دراسات وبحوث
حسام الدين فياض: دور النهج الاستبدادي في ترسيخ منظومة القيم الاجتماعية

القهرية والتسلطية
(منذ بدء الحضارة البشرية كان هناك حاكم ومحكوم، ظالم ومظلوم، سارق ومسروق. وأسوأ حاكم هو الذي لا يسمع إلا صوته، ولا يرى إلا رأيه، والأشد سوءاً هو من يضع في بطانته أشطر وُعّاظ السلاطين الذين يجمّلون له قبحه، ويُحللون له حرامه، وهم يعلمون. ومنذ قديم العصور كان الشغل الشاغل للمفكرين والفلاسفة والأنبياء ودعاة اللا عنف أن يغسلوا أدمغة البشر من أمراض الأنانية وجنون التملك، وأن يمنعوا استعباد القوي للضعيف، والغني للفقير، والرجل للمرأة، والكبير للصغير)(1).
- تمهيد يطرح تساؤل لدراسة مستقبلية (كيف السبيل إلى تجاوز الاستبداد؟):
سعى العالم العربي منذ انطلاق فجر النهضة الثقافية التنويرية والإصلاحية في القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا إلى طرح تساؤل محوري في غاية الأهمية: " لماذا تخلف المسلمون والعرب، ولماذا تقدم غيرهم؟ "، فعلى الرغم من تباين الرؤى واختلاف المرجعيات، فإنه يبدو وكأن ثمة اتفاقاً بينهم على اعتبار تفوق المجتمعات الغربية راجعاً أساساً إلى نظامه السياسي الضامن في رأيهم للحرية، والمقيد للسلطة بالقانون، وأن تأخر العالم الشرقي عموماً، بما فيه البلاد العربية والإسلامية، راجع بطبيعة الحال إلى نظامه السياسي القائم على " الاستبداد ". وإن هذا الموقف يصدق على الفكر الإصلاحي العربي والإسلامي عموماً، سواء ذلك الذي قام باسم السلفية، أو ذلك الذي أراد أن يكون ليبرالياً أو قومياً.
فالاستبداد هو أصل التخلف وجذره، وأن نقيضه الضامن للحرية والمقيد للسلطة بالقانون هو، في المقابل، أصل النهضة، فإن شرط النهضة عند هؤلاء المفكرين كان لا بد أن يتحدد بتجاوز الاستبداد لا غير. وهكذا كان لا بد أن يؤول سؤال النهضة إلى سؤال السياسة: " كيف السبيل إلى تجاوز الاستبداد؟".
واللافت أن الإجابة على سؤال السياسة قد تحددت بطريقة الإجابة على " سؤال النهضة ". فإذا كان الوعي قد أدرك جذر تخلفه في الاستبداد، بسيادة نقيضه (الديموقراطية، والحرية، والعدل) في أوروبا، فإن أصل النهضة ونموذج التقدم، سعى إلى الربط بين لا استبداد أوروبا، وبين ما لها من التنظيمات والمؤسسات السياسية القائمة على العدل، ومعرفتها واحترامها من رجالها المباشرين لها(2).
ومنذ ذلك الحين والخطاب العربي (السياسي والثقافي عموماً) لا يعرف إلا مجرد السعي إلى استعارة ونقل هذه المؤسسات، وبما يجري تداوله في فضائها من مفردات " الدستور " و" الديموقراطية " و" حقوق الإنسان " وغيرها، وذلك عبر المماثلة بينها، وبين ما يراه موازياً لها في هياكله التراثية القديمة، ساعياً بذلك إلى إزالة شبهة تناقضها مع الشرع، وهكذا دون أن يشغله الوعي بالسياق المعرفي الخاص الذي تبلورت واكتملت هذه المؤسسات والمفاهيم في إطاره، فراح، لذلك، يستعير مفاهيم انتهت إلى الانفصال في مجالها الأصلي عن دلاليتها الدينية، بواسطة مفاهيمه التي لم تزل لصيقة بدلاليتها الدينية، ومن هنا عجزه وشقاء وعيه.
