنجازات العالية غير العادية. إنه ينتج الاستياء والخلل العاطفي والتناقض وإمكانية العنف الخفي. وكثيراً ما تتعرض النساء للتشويه ــ وليس بطرق ساحرة ــ بسبب ما فعله المجتمع بهن، ثم يصبحن متواطئات في تشويه الآخرين.

خذ آنا وولف من رواية دوريس ليسينج "المفكرة الذهبية" (1962). تمثل آنا المركز السردي لهذه الرواية الملحمية المفككة . إنها مواطنة مثقفة ونشيطة وملتزمة. لكن كونها تدرك مكانتها في التاريخ وفي السياسة، فإنها تنهار تحت وطأة شخصيتها. إنها ليست شيوعية فحسب، بل امرأة؛ ليست كاتبة فحسب، بل كاتبة أيضًا؛ ليست فقط حبيبة، بل أم.إنها تناضل ضد التنازلات التي يجب أن تقوم بها كامرأة تكتب، وامرأة تحب الرجال وتحاول أيضًا تربيتهم. آنا هي فنانة متطرفة وعاشقة لأمها، وهي امرأة لم يكن لمشاعرها مكان في تكوينها السياسي، وهي تتهم نفسها بالإرهاق والتشوه. لقد انفصلت عن الحزب الشيوعي لبريطانيا العظمى في وقت قريب من انعقاد المؤتمر العشرين للاتحاد السوفيتي عام 1956:

لماذا لا نستطيع أن نقول شيئا مثل هذا؟ نحن بشر، بسبب مصادفة وضعنا في التاريخ، كنا جزءًا منه بقوة كبيرة، ولكن فقط في مخيلتنا، وهذه هي النقطة، مع الحلم الكبير، التي يتعين علينا الآن أن نعترف فيها بأنه قد تلاشى الحلم الكبير والحقيقة مختلفة: ذلك أننا لن نستفيد أبدًا.

لا أريد أن تعاني جميع النساء في العالم من خلل وظيفي بنفس الطريقة التي تعاني بها ألما من الخلل الوظيفي، أو بالغرابة أو السوء مثلها. لا أريد أن أنهك نفسي كما فعلت آنا في كفاحها ضد ثقل التاريخ. أنا حقًا أحب الروايات التي تتحدث عن هؤلاء النساء، لأنها تجعلني أشعر بتحسن طفيف بشأن كوني غاضبًة ومتشائمًة. النساء نساء، ليس لأنهن بالضرورة يشتركن في أي صفات معينة، ولكن لأنهن يشتركن في تاريخ جماعي. تذكرني هذه الشخصيات بأنه ليس من الضروري أن أفقد الوزن أو أن أكون نموذجًا للقيم التقدمية المثالية أو أن أسحر كل نادل أقابله لكي أكون شخصًا منخرطًا بنشاط في مشروع حياتي، أو لأكون شخصية تشكل نفسها والعالم من حولها.

(انتهى)

***

..............................

المؤلفة: إيلينا سافاج/ Ellena Savage  مؤلفة وأكاديمية أسترالية. ألفت كتاب (مدينة صفراء) والعديد من المقالات والقصص القصيرة والقصائد المنشورة في المجلات الأدبية العالمية. تلقت إيلينا العديد من المنح والمنح الدراسية، بما في ذلك مؤخرًا منحة Marten Bequest للسفر 2019-2021. تعيش في أثينا، اليونان، مع زوجها دومينيك أميرينا.

تأتي رواية "عمتي الرومانتيكية"* لنجم والي على شكل خطوة موازية لـ"سعاد والعسكر" و"إثم سارة"، والتوازي يعني حكما التجاور. فهي تدور حول موضوع المرأة في المجتمع العربي، ولا تنتقل به من طور لآخر. وإذا بدأت سارة من التمرد وانتهت بالاستسلام، فإن سعاد تبدأ من الثورة - وتتحول لأيقونة تحررية على مستويين - اجتماعي وسياسي، وتأخذ دور وردة حمراء في مزهرية نظام يوليو بقيادته العسكرية والمخابراتية، ولكن أيضا تكتب لنفسها مصيرا مأساويا ومؤلما وهو الانتحار. ولا يوجد أي فرق بين قتل النفس بطريقة وجودية وقتلها بطريق بيولوجي.

وتكرر هذا السياق العمة - أو عمة صبري - وللأسف لا نعرف اسمها ولا اسم ابن أخيها، فصبري مجرد لقب مستعار تنتقيه العمة من ذاكرتها الرومنتيكية لملاكها الصغير أو بئر أسرارها كما تقول لاحقا. ولا أفهم ما هو الجانب الرومنسي في الصبر. فهو يدل على المشقة والمكابدة أو التألم، وغالبا ما يرتبط بواحد من اتجاهين: الواقعي النضالي أو الرسولي والنبوئي، بمعنى أنه يجمع الضدين، المقاربة المادية والدينية للنساء في سياق واحد. ولا تخرج العمة عن تقليد والي في تصور نسائه ويقدمها منذ البداية بسياق شخصية متمردة تنظر للتقاليد من أعلى، حتى أنها تبدو جزءا منطقيا ومكملا لمجتمع التحديث في الشرق الأوسط، وهو مجتمع الثكنة وقانون الطوارئ. فأبطال الكاكي - البذة العسكرية لا يغيبون عن ناظر أحد ويجوبون الشوارع منذ أول صفحة. ويؤكد الراوي هذه الحقيقة حين يقول إنهم لم يعرفوا في حياتهم غير الحروب، وكان القصف يبدأ منذ بواكير اليوم ولا أحد يعرف متى ينتهي ص11. ولكن ثورة العمة لا تستمر مثل تحرير سارة لنفسها (تهرب من الدمام إلى لندن)، ولا مثل انقلابية سعاد حسني (تهرب أيضا من القاهرة إلى لندن)، وإنما تنتهي بغضون أسابيع هي طول فترة علاقتها مع فارس أحلامها الأول إبراهيم، الشاب المحبوب الذي تضحي بعذريتها في سبيله. وهكذا تفقد كنزها الغالي وأمام عينيه، وفي مستودع أو غرفة مهجورة خالية من الأثاث، وتذكرنا بمطاعم وغرف بيوتات همنغواي المظلمة والباردة والفقيرة. وهذا يعني أنها دليل على مجتمع حرب واقتصاد طوارئ ص43.

ولا بد هنا من ملاحظتين.

الأولى هو أن الاغتصاب جرى بدم بارد وعن عمد. ولم يرفع إبراهيم يده للدفاع عن شرف حبيبته - والمفروض أنه رجلها ص 43. وزيادة في القهر يظهر بعد ثلاث سنوات برتبة "ملازم ثاني" يركب سيارة ص 39. وهي ولا أدنى شك سيارة السياسة البطريركية وأيضا سيارة مجتمع الهزيمة. وكأنه يركب محبوبته بصفته الرجل البديل، أو صورة للرجل الحقيقي الذي أكل كل شيء.

الثانية أن الضحية لم تدافع عن نفسها، وقررت أن تنتقل إلى الخطة باء وأن تخرج من الباب الخلفي بهوية مزورة. فهي في إحدى المراحل تفكر بخياطة شرفها المفقود ص44. ولا ضرورة للتعليق على هذه العبارة، مع أنها قصيرة مثل تاريخ العمة مع التمرد.  ناهيك أنها تفيد عكس الأطروحة، ولا سيما أن العمة مسحت نقاط شرفها الضائع بصمت وحنكة، وغادرت هذه النقطة العمياء من سيرة حياتها برأس مرفوع.  وأقرأ ما سبق على أنه دليل دامغ على لا أخلاق مجتمع الهزيمة وفساده، وتأجيل لعقلية المقاومة، وإبرام صلح نفعي وبراغماتي بين الواقع والوعي. وهو إجراء اعتدنا عليه في الثلاثية. فالرواية رقم 2 تسرد وقائع استدراج وتخدير سعاد قبل أن يغتصبها رجل المخابرات، ثم يحولها إلى ورقة ليلعب بها. ولا يمكن أن تتوقع أكثر من ذلك من نساء الطبقة المتوسطة في مجتمع يتخبط بين عدة احتمالات، ماضي الفتوحات العسكرية باعتبار أنه نقطة معيار للأنا الأعلى. وحاضر الفتوحات العسكرية باعتبار أنها تحاكي نهضة الأمة في القرن السابع، مع فارق أساسي، أنه كان لهذه الأمة نبي سياسي وديني، بينما توزع الحاضر على عدة أنبياء لا- دينيين، وبقيت الهوية الروحية تحت الأرض معلقة ودون تجسيد، أو أنها أصبحت رهن مقولات أسطورية مثل الغيبة الكبرى والغيبة الصغرى وزمن الضعف والانتظار (يقول عنه سليمان فياض: زمن الصمت والضباب، وهو نموذج آخر على إيديولوجيا الردة عند القوميين).  وربما لم يتفق كتاب الحداثة على شيء - ضمنا الحداثة بعد الطبيعية مثل اتفاقهم على تعتيم ألوان الطبيعة والحياة واللجوء لمكياجات وديكور قوطي أو قروسطي، ومن أشهر أمثلته أجواء كافكا الكابوسية.  ويبدو هذا الخلل بنيويا وهو جزء عضوي من السردية الحديثة. فكل النساء مهزومات سلفا، حتى فيما يسمى أعمال المقاومة لا تهرب المرأة من مضمونها الأوديبي وتتحول إلى اثنين في واحد أو ما يعادل نصف امرأة ذات دورة بيولوجية كاملة - معدلة إلى حد ما عن جهاد النكاح. وهي لا تصل ولا حتى لمعنى المرأة المقاتلة في القرون الوسطى والتي رسمها الخيال الشعبي في سيرة الأميرة ذات الهمة (انظر دراسة وين جين أويان لهذه الظاهرة). وبالتأكيد وراء ذلك حساسية تاريخية تتحكم بالسرد العربي الحديث مقابل تصور خيالي مريض ومبالغ به يسجله السرد الشعبي.

وإذا لم تكن العمة بطلة خارقة مثل ذات الهمة فقد احتفظت بجانبين من جوانب الأدب الشعبي.

الأول هو الصدفة. وتلعب دورها بإحكام وتحرك دفة القارب، وبهذا السياق يصفها الراوي في مستهل الفصل الثاني: بأنها الاسم الآخر للمشيئة ص 47. وهي مفردة محببة لكاتب من نوع نجيب محفوظ الذي ينظر لكل شيء بمنظار استسلامي وبكثير من اللامبالاة، مع الحرص على كتمان طموحاته الضخمة وتحويلها إلى مشقة وكدح متواصل.

الثاني  المفاجآت. وتبدو كأنها ترجمة لخطط غير مبيتة وتنفيذ ارادة إلهية مؤجلة مثل زيارة العمة لبيت إبراهيم واغتصاب الخال لها (ويسأل الإنسان نفسه: أين كان البقية أثناء هذا المشهد الملحمي الذي لا يختلف عن طقوس المقابر). ودائما تنتهي المفاجآت بتبديل الأقنعة، وهي فكرة محورية تساعد الشخصيات على التنكر للواقع (فسمعان مثلا تناديه العمة إسماعيل). وأرى أنها حيلة لا تختلف عن خياطة شرفها. ويمكن إضافة الحالتين لرصيد التخلف السياسي. وهذه إحدى حسنات الرواية، أنها تدخل إلى غرفة السياسة من باب المجتمع بعكس "سعاد والعسكر" التي كانت تروج لنفس هذه المعايير ولكن بلغة سياسية مكشوفة. ومع ذلك تحتل العمة مكانة درامية أعلى في سلم شخصيات والي. فهي تستسلم لحقل الألغام الذي ترعاه التقاليد والسلطة الحاكمة، وتغامر بالزحف فوق حقول الموت هذه. وتتدخل الصدفة لجانبها عدة مرات، وتورد بأصدقائها الذكور موارد التهلكة. ولا يبقى معها غير صبري، الولد الصغير. وأعتقد أنه ليس شاهدا فقط على حياة العمة، ولكنه بديل آخر لها، مثل الحرب التي يشرحها والي بين قوسين بسؤال متكرر (أي حرب؟). وهذا قاسم مشترك يجمع بين الثلاثة.. الولد والعمة والحرب. فالثلاثة أرض ليس لها اسم على الخريطة ولكن لهم وجود في الواقع. وطبيعة العلاقات في هذه الرواية رغم بساطتها تعتمد على التقابلات، بين شيء محدد وآخر لامتناه. مثل الرابط الذي جمع بين إسماعيل - أو سمعان وصديقته القديمة هناء. وهو الدخول في دورة عذاب وألم مشترك.  ولا شك أنها تجربة مازوخية - ذات منشأ أرواحي كما ورد بالحرف الواحد ص62. ومثلما تكون السعادة مزيفة إذا لم تكتمل بمجتمع آمن ودائم، يكون الشقاء تجربة روحية تشد الإنسان إلى قدره المحدد سلفا. والتعبير أيضا لوالي - وورد على لسان ابن الأخ راوي الأحداث ص62. ولكن المشكلة هي في طريقة إدراك هذا الوعي. هل هو معرفي كما في حالة الفنان إسماعيل، أم أنه تجريبي ووجودي كما هو شأن حالة المرأة الرقيقة هناء.  ولذلك يجدر بنا ملاحظة أن الولد الصغير لم يكن راويا عليما، ولا شاهدا منفردا على الأحداث، ولكنه جهاز لاقط للصوت مثل أي أداة تنصت. بتعبير آخر هو شخص واحد بعدة أصوات، وكان كل صوت يروي لنا مرحلة من مراحل تطور المجتمع العربي. وقد سبقه إلى ذلك بهاء طاهر في "نقطة نور"، ولكن ظاهريا توحد الأحداث ذاكرة الصبي عند والي والبناية القديمة عند طاهر، مع قاسم مشترك يجمع الاثنين، وهو  حالات الاغتصاب وارتكاب الخطايا بشكل متكرر، حتى أنك تعتقد أن كل البنات في البناية بلا شرف، وكل رجال والي بلا ضمير. وهو اتهام غير مباشر لمجتمع الهزيمة. فالشعب يختار أهون الشرين وهو التضحية بكرامته وسترها بقناع جليدي من الشعارات والمبررات المكيافيلية. والسلطة لا تجد طريقة مناسبة للامتناع عن تدمير نفسها ذاتيا وكأن المصائب هي التي تكفل للجميع الحياة. وهذا هو مدخل والي للفصل الثالث. ويناقش فيه موضوع الحرية والاختيار. ويتوقف طويلا عند الفرق بين معنى السعادة واللذة، ويكشف من خلال التأملات المسهبة وعيا شقيا بمعنى الطفولة. فهو لا يكتفي بتعريض ابن العشر أعوام وربما أقل لكل احتمالات الجانب المحرم في علاقة المرأة بالرجل، ولا ينتبه لموقف عمته الأخلاقي، ويركز على الطبيعة القسرية للرغبات والمتعة. ولا أقصد الاستجابة للغرائز والضعف أمامها - وهي فكرة موجودة وترمز لتخاذل السلطة أمام استغلال فرصة وجودها في الحكم، ولكن إلى المنحى الوجودي لمسألة الشرف. ولا تنأى رواية لوالي بنفسها عن هذه المشكلة، ابتداء من "بيت اللحم" - وهي عن حي البغاء في بغداد، وحتى "إثم سارة" - وهي عن رفض الجيل الجديد لسلطة الأب التاريخي أو لشبح الماضي القريب. وأكاد أجزم أن المغامرات الجنسية في أدبيات والي مجرد انعكاس لمافيا السياسة لا أكثر ولا أقل، وأن المرأة تسقط دائما إما ضحية لمعنى الأسرة الشرقية أو نتيجة لترتيبات أعدها لها القدر وكأنها يجب أن تدفع ثمن ضغائن وأحقاد آدم بعد حادثة التوريط بالتفاحة وعقوبة الهبوط. ويعبر صبري عن هذا المعنى بقوله: لتكون سعيدا وحرا عليك أن تشاء ذلك ص68 بمعنى أن سعادتك ملك يديك وليست منحة إلهية.  ولكن علاقاتنا محكومة بنظام لا معرفي ونفعي،  وهي ليست مطلقة ص67.

ولا ينفرد والي وحده بهذه الرؤية. وكل روايات مجتمع الهزيمة تصور بقدر متفاوت علاقة الجيش بالنساء، وجلسات السكر والعربدة جزء لا يتجزأ من هذا الجو. وفي وقت لاحق وبعد معاهدات السلام حل التاجر محل العسكري، وبقيت الصيغة كما هي.. سهرات حمراء تكون المراهنة فيها على شراء وبيع الأصول كالأراضي والمتاجر والبيوت بعد أن كانت مخصصة لبيع الشعارات والمناصب (قارن "قارب الزمن الثقيل" لعبد النبي حجازي مع "المدينة الأخرى" لخيري الذهبي). إذا أخذنا أول نموذج على أنه بكاء على أطلال مشروع حركات التحرير العربية، فالثاني بكائية على مشروع إعادة الإعمار، وتدهور الحالة العقلية للمثقف، ودخوله في السبات، طبعا، وهو تحت تأثير الثلاثي المعروف: الكحول والرشوة والنساء الجميلات. ويتفرع من ذلك أيضا موقف يلغي نفسه بنفسه، وهو تعبير آخر عن سياسة النفي والإثبات التي تتبعها الرواية، كلما ألغت رجلا من ذهنها وتهيأت لاستقبال غيره. وتتضح المشكلة جوهريا بعد دخول آدم مسرح الأحداث. وهو شاب صدفة كذلك، تلتقي به العمة في الحافلة، وتتفق معه على الهجرة، وخلال التخطيط لهذا الخلاص يتضح النفاق الذي تتبعه الدولة. فهي تنادي بإيديولوجيا شرقية وتعيش برأس غربي. ولا تخلو علامات سياسة السوق من أي صفحة من الصفحات، وتعبر عنه العمة بمانيفيستو الهجرة إلى باريس. وتكشف هذه الفكرة عن خلل عضوي آخر. فمع أن الدافع للهجرة هو الحرية المفقودة تحتل صورة الجنرال ديغول ذهن الأم. وبهذه الطريقة يغلق نجم والي الدائرة حول شخصيات يكتب عليها مصيرا واحدا لا ثاني له، وهو الخروج من ثكنة بغداد للدخول في ثكنة باريس. وما يتغير هو شرط عبودية هذه الشخصيات أو ورطتها الوجودية، من سياسة القدر الظالم إلى سياسة الحظ السيء (والعبارة معدلة لكن وردت على لسان صبري ص98). وأترجم معناها كما يلي: من غدر السماء لغدر الأرض.  وفي الحالتين أنت في سجن. الأول لعنة والثاني طبيعي ولا بد منه ص101.

القسم الثاني من الرواية يحمل عنوان "في خبر صديقاتها"، ولكنه لا يبدو فصلا آخر بقدر ما هو استطراد أو تفصيل. ويدفعني لهذه النتيجة عدة أمور.

أولا: فكرة والي أن الصداقة لا تقوم على التغاير ولكن على التشابه والتأكيد. وكما يقول في مطلع الفصل الخامس: الإنسانة تعرف من صديقاتها ص109. بلغة أخرى: الصديقات تجسيد لأجزاء نوعية من الذات.

ثانيا: العشوائية في الصداقة. فهي لا تحصل استجابة لدافع أو اتجاه معين، ولكن بالصدفة المحضة، أو ما يمكن أن نسميه الصدف الممكنة كاللقاء في غرفة الصف خلال أيام الدراسة الطويلة أو التجاور بالمسكن. وفي الحالتين يوجد إكراه على التقارب تفرضه الجغرافيا، بمعنى أنه انتماء إلزامي وليس التزاما طوعيا. ويوجد مثال ممتاز على هذا الأسلوب في رواية "حادثة النصف متر" لصبري موسى، حين تنشأ علاقة بين اثنين بسبب التواجد على متن حافلة مزدحمة بالركاب. ومثلها روايات السفر بالقطار لمسافات بعيدة مثل "قطار اسطنبول" لغراهام غرين، أو العلاج في مصحة  مثل "طيران فوق عش الوقواق" لشون أوكيسي. وفي هذه النماذج يلعب المكان الضيق دورا جوهريا لخلق فرص تعارف يتبعها نشوب اختلاف درامي. وهذا يفسر أسباب الخلافات الراديكالية بين العمة وفاتن وهي أولى صديقاتها. وبطلة الفصل الثاني. وهنا يخرج والي عن قاعدته السابقة، وهي تقديم شخصياته من خلال أفعالهم، ويتوقف مطولا عند صفات فاتن الفيزيائية قبل أن ينتقل للجانب العاطفي وأخير الأخلاق، أو أسلوب توريط الجنس الآخر.  وأعتقد أن هذا هو أول اختلاف جذري بين الصديقتين. فالعمة لا تفتعل صداقاتها، أما فاتن فتحسن التدبير والتخطيط لكل شيء، ولا سيما توفير الخلوة ص112. واستغل والي هذه النقطة لينبش في تاريخ وذاكرة بغداد. ولكن سمحت العمة لهذه الفرصة أن تفلت من يدها، ولم تقدم لنا معلومات عن جغرافيا المدينة، واهتمت بالطباع والأحوال، وهو أكبر وآخر اختلاف مع صديقاتها. ويمكن أن تقول إنه لم يتوفر عنصر واحد يجمع نساء الرواية باستثناء المكان الضيق، وكأن بغداد تحولت إلى حرملك تقطنه نساء رجل واحد.

وكما أرى تنفرد هذه الرواية بعودة الكاتب لمدينته المفضلة بغداد، بعد سياحة طويلة في الخليج العربي وأوروبا في "إثم سارة"، وسياحة أطول بين مصر وشمال أوروبا في "سعاد والعسكر".

ولكن هذه العودة لم ترتبط بأمكنتها فعليا. وعلى الرغم من النكهة المحلية لبغداد، والتي أعاد والي بناءها على مهل وبعاطفة رومانتيكية لم تتوفر للعمة ذاتها، كان ولاؤه الأساسي لخطابه العسكري. وكما ألاحظ كان مختلفا لحد بعيد عن خطابه الحضاري في "ملائكة الجنوب"، ثم خطابه الاجتماع سياسي في "تل اللحم". واختار تعويم لغة وتصورات "عمتي الرومانتيكية" فوق الظواهر الأسلوبية للتفسير الواقعي. وإذا تمسك بلغة الوقائع - أحداث منفصلة يتناوب عليها علاقات إضافة وحذف. وأقصد بالاضافة ما يساعد على تطوير الحبكة، والحذف ما يساعد على توسيع رقعة الإبهام والإلغاز - وهذا لا يعطيه الحق ليدخل في زمرة الكتاب الواقعيين إلا إذا نظرنا لبناء العقل الطبيعي والتكويني على أنه واقعي.  ولكن والي يركب أحداثه دون أي تبرير،  ويقفز للنتائج دون أي سبب. بتعبير آخر الحبكة جاهزة والشخصيات مفصلة. فهي حاملة للأحداث فقط ولا تخترع شيئا من عندها، وكأنه يريد إحياء التراجيديا الإغريقية وليس تراجيديا شكسبير. بلغة أوضح القدر العسكري للمنطقة هو الذي يحدد المصائر، ويلعب رجال الأمن دور إله يمشي على الأرض، ويبدلون اتجاه وقدر الإنسان لأنه غير مخير وليس له الحق باتخاذ أي قرار.  وعلى هذا الأساس يقف والي محتارا أمام شعار المقاومة، ولا يعرف لمن يدق الحاكم طبول الحرب. لعدوه الوهمي والمفتعل أم لذاكرته وبقاياها. ويترك الجواب معلقا في الفراغ، غير أنه يقدم تصورات غير مباشرة عن الوعي الدرامي الباطن للسلطة.

ولا بد من توضيح آخر صفتين.

الوعي الدرامي هو السيناريو المفترض لإدارة الصراعات، بمعنى أن المتهم هو القاضي نفسه، ولذلك لا يوجد أحكام غير مزاجية أو غير منحازة.

أما الوعي الباطن فهو الحقبة المنفصلة عن واقع الشخصيات، وهي بالضرورة جزء من نظام الأخطاء ونقاط الضعف التكوينية والتي يرغب الحاكم بإتلافها. ولذلك يحرص والي على بناء مدينة للرئيس داخل أسوار مدينته التاريخية، وهو ما يساعد على إغناء شهادته عن السلطة وتجاوزاتها. وأوضح مثال عن ذلك الفصل الخاص بشارع حيفا أو مدينة السيد الرئيس. وبتعبير نجم والي مدينة الحاكم. ومع أن الهدف المنشود تقديم خدمات لشعبه تبدو وكأنها تجديد لأخطائه أو تجميل لماضيه.  ويلعب والي بشخصية منار، أجمل بنات شارع حيفا، وعوضا عن أن تكون رمزا للأخطاء والانحراف تتحول إلى تمثيل لانزلاق السلطة من تحرير المدينة إلى تحديث الأخطاء والانحرافات. فالماضي يكرر نفسه وبوتيرة أعلى، لكن تحت أسماء مختلفة. وتكشف منار هذه الخدعة بحرق نفسها. وبذلك تسمح للعمة برؤية المجرم الحقيقي وراء هذا السيناريو وهو المقدم فاروق. وسبق له أن ظهر في مقدمة الرواية باسم خال إبراهيم.  وإذا تسبب بحرق وتشويه منار في الوقت الحاضر، فقد اغتصب العمة في الماضي.

ويذكرني شارع حيفا بحي الطرب - وهو شارع للبغاء الرسمي، ويعبر عن رذائل الرئاسة وتداعيات حروبها العبثية. وهذا اصطلاح آخر أصبح أشهر من نار على علم. ولا يوجد أديب عراقي لا يدين هذه السلسلة اللامتناهية من حروب أفقرت الدولة وخربت مشروعها التحرري. وواقع شارع حيفا قد يكون انعكاسا لاشعوريا للحياة في حيفا بعد الاحتلال كما لو أن سلطة الثورة (التعبير لوالي) لا تختلف بذرة واحدة عن قوات الاحتلال في إسرائيل، كلاهما يحتل الإنسان أولا ويضعه بموقف أضعف من الأرض، وهو تجريد سريالي وتشييء للعاقل، وتسخير له ضمن دورة النظام وليس دورة الحياة ولا الإنتاج. أو بتعبير والي في مستهل القسم الثالث من روايته: تحويل الطقس إلى فوضى ص163.

عموما يمكن تلخيص الرواية بثلاث محاور.

الأول ذهني. وارتكب فيه الراوي عدة أخطاء استراتيجية وهو يصور تهور وطيش الشباب في تلك المرحلة، وشيطنة النظام لمعنى الحرية، وفرض إيديولوجيا الدولة على أنها هي الحق الوحيد المتاح لهم. وربما لهذا السبب كانت كل نهاياتهم تراجيدية وتنتهي بالاختفاء غير المبرر كأن الارض تنشق وتبتلعهم.

الثاني اجتماعي. ومارس فيه الراوي هوايته المفضلة وهي التلصص على أسرار النساء. وأعتقد أنه كان يؤدي طقسا فرويديا نموذجيا وهو العادة السرية أو ارتكاب الزنا بالريموت كونترول. وربما لا يخلو هذا المنطق من زنا محارم. ليس بالمعنى الحرفي ولكن بالإمكان أو بتوفر احتمال رديف. فنساء العمة هن مكونات حياة العمة. ولنأخذ منار على سبيل المثال. ألم تحل العمة مكانها في دكان بيع الزهور. وكذلك  بالنسبة لفاتن، تقاطعت مع العمة في التنقل بين عدة رجال، وكانت كلتاهما تتبعان قانونا واحدا.. الانتشار والإزاحة. وفي كل حالة تقدمان نموذجا من نماذج العطب المتعددة التي أودت بالمجتمع العربي إلى التهلكة. أو ساعدت على إسقاطه في هاوية تبعتها غيبوبة حضارية لا نزال نقطف ثمارها، بمعنى مصادر الشقاء والعذاب المترتبة عليها. هذا التماهي في الميول والاتجاه وضع صبري في موضع الكبائر، وجعله يخطئ مع بدائل ناعمة وكأنه يخطئ مع عمته ولكن على مراحل. وفي كل مرحلة ينتبه لخطأ استراتيجي في مقاربته. ومن ثم في مقاربة السلطة بشكل عام لتبعياتها. ومن المؤكد أن الراوي خان عفاف عمته مع أن المفروض أنه حجاب تختبئ وراءه. وبالمثل فشلت أجندا السلطة، ودخلت في الغسالة الوجودية، وهكذا اكتشفت الضعف الذي تعاني منه. هذا غير سلطة الوهم التي تقتات عليها.

الثالث اقتصادي. وهو يخلو من الإضافات الهامة للأحداث لكنه يحفر في شبكة العلاقات السابقة حتى يفضح الأساليب اللصوصية للدولة (بلادنا التعبانة كما يقول والي ص207). ويكشف هذا المحور عن مظاهر التعب (غزو الكويت ثم الانسحاب منها، وما ترتب عليه من فساد وانحطاط على جميع المستويات، وبالأخص جفاف المصادر،  أو ما يعتقد والي أنه مواقف استفزازية للنساء، وسلوك عشوائي ومتهور للرجال. وبالنتيجة لا يجد أي شخص نفسه في مكانه، وإنما في مكان غيره.. جمال يقترن بفاتن مع أنه يريد عديلة، وفاتن تسرق زوجها وتهرب بالسر مع أخيه، وثمار تعيش بمفردها دون طلاق تحت سقف واحد مع أخ زوجها الغائب. ولا يمكن قراءة كل هذه المصادفات على أنها إرادة إلهية، ولكن هي نتيجة للقراءة الواقع بالمقلوب. وهنا يمكن القول إنه واقع لا هيجلي لكنه يتبع استراتيجية هيغل. فهو لا يعرف على أي ارض يضع رأسه (إشارة لكلام ماركس عن هيغل وأنه مثالي يمشي على رأسه كالبهلوان). 

وينهي هذه المحاور بمشاهد مطولة تعيد للذهن قيامة أليعازر أو موت وانبعاث تموز. ويختار لتوقيت القيامة شهر مارس (آذار بلغة المشرق العربي أو فصل الربيع وموعد الاحتفال بعيد الأم). ومن المؤكد أنه يضع يده على الجرح بهذا الخصوص، وينبهنا إلى ربيع القيامة وينسى أن يذكر أعياد الأم. لكنه يرعى منار في مرضها بعطف أمومي قل مثيله.  ومتى؟ في وقت سوق الأب إلى الجبهة للاشتراك بالقتال وانقطاع أخباره.

ويبقى البيت مرتعا للنساء والأولاد أو ميدانا لأم إلهية وملائكية تؤدي طقوسها بصمت بالغ. ولا ينسى أن يشبه أمه بورود الربيع أو بحديقة مزهرة. حتى أنها تبدل ثوبها الأسود بآخر مطرز بورود الموسم كلها، وتجلس على كرسيها بانتظار الغائب - مخلصها من محارة الأحزان، والعقل المدبر للبيت الذي تحول على يد النظام إلى مقبرة. ويختلف والي بهذه الأطروحة مع تصور هوميروس للبطولة الملحمية، وينفي بكل إمكانياته فلسفة عودة المحارب، ويضع بمكانها ما أود أن أسميه عودة الحياة. وتوجد أكثر من إشارة تربطه بالإنطلاقة المبكرة لزكريا تامر وقصصه الطليعية التي نشرها بعنوان "ربيع في الرماد".  ولكنه ينبهنا منذ البداية أن العائد سيشبه نفسه، ولن يتطابق معها. بمعنى أن دورة الموت لن تقود لدورة انبعاث، وستحمل الحلقة جزءا مفقودا. وحتى إذا حافظت الصور على نفسها لن تجد في داخلها مضمونها السابق. وكما يقول الراوي: ذاكرتنا ستقضي نحبها وتموت، وسترمم نفسها بنصف ربيع آخر أو ربيع شبيه ص223. ولذلك نهاية الحرب لا تعني نهاية الموت (والكلام للراوي أيضا) ولكن التهيؤ لمفاجآت من نوع آخر ص223.

بقيت مشكلة الجزء المفقود من الذاكرة الوطنية.

لقد توقف معها بعدة صفحات ليكتب نعوتها بدموع مآقيه. ولذلك أجد أن الراوي هو الرومانتيكي وليس عمته. وسرعان ما يكشف لنا أن النوستالجيا المتورمة لديه هي لما يسمى في أدبيات اليسار العربي الزمن الجميل أو مرحلة صعود حركة التحرير العربي بنسختها القومية ومساواتها بين الجنسين، حينما رفعنا شعار البارودة بيد والمعول بيد، وأحيانا يحل القلم محل المعول. ومن وراء هذه الواجهة ترفرف أعلام حمراء في زاويتها مطرقة ومنجل أبيضان أو قمر روسي وقمر صيني.  ولكن ما افتقدته في هذه الإشارات النوستالجية والباكية مصير هذا التحالف، والذي نجمت عنه عدة خيبات وطنية، وانشقاقات خربت الجسور بين العمق والواجهة أو بين اللاعبين على الأرض، وهم أطراف اليسار المزعوم.

وأعتقد أن مصير الزمن العربي الجميل كان مأساويا لأن رموز تلك الفترة لم تحسم خياراتها، واختارت أن تعيش وراء أقنعة غامضة، وهي بدورها تعبير مضطرب على تداخل المحاور، وعدم وجود روابط عضوية بين ما هو قومي وما هو أممي. ناهيك عن الاختلاف المرعب في تحديد دور الدين أو المشاعر الروحية التي تطورت في المجتمع تاريخيا حتى أصبحت جزءا مؤسسا منه. وكانت هذه النقطة هي أكبر غائب عن مشهد الرواية، من بين خمس ذكور وأكثر من سبع نساء لم تعبر أي منهن عن صعود المشاعر الدينية، مع أنها كانت محددا في أزمة حروب العراق، الموضوع الحقيقي للرواية. وكلنا نعلم كيف انتهى ذلك بإضافة عبارة الله أكبر على العلم العراقي. ولا أجد في نفسي ضرورة لمزيد من الإيضاح. لقد اختصر النظام طريقه، وقرر الصعود بالسلم إلى العرش، أو باصطلاح آخر إلى منابعه الروحية. ولا أفهم لماذا لم يخصص نجم والي شخصية تمثيلية لهذا الاتجاه. واكتفى بالنظر للمسألة بعين واحدة والاستماع للأزمة بأذن واحدة.

ومهما كانت الدواعي، تفكيك شعارات الزمن الجميل تقودنا بالضرورة لاكتشاف الخدعة التي تورط بها اليسار العربي. ولا شك أن إفلاسه على الساحة الداخلية أفسح الميدان للخط الديني، وأدى لهذا النزوح بالأفكار والمؤهلات حتى دخل في عباءة ديمقراطية السوق وليبرالية نصف العالم الغربي. ومن بقي متمسكا بإيديولوجيا المقاومة نهش إرادته الفساد من طرف والرجعية اليسارية من طرف آخر، وهي بذرة ميتة لن يكتب لها الحياة والبحث عن مصادر الضوء ومصيرها محتوم مثل سابقها المعروف باليسار الطفولي، مع فارق واحد أن وجه اليسار الرجعي والمتزمت متحجر ومغطى بطبقة تتراكم عليها ميوله البيروقراطية وغير التاريخية، بينما غلب على اليسار الطفولي روح تمردية وجدت صوتها وصورتها في أقلام نساء مجددات وانتحاريات أمثال ليلى بعلبكي وغادة السمان وكوليت خوري. والثلاثة من بلاد الشام. وأعتقد أنهن مقدمة لستينات جيل غاليري 67 في مصر، ولرواية الأصوات في العراق. 

ويمكن إجمال خصائص سردية الزمن الجميل بثلاث نقاط.

الأولى أنها بصيغة الماضي، ولا أفهم لماذا لم ننتبه في الوقت المناسب لجماليات عصرنا. وكل الأعمال التي تندرج في هذا التيار تشير من قريب أو بعيد لمجموعة من التجاوزات الأخلاقية التي تبلغ درجة استفزاز المشاعر أحيانا. أو أنها تتعامل بحقد وشماتة مع جيل الأب والجد. وبصراحة لا تخلو معظم تلك الأعمال من صعاليك ولصوص يمثلون روح التمرد بوجهه السلبي. حتى أخلاق اللص الشريف غير متوفرة ولو بأدنى درجاتها، وترتكب كل الموبقات دون أي مبرر منطقي باستثناء كسر المحرمات.

الثانية يغلب على هذه الموجة منطق البحث عن الزمن المفقود. ويجب ملاحظة التخبط الذي نستعيد به تلك الأمكنة. وهذه نقطة عجيبة فعلا، أن نقرأ المرحلة ليس بصفة أنها طور من أطوار الحياة والتطور، ولكن باعتبار أنها مكان قديم وغائب وتغلبنا النوستالجيا له. بتعبير أوضح نتناول تلك المرحلة من خارجها، والعازل لا يتوقف على المسافة الزمنية، وإنما على البعد المكاني. ولذلك يكون السرد إما من وراء الحدود (في المهجر) أو من خارج التراب الوطني - بسبب النزوح والتشرد.

الثالثة والأخيرة أننا لا ننتبه للفارق الوجداني والحضاري، ولا لدرجة العذاب الذي نخلفها وراءنا، ويبقى في أذهان جمرة أيام الشباب المنصرم. ولذلك أرى أن هذا الحنين مرضي ويعبر عن الرهبة من الموت والخشية من تقدمنا بالعمر واقترابنا من لحظة الرحيل. وهو مجرد إعراب عن تشبثنا بشرط البقاء لا أكثر ولا أقل. وإلا لوجب علينا ملاحظة تشابه اليوم مع الأمس، وتوسيع حفرة السقوط الحضاري وتراكم عذابات وآلام مجتمع امتنا إن لم نقل  دولة الأمة. وإذا عانينا من نكبة عام 1948 فقد دخلنا بعدة نكبات متلاحقة  لم تكن أولها حصار بيروت عام 1982 المسؤولة عن أول نحر وتضحية بحركة التحرر العربية، ولن يكون آخرها إفناء غزة عام 2023، وتحول رمز المقاومة في فلسطين إلى ورقة يساوم عليها الشرق عدوه الغربي.

ولا يبتعد نجم والي كثيرا عن هذه النبوءة. فالعمة الرومانتيكية تبدو في آخر شوط من الأحداث بوجه مسن تراكمت عليه دلائل موت الماضي الجميل. زد على ذلك - والكلام على ذمة الرائي وهو راوي سيرة العمة: أن وجهها افتقد الالتماع الذي كان يراه في عينيها. وكذلك نظرتها الحالمة. ماتت. وحل بمكانها شيء حيادي.. نظرات خاوية تتصل بشيء مجهول. وعلى الأرجح هو مآل اليسار العربي وحركة الشباب الطليعي ص304-305.

***

صالح الرزوق – أديب وناقد ومترجم

.......................

*صدرت عن دار روايات في الشارقة عام 2024 وبـ 325ص.

قصائد تنويرية متألقة تستقطر عسل الكلام

كانت خولة نوري جذوةً متقدةً أشعلت فيه حريقًا شعريًا

لم ينطفئ حتى الأيام الأخيرة من حياته

3913 جلال زنكابادي

صدرت عن (دار الجمل) في بيروت مجموعة شعرية جديدة تحمل عنوان (ها هيّ معجزتي!) للشاعر جلال زنگابادي. وقد ضمّت هذه المجموعة تحديدًا نصف قصائده المكتوبة باللغتين العربية والكوردية عن ثيمة الحُب الأزلية التي لولاها لأصبحت الحياة أشدُّ وطأة مما هي عليه الآن.

لقد شاء الشاعر المرهف الحس جلال زنگابادي، أو ربما شاءت قصائده أن يكون هذا الديوان برمته مكرّسًا للحُب فقط من دون بقية الأغراض التي قد نجد بعض تشظياتها منثورة هنا أو هناك في متون قصائده العذبة التي تتصف بتجلياتها اللغوية والروحية والفنية على حد سواء. فجلال زنگابادي للذين يعرفونه عن كثب هو شاعر عفوي وصادق بامتياز تأتيه الصور الشعرية " مثلما تأتي الأوراق الى أغصان الأشجار" بحسب ووردزورث، وإنه "صانع أمهر" للشعر بحسب ت.س. إليوت، يعرف جيدًا أسرار هذه الصنعة الفنية، ويتألق فيها دائمًا، مستقطِرًا فيها عُصارة قلبه، فلا غرابة إذا جاءت نصوصه مُستفِزّةً واخزة تهّز المتلقي وتضعه في مثلث الدهشة والسحر والافتتان.

لقد هُمشت التجربة الشعرية لجلال زنگبادي، عن قصد أو غير قصد، على مدى أربعة عقود بالتمام والكمال، ربما بسبب الظروف العصيبة التي كان يحياها معظم العراقيين في أثناء حقبة النظام الشمولي السابق، أو ربما بسبب كسل النقّاد، ولا أستثني كاتب هذه السطور، أو شلل الحركة النقدية في العراق الذي كان مخطوفًا في وُضُح النهار، وما الى ذلك من أعذار ومسوّغات قد تكون ضعيفة واهنة ولا تصمد أمام التهميش أو الاقصاء المُشار اليه سلفا.

