قراءات نقدية
زهير ياسين شليبه: حول بعض شعراء الحداثة الشباب
(لا يمكن للطفل أن يجري سباق المائة متر وهو مازال يحبو)... البروفيسور عبد الله الطيب
مما لا شك فيه أن موضوع الحداثة أصبح في العقود الأخيرة من أكثر المواضيع النقدية تعقيدا في الأدب العربي، وفي الشعر بخاصة بسبب "قدسيته" المعروفة عند العرب. وأستخدمُ هنا كلمة "قدسية" الشعر لأنه ديوان العرب، يجسد مآثرهم، وتاريخهم، وحضارتهم، وتقاليدهم. وجرت العادة على أن هذا الشعر لا يقبل التغيير إلا على يد شعراء لهم القدرة على تطويعه وعلى دراية ومعرفة عميقتين بتقاليده.
ونلاحظ أن التقاليد الشعرية العربية مترسّخة في أمزجة العرب وأذواقهم الأدبية، لدرجة أننا نرى عامة الناس لا تزال مرتبطةً، حتى وقتنا الحاضر- بالشعر القديم، رغم أنها تجد صعوبة كبيرة في فهمه. وعلينا أن ندرك أن للقافية والوزن دوراً كبيراً في ترويج القصيدة الشعرية وانتشارها، وانه أيضا ما زال يحتفظ بأهميته.
ومن ناحية أخرى، نجد أن عدد القائلين باضمحلال الأشكال الشعرية التقليدية القديمة، بل موتها – يزداد يوماً بعد يوم منذ الستينات. وتكاثر أيضا عدد الشعراء الرافضين لكل علاقة بالتراث والأوزان والتفعيلات. تزخر المكتبة العربية اليوم بعناوين كثيرة من شعر الحداثة وبأسماء جديدة تظهر باستمرار في هذا الميدان ومع ذلك فإن هذه الحركة الشعرية لا تزال معزولةً عن الأوساط العامة من الناس وبعض المثقفين ومنتجي الثقافة، وقد سمعت أكثر من شاعر تجاوز عمر الشباب عبّروا عن انزعاجهم لأنهم لم يكونوا معروفين لدى الأوساط الثقافية على الرغم من دواوينهم الكثيرة.
وعلينا أن نأخذ بنظر الاعتبار أن بعض الأطراف العربية البعيدة عن المركز ذات الارتباط الوثيق بالتراث والتقاليد لا يعرف قراؤها شعراء الحداثة، ولا يرغبون في قراءته، بل إن أجواءهم الاجتماعية وحياتهم البسيطة والواضحة لا تتلاءم مع غموض هذا النوع من الشعر وتعقيداته الكثيرة.
أين إذن تكمن المشكلة؟ ومن أين جاءتنا ظاهرة الحداثة؟
إن مصطلح "حداثة" ذو دلالة معجمية عربية تعني "الجديد" أو " الحديث" إلا أن علماءنا القدامى لم يستخدموه إشارة إلى التحولات الجديدة التي طرأت على الشعر العربي منذ القرن الثاني الهجري. وكلمة الحداثة تعود إلى أصلها المعجمي "حدث"، واستخدم الباحثون مصطلحات مختلفة مثل: التحديث والتجديد والحديث والمعاصرة وغيرها، إلا أن مصطلح "الحداثة" لم ينتشر إلّا بعد ترسيخ الشعر الحر في الأدب العربي.
فهل هناك اختلاف بين هذه الحداثة التي نسمع عنها اليوم والتجديد الذي قدمه شعراء البديعيات في العصر المملوكي والعثماني، أو التجديد الذي ادخله البارودي عندما بعث الشعر العربي في العصر الحديث، وأحمد شوقي عندما أسس مدرسة البيان ووفق بين الحياة المعاصرة وضرورات الشعر التقليدي، أو ممثلي جماعة المهجر الذين اخذوا باللغة العربية نحو البساطة، والشعراء الرومانتيكيين من جماعتي الديوان وأبوللو الذين اقتربوا من موضوعات الحياة اليومية، أو على الأقل طالبوا بذلك؟
وإذا أردنا أن نجيب على هذا السؤال فمن الأفضل لنا أن نطلق مصطلح "ما بعد الحداثة" على حركة الحداثة الحالية لكي نميزها عن النزعات التجديدية السابقة، التي لم تنفصم عن التراث ولم تعارضه.