والمهم أن العالم العربي قد شهد منذ أواخر القرن الماضي تجارب حزبية وبرلمانية متفاوتة القيمة والتأثير، لكنها بسبب العجز عن إنجاز الاستقلال، وتدهور الواقع الاجتماعي سرعان ما انحسرت تماماً في خمسينيات القرن المنصرم، حيث شهد العالم العربي موجة من الانقلابات العسكرية كتبت النهاية الحزبية لهذه التجارب، وأعلنت عودة الاستبداد صريحاً لا يكذب، رغم أن البعض قد راح يزخرفه بأنه قد عاد مستنيراً وعادلاً هذه المرة. لقد بدا إذن أن التنظيمات ليس فيها الإبراء من الاستبداد(3).
وبإزاء هذا الإخفاق الشامل، فإن البعض قد مضى يتأمل في مدى ملائمة الوضع الاجتماعي السائد، أو حتى طبيعة الدول العربية الراهنة، لبناء الديموقراطية الحقة. وهكذا فإن ثمة من يدعي قياساً على كون الديموقراطية الأوروبية التي اكتمل نضجها بتبلور الطبقة الوسطى ونمو وعيها، أن مأزق الديموقراطية الوهمية في العالم العربي يرتبط بضعف الطبقة الوسطى، وهشاشة وعيها وهلاميته، ومن هنا ضرورة أن نساعد الرجل، رجل الطبقة المتوسطة، على أن يغرس في بلادنا هذه الشجرة، ألا وهي " شجرة الديموقراطية".
وثمة أيضاً من راح يرى عوائق الديموقراطية في طبيعة الدول العربية التابعة، التي لا تستطيع أن تفي بوعدها لمواطنيها، وأن توفر الخدمات، وتتكفل بالحاجات المتزايدة بتزايد السكان، الذي هو ظاهرة في العالم النامي. وهكذا يشتد ضغط المجتمع بمشاكله المتفاقمة عليها، فتقاومه بقمع متزايد، وباعتماد أكثر على الخارج في طلب المساعدة والحماية، وهذه الوضعية هي من العوائق الموضوعية لقيام نظام ديموقراطي.
وبالرغم من قيمة هذه التحليلات وجديتها، فإن أحداً لم يتجاوز (في بحثه عن سبيل لتخطي الاستبداد) السياسة إلى ما وراءها، وأعني إلى الثقافة بما هي خطاب يؤسس لكل ممارسة، حتى السياسي منها. والحق أن ظروف الإخفاق الراهن - في المسألة الديموقراطية وغيرها - تقتضي الحفر فيما وراء كل ممارسة عن جملة المفاهيم والتصورات المعرفية المؤسسة لها في العمق، والتي تفعل فعلها غالباً في اللا وعي الجمعي. فدون هذا الحفر، ستبقى الشروط المنتجة للإخفاق قائمة في العمق، بلا أي تجاوز. ومن هنا ضرورة البحث عما يؤسس لغياب كل ما هو إنساني وديموقراطي من عالمنا في بنية الثقافة السائدة، وليس في مجرد الشرط الاجتماعي والسياسي، على أهميته. ولعل ذلك، لا غيره، هو بيت القصيد(4).
- المقدمة:
تحوَّل الحديث في الديموقراطية في العالم العربي إلى نوع من الوسواس الذي لا ينتهي، لأن هذه الديموقراطية لا تأتي، ولا تتمكن من نشر نعيمها على المجتمع وناسه. ذلك أن الاستبداد على اختلاف أشكاله ودرجات شدته وألوانه يشكل الوجه النقيض لها. وكلما تعالت المطالبة بها فذلك يعني أن نقيضها الخفي هو الفاعل، وهو الذي يفرض سلطانه. ويكتسب هذا القول مصداقيته من كون الاستبداد هو ابن العصبيات الشرعي، بل هو ابنها البكر والمفضل الذي يحميها ويضمن لها الاستمرار(5).
