قراءات نقدية
حمادي الحلاوي: قراءة في مجموعة بجناح واحد أطير للشاعرة سونيا عبد اللطيف
إنّ قصيدة الومضة شكل تعبيريّ في المدوّنة الشّعريّة المعاصرة وهي من أنماط الكتابة الوجيزة التي تلوح مظهرا من مظاهر التّجديد متلائما مع العصر وله خصائصه النّوعيّة إنشاء وتقبّلا باعتبار انّ كلّ جنس أدبي كما يشير تودوروف هو مجموعة خصائص تتّصل بكيانه البنيويّ...
وتُعدّ قصيدة الومضة النّمط الخامس من أنماط الكتابة الشّعريّة بعد قصيدة الشّطرين والموشّح وقصيدة التّفعيلة والأنثورة أو قصيدة النّثر..
من الصّفات النّوعيّة في الومضة القصر والتّكثيف والإدهاش.. وهي خصائص مشتركة مع القصص الوجيز ممثّلا في الومضة القصصيّة أو القصّة القصيرة جدّا، والهايكو، لذلك كانت الخصائص الشّعرية هي الأشكال المفارقة، معايير مميّزة لقصيدة الومضة وتتجلّى في خاصيّتين هما الصّورة والإيقاع إلى جانب القصر إجازا مكثّفا ،بذا يمكن حدّ الومضة الشّعرية بمقوّماتها الأجناسيّة إنشاء وتقبّلا بكونها قصيدة قصيرة جدّا تتراوح حجما بين 3 و 21 كلمة تصوغ لحظة شعوريّة خاطفة وإحساسا عابرا بألفاظ قليلة مكثّفة الدّلالة.. كثافة مولّدة للغموض قائمة على قوّة الصّورة والمفارقة بما يحدث الإدهاش.
وفي المنجز الشّعريّ اليوم عديدة الأعمال الممحضة للومضة أو المتضمّنة لنصيب منها ضمن سائر النّصوص وهي بما لها من صفات دلاليّة وجماليّة اتّخذها الشّعراء وسيلة للتّعبير عن الواقع المضغوط بإيقاع العصر في تفاصيله..
ومن هذه الأعمال مجموعة الشّاعرة سونيا عبد اللطيف والموسومة ب "بجناح واحد أطير" عنوانا مردفا بعنوان فرعيّ على الغلاف "ومضات شعرية" وقد صدرت سنة 2018.. تضمّ 185نصّا، وزّعت إلى أبواب في المجموعة سمّت الشّاعرة كلّ باب، وهي ثلاثة عشر بابا ب "جناح" من الأمثلة على ذلك: *جناح الأحلام، *جناح الهوى، *جناح السفر،... وكلّ جناح يحوي مجموعة ومضات مثال ذلك: جناح العيون وهو يعدّ الباب السّادس يضمّ ثمانية عشر نصا.
جناح السّكينة يضمّ خمسة نصوص: طمانينة، جرح، اغترار، عجب، حمالة الحطب،.. ومدار هذه الومضات أحوال للذّات الشّاعرة يشي بها العنوان بما إنه علامة مكثفّة وبوّابة مشرّعة على المتون تنتشر دلالاتها في أركان النّص صورا من واقع الوجع والألم من جهة والتّمرّد والتّحرّر من جهة ثانية.
فالجناح الواحد يرمز إلى حال عجز ووهن تعيق التّحليق على أنّ هذا الوضع يوحي بالتّحدي والتّمرّد ومغالبة العوائق طيرانا بجناح واحد، فالعنوان يتضمّن المفارقة أو ثنائيّة تقابليّة هي الوجع والألم لأنّ الجناح الثّاني منكسر والتمرّد والانتصار إذ استطاعت تجاوز العطالة اعتمادا على مخزونها النّفسي ولم تبق لها حاجة بهذا الجناح الثّاني الذي خذلها وأحبطها.. كائنا من كان رجلا، قصّر في معاملتها أو مجموعة تعيق بما ران على واقعها من انهيار قيم على التّحليق عالياً في سماء الحبّ والخير والجمال. .
كل قسم من أقسام المجموعة مصدّر بقولة من مأثور الفكر والأدب لشخصيّات عالميّة... قولة مناسبة لمقتضى الحال موجّهة للقراءة إيحاء.. وفي المجمل هي أقوال منتخبة لارنست همتفواي وهيلين كيلر ودستيوفسكي.. تناسب المقام وتشوق.. تمثيلا لذلك تذكر تصديرا ل*جناح الأحلام قولا لهمنغواي ص 23 : "لست شخصا صعب الفهم لكنّ الذين أشعر معهم بالرّاحة نادرون"
و تصديرا ل*جناح التيه ص 85 بقوللة دوستويفسكي: "لا حريّة صادقة حيث تشترى الطّاعة بالخبز، لقد أعجبت بقولك، ليس بالخبز وحده يحيا الانسان"
إنّ كلّ ومضة من المائة والخمس والثّمانين تحمل عنوانا مثال ذلك ومضات في جناح الشّذى: أشواك، الوردة، بائعة الياسمين، الشّحرور، سنبلة..