قبل الولوج في أجواء هذه القصائد وفضاءاتها التي تجمع بين الصوفية والرمزية والتعبيرية والرومانسية لابد من الوقوف عند هذا الإهداء الروحي المكثّف إلى زوجته وثنيّة روحية السيدة خولة نوري التي أحبّها من الوريد إلى الوريد وأخلص لهذا الحب طوال حياته ولولا وجودها في سويداء القلب لما جادت قريحته بهذه القصائد الملأى بالحُب واللوعة والشجن، فهي، وأعني خولة نوري، هي التي منحتهُ إكسير الحياة وكانت جذوةً متقدةً أشعلت فيه حريقًا شعريًا لم ينطفئ حتى الأيام الأخيرة قبل أن يترجّل من مركب الحياة الفانية ويستريح في أبديته المُلفعة بالصمت والسكينة والخشوع. يقول زنگابادي في هذا الإهداء المطوّل:

"إليكِ يا نِعمَ الحبيبة، الصديقة، الرفيقة، الحليلة، الأخت والأمُ؛ فلولاكِ لما أدركتُ رحموت الحبّ في رهبوت الصلبان المعقوفة وأهوال الحروب والاحترابات، ولما صمدتُ وقاومتُ؛ بل لما كانت هذه القصائد وغيرها.. وأنتَ "يا مانح الحكمة للتراب"* أمنَ العدل والإنصاف أن تُجازيها بالسرطان؟!" {*  للشاعر الهندي خسرو دهلوي بتصرف}.

وتعزيزًا لثيمة الحُب التي انقطع اليها الشاعر سنينًا طوالا فقد انتقى الشاعر ثلاثة عشر بيتًا شعريًا معروفًا، جرت على الألسن مجرى الأمثال، لثلاثة عشر شاعرًا مستقرًا في الذاكرة الجمعية للناس من بينهم ابن الفارض وابن الرومي والبهاء زهير والبسطامي والحلاج وغيرهم من الشعراء الذين كتبوا عن الحُب كثيرًا، وترسخت تجاربهم في مضمار الشعر الصوفي وتجلياته المعروفة التي تبتغي الذوبان والتماهي في ذات المحبوب الذي يمثل من وجهة نظرهم امتدادًا للذات الالهية.

سنتوقف في هذه الدراسة النقدية عند بعض من قصائد هذا الديوان علّنا نستجلي أبعادها الفنية، ونكشف عن التقنيات التي اعتمدها الشاعر في صياغة هذا النوع من القصائد التنويرية المتألقة التي تستقر في ذاكرة المتلقي ولا تغادرها بسهولة لأن وقعها على الأذن المرهفة هو وقع الوشم على الأَدَمَة الرقيقة الحساسة.

تجدر الاشارة الى أن قصيدة (ها هي معجزتي) قد أنجزها الشاعر زنگابادي عام 2005م، أي بعد أربعة عقود من كتابته لقصيدة (أوّاه يا قُفل) عام 1965م التي نشرها بعنوان (استعارات) في (جريدة كركوك) في أوائل عام 1968م ووقّعها باسم (جلال ريبوار)، وهو للمناسبة واحد من عدة أسماء مستعارة كان يتخبأ خلفها الشاعر خشية من الأعين المدبّبة التي كانت تتربص به الدوائر. تدور هذه القصيدة العميقة حولَ (معجزةٍ ما) سيؤجلها الشاعر بطريقة ذكية محسوبة لأنه يراهن في بنائه الفني للنص على عناصر الشدّ والترقّب والتشويق التي تأخذ بتلابيب المتلّقي العضوي الذي يتوفر على شروط القراءة الابداعية. تحفظ لنا الذاكرة الجمعية للبشرية معجزات أنبياء وأناس صالحين وعباقرة لم يَجُد الزمان بمثلهم كثيرًا، فمنهم منْ يُشفي الأبرص، ومنهم من يعيد المجنون الى رشده، ومنهم من يلقي عصاه فإذا هي حيّة تسعى وهلّم جرّا من الأعاجيب التي تُدهش العقل البشري وتضعه في دائرة الحَيرة والذهول. استهل الشاعر قصيدته بكلمة (أبدًا) وهي ظرف زمان مبهم لوقتٍ غير متعيّن تفيد التأكيد نفيًا وإثباتًا، ثم يستعمل أداة الجزم (لمْ)، وهي حرف نفي لما مضى من الزمان (احدى عشرة مرّة) بشكلٍ متتالٍ لأنه يريد من المتلقي أن يفهم بأن كاتب النص ومبدعه، وهو الراوي العليم هنا، لم يتوفر على أية معجزةٍ يمكن له أن يتشدّق بها أمامَ الآخرين، فهو (لم يشعوِّذ، ولم يسحر، ولم يعرف أسرار الغيب، ولم يمشِ على الماء، ولم يحلِّق في الهواء، ولم يستمطر السماء حلوى، أو منًّا وسلوى، ولم يطوِ الأرض طيًّا في رمشة عين، ولم يحوّل التراب الى تبر، ولم يفهم لغة الطير والوحوش، ولم يسخِّر الجن والغيلان) وما الى ذلك من معجزات ومواقف عجائبية. فما هي معجزته التي يتفاخر بها بين الأنام؟ ثمة معجزات كثيرة يتذكرها الكائن البشري على وجه البسيطة، لكن المعجزة التي اجترحها شاعرنا جلال زنگابادي هي معجزة من طراز خاص، ذلك أنه عشِقَ فتاة وهام بها حُبًّأ فاجتثتْ معه (ر) الحرب لتؤسس مناخًا صحيًا للحُب الذي يقترب من نزعته الصوفية المجنّحة. وتلك الفتاة هي دونما شك خولة نوري.3912 ترجمة جلال زنكابادي

الأُس المعرفي

تحفِّز معظم القصائد التي يكتبها الشاعر جلال زنگابادي قارئه على تثوير خلفيته الثقافية وتغذية ذهنه بمختلف أشكال الثقافة والمعرفة الانسانية المُتاحة. ففي النص السابق الذي توقفنا عنده طويلاً كان على المتلقي أن يكون عارفًا ومُلِّمًا بالمعجزات الإحدى عشرة كي يتمتع بالنص ويتلذذ بأبعاده المعرفية التي تفتح أمامه سجلاً عريضًا من المعلومات التاريخية ذات الشأن الديني والروحي على حدٍ سواء. أما في هذا النص الذي انضوى تحت عنوان (قلبكِ.. يا له من لغزٍ مؤبّد!) فثمة أربع إحالات رئيسة على القارئ أن يكون مُطلِّعًا عليها كي يستوعب النص بشكل دقيق ولا تفوته شاردة أو واردة من بنيته الشعرية المكثفة التي اعتمدت على تقنية (استقطار المعلومة) ووضْعِها في السياق الفني الصحيح. وهذه الإحالات بحسب ورودها في النص هي (الفاتح) و(الإسكندر) و(هانيبال) و(كوكب فينوس) وإذا لم يتمترس القارئ المتفاعل مع النص وراء معلومات تاريخية تضيء الإحالات الثلاث الأولى، وفلكية تكشف عن طبيعة هذا الكوكب الذي أسرَ المخيلة البشرية منذ عصورٍ موغلةٍ في القِدم، فإن قراءته للنص لن تكون قراءة معرفية أحفورية. وأن طبيعة الاضاءة الداخلية للنص ستكون ضعيفة واهنة تفوّت على المتلقي العديد من جماليات الخطاب الفني الذي أبدعته المخيلة الفذة للشاعر المرهف جلال زنگابادي.  يضعنا الشاعر أمام ثلاث أمنيات هي في واقع الحال مستحيلة، ولكنه يراها ممكنة وغير عصيّة على الإطلاق. لابد من الأخذ بعين الاعتبار أهمية الكلمة التي استهّل بها النص وهي (ليتني)، و(ليت) كما هو معروف كلمة تمنٍّ متعلقة بالمستحيل كأن تقول:

(يا ليْتَ أيامَ الصبا رواجعا!).

وأنتَ تعرف حدّ اليقين أن أيام الصبا أو الشباب لن تعود مطلقًا لأن عمر الكائن البشري محكوم بالتقدّم الى أمام. ومع هذه الاستحالة الواضحة التي تقترن دائمًا بكلمة (ليْت)، إلا أنّ زنگابادي يصِّر عليها ضمن سياق لعبته الفنية القائمة في نهاية المطاف على فعل الإدهاش الذي سينير عتمة النص المستغلَق. ففي الأمنية الأولى يقول:

(ليتني،

كنتُ "الفاتح"،

إقتحِمَ القسطنطينة).

وهذا الفاتح هو القائد المسلم والسلطان العثماني السابع محمد الفاتح الذي عرفت مآثره الناس ومنها اقتحامه للقسطنطينة وقضائه المبرم على الامبراطورية البيزنطية. وعلى الرغم من الصعوبات الجمّة التي واجهت هذا القائد الاسلامي الكبير إلا أنّ الشاعر جلال زنگابادي يتمنى من أعماق قلبه أن يكون هذا الفاتح بنفسه، لأن فتح القسطنطينة أو غيرها من حواضر الأرض هي مهمة سهلة ويسيرة عليه قياسًا بالمهمة المستحيلة التي سيلقيها على عاتقه بعد أن تنتهي أمنياته الثلاث التي يسردها لقارئه الذي تحوّل الى مجموعة من الآذان الصاغية. في الأمنية الثانية يقول:

(ليتني،

كنتُ "الإسكندر"،

بلغَ "آريانا").

والمقصود بالإسكندر هنا هو الإسكندر الأكبر أو المقدوني الذي حكم الإمبراطورية المقدونية، وقهر الإمبراطورية الفارسية، وجملة مآثره معروفة للقاصي والداني على حدٍّ سواء. ويورد زنگابادي هنا كلمة (آريانا) التي تعني أفغانستان الحالية التي وصل إليها المقدوني ذات يوم. ولاشك في أنّ الصعوبة التي يواجهها ستكون كبيرة جدًا لو أنه حلّ محلَّ الإسكندر المقدوني. ومع ذلك فإنه يصِّر على أن يلعب هذا الدور الذي يعده بسيطًا قياسًا بالدور العظيم المُلقى على عاتقه. أما في الأمنية الثالثة والأخيرة التي ستضعنا على مشارف نهاية النص التنويرية فيقول:

(ليتني،

كنتُ "هانيبال"،

قهَر "الألب").

وهانيبال، كما هو معروف، قائد قرطاجي عُرف بحيله وتكتيكاته الحربية العديدة، وقد قهَر جبال الألب، وإحتل معظم الأراضي الإيطالية. وعلى الرغم من صعوبة قهر هذه السلاسل الجبلية الشاهقة، إلا أن الشاعر يقبل بهذا التحدي لأنه أيسر بكثير من الواجب المُلقى على عاتقه، والتحدّي الذي سيخوصه في نهاية النص. ثم يصف الشاعر غزوات أولئك القادة العظام بأنها في غاية السهولة واليُسر، بل أنهم سعداء جدًا، فيما يتمرّغ هو بحزنه وتعاسته. ولكي يُقنع المتلقي بسبب يأسه وتعاسته فإنه يطرح على نفسه هذا السؤال الاستفهامي العسير الذي يقول:

"أمّا أنا فيَالَتعسي!

كمْ قرْناً آخرَ عليَّ

أن أغزو قلبك الطلّسم؛

حتّى...يؤويني كوكبُ"فينوس؟!"

هنا فقط يستوعب القارئ طبيعة التحدّي المُلقى على عاتق الشاعر جلال زنگابادي، لأن كل الغزوات المُشار اليها سلفًا هي سهلة فعلاً، إذا ما قيست بغزوته هو لقلبها الطلّسم، هذا القلب المُلغِز والأسطوري الذي خلق المعجزات التي توازي معجزات الأنبياء والعباقرة وأصحاب الكرامات، وربما تبزّهم جميعًا لأنها أسقطت (راء) الحرب، وحوّلت الحياة الى فردوس للعاشقين. فإذا ما غزا الشاعر قلب الفتاة التي يحبها فإنّ كوكب فينوس سيؤويه ويمنحه الأمان الذي يبحث عنه وهو غارق في تحدياته وغزواته المستحيلة. ولا شك في أنّ القارئ الكريم يعرف جيدًا بأن كوكب (فينوس) إنما سمّي كذلك لأن هذه الأخيرة هي إلهة للحب والأنوثة والجمال. وما لم يُحِط القارئ نفسه بهذه المعلومات التاريخية والفلكية فإن النص سيظل عصيًا ومستغلقًا ومليئًا بالشفرات الغامضة التي تحتاج الى منْ يفكّ طلاسمها مثلما يفّك العاشق قلب معشوقته الطلّسم.

بنية التوازي

تعتمد قصيدة (ما وراء الأحلام) على بنية التوازي القائمة بين العاشق والمعشوق في هذا النص، فهو لم يفارقها، ولم يتخلَّ عنها، بل أنه مازال يبحث عنها وراء سبعة بحار. وغالباً ما يرتبط هذا التوصيف بالبُعد والنأي وإشتطاط المزار، غير أن مفارقة هذا البحث الدؤوب تنتهي بأنها موجودة في أعماق روحه، بينما هو منهمك في البحث عنها فيما وراء البحار. أما المعشوقة التي تمثل الطرف الآخر من هذه المعادلة أو هذه البنية فهي الأخرى لم تزل تبحث عنه فيما وراء سبعة جبال غير أنه موجود في قلبها. وطالما أنها موجودة في روحه، وهو موجود في قلبها، فما الذي يمنع لقياهما في عنوان هذه القصيدة في الأقل، (ما وراء الأحلام) كي يتخلصا من لعنة ( الاغتراب المستديم)، وينيرا ديجور حياتهما في الأقاليم السبعة التي أصبحت رمزًا لغربتهم واغترابهم. وما الذي يحول دون اقترانهم كي تصبح (عروس لياليه وأصباحه؟)

قد تبدو بعض قصائد هذا الديون على أنها قصائد حُب لا غير، تتناول أحوال العاشق والمعشوق ولا تخرج عن فلكهما إلاّ لماما. وعلى الرغم من صحة هذا التوصيف إلا أن قصائد زنگابادي تتوفر في معظمها على نَفَس صوفي واضح، ورؤيا فلسفية وجودية، أي أن التأويل الظاهري لا ينفع لوحده لملامسة البنى الداخلية العميقة لهذه النصوص متعددة الأبعاد والمستويات. لنمعن النظر في قصيدة (يا لكِ من بحر!) التي تتضمن مستويات عديدة، كما أنها تحتمل قراءات مختلفة. فمن المعروف كمُسلّمة بديهية أن كوردستان العراق لا بحر فيها، غير أن شاعرنا الولهان متيّم بحب امرأة ستكون صنّواً لهذا البحر الذي ابتكره الشاعر، أو على الأصح البحار التي أوجدها الشاعر بواسطة مخيّلتة المتوهجة التي تعوّضه دائمًا عن خساراته الكبيرة وعن الأشياء التي يفتقر إليها. يا تُرى، ما هي طبيعة البحار التي استدعتها مخيّلة زنگابادي؟ واعتمادًا على بنية النص الفنية نقول: يمكن للقارئ الكريم أن يتلمّس ضنك الشاعر ومحنته اليومية من خلال قساوة الحياة التي يمر بها، فوقته "بحرٌ من القار!" وأكثر من ذلك فإن عِشقه هو (بحر بلا ضفاف) فما أشقى المُحِّب الذي يعوم في بحر لا ضفاف له؟ ومما يزيد الطين بلّة فإن (بحره أو محبوبته لا فرق!) عميق جدًا بما لا يتحمله العقل البشري، فهو أعمق من أي بحر آخر! ثم يعقِد الشاعر مقارنة بين معشوقته التي أحبها وكرّس حياته لهذا الحُب، وبين البحر العميق، الواسع، الذي لا ضفاف له. ثم يخلص الى القول بأنهما صنوان لبعضهما بعضًا (في الجمال والمكر والبخل والاختيال) فقلبها يهتاج مثل أغوار البحر وأعماقه المضطربة النائية، ووجهها يغضب مثل وجهه الذي تتشكّل على سطحه الأمواج العاتية. قد يسأل البعض سؤالاً منطقيًا مفاده: هل أنّ صفات البحر تكمن في الجمال والمكر والبخل والاختيال فقط ؟ أليس البحر كريمًا وهادئًا ووديعًا في بعض حالاته؟ الجواب، نعم، لكن الشاعر تناول حالة المّد والغضب والاهتياج فلابد أنه يتلقّف كل ما يصادفه في طريقه عندها يصبح انتزاع أي شيء منه ليس أمرًا يسيرًا. دعنا نتأمل الأبيات التالية التي تكشف عن سعتها وعمقها واصطخابها، فهي كما أشرنا سلفًا صنّو للبحر، فلا غرابة إن زخرت أعماقها بالكنوز والأهوال.

"ياه!

ما أخطرك!

لكَمْ

يروّعني

وسعك، عمقك وتصخابكِ !

أيتها الزاخرة بالكنوز والأهوال!"

وعلى الرغم من كل معالم الخشية والرعب والأهوال التي يتوفر عليها هذا البحر القُلّب إلا أن القلب الغرير للشاعر قد اختطف سحرها وانخطف بها، فمن الصعب على قلب الشاعر المتماهي بالحبيبة أن ينتزع شيئًا من القرصان الذي اعتاد أن يسرق ويختطف، لا أن يمنح أو يبذل العطاء. وكعادة زنگابادي في صياغة النهايات التنويرية لقصائده دعونا نتأمل هذه النهاية الفنية التي يقترحها علينا لوصف حالته النفسية التي جاءت بصيغة استفهامية ممضّة.

{فحتّى مَ يظلّ قلبي المسحور

يغرق في أغوارك ظمآنًا

أما تشهدينه يغطّ

يستغيثُ:

" وكيف منجايَ وقد حفّ بي

بحرُ هوىً ليس له شطُّ؟!"}

إذًا، لقد انتهى قلب الشاعر غريقًا، غاطًا، مٌستغيثًا يحفُّ به (بحرُ) هوىً لا شاطئ له. وهو ذات البحر العميق، الواسع، المصطخب الذي كان يبحر فيه الشاعر نحو ضفاف لا مرئية !

الروح والجسد

تشترك معظم قصائد هذا الديوان، كما أشرنا سلفًا، بثيمة الحُب التي تربط بين العاشق والمعشوق، فلا غرابة إذًا حينما يهيمن ضمير المتكلم، ويرتفع النَفَس الأنوي. ففي قصيدة (قدّاس للجسد) التي كتبها زنگابادي عام 1969م التي تتحدث عن الحُب وتجلياته ضمن طقس خاص جدًا خصّ به الجسد تحديدًا. لا يخفى على القارئ الأسلوب الذي اعتمده زنگابادي في بناء هيكل النص الذي يقوم أيضًا على ثنائية المحب والمحبوب. فثمة عالمان منفصلان، الأول يمثل عالم الجسد بحسب بنية النص الشعري، والثاني يمثل عالم الروح. فالشاعر أو المحب لا يزال يلهج بأن كل ما هو مادي زائل (لهمو) وكل ما هو (روحي) خالد هو له على وجه التحديد.

لنقرأ هذه الأبيات المعبِّرة التي تكشف عن بنية التوازي التي يعتمدها زنگابادي كثيرًا في نصوصه الشعرية.

"مابرحت ألهجُ:

- كلّ القطعان لهمو، ولي أنت وردة عبر العصور.

كلّ البنوك لهمو، ولي قبلاتك

كلّ المرايا لهمو، ولي عيناك الوسيمتان"

لا شك في أنّ ثنائية العاشق والمعشوق قد توضحت في قصائد زنگابادي، كما سلّطنا الضوء غير مرة على بنية التوازي التي تعين النقاد والدارسين على تتبع مسارات القصيدة منذ الاستهلال، مرورًا بالذروة حتى الوصول الى النهاية التي يقترحها الشاعر. أودّ الاشارة فقط إلى أنّ قصيدة (قدّاس للجسد) تتميّز عن باقي قصائد هذا الديوان بمنحاها الشكلي المتفرِّد الذي يجمع بين نمطين وهما، الشكل العادي المتبّع في كتابة قصيدة النثر، والشكل الذي تكتب فيه أية مادة منثورة كأن تكون صفحة من رواية أو من مقال نقدي حيث تغطي الأسطر مساحة الصفحة كلها من اليمين إلى اليسار، ومن الأعلى الى الأسفل. والغريب أن هذه القصيدة مكتوبة في أواخر الستينات من القرن الماضي في حين ادعى بعض شعراء السبعينات والثمانينات من القرن الماضي أنهم حققوا قصب السبق في كتابة هذا النمط الشكلاني من قصيدة النثر. ونورد فيما يلي الأنموذج التالي:

" تجتازين أسلاك القلق الشائكة محبوسة الأنفاس، ساطعة كبروق لا تحدّ، تتحلقك آفاق الصمت الزاهية طيورًا تكتسح مفازة دمي؛ فيرفرف قلبي خارطة تموج بالمروج، وتتصاعد سارية الوجد في هذي القصيدة، إذ نتخاصر، نستنشق عيوننا الظمأى نافثين أغوارنا السحيقة، يخفق شراع قلبينا بعنف الهمس، وتنسبل جفوننا المشدوهة كلما نغرف قبلة شاسعة، وبأنامل تختلج بالبعاد نمسّد جسدينا، تعصف أغوارنا بموسيقى تجتاح الرياح، ونحن نمرّغ كلّ المنافي على صدرينا المتساحقين بألف غصة ".

ثمة قصيدة أخرى تحمل عنوان (هيولي حرفين) سنتوقف عندها لأكثر من سبب: الأول هو رغبتنا في الاشارة الى الكلمات الغريبة (الحوشية تحديدًا) التي يوظفها زنكابادي في قصائده، هذا اضافة الى اشتقاقاته اللغوية الفريدة التي لم يسبقه اليها أحد والتي وردت، ليس في هذا النص، وإنما في نصوص أخرى أثرتْ المناخ العام لهذه القصائد، ودحضَ من خلالها ما يصطلح عليه البعض بـ (الكلمة الشعرية) التي تستجيب لسياقات النص الشعري، على افتراض أن هناك كلمات غير شعرية لا يمكن استعمالها في كتابة نص شعري متوهّج.

فكلمة (هيولى) التي ترِد هنا تعني بالانكليزية (Nebulous, Nebular, Chaotic) وهي لاتينية الأصل، غير أن الشاعر زنگابادي الذي أتقن هذه اللعبة قد طوّع هذه الكلمة الأجنبية وكيّفها لسياق نصه الشعري المكثف الذي يشبه الأحجية التي تحتاج الى منْ يفّك ألغازها وطلاسمها. فكلمة (Nebula) تعني باللغة العربية (الهيولى) أو (السديم) أو (المادة غير المتشكِّلة). وهذا التعريف يخدم النص، ويثريه لأن الحرفين (ح) و(ب) ظلا مفترقين لآلاف السنين وكأنهما في سديم متواصل، ثم انتبه زنگابادي إلى امكانية توظيف هذه الحالة الفلكية المُلغزة، على الصعيد الفني في الأقل، فاستحال قلبها نقطة تحت الـ (ح) وقلبه نقطة فوقها، فيما اندمجت النقطتان تحت الـ (ب)، ثم راح هيولى الاسمين يجهر بكل اللغات معلنًا اكتمال ملحمة الحُب على ضفاف (سيروان). وربّ سائل يسأل عن معنى هذه الكلمة الكوردية، فهي تعني بالعربية (نهر ديالى). وعلى الضفة الشرقية لنهر ديالى، وتحديدًا في قرية (زنگاباد) وُلِد شاعرنا المبدع جلال نگابادي لكي يدوِّن لنا هذه الملحمة الإنسانية المباركة.

التعالق النصّي

لابد من الاشارة الى أنّ زنگابادي قد بدأ القراءة والتثقيف الذاتي بوقت مبكر جدًا، وربما كان أوفرنا حظًا لأنه كان يقرأ بخمس لغات: العربية،الفارسية،الكردية، التركية والإنكَليزية (وتعلّم الإسبانية لاحقاً)، بينما نحن أدباء مدينة جلولاء كنا نقرأ باللغة العربية والإنكليزية التي درسناها وتعلمناها لاحقًا. ومَفاد هذه الاشارة أن قراءات زنگابادي لابد أن تجد طريقها الى نصوصه الإبداعية على شكل إشارات وإحالات أو اقتباسات كما هو الحال في قصيدة (يدُكِ) أو غيرها من القصائد التي آثر مبدعها أن تتلاقح بنماذج كونية معروفة. ثمة مقتطف قصير جدًا، لكنه عميق الدلالة، اقتبسه زنگابادي من قصيدة (يدا جان ماري) لرامبو ليكون جزءًا مهمًّا من سياق البنية الداخلية العميقة لنصه الشعري؛ وهذا المُقتبَس يقتصر على الـ (يدين مقدّستين) لجان ماري لا غير! ولكن لننظر إلى حذاقة الشاعر ودربته في هذا المضمار؛ فيدُ المحبوبة التي أخذت القصيدة شكلها ومضمونها هي يدٌ مباركة تنطوي على معجزة ما ؛ فأنامل هذه اليد، المليئة بالأسرار، هي (أنامل عاشقة معشوقة) في آنٍ معًا، وأكثر من ذلك فهي (ترى وتسمع وتتذوق... وتُحيي وتُميت ثم تخلّد هذا الشاعر!). لقد استعمل زنگابادي في هذا النص الشعري المكثّف (27) فعلاً تنطوي جميعها على حركات السماع والرؤيا والتذوّق والمُحاوَرة والصدّ والدعوة والإطعام والتعرية والإكساء وما الى ذلك من أفعال حميمه تصب في مصلحة الشاعر، وتكشف عن حجم الرعاية الكبيرة التي يلقاها من هذه اليد المقدسة الحانية التي بات يعرفها القارئ الكريم وهي يد خولة نوري. ثم يختتم قصيدته بالتساؤل التالي:

{فواحناناه!

" يا يدين مقدّستين"

أأنتما من معجزات الطبيعة أم ربِّ العالمين؟!}

هكذا يكون التعالق النصّي الذي يسهم في إثراء القصيدة وتعميق مضمونها الذي اعتمد على تلاقح البنية الأساسية لمبدع النص وخالقه مع جينةٍ نابضة مُستأصَلَة من نصٍ آخر ينبئ كلاهما بأنهما قادران على الحياة في النص الجديد الذي اقترحه الشاعر الأمهر جلال زنگابادي.

تشترك قصيدتا (هلالُ وقتي) و(حلُم لا يذوي) وقصائد أخرى لاحقة، بمناخ عاطفي واحد؛ إذ يحتل القلب مكانة مهمة في هندسة البناء النصي الرصين الذي يعتمده الشاعر دائمًا في نصوصه الشعرية الآسرة. ولو توخينا الدقة المنظورية لوجدنا أن الشاعر الولهان محاصرٌ من (الجهات السبع)، غير أن هذا الحصار ليس ممضًا طالما أن هلال وقته (يهِّل) من عينيها، ويحدب عليه مثل أم رؤوم، وكلنا يعرف بأن الأم أو العاشقة الحادبة عليه إنما تُظهِر أعلى درجات الحنّو وتكشف عن ذروة عاطفتها الإنسانية النبيلة تجاه الكائن الذي تعلّقت به وتماهت بكينونته الرقيقة، لذلك فهو واثق مطمئن، ولا يخشى الافتراق طالما أنّ (هالة قلبه تحبسُ قلبها). تتكرر هذه الثيمة في مطلع قصيدة (حُلم لا يذوي)، فـ (قلبهُ العفريت) الذي يجرح الاشواك! تجرحه (وردتُها بطيش كنوزها) ومع ذلك فهو يناجيها، ويناغيها لأنها تهبه كل شيء تقريبًا في عالمه العاطفي الذي قد يأخذ شكل النظرات أو البسمات أو العناقات أو القبلات أو الأحلام الى أن يقول في خاتمة النص:

"لا أسعدَ منّا

إنْ استحالَ حلمُنا

في بحبوحةِ المستقبلِ

كوكبًا لا يذوي!"

إذا كان الحُلم قد تحول الى (كوكب لا يذوي) في النص السابق فإن القلب، في قصيدة (ما أجهلني)، الذي يخاله الشاعر فولاذًا سيتمغنط هو الآخر بفعل سحرها الغاوي، وسيتحوّل الى شحّاذ، مرتعد الأطراف في حضرة سلطان جائر! وفي قصيدة (أيّ زمهرير) سيتحوّل قلبه إلى (فريسة) لأن عِشقها (الصقر) قد انقضَّ عليه من شاهق السماء، لكنه أراقَ في عروقه سُمًّا يحيي عظامه الرميم!

كنا قد أشرنا سلفًا إلى أن غالبية قصائد هذا الديوان تتوشح بغلالة صوفية شفافة؛ فزنگابادي يتحرك دائمًا في المساحة المجازية أو الرمزية التي تلي المنطقة الواقعية أو الحقيقية في علم الكلام. وهو لا يميل الى اللغة المُباشِرة التي توثِّق ما تراه بعين تسجيليه؛ فالشعر من وجهة النظر الإبداعية لابدّ أنّ يهّز مشاعر المتلقي، ويحلّق به الى المصاف التي يرتقي اليها الشاعر في أويقات الخلق والإبداع. دعونا نحلل هذا النص الشعري القصير الذي إنضوى تحت عنوان (تالعِشقِ لو...) الذي يرد فيه (القلب) ككلمة محورية وثيقة الصلة بالثيمة الرئيسة للنص الشعري. وقبل الولوج في تفاصيل هذا النص المشذَّب لابدّ من الاشارة إلى أن (التاء) في (تالعِشقٍ) هي حرف جرَ للقَسَم.

بدأ زنگابادي نصه بسؤال صريح لا لبِسَ فيه:

"أليسَ قلبي

أقسى من الحجر

إنْ ينبضَ دون آلاءِ روحِكِ الساحرة؟"

والجواب، نعم، إن أصبح قلبهُ أقسى من الحجر إذا نَبَضَ من دون نِعَمِ روحها الساحرة! فكيف ينبض هذا القلب، وحبيبة قلبه قد فارقته أو نأت عنه لسبب ما؟ ثم يقسم هذا الشاعر الصوفي المدَنَّف بالعِشق صارخًا:

{تالعشقِ لوْ مسّ فراقُك أيَّ صخرة

لَصَرخَ قلبها الأبكم:

-"أغيثوني"

وإلاّ

لِمَ انتحبَ قلبُ الغيمِ

مع قلبي إذْ

ودّعك

في مهبّ الضيم

ذات افتراق؟!}

أشرنا في قصيدة (يدُكِ) الى أهمية التضمين حتى وإن كان عبارة أو صورة شعرية أو بيتًا من الشعر، غير أن هذا التضمين أو الاقتباس يجب أن يكون مدروسًا كي يتم توظيفه بطريقة فنية تخدم النص وتثريه كما هو الحال في قصيدة (أي عجب) التي كتبها الشاعر وهو مسكون بأسطورة (شيرين وفرهاد) الغنية عن التعريف. والذي يطلع على النص سيكتشف أن زنگابادي لم يأخذ من هذه الأسطورة سوى كلمة واحدة وهي (بيستون)، ولكنه يحيل إليها كلها، ولا يمكن فهم القصيدة واستيعابها ما لم يكن القارئ مطلعًا على تفاصيل هذه القصة الأسطورية التي وظفها مؤخرًا المخرج الايراني المبدع كياروستمي فيلمه الجميل (شيرين) ونال استحسان النقاد والمشاهدين على حد سواء. تتمحور قصيدة (أي عجب) على مناشدة قلب المحبوبة، الفكرة التي تكررت كثيرًا، غير أن المعالجة الفنية تختلف من نصٍ الى آخر. ففي منتصف هذه القصيدة نسمع الشاعر وهو يترحّم من خلال كلمة (ويْحكَ) التي تنمُّ عن الوجع الذي يشعر به. ثم يردف تساؤله الأول بصيغة استفهامية ثانية مفادها (أيَّ صخرٍ تكون؟)، أو بمعنىً آخر: من أي صخرٍ قُدَّ قلبك الصلد هذا؟ ثم يلعن هذا القلب حينما يخاطبه قائلا:

"تبّاً لك

حتّى لو كنتَ جلموداً أصمَّ

لَشقّكَ شعري

فأيّ عجبٍ

إنْ رثاني"بيستون؟!"

وإذا كانت أشعار زنگابادي قادرة على أن تشّق هذا الجلمود الأصمّ الذي لا يختلف كثيرًا عن جبل (بيستون) الذي شقّه العاشق فرهاد تلبية لطلب معشوقته شيرين " فأي عجب أو غرابة إذا رثاه هذا الجبل محوّلاً إيّاه الى أسطورة تتناقلها الألسن على مرّ الأزمنة.

سنكتفي بهذا القدر من التحليل المنهجي لبعض قصائد ديوان (ها هي معجزتي!) لجلال زنگابادي آملين أن تُتاح لنا فرصة أخرى لاستكمال هذه الدراسة النقدية التي خففت عن كاهلي وطأة الاحساس بالمسؤولية والتقصير تجاه شاعر مبدع ووفي لتجربته الشعرية التي تمتد إلى أربعة عقود بذل خلالها جهودًا أسطورية في القراءة واكتشاف الذات والعالم قبل الولوج إلى مملكة الكتابة التي أمدّته بإكسير الحياة.

نخلص إلى القول إن قصائد جلال زنگابادي لا تقتصر على الحُب بوصفة ثيمة شعرية أو بؤرة ارتكازية للنص الشعري الذي يكتبه، وإنما هناك طبقات أُخرى؛ إذ يمكن تلمّس النَفَس الصوفي كما أشرنا. وليس عصيًا على القارئ الحصيف الذي يستطيع تفكيك النص إلى عناصره الأولية المكونة له، أن يفهم الصياغات والبنى الشعرية التي اجترحها الشاعر بما تنطوي عليه من رموز وإشارات ودلالات سياسية واضحة خصوصًا وأن الشر في قصائده يأخذ شكل الطغاة والجبابرة أو الصلبان المعقوفة ذات الدلالة النازية الصريحة التي كانت تطمح في السيطرة على العالم بحجة الحكاية المزعومة التي تدعي بتفوق الجنس الآري.

***

عدنان حسين أحمد

معالم الدولة الديستوبيا الدينية في الرواية القصيرة جداً (مذكرات كلب) للأديب حميد الحريزي

المتن الروائي يمتلك براعة فائقة في الجانبين: الصياغة الفنية في شكلها الحديث المتطور في جنس الرواية القصيرة جداً، ومن جانب التداعيات الرمزية في التعبير الذي يحمل دلالة واشارات البليغة المعنى والمغزى، في بعد رؤيتها في الجانب الفكري والسياسي والاجتماعي والديني، بأنه يغور في العمق التناول الشجاع في كشف العيوب التي تقود في انحراف الحق والعدالة باسم الدين من قبل اصحاب العمائم الدينية المزورة والمنافقة. التي كشفت عن مضامين جوهرها الحقيقي بدون اقنعة.تشكلت في محطات هذه الرواية القصيرة جداً، هذا الوليد الحديث خرج من رحم الرواية، في الصياغة المركزة والمكثفة، والترميز البليغ في رسائلها الساخنة والملتهبة، في عمق المعنى الدال من صلب الواقع ومعطياته، و بما تحمل من معاني ومفردات متنوعة الجوانب، وفي تداعياته تجلياته المكشوفة وغير المكشوفة، بل السرد يغوص في أعماق الأسرار والخفايا القصر الحاكم والناهي الاكبر، يعطيها البعد الرمزي و دلالته، في سبيل إيقاظ العقل من سباته بالرنين المدوي الذي يثقب طبلة الأذن، لقد وظف الاستاذ حميد الحريزي بما يملك من طاقات مبدعة ومحاولات تجريبة خلاقة في السرد الروائي، أن يوظف ويشتغل على هذا الجنس الجديد، الذي يسمى (الرواية القصيرة جداً) ويحمل ريادته من خلال أعماله الروائية المتعددة، في فن السرد الروائي الحديث العراقي، وهذا الشكل الأدبي الجديد، يحمل كامل مواصفات الرواية الكاملة. ولكن براعته الفنية تجاوزت، بأنه وظف لسان المتكلم بشخوص الحيوانات في احدث السرد، أن تكون هي الفاعل والمحرك في المتن الروائي، وهذا الجنس الأدبي في توظيف الحيوانات في السرد الروائي، هو أدب قديم منذ زمن الاغريق وحتى اليوم، مثل رواية (مزرعة الحيوان / جورج اورويل) بأنه وظف روايته السياسية بشخوص الحيوانات، بالضبط مثل ما فعل الاستاذ حميد الحريزي وظف روايته السياسية برسائلها المتعددة الجوانب بشخصية (الكلب) في تدوين سيرته ومذكراته الحياتية، لكي يعبر عن الواقع وارهاصاته والمحركات التي تقوده وتتحكم به، بدون شك أن معطيات وانطباعات جنس الرواية القصيرة جداً، تلبي متطلبات العصر الحديث، الذي تتحكم به السرعة والاختصار الشديد دون مطولات سردية. ومذكرات الكلب تفتح باب للحوار والجدل والمناقشة، في تأويل شفرات الرمزية، التي امتلأت في ثنايا السرد الروائي، في تقنياته الحديثة ورؤيته السياسية والايديولوجية، التي سلطت الضوء الكاشف في الخداع والدجل والنفاق في جبة الدين من اصحاب العمائم المزورة قلباً وقالباً، التي تأخذ معالم شكل (الديستوبيا) في الدولة الدينية، بكل بساطة استخدم رمزية الكلب في سرد مذكراته، لأن الكلب معروفاً بطابع الوفاء والامانة، وعدم الخيانه الى ابناء جنسه أو جلدته، مهما انحرف سرعان ما يعود إلى رشده الى احضان أبناء جنسه، ولكن لهذا الرجوع ثمن باهظ، بينما نجد جنس البشر بسهولة جداً ان يخون ويتنكر الى ابناء جنسه وجلدته، بل يقف بالمرصاد لهم في الموقف المعادي، ويتباهى بهذه العدوانية والدونية، والخاصية العدوانية الخبيثة في جنس البشر، غير موجودة في جنس الكلاب، وتدور عجلة السرد في البداية، هو ما أحدث صدمة للكلب (حنفوش) بعد موت رفيقه (ابو عليجة) فبعد انتهاء مراسيم التشيع والدفن من قبل اهالي حي التنك، اقسم الكلب (حنفوش) فوق قبر رفيقه قائلاً (يا أخي لم تسمح لي الظروف ان اجيب على سؤالك لي، منْ أنا وكيف وصلت الى حي التنك؟ سأخبرك بكل التفاصيل التي لا تعرفها عني وانت في قبرك، وقد ألحق بك قريباً) ويبدأ بسرد تفاصيل حياته في مذكراته اليومية، منذ أن كان جرواً اختطفوه من الشوارع، وجلبوه الى بيت السيد الكبير، الذي أوصى بالاعتناء به وتربيته و تدجينه من اجل ان يكون من جوقة الحاشية والاعوان، أن يكون من الجوقة الببغاوية، التي لا تعرف سوى العظمة والتمجيد السيد صاحب القصر، الذي يملك الصولجان والجاه والنفوذ والمال الحرام، وبذلك ادخلوه في حضيرة القطيع، وعرضه على الطبيب البيطري، في التحليلات الطبية، وزرقه ببعض اللقاحات، وإعطاءه بعض الإرشادات الطبية والصحية الضرورية، ليكون سليماً وقوياً بالصحة والجسم المتعافي، وقاموا الخدم بالواجب حسب التعليمات (أمر الخدم تحميمي وغسلي جيداً بالشامبو والصابون المعطر، وتخصيص مكان خاص لي واطعامي، مما أثار استغرابي كثيراً، هل أنا في حلم أو علم، ما هذه اللحوم وماهذه العناية الخاصة والروائح العطرة أطعمت واكلت الكثير من اللحوم الحمراء والبيضاء، وقد كنت احلم بعظم مكدود وبعظام سمك ترمى لي من قبل اسيادي الفلاحين الفقراء في القرية، كنت اغتسل في ماء النهر الخابط، ولا اعرف معنى الصابون ناهيك عن الشامبو!!؟) لذلك انتقل من حالة التشرد والفقر والبؤس، الى حالة راقية من البذخ والنعيم، بالضبط مثل حالة اباطرة اليوم بما يتنعمون من الرفاه والرخاء المتخم، بينما كانوا بالأمس في حالة بؤس وفقر مدقع سواء كانوا في اوربا أو في ايران، هذه الطفرة الهائلة لم تخطر في بالهم حتى في الأحلام، ولكن تناسوا وتجاهلوا حياة الفقر والمعاناة في المعيشة الصعبة والقاسية (اقف احياناً أمام القرويين التعساء وخاطبهم :

- انتم محرمون من أكل لحم الطير والاسماك والدجاج الذين تربونه في بيوتكم ولكنكم تأتون به لهؤلاء المكرشين الأثرياء المتخمين بشتى أنواع المأكولات التي لا تعرفون انتم أسمائها أو طعمها وشكلها) هذه المفارقة الاجتماعية غير العادلة، ولكن غشاوة العقل بالبصر والبصيرة، لا ترى ولا تسمع ولا تفهم ولا تدرك، لأنهم في حالة التخدير الببغاوية (فيا لكم من بؤساء كل ما تصبون اليه كسب رضا اسيادكم، الذين كل ما يفعلون هو الإمعان في استغلالكم وامتصاص دمائكم ودماء عوائلكم) لم يتوقف السادة الأباطرة على البذخ والنعيم، بل انغمسوا بالمتعة الجنسية في الليالي الحمراء، ويغدقون المال الوفير دون وجع ضمير ومن ضلع البسطاء والتعساء، ولكن الغريب في الأمر، ان يتركون زوجاتهم بحرية ان تتبرج تتجمل بالالوان الفارقة، وتتزين بالذهب والمجوهرات والحياة المزينة بالالوان الوردية، بينما يحرمون المرأة من كل شيء بسيط بشكل صارخ في الانتهاكات، وتزويج القاصرات الصغيرات دون ارادتهن ورغباتهن بحجة المحافظة على الشريعة والناموس. والكلب (حنفوش) يفضح أسرار ما يدور في داخل قصر السيد الكبير من فضائح ومهازل خالية من السلوك السليم ومنطق المعقول، ويتمادون في حالة الذل والإذلال والمهانة لجنسهم من البشر، حتى يحرمونهم من حق الحياة والعيش الكريم. بل نجد شرائح من الفقراء تعتاش في رزقهم اليومي، في البحث في حاويات الأزبال، وهم في بذخ النعيم والحرير في فردوسهم المرصع بالذهب والدولار، ويكونوا سيفاً قاطعاً وحاداً لكل من يتذمر على المعاناة، لكل من يطلب بحقوقه الشرعية في الحياة والعيش، لكل من يرفض حالة البؤس والتعاسة، والمسحراتي يدق طبلته في استيقاظ النائمين في سبات نومهم (يا ناس اكعدوا، انباكت بيوتكم وانتهكت أسراركم) و(يا ناس اكعدوا سرقكم الحكام وخذلكم الإمام، فالى متى تبقون نيام). ولكن خناق الازمة الحياتية، ترفع رصيد التذمر الى حالة الغليان العارم الى الاعلى، ولكن تواجه بالعنف المفرط، كل من يرفع صوته بالرفض والتذمر، توجه إليه التهم الجاهزة في قوالبها، نجس. كافر. ملحد. عدو الله والدين، ولا يؤمن بالله الخالق عدو الدين والإنسان والوطن، يقويض الأمن والنظام، وبذلك يحق شرعاً قتله أو اغتياله، او قطع لسانه أو يديه، او غربلة جسمه بطلقات الرصاص، لانه يهدد دار السيد المأمونة. حتى لو كان الامام علي (ع) حياً لقتلوه شر قتلة واتهموه بشتى الأوصاف التي تبيح القتل والاغتيال، و يسترشد بقول الشاعر مظفر النواب (أنبئك علياً.. لو جئت اليوم لقتلك الداعون اليك وسموك شيوعياً).