وفي حقيقة الأمر، يتصف الاستبداد بالفساد والداء الاجتماعي الذي ينخر في فعالية الحياة والمجتمع، حيث يجعل من الشعوب المستبَدة عظاماً نخرة مطحونة وكيانات هشة هزيلة لا تقوى على مواجهة مسؤولية التقدم والتطور والانطلاق. كما يعني الاستبداد ذوبان إرادة الشعب في إرادة المستبد والخضوع إلى مشيئته والارتهان بنزواته ومصالحه والزوال بزواله، ففي عِرف الاستبداد يجب على الأمة أن تبني وتؤسس مشروعها الحضاري والاقتصادي والثقافي بناءً على إدارة شخص دائم مستقر بعيد عن الهزات والتقلبات هذه الإرادة ستصبح فيما بعد إرادة الأمة الجمعية ومصالحها وحقوقها(6).
ويعتبر عبد الرحمن الكواكبي* من أهم المفكرين الذين درسوا وحللوا وفسروا مفهوم الاستبداد بكل تجلياته من خلال كتابه " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد "، الذي يصفه بأنه آفة تدور مع الهوى حين قال: " إن الاستبداد هو التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى إن مقاومة الاستبداد هي كلمة حيّة وصرخة قد تكون في واد إن ذهبت اليوم مع الريح ستذهب غداً بالأوتاد "(7). ويشير الكواكبي إلى بعض صفات المستبد فيقول: " إن المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عند النطق بالحق "(8).
- ما هو مفهوم الاستبداد: لغوياً الاستبداد (مصدر) الفعل استبدَّ بـ يستَبِدّ، استبداداً، فهو يقول به فاعل مُستبِدّ، يتحكم في مفعول به مُستبَدّ به. استبدَّ الشَّخصُ بالأمر: تعسَّف، انفرد به مِن غير مُشاركٍ له فيه. والاستبداد هو الانفراد بالرأي من غير مشورة. وفي السياسة نقول حكم استبدادي أي أساليب حكم طاغية أو مستبد. حكم مجحف ومتعسف(9).
أما في القواميس الفرنسية (Larousse et Robert) فهناك توافق على معنى مصطلح Despote بالفرنسية المكافئ لمصطلح المستبد بالعربية. أصل الكلمة من اليونانية وتعني السيد، أو الحاكم الذي يحكم بسلطة اعتباطية، مطلقة وقمعية، أو هو حاكم يعطي نفسه سلطة مفرطة واعتباطية، أما على المستوى الشخصي اليومي فالمستبد هو من يمارس على محيطه تسلطاً مفرطاً(10).
وفي المقابل عرف جيمس ماديسون (1751-1836) الطغيان والتعسف على أنه تجمع لكل السلطات والصلاحيات من تنفيذية، واستشارية، وقضائية، بيد واحدة. والاستبداد حسب الكواكبي أصل كل فسادٍ. وهو غرور المرء برأيه، والأنفة عن قبول النصيحة، أو الاستقلال في الرأي وفي الحقوق المشتركة. والطغيان كما يعرفه أرسطو " هو صورة للحكم الفردي في ممارسة السلطة دون رقيب ولا حسيب "(11)، فالطغيان ليس له حدود ولا قانون يخضع له، بل كما قال أفلاطون الطغيان بأنه: " حكم الشهوة والأنانية الفردية "(12).
بذلك، يتصف الطغاة بأنهم من ذوي الفردية الأنانية العدوانية ولذلك فالطغيان مرض نفسي. ولا يمكن أن يلجأ إليه الشخص سوي. وهنا الفرق بين الزعامة والطغيان. فالزعيم شخص عظيم أي أنه ضخم الشخصية، ولكنه ليس فردياً أنانياً، بل هو محب للجماعة متجاوب معها مخلص لها حسن المعاملة لها. وإنما عظم شخصيته هو الذي يجعله في مكان القيادة، وليس أنانيته الطاغية التي تميل إلى استبعاد الآخرين وإخضاعهم. وربما كان المحك الواضح بين التركيب النفسي للزعيم والتركيب النفسي للطاغية، أن الزعيم يبحث عن القوى والطاقات في الجماعة فينميها، ويفرح كلما وقع طاقة نافعة فيستعين بها ويدفعها إلى الأمام، بينما الطاغية لا يطيق إلا نفسه، فكلما وجد طاقة بارزة سعى إلى التخلص منها ولو بطريق الغدر الخسيس، ولا يعينه أن تكون نافعة للجموع، فنفع نفسه عنده هو الأول والأخير، ولا مصلحة سواه(13).
