دراسات وبحوث

فيليس سيماتي: الفلسفة والتحليل النفسي

فكرة "فيتجنشتاين" عن "ألعاب اللغة" والأخلاق

تأليف:  فيليس سيماتي

ترجمة: د. عبد العظيم هندا

***

الملخص

أقترح في هذا الفصل أن نتعامل بجدّية مع المقارنة بين التحليل النفسي عند فرويد ومفهوم الفلسفة عند فيتجنشتاين، لأنهما يشتركان في حقيقتين: أولاها هي أنهما  نشاطان يرتبطان بتحليل اللغة، وثانيتهما هي أنهما يتضمنان هدفا أخلاقيا. كلاهما يهدف  في واقع الأمر إلى تحرير الكائن البشري، وجعله قادرًا على التحرك بحرية. إن المفهوم الأساسي الذي يسمح بهذه المقارنة هو "التمثيل القابل للمعاينة. من هذا المنظور، تعتبر الأخلاقُ الشغلَ الشاغلَ لفلسفة فيتجنشتاين.

الكلمات المفتاحية: فرويد - فيتجنشتاين - التحليل النفسي - الفلسفة - التمثيل القابل للمعاينة  – الأخلاق.

1: تمهيد

تدُلُّ وتفترض كل ممارسة اجتماعية استعمالا معينًا للغة. يسمِّي فيتغنشتاين هذا الترابط المعقد بين اللغة والممارسة الإجتماعية الإنسانية  ب"لعبة اللغة". في هذا الفصل، أقوم بتحليل "لعبة لغوية" مُعَيَّنَة باعتبارها لعبة فلسفية. من منظور فيتجنشتاين،  ليست الفلسفة نشاطًا نظريًّا يسعى  إلى تحقيقِ توضيحٍ مفاهيميٍّ معين، أو إلى تبيانِ المنطق الخفيِّ للغاتنا وأفكارنا. من هذا المنظور، نستطيع القول: إن مفهوم فيتجنشتاين للفلسفة أَشْبَهُ تمامًا بالمفهوم القديم، الذي يتحدد في كون الفلسفة نشاطا يسعى إلى تمكين الجميع من عيش حياة عادلة (وهو ما أسماه فيتجنشتاين حياةً "لائقةً"). بما أن كل نشاط إنساني  يتميز بتراكبه مع اللغة، فإن الفلسفة –شأنها في هذا شأن أي نشاط إنساني  آخر- "لعبة لغوية" معينة على حد تعبير فيتجنشتاين، والتي تتطلب وجود دورين تخاطُبِيَّيْن (حتى لو كان من الممكن في بعض الأحيان تجسيد الدورين من قبل شخص واحد في لحظات مختلفة): الأول هو دور شخص يؤكد شيئًا ما، والثاني هو دور نقدي يرتبط  بالدور الأول.

مثلا، يقولُ "المتحدث " الأولُ إن "اللعبة هي نشاطُ كذا وكذا"، أيْ أَنَّ ماهية اللعبة هي كذا وكذا. لا ينتقد "المتحدث " الثاني هذا التعريف بشكل مباشر، بل يقترح مثالًا آخر للعبة يجعل ماهيتها المزعومة نسبية. إن "المتحدث " الأولَ إلى حدٍّ ما حبيسُ تعريفٍ لغوي ضيق للغاية، لدرجة أنه يمنع صاحبه من "رؤية" عدد الألعاب الموجودة بالفعل، والتي لا تعيرها الماهيةُ المزعومةُ أيَّ اهتمام يذكر. ليست هذه مشكلةً نظريةً فحسب، لأن فكرة "لعبة اللغة" بحد ذاتها تفيد أن الطريقة "غير الملائمة" للكلام تدل على طريقة "غير ملائمة" للفعل أيضًا. وبالعودة إلى مثال تحديد ماهية اللعبة نقول: إن "المتحدث " الأول غير قادر على مراعاة جميع الظواهر التي يدعي صاحبُها أخذَها بعين الإعتبار. هذا يعني أن أفعال هذا الشخص التي تتعلق ب "الألعاب" ستكون محدودة بسبب  مكبح داخلي – أي بسبب  "ماهية" اللعبة المزعومة- التي لا علم لهذا الشخص به؛ وهو ما يعني أن سلوكه ليس حرًا قدر الإمكان. من منظور فيتجنشتاين، تعتبر الفلسفة نشاطًا علاجيًا نظرا لأن غايتها تكمن في تحرير الإنسان من الأقفاص الداخلية التي ينطوي عليها الإستخدام  غير المناسب  للغة. من هذا المنظور ، يَتَّضِحُ التشابه القائم بين مفهوم فتجنشتاين للفلسفة والعلاج النفسي/التحليل النفسي، إذْ كلاهما أنشطةٌ لفظيةٌ (تخاطُبِيَّةٌ على وجه التحديد) تُمكِّنُ الإنسانَ من إدراك القيود اللغوية الداخلية التي تًحُدُّ من حريته،  وبالتالي  التحرر منها.