هذه معالم الدولة الديستوبيا. ولكن احد الابطال من حي التنك تبول على تمثال الرئيس، وهذا يعني تجاوز الخط الأحمر في التجاوز الخطير، ويفتح باب العنف والإرهاب، لاجهاض كل بادرة إشعال شرارة قد تكون صغيرة، ومن يمكن ان تتحول الى بركان من الغضب الساطع في الساحات والمدن، لهذا السبب الخطير، اصدرت مديرية الامن العامة بياناً تحذر بشدة، لكل منْ تتسول له نفسه بالتطاول على بيت السيد أو الرئيس القائد، وكل منْ يتجاسر يكون نصيبه الموت والاختطاف والاغتيال. وضمن هذه الاجواء الارهابية المرعبة، اصبحت حياة الكلب (حنفوش) في خطر جسيم، لانه خرج من باب الطاعة وحضيرة القطيع، واصبح يحرض ضد بيت السيد الاكبر، وكانت عاقبته الموت المتوقع. كما وعد رفيقه (أبو عليجة) عند قبره بأنه سيلتحق به قريباً (في صباح اليوم التالي وجد عمال القطار، وبعضهم من سكنة حي التنك، جثة مهروسة على سكة القطار، فقرر احدهم دفنه الى جوار قبر رفيقه (ابو عليجة)، ولكن هؤلاء الاباطرة ينسون أو يتناسون الحكمة الصاعقة، لكل ظالم وطاغي، بأنه لا يمكن الانفلات من المصير المحتوم (لو دامت لغيرك لما وصلت اليك)

***

جمعة عبدالله

شاعر ابهى من فلوات، واكبر من حزن بلاد. يعشقه القاصي شعراً، والداني روحاً. يحلم بالدفء منذ الطوفان، ويشعل كل مصابيح الروح للغيمة الآتية من خلف الأفق يستجلي منها أخبار بلاد كانت يوماً وطناً للشعراء وداراً للغرباء. يسألها هل نسيته الأنهار؟ وماذا عن تلك الأحجار فوق القمة المغروسة في أعمق أعماق الروح. يسألها هل من شاهد على ضياع العمر الجميل؟

إن دراسة دقيقة لنتاج الشاعر العراقي عبد الستار نورعلي يجعل من الصعب وضع خريطة لشعره. فهو شاعر متنوع للايقاع ذو امتدادات واسعة في المساحات، وخاصة مساحته الذهنية التي تستند على خزين ثقافي كبير. إن نظرة متأنية لشعراء الخمسينات والستينات العراقيين وحتى السبعينات تبين بوضوح أن أكثرهم خرجوا من تحت رداء شاعرين أو ثلاثة. فمعظم الشعراء تجد في شعرهم آثاراً واضحة للبياتي وبعده سعدي يوسف وقبلهم السياب. وأحسب أن الشاعر عبد الستار نورعلي من الجيل الذي يفترض أن يحسب على جيل ما بعد أولئك الرواد، لكن من الصعب أن تجد أثراً لشاعر آخر في شعره، فهو يختلف عن الآخرين.

إنه لم يتفيأ تحت ظلال شاعر آخر وذلك يعود لأسباب عديدة منها: أن بدايته القوية كشاعر كانت مع الشعر العمودي، وهذه المرحلة أخذت مساحة زمنية ليست بالقصيرة، حيث كان في منأى عن المشاركة في عملية التحويل الى الشعر الحديث، ولم يكن طرفاً في اللغط الدائر حول موضوعة الحداثة. ولكن كان له رأي بما يجري.

وثانياً لم تسكنه الجغرافيا فتترك آثارها فيه. فكما هو معلوم أن المكان يلعب دوراً كبيراً في صياغة وعي وسيكولوجيا الشاعر. فخصائص المكان تتجلى في نتاج الكثير من الشعراء. أما نورعلي فقد سكن كمبدع في جغرافية روحه القلقة المضطربة. هذا القلق انجز أهم قصائده. فهو ابن بغداد التي ولد فيها، وطاف في أزقتها، وعانقها حد العشق المتوحد في الذات، وهو المسكون بالهوى العراقي، وفي ذات الوقت يضمد جراح الجبل الذي يعانق الغيمة، والذي يتحدث عن حق مغدور لأمة ينتمي اليها الشاعر، وانتماؤه الكردي هذا ليس عرقياً بل انتماءاً للقصيدة وانتماءاً للحق الانساني في الوجود الكريم:

أيا مطرَ الربيعْ

اغسلْ وجهَ العراقْ

ونقِّرْ على جبهتي قطرةً بعد قطرهْ

تباركَ اسمُ العراقْ

تباركَ مَنْ سالَ دمُهُ

على جذع نخلةٍ في الفراتْ

تباركَ مَن طارَ جذعُهُ

شظايا

على قمةٍ في الجبالْ

تبارك كلُّ مَنْ صاحَ

ياعراقْ ...!

إن تفحصاً دقيقاً لنتاج الشاعر نورعلي يجعلنا نطوف في عوالم مختلفة ونقف أمام مفردات لها انتماءات خاصة. فالقصيدة بالنسبة له ليست مشروعاً هندسياً تهيأ له المستلزمات بل هي لحظة من الطوفان ثم تسكن. يقول عن ولادة القصيدة عنده:

ــ في لحظة الابداع والكتابة لا تحضرني سوى اللحظة التي احياها بكياني وجوارحي، فالمبدع يغرق فلا يحس الا وهو بين الموج فيعوم ويحاول اصطياد ما يضطرب في قاعه ويتفاعل دون احساس منه.

لذا تراه يحاول جاهداً الحفاظ على تلقائيته كشاعر. فهو يسلم قياده للحظة المخاض الشعري وما تأتي به، فيضع جانباً كل ما يقوله الآخر وما ينظر اليه. المهم أن لانترك العقل يتدخل بحدة خوفاً من أن ينقطع الخيط بين المبدع والنص. إن عبد الستار نورعلي يخشى كثيراً من أن يسقط الابداع اسير الاصطناع خوفاً من (شرخ العفوية والانسياب والتدفق التلقائي للتجربة المخزونة الضاغطة).

في قصيدة (المسلة العارية) يستخدم الشاعر مفردات شائعة في النص الديني، لكنه يخضعها لفلسفته الخاصة، ويجعل منها أقرب الى بناء صوفي. ففي هذه القصيدة التي أسميها (تراجيديا الحيرة) يفلسف الشاعر غربته ويبدأها بحلم:

يستبطنُ الليلَ فيُلقي على

ظلالهِ آثارَ ريح المكانْ

فيحتويهِ الرهانْ

ينقله من مسرح الرؤيةِ في حوزةٍ

مليئةٍ بالصبواتِ الحسانْ

ينامُ في الظلِّ وفي لهفةٍ

يبحثُ عن شمسٍ وعنْ أرجوانْ

الشمسُ تغفو خلف حدِّ المدى

غارقةً في لجِّ هذا الزمانْ

إن هذه البداية تتجلى فيها تأثيرات شعره العمودي. لكنه يتدارك ذلك في المقطع الذي يليه والذي يتناول فيه مشكلة اليومي، منفاه الروحي، وعدم تجانسه مع السائد الذي يحيط به، فتراه محاولاً أن يرتب قلقه:

يستبطنُ الليلَ، أيا نجمةً

سائرةً

دون نجوم السماءْ

حائرةً

ترحلُ بينَ الفضاءْ

*

رُدِّي ففي بعض الصدى نسمةٌ

تعانقُ المشهدَ والليلَ

وفصلَ الرداءْ

إن هذه النجمة التي تسكن في الترحال والحائرة هي الشاعر نفسه. أما نهاية القصيدة فهي تلخيص للخاتمة غير المنتظرة لما آلت اليه الأشياء والأشلاء. لقد صاغها ببناء فيه الكثير من الشفافية وبظلال وارفة من الحزن الشفيف:

ياصورةً تنهضُ مِنْ وجههِ

تسيل في الحبِّ صدى العنفوانْ

فيكِ مسراتٌ هوتْ

وانزوتْ

بينَ مصاريعِ كتابِ الأمانْ

في ليلةٍ دارتْ على فُلكها

وطاردتْ نوازعَ الالتقاءْ

يستبطنُ الليلَ وفي ليلةٍ

بيضاءَ فيها الأرضُ لونُ الضياءْ

والشجرُ الوارفُ في صمتهِ

مسلةٌ عاريةٌ عن رداءْ

أما في صرخته التي اسماها (الفيليون) فتختلف فيها المفردة اللغوية اختلافاً كبيراً عما في باقي قصائده، فنحن هنا أمام نسيج شعري ذي صورة تراجيدية حادة ومفردة قاسية وجرس شعري يدخلك في عالم من الحماسة لتتبع الفصل الدامي في تاريخ الأكراد الفيليين. هنا يحول الشاعر قصيدته الى ملحمة يرزم فيها تاريخ شعب لا تنتهي هجرته:

فتتابعت فيكم رياحُ الهجرِ

مثلَ تتابعِ المطر الغزيرِ

...........................

في كلِّ فصلٍ هجرةٌ محسوبةٌ

بكتاب سفيانٍ صغيرِ

لا يرتوي من صاعقاتِ النار

أو من ذبح معشوقٍ وليدِ

*

أما بداية القصيدة فأشبه بالطوفان:

الأرضُ تلفظ كلَّ يوم جثةً

وتعيد مهزلةَ الجريمهْ

الأرضُ كلُ الأرض مِرجلةٌ أليمهْ

إنها القيامة التي يراها عبد الستارنورعلي ونراها من خلاله. يعود ليخاطب أبناء قومه:

ياأيها القومُ الموزعُ نسلُكم

ما كنتمُ ضمنَ الخطوطِ الخضرِ

في الأمم الكبيرهْ

فتناوبتْ فيكم سيوفُ الناسِ

كلٌّ يعتلي سقفَ الجريمهْ

ليفاخرَ الدنيا بمعزولٍ عن الأحلافِ والدياتِ

لا يقوى على صدِّ القبيلهْ

إن ما يميز نتاج هذا الشاعر المبدع هو أنّ القصيدة عنده تمتاز بالجزالة، وهذا يعود الى تمكنه من البناء الكلاسيكي للقصيدة ومعرفته الدقيقة بقاموسيتها اللغوية. كما تمتاز القصيدة عنده بأفعالها الدرامية المؤثرة وبنائها البصري ذي الجمالية العالية. فالقصيدة عنده أقرب الى الملحمة. انها تحكي حدثاً مصاغاً عبر بناء بصري، ثم يوصل كل ذلك عن طريق اللغة ذات الشفافية العالية. اللغة عند شاعرنا وسيط يوصل الحالة المعبر عنها بالصورة الشعرية وليست الاساس في القصيدة. فهو لا يعتبر اللغة هدفاً، وهذا ما يجعله مختلفاً عن الكثير من الشعراء المعاصرين الذين يعتبرون الشعر لغة أولاً. ولذا عند متابعة نتاج الشعراء الجدد – وما أكثرهم – ترانا في لجٍّ من المتلاعبين بالمفردة وكأن تزويق الكلمات والحذلقة هي صنعة الشعر الآن. وعليه فأنت تراهم يشبهون بعضهم البعض كثيراً.

أما الميزة الأخرى في نتاج الشاعر عبد الستار نورعلي فتتعلق بشكل القصيدة، فإنه كما اسلفنا لا ينظر للقصيدة مشروعاً على الورق. لأن التنظير ليس مهمة الشاعر. فالنص الشعري عنده يأتي كنتاج لحالة تأزم خاصة لا يصطنعها بل يعيشها، وربما هذه الحالة لا تأتي باستمرار، فشكل القصيدة ومحتواها انعكاس الحالة وحجم تأزمه فيها. إنه من غير المستطاع تبويبه، فهو لا ينظر للقصيدة لكنه يدرس تجربته دائماً. حيث ان الشاعر الحقيقي لا يكون انعكاساً للآخرين ولا يشبه نفسه، أي لا يكررها.

إن تنوع اشكال القصيدة عند نورعلي يعود الى التراكم الكبير في تجربته الثقافية كقارئ وكشاعر متتبع لنتاج الآخرين ومعاصر لإشكالات عصره وخاصة ما يتعلق منها بالشعر. أما العمق الذي نحسه ونلمسه في معظم قصائده فيعود الى الخزين المتراكم لتجربته الخاصة الذاتية. فالاحداث التي عاصرها وعايشها تركت في شعره آثاراً واضحة. فهو لم يقفز فوق الأحداث بل الاحداث لها حيز كبير في شعره. ان مجتمعنا العراقي وعلى مر التاريخ اشبه بمرجل نار لم يهدأ أبداً. من يطفئ هذا المرجل؟ إن من يحاول سيسكنه المنفى ثم يعود ليتخذ المنفى وطناً. ثم يضيق هذا الوطن ليصبح بحجم غرفة صغيرة. ولا يجد الشاعر وسيلة للبقاء الا الاحتماء بالثوابت.

هناك ثمة قيم ينبغي الحفاظ عليها حتى تكون الحياة قابلة للعيش. وعبد الستار نورعلي ذو ثوابت انسانية عالية، فهو يمجد مثلاً (أحلام) المرأة الآتية من بين قصب الأهوار في جنوب العراق لتستشهد في ذرى جبال العراق دفاعاً عن الحق بنفس الحماسة التي يمجد فيها كردياً يحترق خلف صخرة ويترك كيس التبغ تعبث به الريح .... ففي الأرض متسع للجميع، والبطولة لا تحدد بمكان:

امرأة من قصب الأهوار

تفترش الرمل الأحمر في فوهة الكهف

بين حنايا كردستان

بين الثلج وبين النار

تلتقط

حبة رمل فتقبلها

تحرس قبلتها

تنحت صورتها

في القلب الرابض بين الجبل

وبين نخيل الأهوار

أما الجانب الآخر في نتاج عبد الستار نورعلي، وهو الشعر العمودي، فهو يحتاج حقاً الى دراسة مستفيضة. فالقصيدة العمودية عنده تمتاز بالبناء المتراص والجزالة العالية. هذه الجزالة لا تعود الى استخدامه المفردة الكلاسيكية مع أنه متمكن منها، لكن الجزالة تعود الى اختياره الدقيق للمفردة المعبرة بكثافة الحالة الحدثية التي يسردها بتتابع صوري يجعلك أشبه بمتابع لأحداث فيلم لا يمكنك التوقف عن متابعتها. ففي القريض من شعره نرى حالة من السمو تجعله في مصاف الكلاسيكيين:

لا يُصلحُ الوجهَ القناعُ فمرتديهِ مقيتُ

صبّوا الكؤوسَ فإنني في الشاربينَ لَحوتُ

مَنْ يملأ القدحَ الشرابَ وعاقروهُ سكوتُ؟

فأنا البحارُ أنا السفائنُ في الخضمِّ أفوتُ

لم أخشَ من لبسَ الوقارَ رداؤهُ الكهنوتُ

لا فرقَ بينَ العرشِ او مَنْ في الكفافِ يموتُ

وكذا في قصيدته التي يعارض فيها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري:

أأبا فراتٍ، والجراحُ   فمُ

وعلى السيوفِ من الجراح دمُ

*

إنَّـا على حالين تجمعنا

لغةٌ تحلِّقُ ثم تضطرمُ

*

إنّا  على  حالينِ يُثقلُنـا

همٌّ يصولُ وليس ينصرمُ

*

همٌّ تكابدُهُ على سَفَرٍ

بينَ القوافي نارُهُ ضرَمُ

*

وأنا هنا حالانِ ما افترقا

نفسٌ تذوبُ ورؤيةٌ سَأمُ

***

كتابة: جودي الكناني

يضعنا الكاتب نايف خوري في كتابه "السّيرة الحرفوشيّة: آل خوري-  إقرث" أمام إشكاليّة الجنس الأدبيّ حين نرى كلمة "رواية" مكتوبة في أسفل الغلاف. علمًا أنّ هذه الإشكاليّة ما كانت لتتواجد لو كان عنوان الكتاب "السّيرة الحرفوشيّة"، ولكنْ إضافة "آل خوري-  إقرث" تُضفي عليه الصّبغة الواقعيّة والبعد الحقيقيّ. بمعنى، هذه سيرة حقيقيّة، بغضّ النّظر عن كونها سيرة غيريّة أو سيرة ذاتيّة (كون الكاتب ينتمي إلى عائلة خوري). بالمقابل، الرّواية هي عمل فنّيّ تخييليّ. فهل يجوز لكاتب السّيرة أن يُوظّف الخيال في نصّه؟ نعم. ولكنّه خيال مُقيَّد، في حين ممكن أن تعتمد الرّواية على الخيال المُطلق.

إنّ هذه الإشكاليّة تقودنا إلى قضايا كثيرة متشابكة ومُتداخلة ما بين الرّواية والسّيرة. والسّبب في ذلك، الإشكالات التي تُواجه الباحث عند الاقتراب من موضوع السّيرة، تكمن في تعدّد تعريفاتها واشتباكها وتداخلها مع العديد من الكتابات المجاورة، وصعوبة التّمييز العلميّ النّهائيّ بين هذه الكتابات كالرّواية والمذكّرات والسّيرة الغيريّة واليوميّات والاعترافات وغيرها.

 تتشابك السّيرة كذلك مع التّاريخ، نظرًا إلى أنّ السّيرة بنوعيها: الذاتيّة والغيريّة، فيها بعض ملامحه، بل إنّها في بعض الأحيان تقترب منه إلى درجة تجعل بعض الدّارسين يعتبرونها لونًا من ألوان التّاريخ. وإذا طبّقنا هذا على كتاب نايف خوري، نجده يروي قصّة تاريخ عائلة خوري، خاصّة أنّه يتحدّث عن الخوري سمعان حرفوش في نطاق المجتمع، ويعرض أعماله متّصلة بالأحداث العامّة، أو منعكسة منها، أو متأثّرة بها، فإنّ الكتاب/السّيرة، في هذا الوضع، يُحقّق غاية تاريخيّة.

والسّؤال: هل يُسمح للكاتب إدخال عنصر الخيال إلى التّاريخ؟ كلّا. لأنّ ذلك يُعدّ تشويهًا للحقائق وتزويرًا لها. ويبدو أنّ نايف خوري واع ومدرك لهذا الالتباس الذي سيواجهه القارئ. وعليه، فقد اهتمّ بنفي كون كتابه تاريخيًّا توثيقيًّا، فيقول إنّه: "رواية غير توثيقيّة ولا تاريخيّة، لكنّها جاءت من بنات الأفكار والخيال، مع الاستناد إلى بعض المعلومات التي استقيتها من المصادر" (ص 10). ونظرًا إلى تعدّد الرّوايات عن أصل عائلة حرفوش، كما يقول الكاتب، وتعدّد فروع العائلة وانتماءاتها الدّينيّة، كان لا بدّ للكاتب أن يختار الأسلوب الرّوائيّ الذي يُتيح له المزج بين الحقيقة والخيال. وبالتّالي، يُجنّبه أيّ اتّهام أو ادّعاء ممكن أن يكون.

إنّ من أبسط الأمور التي تدفع الإنسان إلى كتابة سيرته الذّاتيّة، رغبته الفطريّة بالخلود. وهذه الرّغبة تشتدّ عنده عندما يشعر بالتّفرّد والتميّز. كذلك الأمر بالنّسبة للسّيرة الغيريّة، التي تتطلّب أن يكون بطلها شخصًا ذا تميّز واضح في ناحية من النّواحي، يجعله هذا التميّز إنسانًا يستحقّ البقاء. وهذا ما رآه الكاتب نايف خوري في شخصيّة الخوري سمعان حرفوش الذي يعود جذر عائلة "الخوري" إليه، كما أخبره جدّه (جدّ الكاتب). وهو الذي بنى كنيسة إقرث وخدم رعيّتها حتى وفاته عام 1886. بحث الكاتب عن عائلة حرفوش في كتب التّاريخ والمصادر المتنوّعة واستمع إلى شهادات أشخاص من العراق وسوريا ولبنان، فجمع معلومات عادت به إلى نحو ألف سنة في عمق التّاريخ، بيّنت له أنّ عائلة حرفوش واسعة الانتشار، متعدّدة الأديان والطّوائف، وأنّ فرع عائلته ينحصر في أهالي بلدة إقرث، الذين هم أبناء وأحفاد الخوري سمعان الذي جاء من بلدة خبب في سوريا، وتمّ تعيينه كاهنًا لرعيّة إقرث بطلب من مطران مدينة صور. بقي الخوري سمعان في إقرث إلى يوم وفاته، ودُفن في الكنيسة. أمّا العائلة فبقيت في إقرث حتى عام 1948، عام النّكبة التي ألمّت بالشّعب الفلسطينيّ، فهُجّر سكّان إقرث إلى قرية الرامة ومنها إلى عكا وحيفا والناصرة وشفاعمرو وغيرها.

تتأكّد قدرة الكاتب على صياغة سيرة عائلته في قالب روائيّ حين يُدخلنا إلى الأجواء الرّوائيّة عبر السّرد الجميل منذ الصّفحة الأولى في الكتاب فيقول: "لم يُغمض الشيخ نايف عينيه طيلة الليل، الأفكار تتوارد متسارعة، والهمّ كبير، تختلط الحسابات التي يجريها بعضها ببعض. حاول النوم على جنبه الأيمن، لعلّ أفكاره تستقرّ، وتهدأ روحه ...." (ص 20). وينجح الكاتب في إحداث عنصر المفاجأة حين يتبيّن للقارئ أنّ المتحدّث/الرّاوي هو السّراج، فيحدث كَسْر لتوقّعات القارئ من شأنه أن يخلق تفاعلًا بينه وبين النصّ، يشدّه إليه ويُثير فيه الرّغبة في متابعة القراءة. يستمرّ السّراج في لعب دور الرّاوي حتى ص 92. يُعرّفنا الكاتب عبر هذه الصّفحات إلى الشّيخ نايف حرفوش، زعيم قبيلة حرفوش وشيخها، الذي يقود قافلته من شمال العراق غربًا إلى مدينة تدمر، ساردًا وواصفًا المخاطر التي تعرّضت لها القبيلة أثناء رحلتها من هجمات قطّاع الطّرق ونشوب المعارك ومواجهة العواصف، مُبرزًا بطولة أبناء الشّيخ نايف وشجاعتهم في التّصدّي لها. وإذا عدنا هنا إلى مسألة الحقيقة والخيال، نرى أنّ هذا الفصل، المتعلّق بالشّيخ نايف وأولاده، بأكمله من وحي خيال الكاتب ولم يكن لشخصيّاته وأحداثه وجود على أرض الواقع.

في تدمر يحدث انقطاع في الزّمن عن كلّ ما ذُكر في الصّفحات السّابقة، ولا يعود الكاتب إلى ذكر قبيلة حرفوش بالمرّة، ولا حتى عرس ابن الشّيخ نايف الذي كان مُنتظرًا أن يُقام في تدمر. يخبرنا الكاتب أنّ عائلة حرفوش اشتهرت في تدمر، وأنّها اختلطت بالسّكّان المحليّين هناك حتى صار منهم المسيحيّون والدّروز والمسلمون. جدّهم الأعلى الأمير حرفوش الخزاعي، المطبّب سمعان حرفوش الذي كان يزاول الطبّ الشعبيّ، المهنة التي ورثها عن جدّ جدّه الشيخ نايف، المطران أنطون حرفوش، والأمير موسى حرفوش-  زعيم آل حرفوش في تدمر، الذي أولته الدّولة العثمانيّة مسؤوليّة المدينة.

نستطيع أن نُشير إلى عدّة نقاط ومواضيع برزت في تضاعيف الكتاب، منها:

- علاقة الصّداقة والأخوّة بين المسلمين والمسيحيّين مُمثّلة بصداقة الأمير موسى حرفوش مع الشّيخ محمد العبد الله شيخ تدمر، وكيف كانوا يتعاضدون ويتّحدون في الأزمات والكوارث.

- الجوّ الدّينيّ المسيحيّ الذي يطغى على الكتاب، خاصّة في سياق الحديث عن المطران أنطون حرفوش في مواقف مختلفة منها: الصّلاة وقت الصّعاب والأزمات. يقول: "أمّا المطران والذين احتموا معه في الكنيسة فشرعوا يصلّون صلاة المدائح لوالدة الإله العذراء مريم. ارتفعت أصوات المصلّين الجاثين منهم والواقفين مع صوت قرع الأجراس وهم يتضرّعون ويتوسّلون إلى العذراء مريم، التي صانت المدينة المقدّسة من قبل، كي تحمي هذه المدينة وأهلها" (103). كذلك وقت الطّعام: "كان يرسم إشارة الصليب مع كلّ لقمة يضعها في فمه وكلّ جرعة ماء يشربها" (ص120)، صلاة المطران قبل معاودة مهاجمته من قِبل اللّصوص: "أيّها الرب القدّوس، يا من علّمتنا كيف نصلّي، وكيف نطلب منك، امنحني القوّة لكي أحمل صليبك كما حملته أنت، واجعلني قادرًا على مواجهة الأشرار وشرورهم، واجعلهم يتحوّلون عن ضلالهم فيعملون الخير والصلاح والسلام. أنا أسامحهم على فعلتهم، فلتسامحني يا ربّ، واغفر خطيئتي. يا يسوع، ابعد عنّي كلّ سوء وكلّ ضرر وكلّ عمل لا يليق بك. أنت يا ربّ، نجّنا من كلّ حزن وشرّ ووجع" (ص 123). ويأتي مشهد تصدّي المطران للملثّمين الذين هاجموه في الكنيسة ليرسم هالة دينيّة وأجواء روحانيّة أثارت الذّهول في نفوسهم وأدخلت الرّهبة إلى قلوبهم وجعلتهم ينثنون عن فعلتهم. يقول: "أمسك الصليب المعلّق على صدره ورفعه في وجه الملثّمين، وهم ما زالوا مسافة خطوتين أو ثلاث داخل الكنيسة. فقطّب حاجبيه وانطلق من عينيه وميض كشرار النار تشتعل من أحشائه، وصرخ بصوت عظيم هزّ أركان الكنيسة: باسم يسوع المسيح قفوا ولا تتحرّكوا، باسم يسوع المسيح وأمّه العذراء توقّفوا. شعر بغتة بقوّة عظيمة تملأ صدره وتغمر الكنيسة كلّها، وتحيط به هالة من نور، والمطران قد تصلّبت يده وهو يرفع الصليب باتّجاههم" (ص 125- 126).

نقاط أخرى طُرحت في الكتاب مثل:

- معاملة الدّولة العثمانيّة للمسيحيّين.

- شنق بطريرك القسطنطينيّة الأرثوذكسيّ غريغوريوس الخامس المقيم في إسطنبول بأمر من السّلطان العثمانيّ (محمود الثاني)، بعد أن اتّهمه بالفشل في ضبط المسيحيّين اليونانيّين الذين تمرّدوا على السّلطات العثمانيّة. (129- 130)

- إبراز أهميّة قيمة العطاء في الدّين المسيحيّ. وقد أفاض المطران أنطون حرفوش في الحديث عنها أمام آل حرفوش عند اجتماعهم في الكنيسة. وممّا قاله: "إنّ العطاء الجميل هو عطاء معنويّ، غير ماديّ، كمن يعطي كلمة عزاء لإنسان حزين، أو كلمة تشجيع لمن هو يائس أو واقع في ضيق، أو يعطي عبارة حنان لطفل يتيم". (ص 97)

- أسلوب الوصف برز بشكل واضح في الكتاب، وهو متداخل مع السّرد في غالبيّته. ولعلّ وصفه لوقوع الزلزال في تدمر كان الأجمل والأكثر وقعًا في النّفس عبر استخدامه للمفردات والتّعابير التي تُثير عاطفة القارئ وحزنه: "فزعت العصافير في أعشاشها وحلّقت في الجوّ، وحامت الغربان، وأسراب الحمام طارت من مهاجعها. ذهل السكّان من المشهد، وخرجوا ينظرون ما الأمر. لكنّ الجميع شعروا بالأرض تميد، وأصوات دويّ رعد شديدة تنطلق من جوف الأرض، خفقت قلوب السكان هلعًا وخوفًا. ما بال الجدران ترتعد؟ والحيطان ترتجف؟ انبعثت من الأرض رائحة الموت، وتحوّلت تدمر إلى مدينة أشباح. كان برج الجرس في الكنيسة أطول معالم المدينة، لكنّه سقط وتفتّت مع سقف الكنيسة. كانت مئذنة الجامع شامخة ويرتفع منها الأذان والصلوات والتي كانت تتحدّى غيوم السماء وتشقّها". (ص 149) وفي موضع آخر يقول: "فُقدت السيطرة على المدينة، ورأى الناجون أنفسهم يقفون أمام مشهد الدمار لآمالهم، والحطام لأحوالهم. فدخل اليأس قلوبهم، وتغلغل الحزن في نفوسهم، وتوغّل الأسى في أرواحهم. يحاولون أن ينفضوا الغبار عن ثيابهم ورؤوسهم وأجسادهم. لحظات فقدان الأمل والأسى تبدو ساعات، بل زمنًا أطول من الدهر، والوقت أبطأ والشمس أشدّ حرارة، والهواء الحامل الغبار ورمال الصحراء أشدّ لسعًا في الوجوه"(ص 150- 151). ويتابع وصف هذا التحوّل المؤلم في المدينة فيقول: "لم تعد تتفتّح الزهور في الربيع، ولا البراعم في بداية الصيف، لم تعد تنضج الثمار في مواسمها، ولن تمتلئ الغدران بالمياه، لم تعد الحقول الخضراء تملأ البيوت خيرات الأرض ونِعم السماء"، "هذه الأرض التي أفاضت من عطاياها غدرت بأهلها، وانتفضت في وجههم، ثارت عليهم، قلبت مفاهيمهم وغيّرت أفكارهم. السماء التي أنزلت عليهم الهبات والحسنات، أنزلت عليهم المصائب والكوارث، انحسرت الغيوم المباركة بالمطر، وهلّت أمطار الخيبة، تساقطت الآمال وتهاوت الطموحات" (ص 150).

بطبيعة الحال، وبعد هذا الزلزال الذي دمّر المدينة، تفرّق السكّان وعائلة حرفوش اتّجهت جنوبًا ووصلت إلى بلدة خبب جنوب سوريا. وهي مركز مسيحيّ مهمّ في منطقة حوران. العائلة تكوّنت من الأمير موسى حرفوش والمطران أنطون حرفوش وأسرة سمعان حرفوش المطبّب مع زوجته مرتا الحامل وابنهما بولس البالغ أربع سنوات.

في خبب يصف الكاتب مشاهد تنعكس فيها حركة الحياة ونبضها بعد أن شهدوا انطفاءها في تدمر. يقول: "مالت الشمس خلف الجبل، وبدأت أسراب الطيور تحلّق في الجوّ، وهي تبحث عن طعامها على الأرض لتقتات بحبوبها ثمّ تأوي إلى أعشاشها، أطلقت زقزقتها في الأجواء مع نعيق بعض الغربان. كانت حركة السكان في الخارج ملحوظة، همهمات وأصوات مختلفة. فالعمّال يعودون من أشغالهم والرعيان يسيرون مع قطعانهم وأصوات ثغاء الحملان والأغنام تعلو على صوت نباح كلب يحرسها. والمزارعون يعودون من حقولهم مع دوابهم التي ارتفع صوت دبيب أقدامها. بعض الأولاد يركضون ويصيحون وهم يلعبون فرحين" (ص 175).

ونشهد السّرد الجميل، لحظة ولادة مرتا زوجة سمعان: "ساد الجوّ شعور من الترقّب والانتظار المشحون بالخشية والخوف. إنّها المرّة الثانية التي تنجب فيها طفلًا، فلماذا يساورها شعور غريب مشوب بالإحباط والاكتئاب، والأحاسيس بأنّ هذه الولادة ستتعسّر وتسبّب لها آلامًا قد لا تحتملها. فهل سيصمد جسدها النحيف؟ كيف سيكون شكل جنينها؟ أهو صبيّ يشبه أباه أم بنت تشبه أمّها؟ لم تستقرّ مشاعرها، وكلّما اشتدّت آلام المخاض أكثر، زادت اضطرابًا وحيرة وقلقًا" (ص 174).

والذي حدث أن اقتاد الجنود العثمانيّون "بولس" ابن سمعان حرفوش إلى معسكر العمل في مدينة غزّة، فنذر المطبّب سمعان للسيّد المسيح ولمريم العذراء، أنّه إذا عاد ابنه بولس سالمًا، فسيجعل نفسه في خدمة يسوع طيلة حياته. وبالفعل، ارتدى سمعان الثّوب الكهنوتيّ وذلك بعد ان ارتقى في الدّرجات الكهنوتيّة إلى شمّاس إنجيلي، ثمّ كاهن في خبب، مع إبقائه على مهنة التّطبيب. إلى أن تلقّى المطران جورج رسالة من مطران صور يطلب أن يبعث له كاهنًا من أبرشيّته وسيتمّ تعيينه في إقرث ليرعى أبناء كنيسة الرّوم الكاثوليك. وهكذا، انتقل الخوري سمعان وعائلته إلى إقرث وكان يوسف سبيت هو مختار البلدة. وهناك قرّر الخوري سمعان إعادة بناء الكنيسة وكان ذلك نحو عام 1800.

عاش الخوري سمعان في إقرث مع زوجته مرتا حتى وفاته عام 1886. ودُفن في الكنيسة التي بناها. استطاع أن يكسب محبّة كلّ من عرفه. كان، كما يصفه الكاتب، "لطيف المعشر، رهيف المشاعر، دمث الأخلاق، بشوشًا وباسمًا، اتّسمت علاقته بالأهالي بالنّقاء والصّفاء والطّهارة. أصبح مثالًا في الإخلاص للكنيسة، ومحبّة الناس واستقبالهم، فلا يردّ سائلًا ولا يرفض محتاجًا" (ص 233).

وأخيرًا

هذا الكتاب لا شكّ يُجسّد الّرغبة الكامنة في الإنسان، كلّ إنسان، في معرفة ماضيه وجذر عائلته وتاريخها. وقصّة أهل إقرث وعائلة حرفوش هي قصّة الشّعب الفلسطينيّ الذي عانى من الطّرد والتّهجير والتّشريد وتدمير البيوت والبلاد.

وبما أنّ السّيرة لها القدرة أن تميل نحو الرّواية وتتّخذ القالب الروائيّ، فقد نجح نايف خوري أن يصوغ سيرة عائلته في بناء فنيّ روائيّ، ظلّ مقيّدًا، في بعض مركّباته، بالوثائق والحقائق التّاريخيّة.

إلّا أنّ هذا التقيّد لم يمنع الكاتب، بصفة عامّة، من أن يصوغ السّيرة في صورة مترابطة، ولغة سلسة، وذلك على الرّغم من وجود بعض الفصول التي ابتعدت تمامًا عن السّرد القصصيّ المشوّق واقتربت من التّسجيل التّوثيقيّ المباشر.

وفي النّهاية، وبعيدًا عن آل حرفوش وخوري، ثقافةُ الكاتب واضحة في هذا الكتاب من خلال المعلومات الغزيرة التي يقدّمها، كما أنّه يطرح همومًا وتساؤلات بخصوص قضايا عديدة تؤرّقه، عَرَضَ بعضَها بإسهاب وبعضها الآخر في سطور قليلة. وهذا، في رأينا، يُشير إلى النَّفَس الرّوائيّ الطّويل الذي يمتلكه الكاتب، ويُشكّل مادّة خام متينة نرى فيها انطلاقة قويّة لكتابة رواية جديدة.

***

د. رباب سرحان:

............................

* نصّ الكلمة التي أُلقيت في أمسية إشهار الكتاب في قرية الرّامة بتاريخ 5.10.2023، في مركز حنّا مويس الثّقافيّ.