أما الاستبداد اصطلاحاً هو الانفراد بإرادة شؤون المجتمع من قبل فرد أو مجموعة، عن طريق الاستحواذ والاستيلاء والسيطرة من دون وجه حق(14). ومن صفات الحكم المستبد ما يلي:
الانفراد بشؤون الحكم حيث تنعدم الشورى في الحكم الاستبدادي.
تولي السلطة عن طريق الاستيلاء والقوة فالحاكم الذي يتولى السلطة بطريقة غير شرعية أو غير دستورية سواء أكان ذلك عن طريق الانقلابات أو عن طريق تزوير الانتخابات هو حالم مستبد.
وفي النهاية يمكن لنا القول: إن المستبد هو الذي يتولى السلطة بطرق غير شرعية ويمنع تداولها سلمياً، أو يحكم برأيه وهواه دون مشورة أهل الخبرة ولا يتقيد بقانون، ودون النظر إلى رأي المحكومين.
والاستبداد بعبارة مكثفة هو التفرد بالسلطة والرأي مع قمع المعارضة سواء كان المستبد أباً أو عائلة أو عشيرة أو رجل دين أو معلماً أو حزباً سياسياً... والسلطة المستبدة هي تلك السلطة التي تمارس حكم الناس دون أن تكون هي ذاتها خاضعة للقانون، فالقانون في نظر هذه السلطة قيد على المحكومين دون أن يكون قيداً على الحاكم(15). لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا في هذا المقال كيف يؤثر النهج الاستبدادي على إعادة إنتاج منظومة القيم الاجتماعية القهرية ؟
في حقيقة الأمر، يستند نهج سلطة الاستبداد إلى منظومة فكرية فاشية، تستقطب خلالها العناصر الضالة من المجتمع لتدعيم أجهزتها القمعية. ويُسفر عن ذلك الاضطهاد والعنف المسلّط على مجتمع ما- في مرحلة من مراحل نموه التاريخي - تغيير في أنماط سلوكه العام الناتج بطبيعة الحال عن ممارسات سلطة الاستبداد وصياغة منظومة قيمه الاجتماعية* والثقافية والفكرية، فينقله نقلة نوعية من مجتمع مسالم إلى مجتمع يعتمد لغة العنف لإخضاع الآخر، ويعد هذا السلوك رد فعل مضاد طارئ وقسري مسلط عليه من قبل سلطة الاستبداد، مما يجعل المجتمع مجموعة من القطيع تقوده حيث تشاء وأي خروج عن مسار القطيع بوعي أو بدون وعي تعمد سلطة الاستبداد من خلال استخدام القوة إلى إعادتهم إلى مسار القطيع أو تقطيعهم إلى أوصال ليكونوا عبر لبقية أفراد القطيع.
ولتسليط الضوء أكثر على الأنماط غير السوية التاريخية والمحدثة وظاهر تماهي الإنسان المقهور بسلطة الاستبداد، يجب علينا توضيح ما يلي: حيث يتمثل النمط الأول في " اختلال أنماط السلوك الاجتماعي " عندما تسعى السلطة المستبدة إلى ابتكار آليات العنف والقهر وسُبله للسيطرة على المجتمع لإطالة فترة تحكمها فيه ولا تقتصر تلك السبل على ذلك، وإنما تترافق مع نهج وتوجه فكري يعمل على ترسيخ مفاهيم الإذعان والخضوع في وجدان الإنسان المقهور من أجل شل حركته المضادة أمداً طويلاً. وهنا تمكن خطورة مؤسسة الاستبداد خاصة إذا نجحت في إضعاف حركة التوجهات الفكرية المضادة وشلّها من التسرب إلى مفاصل المجتمع، كما تعمل على ترسخ حالة الشعور بالتهديد المتواصل وعدم الاستقرار في اللا وعي، مما يجعل الإنسان المقهور في موقف الدفاع الدائم والحذر الشديد من أي شيء يمت بصلة إلى السلطة أو قد يخالف توجهاتها للحفاظ على حياته. حينها يصاب الإنسان المقهور بحالة من العجز واليأس وعدم القابلية لاستيعاب الأحداث الجارية في محيطه، والقبول بالأمر الواقع، ويلجأ إلى أساليب الادعاء الفارغ بإدراك الأحداث الجارية للوصول إلى حالة من التوازن النفسي الكاذب(16).
