قراءات نقدية
رحمن خضير عباس: رواية (أوراق الزلزال).. عام على الكارثة
عن دار بصمة للنشر والتوزيع، صدر قبل أيام قليلة كتاب (أوراق الزلزال) بأسلوب السرد التوثيقي،كما جاء على هامشه. ويعبّر هذا السرد عن تصوير كارثة الزلزال التي حدثت في نواحي مراكش من خلال معايشتها، من لحظة حدوثها حتى مرور عام كامل عليها.
ويكتسي هذا السرد أهميته، لأنه ينطلق من رحم تجربة أديبٍ سجّل الحدث عبر مجسّاته الإنسانية إولا، في تصوير المحنة وانعكاساتها، وعبر أدواته الإبداعية ثانيا، في كونه أديبا وصف لنا جملة من المشاعر التي لا تستطيع الميديا تسجيلها بنفس الدقة، وذلك من خلال تصوير فزع اللحظة الأولى الذي تراءى في ملامح الناس وارتباك أجسادهم، وهم يسارعون في الهرب من بين شقوق الجدران المتهالكة من أجل الفوز بالحياة، تاركين أعز ما يملكون، بعد أن وجدوا أنفسهم تحت رحمة غضب الأرض والجبال والوديان، تلك التي شهدت ولادتهم وترعرعهم وخطواتهم الأولى، ولكنها الآن تطاردهم برقصات موت حجرية.
والكاتب محمد كروم معروف في الوسط الثقافي المغربي من خلال أنشطته الثقافية المتنوعة، سواء في إدارة مهرجانات القصة القصيرة في تارودانت أو في مدينة الصويرة، حيث اضطلع بمهمة نشر التذوّق القصصي بين تلامذة تلك المدن،فزرع فيهم بذرة القراءة والكتابة.
وللأديب عدة مجاميع قصصية ومنها (شجرة القهر) و(قريبا سأحبك). ولديه أيضا رواية (بادية الرماد) ورواية( سيدات المدينة)، إضافة إلى اهتمامه بالرحلة والذي تجلى في كتابه الموسوم (الحياطة في الرحلة إلى طاطا).
ومن خلال صورة غلاف الكتاب وعنوانه، يجد القارئ نفسه إزاء معايشة دقيقة ومتتابعة للحدث الذي وجدناه يتمحور حول ثلاث مراحل.
المرحلة الأولى: رعب اللحظة الأولى، حيث صراخ الأرض وانكسارها، وحيث الشقوق التي تغلغلت في عمق الصخور والممرات، وانبجست على قشرتها لتلامس الجدران التي بناها أبناء هذه السهوب والوديان المكسوّة بالصخور والحجر، كي يتقوا حر الصيف وقر الشتاء، ولكن الجدران تهاوت على رؤوسهم وأجسادهم، فوصف لنا لحظات الرعب والحيرة وعدم القدرة على الاستجابة للحدث وتداركه، وقد تخلل هذه المرحلة وصف الخراب، وهروب الناس إلى السهول الفسيحة خوفا من هزات ارتدادية، وعدم معرفتهم لفداحة المأساة، وعدم تمكنهم من مواجهتها للحد من نتائجها.
أما المرحلة الثانية،فهي لاستيعاب هول الزلزال، وتلمس مكامن أخطاره، ثم الإحصاء السريع لفداحة الخسارة للبشر الذين طمروا تحت الركام، والبيوت التي تهاوت بعد أن آوتهم وترفقت بهم منذ طفولتهم، فترعرعوا بين جدرانها، والآن يجدونها قد غدرت بهم وأصبحت غير صالحة للسكن، فأخذوا منها على عجلة بعض مقتنياتهم وأوراقهم الرسمية وما تيسر من الأفرشة والملابس، وغادروها مسرعين،ليفترشوا الساحات العامة. أما الكاتب فقد وصف لنا مشاعره حينما عاد خلسة إلى داره المتصدعة الجدران، ولكنه لم يحزن سوى لمنظر كتبه التي غمرتها الأتربة وبلعها الركام.