لا أدري ما سبب النزول أو كيف ارتميت في أحضان الورقة البيضاء، لأخط ما اعتراني بعَـيد قراءة "حالة من حالات رجل سبعيني"(1) للقاص ع الحميد الغرباوي، الأخ والصديق والرفيق، هل هي رغبة في التواصل بين دروب الكلمات والمعاني، لتحقيق علاقة تقابل مجازي؟– ربما- بحكم أنني لم ألتق به قبيل ظهور ذاك الوباء اللعين (كوفيد)؟ أو ربما ارتماء لاشعوري لقراءة النص، قراءة خارج المحفل النقدي على ما يبدو؟ بعد إحساسي بلذته السردية، وصوره العميقة بعمق إحساس الرؤيا المكثفة بالتجارب والتمرس في دروب الحياة ؟ أو هُـو نوع من التماهي السلوكي، مستشعِـرا نفسي بأنني  طرف في سياق النص، أو أنا /هو الذي انقطع عن المقهى، انقطاع يترادف عبر صور ساخرة  من رجل سبعـيني، بلغته ولكنته البيضاوية/ الشاوية، التي تتداخل بين حياته اليومية وفي قصصه المتعددة لا فرق. (وتخيلت نفسي أرد عليه بسخرية لاذعة)* الفرق أنه  صارم وجدي في طبعه، ساخر أمام صورة العالم، بغية تفجيرها في ذهنية وأحاسيس القارئ المفترض، وتفجيرها أمامنا في تلك الجلسات التي كانت في المقهى، وبعد ذلك: كلما زرت منطقة الحبوس إلا وأسأل عنه نادل مقهاه المفضلة، فدائما كان الرد، لم يأت منذ شهور، هو ورفاقه المفضلين؟ إنها طبيعة الندل في المقاهي/ الحانات بحيث: (أن ندل المقاهي والمشرفين عليها  يحفظون أسماء زبائنهم ومواقيت وأيام حضورهم وغيابهم، وما يروج وسط الجلسات من أحاديث من غير تكليف، وبتكليف أحايين كثيرة من جهة خاصة، خاصة جدا.)* ممكن أن يكون صائبا في حكمه بناء على تعليل منطقي ( لا أثق في العاملين  بالمقهى..علمتني التجربة، من أيام الشباب وانخراطي في العمل السياسي،)*هكذا كانت العلاقة بين النادل/ الرواد، وهـي ليست علاقة إلغاء أو نفي أو تضاد، بل ترتبط  بالاحتياط، ولما لا نقول: الخوف من العسس وبطش سلطتهم، وقتئذ: ( كل من يتمتع بسلطة فهو يسيء استخدامها، لذا يجب أن يكون لكل سلطة، سلطة أخرى تراقبها *« من يراقبها إذن؟)* ولكن نحن مراقبين، صيف شتاء ولاسيما أن: (المشرفون والندل ليسوا وحدهم المكلفين بمهمة المراقبة، ثمة آخرون مكلفون بنفس المهمة يجلسون إلى جوارك في المقهى باعتبارهم من روادها. وما أكثر كاميرات المراقبة البشرية في غير المقاهي...)* فهاته حقيقة نلمسها جميعا، أينما ارتحل المرء أو استقر، ولكن تصدر عن عجوز لا تهمه المراقبة، ولكن يتبين أن عزيزنا القاص "الغرباوي" لم يتغير، بحيث لازال مشاغبا كعادته، لكن شغـب يحكمه الاتزان والمنطق، والبساطة في تركيبية شديدة، مقابل هذا صريح وخفي في آن واحد، (..أنا اليوم عجوز. والدنيا تغيرت.. ظاهريا لك الحق في المعارضة، في الاحتجاج والامتناع أو الرفض والإدلاء بالرأي باسم الديموقراطية وحرية التعبير، غير أن هذا الظاهر ليس سوى خدعة )* تلك قناعة نابعة من المراس وخبرات الدنيا التي يعشقها رغم مخاطر الزمن وتقلباته. أي نعم: عاشق للحياة، مقاوم عنيد، يحلم بالمستقبل وبالغد الأحسن رغم بلوغه "السبعين " أليس كلنا يتماهى بحلم لمستقبل مائز ومتميز عن الحاضر ! رغم بلوغنا "السبعين"؟ طبعا هي مرحلة تندرج في باب المتغيرات العمرية، ولكن تبقى الثوابت التي تتأطر في المبادئ والقيم، والتي تزداد نضجا لتحميني من الوقوع في وهْـم المغالطات والانفعالات المتطرفة، وبالتالي: (ما الخطر الذي يشكله شخص في مثل سني؟ غبت عن المقهى. لم يرغمني أحد على هذا الغياب، شبيه بعزلة لا تعكس صدمة أو عقدة نفسية وإنما ردة فعل وجودية)* نعلم أن المقهى فضاء ترفيهي/علائقي/استشفائي/ /هروبي/ اجتماعي/.../ ولا خلاف بأنه جزء لا يتجزأ من المشهد الحضاري، ألم تكن  المقهى مهد للحركات الأدبية والفكرية والفلسفية في العالم كله؟ والقاص عبدالحميد الغرباوي،  استقى العَـديد من قصصه، الممزوجة بين المتخيل والواقع من المقهى، بحيث لا تخلو مجموعة قصصية من انوجاد  المقهى كمكان فاعل في الحكي مثل-  أكواريوم (2) دخان قهوة بحليب (3) وبالتالي فلماذا انقطع عن المقهى هكذا؟: (للحقيقة، أجهل عدد أيام غيابي.. ولا أتذكر كيف ومتى أخذت قراري بالابتعاد عن المقهى فترة من الزمن..)* هل حالتي شبيهة به؛ هي سبب التماهي بحمولة النص؟ أو حالته شبيهة بي؟ هل لأنها لم تـعُـد ملاذا للعجزة، وأكسجين للكائنات المهددة بالانقراض؟ ربّما بالمعنى الذي نريد أن نعرفه، لم تعد المقهى مكانا صحيا، مكانا للصخب والسخرية والضحك والمزاح بين الأصدقاء والرواد، نتيجة رحيل العديد من رفاق الدرب وأصدقاء الأيام، ناهينا عن تعقد الحياة وتركيبتها، أم السبب يكمن في المقاهي "المخملية" ذات طابع "الماركوتينغ" تلك الخارجة عن مدارات المدن، تلك التي استقطبت رواد وزبائن ما تبقى من المقاهي، لا فرق بين مقهى شعبية/ حضرية، الكل أمسى في شرود يفكر مرتين وثلاثا، وتارة يهيم هذا وذاك في أعماق الهاتف الذكي، حيث يبحرون في الفضاء الأزرق، لتبدو أنت غريبا / وحيدا/ تناجي إما جريدة أو كتابا، أو تساير القوم بهاتفك، ليموت الشغب في دواخلك، ليتوقف اللسان عن تمرن نطقه، ومخارج حروفه لأنه: (ماذا يفعل شخص في حالتي غير أن يُنصت لعظامه ولأنفاسه محاولا ترتيب ما تشتت في عقله من أفكار وصور وأحداث وذكريات..)* طبعا هي حالة من حالات رجل سبعيني، ولكن إن لم يكن مبدعا / كاتبا / مشاغبا / رافضا للقواعِـد/ ... فالذييقاوم الغياب بالحضور و يكافح ضد العدم من أجل قضية الإنسان أي:  (أكيد لا يفكر سوى في أمر واحد هو أن يكون حرا طليقا في الفضاء الذي لا حدود له)* وبالتالي هل انقطاعه عن المقهى عزلة أم انسياق(كنا اتفقنا في آخر جلسة لنا أن نغيب عن المقهى مدة.. أتذكر ذلك؟)* هي بالتأكيد غربة واغتراب وجداني ومكاني ! فحين العودة إليه، قصد استرجاع ما تبقى من حيوية الذكريات، تشعـر بنوع من الاختناق والذوبان الكينوني في عزلة ذاتية كئيبة لأن: (نفسية الإنسان تصبح شديدة الرهافة مع التوغل في العمر، سريعة التأثر والانفعال.. وفي هذه الحالة، الأفضل أن يضع المرء، بين الفينة والأخرى، مسافة بينه وبين الناس..)* هذا ليس حلا. لأن المرء كائن اجتماعي، ولهذا السبب وبدون سابق إعلان ! عاد المبدع " الغرباوي" للمقهى ليستكين للحظات، لكن المفاجأة، يصطدم بحالتين - اقتحام شخص خلوته / مائدته، وهولا يتذكره و لا يعرفه: (دون أن أملك الجرأة لأعتذر لمحدثي، خشية أن يعتبر اعتذاري شكلا من أشكال الرفض أو التعالي.. جلس الشخص إلى نفس المائدة صامتا، مكتفيا بالتحديق في الواجهة الزجاجية العريضة)* ومصادفته مع نشرة الأخبار: (استهلها مقدمها بخبر استمرار العُـدوان الوحشي على غزة. مشهد البنايات المدمرة والجرحى والقتلى تملأ مساحة الشاشة... كان قد وصلني توا خبر استشهاد كاتبة فلسطينية شابة* تحت القصف.). لكن المثير أنه استخلص الحكي/ موضوع  الفواجع والتذمر، لما تقوم به الطغمة الإسرائيلية من  مجازر في حق الفلسطينيين أطفالا ومدنيين !! (طال زمن الرجوع يا فيروز)* هل لأننا لم نعد نستحمل ما تم حمله من معاناة وهموم وأوهام وانتظارات كما انتظر[استراغون و فلاديمير] – [كودو](4) لكي نبقى نستلذ بالوجع والحزن الإنساني !أم (ما زلت بحاجة إلى مزيد من الوقت لأكون على أتم الاستعداد لمجالسة أي أحد والدخول معه في حديث.. وسيان أن يكون الحديث قصيرا أم طويلا، المشكلة تكمن في الموضوع، موضوع الحديث)* وبناء عليه فالمعرفة ليست معطى قابل للاكتمال .

***

نـجيب طــلال

..........................

استــئناس:

1) حالة من حالات رجل سبعيني لعبد الحميد الغرباوي: في جريدة الإتحاد الإشتراكي بتاريخ 27 /10/ 2023  ع 13.582

2)) مجموعة (أكواريوم) منشورات مجموعة البحث في القصة بالمغرب سنة 2008م

3) مجموعة (دخان وقهوة بحليب) للقاص عبد الحميد الغرباوي عن مطبعة  دار علي بن زيد للطباعة والنّشر

4) مسرحية – في انتظار جودو- لصمويل بيكيت. كتبها سنة 1948 ولازالت صالحة للعرض !

*) ما بين معكوفتين من النص - حالة من حالات رجل سبعيني -

تعبيراً عن الإعجاب والتقدير للصمود والمقاومة التي يظهرها سكان غزة في وجه الصراع والعدوان، تأتي قصيدة "الحج لغزة هذا العام" لماجد نصيرات كمصدر إلهامي يشيد بالقوة الإرادية للشعب الفلسطيني. الشاعر يستخدم لغة شعرية وصورًا قوية لنقل فكرته، ويركز على أهمية الصمود والتحدي في مواجهة الصعاب. القصيدة تُظهر أن الشعب الفلسطيني في غزة يمثل نموذجًا للثبات والقوة الإرادية، ويتحدى الظروف الصعبة بشجاعة وعزم. يبرز الشاعر أهمية الوحدة الوطنية في مواجهة التحديات، ويشدد على ضرورة التماسك والتضامن بين أفراد المجتمع. هذا التماسك يمكن أن يكون سلاحًا قويًا لتحقيق النصر والعدالة. يركز الشاعر على أهمية التضامن والتماسك بين الناس كوسيلة لمواجهة التحديات وتحقيق الأهداف الوطنية بشكل أكثر فعالية. يُظهر الشاعر براعة في استخدام الرموز والمجازات لتعزيز أفكاره وتعبيراته بشكل قوي ومؤثر . عندما يُستخدم مثل هذا اللفظ القوي، يتعزز التأثير العاطفي والأثر العميق للنص، حيث يُظهر حجم التحدي والمعركة بوضوح، مما يمنح النص نفحة من الحماس والأمل. تلعب هذه الرموز دورًا حيويًا في تعزيز تأثير القصيدة وجعلها تنقل رسالتها بشكل فعال ومؤثر. الشاعر يمتعض في هذا العمل بمفهومي التحدي والأمل بارتفاع. يتركز على إصرار الشعب الفلسطيني في غزة على مواجهة التحديات وعدم الاستسلام للصعوبات. تُظهر القصيدة أن الشعب الفلسطيني يمتلك إيمانًا قويًا بالنجاح والقدرة على التغلب على الصعوبات من خلال عزيمتهم وإصرارهم على تحقيق النصر. هذا المفهوم يعزز من روح الصمود والمثابرة التي تميز الشعب الفلسطيني، ويجعلهم يتطلعون بتفاؤل وأمل إلى المستقبل. تُسلط القصيدة الضوء أيضًا على أهمية الوحدة الوطنية كعنصر أساسي في مواجهة التحديات، مشددة على ضرورة التماسك والتضامن بين أفراد المجتمع. يُظهر الشاعر أن هذا التماسك يمكن أن يكون سلاحًا قويًا لتحقيق النصر والعدالة. بفضل تركيزه على التحدي والأمل، تصبح القصيدة رسالة ملهمة للقراء، تشجعهم على عدم اليأس أمام التحديات والاستمرار في النضال من أجل تحقيق الأهداف والتغلب على الصعوبات. الشاعر يُظهر براعة في استخدام اللغة والأسلوب، ما يضيف إلى جاذبية النص وتأثيره. إضافة إلى ذلك، يستخدم الشاعر أسلوبًا شعريًا معقدًا يشمل الرموز والمجازات والصور البصرية. هذا يُسهم في إثراء النص وجعله أكثر عمقًا وتعقيدًا، مما يجعل القصيدة تتحدى القارئ وتفتح المجال لتفسيرات متعددة. بفضل اللغة المؤثرة والأسلوب الشعري المعقد، تصبح القصيدة قوية من الناحية اللغوية والأدبية، وتثير مشاعر القراء وتلهمهم. تجمع بين الجمالية والعمق، وتعبر عن مشاعر الإعجاب والتضامن مع الشعب الفلسطيني في غزة بطريقة تحفز القراء على التأمل والتفكير.

"الشاعر ماجد نصيرات يهدف من هذه القصيدة إلى توجيه رسالة تضامن وتحفيز لدعم القضية الفلسطينية، وذلك من خلال التعبير عن إعجابه وتقديره للشعب الفلسطيني في غزة وصمودهم في وجه التحديات والظروف الصعبة التي يعيشونها. الشاعر يركز على تحفيز القراء على التضامن مع الشعب الفلسطيني ودعمهم في مواجهة الظلم والاستبداد. يُظهر الشعب الفلسطيني في غزة كنموذجًا للصمود والقوة الإرادية، ويدعو الشاعر القراء إلى مشاركة هذا الإعجاب والتضامن معهم. بالتالي، يمكن القول أن الغرض الرئيسي من القصيدة هو نقل رسالة تضامن وتحفيز القراء على دعم القضية الفلسطينية والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني في غزة في رحلتهم نحو العدالة والحرية.

الشاعر ماجد نصيرات استخدم العديد من الرموز والمجازات في قصيدته "الحج لغزة هذا العام" لزيادة تأثير القصيدة وإضفاء عمق إضافي على مضمونها. إليك بعض الأمثلة على الرموز والمجازات المستخدمة: "جثث العدو": تُستخدم هذه العبارة كرمز للانتصار والنصر. إنها ترمز إلى القوة والتحدي التي يظهرها الشعب الفلسطيني في مواجهة العدو والاستبداد. هذا الرمز يُظهر قوة الصمود والاستعداد للتضحية من أجل النجاح. "كالأسدِ نجعلُ للزئيرِ دفاعاً": هنا، يُستخدم مجاز الأسد للدلالة على الشجاعة والقوة، وتعبيرًا عن استعداد الشعب للدفاع عن حقوقهم بكل قوة وإصرار. "يا وجهةَ الثوَّارِ": تُشير هذه العبارة إلى الثوار والمقاومين الذين يتصدون للظلم والاحتلال، وهم يمثلون رمزًا للصمود والمقاومة. "يكفيكَ نصراً في السمُوِّ مهابةً": تُظهر هذه العبارة أن النصر والانتصار للشعب الفلسطيني في غزة يعزز من هيبتهم واحترامهم. "يا غزةَ للطهارةِ .نبعُها": تُستخدم هذه العبارة للإشارة إلى طهارة ونقاء قضية غزة والشعب الفلسطيني، مما يعكس قيمة وكرامة القضية. تلعب هذه الرموز والمجازات دورًا حيويًا في تعزيز فهم القصيدة وإعطائها طابعًا رمزيًا وعاطفيًا أعمق، مما يعزز من تأثير القصيدة ويجعلها تلامس المشاعر والأفكار بشكل أكبر.

الشاعر ماجد نصيرات يتناول في قصيدته "الحج لغزة هذا العام" موضوع الصمود والمقاومة التي يظهرها الشعب الفلسطيني في غزة أمام التحديات والعدوان. يعبر الشاعر عن إعجابه وتقديره لهذا الصمود الشجاع، حيث يصوّر الشعب الفلسطيني كمثال للقوة الإرادية والثبات في وجه الصعاب.

يُظهر الشاعر في قصيدته التحفيز والتشجيع على دعم القضية الفلسطينية، حيث يدعو القراء إلى مشاركته في هذا الإعجاب والتضامن مع الشعب الفلسطيني في مساعيهم للدفاع عن حقوقهم وكرامتهم. يسلط الضوء على أهمية الوحدة الوطنية كوسيلة لمواجهة التحديات، مشددًا على ضرورة تماسك أفراد المجتمع في غزة. تستخدم القصيدة اللغة الشعرية والأسلوب الشعري لنقل مشاعر وأفكار الشاعر بشكل قوي ومؤثر. تسخر الصور والمجازات لتعزيز فهم القصيدة وإيصال رسالتها بشكل أكبر. بالإضافة إلى ذلك، تلعب القافية والوزن الشعري دورًا في إضفاء إيقاع وجمالية على النص، مما يجعلها قوية من الناحية اللغوية والأدبية. باستخدام الشعر كوسيلة للتعبير، يمكن للشاعر تعزيز تأثير رسالته وإيصالها بشكل أكثر إيقاعًا وجاذبية، مما يلهم القراء للتأمل في معاني القصيدة والتفكير في القضايا الاجتماعية والسياسية المطروحة فيها.

***

زكية خيرهم

اتجاه وشكل المتن الروائي يملك خصوصية متميزة، في الأدب الروائي في المهجر، وخصوبة الخيال الفني المتولد والمتحرك، وبراعته في صياغة الرؤية الفكرية وتجسيدها بهذا الابتكار الخلاق، في حركة ديمومة الفعل الدرامي المتواصل الى الذروة، بطرح موضوعات غير مسبوقة في هذا الجنس الأدبي (الأدب الروائي في المهجر) والارتقاء به الى الشكل النوعي، بأن يفتح بوابته بشكل واسع وآفاق غير محدودة، بتناول جملة موضوعات متعددة ومتطورة، وفق نسق هرموني موحد. والأستاذ قصي الشيخ عسكر، جند كل إمكانياته ومعارفه الشاسعة، باستغلال وتوظيف تجربته ومعايشته مع الواقع والحياة بأزمنتها المتعددة، مما أهلته أن يكون علامة بارزة ومرموقة في جنس الأدب الروائي في المجهر، لذلك نجد اطلق براعته الخلاقة في الرواية القصيرة، والتي أطلق عليها تسمية الصندوق الحديد، وهي تحمل معنى رمزي بليغ الدلالة، وبالاشارة بتسمية الازمنة أو المراحل التي مرت على العراق بصبغته بصبغها الخاصة والمعينة في النهج والسلوك والفعل والعقيدة بالصندوق أو الصناديق، والحقيقية بما في جعبة داخل هذه الصناديق وكشف اسرارها الظاهرة والباطنة في مراحلها المتعاقبة، التي جرفت العراق في في رياحها العاصفة و المدوية، يتناولها بشكل بارع ومرموق، وخاصة في الجانب الاجتماعي والسياسي في بيئة المجتمع ومحيط العائلة. وهذا الإصدار الروائي الجديد، يحمل في طياته اربع روايات مجهرية وهي:

 1- الصندوق الحديد

2 - الهاربان

3 ربيكا (بطاقة نعي)

4 وجهي البشع.

 ونحن بصدد تناول الرواية القصيرة (الصندوق الحديد) بما تحمل من الصياغة الفنية والمضمون الفكري برؤيته الواقعية، في تناول ثنائي مشترك ضمن نسق واحد في أحداث السرد الروائي وهما:

 1 - مسألة الهجرة المعاكسة.

 2 - مسألة التكيف والتأقلم مع المجتمع الجديد.

رغم صعوبة التناول والطرح هذين الجانبين، لكن براعة الروائي الفائقة، ولغته الجميلة المهذبة برشاقة التشويق، يدخل القارئ الى عرينها بكل طواعية وانجذاب مؤثر، برؤية واقعية وفكرية رصينة، وبالتالي يشارك القارئ في التأثير الحسي، في آلة التأويل وخاصة الأستاذ الروائي، يترك خاتمة النهاية مفتوحة للتأويل، ما بعد الحدث (ميتا سردية)، حسب وعيه الثقافي والفكري، ووضع الأشياء في نصابها الصائب بما يحمل هذا الصندوق من صناديق متنوعة ومختلفة، وما تخص هذه الصناديق من اسرار عبر الازمنة المختلفة، لان كل صندوق يشكل ويحدد نوع الزمن أو مرحلة معينة بذاتها في نهجها السياسي والاجتماعي، فعلى سبيل المثال. صندوق النفايات و الأزبال والقاذورات. الذي ينتج من داخله وتفوح رائحته على المكشوف من الأزبال والقاذورات بالضبط متل ما تفرزه صناديق الانتخابات العراقية المتعاقبة، هي في الحقيقة تدوير النفايات والازبال القديمة بلون أو شكل جديد، أو بعبارة آخرى، بأن صناديق القاذورات القديمة تعود بشكلها أو ثوبها الجديد، لا تختلف في المضمون والمحتوى عن الصناديق الحالية، من خلال عملية تدوير النفايات وتسويقها مجددا، ولكن بأشكال وبجلود مختلفة، ولكن الجوهر باقٍ لا يتغير، في النهج والسلوك الاجتماعي والسياسي.. وكذلك صندوق الارهاب والتفجيرات الدموية التي طالت العراق مؤخراً، والصندوق الذي بداخله الذهب والمجوهرات، التي تخص المرأة لصبرها وتحملها في المعاناة في الظلم والاجحاف والحرمان من المجتمع الذكوري، في عاداته وتقاليده السلفية المتشددة، تستحق وسام من الذهب والمجوهرات. وغيرها من الصناديق الآخرى. ولابد من تحليل مضامين هذا الثنائي المركب في هذه الرواية هما: (الهجرة المعاكسة والتكيف والتأقلم)، ففي الجانب الأول الهجرة المعاكسة تختلف كلياً عن الهجرة إلى اوربا أو الى الجانب الاوربي، وصعوبات الحصول المهاجر على الشرعية وقبول اللجوء، ثم صعوبات إيجاد فرص العمل، ومسائل حياتية أساسية آخرى تمس حياته ووجوده في المجتمع الغربي بما فيه الحب. نجد في الرواية القصيرة (الصندوق الحديد) ليس هناك صعوبات جمة، وإنما تعقيدات عويصة لا تتحمل ولا تطاق في العودة الى الوطن بعد غيبة طويلة. وهذا يشير بوضوح بأن الوطن اصبح غريباً على ابن الوطن نفسه، فكيف الحال بالاجنبي المرافق له، مثل الزوجة والأبناء يصاحبون والديهما من المجتمع الأوربي الى المجتمع العراقي، فأن الحالة تكون معقدة تصطدم بجملة معوقات من العائلة والمجتمع، تضع العائد إلى الوطن، ان يصطدم بمشاكل جمة، تجعله كأنه يدور في نفق مسدود. في جانب مسألة التكيف والتأقلم مع المجتمع العراقي المحافظ في تأثيراته الدينية وفي العادات والتقاليد الاجتماعية السلفية، مما تخلق احباط نفسي ووجودي، يدخله في دوامة الشعور بأزمة الخوف والقلق، بأن الأمور تسير من سيء الى الاسوأ. كما في الحالة المأساوية للعراقي (ناصر) العائد من الغربة بعد سنوات طويلة هو وزوجته الأوروبية (النرويجية)، ولكن تحت الضغوط الهائلة، يضطر اخيراً الرجوع الى بلد زوجته (النرويج):

احداث المتن الروائي

 مضامين المتن الروائي يتحدث عن عراقي من عائلة غنية ومحافظة دينياً، حصل على شهادة جامعية في اختصاصات النفط في لندن.رجع الى العراق الى مدينته البصرة، مع زوجته (النرويجية) التي تعرف عليها في أروقة الجامعة وتتكلل الحب بالزواج ورزقهما بطفلين. لكن هذه العودة منذ ايامها الاولى واجهت صعوبات ومعوقات جمة، لا يمكن حلها وتحملها، وهي مشاكل عائلية واجتماعية، فالأب منذ الوهلة الأولى أبدى معارضته ورفضه الشديد، بالزواج من (النرويجية) النجسة و الكافرة والملحدة، واعلن ان ابنه العاق غير مرحب به في البيت والعائلة بحجة أن (هل تدخل النجاسة البيت ؟ هؤلاء الاوربيون يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمور والعياذ بالله، وبناتهم يقترفن الزنا قبل الزواج) ص34. ويصرح علناً بالغضب الشديد، ليذهب ابنه العاق وزوجته الى جهنم، بينما قلب الام تخضع لإرادة الآب الطاغية وتبرر رفضها لهذا الزواج وتعلله بقولها (أن ذلك لا يمنعها من الغضب على ابن ترك الأهل والجميع من أجل امرأة ليست من ثوبنا وجلدنا ولا من ملتنا !) ص12. مما جعلوا الزوجة (النرويجية) تعاني الإحباط والازمة النفسية والوجودية، تعاني الصدمة من المعاملة والعدوانية، من هذا الرفض العائلي، وكذلك من البيئة الاجتماعية، يقول عنها زوجها (- لا اخفيك ان حالتها تطورت الى الأسوأ..... الصدمة كانت اقوى منها.. خوف من الآخرين وعودتها الى البصرة تزيدها رعباً ونحن في بغداد وحين نمشي في الأسواق تظن شقرتها تلفت الانظار وان هناك من يحاول التحرش بها واغتصابها أو قتلها) ص13. رغم أن (ناصر) يكن الحب الى زوجته، لكنه يشعر بالحرج والعجز الشديدين أمام المعضلة العويصة التي وقع في فخها، فالأب لم يتوقف عن غضبه وندمه تجاه ابنه (- آه إني اعض الآن أصابع الندم..... والله ذلك لن يكفي لو قطعت اصبعي... الغلطة غلطتي، انا الذي بعثت ذلك الولد العاق الى الخارج) 29. وتتصاعدت حلقات النفور الشديد، حتى في ذهابها إلى دورة المياه وعدم استخدام إبريق الماء،اما من ناحية مائدة الطعام والمطبخ (أما المطبخ فقد حرمت منه، رحن يضعن لها الطعام في صحن عند الباب حتى إذا فرغت، رفضن أن تغسله تزعق احدهن (DIRTY) وتتعمد، ان تبسمل على النبي وهي تعلق الصحن بطرفي اصبيعها تحت الحنفية وقتا يطول دقائق) ص54.

 إزاء هذا الوضع السيء والمعقد، لم يعد يحتمل ولا يطاق، اضطر أن يعود الى بلد زوجته (النرويج) مع طفليهما، مع العلم أن وزوجها (ناصر) مصاب بمرض السرطان الذي اخذ يستفحل عليه حتى صرعه بالموت، لكن قبل وفاته كتب وصية نقلها ابنه الى اعمامه في البصرة بقوله (عمي، بابا قد أوصى أن يدفن في مقبرة النجف) ص67.

هذا يشير بوضوح لكي يثبت عراقيته الذي لم يتخلى عنا حتى بعد الموت، رغم ما تجرع من علقم المرارة في المعاملة السيئة من الظلم والاجحاف.

***

 جمعة عبد الله

.........................

للاطلاع

https://www.almothaqaf.com/k2/971853

لا يمكن أن نطوي صفحة الشعر المساهم والمشارك في بناء وعي الأمة دون أن نخصص لبعض الأحياء من الشعراء والشاعرات حيزا يساير تفاعلهم، ويليق ببعض التدوينات والأقوال الشعرية الحية والمشاركة في بناء وعي الأمة انطلاقا من قناعاتهم وفهمهم الصحيح لمعنى الانتماء بكل معانيه، فلا قيمة لشعر ظل صاحبه يسخره لخدمة أغراضه الذاتية الضيقة، وحَرَمَه من التمدد للالتقاء بكوكبة الشعراء الشرفاء والشريفات على مستوى قيم وقضايا الأمة المُلتَهبَة، وهذا ما كان عليه الشعر دوما، وما كان يقوم به من وظائف فكرية وحضارية واجتماعية وسياسية، فحتى الشعراء الصعاليك لم يتخلوا عن انتمائهم الأصيل بالرغم من قساوة ظروفهم داخل المجتمع، وللأسف لم يعد هذا الإحساس قائما وصافيا وصادقا في وقتنا الحاضر .

من الصدف العجيبة أنني عندما كنت منهمكا في تحضير هذا المقال اطلعت على رأي شخص عربي من ذوي الجنسيات المتعددة، والمواقف المتحولة، ناصر الصهاينة في جرمهم وقتلهم للأبرياء ولكن بقدرة قادر، وربما من شدة ما لاقى من التشنيع على وسائل التواصل الاجتماعي انقلب وتباكى وأعلن أنه سينشر مقالا شعريا لما للشعر من أثر، يناصر فيه القضية الفلسطينية كما كان ديدنه حسب زعمه، وأنا هنا أشرت إلى هذه النازلة لسببين أساسيين:

الأول هو بيان أهمية الشعر، ودوره الفعال في تبليغ الرسائل، وتحبير المواقف، والثاني هو إظهار مقدار قيمة كل شاعر عاش مناصرا لقضايا أمته، وأصر على مواصلة السير في زقاق النصر المرتقب مهما بلغت التضحيات، وعظمت الشدائد، متلحفا بقوة المبدأ، وسلاح الكلمة المنتقاة بوعي وجمال .

وقفتنا ستكون في هذا المقال الجديد مع شاعر من العراق الشقيق، هو الدكتور سعد ياسين يوسف حيث أثارت انتباهي مؤخراً نصوصه وتدويناته فأعجبتني بعمقها وصدقها، وعلمت فيما بعد أن إدارة الفايسبوك قد حذفتها لمناصرتها الحق في غزة  منذرة إياه بغلق حسابه، هكذا يفهمون الحرية والديمقراطية المُرَوِّضَة للشعوب الفقيرة والمغلوبة على أمرها، ومن حسن الحظ أنني سجلتها في سجلي الخاص، وبقيت أطالعها وأهيئها لهذا المقال .

إن ما جرى في غزة، وفي عموم المنطقة أتاح فرصا متعددة للمبدعين لكي تنبثق عيون الإبداع المتدفقة من دواخلهم، وتتجدد الصلة الإبداعية بين مختلف الأجيال، فكل شاعر وشاعرة تمتح من معينها المفضل، فهذا يقطف من ثمار الأشجار القديمة، وذاك يغرس ثماره وأشجاره الجديدة، وثالث يؤلف، ويقتفي نهجا مشتركا يجمعه بمعاصريه، والمُحَصِّلة في النهاية هي الحرص على القول الشعري الجميل بالرغم من اختلاف المنطلقات وتبدلها .

وإذا أردت اختصار لحظة الشعر المسايرة للأحداث القائمة عند شاعرنا سعد ياسين يوسف سأكون مضطرا من أجل البيان أكثر إلى تبويبها في ثلاثة أبواب وبمنطلقات فكرية وفنية عميقة جدا، وسأرتبها على المنوال التالي:

الباب الأول: ويجمع ما بين الوهم والحقيقة، وشاعرنا كان ذكيا وملما بما يجري إزاءنا، مما خفي منه أو ظهر، ولهذا فضل أن يرسل رسالة اطمئنان للجميع مستفادة من طول نظره ومعرفته الواسعة للوصول إلى حقيقته المرادة والدالة على البقاء والحياة، أو على الأقل أن يقوم بغرسها في النفوس كما يراها، والعملية كما وعاها شاعرنا هي شاقة وطويلة لأنها تتصل بقضايا الأمة، وتسعى لبناء وعي صحيح من ركام الدمار والفساد المنتشر في الآفاق قصد تثبيت العزيمة، وتخليصها مما شابها وعلاها من الغبار والصدأ، كم من واهم ومتوهم يعيش بجوارنا ومعنا، ويظن أن البحر اختفى بمجرد سكون وهدوء أمواجه، وهو ما يمكن استخلاصه من واقعنا نظرا لطول صمتنا، وتقبلنا للغشاوة المفروضة علينا بكل عوامل القوة المتوفرة للآخر وللعدو، يقول في تتبع منظم ومفصل وجميل وعلى لسان كل واهم ومتوهم:

واهمون أنَّهم دفنوه !!!

واهمون أنَّهم تلقوا التهاني

بموتهِ وتيمموا بذراتِ السَّراب

وتقاسموا الصمتَ!!!

واهمون إذ ظنّوا

بأن الذي اغتالوهُ...

لن يشرقَ طوفاناً

يضيء  ...!!!

هل يُدفن الصباح ؟؟؟

***

من تحتِ هذي الأرض

ينبثقُ النوارُ!!!

يحملُ أسماءَ

الذين تجذروا

وهم يضيئونَ

(غرة) أجمل فاتنةٍ

على البحرِ

ويمسحونَ الغيمةَ

السوداءَ

فوقَ عينها !!!

لتتسعَ الرؤى

لأقصى الشمسِ

وهي تكسو بذهبها

جدرانَ بيوتنا

التي دمرها الصمتُ ! .

الباب الثاني: هو مكمل ومؤكد لما جاء في الباب الأول، لأن الحقائق المتداولة بين الناس تختلف باختلاف المبادئ والوعي والمنطلقات والغايات، فالوسيلة تبرر الغاية، وتبقى طريقا سالكا للمُغتصِب للحقوق بدافع القوة والجبروت، أما الباحث عن العدل والإنصاف فله موازينه التي تجمعه بكل الناس حقا وواجبا، ومن الجميل أن يناقش شاعرنا الفكرة المذكورة وغيرها بوعي ينتمي إلى الأمة ليذكرنا بحقيقتنا وحقيقتهم، ويتخذ من جدلية الحياة والموت عندنا وعندهم مثالا واضحا، مُحَكِّما مفهوم عقيدته الراسخة والمستوحاة من قوله تعالى: (  وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ  - آل عمران: 169 )  يقول:

يا أيها الباقون فوق الثرى

كمثلِ ضمادةٍ لنزيفِ جرح الأرض

لا تصدروا شهاداتِ الوفاة ِ

فهم بأجسادِ البراءةِ الغضةِ

بلوعةِ الأمهاتِ في الرمقِ الأخيرِ

بعيون ظلت تحدّقُ في السماء ِ

وهي تطفو على بحرِ الدماءِ

الباب الثالث: مركب من حقيقتين اثنتين ومكملتين لمعنى الأمة، ولمشوار معالم البناء الصلب والممتد على طول الحياة والوجود، والمتخطي لفترة الحياة الدنيوية، وهذا فرق كبير وأساسي لتحديد مجموعة من المفاهيم الضرورية كي تستقيم حياتنا بكل تجلياتها الإيجابية والسلبية كالموت بمعنى الشهادة، وكالنصر بمعنى إقرار الحق وإزهاق الباطل، وهذه هي الحقيقة الأولى التي تعني الثبات والمناصرة في تأدية وظائف الخيرية المتصلة بالأمة، يقول في تصريح يثبت أن الغلبة تستمد من جينات الأصل، وليس من وسائل المعركة المتفاوتة:

بغبارِ البيتِ الذي دكتهُ الصواريخُ

وهي ترسمُ بالرّمادِ

شكلَ الموتِ على الوجوه

بارتجافةِ العصفِ الذي شوى الوجوهَ

كتبوا شهادات الوفاء

شهادات الحياة !!! .

أما الحقيقة الثانية فهي حصيلة نهائية لما ينبغي قوله والإيمان به دائما، فما دمنا نعيش بمبادئنا ووعينا، فيما بيننا، ومع الناس جميعا فلن يعرف الموت سبيلا لنا، فالحياة هنا تخرج عن إطارها الزمني الضيق لتنتشر كحبات الغرس في التربة على أمل أن يحصل زمن الجني قريبا فتتسع الحياة، ويكثر خيرها، والأهم هو العمل على استمرارها بمبادئها الإنسانية العامة والخاصة، يقول شاعرنا معلنا أن لحظة الموت مستحيلة في عرفنا:

قبل َ أنْ تصطخبَ الدِّماءُ

تلكَ الَّتي نبضت ْ بريّها صخرةٌ

تلك َ التي تدفقت ْفي نُسْغِ الحجارةِ

أكثرَ مِنْ ألفَي نشيدٍ

مزّقَ الصَّمت َفي المذبحِ

واخضرَّ آياتٍ على الشِّفاهِ

قبلَ أن ْ تُطلقوا الرَّصاصةَ الأخيرة َ

على البُراق...

ستطرقُ الأبواب َ

باباً... بابا،

ترمقُكم بجمرِها

عيناهُ وآلافُ العيون ِالَّتي

"ترحل ُكلَّ يوم" صوبَها

تمسح ُعن جبينِ السّيّد المسيحِ

ما نزَّ مِنْ دماء....

من شروط الإبداع عند المبدع الأصيل الموهوب أن يكون إبداعه متوافقا مع قناعاته الفردية والجماعية، ويعلن بواسطته عن خاصية الانتماء إعلانا لا لُبس فيه وعلى كل المستويات، فالمواقف قبل أن تنجز إبداعا تكون من المحركات الأساسية لعملية الإبداع برمتها، وتكون مواكبة للزمان بحمولاته المختلفة في الماضي والحاضر والمستقبل وشاعرنا الدكتور سعد ياسين يوسف من هذه الطينة الطيبة المسايرة لقضايا الأمة كما رأينا، والمنافحة عن مبادئها وأحقية تصوراتها في الوجود وإن لم يُسَلِّم بها الأعداء المتربصون بنا، قصد إزالتنا وصَدِّنا عن مزاولة مهمة المحافظة على الحقوق ومضامين الهوية المانعة لهم من الوصول إلى مبتغاهم، فمما تعلمناه من شعر شاعرنا، ويجب على الآخرين أن يعلموا به ويتعلموا منه حقائقنا هو أننا لن ننهزم، ولن نموت، ولن نتراجع عن مبادئنا، ولن نستسلم أو نسمح في مقتضيات هويتنا، ولن نعيش إلا على ضوء العقيدة الإنسانية الراسخة في دواخلنا، وسنقضي على كل الأوهام المحيطة بوجودنا، والساعية إلى اجتثاثنا.....هكذا نحن، وهكذا قال شاعرنا وأحيا نفوسنا من جديد .

***

إ. د . مولاي علي الخاميري - المملكة المغربية

أستاذ جامعي - مراكش في: 8 ربيع الثاني 1445 هج / 24 أكتوبر 2023 م .

مبادرة طيبة تحمل الكثير من المعاني النبيلة وسابقة ثقافية ملفتة للنظر تلك هي اصدار رواية غير مكتملة، حيث لم يسبق لدار نشر ان أقدمت على هذه المغامرة، ولكن اتحاد الأدباء والكتاب في العراق ومن باب الشعور بمسؤولية الاهتمام بإرث المبدعين والحفاظ عليه من خلال التوثيق قام بنشر الفصليين اليتيمين من رواية الكاتب العراقي (عبد الستار ناصر 1947 ــ 2013) التي ظلت حبيسة الأدراج طيلة سنين طويلة حيث رحل كاتبها وتركها ناقصة وذلك بسبب الامراض المتعددة التي داهمته وحالت دون اكمالها، وكان للكاتبة هدية حسين ــ زوجة الراحل ــ دورا كبيرا في الحفاظ على أخر ما كتبه الراحل ومن بينها فصول روايته المذكورة فقد بادر الاتحاد مؤخرا وضمن منشوراته الى اصدارها بكتاب حمل عنوان (عبد الستار ناصر.. رواية لم تكتمل)، وهذا العنوان جاء موفقا ومنسجما مع حالة الاثنين ــ الكاتب والرواية ــ فهما ابداعان غابا قبل ان يعطيا كل ما لديهما، كما جاءت مقدمة الكاتبة هدية حسين هي الاخرى منسجمة مع طبيعة النص فقد أضاءت جانبا من سيرة الكاتب في سنواته الأخيرة وظروف رحلتها المضنية معه قبل رحيله والفراغ الذي تركه غيابه مشيرة فيها الى الحلم الذي ظل يراود الروائي بالشفاء والعودة الى العراق، كما تضمنت المقدمة معلومات مهمة منها ان الراحل عبد الستار ناصر توقف عن اكمال الرواية ودوّن في مخطوطتها (هذه الرواية كتبتها في 7 حزيران 2009. توقفت عن الكتابة في 19 تشرين ثاني بسبب اصابتي بجلطة في الدماغ ص 31) بعدما اختار لها عنوان (وصية خريف)، وتشير الكاتبة ايضا الى انها عزمت بعد غيابه على اكمال الرواية واستشارت لهذا الأمر عددا من الشخصيات القريبة من الروائي الذين رحبوا بالفكرة الا انها تراجعت عنها معتذرة لكاتبها قائلة (وعند الشروع بالكتابة وجدتني أحرث في حقل لا يشبه حقلك ومن الصعوبة ان اعيد الحياة لحياة فرت من مبدعيها لذلك ركنت الفكرة ص 9) اذ من الصعوبة ان يأتي عمل ابداعي منسجم يقوم على كتابته قلمان وفكران واسلوبان مختلفان ربما نجح في ذلك الكاتبان المبدعان " عبد الرحمن منيف " و " جبرا ابراهيم جبرا عندما اشتركا في كتابة رواية " عالم بلا خرائط " الا انها ظلت مغامرة يتيمة، يذكر ان الكاتب عبد الستار ناصر شرع بكتابة روايته تحت تأثير عاملين ضاغطين هما المرض والغربة حيث كانت البداية أيام وجوده في عمان 2009 ونشر أنداك فصليها اليتيمين ولكنه عاد من جديد الى مراجعتهما واعادة كتابتهما على أمل تكملة الرواية قبل رحيله في عام 2013.

تصدر الكتاب ــ الرواية التي لم تكتمل ــ  مقدمة وعدد من الرسائل واليوميات كانت الكاتبة "هدية حسين " قد كتبتها ونشرتها في مناسبات ذكراه وسلطت فيها الضوء على ظروف هجرتهما من العراق والمعاناة التي واجهتما في تنقلاتهما واسفارهما المتعددة، ففي "رسالة اولى الى عبد الستار ناصر" تكشف الكاتبة جانبا من المعاناة التي عاشتها مع الراحل ايام وجودهما في عمان وكيف كانا يزوغان في الطرقات الضيقة هربا من عيون العسس الذين قدموا من بغداد الى عمان لملاحقة العراقيين الهاربين من بطش النظام واضطرارهما الى تغيير الشقق الصغيرة التي سكنا فيها، وكذلك اجترار ذكريات الاصدقاء الذين رحلوا عن الدنيا والامراض التي داهمت جسد الكاتب وعن (بغداد التي ما خرجنا من عباءتها والتي اصبحت اقرب من حبل الوريد بعد ان غادرناها ص13) ومعرجة على وفاء الاصدقاء في بغداد الذين حال وصولهم خبر وفاة عبد الستار قاموا بتأبينه وايقاد الشموع وساروا بنعش رمزي وطافوا به في شوارع بغداد وتختتم رسالتها الأولى بـ (لا لن تمت.. ولن. فأنت موجود في كل رواية وقصة ومقالة طرزتها اصابعك ص18)

في رسالتها الثانية اليه التي كتبتها بعد مرور سنوات على رحيله يأخذ لوم النفس وتأنيبها مساحة من سطور الكاتبة فهي تسأل نفسها (لماذا خرجنا من العراق؟ ولماذا لم نبق في عمان؟ ولماذا جئنا الى كندا؟ كان علينا ان نتريث؟ ولماذا لم نتريث؟ أم كنا نبحث عن قبر في أقصى العالم بعد ان ضاقت بنا الأمكنة ص19) كما تكشف بعضا من مشاكساته معها فهو سبق ان وصف شخصيته بـ " الخطأ الذي لا يتكرر " لكنها عندما كانت تغضب منه تقول له (انت الأخطاء جميعها التي تتكرر ص19) وهو يرد عليها بضحكة مجلجلة  (انا لا احب الصواب يا حبيبتي.

بعد سنوات على رحيله وعودتها الى مسقط القلب ــ العراق ــ  تكتب رسالة ثالثة تذكر فيها شدة تعلق الشاعر بالعراق وان الانتماء له لا يضاهيه أي انتماء اخر فقد كان يقول لها قبل حصولها على الجنسية الكندية (سيبكي قلبك يا هدية، فما ان تمسكي بالجنسية حتى تحسي بأنك انسلخت عن العراق ص 23) .