أما النمط الثاني ينحصر في " السلوك المتوارث للإذعان والخنوع في المجتمع "، فحينما تخضع المجتمعات للاستبداد والعنف المفرط أمداً طويلاً تنغرز في ذاتها أنماطاً من السلوك غير السوي تتنافى وسماتها الأساسية للحفاظ على ذاتها المستلبة من الهلاك. ومع الزمن يصبح السلوك غير سوي نمطاً سائداً في المجتمع، ومنغرزاً في اللا وعي لدى الغالبية من أفراده، ولا يجد فيه المجتمع سلوكاً شاذاً ومنحطاً يجب التخلي عنه، لأنه متوارث عبر الأجيال ولم يعد قادراً على التمييز بينه وبين السلوك السوي. تشير أنماط السلوك الشاذ إلى المجتمعات المتخلفة، خاصة في أريافه، فمع انتهاء مرحلة الإقطاع وانحسار سطوة الإقطاعي تجد أن العديد من أبناء الأرياف مازالوا يمارسون سلوكاً شاذاً في إبداء الخضوع والإذلال لأسر الإقطاعيين(17).
وفي العصر الراهن نجد أن سلطات الاستبداد تمارس سلوكاً مماثلاً لفرض أنماط الخضوع والإذلال على أفراد المجتمع، فبمجرد أن ينتمي الفرد إلى عائلة رئيس سلطة الاستبداد أو عشيرته أو رموزه يفرض سطوته وبطشه لإخضاع أفراد المجتمع لمشيئته. بذلك أُجبرت المجتمعات بما أصابها من الاستبداد على ارتداء الأقنعة للحفاظ على ذاتها المستلبة من بطش سلطة الاستبداد وسطوتها، وهي غير قادرة على خلع أقنعتها حتى بعد زوال سطلة الاستبداد والتخلي عن أنماط سلوكها الشاذ في الخضوع والإذلال، لأن أنماط سلوكها الشاذ منغرزة في اللا وعي وتحتاج إلى فترة ليست بالقليلة لتقتنع بأن سلطة الاستبداد لم يعد لها وجود، ويجب عليها التخلي عن سلوكها الشاذ والتصرف بحالة سوية تماشياً مع تغير الحالة السياسية(18).
وأخيراً يصف لنا النمط الثالث " تماهي الإنسان المقهور بسلطة الاستبداد "، وفي هذا السياق نجد أن الدافع الأولي لاستخدام العنف والاستبداد ضد المجتمع من قبل السلطات المستبدة يعود إلى هواجسها بأنها غير شرعية، ولا تحظى بالتأييد الضروري لها، لذا تلجأ إلى استخدام العنف المفرط لإخضاع القسم الأعظم من السكان لسلطتها، وكلما زاد الرفض الاجتماعي لها ضاعفت وتيرة عنفها واستبدادها. حينها يولّد لدى الفرد في المجتمع الإحساس بالخطر الدائم الذي يهدد حياته، ويجعله متحفزاً للأخطار ودائم الشك في محيطه وعلاقاته بأفراد المجتمع الآخرين. كما تدفعه هواجسه في الشك إلى والريبة إلى إيقاع الأذى بكل من حوله نوعاً من الدفاع عن النفس المهددة في كل حين، في مجتمع الغابة المليئة بالوحوش، المستعدة للانقضاض على ضحيتها وفرض هيمنتها على الآخرين، وبهذا تضمحل أواصر العلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع الواحد، لتحل مكانها علاقات اضطهادية مبنية على تحقيق المصالح الذاتية وعلى حساب الآخرين، مما يؤدي إلى انهيار منظومة القيم الاجتماعية واضمحلالها على الصعيد العام. وعلى الصعيد الخاص نجد أن السلوك الفردي في الحياة الاجتماعية وفي علاقاته الآخرين بات يتماهى بسلوك السلطة المستبدة. أي أن ممارسة الفرد للعنف والاضطهاد لأقرانه الضعفاء من البشر مستمداً من سطلة الاستبداد ذاتها مما يجعله بالمقابل يقدم فروض الولاء والطاعة العمياء والخضوع الذليل لفكرة الاستبداد بحد ذاتها(19)، لأنها أصحبت هي من تُصيغ الوعي الجمعي في مجتمع الاستبداد.