2: مفتاح جديد لقفل مُعَدَّل

قد تم تدارس العلاقة بين فيتجنشتاين والتحليل النفسي بشكل جيد، إلا أنها تبقى علاقة مثيرة للجدل (Peterman 1992 ;Bouveresse 1995; Mancia 2002; McGuinness 2002; Cioffi 2009 ; Heaton 2010;Burton 2011 ). ولذلك أسعى في هذا الفصل إلى استكشاف هذه العلاقة بطريقة مختلفة. إذْ بدل التطرق مباشرة إلى موضوع العلاقة المزعومة بين فيتجنشتاين وفرويد، سأحاول أن أُبَيِّنَ كيف تأثر أسلوب فيتجنشتاين الفلسفي المتأخر بشدة ب "العلاج بالكلام". ما أود توضيحه هو كيف أن هذا الأسلوب ليس مجرد أسلوب فحسب: أَيْ أْنَّ الطريقة الخاصة لاقتراح ومناقشة الحجج في كتاب فيتجنشتاين الموسوم ب مباحثُ فلسفيةٌ ليست شيئا غريبا بالنسبة لفيتجنشتاين

(Baker 2004؛ Purton 2013). ما استعاره فتجنشتاين من فرويد هو إيلاء اهتمام بالغ الأهمية لما يقوله الشخص بالفعل؛ أيْ أَنَّ ما تعلمه فتجنشتاين من فرويد كان اهتمامًا شديدًا ب "تجليات" اللغة (Johnston 1993). على الرغم مما كان يعتقده فرويد نفسه إزاء عمله العلمي، فإن ما فعله في حقيقة الأمر هو الإصغاء إلى كلمات الأشخاص الخاضعين للتحليل النفسي وإعادة صياغتها بطريقة أخرى.

لقد وصف فرويد إعادة الصياغة هذه  بأنها تفسير (حتى لو كان قد عرفها بتواضع أكثر في مرحلة لاحقة من نظريته  على أنها "تراكيب تحليلية"؛ Freud 1937)، لكن لا أحد ملزم بالموافقة على مثل هذا الوصف الذاتي؛ أيْ أَنَّ الصحة الواقعية لعمل فرويد لا تعني صحة النظرية التي استعان بها لشرح ما كان يعتقد أنه كان يقوم به. إِنَّ تبنِّي وجهة نظر أبسط وأكثر حصافة لعمل فرويد يسمح لفيتجنشتاين بمعالجة ما كان دائمًا يشكل أحد مخاوفه الرئيسية: كيف نتعامل مع الأخلاق، مع العلم أنها "من الواضح شيء لا يمكن التعبير عنه!" (Wittgenstein 1979, 78):

ليس بمقدوري أَنْ أُخضِع  أحداث العالم  لمشيئتي، لأنني عاجز كليا. بمقدوري فقط أن أجعل نفسي مستقلاً عن العالم – وأستولي عليه تبعا لذلك بشكل من الأشكال - بالتخلي عن أَيِّ تأثير على الأحداث. إن العالم مستقل عن مشيئتي. (ص 73)