كما تسرد الكاتبة في يومياتها ظروف هجرتهم من عمان الى كندا والصعوبات التي واجهتهم ومنها الضائقة المالية التي اضطرتهم الى السكن والمعيشة في شقق غير ملائمة، وفي مشهد قاس ومؤثر تستعرض فيه وقائع ليلة وفاة عبد الستار ناصر والاجراءات التي قامت بها السلطات الصحية التي هرعت الى بيته في محاولة لإنقاذه لكنها لم تفلح في ذلك فقد وجدته قد فارق الحياة مصححة فيها الأخبار الخاطئة التي تناقلتها الصحف والمواقع بشأن مكان وزمان وفاته.

بعد المقدمات واليوميات والرسائل المتعددة يأتي الفصلان اليتيمان من الرواية التي اهداها الى الشاعر فوزي كريم، ومنذ استهلال الرواية تشعر ان بطلها "عزيز " هو عبد الستار ناصر نفسه في مغامراته مع النساء وتجاربه المثيرة او على الأقل في سنواته الاخيرة التي قضاها متنقلا بين المطارات والمحطات وعواصم البلدان، فـ " حليمة " الشخصية الرئيسية الثانية في الرواية التي يقضي الكاتب في فصليه بحثا عنها بين مصر وبوخارست وبودابست والبصرة لم تكن مجرد امرأة فحسب انما كان يرمز فيها الى حياة الدعة و الاستقرار التي ظل الكاتب يبحث عنها في تلك الأمكنة، فهو يستهل الرواية بمشهد انتظار " عزيز " ــ البطل ــ  في محطة القطار الذي سوف يقله من بوخارست الى بودابست قادما من صوفيا بحثا عن امرأة قالت له (ذات يوم : سأعيش بقية عمري هنا اذا تخليت عني ص38) " حليمة " التي هجرته بعد ان دوختها خياناته وأكاذيبه التي يصفها مغمسة بالتوابل، وحال وصول قطاره يتوجه الى الفندق الذي عاش فيه مع حليمة جانبا من مغامراته وفوضاه فيجد انها قد تركت له رسالة تقول فيها (ما دمت قد أتيت فأنا عدت ُ الى البصرة أيها الخائن الجميل ص39) الأمر الذي يضطره للعودة الى صوفيا من أجل اللحاق بحليمة في البصرة ويفاجأ في القطار برسالة تركتها حليمة لدى النادل تقول فيها (أراك أينما وليت وجهك ولن تراني مهما فعلت ص 40) كأنها تلازمه اينما ذهب، ومن أجل الوصول الى حليمة وفي ظل ارهاق الافلاس يضطر في العاصمة البلغارية صوفيا الى العمل في غسل الصحون والفناجين في المطاعم والبارات لكي يتمكن من البقاء بعيدا عن رقابة الشرطة التي تفتش عن المهاجرين غير الشرعيين ويلجأ الى النوم ليلا على مصاطب المحطات والحدائق والغابات وعلى مقربة من الكنائس توفيرا للنقود الى ان تظفر به "جانيت " وهي شرطية بلغارية نائما على مصطبة في غابة وينتهي به الحال مبعدا ومرميا على رمال استانبول مع جوازه المختوم بمنع دخوله صوفيا ثانية حيث يجد نفسه من جديد في العراق وتحديدا في البصرة وعلى مقربة من حليمة (ما دمت اشعر بالخوف، ذلك يعني انني في جزء من بلاد الرافدين ص 44)، لم يصبر طويلا في البصرة التي كانت تعيش حربها الطويلة فبعد ان يفشل في اللقاء بحليمة يضطر لمغدرة البصرة والهرب الى سوريا متخفيا بزي عربي فهو لا يريد ان يموت في تلك الحرب وهناك يشتغل بائعا للصحف والمجلات وفي غسيل السيارات وغاسل صحون وكذلك في الملاهي الليلية على أمل العودة الى البصرة والظفر بحليمة، وتستمر لعبة رسائل حليمة التي تصله بطريقة غريبة في كل مكان يصل اليه فحليمة هي الأمل الذي لا يتركه ييأس من الظفر بالسعادة التي ذاق لذتها في مرحلة من حياته لكنه فرط بها وأضاعها نتيجة انغماسه بالمتع والموبقات والخيانات العاطفية وفي لحظة ندم متأخرة يأتي اعترافه (هكذا ضاعت مني حليمة العسل، أخطائي كانت اكبر مني وموبقاتي ايضا ص 55)  ويظل حلم اللقاء بحليمة ثانية محور فصلي الرواية  ولا ييأس من الظفر بها (اختصرت الحياة كلها في امرأة لم اعد أعرف اين مكانها، أذهب من أجل عينيها الى بودابست كمن يبحث عن ابرة في كومة قش ص 58) والذي يؤكد وحدة شخصية البطل مع عبد الستار ناصر الذي اطلق على نفسه يوما عبارة (عبدالستار ناصر الخطأ الذي لا يتكرر) يعيدها البطل عزيز في لحظة اعتراف (رتبت حياتي خطأ ينبع من خطأ يدخل في خطأ، لهذا قلت عن نفسي انا الخطأ الذي لا يتكرر ص 62) الى ان تدخل حياته امرأة اخرى هي " نجوى فاروق " فيعيش حائرا  (في ورطة اسمها البحث عن امرأة ضاعت واخرى هبت على حياتي ص 78).

في المقدمة أشارت الكاتبة هدية حسين الى ملاحظة جاء فيها ان الكاتب بعد التوقف الطويل قام بإعادة كتابة فصلي الرواية وذلك بدمجهما وجعلهما فصل واحد واعاد صياغة ما كتبه سابقا كما أجرى الكثير من التغييرات ومنها أضافة شخصية جديدة هي شخصية " نجوى فاروق " مما اوقع الكاتب في تكرار عدد من المقاطع ربما فقدان شيء من التركيز بسبب اثار المرض او بسبب عدم المراجعة الدقيقة للنص وهذه الملاحظة لن تقلل من جمالية وقيمة البنية السردية التي عرفناها في أدب عبد الستار ناصر والتي أكدتها هذه الرواية التي أراد المرض ان يترك نهايتها مفتوحة وللقارئ ان يضع لها النهاية التي تنسجم مع تطلعاته فهي رحلة التشبث بالأمل والبحث عن حياة الاستقرار التي تمثلها شخصية "حليمة العسل".

***

ثامر الحاج امين

يعتبر النتاج الادبي هوانعكاس لبيئة ومجتمع لكل اديب، وعندما يتحول هذا المنتج الادبي الى عمل فني فإن المخرج يبدع بصايغة ملامح الشخصيات التي هي بمثابته محور ومحرك الاحداث حيث يجعلها اكثر وضوحا وهنا تلتقي لمسة وفنية الاخراج مع ابداع الاديب واحيانا ايماءات واشارات تعطي للعمل الادبي روحا وحوارات صامته لايمكن للنص الادبي ان يصرح بها حيث تعتبر اللغة في العمل الفني هي التقاء فكرة المخرج والروائي.

عند مشاهدة اي عمل سينمائي ماخوذ من عمل ادبي سواء رواية اوقصة دون ان تسائل عن ماهو الفرق بينهما وهل كان العمل السينمائي قربيا ومخلصا الى النص الاصلي او بعيدا عنه، حيث ان قليل من الاعمال ينجح صانعوها من التعامل الحميم مع الاصل ، الكثير منا حين يشاهد العرض السينمائي وبجعبته الكثير من الاسئلة اهمها فيما اذا كان المخرج قد استطاع مع طاقم العمل اداء وتجسيد روح الرواية، في كثير من الاحيان يتم الانحياز الى العمل الادبي في اصوله الاولى، حي تظل الرواية اكثر غنى وتعددا من الاحادية التي يفرضها تحويل الادب الى سينما .

رواية " زقاق المدق" "تعد زقاق المدق الرواية الثانية التي أراد فيها نجيب محفوظ أن يصور أثر الحرب العالمية الثانية في حياة الطبقة الوسطى التي تسكن هذا الزقاق بعد روايته الأولى خان  الخليلي التي ألفها قبل هذه بسنة "

من المعروف ان معظم النتاج الروائي لنجيب محفوظ أنه تصوير لرحلة الحرمان الاجتماعي الذي تعاني منه الفئة البسيطة في المجتمع المصري بما في هذا المجتمع من اضطراب له علاقة بالحياة اليومية و الحياة العامة من أحداث وأفكار وفلسفات ونزاعات. هذا ما نراه مجسد في رواية زقاق المدق والتي سنحاول فهمها بشقيها الروائي والإخراجي.

تعتبر لغة الحوار لدى نجيب محفوظ بانها صورة من صور الأسلوب ومن الوسائل التي أعتمدها في رسم الشخوص وتطوير الإحداث، ومن ثم فهو يستعمل الحوار لتطوير موضوع الرواية و الوصول بها إلى النهاية، وفيه تستحضر الحلقات المفقودة في الحديث، وبه يتم الكشف عن جوهر الشخوص ويدور الحوار في رواية زقاق المدق حول فكرة معينة

اللغة والحوار في القالب الإخراجي:

السيناريو قصة تحكى بالصور: السيناريو يتعامل مع الصور المرئية، مع تفاصيل خارجية. مع شخص يعبر شارع مزدحم، سيارة تدخل شارع فرعي، باب مصعد يفتح، امرأة تشق طريقها وسط الزحام. في السيناريو تسرد القصــة بالصور.

الرواية تختلف عن ذلك، الرواية عادة تتعامل مع الباطن، الحياة الشــخصية لشخص ما، مع أحاسيس الشخصية وعواطفها وأفكارها، فالذكريات تأخذ حيّز في الشرود الذهني للفعل الدرامي. الرواية عادة تأخذ مكان داخـــل رأس الشخصية.

أن كاتبنا يعتمد دوماً على اللغة الفصحى وليست الفصيحة بل الفصحى الأقرب إلى العامية اعتماد كاتبنا على لغة الوصف تجعل ملامح الشخصية تبدو واضحة لدى المخرج ولكن نجد هناك إضافات فنية رائعة. قد أضافها المخرج إلى النص الروائي؛ أضافت بالفعل إلى الشخصيات ما يجعلها أكثر نطقاً وتوضيحاً للأحداث.

الشخصيات في الرواية:

تقوم الشخصيات على خدمة الفكرة؛ التي يريد الكاتب أن ينقلها إلى القارئ؛ حيث لا نجد بطلاً معيناً في القصة،إنما البطل هو الإنسان عامة بقضاياه فنجد في زقاق المدق " حميدة " بما تحمل من آمال وتطلعات و " عباس الحلو " وعاطفته نجدها جميعها تخدم فكرة الرواية، سواء كانت تلك الشخصيات محورية أم شخصيات ثانوية

وبالنظر في الشخصيات التي في رواية زقاق المدق نجد بعضها شخصيات جاهزة منذ بداية الرواية ولم يطرأ على مجريات حياتها تطور بعينه مثل شخصية " عم كامل " بائع البسبوسة و " الشيخ درويش " و" سنقر القهوجي " جميعها شخصيات تسير على وتيرة واحدة. إلا أنه هناك شخصيات نجدها تبنى من خلال العمل الروائي نفسه مثل شخصية "حميدة" التي بدأت تتزايد فنجدها في البداية فتاة تعيش مع أم لها بالتبني، ثم سرعان ما تتطلع لأحلام وطموحات أعلى من قدرتها. حتى تصير هي محور الدراما، و المحرك الأساسي له بعدما هربت مع "فرج إبراهيم" الذي أغراها بالزواج. ثم سرعان ما خلا بها وتاجر بجسدها وهذه روعة نجيب محفوظ فهو لا يفرق في بنائه بين شخصية رئيسية أو فرعية

التشخيص في الفيلم:

لنا أن نقرّ في بداية تناول هذا الجانب، أن نجيب محفوظ في رواية زقاق المدق قد اهتم إلى حد كبير في رسم الشخصيات بالنواحي الداخلية و النفسية. وبالتالي فقد ترك للمخرج مساحة كبيرة لوضع الرتوش الفنية على الشخصيات من ملابس وإكسسوارات تسهم في الفيلم.

عندما نقارن بين الفلم والرواية (زقاق المدق) نجد الكثير من الامور التي تستدعي ان نركز تفكيرنا على فهم اهم النقاط بين العملين:

(تحكي الرواية قصة زقاق المدق الموجود بمنطقة الحسين، تتناوله بوصف الدقيق، حيث يصف الجدران والأرضيات والمحلات، تطرق الرواية لشخصية حميدة الفتاة شديدة الجمال، التي تربيها صديقة والدتها، بعد وفاتها، فهي دائما متمردة رافضة لعيشة الزقاق القاسية، وتتمنى الخروج منه بأي طريقة، ولكنها تستجيب لحب عباس الحلو وتتم الخطبة).

. والأشخاص المهمشين وملابسهم وتصرفاتهم.         عندما تعرف أن فيلم زقاق المدق كان سيسمى حميدة ستعرف الفرق الجوهري بينهما، فالرواية بطلها الزقاق، والفيلم بطلته حميدة، خرج الفيلم تمامًا عن اهتمام محفوظ بـ الزقاق كمكان وفترة الاحتلال الإنجليزي بالأربعينات كتاريخ، ليهتم بالبطلة حميدة التي جسدتها الفنانة شادية.

أما فيلم زقاق المدق فقد اعتمد على رمزيات مختلفة تماما، فاختاروا أن تموت “حميدة” كنوع من التطهر من ذنبها، وأن تدفع حياتها ثمن ضياع شرفها، وقد قيل أن شادية ترمز لمصر وعباس الحلو يمثل الشباب الثوار، والإنجليز هم من قتلوا حميدة.

أبرز الفوارق بين رواية زقاق المدق والفيلم   /     هناك بعض الفوارق التي يُمكننا رصدها بين الفيلم والرواية، هي:

* النهاية:

يبقى أن نشير في الختام إلى أن المخرج، أو ربما كاتب السيناريو قد تصرّف في خاتمة الرواية، فبدلا من أن يقتل عباس الحلو على يد الإنجليز، تُقتل حميدة بطلقة طائشة لينقلها الشابان حسين كرشة وعباس الحلو إلى الزقاق في مشهد بالغ التأثير، وربما انسجاماً مع النظرة الأخلاقية حول فلسفة الخطيئة والعقاب، أو للتأثير في المشاهد الذي أعجب بنموذج عباس الحلو السلوكي والأخلاقي، لكنّ الإشارة تستوجب القول إنّ اختلاف النهاية على هذا النحو يخالف وجهة نظر محفوظ الفكرية ورؤيته لصراع القدامة والحداثة، وفي انتصار للحداثة حتى ولو كان الثمن غالياً.

* حميدة.. نحبها أم نكرهها؟

جاء دور حميدة الذى لعبته الفنانة المحبوبة (شادية) عكس ما أُريد منه فلقد أحببنا شادية و تعاطفنا معها، بينما كان ينبغى أن نرفضها و نحتقرها، كما أراد نجيب محفوظ. حميدة في الرواية كانت البطلة التي باعت كل شيء في سبيل المال، حتى أمها التي تبنتها، فهربت مع إبراهيم فرج وتمرغت في نعيم المهنة الجديدة، عكس الفيلم الذي بدت فيه حميدة شخصية ساذجة تقع في شرك شخصية القوَّاد دون وعي منها.

بينما بدت حميدة في الرواية شخصية قوية يحركها الانتقام والتسلط بدت على الشاشة شخصية ضعيفة يحركها ضعفها أمام الحب.

* مقتل البطل النبيل أم البطلة الخاطئة؟

في الرواية من قُتل هو عباس الحلو، عندما اجتمع عليه الجنود الإنجليز، حين كان ذاهباً ليثأر لشرفه. بينما عاشت حميدة. أما في الفيلم فقد ماتت حميدة وكأن الفيلم يدفعها لدفع ثمن خطيئتها، كعادة أغلب الأفلام العربية التي تُفضل أن تنتهي الحكاية بانتصار الخير على الشر. وهو أمر كما نعلم جميعاً للأسف لا ينتمي للواقع.

* البطولة.. بين المكان والإنسان:

في الرواية كانت البطولة للمكان.. للزقاق أو الشارع الذي سكنه عدد من الشخصيات المختلفة وتوزعت بينهم جميعاً البطولة. أما في الفيلم فقد ركز المخرج على حميدة وحدها وجعلها محوراً رئيسياً للأحداث التي تدور من حولها.

***

ا. م. هديل عادل كمال

الفضاء الدلالي بين مظاهر الجمال وتشكيلات البوح

توطئة: إن بلاغة الالتفات إلى مكنونات حالات الأشياء وطقوسها وممارستها في الخطاب الشعري، تتطلب من الشاعر النظر في محكم الكيفيات في صناعة النص، وليس في كيفية تدليل المسميات والظواهر عبر صياغة مقطعية، نادرا ما تجد فيها حيوية الموازنة بين (الذات = الموضوع) . لربما من السهل على كل مرء كتابة القصيدة في حدود عاطفة جياشة وسيالة، ولكنها في الأخير أكثر خضوعا إلى مجال العتبات الذاتية المفرطة: فهل هذه هي القصيدة في وجهة نظر بعض تجارب الشعراء؟ من الصعب تجاوز الموازنة بين الرؤية الذاتية والمعادلة الموضوعية في أي من مهام القصيدة سواء كانت حالات مسرفة في العاطفة أو أنها صورة مكرسة بحجم قناعات الحلم للشاعر بأن ما يكتبه هو الشعر؟. إن الفعل الشعري من الاستثناء دائما وأبدا، حتى ولو حاولنا غض الطرف عن عدمية مؤهلات كاتبها منذ مساحة زمنية لا تحصى ولا تعد. قلنا أن الأفعال الشعرية في موجهات الشعر، تتعلق في حضورها التصديقي، بذلك النص المتحفز في مجمل حسابات الرؤية واللغة والأداة والمعادلة الموضوعية بين ذاكرة الحلم وقصدية النظام الأسلوبي في مكامن خطاب القصيدة. من هنا سوف نتعامل مع منتج مجموعة (أنت تشبهينني تماما) إلى جانب مجموعة الشاعر الصديق سعد جاسم التي جاءتنا تحت عنوان (أرميك كبذرة وأهطل عليك) والقارىء إلى شعر سعد جاسم إجمالا، لربما يلاحظ إنتاج الحالات الأكثر تعلقا في موضوعة الذات المتمثلة بأشد مخارج ثنائية (الأنا ــ الأنثى) وعلى هذا النحو الذي تنعطف فيه أفعال الذات، تواجهنا منطقة الاستقرار على الصعيدين الدلالي والتشكيلي وبأقصى ما تتطلبه منظومة الدال من عناصر الفعل والتأثير والاستقبال في معطيات التذوق والذائقة القرائية.

1ــ السياق الفعلي وخصوصية الموصوف المركز:

تتكون الفعالية الحيوية في سياق أفعال قصيدة الشاعر من خلال مصاحبات خاصة في تحقيق المعنى المبثوث بذلك الزخم من العاطفة والوجدان. إذ تنحو دلالات النص، بذلك التوجه الذي هو بذاته علامة نوعية في طرائق (الخطاب ــ المخاطب) فالشاعر عندما يخاطب حالات الذات الأنثوية، إنما يعتمد في إيحاءات مرسله إلى تلك الجهة التي قد تكون (الوطن ــ الذات الملامسة) أو ما يتقصده الانسياق بعيدا عن مظاهر المعنى بذاته ولذاته:

أعرفُ أنَّ ليلكِ شائكٌ وطويلٌ

حتى صحارى الأرق

وأعرفُ أنَّ غاباتِ التوجسِ

والسهادِ المالحِ

تسرقُ كحلكِ.

تنتج هذه المقاطع خلاصة العلاقة المقاربة بين (حساسية المرسل) ومقولة (التشكيل الحسي) إذ تخضع صفات واستظهارات التماهي مع طبيعة (الفاعل المرسل) على النحو الذي يظهر الصوت الشعري وكأنه حالة من حالات التخاطب مع أنثى ما، ولكن حقيقة المتن الأفعالي جعلت من هوية مرسلاتها بمثابة المناجاة بأعلى كفاءة ممكنة: (فتندى عيونك.. ويشتاق جسدك لرائحتي. ) بهذا التوصيف، واجهتنا قابلية اشتباك الواصف مع هوية الموصوف، إذ يرتد الراوي الشعري (كلي القصد؟) نحو الظهور الدوالي بما لا تستنطقه محتملاتنا القرائية دون ذلك المرسل القصدي بكون أداة التلفظ لها من التجديف نحو منطقة الأنوثة الحسية حصرا، وألا ما اللافت دلاليا في مكونات جملة (ويشتاق جسدك لرائحتي) فالشاعر هنا لا يصافح المسميات في حدود مواضعها الانموذجية، بل إنه يقحم الجلاء في ظلمات من الرماد. وإذا كان الشاعر ملزما في الكتابة عن الأوطان فهو ملزما في الآن نفسه في توظيف مفردات أكثر طلوعا وماهية الحالة الموضوعية وما تتطلبه من مفردات وصفية خاصة:فهل من الممكن كتابة قصيدة تتحدث عن الأمومة، ولكنها معبرة في حدود لغة إيروسية مثلا؟لا طبعا فهذا الأمر لا ينتج للقصيدة سوى اضطرابات إنشائية في وظيفة المرسل إليه.

2ــ التمثيل الإيروسي وسلطة الدلالة القصدية:

تتنوع صيغ التوليد الدلالي في مجموعة قصائد (أنت تشبهينني تماما) بما يوافق ويعارض بعض وظائف الموضوعة الشعرية (الميتاحداثوية) فالشاعر لحد الآن لم يتجاوز عاطفة ذلك الشاعر في مرحلة عمرية ما. وإذا عاينا محتويات النصوص في المجموعة، لربما وجدناها لا تتعدى حدود (فضاء حلم العشق؟) ودوام فيض هذه اللغة في حالات المنظومة الشعرية لدى الشاعر:

واقفةً بنداكِ وعطوركِ وصهيلك

تبتكرينَ ربيعاتٍ لأجلي

وتهطلينَ بغيمِ الكلمات

فتتعالى الأرضُ شجراً مستحيلاً.

ويمكننا في مثل هذا السبيل معرفة منظومة الأنساق والأفعال في نموذج قصيدة الشاعر، فهي قادمة من الذات القولية التي تحبذ لذاتها رصف أجود المفردات المجازية في وصف القادم من القلب والذات والانفعال الوجداني. هكذا تنطلق من: (وكلما أخصبك بملائكتي تزدادين فرحا) وتعاود تداعياتها المتبجلة إلى أقصى درجات الغليان المتوغل في أحوال المرسل إليه وصفاته الجمالية. ولو جربنا إحصاء لوازم وأدوات وموضوعات القصائد، لربما لا نجد من بينها من الفوارق الوظيفية، سوى اختلاف الصياغات العنوانية. فالمتون متقاربة واللغة تتبنى موضوعة شبه ثابتة إلا من حيث بعض الأغراض والأداة في الخطاب الموجه.

3ـــ فحولة التخييل وأنوثة الدال الشعري:

إن قابلية الاستعداد الذهني للشاعر هي عملية معايشة وتدبر وتفاعل أثناء التعرف على حالات الأشياء، فالشاعر ــ سعد جاسم ــ لديه الكثير من الأواصر والمسافة الحميمية مع الذات الأنثوية، لذا تراه ذا نظرة ذوقية ومدربة في وصف وطرح ما يريد قوله من حالات دلالية قد تتعدى مستحدثات الإدراك الجمالي العابر أو الاستقراء الاسقاطي مع حالات قصيدته. نتعرف من خلال مجموعته الثانية (أرميك كبذرة وأهطل عليك) كحالة مضافة في شواغل الدال القصدي، فالمخيلة في وقائع هذه المجموعة تسعى إلى استجلاء تفاصيل الآفاق الذاتية الأنثوية بكامل أسرارها وخصوصيتها:

لا وقت عندي إلا

لأبتكرك

حيث أهىء لك طين

الكينونة من ينابيع الليل

وأستجير بروح

الصبح وعصافيره

وملائكته

لتشاركني كرنفال

تكوينك وتدوينك. / مجموعة (أرميك كبذرة وأهطل عليك)

في الحقيقة أن محاكاة عملية الخلق لربما هي من الإيحاء عبرالكائن في صورة التلفظ والملفوظ، لذا فإن حالة الاستكمال في المشار إليه هي مخاطبة في حيز من المقاربة في مجال تعددية علاقة الإطلاق الصفاتي بالموصوف. وإذا أردنا التركيز على نوعية الأداة فلربما لا نعدها بغير تشكيل الصور وبث اللقطات في الحلول التصوري للمادة الشعرية. إذ لا شك أن جملة (لا وقت عندي؟) اللازمة الأولى والتوسطية والأكثر وصلا وفصلا في متن النص، هي لغرض اكتشاف مدى عمق دلالات هذا الكائن الحلمي المفترض، لذا فإن جملة العنونة (لا وقت إلا لإبتكارك) هي من الخصوصية والتركيز المكرس لأحوال دلالات أكثر حسية من كونها تتمخض عن رؤى خارج حدود سياق الدلالة المتفق عليها في مجمل قصائد المجموعتين.

4 ــ تعليق القراءة:

في الختام أشكر الصديق الشاعر سعد جاسم على جميل ما أتحفني به من تجاربه الشعرية، لذا لا يسعني سوى القول إلى القارىء الشعري في هذا المقام: النص الجيد هو الذي يدعونا إلى التأمل والتفكير والمداومة عليه بحثا عن المعنى الآخر عبرخياراته القصدية المؤولة، فهناك قدرات شعرية يحاول أصحابها الإضافة النوعية بها إلى نخبوية التلقي وجدل المغايرات في التأويل عنها، كما وهناك ثلة من النصوص ممن لا تكلف قارئها سوى عناء تقليب صفحاتها للمشاهدة فحسب. تمنحنا تجربة الشاعر سعد جاسم حركة الدوال العاملة نحو جذب التلقي والألفة معه، لأجل ضرورة فهم ما يشعر به الشاعر، فهو ــ أي الشاعر ــ ممن يتعامل مع روح القصيدة على إنها وصفا متبادلا للجمال كبداية ووسط ونهاية ترتبط ارتباطا حميما مع اللحظة الآنية من تقارب الملفوظ مع ضرورة أن يقرأ بمعنى كونه قصيدة مثيرة في لغتها وتجربتها. وعلى هذا الأساس رأينا انتعاش الشاعر بمنجزه الشعري، لذا فعلينا التبادل والتقاسم مع أنغام والحالات الانسيابية الخطية في القصيدة والاحتفاء بها مع فرحة وسعادة الشاعر المستغرقة.

***

حيدر عبد الرضا – ناقد وكاتب عراقي

توطئة: يعتبر الشعر من أرقى أشكال التعبير اللغوي وهو من أوائل الفنون المحلية والأقليمية والعالمية الجميلة والتي تستجيب لحاجات البشر وطموحاتهِ السوية، وكذا النهج الثقافي الملتزم والمثقف الواعي الثوري الذي يتحسس آلام جروحات شعبه فهو المطلوب في البناء المجتمعي لكونه واعي ومدرك فهو الكود المشفر للتغيير ووضع الجمهور على طريق الألف ميل، في هذه المدونة الأنسانية الثورية أن نردد خطاب ميرابو الثورة تشي جيفارا وهو يحدد سمات المثقف المطلوب للتغيير (المثقف الذي يلوذ بالصمت أكثر خراباً من النظم الدكتاتورية) ونحن بحاجة لفسحة أمل وتأمل للوصول إلى اليوتوبيا (المدينة الفاضلة) المترعة بالأنسنة والحرية والفرد المصلح، أن ومضات الجمال تشرق من فضاءات قصائدك الجميلة يا أباجوان، وقد قرأتُ لثيودور تيستوفيسكي في الأخوة كارمازوف: الجمال سوف ينقذ العالم (نحنُ لا نفهم إن الحياة هي الجنة، وإن علينا أن نفهم ذلك سوف تتحقق في كل جمالها في الحال سنحتضن بعضنا البعض ونذرف الدموع) .

النص:

عبدالستارنورعلي شاعرالمنفى والحرية عراقي مقيم في السويد مواليد 1942" فهو شاعر وكاتب ومترجم وناقد أدبي لهُ من ثمرات مستلهماته الشعرية: قصيدة أحبك يا آرنستو، وبين الغربة والجراح، والورد يجذب الورد، ولوركا أنهض، وقصيدة على أثير الجليد، وقصيدة يا موقد النفس 1985، بدأ بكتابة الشعر الكلاسيكي متنقلاً إلى الشعر الحر لشعورهِ إن القديم لا يحقق مساعيه لطموحاتهِ الذاتية قصائد الشاعرعبدالستارنورعلي" وجدانية تصدر من أحاسيس الشاعر وأبداعاتهِ الشخصية وتجاربه الذاتية في أعلان الحرب على مستلبات الحياة الفقروالمرض والجهل والحرمان والموت، فهو شاعرالواقعية الملتزمة بمحور الأنسنة والحرية بأرقى صورها تتماهى بكبرياء وتصطف مع شعراء كبارفي الوطن والعالم العربي، الشاعر الأسطورة لك كل المجد لقد أجدت وأبدعت في الشكل والمضمون والتراتيبية المنهجية وبتجلياتها المتنوعة قصائد البيت والتفعيلة وقصائد النثر الأدبي مجملها ترقى لبانوراما متكاملة فأنت الحب والجمال والموسيقى .

وسوف أستعرض خلال هذهِ القراءة الوامضة بالأنبعاثات الجميلة بفضاءاتها الشعرية والأدبية النقدية البعض من نصوص الشاعرالمرهف عبدالستارنورعلي:

 التكا مل الجمالي في قصيدتهِ " لوركا أنهض "، لوحة جميلة بكل المقاييس تأسر القلب والذات وهو يقول:

لوركا أنهض

لا يزال العرسُ دامياً

لا يزال الناس هم الناس

لايزال الفاشست يقتلون الكراسي

والناس سكارى

وما هم بسكارى

ولكن أكثرهم يعلمون

أندهشتُ لبراعة الشاعرفي رسم صورها الحياتية الحيّة على لوحة البؤس اللاتيني أنسنة وحرية وخبزاً، محيطةً بهالة من التراجيديا المؤلمة والمتعايشة مع وهج الشعر ا لثوري التقدمي، وبحبكتهِ السحرية الفذة وقدرتهِ الأسطورية في صنع سلالم الحروف والتسامي سامقاً ليعانق الثريا باذخاً حينها مسحة من التكامل الجمالي .

يبدو لي أن هناك غيمة ثرية تسير وتتسع بوحي الشاعر الكبير "عبدالستارنورعلي" لتنثر رذاذها زهرا وطيبا ومسكاً على بساتين وخمائل هذا الكوكب الجميل الذي أحتضن شاعرنا بتكحيل عينيه حباً وجمالاً ليخط يراعهُ المتميّز قصيدته الشعرية الموسومة (أحبك يا أرنستو)القصيدة منجز أدبي ثقافي رائع متكامل من بنية معمارية وبهندسة لغويةٍ ونصيّة شعرية مثيرة ومبهجة نُشرتَ عام 2005 وثمة أثارة وتأمل وأعجاب في سيمياء العنوان والذي يأسر المتلقي ويدخله صومعة قصائدهِ متوضئا ببعض أبيات القصيدة:

رجل قد جاوز خط الستين

بخطين

يحلمُ بالثورة الدائمة

في كونِ ضاع

بين محطات الظلمة

والقتل

وضباب الرؤية

ليس غريباً

أن يعشق لوحة آرنستو   

تشي جيفارا

هوية الثائروالعاشق المتمرد " آرنستو جيفارا"

هو الطبيب والكاتب والزعيم العسكري وعازف الكيتار والمصور الفوتوغرافي ورئيس دولة الأسطورة " تشي غيفارا" 1928- 1967، بعد نجاح الثورة الكوبية صُنف ثورياً بالرجل الثاني في القيادة للدولة الكوبية الفتية، فهو أرجنتيني المولد كوبي الأقامة، وهو نموذج ثوري وطني عالمي، وجدتهُ أنسان جديد تحركهُ دوافع أخلاقية وليست رغبات مادية، ومن يقرأ سيرتهُ الذاتية يتألم ويحزن وثم يبكي، فهو حقاً قامة وطنية تخزن جلٌ صفات القيادة من مطاولة وصمود وصبر وحنكة سياسية، أضافة إلى أهتماماته الثقافية الأدبية والشعرية حيث كان مولعا بقراءة الماركسية لكون آيديلوجيتهِ أممية ومولع بقراءة أشعار بابلو نيرودا ولوركا، وقراءة الصفحات السياسية الثورية لكارل ماركس ووليم فوكنر وأندري جييد وجواهر لال نهرو والبير كوما ومعلم البوليتاريا لينين وأنجلز وبول سارتر، غامر بحياته لمرتين في دول لاتينية وأعدم في دولة ثالثة، ولهذهِ الشخصية الكاريزمية مؤثرات ديناميكية على شاعرنا المتألق والكبير الأستاذ " عبدالستار نور" في نسج قصيدته الرائعة (أحبك آرنستو):

والعشق ضياءٌ مرسوم في روح الأرض

حيّرأمراء الحرف

وضاعت الكلمات

والثورات

يا أرنستو

لوعادت خيل الوديان تقاوم عاصفة البحر الهائج

لو أن سنابل ارض الفقراء

وبنادقهم

أحلام اللبل

وأنفاس الجدران الصدئة

تقفز من فوق الغابات

والأنهار

والصحراء

لآعتدنا للكافر

بنصاعة عينيك حصيرا

يزهوبالتنوع

أسلوب الشاعر"عبدالستار نورعلي" في نسج عناصر القصيدة وبنيتها التصويرية أتجه نحو(تنويع) ثيمات نصوص قصائدهِ الشعرية ولأنهُ شاعر متمكن في توظيف جميع الأشكال التعبيرية في مضامين قصائدهِ الملحمية .

أتضح لي خلال الدراسة المستفيضة المتواضعة لمجمل نتاجاتهِ الشعرية تزهو ببوح شعري متنوع شكلا في حيثيات سرديات قصائده بثيمات متنوعة لكي يستلب الملل من المتلقي ويرسم في بنية القصيدة تلك التناقضان النصية بين مضامين الحرب والسلام والخير والشر والحب واللاحب:

- الشاعر أبو جوان غيمة مطر رذاذها تحطُ حيث الأبداع والتألق، وقصيدتهُ أحبك آرنستو ذات طابع " درامي تراجيدي" في بناء رصين تبرز فيه مركزية الأنسان والصراع الطبقي وتناقضاتهِ في زمن التوحش والأذلال والتجويع وأستلابات الروح، وأنت أيها الشاعر الكبير " عبدالستارنورعلي "تستحق الأصطفاف مع عظماء الكلمة الحرة بأبطال مناضلين خُلدت أفكارهم كتراث حضاري وخُلدتْ بصماتهم في أرشيف السفر البشري كالحسين أبن علي وأبو ذرالغفاري والحلاج ومحمود محمد طه وسلام عادل وجيفارا وهذا مقطع من القصيدة يستحضرها في:

كم من معشوقٍ قتل العاشق في اللعبة

كم من قلبٍ ذاب على وجع القلب

كم من فقراء

هاموا في رائحة الخبز

فأحترقوا

في تيزاب أولي الأمر

وثمة رغبة متطلعة في البحث عن المزيد من آهاتهِ الشعرية في "الدراما التراجيدية المأساوية " وجدتُ لهُ قصيدة " يا موقد النفس "كتبها في العام الدموي للنظام السابق 1985 فيها يقول:

يا موقد النفس إكسيراً لراحلهِ

كأس المنايا يدورُ اليوم ساقيها

وتمطرُ العاصف الموبوء نازلهُ

بالمهلكات أبابيلاً تساقيها

- الميل نحو الحداثة والتجريب بلغة جميلة مهذبة وهو يقول:

لم كل جراحات التوق

من ذا يحظى برنين القلب

ووخز الشوق

من هذا الحائز جائزة الطوق

من أجدى غيرك !؟

آرنستو

- الأسطورة والرمزية التصويرية وقصيدة لوركا أنهض التي كتبها في 27آذار2006:

لوركا أنهض

فرانكو يرتدي بدلة مكوية

وربطة عنق

من معامل تجهيز الرقاب

على مقياس رختر

والأدمغة على مقياس حالة الطقس

هذا اليوم

بيت برنارد ألبا مسرحية للشاعر لوركا (في 27 أذار2006)

- الديستوبيا: تعني التراكم الكمي والنوعي للمخرجات السلبية للحكم الشمولي الدكتاتوري وأنهيار القيم الحضارية بسبب القبح التكويني للثقافة الرأسمالية المتوحشة، ولأن شاعر القصيدة متمكن وبحبكة فنية وهواهُ اليساري التقدمي ألقى الضوء على مساحة واسعة من المخرجات السيئة للحكم الشمولي للمدينة الفاسدة البغيضة التي تحصي الأنفاس بهدف ترويج ثقافة الخوف وتكاد تكون ثيمة الدستوبيا النهج البارزللقصيدة، في هذه الأبيات الشعرية

يا آرنيستو

تلك القمم الشاهقة

بين سماوات جبال الأنديز تعشق فيك سيجارة هافانا

ولباس الجوريلا

والأقسام

يا اذا الأيام نداولها

بين بيوت القصب

والغابات المكتضة في أحضا ن الأ مزون

هذهِ أزقة سانتياغو الحافية

لازات تعشق مملكة الحب

السحرية

في أشعار بابلو نيرودآ

- تبرز ثيمة الفنتازيا واضحة في تكحيل القصيدة، فالحكايات الأسطورية الأفتراضية سمة تلازم الشعراء الكبارقديماً وحديثاً عالميا أعتبرت من أهم الذخائر الثرة والثرية في خزانة الفكر الأنساني، وقصد شاعرنا الوصول إلى (اليوتوبيا) المدينة الفاضلة وقال في قصيدة أحبك يا آرنستو:

ليس بيدي

يا آرنستو

أو بيد الزمن الغافي

في تعليلات الحرس الأقدم والأجدد

والقادم فوق حصان من خشب

أو تحليلات من خبراء الزمن الخائب

أن أحصر وجهك في شق الذاكرة

في أسوار الكتب

- ثيمة الغربة في حياة الشاعر رذاذ مؤذي ومستلب على بستان الشاعر الجميل نور علي، إن الغربة جرحَ تسع جغرافية الوطن إنها الموت اليومي، قيل لآحد الأعراب ما الغبطة ؟ قال الكفاية مع لزوم الأوطان والجلوس مع الأخوان ! وقيل لهُ وما الذلة؟ قال التنقل بين البلدان والتنحي عن الأوطان، وبالتأكيد شرب الشاعر عبدالستارمن كأس الغربة حد الثمالة في البعد القسري أكثر من نصف قرن ولم يتمكن من أخفاء عشقهِ الصوفي لوطنه الأم، لذا أعلن آلامها في مجموعته الشعرية (على أثير الجليد) بأوضح صورها الشعرية وهو يقول:

دق طفل مشرقي باب الفرح

لم يجيبهُ أحد

تزاحم الخيول

تنتظر السباق نحو ساحة الفرح

فأنطلقت صفارة الأنذار

قد كُسرت سارية الفرح !؟

فمالت الزهرة فوق راحة العشب

تشرب من برودة الندى

***

عبد الجبار نوري - كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

تشرين ثاني 2023

تطرح مسرحية "مركب بلا صياد" للكاتب والشاعر الاسباني اليخاندرو كاسونا، واحدة من أبرز القضايا الاخلاقية التي تواجه الانسان المعاصر في كلّ مكان وآن، فهل تقبل أن تقتل شخصًا بلا ذنب جناه مقابل أن تعيش سعادتك وتستمتع بعطاياها، ثم هل ترضى بأن تبني سعادتك على تعاسة آخرين، أو أن تستعيد قوتك الغائبة بعد أن فقدتها، أو كدت وبتّ مُهدّدًا بالإفلاس؟ مقابل تنازلك عن كلّ قيمة إنسانية وأخلاقية.

صاحب هذه المسرحية اليخاندرو كاسونا (1903- 1965)، يُعتبر واحدًا من أبرز الكُتّاب الاسبان في القرن العشرين. باتت معظم اعماله منذ زمن بعيد جزءًا هامًا من تراث بلاده الكلاسيكي، وتمّ التعامل معها سينمائيًا ومسرحيًا داخل بلاده وخارجها. حصل عام 1932 على الجائزة الوطنية للرواية من وزارة الثقافة في بلاده، على روايته " زهرة الاساطير"، كما حصل في فترة تالية على جائزة الكاتب الاسباني ذائع الصيت لوب دي فيجا، لقاء ابداعه أفضل نصّ درامي. كتب مسرحيته هذه " مركب بلا صياد"، عام 1945، وقد تمّت ترجمتها إلى العديد من اللغات وتمّ إنتاجها فيلمًا سينمائيًا أيضًا، وقد تمّت ترجمتها إلى العربية أكثر من مرة، منها واحدة نفذها وقام بها الكاتب والمُترجم العربي المصري الخبير بالأدب الاسباني الدكتور محمود على مكي، وقد صدرت عام 1965 ضمن السلسلة المسرحية الثقافية رفيعة المستوى " مسرحيات عالمية".

استوحى كاسونا عصب مسرحيته هذه من أسطورة فاوست الالمانية التي سبق واستلهمها أديب المانيا وشاعرها المُبدع جيته في مسرحية حملت اسمها ذاته، وعرفها الناس في معظم بقاع الارض وأصقاعها. تقع المسرحية في ثلاثة فصول، وتدور أحداثها حول رجل أعمال ناجح تتعرّض مشاريعه إلى هزّة شبه أرضية فيجد نفسه وجهًا لوجه ضمن مواجهة مصيرية قد تؤدي به إلى الافلاس أو قريبًا منه.