وفي هذا السياق يصف مصطفى حجازي سلوك هذا النموذج من الإنسان المقهور قائلاً " يتحول الإنسان المقهور من ضحية إلى معتدٍ على أمثاله من الأضعف قدرة والأقل خطورة، وهذا التحول يجعله أداة بطش بيد المتسلط نتيجة معاناته من حالة وهم القيمة والاعتبار الذاتيين، ما يدفعه إلى الاستزلام لدى المتسلط وهذا هو التماهي بعدوان المتسلط "(20).
بذلك يتخلص الإنسان المقهور من مأزقه في مجتمع الاستبداد من خلال قلب الأدوار حين يلعب دور القوي المعتدي ويسقط كل ضعفه وعجزه على الضحايا الأضعف منه. ويتم ذلك بالضرورة من خلال التماهي بالمعتدي حيث يستعيد الإنسان المقهور بعض اعتباره الذاتي، أو على وجه الدقة يصل إلى شيء من الوهم الاعتبار الذاتي(21).
وهنا يجب أن نشير، أن آثار القهر والاستبداد التي مُورِسَت ضد هذه المجتمعات لا تنتهي بزوال مسبباتها، وإنما تظهر نتائجها الكارثية والمدمرة على المجتمع حال انهيار سلطة الاستبداد، حيث يتماهى بعض أفراد المجتمع بسلطة الاستبداد المنهارة فيستخدمون العنف والاستبداد تعبيراً عن الآثار السلبية الكامنة في وجدانهم منذ أمد طويل(22).
وعلى الرغم من أن الحراك العربي المعاصر، قد انتزع الشعوب العربية من الحدود الضيقة والسموات التي تحرسها الحكومات، إلى فضاء الحرية الواسع وحلمها الممكن بعد امتناع طويل. إلا أنها علمتنا - وهي تقف اليوم في منتصف طريقها- أن الاستبداد يقبع في عقول المواطنين (الوعي الجمعي) وليس فقط في قصور المستبدين. وأن العبودية، التي يئن منها المواطن، يعاني الحاكم من شكلها ألواناً، فإذا كان الشارع يعيش في رعب، فالقصر، أيضاً، في خوف دائم، وأن فعل الإذلال واقع على الجميع. وأن النظام السياسي العربي المستبد، كما منظومة الأخلاق الاجتماعية، كلاهما قد فقد توازنه. وعلمنا الحراك العربي، أن تجليات الاستبداد مهما كانت لا تكون مؤثرة فقط في أوقات الأزمات وغياب البدائل، لكنها تشق طريقها واثقة كلما ترسخ الجهل وعم الظلام وانعدم الوعي بين أفراد المجتمع، ووجدت الغنيمة التي يمكن أن يتقاسمها الحكام مع المحكومين(23).
إلا أنه في وقتنا المعاصر لم يعد يستطيع فرد واحد إجبار الشعوب بكل مكوناتها على الرضوخ للطغيان والاستبداد الذي يقمعهم ويذلهم. ولم يعد الاستبداد قادراً على الصمود كثيراً في ميادين الحرية المضاءة ليلاً ونهاراً بنور الثورات ونارها. كما أن منظومة القيم الاجتماعية في مجتمعاتنا العربية، بصدد إعادة الهيكلة والبناء، فهي تبحث عن نفسها وتفتش عن جذورها وهويتها، وتبحث عمن يجددها ويقدمها للأجيال الجديدة المتعطشة لنيل الحرية.
***
د. حسام الدين فياض
الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة
قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً
.......................