وعندما نقارن بين شعراء جماعة الديوان مثل عبد الرحمن شكري والعقاد، أو خليل مطران الذي لم يختلف عنهما كثيرا في انتقادهما لشوقي وبين شعراء الحداثة المعاصرين فإننا سنجد أن الاختلاف الرئيس يكمن في أن المجددين الأوائل كانوا ينتمون إلى حركة تجديدية أو نزعة تحديثية نابعة من الواقع الثقافي المحلي وتأثرهم بطبيعة الحال بالآداب الأجنبية. وعندما رفض جماعة الديوان أسلوب احمد شوقي لتمسكه بضوابط القصيدة العربية القديمة التي لم تعد تلائم العصر، لم يتهجم هؤلاء الشعراء على التراث ولم ينادوا بدعوات ترفض البيان العربي، ولم يطرحوا في الوقت نفسه أفكارا ارتجاليةً سريعةً متناقضةً مع الواقع الثقافي العربي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان هؤلاء الشعراء التقليديون أقدر من بعض شعراء الحداثة المعاصرين على مواجهة القديم بسلاحهم النقدي الجديد، إذ إنهم كانوا على صلة وطيدة بالتراث وعلى اطلاع بالآداب الأجنبية على عكس بعض الحداثويين، الذين لم يولوا اهتماما بالشعر العربي القديم ولا بالنزعات التجديدية فيه التي ظهرت في العصر العباسي ولا بالأشكال الهندسية والبديعية التي ظهرت في العصر المملوكي. المشكلة بالنسبة للحداثة العربية أنها أصبحت مزمنة ومتواصلة مع تعدد الأجيال. وانا هنا لا أقصد بالتأكيد، الشعراءَ الموهوبين الذين استطاعوا أن يوفقوا بين التقاليد والتجديد. لكن الصعوبة تكمن في أن يأتيك شاعر شاب بديوانه الذي لا يمكن أن تنتقده إذا كان خاليا من عمق الفكرة والحكمة والوزن والإيقاع والبيان، لأنه سيقول لك بكل بساطة: إنه لا يؤمن بهذه القيم الشعرية وإنه من شعراء الحداثة! وهذا يعني أن الشعراء المبتدئين من المواهب الضعيفة يستغلون التخبط الشعري، مع يقيني بأن البقاء دائما للأصلح وللمواهب الحقيقية.
ولو أردنا أن نرجع إلى جذور الحداثة الأوروبية لوجدناها مختلفة عن وضعها الحالي. يرى الفرنسي جان ماري دوميناك، رئيس تحرير مجلة ESPRIT السابقة، في كتابه "مقاربات الحداثة"، بأن الحداثة بدأت في أوروبا قبل مائتي سنة وهي مازالت مستمرة حتى وقتنا الحاضر. ويعتقد أن النقاش حول الجديد والحديث ظهر في القرن الرابع عشر، إلا أنه يقسّم الحداثة إلى ثلاث مراحل: الحداثة الأولى ابتدأت برأيه في نهاية القرن الثامن عشر وانتهت بنهاية القرن التاسع عشر (1780-1880)، أما الثانية منذ نهاية القرن التاسع عشر وانتهت في النصف الثاني من القرن العشرين (1880-1960)، أما الحداثة الثالثة فهي مستمرة حتى وقتنا الحاضر الذي يشهد أحدث أنواع التقنيات في المجال الإلكتروني والحاسوب الآلي مما له تأثير كبير على عقول البشر، المشغولين في أوروبا بمختلف أنواع التقليعات والصرعات والإدمان الاجتماعيه مثل الثورة الجنسية في الستينات وترويج المثلية، وسيكشف لنا المستقبل عن خبايا لا نعرفها من ممارساتهم الجديدة.