من ناحية أخرى، لم يرفض فيتجنشتاين أبدًا هذه الفكرة القديمة؛ بَيْدَ أنه من منطلق آخر لم يتخلَّى أبدًا عن الحاجة الملحة لإيجاد طريقة تُمكٍّن للأخلاق (Radford 1989; Mulhall 2002)، وهذه طريقة لتصور حياة "كريمة". ما يجده فيتجنشتاين في عمل فرويد الفعلي مع اللغة هو تلك الفكرة الأساسية بأن الموقف الأخلاقي يفيد، من الناحية العملية، القدرةَ على تبني وجهة نظر أخرى- أي تبني رؤية جانب آخر- يتعلق بالعالم. لا تَهْتَمُّ الأخلاق بالإرادة أو التأمل، لأنها ليست حالةً ذهنيةً، ولكنها تتعلق بإمكانية رؤية العالم بطرق مختلفة وغير متوقعة (Lycan 1971; Budd 1987 ;Genova 1995 ;Baz 2000 ; Mulhall 2001). قد برهن مثال فرويد أن هذا التحول يكون ممكنا فقط من خلال تعاون شخص ما – أي من خلال تعاون المحلِّل أو شخص يجسد هذا الدور كالفيلسوف مثلا - الذي يساعد شخصًا آخر، أي الشخص الخاضع للتحليل النفسي (ويمكن في واقع الأمر أن يقوم شخص واحد بأداء الدورين معا) لتغيير رأيه بشكل مستقل. ضمنيا، يدل مثل هذا  التحول  في الإنسان على وساطة اللغة. على سبيل المثال، الوصف البسيط لعمل فرويد التحليلي عند "تفسير" الحلم هو أنه يُظهر للحالم طريقة أخرى لتصور حياته" (Sigmon 1985):

" تتلخص فكرة فرويد في كون أن القفل لا يتم تدميره في حالة الجنون، بل يتم تبديله فقط، نظرا لأن المفتاح القديم لم يعد بإمكانه أن يعمل على فتحه، ولكن يمكن لمفتاح معدل بشكل مختلف أن يفعل ذلك (Wittgenstein 1998, 39). يعتبر التحليل النفسي بمثابة الأسلوب اللفظي الذي يوفر "المفتاح" الجديد – أي الجانب الجديد للشيء القديم - والذي يمكنه فتح القفل "المعدل".

بعد مناقشة ما يشكل لعبة اللغة، سأبين أن لعبة اللغة النفسية-التحليلية تشبه إلى حد ما لعبة اللغة الفلسفية، إذْ تشترك كل من لعبتي اللغة النفسية-التحليلية واللغة الفلسفية في هدف مماثل، يتمثل في تحرير حياتنا من المآزق التي نقع فيها، ونقصد بذلك تلك "الجوانب" المعينة للأوضاع التي نعيش فيها، والتي تعيق حركاتنا: "الفلسفة صراع ضد  الإفتتان  بإدراكنا   لمواردنا اللغوية" (Wittgenstein 1953, 109)

3: "ألعاب اللغة" والكائنات البشرية

في كتابه مباحث فلسفية، يفضل فيتجنشتاين التحدث عن ألعاب اللغة بدلاً من اعتبار اللغة مجرد وسيلة تواصلية أو معرفية، (Black1979  ;Hintikka 1979 ;Rubinstein 2004 ;Sluga 2011, خصوصا الفصل 4). كان القصد من هذا التحول يكمن في تعزيز طريقة جديدة للتفكير في اللغة. إن الإستعارة  الإصطلاحية للغة تتجسد في كونها أداة للتواصل (Reddy 1979)، باعتبارها وسيلة (لفظية بشكل رئيسي) لنقل المفاهيم من عقل لآخَر. في مثل هذه الإستعارة ، تحمل الكلمات والجمل معانيها تمامًا كما تحمل عرباتُ اليد التي يستعملها البناؤون  الآجر/الطوبَ. وفقًا لفيتجنشتاين، الخطأ في مثل هذه الاستعارة هو أنها تشير ضمنيًا إلى أن اللغة والعالم منفصلان إلى حد ما عن بعضهما البعض، تماما كعربات اليد  عن الطوب – إذ الطوب لا يحتاج إلى عربات اليد  كي يوجد والعكس صحيح. أي أَنَّنَا نتصور اللغة على ضوء هذا النموذج كما لو أنها كيان مستقل بالنسبة لحياة الإنسان وكيانه: فمن ناحية هناك اللغة، ومن ناحية أخرى هناك العقل البشري، كما لو كان هذا الأخير يستطيع أن يوجد دون الحاجة إلى استخدام اللغة:

لا ينبغي فهم كلمتي" اللغة "و"قواعد اللغة " في كتاب مباحث فلسفية على أَنَّهُمَا تشيران إلى بعض" الكيانات "القابلة للمعاينة  بشكل حرفي، والتي يمكن فصلها، من حيث المبدأ، عن ممارساتنا وحياتنا في العالم" (Hutchinson and Read  2008, 156). بل على العكس من ذلك تماما، يريد فيتجنشتاين في تبنيه استعارة لعبة اللغة التأكيد على أَنَّ اللغة ليست نظامًا موحدًا (على عكس الطريقة التي كان يرى بها اللغة في كتابه المعنون ب الرسالة)، وأنها نشاط بالأساس. الفكرة العامة هنا هي أَنَّ "هناك، كَحَقِيقَةٍ عامة جدًا في التاريخ الطبيعي، شكلٌ واحد من أشكال الحياة المشتركة بين البشرية جمعاء" (Graver 1990 , 200) وأن هذا "الشكل من أشكال الحياة" لدى البشرية لا ينفصل عن اللغة (Taylor 1985;Anderson and Lightfoot 2000 ; Hanfling 2002; Ribes-Iñesta 2006).

إن المثال الأول عن لعبة اللغة الذي قدمه فيتجنشتاين في كتابه مباحث فلسفية هو الحالة الشهيرة لِلْبَنَّاءِ ومساعده:

تهدف اللغة إلى إنشاء التواصل بين البَنَّاء ومساعده. يستعمل البَنَّاءُ الأحجار في البِنَاءِ: هناك الآجر/الطوب والأعمدة وصفائح الإسمنت  والدعامات. يجب على "المساعد" أن يمرر له الحجارة وأن يفعل ذلك طبقا للترتيب الذي يحتاجه "البَنَّاءُ". لهذا الغرض يستخدمون لغة تتكون من كلمات "الآجر/الطوب" و"العمود" و"الصفيحة الإسمنتية " و"الدعامة". يسمي البَنَّاءُ مواد البناء بصوت عال، فيجلب "المساعد" الحجر الذي تعلم أن يجلبه عند تسمية البَنَّاءِ لهاته المادة بعينها. - تَصَوَّرْ هذا كلغة بدائية متكاملة. (Wittgenstein 1953, 2)

إن السمة الأولى التي لا يَلْحظها أحد في الغالب في هذه "اللغة البدائية" هي أنها "لعبة". تُلعب اللعبة لمجرد أنها لعبة ممتعة؛ إذْ يكمن الدافع الأول للعب في اللعب نفسه. وفي ذات الوقت  تُلعب اللعبة لأن المرء يريد الفوز - وهذا يعني ببساطة أن لكل لعبة طورا نهائيا يسعد المرء بالوصول إليه- أيا كان السبب. في هذه الحالة، يكون الطور النهائي هو البِنَاءُ الكامل للمنزل. عادة ما تستلزم اللعبة أكثر من مشارك واحد؛ ويمكن في بعض الأحيان تمثيل المشارك الآخر بالترتيب العرضي للقطع قبل الشروع في اللعبة (كما هو الحال في لعبة سوليتير solitaire). من المهم أن نلاحظ أنه من المتوقع أن تتطلب اللعبة أكثر من دور واحد، وإلا فلن تكون اللعبة ممتعة (وهذا ما تؤكده حالة شخص يمارس الغش في لعبة سوليتير من أجل هزيمة "المشارك" الآخر، حتى وإن كان هذا الأخير غير موجود في الواقع)؛ وهو ما يعني أن اللعبة تنطوي ظاهريا على دورين وظيفيين على الأقل (حتى لو كان الدوران لا يتوافقان دائمًا مع شخصين مختلفين). وهذه خاصية مهمة جدًا لكل لعبة؛ والتي تتطلب أَجْرَأَتُهَا وجود دورين على الأقل.