هنا يظهر له شخص أنيق يرتدي بدلةً سوداء وربطة عنق، (ضمن إشارة مقصودة كما يقول الاذكياء من الناس)، وسرعان ما يعرف منه أن الشيطان، وهنا لا بدّ من الاشارة إلى واحدة من أبرز مواصفات كاتبنا المسرحية، وهي الخروج في اللحظة المناسبة، من تطويره حَبكته المسرحية، من العادي إلى غير العادي من الاحداث. يعرض الشيطان على بطل المسرحية ريكاردو اليخاندور، وهذا هو اسمه، مساعدته في استرداد عافيته المالية، ويشترط عليه أن يكون مقابل هذا الاسترداد، بالموافقة على مقتل شخص يعيش في مناطق بعيدة قصية، دون ذنب اقترفته يداه، وعندما تظهر علامات التردّد على بطل المسرحية، يقنعه الشيطان بأسلوبه الجهنمي بالموافقة، مذكّرًا إياه أنه قَبِلَ أن يستغل المحيطين به ورضي أن يُصاب عُمّال مناجمه بالأمراض، وما إليها من مصائب يتسبّب بها رجال الاعمال لمستخدميهم وعمالهم دون أن يطرف لهم جفن، ولم يبق عليه إلا الموافقة، ويُبالغ في الاقناع يقول له :" اعزم أنت على القتل وسوف أتكفّل أنا بالبقية"، إنه يذهب أبعد من هذا فيقول له :" لا تنس كلماتك ان القلب شيء قبيح!!".

بعد تردّد يوافق بطل المسرحية ريكاردو، على أن تتمّ عملية القتل، خاصة بعد أن يُخبره الشيطان أنها سوف تتمّ دون أن تُسفك فيها دماء، وأن كلّ ما سيحصل هو هبّة ريح تودي بحياة صياد يدعى بيتر أندرسون، تمكّن بعد تضحيات جسيمة شاركته فيها زوجته الوفية، من شراء مركب صيد. هكذا يوافق ريكاردو على الفعل الفظيع وغير الاخلاقي، وهنا تبدأ الاحداث بالتطوّر في اتجاه آخر، صحيح أن بطل المسرحية ريكاردو يستعيد توازنه المالي المُهدّد بالفقدان، غير أن سؤالًا مُقلقًا يلحّ عليه مفاده ما الذي حصل. عندما يصل هذا الحد من التساؤل يُقرّر السفر إلى " مكان الجريمة"، ليكتشف أن الشيطان أوهم هناك شخصًا يدعى كريستيانو بأنه هو مًن قتل زوجها الصياد بيتر اندرسون، جراء منافسات تسببت في ضغينة كامنة وحقد دفين، وان هذا القاتل الموهوم اعترف لزوجة الصياد، وتدعى ستيلا، أنه هو مَن قتل زوجها، ويُفاجأ ريكاردو بغفران زوجة الصياد لقاتل زوجها، الأمر الذي يدفعه لإعادة طرح الأسئلة الاخلاقية التي شغلته منذ زيارة الشيطان له في مكتبه. هذا كلّه يدفعه لاكتشاف الحياة في أعمق اعماقها.. وهنا يستفيق الإنسان في داخل ريكاردو فيخبر الشيطان أنه قرّر أن يقتل ذاته القديمة وأن يستأنف الحياة بالقرب من ستيلا زوجة الصياد القتيل.. تلك الزوجة الوفية المُحبة للحياة والامان.

يقول ريكاردو :" قبل أن أصل إلى هذا المنزل لم أكن أعرف معنى المنزل وقبل أن أتعرّف على ستيلا لم أكن أعرف حقيقة المرأة" ، ويطلب من ستيلا أن يكافحا معًا قائلًا: " عندما تنظر امرأة إلى رجل فإن ذلك كفيل بأن يجعله يعمل".

كما يرى الاخوة القراء تثير هذه المسرحية واحدًا من أهم الاسئلة المطروحة بإلحاح على الانسان المعاصر، وهي تلك القضية القديمة الجديدة التي أشار إليها السيد المسيح في مقولته الخالدة.. فإما تخسر العالم وإما تخسر نفسك..

***

ناجي ظاهر

قدم لنا قصي الشيخ عسكر في الآونة الأخيرة مجموعة أعمال أطلق عليها 3 صفات.

أولا: أنها رواية قصيرة أو رواية جيب (بمعنى أنها مضغوطة، ويذكرنا ذلك بالخلاف المستمر حول معنى وشكل القصة القصيرة جدا والضمانات التي يجب أن تقدمها لتدخل تحت مظلة هذا النوع). 

ثانيا: أنها مهجرية. وهو تقريبا لا يكتب إلا عن شخصيات تتحرك وراء حدود بلدها الأم، وتتوزع  على مجال واسع يبدأ من لبنان في شرق المتوسط وحتى المغرب في شرق الأطلنطي، وينتهي أو أنه يصل إلى الدانمارك وإنكلترا - في شمال القارة العجوز. (ولا يخلو ذلك أيضا من مشكلة يفرضها الأسلوب. فالمهاجر يحتاج لبنية اغترابية، لكن في كثير من الأحيان يبدو عمل الشيخ عسكر وكأنه رواية أوروبية يتخللها دور بسيط لشخص عربي. وإذا كان لا يوجد عيب فني تبقى مسألة العواطف والهوية الوطنية بحالة التباس. حتى أنه يصعب عليك أن تعزل المعاني التي تتداخل مع تطور المعايشة وشبكة العلاقات). ويزيد من غموضها أن الشخصيات في معظم الأحوال ثنائية أو ثلاثية الجنسية. أو أن أبناء الجيل الثاني من زواج مختلط وتجري في عروقهم دماء هجينة. ويضاف لذلك طبيعة البلد المضيف (هل هو عربي أم أنه أوروبي). ولكن غالبا ما يكتب الشيخ عسكر عن السفر الطويل إلى بلد عربي من أجل الدراسة بنفس الطريقة التي يتناول بها مسألة اللجوء إلى أوروبا والدخول في وحل الواقع (ويكفي أن تقارن روايته "الرباط" مع رواية "علاء الدين"). حتى أن شخصيات الأولى تبدو مستهترة وعدمية أكثر من أبطال "ضياع في سوهو" لكولن ولسون. وينطبق نفس الشيء على "المقصف الملكي" (وهي عن مهاجر عراقي يضيع في شوارع وفنادق بيروت). وفي مجمل أعمال الشيخ عسكر أخلاق انفصالية، يكاد ينفرد بها عن كل أبناء جيله. وينسحب ذلك على روايات الواقع المحلي مثل "نهر جاسم"، فهي وإن كانت عن قرية تتبع قضاء البصرة، لكن شخصياتها نصف أسطورية، وتتعايش مع واقع تخلف سحري يعيد إنتاج قرى ومدن جنوب أمريكا. وكأن الرأس الذي تحمله هذه الشخصيات في عالم، وبقية جسمها في عالم آخر. وتقدم "قصة عائلة" تفسيرا واضحا لهذا الاغتراب القسري حينما تجعل الحياة النفسية للشخصيات في خلاف مع تاريخ المرحلة، مثل حكم الأقلية للأغلبية، والصراع على الأرض، والحرب بين الأجيال وسوى ذلك.

أما الصفة الثالثة: فهي الرواية الكولاج. ومن أهم أمثلتها روايته "أنا والشبيه" وتدور حول سيرة ومعاناة صديقه الدكتور صدام فهد الأسدي، ومؤخرا روايته "هو الذي منحني يدا" وهي عن سيرة أخيه الخطاط أسعد. ومنذ البداية تلاحظ الهم الاجتماع سياسي على الروايتين. فكلتاهما تصور شخصية اغترابية ليست منسجمة مع فروض الولاء والطاعة التي يضع النظام شروطها الأمر الذي يؤدي لانطواء بطل الرواية على نفسه، وقد تفرع من هذه النقطة أيضا أمران.

الأول التركيز على الحياة السرية والداخلية بسبب الارتياب والخوف وتحويل نشاط الشخصيات من الفعل والحركة إلى التراكم والصمت. بمعنى تنشيط الحياة النفسية على حساب النشاط الاجتماعي العادي.

الثاني اختلاء المكان بالشخصيات. وهذه هي إحدى أهم اختراقات الرواية الجديدة التي انتشرت في فرنسا بعد نهاية ثاني حرب عالمية. وأقصد أن المكان يستوعب شخصياته وليس العكس. فالشخصيات لا يكون لها أي دور حقيقي في ترتيب البيئة الحاضنة لها، لا البيت ولا الشارع ولا حتى مكان العمل ونوعه. وهذا تحصيل حاصل بسبب الترتيب الهرمي والمتناوب للبنية. فالعقل المدبر يشبه إلها كلي القدرة - وهو الطاغية المتواري عن أنظار العامة. ثم يأتي مسرح الأحداث، وكل شيء فيه يكون تحت رقابة صارمة لا تختلف عن الأجواء البوليسية في رواية "نحن" لزامياتين.  وأخيرا أبطال العمل، وهؤلاء مسموح لهم بالنشاط السلبي الذي يتلخص بتلقي الأوامر وتنفيذها بدون أي نقاش أو تفكير. ومثل هذه البنية أوديبية  بامتياز، لكن أفرادها من بين العاقل وغير العاقل، وهم: أب/ إله،  وأم /مكان (مدينة أو بيت)،  وشخصيات / أبناء. وربما يزيد من ضراوة الجانب الدرامي تعدد هؤلاء الأبناء - الشخصيات لأن ذلك يهيء الجو للتناحر على الأم فيما بينهم، علاوة على الكيد للأب.

وأعتقد أن قصي الشيخ عسكر قد أجاد في إدارة خيوط الأزمة، فقد ضمن لشخصياته مساحة من الوعي والحرية، وبذلك ساعدهم على إدراك واقعهم الاجتماعي المحكوم بظرف سياسة قهرية.  وإذا خلت الرواية الجديدة من هذا الهم - محاربة الإدارة السياسية لشؤون المجتمع - فهي لا تخلو من مشكلة أصعب تتمثل بالاختلاف مع القيود الدينية - ضمنا الدين الاجتماعي وليس الأرواحي فقط. وهو مبدأ أساسي لدى مارغريت دوراس في روايتها المتميزة "العاشق".  بتعبير آخر لم تجد الرواية الأوروبية مفرا من احتجاز تاريخها السابق وراء العازل الوجودي من أجل تحقيق هدفها المستدام، وهو تحرير طاقات الواقع وكائناته كلها.

نعود لموضوع الكولاج

ويفهمه الشيخ عسكر على أساس أنه لوحات متوالية ومتجاورة تغطي حياة بطل روايته. ففي "أنا والشبيه" لجأ إلى أسلوب مركب أو بنية تكوينية استعمل بها ضمير المتكلم و طريقة الإنشاد،  ولذلك كانت قريبة جدا من المونولوج الدرامي كما فعل هاملت في مخاطبة روح والده المتوفى. بتعبير آخر عكس الأدوار، وجعل الشخصية تتكلم والراوي يستمع، ومع ذلك لم يقلل أو يستخف بدور الراوي، وحوله إلى ملقن أو لجهة تملي على المتكلم أقواله، وذلك من خلال الانتقائية التي اتبعها.

وفي "هو الذي منحني يدا" يعيد تركيب سقوط بغداد وانهيارها من خلال المقارنة بين حياة ابن مقلة من القرن العاشر ومخترع خط الثلث، مع حياة أخيه الخطاط أسعد. ويلاحظ نوع من التوازي العجيب بين الاثنين، فكلاهما يتعرض لضغط سياسي، وكلاهما لديه شخصية نرجسية وذات متورمة، أو فائض صوفي من الليبيدو الأخلاقي، ويتحول ذلك بالتصعيد الفرويدي إلى إجادة لفن الخط والشعر بنفس الوقت.  وكأن الاثنين طوران من حياة شخصية مستمرة وواحدة. وكي لا تختلط الأوراق يساعدنا الشيخ عسكر بلعبة فنية بسيطة، فيختار لابن مقلة صيغة المخاطب مع عنوان متكرر وهو "رقعة"،  ولكن يختار لأسعد صيغة المتكلم. وباعتقادي أن هذا الاختلاف يعود أيضا لبعد زمن الشخصيات عن زمن الكتابة.  ومهما كان السبب الموجب لا يدعم نصه بوثائق خارجية - أو إضافات وماكياجات من خارج السرد كما هو حال روايات صنع الله إبراهيم والتي يصل أسلوبها لدرجة ترتيب أوراق وبيانات مبعثرة. ويدفع هذا التكنيك إلى الدرجة الحرجة في رواية "ذات". وجدير بالذكر أنها  مرثية لمصير ومستقبل مصر التحرري، مع هجاء مر ومؤلم لمساوئ وانحرافات سياسة الانفتاح.  وأهم إنجاز لهذا العمل أنه يتخلى عن مفهوم البنية structure ويستبدله بالخطة plan كما يجب أن نتوقع من أي كولاج نموذجي. بتعبير آخر إنه تعمد أن يكون انتقائيا في كل شيء، ولا سيما في أخبار آخر ثلاث رؤساء توالوا على الحكم في طور الجمهورية الأولى، ودراما سقوط الطبقة المتوسطة التي أسسها ناصر وضربها السادات وألغاها مبارك. وهو ما تختصره حادثة ولادة ذات بطلة الرواية التي تنزلق إلى عالمنا ملوثة بالدم، ثم ترفع في الهواء مقلوبة رأسا على عقب، قبل أن تتلقى صفعة مؤلمة على إليتها (كما ورد في أول سطر من العمل). 

وإذا كانت روايات الشيخ عسكر لا تخلو أحيانا من رسوم وأخبار وصور فهي ليست جزءا عضويا من العمل. بتعبير آخر هي بيانات وتوضيحات تأتي من فوق الحبكة. ولذلك لا تؤثر على تطور الأحداث ولكن تؤثر على طريقة إدراكنا لها. وهي مثل الخط الأسود أو المائل الذي تلجأ له روايات تيار الشعور للفصل بين المراحل والأزمنة.

 وأفضل قراءة روايات الشيخ عسكر بالمقلوب. فهي من وجهة نظري رواية معربة. وينطبق ذلك على أعمال الداخل العراقي، فالنكهة المحلية خفيفة جدا. وفي "ربيع التنومة" على سبيل المثال، وهي رواية تسجيلية عن انتفاضة رمضان، تحتل ظلمات السجن السياسي وأساليب التحقيق الوحشية 90 بالمائة من حجم الأحداث، ويتوزع الباقي على شوارع وبساتين المدينة. وهكذا تبدو وكأنها حلقة من سلسلة طويلة عن السجن السياسي في الأدب العربي (مثل "الساحات" لسالم النحاس و"شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف). ولكنها تبتعد كثيرا عن ظاهرة "روايات بغداد" التي افتتح موسمها الثلاثي المعروف طعمة فرمان والتكرلي وغالب هلسا.

تبقى نقطة أخيرة تتعلق بمعنى الكولاج. حتى الآن لا يوجد حوله إجماع. ويمكن أن يشمل الرواية التسجيلية (ومنها أعمال صلاح عيسى) أو روايات السيرة (وهي نوع سردي نصف تحليلي والنصف الآخر صور ووثائق - من أمثلته "خريف الغضب" لهيكل). ويضاف لها مجموعة غير واضحة من المؤلفات التفاعلية والتي يتشارك في إنتاجها رسام وكاتب، أو كاتب وقارئ،  وكلها لا تزال في طور التبلور والتحديث. ولا أرى أي مكان بينها لقصي الشيخ عسكر، اللهم إلا إذا نظرنا لكولاجاته على أنها خطوة للانفصال عن الحداثة التقليدية ودمج الأنواع  وتأسيس نوع فني مستجد له جوه وشروطه، وقد استطاع أن يحقق ذلك وعن جدارة.

***

د. صالح الرزوق - حلب / سوريا

تلك المنصة: بناء على الإيقاع المذهل للتقدم العلمي والتطور التكنولوجي والحضاري، الذي أضحى يتضاعف بسرعة مذهلة في كل لحظة وحين؛ محولا العالم إلى شبه قرية كونية، في ظل تكنولوجية الاتصالات، التي تمدنا بوسائل وتقنيات حديثة، تخدم الإنسان، أكثر مما تضره. هَذا إن تم استغلال تلك الوسائل والتقنيات، بطريقة إيجابية، ونَحْو هدف محَدد ومرسوم سلفا. وفي نفس الوقت، إن كانت لنا رغبة أو إرادة: فوسائل التواصل الاجتماعي؛ تفرض علينا إنتاج أسئلة وتساؤلات مستقبلية نحو أدوات الإنتاج الثقافي والعلمي، وكيفية استغلالها؛ على الأقل لخلق نوع من التوازن لمبدأ التواصل بين الآخرين، وتجديد العلاقات الإنسانية.

وهنا محور حديثي [الفايس بوك] تلك المنصة التي فرضت وجودها علينا بتقنيتها وأسلوبها و نظرتها للعالم كرؤيا! باعتبارأن [الفايس بوك] أحَد المنصات الأكثر انتشارا واستعمالا، والذي يُتيح ويبيح التفاعل والتواصل بسرعة برق بين الأشخاص سواء أكانوا [معلومين] فيما بينهم أو [افتراضيين] حيث يشاركون ويتبادلون / ينشرون المعلومات والأفكار وتعقب الأحْداث الجارية على كل المستويات كل في محيطه وموقعه بسهولة ويسير. فأي تدوينة أو منشورأو صورة ستكون في متناول الآلاف المؤلفة من المتتبعين، والمستهلكين والمشتركين داخليا وخارجيا. وذلك على مَدار الدقائق! فبالأحرى الساعات! وهو الأمر الذي لم تحققه الصحيفة الورقية، سواء المستقلة أو الحزبية؟ ولنؤمن بهاته الحقيقة. ولنؤمن كذلك بأن [الفايس بوك] ظاهرة من ظواهر العَصر. مما أمسى من ضمن أشكال الهيمنة الثقافية / الإعلامية / من خلال الاتصال والتواصل الدائم والمستمر مع الجميع، وتزايد الإقبال عليه. إذ بدون استئذان استطاع ويستطيع أن يخلق مجتمعا {فيسبوكيا} وتزداد قوته ؛ إن تم العُثور على أشخاص لديهم نفس الاهتمامات ونفس الهواجس. بحيث من خلال منتوجه، ونوعية رواده يتم استقراء المجتمع وكيف يفكر أفراده (ذكورا / إناثا) وما هي رغباتهم وطموحاتهم؟.

أليس "الفايسبوك" منصة / جهاز مزعج للسلطات، والقرينة تكمن أن العَديد من الساسة والحزبيين حاولوا محاربته عن طريق تقنين قوانين صارمة للتعامل معه؟ وللنشر فيه؟ أليس "الفايسبوك" حَقق" الربيع العَربي" وأطاح بالكثير من الرؤوس المُفسدة والفاسِدة، والعصابات الإجرامية؟

طبعا أية ظاهرة لها إيجابيتها وسلبياتها، لكن الملاحظ بأن "الفايسبوك" له آثار جانبية، في بلادنا [تحْديدا] ارتباطا بعوامل متعددة، تتعلق بالأفراد وأهْدافهم. وأبرز العَوامل تحويل [الفايسبوك] ك [وسيلة] من وسائل التفاعل ونشر المقترحات والتصورات والجَديد من الأفكار والإبداع وطرح الأعمال من فنون القول، والفنون المشهدية إلى [غاية] يحضر فيها الذاتي والنرجسية والبطولية، مما يتضاءل التفاعل والتجاذب بين الفايسبوكيين، وأبرز نموذج{ المجموعات/ les croupes }بحيث لماما ما نلاحظ تعليقا وحيدا وتعقيبا أوحدا! و في الغالب ثلاث استحسانات، وهنا أتحَدث عن المجموعات المسرحية، والتي تكاثرت [عربيا] بشكل رهيب في الآونة الأخيرة، والمسألة إيجابيه مادامت كل مجموعة مسرحية تحاول أن تستغل الفضاء الأزرق كسلاح إيديولوجي/ إشهاري: لمصلحتها وأهْدافها، عبر بوابة التواصل والتعارف ونشر ملصقات العروض المسرحية، والتعريف ببعض المبدعين المسرحيين. مقابل هذا تمظهرت ظاهرة جِد سلبية، خطيرة عبر الفضاء [الفايسبوكي] خارج إطار المجموعات المسرحية، ولكن من معمعان الفرق المسرحية المغربية (تحْديدا)

عَتبة الخلل:

إذا عُدنا قليلا للوراء؛ فعتبة الخلل، تكمن أساسا في مسألة الدعم المسرحي، الذي ساهم في تكريس عِدة مظاهر سلبية! مظاهر مريبة، استطاعت أن تنخر روح المسرح من الداخل، وأن تمسح من الخريطة بعض الأنواع المسرحية؟ وأن تميِّع المفهوم " النقابي" إلى موقع مساءلة تشكيكية عن الحجم الحقيقي للفعل النقابي/ المهني، وعن الإمكانيات الذاتية والموضوعية للنقابات الفنية المتعددة، في إدارة الصراع الاجتماعي وتحقيق المكتسبات لفائدة الشغيلة / المسرحية؟ وأن تشتت المسرحيين شذر مَدر، وإلى لوبيات وقبائل وفصائل غير متجانسة ولا متقاربة! مما مات الفنان والمبدع "المبدئي" الذي كان لسان الشعب والشرائح الإجتماعية المضطهدة والمقهورة! وإحياء المبدع والفنان " الحربائي" الذي تتناسل منه صفات متعددة، في الأصل ذميمة وغير محمودة في المشهد الفكري والإبداعي [انتهازي/ وصولي/ خبزي/ برغماتي/ فهلوي/ انبطاحي/.../] والذي زاد في تدعيم "الحربائية" التهافت نحو المهرجانات "الخليجية" وما شابهها! سواء المستقرة أو المتنقلة. تأكيدا هاهنا :لا حق [لنا] بأن نطعن أونضع تلك التظاهرات في موقع شبهة. لأنها تبقى تظاهرات تخدم الفعل المسرحي والجمالي، وهي مبنية على تصورات وأهداف استراتيجية، سطرها أصحابها والمشرفين عليها؛ من خلال منطلقاتهم والخصوصية الموسعة، لإنماء الثقافة المحلية، وصون قوتها عربيا / عالميا. ولاسيما أن الحركة النقدية ودعمها ماديا ومعنويا، ستساهم إلى أبعَد حد في تطويروتطوُّر الابداع وتقويته؟ وبالتالي فارتماء أغلب النقاد والمسرحيين في معمعان تلك المهرجانات، وتهريب سلعهم (مقايضة مادية) رغم [تهَلهُلِها] للمجلات والمطبوعات الخليجية، واستخدام بعض " الكتبة" المحْسوبين على الخريطة المسرحية مناهجهم الدراسية / النقدية على عروض(§) هي بمثابة صك ("الإقامة والرحلة ") لتلك المهرجانات! وهناك ممن أعطى لنفسه صفة (ناقد) دائما يحاول بشتى الطرق أن يكون ضمن لجن الدعم المسرحي، لأن موضوع هاته "اللجن "وملفاتها في المناطق الرمادية، أكثر من صفحات حكايا (شهرزاد / شهريار) فَهذه الثقوب أعطَت شبه فراغ في الساحة النقدية، أو بالأحرى أضحى النقد المسرحي ببلادنا أكثر انكماشا وضعفا، مما يفرض مساءلة حقيقية عن مصير النقد؟ ولكن جوهر الإشكالية مَنْ يسأل مَنْ؟ رغم بعض الاجتهادات من رجالات "مبدئيين" قابعين ينحتون الأفكار والتصورات في بلادهم، لكن تبقى اجتهادات بدون "صوت" امتدادي، نتيجة غياب القارئ المتزن والمواكب! ومن زاوية أخرى انعِدام الملتقيات والتظاهرات والأيام المسرحية، القارة أو المتنقلة، والتي كانت بمثابة أوراش فكرية / فنية/ تواصلية / علائقية؟ ناهينا عن اضمحلال وخفوت بعض الجرائد والمجلات المهتمة بالشأن الفني والمسرحي. مما أضحى الجسد الثقافي /الفني. يعاني بحسرة وألم في مشهدنا الراهِن، من عِدة اختلالات واختراقات وثقوب. بالتأكيد نتيجة، أن هنالك {حلقة مفقودة } الآن في النسيج المسرحي في المغرب؟ تلك الحلقة وغيرها أفرزت لنا ظاهرة متفردة والمتمثلة في:

النقد الفايسبوكي:

بدون إنزال مرجعي، فالنقد أساسا قراءة / تحليل/ تقييم/ للأعمال المسرحية والوصول لفهم عميق لحمولة العرض جماليا / فكريا / إيديولوجيا / تقنيا / من أجل تطوير الأعمال المسرحية وكيفية تأثيرها على المتلقي، علما أن الحركة النقدية تتوجه نحو تطوير أساليب القراءة وعصرنة مناهج التحليل والتفكيك تماشيا مع ما يفرزه الانتاج المسرحي و ارتباطا بواقعه. بغية دعمه وإبراز جوانب قوته وخلله الفني والجمالي، كمحصلة تخدم الفعل الإبداعي والثقافي عموما. لكن الملاحظ بأن العَديد من الفرق المتهافتة على الدعم وخِلافه، أمست تسخر بعْض الأفواه والأقلام في الكواليس، ليقوموا بمهمة شبه نقدية لأعمالهم المعروضة أمام لجن الدعم (؟) أو مشاركة في مهرجان (ما) فلا يمكن أن نعطيها إطارا صائبا لتلك المهمة سِوى ((النقد الفايسبوكي)) هذا تلطيفا للسياق؛ أما في واقع الأمر فهي في الأصل"مهاترات فايسبوكية " ولكن لنسميه (نقدا) وأقل ما يقال عنه سطحي، يغلب عليه الإطراء والمدح أكثر مما كان "الشعراء " يمدحون سلاطين زمن (وزده من بيت المال)! بحيث كثير من الإخوة لا علاقة لهم بالمجال المسرحي/ النقدي، ورغم ذلك انغمسوا في ممارسة قراءة عِدة (عَروض) مرشحة للدعْم، والتي نشم من بين الأسطر روائح خارج ماهية النقد، بل مدفوعة إما "محبة " أو" أجر"، لأن تلك الكتابة جزء منها يشيد بالمؤلف أو المخرج، ويدور بين جنبات ملخص العرض المسرحي. في غياب الإحاطة بظروف تشكيل ذاك الخطاب المسرحي، ودونما الاحتكام إلى المقاييس الموضوعية، والمعايير العلمية في الفهم والتفسير والتأويل للعرض. أو حتى التمثّل في تشغيل الذوق الفني. والمثير أن أغلب تلك الكتابات لا تخرج عن إطار الفضاء الأزرق؟ أي لا يتم نشرها في الصحف والمجلات الإلكترونية : لماذا؟ هنا التحليل سيطول في هَذا الموضوع، ولكن سنقف عليه في ما بعْد.

وتلافيا للحساسيات والتأويلات الصبيانية والغضب المرضي، فضلنا ألا نقدم نماذج من [النقد الفايسبوكي] والحجة (انظر) أيها القارئ المفترض للتعليقات والردود حَول قراءة العروض المسرحية لهذا الشهر(أكتوبر2023) ناهينا عن الأعمال السابقة، والتي أنجزت بعْد نهاية وباء(كوفيد) إلى (الآن). ولكن مضطرين أن نشير- ها هنا - إلى أن أحَد الشباب (..) قام بقراءة عَرض لمخرج أخرج [عملين] في شهر واحِد! سبحان الله القوي الجبار! بحيث تلك القراءة نشرها في صفحته الفايسبوكية و نشره في نفس اليوم ب[مجلة فنون مسرحية] فذلك المنشور، حبذا لو ظل في إطار المدح والتلاعب بالصور(السكيتشات) بدل التلاعب بالأفكار والمدارس الإخراجية، وإثارة ستانسلافسكي و جاك ليكوك، ليبرز للقارئ أنه (ناقد)؟ مبدئيا فالعمل النقدي ليس عملا بسيطا وسهلا، ولا ينجز في [يومين] فهو يحتاج إلى المعرفة الدقيقة بكنه وماهية المسرح، موازاة بثقافته المتبحرة. لإضفاء المشروعية الإبداعية على الشيء المنقود. بعْد كشف مكامن الخلل أو الإشراق الفني والإبداعي في العملية المسرحية كلية، ولكن أبعَد من ذلك محاولة ممارسة الغوص التفكيكي عن الخفايا والأبعاد الإيديولوجية والنفسية والسياسية حتى للعرض؟ لتقييم خطابه وأداءه وجماليته. وبالتالي فهنالك تعارض بين مدرسة وإخراج [ستانسلافسكي و جاك ليكوك]، فالأول يدعُو لصدق الأداء المسرحي للشخصية،من خلال الإيمان الحقيقي للأفعال والأقوال التي تصدر من(الممثل). أما المخرج الفرنسي - جاك ليكوك - يدعو لاستغلال وتوظيف الألعاب العضلية والرياضية في عالم المسرح، بحيث أعطى مساحة واسعة للصمت أثناء اللعب وقوة دافعة للحركة وللإشارة، مع توظيف القناع في سياق جمالية السينوغرافيا على حساب الملفوظ، لتحقيق شعرية جسد الممثل: هل العرض استحكمت جماليته الإخراجية على ذلك؟ فالتعاليق التي انحسرت في[8]؟ خطها الرابط (الشكر) الممزوج ب (المدح) لأن [المنتوج] كان إطرائيا / مَدحيا صرفا؛ فحتى مخرج العرض [شكر- تلك الإضاءة] بدل أن يناقشها، ويحاول إبداء رؤيته الإخراجية، لتعميم الفائدة! على ضوء تلك الانطباعية.أما تلك [اللياكات] وصلت فقط إلى [23]؟ والمحير أن المقاربة النقدية : المنشورة في (المجلة) لا تعليق ولا شكر حولها؟ مقابل هَذا هنالك أقلام، ولكن قليلة جدا! لم تنهج [الكل جميل] إيمانا بأن المقاربة "النقدية "الصادقة والمتمكنة من آليات اشتغالها، لا يمكن أن تحابي أو تداهِن أحدا، بل تسعى جاهِدة أن تكون منصفة متبصرة في قراءتها، بعين ثاقبة ومصححة. مماسعت تلك الأقلام، ولقد سعت أن تغوص في ماهية العروض المسرحية؛ التي سمحت لها ظروفها لمشاهدتها، مما حاولت شحذ بعض المفاهيم النقدية في إطار المتن مساهمة بخلق إضاءات نقدية تجاه بعض العروض، المشاركة في (الدعم) حاليا وسابقا. لتدارك خللها أو أخطائها الفنية / التقنية / الإخراجية /.../ لكن المثير أن أصحاب تلك العروض وجيشها الفايسبوكي، يحاولون هَدم وتفنيد ما ورد في ذلك [النقد الفايسبوكي] وذلك من خلال التعليقات والردود المستفزة، والتي تصل إلى حد الشتم المبطن! حتى أن البعض انسحب من (الفايسبوك) تلافيا للصدمات والاصطدامات المجانية! ولكن الأغرب أن تلك النقود تم تنشرها في (الفايس بوك) فقط؟ دونما السعي لنشرها في المواقع المسرحية والثقافية، لتعميم الفائدة عربيا / دوليا؟

فهل الآن [النقد الفايسبوكي] أمسى رهانا أساسيا رغم علته وهناته الفاضحة؟ لأن الإطار الفكري والحضاري الذي أنبنى عليه "الفايس بوك" يحاول العَديد من الإخوة إفراغ إطاره " النبيل" للمصالح الذاتية، والإنتهازية، التي لا تخدم الثوابت الفنية والثقافية. هذا إن بقيت هناك بعض الثوابت؟ لأن معظم ما جادت به تلك المقاربات (النقدية : الفايسبوكية) تندرج في [برواز] الكتابة الانطباعية / المدحية، متناولة العرض من الخارج، وهي ظاهرة غير صحية بالأساس. ولعل هذه الإشكالية تحيلنا على موضوع المنهج، وزاوية الرؤية للموضوع، وكيفية التعامل مع العرض المسرحي؟.

***

نجيب طلال

كتب هذه القصة القاص السوري زكريا تامر ضمن مجموعته القصصية التي تحمل اسم القصة نفسها وقد صدرت عام 1978م عن دار الآداب في بيروت.

سيميائية العنوان في القصة

اختار الكاتب زكريا تامر شخصية النمر في قصته ليدلّ على الثوريّة أو الشخص الثائر من الشعب، وجمع النمر هو "النمور" كناية عن الشعب الثائر

تقوم هذه القصة في مجملها على حدث واحد يتفرع عنه أحداث فرعية تخدمه، وهو محاولة ترويض نمر خلال عشرة أيام، ويسعى المروض أن يجعل هذا النمر مطيعًا، وذلك من خلال تجويعه ومنع الطعام عنه، وقد أثمر الجوع عمّا كان يرغب به، إذ كان هذا المروِّض يطلب من النمر في البداية طلبات صغيرة حتى يطعمه، وكان النمر ينفذ طلباته بعد أن رأى أنّ هذه الطلبات بسيطة، لكنها في الحقيقة كانت تهدم كرامته وعنفوانه، وتمهد لتنفيذ طلبات أكثر وأكبر.

ودلالة العنوان "في اليوم العاشر" تختزل أحداث القصة حول الآليّة التي سوف تخضع  بها السلطة الشعب، وذلك من خلال معركة الأمعاء الخاوية التي يمارسها السجّان ضد السجين، سواء أكان ذلك في السجون الكبيرة أم الصغيرة. يتضح اختيار العنوان وسبب التسمية من الحوار الذي يدور في بداية القصة بين الصيادين الذين يحيطون بقفص النمر، وذلك حينما يقول كبيرهم: "إذا أردتم حقًّا أن تتعلموا مهنتي، مهنة الترويض، عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أنّ معدة خصمكم هدفكم الأول، وسترون أنّها مهنة صعبة وسهلة في آن واحد"

وقد كان المروض يمنع عن النمر الطعام في بعض الأحيان حتى مع تنفيذ النمر لطلباته، متعللاً بأنّ النمر لم يتقن تنفيذ المهمة، فكان النمر يتدرب على طلب مروضه طيلة الليل حتى يتقن العمل، وينال نصيبه من الطعام، حتى وصل به الأمر إلى أن قلّد صوت الحمار. ولعل الكاتب أراد من توظيف هذا الحدث أن يرمز لنا عن أمر آخر، وقد دلّ على ذلك خطاب ألقاه أمام النمر، وطلب من النمر أن يصفق له، مع أنّ النمر لم يفهم شيئًا، وكأن الكاتب يحاول أن يصف مراحل ترويض الشعوب، والإمساك بهم وتوجيههم

لشخصيات في قصة النمور في اليوم العاشر تنقسم الشخصيات في القصة إلى قسمين: شخصيات رئيسة، وشخصيات ثانوية كانت تتمثل بالمتدربين، واقتصر دورهم على الضحك من النمر ومراقبة أستاذهم، أما الشخصيتان الرئيستان فتتمثلان بالمروض والنمر، إذ شكّل كل منهما رمزًا، فالمروض رمز للسلطة، أمّا النمر فرمزٌ للشعوب، فكان المروض يستعمل حيله على النمر من أجل ترويضه للعمل في السيرك أمام تلاميذه، وكان النمر يقاوم في البداية لكنه استسلم عندما نفّذ أول طلب للمروض وهو الوقوف عندما يطلب منه ذلك. لم يكن المروض يستعمل العنف الجسدي في ترويضه للنمر، وإنما كان يستعمل الحرمان من الطعام، مما يؤدي إلى عنف نفسي وهو تفتيت كرامة النمر وعنفوانه اللذين كانا يمنعان النمر من العمل في السيرك، لكن بعد أن استطاع المروض أن يهدم كرامته، ويربط أفعاله بمقابل وهو الطعام، أصبح نمرًا من ورق على حدِّ تعبيره فلم يعد يملك من أمره شيئًا.

الزمان في القصة في القصّة الزمان غير واضح، ولكنّه معلوم من حيث الأيّام التي تمر، فهي عشرة أيّام في وقت مجهول تمر على النمر والصيّاد، ولكنّ الزمان غير معلوم، وكذلك الأيّام ليس لها أسماء بل أرقام. كأنّ زكريا تامر أراد أن يقول من خلال هذا الجو الذي وضع القارئ فيه إنّ الأيّام في السجون ليس لها قيمة إذ هي أيّام تمضي لا فرق فيها بين اليوم الأول والثاني والثالث والعاشر وهلمّ جرًّا. مثلًا يقول: "في اليوم الثاني أحاط المروض وتلاميذه بقفص النمر" ثمّ يقول:" في اليوم الثالث قال المروض للنمر: إذا أردت اليوم أن تنال طعامًا، فنفذ ما سأطلب منك"،] وهكذا يمضي في باقي الأيّام، فلا يسمّيها ولا يذكر الزمان سوى بالأرقام. الأمكنة في القصة بالنسبة للمكان في القصّة فلا يذكر زكريا تامر ذلك المكان على وجه التحديد، ولكنّه يذكره من حيث كونه مكانًا مُغلقًا مجهولًا غير معروف، فالمكان هنا مقسوم إلى ثلاثة أقسام: الأوّل هو الغابات التي لا تظهر سوى في المشهد الأوّل حيث يُصطاد النمر فيها، وفي اليوم الثامن حينما يتذكّرها النمر. تمثّل الغابات الحريّة؛ فهي الوطن الذي يعيش فيه الإنسان بحريّة، أو هي الأرض التي كان يعيش فيها الإنسان قبل اعتقاله، إضافة للغابات هناك مكان القفص، وهو أطول الأمكنة التي تدور فيها أحداث القصّة، وهو يمثّل المُعتقل، أو يمثّل الوطن الذي تحكمه السلطة القمعيّة. القسم الثالث من الأمكنة هو المدينة، وهي الوجه الآخر للقفص، فالمدينة التي تحكمها الأجهزة القمعيّة هي قفص بالنسبة للإنسان، وهو ما يقوله زكريا تامر صراحة في السطر الأخير من القصة. يقول زكريا تامر في قصة النمور في اليوم العاشر متحدّثًا عن الأمكنة فيها: "رحلت الغابات بعيدًا عن النمر السجين في القفص، ولكنه لم يستطع نسيانها"، ثمّ يقول: "حدّق غاضبًا إلى رجال يتحلّقون حول قفصه، وأعينهم تتأمله بفضول ودونما خوف".يقول في نهاية القصة: "وفي اليوم العاشر اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص؛ فصار النمر مواطنًا، والقفص مدينة".

***

ا. م. هديل عادل كمال

الخطاب الشعري يسير في عدة مسارات، تحمل هواجس أعماق الذات المبعثرة في عدة اتجاهات متعددة في مديات الحياة المتوحشة تجاه الانتهاكات الصارخة ضد الحب والانسان والوطن، في البوح الصادق في مشاعرها الانسانية الموجعة من خلال الصور الشعرية الباذخة المعنى والمغزى، في إشاراتها ودلالاتها في مدى اتساع المعاناة بين فتنة الحب الواسع، وبين خيباته التي تتكسر على صخرة الواقع والوجود، ولا تترك مجالاً للحب ان ينتعش ويتنفس الصعداء في الوجود، بل تترك مجالاً واسعاً في الاحباط والهزيمة، لأنه لا يمكن اتساع رقعة الحب، ان ينمو ويكبر في أرض الجفاف واليباب، وفي ظل الانتهاكات الصارخة، هذه الابتهالات الشعرية الحزينة، تملك ارث فكري وثقافي واسع المدى في مناحي الحياة وبوصلتها الفاعلة، يضعها في مجهر الحقيقة المرة وتحت الشمس، كما هي في أرض الواقع والوجود، بدون تزويق ومماطلة، بل يكشفها كما هي من رحم الشقاء والمعاناة، في لغة شعرية شفافة في رشاقتها اللغوية والشعرية في هالة الكلام البهي، الذي يحمل بريق في جمالية اللغة الشعرية، في انزياحات متنوعة تملك الإحساس العميق الداخلي لمعطيات الواقع المأزوم في كل جوانبه وفي الصدى والانعكاس، تملك المنصات التعبير الشعري الخلاق الابداع في الخيال الفني، وابتكاراته في الصياغة الشعرية والفكرية، رصينة التناول . رغم مرارة الالم، يضع القارئ في جمرة الواقع الملتهب في عدة اتجاهات ويدحرجها اليه، لكي يدرك عمق الازمة الحياتية المتشعبة، عتبات النص الشعري تحمل رؤى الرومانسية الحب الحزين في الحنين والشوق، وبين الواقع المأزوم والجاف، الذي يعزف في الرمال أو في الفراغ، لكي تكون فيه الانسانية ضحيته في الانهزام والخيبة، رغم عنفوان في الحب في بريقه العشقي، المشع في الذات والعام، وفي لوعتة الحزينة، التي عيونها تتجه تجاه الوطن الذي يغوص في الحرمان والانتهاك، في سبيل توجيه طعنة الى الحلم والامل حتى ينزف الحب بالدماء والحرمان . تغريدات شعرية في ابتهالات الحزن في القلب الشفاف ومتوجع، الذي لا يجد صدى مسموع مهما كانت فتنة الكلام، لكنها تغوص في ظلام الواقع وطريقه المسدود، ولكن يبقى الحب حياً لا يموت، مهما كانت المعاناة والشقاء الإنساني في دوامة الصراع بين الموت والحياة .

×× عينات من الديوان الشعري .