فالحداثةُ الجديدة إفرازٌ من إفرازات مجتمع يختلف بقيمه وتقاليده ومفاهيمه وتطوره عن المجتمع العربي اختلافا كبيرا. وهذا ما يجب أن يأخذه شعراؤنا المعاصرون والحداثويون منهم بخاصة بالحسبان.
ويُعد موضوع التجديد والحداثة من المواضيع الهامة في الآداب الأوروبية أيضا، وتشير كتب تاريخ الآداب الأوروبية إلى أن ماثيو أرنولد قد ألقى سنة 1857 محاضرة في جامعة أوكسفورد عن العنصر الجديد في الأدب فاعتبره يمثل السكون والثقة والنشاط العقلاني الحر والاحتكام إلى العقول عند الاختلاف في الآراء والتسامح...ولكن سباقة ومتلائمة مع المجتمعات الأوروبية التي تجاوزت فترة الأدب التنويري وأنجزت أهدافه التنويرية.
للحداثة الأوروبية تاريخ طويل أكثر بكثير من نظيرتها العربية، وهي إفراز من إفرازات الأوروبيين في حياتهم الجديدة بعد أن تجاوزوا صعوبات مختلفة ووصلوا إلى مستوى عال من التطور العلمي والضمان الاجتماعي، ولكنهم عانوا ويعانون في الوقت نفسه من أمراض اجتماعية كثيرة أهمها الغربة وانفصال الذات عن المجتمع، والانغلاق على النفس، عندها يصبح من السهل فهم أعمال دوستويفسكي وفوكنر وإيليوت وغيرهم.
أما الحداثة العربية الجديدة فأقول إنها ناقصة أو "عرجاء" مثل التنويرية! لأنها معزولة عن حركة المجتمع وحدثت في فترة زمنية قصيرة، ولا تتناسب مع تطوره، الذي لم يتعرض لتغييرات كبيرة، فلا يزال يعاني من البداوة حتى في الحياة السياسية، ولا تزال الآراء تُصادر بسهولة، والجيوش تتحرك حسب أهواء الزعماء ومازالت المصطلحات العلمية والكتب المترجمة يعلوها الغبار في المكتبات، ولا تزال بعض الدول العربية تعيش حياة قبلية بكل معنى الكلمة.
والحداثة العربية ظهرت في المركز منعزلة عن الأطراف والتطور الجماهيري الاجتماعي وبقيت مرتبطة ببعض المثقفين والبناء الفوقي ومحصورة بين فئة محدودة منهم او كتّاب "البروج العاجية" وجماعات الوقت الضائع. ولا يعني هذا انتقاصا من المجددين، بل إن وضعهم ونتاجاتهم معزولة عن حركة المجتمع وتطوره.
وأود أن هنا أقول للشعراء الشباب من الذين يلهثون وراء الغموض والرمز والتعقيد بطريقة مفتعلة، بأن هذا اللون من الشعر لا يجد آذانا صاغية خارج حدود المثقفين.
فمن السهل عليك أن تقرأ دوستويفسكي وتفهمه في بريطانيا أو في أي عالم مزدحم بالشوارع والدهاليز، بينما ستجد صعوبة كبيرة في قراءته في الصحراء أو في بيئة بسيطة. ولهذا لا يجب ممارسة الحداثة بدون فهمها والتسلح بالموهبة والالتصاق بالبيئة المحلية بالدرجة الأولى كي تكون القصيدة نتاجا اصيلا حقيقيا.
وإذا أردنا أن نؤرخ حركة الحداثة العربية فيجدر بنا أن نبدأ من تجارب الشعر الحر الأولى التي جابهت صعوبات كثيرة، ومع ذلك نستطيع أن نقول إن روادها كانوا على دراية بالتراث والشعر القديم، وأصحاب مواهب حقيقية وهنا يكمن سر نجاحهم.