(1) إبراهيم الزبيدي: نحن نكتب وهم لا يقرأون، صحيفة العرب الدولية، لندن، السنة:44، العدد: 12245، الجمعة 19/11/ 2021، ص(8).
(2) علي مبروك: السلطة والمقدس (جدل السياسي والثقافي في الإسلام)، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2024، ص(7-8).
(3) المرجع السباق نفسه، ص(8-9).
(4) المرجع السباق نفسه، ص(9-10).
(5) مصطفى حجازي: الإنسان المهدور- دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2005، ص(73).
(6) برهان زريق: الاستبداد السياسي، وزارة الإعلام السورية، دمشق، ط1، 2016، ص(5).
* عبد الرحمن أحمد بهائي محمد مسعود الكواكبي ( ولد في حلب 23 شوال عام 1271 هـ / 9 تموز 1855 م وتوفي في القاهرة 6 ربيع الأول عام 1320 هـ / 15 حزيران 1902 م) أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن التاسع عشر، وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، اشتهر بكتاب " طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد "، الذي يعد من أهم الكتب العربية في القرن التاسع عشر التي تناقش ظاهرة الاستبداد السياسي.
(7) عبد الرحمن الكواكبي: الرحالة كاف طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، تحقيق: محمد جمال طحان، دمشق، دار الأوائل للنشر والتوزيع الخدمات الطباعية، 2003، ص(23).
(8) عبد الرحمن الكواكبي: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة، بدون تاريخ، ص(18).
(9) حسام الدين فياض: مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر (النقد أعلى درجات المعرفة)، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2022، ص(236).
(10) مصطفى حجازي: الإنسان المهدور- دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، مرجع سبق ذكره، ص(76).
(11) مولاي المصطفى البرجاوي: الطغيان، مجلة البيان، الرياض، العدد: 323 رجب 1435هـ، مايو 2014م. https://www.albayan.co.uk/MGZarticle2.aspx?id=3635
(12) أميرة حلمي مطر: جمهورية أفلاطون، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994، ص(42).
(13) محمد قطب: دراسات في النفس البشرية، دار الشروق، القاهرة، ط 10، 1993، ص(298-299).
(14) محمد هلال الخليفي: قراءة تاريخية في مفهوم الاستبداد وتفسيره وآليات تكريسه، من كتاب: جذور الاستبداد في الحياة السياسية العربية المعاصرة، الفصل الثامن، تحرير: علي خليفة الكواري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط1، 2005، ص(279).
(15) ماجد الغرباوي: الضد النوعي للاستبداد، مؤسسة المثقف العربي والعارف للمطبوعات، بيروت، ط1، 2010، ص(30).
* منظومة القيم الاجتماعية: هي جملة القيم الجماعية الشائعة في مجتمع ما والمترابطة معاً، والتي تشكل في جملتها وعبر تفاعلها نسقاً من التصرفات والسلوكيات والمعايير، التي تميز هذا المجتمع عن غيره من المجتمعات، وتفسر كثيراً من أحواله، وأوضاعه السياسية، والاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية. انظر: عماد الدين محمد عشماوي: أثر الاستبداد في منظومة الأخلاق الاجتماعية، مجلة الكلمة، العدد 141، يناير 2019. http://www.alkalimah.net/Articles/Read/20241
(16) صاحب الربيعي: سلطة الاستبداد والمجتمع المقهور، صفحات للدراسات والنشر، دمشق، ط1، 2007، ص(47-48).
(17) حسام الدين فياض: مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر (النقد أعلى درجات المعرفة)، مرجع سبق ذكره، ص(240).
(18) صاحب الربيعي: سلطة الاستبداد والمجتمع المقهور، مرجع سبق ذكره، ص(50-51).
(19) المرجع السابق، ص(52-53).
(20) مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي – المدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط9، 2005، ص(128).
(21) المرجع السابق، ص(128-129).
(22) حسام الدين فياض: مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر (النقد أعلى درجات المعرفة)، مرجع سبق ذكره، ص(243).
(23) عماد الدين محمد عشماوي: أثر الاستبداد في منظومة الأخلاق الاجتماعية، مرجع سبق ذكره،
http://www.alkalimah.net/Articles/Read/20241