1 - الطفولة من رحم الحرمان ،

الطفولة المحرومة من حقها الشرع في الحياة في زهرة برائتها الساذجة والمتواضعة، لاشيء مضيء للطفولة، سوى الإهمال والحرمان، تعيش ايامها السوداء في الجفاف، يغطيها غبار الحزن والشقاء في حضرة المعاناة الواسعة .

تَلِمُّ طفولةً سوداء

فوقَ سريرِ غربتِها

وشالاتٍ من الحزنِ

تعتقُ فيه مِحنتَها

فيا صَمتا

يفَزِزُ صَمتَ دَمعتها

ويا صَوتا

يُؤرق نومَ لُعبتِها

فلا ضَوءٌ يبللها

ولا تَغريدَ أصحابٍ يُعابثها

تبيحُ لنفسِها عُذرا

وعذرا يُزني غَصّتها

فيجهِضها زِحامُ العَزلِ

شوكا فوق شَرشفِها

فيكسرُ روحَها البلورِ أشلاءً

واوجاعا من القهرِ تبعثرُها

ليبني من براءتها

2 - زهرة فتنة الحب والعشق في عسل الكلام الشعري، في مطر الشوق والاشتياق والهيام، في تعابير عذبة في العشق والهيام في شقين في تصاعد النسق إلى الأعلى، وكذلك والنازل الى الأسفل وهي ،

× × حينما ينهمر مطر العشق والاشتياق، تتصاعد انفاسه اللاهثة لتعزف على مزامير الحب في فتنة اسطورية في يواقيت الكلام، في تعابير عذبة في انفاسها وهيامها . في التماهي في غسيل القدمين المعشوق .

حينَما الحِكْمةُ باتَتْ

في فِراشي ذاتَ لَيلَةْ

اَهرَقَتْ خُصلةَ ضَوءٍ

من يَواقيتِ الكَلامِ

فوقَ قلبي ولِساني

فَتَغَطّيتُ بِشَمسٍ

ظِلُّها أَحْلى الكَلامِ

**

حينما ينزف يومي بغزارة

اتماهى

ناعماً كالمطر المفتون بارض

لأغسل قدميكِ

×× ولكن حينما تهبط انفاس الحب نحو الاسفل، لتلوك لوعة ذكرى تجرح القلب، كأنها تودع حبها الخائب .

حينما أفقد جمارَ حضوركِ

تتداعى كلَّ تقوى كلماتي

لم أعد أقدرْ أن أغري القصيدة ! .

3 - مراثي الحب:

حينما تنكشف الاقنعة عن  حقيقتها الاجرامية، لتدلل بدون ادنى شك انها حقاً قلباً وقالباً من سلالات الشيطان، أولئك الذين امتطوا صهوة الواقع، واصبحوا اصحاب الارهاب الشرعي، في فتاوى الدم التي أصبحت شريعة وناموس، تعلو على كل شيء، لكي تنتهي كل الكلمات والحروف، فلا شيء يعلو  سوى مجازر ودماء .

انتهت كلّ الحروف

لا مواويل مجازر

لا مهاميز مراثي

لا ينابيع فواجع

لا بتولات انفجارٍ

لا سديم لا رماد لا دمار

...لا ولا حتى غبار

صَهَلَ القردُ وأثنى الجَحْـشُ وامتدّ الدخانُ

فوقَ غاباتِ البداية

سُمِلَ الأفقَ وأغفَتْ ذاكرة

4 - المال الحرام:

حينما يكون كل انشغال أصحاب السلطة والنفود . في شريعة النهب العمياء، لتصبح اعراساً للخيانة في بهاء بهرجتها المفتونة للمال والنفوذ في السحت الحرام . فيعلو صدى البراغيث، لكل ذميم في الأخلاق والسلوك ليصبح فعله حلالاً وشرعاً، لكي يغتال المنطق والقانون . ويصبح الواقع والوجود عبارة عن سوق النخاسة في الاتساع في الأفق.

وإذا لامستمُ السلطةَ يوماَ فاستحموا

من زلالِ الهاوية

او تضمخْ بالعماءِ

فهوَ حَدُّ الزانية

فالوضوء باختزالات الحلال

سيكون بالحلال

كل شيء بالحلال

فالزواج في شفاعات الفتاوى

بالحلال

والدجاجُ بالحلال

والخياناتُ نذور في مضافات التملك

بالحلال

وليالي الرقص حتى مطلع الفجر المعنى

بالحلال

والخمورُ، وبشرط الستر في حكم البلاء

لذة للشاربين

بالحلال

والقمار تحت اقواس التعري

بالحلال

انما المالُ احتشاما

كرفيفِ اللَذَّةِ المخبوء في سوقِ النخاسَة

5 - ايها الوطن .... عد إلينا:

الوطن المشرد في أرض اليباب والجفاف، تصبح المدن والديار عرضة للتخريب والعبث . في العراق الذي كان قديماً أصل الحضارة والتاريخ المجيد، يصبح غابة وحشية تتحكم به الذئاب البشرية، وزعيقها لا ينتهي، مع هذه المحنة المتشظية، تراود الروح الحلم والحب، أن يخرج الوطن من النفق الى نور . وتعود الصباحات الجميلة تبدأ بالصباح بذكر الحكيم، واغاني فيروز الصباحية، وتعود السماء الصافية، تحلق بها أسراب الحمام والطيور في بهاء النهار الآمن، في اغاني الغزل فوق سطوح الحارات، وتعود البسمة بدلاً من الدموع . ويعود الشهداء أحياء .

أَيُّها الوَطَنُ المُشَّرّدُ في الوَطَن

سِعَةَ الصَّدرِ اَعِدْ لِي

ابتساماتي، هُدوئي

واِهتِـماماتي الصَغيرة

اِبتِداءَ الصُّبحِ بِالذِّكرِ الحَكيمِ

وَشَذى أنغام فَيروز

وساعاتِ الّزِحامِ

هَمرَجاتِ الزُّمَلاءِ الطَّلَبَة

وَمِزاحي للصغارِ

ضِحكَةَ الجّارِ البّهيَّة

حِينَما يَشتِمُ “عَمُّوديَ” اَسرابَ الحَمام

غَزَلَ الصِّبيانِ في حارَتِنا فَوقَ السُّطوحِ

***

جمعة عبدالله – كاتب وناقد

النزوع إلى فضاء الأعالي والهروب من عقدة الأرضي

توطئة: إن الوقوف على دلالات رواية (البارون ساكن الأشجار) للكاتب الإيطالي (إيتالو كالفينو ـ ترجمة أماني فوزي حبشي) ما هي إلا الحدود الدلالية الخاضعة إلى (فعل المحفز) وطريقة تشكله المتقن عبر إمكانية أخاذة للإيحاء بذلك الرمز التمردي الذي غدا بذاته كعلاقة متجاوزة في الهوية والانتماء والحلم بالنزوع إلى ذلك السطح الفضائي من حيز الوازع المكاني من أغصان الأشجار. النموذج الشخوصي هنا والذي يتمثل بالشخصية (كوزيمو) هو في الأصل أبن تلك العائلة الارستقراطية التي ترعرعت في ظل النياشين والأوسمة العسكرتارية، لكننا عندما نبحث في مكونات هذه العائلة نجدها محكومة بأحلام العهود القديمة الكولونيالية وفتوحاتها المتحدرة من طموحات عميقة بالهيمنة والسطوة المستخدمة حتى على مجرى واقعها الحياتي واليومي من تقاليد الأسرة. في ظل هذا وذاك غدا لدى الشخصية كوزيمو حب التمرد على شرائط سلطة العائلة الكولونيالية، لذا كان فعل التمرد وطريقه إضافة نوعية وجادة، حينما تكون معايير الحرية خروجا وانتصارا استثنائيا، وعلى هذا النحو اختار كوزيمو موطنه الفردي فوق ووسط الأجزاء العلوية من الأشجار، موضحا لشقيقه السارد المشارك، جملة تفاصيل تتلاحم في قوة علاقتها الدلالية بمفاهيم (العصيان ــ التمرد ــ الحرية) وللتعبير بدقة فإن موضوعة الرواية متراصة وإشارات وتراكيب مؤولة تنتخبها الأدوار الفعلية في تفاصيل مرويات السارد المشارك.

المنظور السردي بين موقع المبأر والشواهد في وجهة نظر السارد

يبدو أن آلية الوصف سيد الموقف في فقرات ووحدات الرواية، والملفت للنظر أن الوصف لجل الحالات المكانية والزمنية والشخوصية يتنامي بين (الحركة ــ السكون) وهذا الاختيار وإن كان مناسبا لطبيعة الموضوعة الروائية التي تجعل من وجبة طبق الحلزون المقرونة، سببا قاطعا في حروب كوزيمو فوق موطن الأشجار، إلا إنه بداية تشكل الفعل التمردي على شقيقته التي كانت تطبخ ما يحلو لها من أصناف شتى من الأطعمة المقززة بالنسبة لكوزيمو وشقيقه. ولعل القارىء عندما يقرأ تفاصيل الأحداث في الرواية الثلاثية (السلافنا) يكتشف أن هناك جملة واسعة من الأسباب التي تجعل البارون كوزيمو يباشر فعل ذلك الانتقال فوق الأشجار، امتثالا للمعنى التمردي على تقاليد وأعراف حيوات تلك الطبقات الأيديولوجية الراسخة في الانتقاء الموضوعي.

1ــ الذات الساردة وتشييد مسافة الاتصال السردي:

ربما تعكس العلاقة القائمة بين الإنتاج بالواقع المتبدي للذات الواصفة وأفعال الأواصر (الزمنية ــ المكانية) فعلا كبيرا في امتلاك الماثلات من المواضع النصية، فعلى سبيل المثال، ندرك حقيقة إطار الزمن من خلال محددات المدار السياقي في مثل هذه الوحدات: (كانت المرة الأخيرة التي جلس فيها أخي كوزيمو معنا هي يوم الخامس عشر من يونيه من عام 1767 . . أتذكر هذا وكأنه حدث اليوم. /ص9 الرواية) إن حالات الخطاب تتأسس على صعيد (الماقبل ــ المابعد) لتبرز لنا جملة مؤشرات من التركيز بين الذاكرة ــ المعاش، بين إطار تفاعل السارد الاستذكارية وترتيب الأحداث وتسلسلها. وعلى هذا النحو تتحرك المشاهد المختلفة زمنيا. لكن الواصلة الدلالية تبقى حدثا مركزيا يظل تستوعبها الذات الساردة ضمن صيغة الحكي موضوعا للتفكر والتأمل، كما الحال هنا: (كانت عائلتنا تجتمع على مائدة الطعام في تلك الساعة للمحافظة على تقاليد العائلة القديمة، على الرغم من شيوع الموضة القادمة من البلاط الفرنسي. /ص9 الرواية) لعل المسافة الزمنية الواردة هنا، تعرفنا بحجم الوقوف على التمفصلات الزمنية، ومن ضمنها يمكننا معاينة المرحلة الحاضرة في التسلسل على صعيد سلوك الأفراد.

2 ــ عقدة التمرد والكشف عن تجليات الانتقال:

لعل زمن الخطاب الروائي لا يقدم زمن ولادة الإشكالية المعاينة في سلوكيات الشخصية كوزيمو، إلا في ذات دائرة الحكي بشكل أكثر تشخيصا: (أتذكر أن الرياح كانت تهب من جهة البحر. . وتحرك الأوراق، قال كوزيمو: لقد قلت أنني لا أريده، يعني أنني لا أريده ! وأزاح من أمامه طبق الحلزون، ولم يحدث قط أن شهدنا تمردا أشد من ذلك. /ص9 الرواية) ولو قمنا بتحليل دوافع الرفض لدى العامل الشخوصي، للاحظنا مدى السمات والخصائص التساؤلية عما يخفيه هذا الرافض أبدا؟. في الحقيقة يثير التوجه التمردي لدى الفاعل الشخوصي عدة عناصر، أولها ، كونه يعبر عن السياق اللاملتزم بالطبقة السياسية التي تتبعها تقاليد العائلة الارستقراطية من النفوذ والغطرسة، أما السبب الآخر فربما يمكن في أن الشخصية دليلا على صعيد السعي في تجاوز التابو ونمطيه السائد والأكثر شيوعا في تقاليد العائلة الصارمة على كاهل أفرادها.

3ــ الوصف والمخبوء من هجرة الأرضي:

يجد الشخصية المحور ــ كوزيمو ــ حدود العنف التقاليدي على أقصى درجاته ضيقا على حياته كفردا رافضا لجل الممارسات في مشهده المنزلي.. لذا بات يشكل في ذاته الجو المجتمعي في سلوك والديه، العبودية والاضطهاد في عينه: (بعد قليل ، رأيناه من النافذة وهو يتسلق ليصعد على شجرة البلوط. /ص20 الرواية).

ــ تعليق القراءة:

إن آليات السرد الروائي في رواية (البارون ساكن الأشجار) ذات علاقات وصفية موحية، فهي من جهة غاية في الأهمية تترجم لقارئها مستوى الوصف وهو يقدم المحاقبة الزمنية بين (الرؤية ــ تدفق الأحداث) غير أنها أحيانا تبدو عبارة عن حالات في معرض زمن السرد ليس إلا. كما وهناك جملة واسعة من مدار الأحداث، ما تكشف لنا بأن الشخصية ــ كوزيمو ــ حقيقة قادرة على النفاذ من هموم وأعباء مظاهر قيود العبودية وأغلال تفاهات عنصرية التسييد إلى فضاءات الأعالي حيث ممارسة حرية جذور الفرد الشخصانية بعد قلب جملة مظاهر ذلك الرجل الارستقراطي الذي يتخذ من الأرض ومخادعها عنفوانا له على من يطفون عليها من الكائنات الآدمية الضعيفة. . هكذا تتضح دوائر المفارقات والتناقضات التي تملأ المسافة الفاصلة ما بين (فضاء = الشخصية المحور / الأرضي = الحلزونات في المخزن = وهرطقة البارونات وتحالفاتها وخصوماتها) ومن خلال كل هذا يتضح أن فكرة الرواية هي مغامرة الخروج من جحيم الداخل الأرضي الذي يجسد حيوات الأوهام النبيلة، فيما ظل البارون كوزيمو يعلن حريته الظاهرية بين فضاء رفيق أعالي الأشجار هاربا ومنتصرا على نقنقة التقاليد والأعراف والأغراض المحنطة في مداليا النياشين وأحقاد وأضغان ملامح وجوده الأجداد الأسلاف اللذين رحلوا وأصفرت تعابير وجوههم مع ما تراكم عليها من غبار وحشرات ليلية واخزة.

***

حيدر عبد الرضا

المتن الروائي يتحدث عن أحداث الدراماتيكية حدثت فعلاً في فترة حكم البعث، وجاءت بشكل عمل توثيقي وتاريخي وبكل الادلة المتوفرة (مدونات. وقائع، وثائق، خزين الذاكرة. مشاهد عملية وحياتية، أفعال ظاهرة الى غير ذلك) لتكون شهادة عيان للنهج الشوفيني والإرهابي في سلوك البعث المتسلط في البطش والتنكيل لجموع شرائح المجتمع العراقي عامة، وخاصة الشريحة الاجتماعية الاكراد الفيلية التي وقع عليها العبء الاكبر في التهجير وسحب الجنسية العراقية، وتعرف عن هذه الشريحة الاجتماعية حضوراً فعالاً من النشاطات المتنوعة في الجسم العراقي، في نشاطاتها السياسية بصبغة وجهة نظر تقدمية متنورة تصب عكس عقيدة البعث الفاشية ونهجه الارهابي، كما أنها برزت بالشخصيات البارزة والمرموقة في النشاط الحياتي والتجاري والعلمي والأكاديمي، وكذلك انتمائها الى اليسار العراقي. لذلك هم بالضد من الاسلوب الارهابي المستبد في طغيانه في فرض عقيدة البعثية بالقوة والاكراه على المواطنين، وخاصة بعد استلام (صدام حسين) مقاليد السلطة بعد ارتكاب المجزرة الرهيبة في قاعة الخلد، ضد مئات من القيادات والكوادر البعثية المتقدمة. وبدأ يدخل العراق في نفق مظلم لا مخرج له، بتصاعد الهجمة الشوفينية في إسقاط الجنسية والتهجير الاكراد الفيليين، وزج شبابهم في السجون والزنازين للابادة الجماعية، بدأ بقراره الشوفيني الصادر من مجلس قيادة الثورة عام 1979 الذي يقول صراحة (تسقط الجنسية العراقية من كل عراقي من أصل أجنبي) بحجة التبعية الايرانية، والمعروف ان الشعب العراقي حسب الوثائق الرسمية منقسم الى فئتين، التبعية العثمانية والتبعية الايرانية، وبعض العراقيين للهروب من التجنيد، سجل أنه من التبعية الايرانية. والهدف الواضح بأن شريحة الأكراد الفيليين معروفين بشكل عام بالتوجه الى الايديولوجية التقدمية، وحتى يتخلص (صدام حسين) منهم حتى يفتح الطريق للتسلطه الطاغي، ولم يكتفِ بهذا فقط في نهج الارهاب وانما طارد تجار الشورجة وهو اكبر سوق في بغداد يديره الاكراد الفيلية بشكل عام. والحدث السردي يتطرق باحداثه اليومية، يتعقب هذه الظاهرة الشوفينية من كل زاوية، ويتوغل في عمق محنتها وازمتها المريرة في مأساة التهجير بشكل فظيع ووحشي، في معاناة قاهرة لا توصف، لتجعل العراق ينزف بجراحه المؤلمة، أن تكون حياة المواطن مهددة : اما بالسجن أو التهجير، من اجل تكريس كرسي القائد الاوحد، الذي نصب نفسه الرب الاعلى، أو رب الارباب الذي يمنح الموت والحياة كما يرغب ويشاء، وبرعونته المجنونة والمتهورة والحمقاء، ثم يلوح شبح إعلان الحرب ضد ايران، ليحرق الحرث والنسل، بحرب مدمرة لا الناقة والجمل فيها ولا مصلحة للشعب في اشعالها، وانما هي رعونة جنونية لإشباع نفسيته المريضة المصابة بمرض جنون العظمة أن يلعب بمقدرات ومصير العراق ويدفعه الى التهلكة، الحدث السردي يلاحق السيرة الحياتية لشخصية (إجباري) في رحلته الحياتية الطويلة والمعقدة. كان منذ طفولته يمقت اسمه (اجباري)، لأنه محل تندر وتهكم واستهزاء، فطلب من أمه أن تغير اسمه، لأنه لم يعد يتحمل. فاخذته الى المحكمة لتغيير الاسم وأصبح اسمه الجديد (نوح) تيميماً ب (نوح) القديم الذي أنقذ الناس من الطوفان، ولكن (نوح) الجديد هل يكون قادراً على إنقاذ الناس من طوفان البعث المدمر؟ هذا ما يحاول أن يفسر ويحلل في عتبات الحدث السردي أن يلاحقه ويتابعه في التفاصيل اليومية الدقيقة عبر سيرته الذاتية الطويلة، وهي سيرة مصغرة من سيرة العراق الكبرى. ولادته في مدينة العمارة (ميسان) مدينة الطين والماء والانسان البسيط المتواضع والسخي والكريم، تدرج (نوح) بكل جدارة وتفوق في الدراسة والتعليم من المدرسة الابتدائية حتى حصوله على شهادة الماجستير ويتطلع الى الحصول على الشهادة العليا الدكتوراه، ولكن يجد نفسه يدور في حلقة الأحداث اليومية العاصفة، التي تعمل على تحويل الناس الى كبش فداء للإرهاب والحرب، ان ينحني أمام العاصفة المدمرة، وانشغال الناس بقلق عن مصيرهم (ولماذا أهتم به، ولأي شيء ؟

 - الموضوع سيدي يتعلق بالحرب

 - أي حرب !

الحرب الي ستشتعل قريباً) ص97. هذه الطعنة القاتلة ترتكبها السلطة البعثية والقائد الارعن المصاب بجنون العظمة، ان يقود العراق من حربٍ الى حربٍ، سواء في الداخل أو في الخارج، بأسلوب شوفيني عرقي صرف. والمواطن المسكين والضعيف يتلقى الطعنات القاتلة تحت سيف البعث، وكل الابواب مسدودة في وجهه، أين يذهب وأين ويلجأ، هل هناك مأوى أو وطن آخر (وهل لي وطن آخر، غير هذا الذي أنبتني كأعشاب البراري، ولوحتيني شمسه السخية، ولفعتني ريح السموم، فأحرقت ونضج جلدي، كما تنضج جلود الكفار في نار جهنم، هناك في كل مكان آثار أقدامي، وعلى تراب واوحال الازقة، اعيدوا لي أحلامي، حينما كنت اغفو كفراشة تحت أفياء نخيل البساتين في عواشه، والجدة، اعيدوا لي همساتي العاشقة للنهر وولهي الحزين المجنون بليل ميسان) ص144. ومن مهازل سلطة البعث، في توجيه التهم الى المواطنين، وتقديمهم كمجرمين الى محكمة الثورة السيئة الصيت والسمعة، ان تكون الاحكام معدة سلفاً، ولا يحق للمتهم أن يختار محامي يدافع عنه، بل المحكمة تعيين محامي، يقوم بدوره تأييد الأحكام الصادرة (- لأنه لا يحق للمحامين مستقلين القيام بذلك

 - وهل يستطيع حقاً أن يقوم بواجبه كما نبغي

 - هنا تكمن المشكلة، لأنه في المحاكم يجب أن يتصرف محامي الدفاع كالمدعي

 - كيف ستتحقق العدالة إذن !

 -لا أهمية لذلك في محكمة الثورة) ص225. ازاء تدهور الاوضاع الى الأخطار الجسيمة في سلطة تدار بعقلية شوفينة حمقاء مهووسة الى الارهاب ونزيف الدماء، وجد (نوح) نفسه عاجزاً في الإنقاذ الناس كما فعل (نوح) القديم، لذلك وجد أسم (نوح) غير ملائم ومناسب أمام الأهوال والمصاعب التي تصيب الناس بشكل غريب وغير عقلاني، وانه مجبر على الرضوخ، لذلك وجد اسمه القديم (اجباري) اكثر واقعية و ملائم ومناسب لهذا المناخ المتوحش، لان كل الناس مجبرين بالاجبار على الاحباط والرضوخ والهزيمة، لذلك تقدم بطلب الى المحكمة في العودة الى اسمه القديم (- لا يهمني... لم أعد أهتم بذلك. إنما جئت لاعرف هل استطيع أن اعود لأسمي القديم اجباري؟

 تفاجأ القاضي بسؤاله، وظل صامتاً لا يجد جواباً.

 - ألم تسمع السؤال، هل ينبغي عليَّ ان اعيده عليك؟

- ولكن لماذا تريد أن تغير أسماً اخترته أنت، وصار الناس يعرفونك به.

- لأنه لم يعد يناسبني، ولا استحقه) ص325.

***

 جمعة عبد الله

هذه الرواية التي أتحدّث عنها فيما يلي، هي واحدة من 450 رواية كتبها وألفها الكاتب جورج سيمنون (1903-1989)، إضافة إلى مائة ألف من القصص القصيرة، وسيرة ذاتية وقعت في عشرين كتابًا!!. لقد قُرئ سيمنون في العديد من لغات العالم، بما فيها لغتنا العربية، واعتبر من أسرع الكتّاب تأليفًا ومِن أغزرهم إنتاجًا. ومن طريف ما يُذكر عن سرعته في الكتابة (كان يكتب خمس روايات في الشهر أحيانًا)، أن صديقه الفريد هتشكوك، مخرج أفلام الرعب الشهير، سأل سكرتيرته ذات زيارة لمكتبه عنه فأجابته إنه دخل لتأليف رواية، فما كان منه إلا أن نظر في ساعته وقال إنه بإمكانه ان ينتظره.. وجلس ينتظر..

عرفتُ روايات سيمنون، وهو بلجيكي المولد، فرنسي القلم، أمريكي المهجر، عالميّ الوطن، منذ سنوات السبعينيات عندما قرأت عددًا من رواياته أذكر منها "الساحر"، وقرأت له فيما بعد عددًا وفيرًا من الروايات لعلّ أهمها " هذه المرأة لي" التي تسبّبت بترشيحه لجائزة نوبل الادبية، فاخطأته الجائزة، وأكسبته الرواية محبة القراء في أنحاء مختلفة من العالم.

تعتبر رواية الابن رسالة طويلة منذ بدايتها حتى نهايتها، يوجّهها والد إلى ابنه، ويسرد عليه تاريخه العائلي، المتذبذب بين الفرح والحزن، ابتداءً من جدّته وجده، اللذين تبدأ الرواية بتصوير رحيلهما واحدًا وراء الآخر، ثم تنتقل إلى الوالدين، وهناك صفحات رائعات في الرواية حول تعرّف كلّ منهما على الآخر، بعد إصابة الاب بنزلة رئوية وانتقاله لتلقّي العلاج، منتقلًا من جبهة القتال، إلى المستشفى، وهناك يتحدّث الاب، في رسالته الطويلة إلى ابنه، عن تعرّفه على والدته وارتباطه بها.. بعد أن يقع في غلالة حبها.

الرواية تتحدّث عن جيل الحرب، ذلك الجيل الذي شهد أهوالًا مُرعبة، ويرصد التحوّلات التي عاشها الآباء، وتلك التي عاشها الابناء، ويتوقّف عند معنى الابوة، مازجًا بينها في إطاريها العام والخاص:" إنها قصة قديمة تتكرّر كلّ جيل، الابناء يرقبون الآباء، كما كان هؤلاء يرقبون الاجداد، قرأت ذات مرة عبارة لأحد الكُتاب: ان أبناءنا صورة منّا وأرواحنا تتحدّث على السنتهم! " ثم يقول:" أظنه يؤمن بقضية تناسخ الارواح القديمة ويعتقد أن أرواحنا تنتقل في مدى مائة عام، من الاب إلى الابن إلى الحفيد، تؤثّر فيهم إلى أعماق نفوسهم، يظلّ الحفيد يذكر ما يقوله الاب عن الجد ويراه بعين الخيال يتحرّك أمام بصره حتى إذا ما صار الحفيد أبًا اندثرت ذكرى الجد، اختفت بين طيات النسيان وأصبح اسطورة قديمة بين الحكايات والاساطير، وهكذا تمضي الاجيال موجة بعد موجة كأمواج البحر الذاهبة وتعطي تاليتها الصاعدة ما يجيء بعدها إلى آخر الزمان".

تكشف هذه الرواية عن الوجه البريء للطفولة واليفاعة، ذلك الوجه الذي يريد أن يعرف كلّ شيء وأن يكتشف كلّ شيء، وفي المقابل تكشف عن الوجه المُختلف، بطبيعة الحال، للأب والأم، وما يمكن أن يدور بين الطرفين من مشاعر وأحاسيس متناقضة، والطريف في هذه الرواية أنها تركز على المشاعر والاحاسيس، مبتعدة عن الحَبكة التقليدية، وتكتفي بسرد أحداث تقدّم الابوة في أطرف حالاتها وأجلى معانيها.

ترجم الراوية إلى العربية بأسلوب رشيق الكاتب حسن محمد أحمد، وصدرت ضمن سلسلة روايات عالمية، حاملة رقم 267، إحدى السلاسل التي تصدر عن وزارة الثقافة والارشاد القومي- الدار القومية للطباعة والنشر في أرض الكنانة.. مصر العربية.

***

ناجي ظاهر

كانت بداية اطالة ديوانه الشعري لـ(متحف الندم) كلمات كقطرات الندم ختم بها أوراقه وهي: (في الطريق إلى متحفنا ستسمع هرج الكائنات، فأبدأ رشفتك الأولى من نبيذ العصافير وغني معي)، فكان الاختيار موفق بذكاء الشاعر وفكرهُ الثوري النيّر ليصل بها إلى دلالاته الرمزية بما يبتغيه من نصوص شعرية تجاوزت خمسة عشر نصاً، منها: (فائضُ الخرابِ وبعدْ، الرسام، متحف الندم، الظلام الذي حولك هو الذي دلني إليك، شاعر الخليفة، بغداد والبرابرة، الطريق إلى الجنةَ، الهرطوقي، منفى، أبجد هوز حطي صنمٌ، مذكرات كيس صيني، أبا النهرين، مدن طائرة، نجمة آشور، مدينة الندى). وقد زين الشاعر ديوانه برسومات جميلة ومعبرة من أعمال الفنان فيصل لعيبي.

سأختار من خلال ديوانه الذي وصلني عِبرَ الدكتور باسم العسماوي يوم أمس قصيدة (متحف النَدَم)، لألقي الضوء عليها وفق بساطة معرفتي بالنقد الأدبي والشعر، فليسامحني من احصى عثراتي، فأنا بعيداً عن هذا المجال، لكن أي هدية تصلني لا بد لي من أن اطلّع عليها وأكتب الشيء اليسير عنها، ومن تلك الهدايا ديوان الشاعر المغترب عامر حسن (مَتْحَفُ النَّدَمْ).

قصائد الشاعر عامر حسن تمتلك العلاقة الخصوصية الثورية في أغلب نصوصه، فعرفته ذلك اليساري الماركسي الذي لا يهادن أحداً، فهو عاشق ومتمسك بفكره. وفي قصيدة (متحف الندم) نلمس فيها منطق الشعر السياسي، فيُعبّر عنها ويجسدها في الفضاء النصّي حسب رؤيته الشعرية ورؤياه لهذا الواقع، ففي الصفحات 27- 31 من ديوانه وقصيدته يذكر قائلاً:

أمس واليوم (ما مروا) عليَّ

ليلتان تنتحران..

وضجة من سُكون

رممت كل الهياكل.. والمداخل..

وغسلت الشوارع بقهوة الخبراء

ليلتان بلون البراءة

لم يتبين منهما الخيط الأبيض من الخيط الأسود

من خلال هذه الأبيات يعبر الشاعر عن واقعاً متفجراً، هو صورته الجديدة المغلفة بالترميم لكل الهياكل والمداخل ليتبين من خلالها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيؤسس عالماً متخيلاً بكلمات أحكم هندستها، ويعلن عبرها عن رؤيته وانتظاراته لفضاء مقبل يستحضره عبر حُلًم يرى فيه نفسه، وهو ما يستوقفنا في هذه القصيدة (متحف الندم)، التي يطلق فيها العنان لأحلامه، ويعرض هواجسه دون قيد، لعله من ضروب التجسيد للبعد الرؤيوي، قد لا يترك هذا الالتزام أثره في القصيدة بما تقوم عليه من عمل تركيبي درامي، تتصارع فيه الأفكار والرؤى، وتتعدد داخله الأصوات وتتنوع الضمائر، كل ذلك في إطار نسق فني أقيم على حركة وديناميكية قد تكونان أساس الشعرية فيه.

مع كل هذه المعطيات يصدح في المتن النصّي صوته ليهيئ انبثاق غنائية تنبجس من هذا الرمز الذي يفصح عن إيقاع الذات الموجعة، بما تحمله من أحوال متناقضة ومتغيرة، لتدل على مَتحفهُ النادم على السفر والرحيل والقلق على جنازة الوطن، مما يجعله ينغمس في وجدانية تخرج عن لونها الكلاسيكي إلى نوع آخر في خطاب قصيدته:

وأنا أغني بلغة الصمت..

وأسمع هرج الكائنات في حُلم بائر

وحيداً أمشط سماءَ الضائعين في نُزهة التقاعد

في تأثيث مقاهي الندم

وحتى لا يفلت مني ويضيع بين الرجلين

لظمتُ ظلي المتخوم بثرثرة الخمر

بإبرة المنتهى

انتظر فمساؤنا مثقلٌ بالخطايا

وأخا عليكَ من شهقة كاتمِ

فمنذ الوهلة الأولى تتشكل في قصيدته هذه الغنائية، وذلك عبر حركة أقوال تنطلق متحفزة، فتميز النص بطابع سردي حكائي تجعلهُ قول متزامن ولحظة الحدث المثقل بالخطايا وشهقة الكاتم. ويستند الشاعر إلى أركان الخطاب ليحضر فيها متحف ندمه شريكاً فعلياً في عملية التخاطب لجواز عالم القصيدة. فيتأرجح وجودها بين الحضور والغياب حتى لا يفلت منه ويضيع بين الرجلين تخوم ثرثرة الخمر.

وفي حركة نصية بين طرفين بفعل الحاضر والماضي ليستحضر متحفه ويخاطب مقص الرقيب الذي كان أول الحاضرين ليقول:

مقص الرقيب كان أول الحاضرين

أباريق من نبيذ جهنم

وأكوام من حلوى الزقوم

الشريط يترنح

تحت وطأة الحمام الرابض على شغاف انتظاره

أبواب المتحف مشرعة

مثل فخذي ثُريا التي أحبها عبد الجبار عباس

الحشود في الطريق إلى متحف الندم

كثيرون اعتذروا

كونفوشيوس ما زال يبحث عن صحراء

كي يرمي فيها حيتان البحر

أفلاطون فضَّلَ البقاء في مدينته الفاضلة

ماركس حتى هذه اللحظة يناور مع قناص الحداثة

دريدا مشغول بتفكيك خلايا الإرهاب

سارتر للتو بدأ اعتصامه فوق الأهرامات

مردداً – ما ابشع الظُلم –

أبو ذر ممنوع الخروج من الربذة

مانديلا يتجول بين عالمين

ميتٍ وآخر عاجز أن يولد

الجواهري حائر في طرطرت الأحزاب الساخرة

سلام عادل ما زال يرسم لوحة الخلاص

من خلال هذا النص تتداخل في كلماته لغة ساخرة معاتبة لواقع حياتنا السياسية والفلسفية، وهذا ما يعزز حضور المنهج الشعري الذي يقيمه على أساس الحركة والتحول من كونفوشيوس إلى ماركس ودريدا وأبو ذر وماندلا والجواهري والشهيد سلام عادل، فالشاعر لم يخرج عن حدود التمثل الذهني فتغدو القصيدة بأسرها مشهداً منقولاً عبر العصور، من زمن أبا ذر حتى زمن سلام عادل، فلم يخرج الخطاب عن حدود التصور والانفعال، فقد وظف الشاعر الصورة الفنية من خلال ذاكرته المتخمة بالتأريخ الإسلامي والحديث، ومعلوماته حول تاريخ الفلسفة، وهي تدل على تمكنّات الشاعر التي تتجاوز أفق توقع القارئ، فلم يعد العنوان بذلك اختزالاً للمتن، بل وسيلة للتيه وتقريب المدلول بقدر ما تدل على التقابل.

وفي لا وعيه يرسم لنا الشاعر فضاءً ذهنياً لا حدود له، وهو يقول كما يقول أدونيس (إضاءة للوجود المعتم واندفاع صوب الجوهر)، فالقصيدة تحمل فيها معانٍ كثيرة، قد توحي من سرعة الذبول إلى الندم، وهذا من شأنه أن يكشف لنا عن عمق مأساة الشاعر، فكشف لنا عن حركة أقوال الشاعر والفيلسوف ويسارية أبا ذر. فتشكلت من خلال ثنائية القصيدة الذي تداخل فيها الغنائي والملحمي، فهي حركة أقوال عبرت عن رؤيا الشاعر:

بائعات الهوى.. لم يبعنَ سوى نصف نهدٍ أثري

الُشاق رزموا بريد العطور واشلاء القُبل

عمال البلدية تعبوا من تدوير نفايات السياسة

البناءون التصقوا بأسمنت... المصايب

الكناسون يحتفلون بمرور سبعة أعوامِ

على رحيل عادل عوفي

السياسيون شيدوا كُناً لدجاج المنطقة الخضراء

وأكتفوا بـ(عاشت إيدك) (وبعد ما ننطيه)

الرأسماليون الجُدد بعثوا باقاتٍ من فاتورات الظلم

الحطابون اشعلوا الحرائق

لتنير الطريق إلى العالم السفلي

المتنبي يفرك عينيه..

(دمعٌ جرى في الربع ما وجبا)

النفري اعتذر أيضاً

لأنه لا يملك نعلاً ولا ربطة عنق حمراء

أمي ومن مقبرة السلام ارسلت عتابها

(غريبة من بعد عينك ييمه)

العرب اعتذروا.. الكُرد اعتذروا

الكلدان.. المندائيون.. الإيزيديون..

الشَبك.. اعتذروا

القطط السُمان.. وواوية الفلسفة.. أبقار الصدفة..

خرفان الانتخابات وكلاب النزاهة... اعتذروا

من خلال مشاهد أبيات القصيدة التي تشكل شعرية الفضاء الذهني واليأس من مستقبل بلدٍ سرق بوضح النهار، فالشاعر كان يتعامل مع الصور اليومية والأحداث بواقعية، فكان يغص بتفجرات مأساوية تعمق لديه النفس التراجيدي الحامل هموم سياسية واجتماعية وثقافية، وهو ما ندركهُ من خلال الانزياح عن المعنى، مما يجعل من (متحف الندم) رمزاً للفكرة التي يقتنصها الشاعر من خلال ذهنيته وقصيدته وهي عبارة عن حركة زمن بين مدٍ وجزر، تستشرف المستقبل وبها يتقاطع الرومانطيقي مع الغنائي لعتاب والدته في وادي السلام في صورة تقلب فيها الأشياء تماماً كالحُلم. وتتضمن الصور الشعرية ملامح بؤس تقابل أخرى دالة على التمرد والثورة، فالشاعر عرفته يحمل في داخله الثورية اليسارية، لذلك دلّ الاستشراف للثورة عن هذا البؤس، ونستشفهُ في ثنايا أبيات قصيدته (متحف الندم)، وهذا ما يؤكده الفضاء الذهني الذي يحتضن المقام الشعري، وفضاء التحرك في صفحات التاريخ والعودة إلى بلده كعاشق يستعير من صور الملاحم وصحائف مسيرة الجمر، فتتشكل الصور الفنية الشعرية لتعيد لذاكرتنا الميثيولوجيا الاغريقية ورماد الاحتراق فقرن فيه الشاعر واقع بلده المتردي، ليستحضر النص الغائب والنص الغنائي للزمن الغابر بأسلوب انشائي:

الموسيقيون دفنوا حتى نوتات الهمس..

وهم يشخرون على رصيف التقيّة

وحيداً مع صوت وحيدة خليل

وهي تدندن بجالغي الحضارة

أمس واليوم ما مروا عليَّ

أمس واليوم ادك واصفك بدية

وحيداً سأفتح متحف الندم

كلهم اعتذروا..

فالكل سائر في جنازة أوطان.

ومن خلال أبيات الشعر اعلاه قادنا الشاعر لحركة الذهن في علاقة وشيجة بحركة إيقاع اغنية وحيدة خليل، لتحرك فينا لحظة الحُلم والتذّكر والرؤيا، فلغة النص في قصيدة النثر تشد الانتباه لما ضاع من الشاعر وطنه فأعتبره جنازة ليستعجل بدفنها فقد زكمت أنف المتلقي رائحتها. هنا أنطق الشاعر اللغة وقد بعث فيها من خلال (متحف الندم) من الصمت وأنطقها من الغياب، وربطها بزمن الحُلم وهو من أهم ركائز الفضاء الذهني، فأخضع عامر حسن الرمز إلى رؤية النص وما فيه من أداء، فتسافر عبر الذهن إلى حيث ربوع الوطن.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

الحلة 11 /10 /2023

 (دراسةٌ بيئيَّةٌ في المُثُل والجَماليَّات)

ذكرنا في المساق السابق أنَّ الشاعر الجاهليَّ حين يشبِّه ناقته بـ(ذَكَر المها/ الثور الوحشي) ثمَّ يعود إلى المشبَّه (الناقة) فإنَّ هذا من أدلِّ الأدلَّة على أنَّ الشاعر، إذ يَستغرق في تصوير الثور، فإنَّما كان يَفْتَنُّ في تصوير (ناقته)، أو بالأحرى تصوير نفسه، وما يقاسيه من شَظَفِ العَيش ومتاعب الحياة، وذلك بأسلوبٍ غير مباشر، يُمعِن في تكثيف عناصر التأثير فيه بهذا السياق الدرامي حول حيوان تستدرُّ صورته تعاطف المتلقِّي،  فضلًا عمَّا تحمله الصُّورة من رمزيَّةٍ خاصَّةٍ لدَى الإنسان الجاهلي، الذي كانت (المها) ضمن معجم القداسة لديه من عالم الحيوان، المرتبطة ببعض الكواكب والنجوم، ولا سيما الشمس والقمر. 

ولمَّا لم يكن الأمر من قَبيل الاستطراد، أو الانقطاع الساذج عن المعنى الأوَّل، فإنَّ الصُّورة في بعض أشعارهم تعود إلى التداخل ضِمن سياق صُورة الثور نفسها؛ فإذا الشاعر يشبِّه أفعال الثور بأفعال الإنسان.  وذلك ما نجده عند (لَبيد)(1)، حيث يقول:

فـتَـداركَ الإشـراقُ باقِـيَ نَفْسِـهِ        

                                     مُـتَـجَـرِّدًا  كالمـائـحِ   العُـرْيــانِ

فحَمَـى  مَقـاتِلَـهُ  وذادَ بِـرَوْقِــهِ        

                                     حَمْـيَ المُحاربِ عَـوْرَةَ الصُّحْبـانِ

شَزْرًا على نَبْضِ القُلوبِ ومُقْدِمًا      

                                     فـكـأَنَّمـا يَخْـتـَـلُّـهـا بِـسِــنـانِ

ومن وجهة نظرٍ نفسيَّة، فإنَّ مثل هذه الصُّوَر المتداخلة تنشأ نتيجة «التكثيف اللَّا شعوري». ويسمِّيها (عِزُّ الدِّين إسماعيل)(2) بالصُّوَر المكتظَّة، التي يقول عنها: إنَّ «هذا التأليف لا يحمل صفةً منطقيَّةً، وإنَّما هو يُمثِّل الصُّوَر الحبيسة في اللَّا شعور، عندما تطفو على السطح في حالة إغفاءٍ من الشاعر، فتظهر في نظامٍ كأنَّه لا نظام».  بَيْدَ أنَّه إذا كان يصحُّ مثل هذا التأويل النفسي في بعض الصُّوَر الشِّعريَّة الجاهليَّة المكتظَّة، فإنَّ البُعدَين الرَّمزيَّ والفنِّيَّ يبدوان- جنبًا إلى جنب- أهمَّ الأسباب وأوضحها وراء الاستغراق في مشهد (الثور الوحشي).  ولذا فإنَّ تلك الصِّلَة الجدليَّة، بين الثور والإنسان، قد نشأت عنها معايير جَماليَّة وقِيميَّة لهذا الحيوان، تمحورت حول الإنسان بجَماليَّاته وقِيَمه، وجاءت أحيانًا صريحة، متبادلة، كما في المثال الأخير.