وبالنّظر إلى عناوين الإجنحة أو الأبواب وعناوين الومضات نلفي نظاما دلاليّا ورمزيّا يؤشّر على بعد من أبعاد الشّعريّة في الومضة وهو الصّورة والمجاز والرمز، وكمثال على ذلك نذكر ومضة "فدية الجمال" ص 28:
صاحت اليمامة:
فكّوا عنّي الشّرك
لم أوقعتمْ بي في الفخّ؟
أجاب الصّياد:
كوني بوما أو غرابا
أطلقناك سرابا
هي دلالات بالمحمول الاستعاري والرّمزي مفارقة بين الجمال: يمامة - القبح: غراب.. الأمل والشؤم - الأسر والحريّة
على أن هذا المنحى الاستعاري الرمزي تحفل به العبارة في الومضات من خلال حقول معجميّة مهيمنة، خاصّة حقلي الطّير والورد، ونذكر أمثلة لذلك،
ومضة "الوردة"
داخل كلّ امراة
وردة
هي لا تعلم مكانها
حتى يأتي قاطفها
الذي يدرك أهميّة عطرها
*
ومضة "سنبلة"
حين يُسلب من الوردة
عطرُها.. سحرُها.. حسنُها
السّنبلة
تضيع في المُفترق
*
ومضة "نوارس"
وعدها بحب كبير
توّجته على عرشها
أميرْ
النّورس النّزق بعيدا بعيدا
يطيرْ
*
ومضة "حمامتان"
أحمر شفاه
شفتان
حمامتان ذات قمر
وسمر
وشوشات قُبل
وفي هذه النماذج من الشّعر الوامض استعارات في مدارات معيّنة في المدوّنة هي تيمات التّحليق.. الحب.. الجمال.. المرأة.. الحلم...
وتحضر صور شعريّة دالّة برمزيّة أُنثويّة وتضمين هو من مكوّنات الومضات تأثيرا تطريبا
ومضة "شهريار" ص 114
نسي في الحفل مراقصة
شهرزاد
عند الفجر
وجدها تتأبّط الجناح....
ففي هذه الصّورة إيحاء بحرمان وتوظيف برمزية الجناح... إذ المرأة وقد ضاقت بتجاهل الحبيب تلجأ إلى أحضان غيره شحرورا مؤنسا.. معه تصعد إلى ذرى غبطة ووصال.. وان الدّوال ومحدوديّتها عدّة أمارات التّكثيف تدلالا، تتأبّط.. جناح.. أمّا صورة نسي في الحفل مراقصة... فهي أمارات المجاز والبدائل الاستعاريّة التي تؤكّد انخراط القول في الشّعريّة كونا نوعيّا جوهريّا في الومضة جنسا وجيزا في الخطاب الشعري، على أنّ الإدهاش مأتاه اختيار العبارة المكثّفة وتوظيفها في سياق من الانزياح المجازيّ المخيّب للانتظار تلقّيا....
ومن الانزياحات الخروج بالعبارة في ومضة "بريق" ص67 بشكل يقيم المفارقة.
إذا أبصرت وميض العيون
لا تحسبنّه بريق النّجوم
إنّما هي قطط تتسكّع في الأزقة عندما الظلام
يسود
المفارقة مقوّما نوعيّا في الومضة.
.إلى جانب التّكثيف الدّلالي ترميزا وتكثيفا وإلى جانب الصّمت... والمجاز المغمض والمعمى تجد المفارقة أسلوبا في الومضة يعبّر ويحيل إلى مقروئيّة جمالية... وتجد هذه المفارقة بما هي مبدأ مناقضة في الكلام ظاهرة أسلوبيّة وشكلا مخاتلاغامضا لوجود ما.. وإذ تتعدّد المفارقات وتهيمن موجّهة النّص متحكّمة في حركاته انزياحا وغموضا فإنّها تظلّ رؤى تفاجئ المتلقّي وتخيب منه الانتظار... مثال ذلك ص65 ومضة "سماء"
كلما رآها
أغمض عينيه
وفي أروقة القلب
رآها
هي جملة مفارقات مدارها ثنائيّة الرّؤية والإغفال... هو الحبّ هنا يتجاوز كلّ حسّ وينحو منحى الروحانيّة المغرية...
وايضا نذكر ومضة "متاهة" ص113 عن الجحود والغدر:
أدخلته من فتحة الباب
من فوهة المدفأة
أخرجها
تتعدد الأمثلة وتتنوّع القصيدة الومضة في مجموعة "بجناح واحد أطير" بديلا نصيا بشعريتها لفظا وأسلوبا يراوح بين التّكثيف إجاعة للفظ وإشباعا للمعنى، كما يقال قديما وإجراء أسلوب يراوح بين التّكثيف والإغماض إنشاء، والإثارة والإمتاع تأثيرا... في تلاعب بالصّوت والصّمت ... السّواد والبياض بصريّا وكذلك في تشكيل الصّورة وترميز العبارة..
تتوفّر هذه المجموعة على منجز شعريّ تناغمت فيه الأشكال الوجيزة وميضا في تيمات يشي بها العنوان الأكبر والعناوين الفرعيّة وما كان من تصدير لها... إيحاءات بمنزلة المرأة وشواغلها خاصّة ضيقا بالموجود وطموحا توّاقا إلى القيم الأصيلة وحلما بها..
وفي المحصلة فإنّ هذه المجموعة الشعرية "بجناح واحد أطير" لسونيا عبد اللطيف وقد تضمّنت عشرات القصائد الوجيزة كانت دليلا على أن خصائص الومضة الشّعرية لا تتحدّد بالتّنظير المسبق وإنّما ضرورة الاستقراء الذي يتابع... تنويعا للمدوّنات كميا وفنيا حتى تكون التّجارب الإبداعية مجالا بحثيّا لاستنباط الضّوابط وما يشبه معايير النّوع...
***
الناقد الأستاذ حمادي الحلاوي - تونس