أما بعض النتاجات الضعيفة التي تحاول الادعاء بالانتساب الى الحداثة الحالية وتتعكز عليها فهي إفراز من إفرازات وضع بعض المثقفين الشباب العرب المحبطين من الذين يتصورون أن خروجهم عن المألوف ورفض التابو يشفع لهم ويجعلهم من الشعراء المشهورين. ومن المؤسف أن هذه الحركة تظهر في جو عربي غير مستقر وغير منسجم مع التطور العلمي العاصف في أوروبا وأمريكا، فالإنسان العربي مازال حتى يومنا الحاضر يعاني من تبعات اللا استقرار مثل الفوضى والهموم المرتبطة بحياته اليومية كتأمين كسرة الخبز والحصول على الضمان الاجتماعي، هذا إضافة إلى الهم القومي والديني بسبب وجود كيان غريب في جسم الأمة مما أدى إلى الحروب وإنهاك قوى الناس وانشغالهم به. ولعل الانقلابات العسكرية وأحداث الربيع العربي خير دليل على صحة رأينا.
ولا تزال أوساط واسعة من القراء العرب تبدي إعجابها بالشعر القديم عندما تقرأه أو تسمعه، بل لا يزال الكثيرون يسخرون من قصيدة التفعيلة الواحدة أو الشعر الحر، أما قصيدة النثر أو شعر الحداثة الجديد فلم يتعودوا على سماعه واستيعابه حتى وقتنا الحاضر. وهذا يعني أن الحداثة ما زالت برجاً عاجياً وغريبةً على الذوق الشعري العربي ذي الجذور العميقة في المجتمع، وتنطبق هذه الفكرة بشكل خاص على الأوساط الثقافية في المجتمعات العربية، التي لم تحصل على فرصة الانفتاح والالتقاء بالثقافات الأجنبية.
من المؤسف أن البيئات الثقافية في بعض الدول العربية ينطبق عليها الرأي الوارد أعلاه، وهناك أساتذة أدب في الجامعات لا يتذوقون حتى الآن الشعر الحر، لكنهم يحاولون تفهمه في بعض الأحيان، أما قصائد الحداثة الجديدة فيعتبرونها هلوسةً وفوضى كلمات ليس إلا.
فهل يصبح بعض شعرائنا الحداثويين الشباب لسان حال الحداثويين الأوروبيين؟
وهنا يحضرني خبر قرأته إحدى المرات قبل عدة سنين في الصحف العربية، يقول إن ثلاثة شعراء عرب من ذوي الشهرة والسمعة في أوطانهم وخارجها، يحتفون بشاعر فرنسي مقيم في بلاده. لقد توقفت عند هذا الخبر واحترت له، فكيف يحتفي الضيف بصاحب الدار، وكان الأولى أن يحتفي الشاعر الفرنسي بضيوفه الشعراء الثلاثة المقيمين في بلاده!
إننا بحاجة ماسة إلى المزيد من الأصالة في التعامل مع الخطاب الفكري الوافد من الخارج سواء كان شعرياً أم نثرياً أم نقدياً، وهنا أذكر ما قاله الناقد غالي شكري، فقد صرح مرة: لستُ سكرتيراً لرولان بارت أو لوسيان غولدمان ولا وارثاً لهما ولست مديرَ دعاية لكتابات جريماس أو تودوروف.
وقد أورد غالي شكري قصة أحد الطلبة العرب الدارسين في جامعة السوربون، الذي أراد أن يطبق أفكار جريماس ومفاهيمه على نصوصٍ شعريةٍ عربيةٍ، فرفض جريماس نفسُه هذا الأسلوب واعتبره دبابة تسحق زهوراً صغيرةً، هي الشعر العربي الحديث. الشيء نفسه يقال عندما نقع فريسة الصرعات النقدية في مجالات أخرى مثل الرواية، فننشغل مرة بباختين وأخرى بتودوروف أو رولان بارت أو لوكاش وأخرى بالبنيوية والمورفولوجيه والشكلانيه والسردياتيه وغيرها. وهذا نقص كبير في الثقافة، لأنها تنشغل باستهلاك الجديد من الثقافات الأخرى ولا تتفاعل معها وتعيد انتاجها وتبدع أطروحاتها وتنظيراتها.