أما المرحلة الثالثة، فقد تحدث عن مجهولية استمرار الحياة في ظل الخصاص المُطبق للحاجات الأساسية للحياة كالخبز والماء وكل المرافق المألوفة لقضاء الحاجة ولاسيما للنساء، وبداية البحث عن الطعام جعل الناس يشعرون بأن مأساة الزلزال قد ذوّبت فيهم النوازع السلبية، ليكونوا أكثر تعاونا وتآزرا بينهم لمواجهة مصيرهم المجهول.
أما المرحلة الرابعة، فقد كانت على النقيض، تلك التي تدخلت فيها السلطة والجمعيات الخيرية لتوزيع المساعدات على النازحين، من خلال( الكود) الذي يقوم بتوزيع المال على المتضررين، ولكن هذا الكود الذي تشبثوا بالحصول عليه، تحوّل إلى رمز للفرقة الاجتماعية والتنافس بين الناس الذين تحولوا من روح التعاون والمحبة إلى تقيضها في الحسد والأنانية، وتفضيل مصلحة الذات على الآخر، بل وصل الأمر إلى العداوة.
لقد كانت روايته خالية من الأسماء، ولكن الكاتب استطاع أن يذكر بعض الضحايا بأسماء قد تكون مستعارة،ومنها زعفان الذي يحصل على الراتب الشهري بضربة حظ، تجعل جيرانه ومعارفه لا يطيقونه ويحسدونه، لاسيما وإنه قد حصل على المبلغ المالي الكبير الذي سيجعله قادرا على بناء بيت جديد، ورغم فرح زعفان بذلك ولكن سير الأحداث تُشعرك بخسارته، لأن توزيع المستحقات لا يكون مفيدا إلا إذا شمل الجميع. وقد تناولت الرواية صعوبات الحصول عليها، ولاسيما لأبناء المناطق النائية الذين شعروا بأن الجميع قد تخلى عنهم، وقرروا القيام باحتجاجات، ولكن احتجاجاتهم لم تجد صدى مناسب. ولاسيما فإن الأحداث السياسية في الشرق الأوسط ومنها طوفان الأقصى ومآسي الحرب قد حجبت الأضواء عن مأساتهم.
ثمة لمحات إنسانية وردت في سياق السرد، ومنها ما عبّر عنه الكاتب (بنظرات العتاب) التي ظهرت في أعين الحيوانات، حينما فر أصحابها للنجاة بأنفسهم وتركوا كلابهم وطيورهم وبقية مواشيهم فريسة لغضب الطبيعة. كما تناول محنة الطفولة من خلال شكوى أحد الأطفال بالحيف والتمييز والظلم من قبل أقرب الناس إليه.إضافة إلى تناول شخصية (زعفان) ولعل في الاسم دلالة على صفة الغضب في اللهجة المغربية، ومع أنه حصل على المعونة كاملة، ولكن تلك النقود لم تسعفه لشراء كبش العيد، مكتفيا بشراء كيلوين من اللحم لإرضاء رغبة أطفاله، وذلك للغلاء الذي منع أغلب الساكنة من شراء الأضاحي، كما تناول قصص الناس عن الهيليوكبتر وهم يشاهدونها لأول مرة تسرح وتمرح في فضاءاتهم، ويطلقون العنان لمخيلتهم في تفسير تحركاتها. إضافة إلى ظهور بعض الرواة من أبناء المنطقة من تفتقت مخيلته الروائية للحديث عن عيون تفجرت من تحت الأرض، ووديان برزت إلى الواجهة، وكأن هذه الروايات بلسمٌ لمداواة النفوس التي أرهقتها الكارثة.
رواية (أوراق الزلزال) شهادة من داخل الحدث، ولكن بإسلوب روائي لا يخلو من تشويق، ولقد كانت خاتمتها تختزل فحواها، حيث يخاطب الكاتب المتضررين من الزلزال بقوله:
"تأخرُ البناءِ يا زعفان لم يمنع عجلة الحياة من الدوران، انظر حواليك تر الناس: يتزاوجون،يتوالدون،يدفنون موتاهم، وينهضون كالعنقاء لمواصلة الرحلة. "
***
رحمن خضير عباس