وأغلب الظنِّ أنَّ (الجاحظ)(3) قد أومأ إلى شيءٍ من هذا، لمَّا ذكر أنَّ الشاعر الجاهليَّ إذا مدح جعل (الثور الوحشي) هو المنتصر على الكِلاب- ونظير ذلك أبيات (الأعشى) السالفة في المقال السابق- وإذا رثَى أو وَعَظَ جعل الثور هو المقتول، «ليس على أنَّ ذلك حكايةٌ عن قِصَّةٍ بعَينها».(4)  فهو بهذا يومئ إلى أنَّ في قَصْد الشاعر شيئًا يتجاوز حرفيَّة صورته القصصيَّة وعينيَّتها، وهو ما يمكن تصوُّره في تلك الرابطة الفنِّـيَّة الرَّمزيَّة المزدوجة بين الإنسان والثور الوحشي.

وعلى قدر ابتعاد العَرَب التدريجي، بعد الإسلام، عن بيئتهم الأُولى، الصحراويَّة والوثنيَّة، لوحظ، في ما وصل إلينا عنهم من شِعرٍ، ابتعادٌ عن هذا النمط من الوصف القديم (للثور الوحشي) وصراعه.  يُستثنى من هذا أولئك الشُّعراء الذين تشرَّبت أنفسهم روح الشِّعر الجاهليِّ وأنماطه، من مخضرمي الشُّعراء، كـ(ابن مُقْبِل، عاش إلى 70هـ= 689- 690م)(5)، الذي عَرَضْنا نماذج من شِعره في المقالات السابقة.  من حيث إنَّ النمط التصويريَّ هنا ليس بوليد البيئة وحدها، بل هو وليد الثقافة الأُسطوريَّة فوق ذلك، ووليد العقائد الطوطميَّة التي كانت سائدة في العصر الجاهلي.  ولهذا لا نجد هذا النمط التصويريَّ عند الشُّعراء الذين عاشوا في بيئات صحراويَّة مشابهة، أو عاشوا في البيئة العَرَبيَّة نفسها بعد الإسلام.  وأمَّا الذين جاء في شِعرهم وصفُ الثور الوحشي- ممَّن عاشوا في فترة متأخِّرة عن صدر الإسلام، كـ(ذي الرُّمَّة) وغيره- فإنَّما اتَّخذوه تقليدًا، في الغالب، لا يتمتَّع بما تمتَّع به الشِّعر الجاهلي من صِدقٍ واقعيٍّ حَيٍّ، ولا تُلمَس فيه هاتيك الآفاق الأُسطوريَّة العتيقة، التي مرَّت الإشارة إلى أنَّها كانت وراء جَماليَّات صُورة الثور الوحشي، بل ليس من المبالغة القول: إنَّها كانت المحرِّك إلى الاهتمام بتصوير هذا الحيوان أصلًا، إنْ لم يكن في كلِّ الأحوال ففي جُلِّها.  ومن ثَمَّ اتَّضح تصاقب الطُّرق في تصويره ونمطيَّاتها، المتأتِّية عن المشترَك الرَّمزيِّ بين الشُّعراء، على الرغم ممَّا قد يظهر بينهم من تنوُّعٍ، أو من تفاوتٍ في تمثُّل الرمز الأُسطوريِّ على الوجه الأوفَى.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.....................

(1)  (1962)، شرح ديوان لَبيد بن ربيعة العامري، تحقيق: إحسان عبَّاس، (الكويت: وزارة الإرشاد والأنباء)، 144- 146/ 19، 23- 24.

(2)  يُنظَر: (1963)، التفسير النفسي للأدب، (القاهرة: دار المعارف)، 94- 96. 

(3)  يُنظَر: (1965)، الحيوان، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (مِصْر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي)، 2: 20.

(4)  قد يقال إنَّ (الجاحظ) إنَّما أراد أنَّ الشُّعراء يتوقَّون عادةً ما يثير التشاؤم لدَى ممدوحيهم، فيجعلون (الثور) فائزًا.  وفي المقابل يعبِّرون عن المصير والعِظَة بتصوير مصرع الثور في الرثاء أو الموعظة.  غير أنَّ هذا محض افتراض، ولم يقل الجاحظ بشيءٍ منه.  ولعلَّ تصوير (خسارة الصائد) في المدح أدعى إلى تشاؤم الممدوح.  هذا بالإضافة إلى أنَّ في عبارة الجاحظ ما يوحي بأكثر من ذلك الاستنتاج الافتراضي.

(5)  يُنظَر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (1999)، شِعر ابن مُقْبِل: قَلَق الخَضْرَمة بين الجاهلي والإسلامي (دراسة تحليليَّة نقديَّة)، (جازان: نادي جازان الأدبي)، 1: 76- 77.

ربما حضر مبكرا، أو يكون صديقاه قد تأخرا عن الموعد المتفق عليه لاعتبارات بات يدركها بسبب تكرارها، لكن وفي الحالتين لا بأس، فصاحبنا قام باستثمار الوقت وعلى طريقته الخاصة وكما في كل مرة. أعدل من جلسته ثم تبعها بأن استل سيكاره من علبة الدخان المفضلة لديه وراح موقدها. بعد ذلك وما إن شعر بحالة من الاسترخاء، نادى على النادل ليؤتيه أو ليسعفه بكأس من الخمر، شارطا عليه وبلغة طغت عليها روح الدعابة، أن يكون كذاك الذي كان يحتسيه في بلاده، بباراتها المطلة على أبو نؤاس. أو كذاك الذي لا زال مذاقه عالقا في فمه، يوم شربه في حاضرة شريف وحداد، فحتى الخمر هناك أطيب. وما أن أوشك الإتيان على مُدامه الأول حتى بدأت تداعيات الماضي تنهال على ذاكرته ولتتدافع فيما بينها، فإحتار صاحبنا في بادئ الأمر بأي منها سيبدأ، حتى إستقر أخيرا على أبعدها رجعا.

ففي أواخر السبعينات كان فتى يافعا. لديه من الفضول ما يكفي ليصغي لما يقوله الكبار. فمثلا وعلى ما وصل مسامعه ومن دون أن يدرك دلالته وما الأسباب التي وقفت خلف هذا القرار، فإن فلان الفلاني، إضطر مغادرة البلاد لأسباب سياسية. وسمع أيضا ما دار من حديث بين كبار عائلته حيث تبادلوا خبرا مفاده، بأن سكنة البيت المجاور لهم، قرروا الإنتقال والعودة بشكل نهائي الى مدينتهم الأصل والواقعة في غرب البلاد. وحين دفعه واعز الطفولة للإستفسار أكثر عن خلفية هذا القرار، كان ردَّهمم أن إكتفوا بإلتزام الصمت، لإعتبارات تتعلق بصغر سنه وصعوبة البوح له بأمر كهذا. وثالث آخر وبعد أن تم إختطاف إبنته الكبرى، الطالبة الجامعية وقرة عين أهلها، وبعد أن عجز عن إقتفاء أثرها رغم ما بذله من جهد، قرر هو الآخر وفي ليلة حالكة الظلمة والوحشة، مغادرة حيّه العتيق ليتجه الى المجهول، تاركا خلفه ذكريات الطفولة والشباب. لكنه وعلى تواتر الأنباء التي كانت تصل أبناء حيّه القدامى عنه، من هنا وهناك، فالرجل ظل وفيا لتلك الأيام التي قضاها، وليحملها على كتفيه أينما حلَّ وإرتحل.

أمّا عن فترة الثمانينات فالحديث عنها ذو شجون وأسى لا يعرف الحدود، فبها إبتدأت الحرب الضروس، وبها إحترق السهل كل السهل، وبها شهدت البلاد سقوط عشرات الآلآف بل قل الملايين من الشهداء، من خيرة الشباب وأكثرهم بسالة، لرعونة طرفي النزاع وإصرارهما على مواصلتها، ليبقى كل منهما متشبثا ماسكا بكرسي الحكم، وتحت ذرائع شتى كالحفاظ على وحدة البلاد والسيادة وصونا لكرامة العباد. وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى بانت آثارها وما ترتب عليها من كوارث، طالت الحرث والنسل وكل ما تملك البلاد من موارد وخيرات، كانت تُعَدٌ ذخيرة وإحتياطا للأيام الصعبة وأيام القحط .

ما أن أنهى صاحبنا كأسه الأولى حتى نادى على النادل ليسقيه بأخرى ولتكن أكبر حجما من سابقتها، فأرادها أشد مضاضة بعد أن هزَّه الشوق وذهب به الحنين بعيدا، مقلباً أوجاعه وذكريات الماضي وما حلَّ ببلاده من مآسٍ لا قرار لها. وسيتوقف كذلك عند فترة الحصار وأي حصار ذاك الذي فرضته دول ما يسمى بالعالم المتحضر والخمسة الكبار منهم، المتربعين على عرش سلطة مجلس الأمن، ممن أرادوا للعالم أن يميل كما يميلون.

ما جال في خاطره من أفكار وأحداث وأسماء وهو في لجّة الخمر، سيقوم بكتابتها على شكل رؤوس أقلام، كي لا تفلت من بين يديه، وليعود اليها في القادم من الأيام وهذا ما جرى فعلا. فبعد أن أكمل عدته وبات على أهبة الإستعداد، شرع سنان أنطون بتدوين سرديته لترى النور وتنتشر بسرعة، فكان لي منها نصيبا. وبعد قراءتها والوقوف عليها مطولا، رحت بدوري مسجلا بعض من الإنطباعات والملاحظات والرؤى، مبتدءأً من حيث إنتهى، حيث سَيُورد الكاتب في نهاية سرديته ملاحظة مهمة، أسوة بالكثير من الكتاب وما درجوا عليه، تشير الى أنَّ: النص وشخصياته من نسج الخيال، وأي تطابق أو تشابه في الأسماء غير مقصود.

***

أسمى روايته يا مريم، لعله أراد الإستجارة بالسيدة العذراء، فهو كما أبناء الشرق الآخرين وكما الديانات السماوية الأخرى وعلى ما درجوا عليه من تقاليد وأعراف وتمنيات، آملاً أن تكون له شفيعا ونصيرا عند المصائب والمصاعب، وحين تُغلق المنافذ والطرق، لتأخذ بيده وتشد من أزره يوم أنينه وأوجاعه. ولتقف الى جانبه في محنته ومحنة شعبه، طامعا الى شفاعتها مما يعانونه و يمرون به من عذابات طال أمدها وغار جرحها.

سيختار الكاتب لشخصياته أسماء أليفة على السمع وعلى الذاكرة العراقية وأيضا سهلة على التداول، وتعكس كذلك مدى هدأة المجتمع ومستوى وعيه وإنتماءه وميله الى الإنفتاح والتعاطي مع أكثر الأسماء وقعا وجمالاً وشيوعاً، وإذا أردنا الإستشهاد والتعرف عليها، فلكم منها بعض أمثلة، كيوسف ومها وبشار ولؤي وشذى وجميل ومخلص وجاسم وأسماء أخرى قريبة منها.

لغة الكاتب في سرديته، تداخلت فيها الفصحى المبسطة والواضحة في آن والتي درج البعض على تسميتها بلغة الصحافة، وأظنه حسنا فعل، فللنص أحكامه وشروطه وعالمه. وبين بعض اللهجات المحكية كالبغدادية منها بشكل أساسي، حيث تعكس طبيعة المكان الذي تتحرك فيه روايته، وأيضا لطبيعة العلاقة التي تجمعه بها، بإعتباره أحد سكان العاصمة بل ومتأصلاً فيها. كذلك فهي (اللهجة البغدادية) تُعَدٌ بمثابة القاسم المشترك الأعظم وهمزة الوصل التي لا خلاف عليها، فعندها سيلتقي كل أبناء العراق الواحد وعلى مختلف مناطق سكناهم، من شمال الوطن الى جنوبه، ومن شرقه حتى غربه. وما دمنا نتحدث عن لغة الكاتب، فسيعمد وفي بعض الصفحات الى إستخدام إحدى اللهجات المحلية التي ينحدر منها ويعود بجذوره البعيدة اليها، وأحسبها تنتمي الى ما يتداولونه سكنة سهل نينوى وبشكل خاص إحدى طوائف أهلنا وأبناء جلدتنا من المسيحيين.

وللخوض في نص الكاتب، فلا بأس من أن نأتي على فاتحة سرديته، فمن هناك ستبدأ الحكاية، حيث ستتعرض إحدى العوائل كغيرها الأخريات الى مخاطر جدية، تتمثل بما بات يعرف بالعنف والشد الطائفيين، والتي ستتحول وتتطور فيما بعد لتأخذ شكل حرب أهلية داخلية، ضحاياها وللأسف من كل مكونات المجتمع العراقي. وما كان لها أن ترى النور وتظهر لولا قيام المحتل الأمريكي وَمَنْ دخل معه وعلى مطيته بفتح أبواب العراق لمن هبَّ ودب، من نطيحة ومتردية، ليعيثوا في الأرض وفي الشعب فسادا وينزلوا فيه ذبحا. ففي ظل هذا المناخ الذي شهدته البلاد والعاصمة بشكل خاص، الذي لحقته البلوى وبات ملبدا وملوثا بالأحقاد والإنتماءات المتخلفة، إضطرت هذه العائلة الإنتقال الى بيت آخر لعله يكون كثر أمناً.

وتحت ضغط الظروف الآنفة، إضطر الزوجان، مها ولؤي أن يتخذا من بيت العم يوسف ملاذا مؤقتا لهما، ريثما تعود الأمور الى حالتها الطبيعية. أحيانا وبحكم العيش المشترك ستدور الأحاديث بينهم طويلا، وقد تصل في بعض منعطفاتها الى حد الإختلاف خلال سيرورة النقاشات. فيوسف الذي كان قد عاش حياة حلوة، سيسمع كلاما ثقيلا من مها، إذ دائما ما تتهمه، بالتهرب من الحاضر واللجوء الى الماضي ..... . ليرد عليها وبلغة غَلبت عليها روح الإحتجاج (وما العيب في ذلك، حتى لو كان صحيحا، إذا كان الحاضر مفخخا ومليئا بالإنفجارات والقتل والبشاعة).ص11 . يوسف كان صادقا وصريحا، ففي وجهة نظره هذه سيعلن عن رفضه المطلق للواقع المر الذي يعيشه. في ذات الوقت ودعما لما يحمله من رأي، فسيعقد الرجل مقارنة سريعة بين زمنين وجيلين مختلفين، كان قد عاصرهما، ليثبت وبالأدلة القاطعة ما ذهب اليه.

العم يوسف كان قد ورث البيت الكبير الذي يسكنه من عائلته، ليبقى ويتقاسمه فيما بعد مع شقيقته حنّة حيث عاشا سوية. من ثم ظلَّ وحيدا بعد أن وافاها الأجل قبل سنوات وتصعد روحها الى السماء، بهدوء وسكينة. فوخر لقاء بها يوم دخل غرفتها ظنا منه بأنها قد إستغرقت طويلا في النوم. من ثم راح ممسدا كعادته بيده اليسرى على شعرها الأشيب أملا في إيقاضها، لكن وللأسف فقد كان هذا اللقاء الأخير بها وليودعها الى مثواها حيث الطمأنينة والسكينة الأبدية.

تداعت الأحداث وأيام الماضي على ذاكرته، فها هو الآن يدور البيت غرفة غرفة، مستعيدا بحسرة ما كان يجري يوم كان البيت زاهيا بأهله. وعن تلك اللقطة التي إستغرق فيها الكثير من الوقت دون أن يشعر، يقول يوسف: نظرت الى صورة العذراء المعلقة .... الى اليسار منها كانت هناك صورة لأخي، جميل، الذي هرب من العراق عام 1969 بعد أن أعدموا صديقه بتهمة الماسونية. ص18. بصرف النظر عن الإتفاق أو الإختلاف في إيراد هكذا خبر، وبصرف النظر أيضا عن البعد الإنساني الذي يترتب عليه، الاّ أنَّ التساؤل سيبرز هنا: ماذا أراد يوسف أن يقول؟ هل أنَّ العراق لم يكن آمنا حين مجيء ذلك الحزب وقيادته للدولة في عام 1968 ؟ ممكن بل صحيح والى حد بعيد. ولكن هل كان لأخيه حقا صديقا، على صلة بتلك المنظمة المشبوهة؟ وإذا كان الأمر كذلك فلكل واقعة حديث وموقف، فللوطن حقوقه وللشعب رأياً.

ومن شدة إرتباطه وحبه لشقيقته الراحلة حنّة، فسيستطرد العم يوسف في إستعادة الماضي،. فما من زاوية داخل البيت الاّ وله منها رائحة عطرة. وما من حديث دار بينهما الاّ وكانت لكلماتها حضورا وصدى ساحراً. ففي إحدى المرات وأثناء زيارتها لروما، قد أسرَّت لشقيقها كم أعجبتها تلك المدينة. لكنها في ذات الوقت (كانت دائما تتحسر على القدس التي زارتها عام 1966، تكرر بإستمرار وبلهجتها المحلية: أي شوقت ترجع القدس حتى نقدر نروح للكنيسة).. تساؤل (حنة) آنذاك، كان لا يعكس مدى صدق مشاعرها الإنسانية والروحية فحسب، بل أيضا يُعد إعلانا لا يقبل الشك أو اللبس في طبيعة موقفها وما تحمل من مشاعر وطنية وقومية، فهي لم ولن تنسى يوما، القدس وكنيسة القيامة وفلسطين.

وعلى صفحات أخرى من الرواية، ستتواصل النقاشات وتتكرر، فالدم حار والجروح لم يتوقف نزيفها بل راحت تزداد غورا. وما عاد لسكنة البيت الواحد من موضوع يتداولونه غير الإنفجارات والإغتيالات والسرقات والخطف ووو... . فعلى الصفحة 24 وفي لفتتة تنم عن حس وطني وقراءة موضوعية لما يحدث، سيرد النص التالي: مو بس كنايس قتنحرق بنتي. الجوامع اللي إنحرقت أكثر بكثير، والإسلام اللي انقتلو عشرات الآلآف. لذا فلا تمييز في القتل، فالقاتل لا دين له ولا أخلاق ولا قيم. والعلة يقول آخر في ردَّه على صديقه، محاولا تصحيح فكرة ما بُنيت على خطأ: مو قصة علينا لو مو علينا، بس دولة ماكو والأقليات ما حد يحميها غير الدولة القوية. إحنا لا عدنا حزب ولا ميليشيا ولا بطيخ. وفي صفحات لاحقة سيأتي القول صريحا ومعبرا بصدق عما يجول في بال كل العراقيين: البلد بلد الكل، وبلدنا وبلد أجدادنا...... .

***

في القسم الثاني من الرواية، سيضع الكاتب عنوانا لها أسماه صور، وستكون مادته الأساسية هي تلك التي تم إلتقاطها في خمسينيات القرن الماضي، من بينها على سبيل المثال تلك التي يظهر فيها المبنى الرئيسي لكلية بغداد، حيث سيضمَّ أحد صفوفها مجموعة من الزملاء، وسيمتد بهم العمر ليصبحوا أصدقاءا رغم تنوع إختصاصاتهم وخياراتهم، وسيبقون على العهد ولم يفرقهم لا لون سياسي ولا ديني ولا قومي ولا حتى مناطقي. فها هو سالم ويوسف ونسيم، المنحدرون في أصولهم من ثلاثة أديان موحدة، مجتمعون سوية، في لقطة تعكس مدى إنسجامهم ودرجة سعادتهم.

غير ان موسم الفرح والأيام الحلوة لم يدم وللأسف طويلاً، إذ سيحدث تطورا نوعيا لم يكن في الحسبان. فعلى نحو مفاجئ وبينما ( كان الثلاثة يمشون على شاطئ دجلة، بدا نسيم مهموما ولم يقل الكثير..... بعد إلحاح سالم في السؤال..... صارحهما بما كان يثقل قلبه: يمكن هاي آخر مرة نتشاوف) ص44. إنه الإنعطاف الكبير حيث ستشهد المنطقة تغيرا جيوسياسيا جذريا، سيتم على أثره إعادة ترتيب ورسم خارطة المنطقة، وعلى النحو الذي خططت له وأرادت بعض الدوائر الغربية، بقيادة ما كان يطلق عليها ببريطانيا العظمى. هادفة الى إنشاء كيان مُلفق وتحت ذرائع مختلفة، سيسمى فيما بعد بــ(إسرائيل).

وكي تكتمل الفكرة وينفذ المشروع ومن كل جوانبه وخفاياه، فقد عملت بعض القوى والتي تتمتع بنفوذ واسع، وبدعم وإسناد وتآمر من بعض الحكومات المحلية، على إحداث خلخلة في الأمن الداخلي، وذلك من خلال القيام بحملة تفجيرات رافقتها حوادث قتل، مستهدفة مكونا بعينه والذي يُعد أصيلا وجزءاً لا يتجزأ من الشعب وله إسهاماته المميزة في مجالات عدة كالأدب والفن والسياسة، إنهم يهود العراق، وذلك للضغط عليهم وإجبارهم على التوجه القصري نحو تلك البلاد الملفقة.

وفي لقطة على غاية من الأهمية، سيشد الكاتب أنظارنا الى موضوعة النخيل وما يشكله من أهمية في حياة العراقيين وذاكرتهم. فعندما كان يوسف، وهو الشخصية الرئيسية في رواية سنان، موظفا في إحدى دوائر الدولة، كان ضليعا ومتمكنا من اللغة الإنكليزية. ومن بين ما لفت إهتمامه هو ذلك الكتاب الذي يتحدث عن قيمة النخلة ومكانتها في ظل حضارة وادي الرافدين والتي قد تصل أحيانا الى درجة من التقديس. وعن ذلك سيأتي نصا صريحا قام بترجمته والذي أخذ في حينها شكلا ملزما وواجب التنفيذ، يقول (كانت شريعة حمورابي تقضي بتغريم كل من يقطع نخلة) ص45. وعن الكتاب أيضا وما ورد فيه، فسيتوقف يوسف المترجم عند إحدى الفقرات التي جاءت في ثنايا الكتاب وبلغته الأصلية أي الإنكليزية، عند فصل في غاية الأهمية، يتحدث عن قيمة ومكانة النخيل في الإسلام، مستشهدا بسورة مريم: وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا. الى آخر الآية الكريمة. بمعنى آخر وبعبارة صريحة واضحة ، فإن هناك إجماعا ومن مختلف الأديان السماوية وبكتبها المنزلة على قيمة النخلة ووجوب رعايتها وحمايتها من كل سوء وضر.

وتواصلا مع فكرة إستعادة بعض اللقطات التي ظلت عالقة في ذاكرة الشخصية الرئيسية للعمل الروائي الذي بين أيدينا، فسيعمد الكاتب الى إحياء إحدى الشخصيات النادرة والطريفة، والتي لعبت دورا سياسيا مهما في النصف الثاني من الستينات المنصرمة، والحديث هنا يدور عن الراحل طاهر يحي، والذي تبوأ منصب رئاسة الوزراء في العهد العارفي الثاني ولسنة واحدة فقط. فالرجل وعلى ما كان العامة يتداولونه عنه، فإنه متهم بطول اليد لذلك كان يكنى بأبو فرهود. وأعتقد ان إشارة من هذا النوع ستأتي منسجمة مع جو الدعابة الذي كان سائدا آنذاك، كذلك سيتناغم مع الطباع الشخصية للرجل المعني. فعلى ما قيل، فقد كان يصله كل ما كان يدور من كلام ولغط حوله وما يُلصق به من تهم، الاّ انه لم يكن مباليا لها، بل حتى كان يقابلها بنكات أشد وقعا وأكثر طرافة. وللتذكير فقد تم اعتقال طاهر يحي من قبل نظام الحكم الجديد وتعرض الى شتى أنواع الإهانات ووالقهر والتندر أيضا.

إذن وكما سبق القول، فسرد الأحداث سيتوافق مع الصور الملتقطة، بعديد مناسباتها وإختلاف تواريخها وتنوع شخصياتها. كذلك ستسير سوية بموازاة العم يوسف وطبيعة علاقاته. ومن الصور الأخرى التي يجدر الإشارة اليها والتي يحتفظ بها هي صورة الآنسة أو السيدة دلال، التي أكملت دراستها في بريطانيا في السبعينات وحصلت على (شهادة الماجستير في الهندسة الزراعية من جامعة إدنبره، وتم تنسيبها لوظيفة أستحدثت في قسم التخطيط الميداني). ص62.

سنان انطون في مدونته هذه ومن على صفحات الفصل الذي أسماه بصور، فعدا عن تغطيته لبعض الشخصيات التي جأنا على ذكرها، فسيسلط الضوء ومن جوانب مهمة على طبيعة الوضع الإقتصادي وما يعاني منه في بعض مفاصله. فبسبب ما حصل من إنتكاسات في الحقل إياه، نتيجة لعوامل عديدة من بينها سياسة الحروب، فقد تقرر تنشيط بعض مجالات الإقتصاد العراقي والإهتمام بها ورعايتها وخاصة ما يتعلق منها بالقطاع الزراعي: فـكان من أولى مهمّات دلال في عملها الإشراف على وضع دراسة شاملة حول وضع النخيل في العراق. (إنتهى الإقتباس). كيف لا وانَّ الغراق هو هبة شجرة النخيل المباركة، وصدق من قال: البيت الذي فيه نخلة لا يجوع.

***

في القسم الثالث من سرديته والذي أسماه أن تعيش في الماضي، سيتوقف الكاتب عند بعض المحطات والوقائع المحببة والمفضلة لديه ولدى أبناء جلدته، والتي لا زالت تحتفظ بها ذاكرته، لتؤشر الى طبيعة إهتمامات الكاتب. فمثلا سيعيد علينا ما كان يُشغل بال العراقيين على الرغم مما كان يعانيه من صعوبات وخاصة ما يتعلق بالجانب السياسي، وما كانت تتلقاه بعض الأحزاب السياسية المعارضة من مضايقات وأساليب قمع على يد أجهزة النظام الأمنية. فمن خلال الصورة، سيعود بنا الكاتب وعبر مدونته الى عام 1979، متذكرا إحدى مباريات الدوري الممتاز لكرة القدم، والتي كان طرفاها ناديا الزوراء والميناء. فعنها تقول إحدى شخصيات الرواية: جلسنا جنبا الى جنب في المقصورة في تلك المباراة المشؤومة التي أصيب أثناءها نجم الزوراء فلاح حسن وكسرت ساقه. ص72. وفي التفاتة تنم عن مدى تعاطف أحد المشجعين مع نفس اللاعب والذي أصبح أشهر من نار على علم ونجح في كسب حب وتعاطف ود الجمهور معه، لما يتمتع به من قدرات عالية في كرة القدم فضلا عن خلقه الرفيع، إذ سيصرخ أحدهم موجها كلامه له: أروح فدوة الهلصلعة الذهب.

وفي مشهد آخر لا يقل طرافة وجمالاً، سينقلنا الكاتب الى أجواء الخمر والليالي الملاح، التي كانت تعج بها ليالي بغداد يوم زهوها وألقها، بحاناتها وباراتها، فما أن تعلن ساعة السحر عن مقدم اول خيط لها، حتى تبدأ النفوس التواقة للنشوة بالتحرك في كل الإتجاهات، سعيا منها لإنتقاء نخبة من الصداقات والتي يطيب معها السهر والكلام المباح. وعن هذه الأماسي فكثيرا ما يصادف بين الجلاّس والندامى مَنْ كان على صحبة مع ما تجود به الطاولة المستديرة وما تحتويه من أنواع المأكولات الدسمة والمقبلات الشهية، ولم يكن شاغله سوى إشباع معدته التي لا قرار لها ولا حدود.

وبين الجد والهزل وبينهما المزاح، سـيعلن أحد عشاق الخمر عن إحتجاجه وبصوت مسموع بعد أن طفح به الكيل، لكي يضع حداً لما أسماه بالمهزلة التي تحصل، وبالتجاوز الصارخ على حقوق الآخرين وعدم مداراة وتقدير الحال، موجها كلامه الى رفيق دربهم وأماسيهم وصديقهم في السراء والضراء، والذي هو أيضا عضوا نشطا وفاعلا وركنا أساسيا من أركان الجمعية التي جرى تأسيسها لتضم نخبة من الخمريين، أسموها نؤاسيون، تيمنا بشيخ طريقتهم، طيب الذكر والثرى أبو نؤاس الخالد، وإسمه شوقي والملقب بالبدين (على كيفك يا معوَّد، طيرت المزَّة، هذا مو عشا. راح نتعشّى بعدين).ص73. ولأن العدد المسموح به قانونا لتأسيس الجمعية الخمرية هو أن لا يقل عن ثلاثة أفراد كحد أدنى، فقد تعثَّر عملها في السنوات الأخيرة، وذلك إرتباطا بالحملة الإيمانية التي قادتها السلطات الحاكمة آنذاك. وبما انه لم يتبق منها سوى عضوان فقط، فقد إنفرط عقدها ولم يبق لديهم ما يدارون به جرحهم سوى أن يردد أحدهم شعار الجمعية الأثير: سلاماً أيها الندمان إني شارب ثمل. ثم يردٌ عليه آخر حزنا على إغلاق جمعيتهم: أديرا علي الكأس إني فقدتها، كما فقد المفطوم درّ المراضع.

أستمرارا للنهج الذي إتبعه في هذه الرواية، سيواصل الكاتب تسليط الضوء على بعض الشخصيات التي تمثل نماذج مهمة من مكونات وفئات المجتمع العراقي، وأظنه كان موفقا في ذلك، حيث حرص على أن تكون إختياراته متنوعة وشاملة الى حد ما، فهناك المتعلم وهناك الشخصية العفوية وهناك من له إهتمامات وهوايات خاصة وهناك الخريج والمثقف وما الى ذلك. كذلك لم يفته أن يُشرك في سرديته العنصر النسوي، والذي تمثل بشخصية دلال، خريجة إحدى الجامعات الأوربية المشهود لها.

الأهم من ذلك هو إختياره لشخصية صاعود النخل بريسم والذي كان مسؤولا عن رعاية وحماية حدائق إحدى مناطق بغداد المعروفة. وبعد أن وافاه الأجل فقد إستلم زمام الأمر رجل اسمه جاسم ليكون مسؤولا عنها. ولعله في هذا الجزء من الرواية أراد الكاتب التركيز على جانب كبير من الأهمية، الا وهو ظاهرة النزوح التي بدأت تراود سكان العاصمة والتفكير على نحو جدي بمغادرتها. ومما يُذكر في هذا الجانب أن هناك الكثير من الأعمال الروائية بدأت تظهر على الساحة الأدبية والتي تتناول ذات الموضوع الا وهو الهجرة.

وعملية النزوح المعاكس التي بدأت تشهدها العاصمة، باتت تؤرق حتى صاعود النخيل جاسم ، فها هو الآخر بات غريبا على المكان الذي يشتغل فيه. والأنكى من ذلك فقد قرر العودة الى أهله في جنوب الوطن بعد أن طفح به الكيل. وعندما سُئل عن ذلك أجاب ( عمّي آنا رايح لهلي. أكو بيوت أدگ بيبانها يطلعولي ناس ما چانو بيها گبل. قسم يگولون گرايب گاعد يديرون بالهم عالبيت، بس مو دايما صدگ. أسألهم وين شالو أهل البيت، ما يجاوبون. بس آنا ما أسأل وما أتدخل. تدري ثنَعَشْ واحد من جماعتنا إنكتلو؟ أحسنلي أرجع لهلي أشتغل ببساتين بالجنوب، هناك أمان). ص84. أعتقد ومن خلال العبارة الآنفة، جرى تلخيص كل ما كان يجري ولا زال في العراق عموما وبغداد بشكل خاص. إنها تمثل رسالة إحتجاج عالية النبرة، أراد توصيلها صاحب النص لكل مَنْ بإذنه صمم.

***

الأم الحزينة. حمل القسم الرابع من روايته هذا الإسم، مُحْوَرَهُ ضيفا العم يوسف، مها ولؤي. بدأت حياتهما الزوجية تأخذ حالة من الرتابة والشعور بالملل. وإذا ما أردنا التعرف على الأسباب الحقيقية التي تقف وراء ذلك فسيبرز تعذرهما حتى الآن عن الإتيان بوليد، يملأ البيت فرحا وسعادة ويحمل إسميهما، كذلك ليحدث تغييرا حقيقيا وجذريا في نمط حياتهما. حاولا لمرات عديدة زرع بذرة المستقبل لكنها لم يتوفقا وللأسف. ظنَّت الأم بأنها مَنْ يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية، مما سيجد لأحاسيسها هذه إنعكاسات سلبية على يومياتها، بل حتى راح يطاردها حتى في منامها وفي أحلامها. عمل زوجها صادقا من أجل التخفيف مما ينتابها وما تعاني منه الاّ انه لم ينجح في بلوغ مبتغاه.

على الرغم مما كانت تبذله من جهد في سبيل التخفيف من وطئة وضعها ومحاولة تجاوز ما تمر به الاّ أن حالتها ستزداد سوءاً. الأنكى من ذلك فإنها ستصطدم بكل مَنْ تلاقيه وكلما خرجت الى الشارع، فالنظرات المتجه اليها من المارة، ستعطيها إنطباعا (وكأن أصحابها يلتقطون صور أشعة إجتماعية ليحددوا طبيعة مرضي ونجاستي لأني لست مثلهم أو من ملَّتهم. ولا تجيء النظرات من أعين الرجال فقط، بل حتى من النساء اللواتي ينظرن إلي ويشعرنني كأنني عاهرة لأنني لا أرتدي الحجاب). ص110. وفي الصفحة الموالية سيتأكد لمها ما ذهبت اليه من شكوك. فعن ذلك تقول: قال لي أحد الموظفين ذات يوم، وهو يقرأ استمارة ملأتها بالمعلومات الشخصية لأكمل معاملة، معلقا على إسم والدي:(إسم جورج أجنبي مو) فأجبته بحزم:

(لا مو أجنبي، عراقي)

(شلون مو أجنبي؟ مثل جورج بوش)

(لا مثل جورج وسّوف ... وجورج قرداحي)

ما صدر من رأي من قبل هذا الموظف الفطحل، لا يمثل بالضرورة وجهة نظر أغلب العراقيين، ففي مناسبات قادمة سيحضر قدّاس يوم الأحد عدد لا بأس به من أهل المنطقة من المسلمين والتي تسكنها عائلة مها. وسلوك كهذا يعبر بصدق عن حقيقة مشاعرهم ويعكس كذلك مدى قوة وتماسك ووحدة المجتمع العراقي. بل حتى أن أحد الضيوف قام وبمبادرة لطيفة منه بتوزيع الحلوى على الحاضرين، إبتهاجا بعودة إفتتاح الكنيسة.

مها لم تفقد الأمل، فها هي تعد العدة لإستقبال ولي العهد والذي سيحمل إسم بشار، ليأتي الى الدنيا ومعه بشائر الخير، ولتطوى بمولده تلك الصفحة المظلمة التي أتت حتى على أحلامها. غير أن التطورات والمستجدات اللاحقة لم تأتِ وفق رغبتها، حيث ستتعرض وهي في شهورها المتقدمة من الحمل الى حادث مأساوي، سيقضي على بقايا أمل ظل يراودها وتنتظره بفارغ الصبر، ولم يفد أو يجدي نفعا كل أدعية الرجاء التي أطلقتها هي وزوجها و محبيهما وكل من يحيط بها من الأهل والأصدقاء ومن العم يوسف كذلك.

فعلى نحو غير متوقع وبحسب ما ذكره أحد شهود العيان (لا أحد يعرف كيف تسربت السيارتان المفخختان تلك الليلة ومن أين جاءتا بالضبط. لكن الهدف كان واضحا. إستهدفوا شارعنا لأنهم يعرفون بأن معظم من يسكن بيوته هم من المسيحيين)ص128. ليطال إنفجار إحدى السيارتين البيت الذي تسكنه مها وليحدث ما يحدث، فكان أخطر وأشد ما وقع هو أن تطال شظايا الإنفجار وتأثيراته تلك المرأة الحامل مها، ولتنزف دمعا ودما ولتفقد على أثرها وليدها المنتظر وليستشهد بشار قبل ولادته.

لم يكن أمام الأم الثكلى من خيار تستجير به ويخفف من وطئة ما تمر به سوىغير العودة الى الكتب الدينية وفي مقدمتها الكتاب المقدس، ففيه راحة للروح ودافعا للسكينة. كذلك ستستذكر عذابات السيد المسيح والسيدة العذراء. ولهدأتها فقد راحت تصغي بخشوع الى التراتيل الكنسية وبصوت السيدة فيروز:

أنا الأم الحزينة وما من يعزّيها،

فليكن موت إبنك حياة لطالبيها،

أم يسوع بكت فأبكت ناظريها،

لهفي على أمة قتلت راعيها،

صبرا مها ولؤي على ما أصابكما من جرح ومن وجع.

***

وصل كاتبنا الى الفصل الأخير من روايته وعلى ما أعتقد فهو الأكثر إيلاما. ولعله سيغطي ما أراد الإرهابيون تحقيقه من أهداف وراء تنفيذ إحدى عملياتهم الدنيئة. إسم على مسمى (الذبيحة الإلهية) وما قُدِّم لها من قرابين وشهداء. فعلى اثرها، راح الضحايا يتدافعون يتساقطون، لا يعرفون بأي ذنب سيقتلون. فما أن أوشك القداس أن يقترب من نهايته و((وقف الجميع وبدأوا يصلون بصوت عال وعندما وصلوا الى (إعطنا خبزنا) إقتحمت أصوات إطلاق رصاص الكلمات التي كانوا يرددنوها)). ص146. فتفرق الجمع بغيرهدى وبغير حساب وبإتجاهات مختلفة. من بينهم مَنْ إستمع الى نصيحة القس وتوجيهاته، فنجا منهم مَنْ نجا، وأمّا الآخرون فراحوا ضحية رصاص رجيم، لا يعرف الرحمة ولا حرمة الدم الطاهر البريء.

السيدة مها كانت من بينهم. لا زالت مغشية عليها بفعل ما أحدثه الرصاص من صدى وتأثير أهوج وكذلك من وقع الصدمة. فما كادت تتجاوز محنتها الأولى بفقدان وليدها المنتظر حتى حلّتَ واقعة بل كارثة أخرى. بعد برهة من الوقت تمكنت من التحرك قليلا، وباتت تدرك أين هي وما وقع لها وما حلَّ بأصدقائها من المصلين. هانت عليها نفسها حتى تمنت بينها وبين نفسها أن يدركها الموت أسوة برفاقها، غير انها تراجعت وفي سرّها أيضا عن أمر كهذا، مُسَلّمة روحها لصاحب الأمر ومن بيده الأقدار والأحكام كلها. لم تعد تقلقها صعوبة حالتها، فما يشغلها الآن الإتصال بالأهل وطمأنتهم.

بعد بضعة أيام على الواقعة، راحت القنوات الفضائية تتنافس فيما بينها على إجراء لقاء صحفي مع إحدى الناجيات من حادث التفجير الذي تعرضت له واحدة من أعرق كنائس العاصمة بغداد، والتي كثيرا ما يؤمها المصلون أثناء أداء قداس يوم الأحد. وكان من بين تلك القنوات قناة عشتار الفضائية. وبعد برهة من الوقت والإستفسار من هنا وهناك، إستطاع المراسل الصحفي المكلف بإجراء التحقيق من الوصول الى الهدف المرتجى والشخص الذي ستجري مقابلته: إسمي مها جورج حداد. أنا طالبة بكلية الطب بجامعة بغداد. كنت واحدة من الرهائن اللي كانوا بكنيسة سيدة النجاة، يوم 31 تشرين الأول، اليوم اللي صار بي الهجوم الإرهابي. ص150.

كانت مها على درجة عالية من الشجاعة والصراحة خلال اللقاء الصحفي الذي أجري معها، حيث وضعت إصبعها على الجرح وعلى مواطن الخلل ولتؤشر كذلك الى عصابات الغدر، فلم تجامل ولم تحسب حسابا الاّ لما يدخل في مصلحة الشعب كل الشعب، بصرف النظر عن الدين والمذهب والقومية، فالكل مواطنون من الدرجة الأولى، ولا أفضلية لأحد على أحد الاّ بدرجة الوطنية والحرص على خدمة البلد. أمّا عمَّن يقف وراء التفجير وما نجم عنه من سقوط ضحايا أبرياء (فأنا أحمل الحكومة العراقية المسؤولية كاملة. شلون قدرو هذولي يدخّلون كل هذا العتاد ويعبرون نقاط السيطرة؟ وين الحماية والأمن اللي يحكون عليه؟ أكيد أكو تواطؤ وتقصير وإهمال). ص154. بهذه العبارة أنهت مها المقابلة وحسنا فعلت.

***

حاتم جعفر

السويد ــــ مالمو

في المثقف اليوم