يجب أن تكون الحداثة نتاجاً لتطور المجتمع بحيث تصبح متناسبة مع عقول أغلب المتعلمين العرب وأمزجتهم لكي يمكنها أن تقوم بدورها في الحياة. إن من يرفض الأوزان الشعرية عليه أن يفهمها ويتعلمها لأنه قد يحتاجها في حداثته أيضا، فهي اللا محدود في الإبداع وليس اللامحدود في البحث عن الأشكال السهلة، وان الأشكال الهندسية التي ابتدعها شعراء العصر المملوكي فيها الكثير من الحداثة وفيها القدرة الهائلة من المواهب الإبداعية، لكنها كرست لفنون البديعيات، ومن هنا يرى بعض النقاد أنها مجرد مضيعة وقت ليس إلا.
ومن المؤسف أن بعض الأشكال المختلفة من الحداثة لا تمت بصلة مع الواقع العربي، وهي مع الأسف الشديد ذات خصائص تخريبية في بعض الحالات، وبخاصة عندما يقوم قسم من الشباب غير المطلعين على التقاليد الشعرية القديمة، أو مثل أولئك الذين أسماهم البروفيسور السوداني عبد الله الطيب قبل أكثر من عقدين بـ "الشعارين" باستغلال الفوضى الثقافية والتصدي للموقف الأدبي وانتهاز فرص النشر المتاحة أمامه. وهذا لا يعني الدعوة إلى تضييق الخناق على حرية استيعاب الشعر القديم من قبل الأجيال الجديدة ومواقفهم الأدبية منه باستقلالية تامة، ولكن يجب أن يكونوا على معرفة جيدة به. ومن المؤسف أننا في وضع ثقافي لا يحسد عليه ولقد أشار إلى ذلك أكثر من ناقد، مثل المرحوم عيسى الناعوري الذي أشار قبل الانترنيت بأكثر من ثلاثة عقود من الزمن إلى أن أغلب الكتابات العربية المعاصرة تفتقر إلى المقومات الأدبية، وان طلاب الثانوية أصبح بإمكانهم النشر والتأليف إذا كانوا على حظ وافر من العلاقات الاجتماعية والصلات بالأوساط الأدبية ذات الممارسات البعيدة كل البعد عن الأدب. فهل هذا وضع أدبي يمكن له أن يفرز جيلاً مسلحاً بمعرفةٍ عميقةٍ عن أدبه القومي بحيث يحق له أن يصدر القرارات بشأنه؟ بل إننا نجد الهفوات في ما يكتب اليوم، ولست أول من أشار إلى هذا الأمر فقد سبقني الكثير من الشعراء، والنقد العربي يتحمل مسؤولية كبيرة أمام وضع كهذا "فإن فقدان الناقد الجاد المؤهل بثقافة نقدية عالية أفسح المجال للكثيرين بأن يسلكوا في عداد الشعراء وهم لا ينتمون إلى الشعر لا بالفعل ولا بالقول" على حد تعبير الشاعر احمد عبد المعطي حجازي1.
ومن الطريف أن بعض شباب شعراء الحداثة، يرفض بعضهم بعضاً، وهناك جيلان على الأقل من الشعراء الشباب منفصلان عن التراث ولا نجد في لغتهم ما يشير إلى أنهم قادرون على استيعاب التراث واستخلاص الجديد منه ليقدموا شعراً حديثاً حداثوياً أصيلاً فأنا اتفق مع ادونيس عندما يقول: "أطالب بالانفصال عن الرماد، لا عن اللهب" لكي يستطيع الشاعر أن " يخلق صورة جديدة" على حد تعبيره2.
ولكن قبل أن ينفصل الشاعر عن الرماد عليه أن يُكوى بالنار لكي يتحمل لهبها وقبل أن ينفصل عن التراث لا بدّ له من معرفته له بعمق، لكي يتم كل شيء عن دراية وتأنٍّ وبدون ارتجالٍ أو تأثير خارجي فحسب بمعزل عن التطور الداخلي.
وأعتقد أن البارودي وشوقي وحافظ والرصافي والجواهري وبدوي الجبل والبردوني والسياب ونازك الملائكة وقباني وأمل دُنقل وغيرهم استطاعوا التوفيق بين الشكل التقليدي وحاجات العصر الذي ينتمون إليه، ولا يمكن في الوقت نفسه أن ننكر قدرتهم على الربط بين التراث والمعاصرة ومعرفة أذواق المجتمع، وإلا فكيف نفسر انتشار شعرهم في كل الوطن العربي؟
وبرأيي أن سبب نجاحهم يكمن في موهبتهم الشعرية وثقتهم بنفسهم في استخدام إمكانياتهم اللغوية وعدم انفصالهم عن تراثهم.
ومما لا شك فيه أننا لا نريد أن يُفهم من حديثنا هذا على أنه ضد الحداثة الحقيقية ورموزها الموهوبين أو أنها دعوة موجهة للشعراء الشباب لوصف الناقة كما فعل البارودي عندما كرّسَ إحدى قصائده لمغامرات وهمية في مجتمع قبلي لاعلاقة لمصر القرن التاسع عشر به، أو حافظ إبراهيم الذي وصف سفرته بالقطار كأنه شاعر جاهلي يصفُ رحلته وهو على ظهر ناقته، ولا ندعوهم أيضا إلى نظم الشعر كما فعل القدامى، بل إن الذي نتمناه لهم هو العمل الجاد والدؤوب من أجل المعرفة المتعددة الجوانب كي يمكنهم تحقيق حداثة اصيلة. ولا بدّ من الإشارة هنا بأن ليس كل ما يُكتب من خواطر وتداعيات وأفكار عن الممنوعات والتابوهات بصوت عالٍ شعراً حداثوياً حقيقياً، وأن اللغة المفتعلة والمليئة باللعب بالألفاظ والمجازات والتوريه أو بالعكس البسيطة وغير الفنية يمكن ان تكون شعراً.
ولا بدّ لنا أن نتذكر بأن شوقي كان على معرفة جيدة بالآداب الأجنبية إلا أنه لم يستعر منها غير المسرحية، التي كان الأدب العربي بحاجة إليها، واستطاع فعلاً أن يدخلها ببراعة.
ولقد كانت ثورة مطران وغيره من جماعتي أبوللو والديوان مقبولةً، بل أصبح العديد من أفكارها وأهدافها مثل وحدة القصيدة وعصرنتها والاهتمام بالمعنى وعدم اللهاث وراء البيان والبديع والاهتمام بالذات والخيال وغيرها، من المسلمات في النقد العربي. وعلى الرغم من تأثر عبد الرحمن شكري ومطران وغيرهما بالآداب الأوروبية إلا أن دعواتهما لم تكن استفزازية بالنسبة للتراث، ولم ينفصلا عنه، كما فعل جماعة "شعر" باستثناء بعض المواقف المعتدلة التي طرحها الشاعر والمنظّر الموهوب أدونيس.
وأهم ما يمكن أن يثير الانتباه في نشاط بعض الشعراء الشباب منذ الثمانينات، هو لهاثهم وراء التقليعات الأدبية والنقدية بدون معرفة حقيقية لها لدرجة أن نصوصا شعرية تدّعي الحداثة تفتقد جماليتها بسبب الغموض المفتعل والرمز الدخيل على النص.. وكل هذا يحدث من أجل كسب سمة الحداثة، التي أصبحت تعني الغرابة بالنسبة لهم.
***
د. زهير ياسين شليبه
...........................
* نُشر هذا المقال في صحيفة الزمان اللندنية في بداية التسعينات، المقصود هنا ليس كل شعراء الحداثة، بل بعض الكتابات السطحية التي تمثل قشورها.
1- مجلة إبداع. العدد 9/ 1985 ص 8
2- أدونيس. زمن الشعر، دار العودة 1978 ص 228