في لعبة اللغة "البدائية" هذه، يعمل المشتركان، أي البَنَّاءُ ومساعده، معًا سعيا للوصول إلى الطور النهائي المتوقع لهذه اللعبة. يؤكد فيتجنشتاين على الأدوار المختلفة للبَنَّاءٍ بالنسبة للمساعد: يقوم البَنَّاءُ "بالتلفظ" بالكلمات التي تتوافق مع "الأحجار" التي يحتاجها؛ يجلبها المساعد ويمررها إلى البَنَّاء. إن المثال الأول على "لعبة اللغة" لفيتجنشتاين، والمثال الأبسط والأكثر أهمية ، هو تلك الحالة التي يتم فيها تداخل الأوامر والتلقين/التعلم معًا: "يمكننا أيضًا أن نتصور العملية الكاملة لاستخدام الكلمات (ص 2) كما هو الحال مع تلك الألعاب التي عن طريقها يتعلم الأطفال لغتهم الأم " (ص 7). تعتبر الإشارة إلى "الأطفال" مهمة لأنها تؤكد على مسألة يمكن للمرء أن يجدها في الكثير من الألعاب الأخرى للغة، ونقصد بهذا أَنَّ اللغة ترتبط بالتعلم أكثر مما هو متوقع عمومًا، أي أَنَّ اللغة في الأساس أداة موضوعية للتعلم/التلقين. بهذا المعنى، يوجد تقريباطفل في كل لعبة لغوية، حتى لو كانت قديمة جدًا. أي أَنَّ هناك دائمًا بعض القوة/القدرة التعليمية في اللغة، حتى إن لم يكن هناك أيُّ مدرس في لعبة اللغة الفعلية.

تُعَلِّمُ اللغة الطفل كيفية القيام بشيء ما، أي تعلمه كيفية الوصول إلى شيء ما؛ مثلا: "يتم استخدام كلمة "لعبة اللغة" هنا للتأكيد على حقيقة أن التحدث باللغة هو جزء من نشاط ما أو شكل من أشكال الحياة" (ص 23).

وفقًا للمسرب المجازي  conduit metaphor المعتاد، فإن اللغة تعمل على توصيل الأفكار. صحيح أن هذه حقيقة، لكنها حقيقة ناقصة ومضللة بالكامل. تأمل مثلا في لعبة اللغة الخاصة بالبَنَّاءِ ومساعده: في هذه الحالة، يقوم المساعد بأكثر من إحضار الأحجار المطلوبة إلى البَنَّاء. عندما يتلفظ البَنَّاء بكلمة "الآجر"، فإنه يجعل المساعد يفكر في شيء معين. لقد سبق للمساعد أن رأى الآجر، ولكن عندما يتعلم ربطها بالتسمية اللفظية، فإنه يتعلم أيضًا التفكير فيها عندما لا يستطيع رؤيتها بشكل مباشر. ما يتعلمه المساعد ليس فقط الشيء ومسماه الذي يتوافق معه، بل يكتسب أيضًا قدرة إدراكية ومعرفية جديدة، وهي الإنتباه  بطريقة انتقائية إلى جوانب معينة من الأشياء (Fulkerson and Haaf 2003; Adamson and Meltzoff 2005; Waxman and Gelman al. 2004). تؤدي القدرة على تسمية شيء ما إلى توسيعِ نطاقِ ما يمكن أن تفعل به؛ من الممكن الآن أن تتخيله حتى عندما يكون غير موجود. تنشأ مجموعة جديدة كاملة من الأنشطة: "إعطاء الأوامر، والعمل بمقتضاها؛ وصف شيء من خلال مظهره أو قياساته؛ وتركيب شيء من خلال وصفه (أو رسمه)؛ والإبلاغ عن حدث ما؛ التكهن بالحدث ؛ وتشكيل واختبار الفرضية ؛ تقديم نتائج التجربة في جداول ورسومات بيانية ؛ وتأليف قصة؛ وقراءة واحدة أخرى ؛ التمثيل في مسرحية" (Wittgenstein 1953, 23).

ما يشير إليه فيتجنشتاين هو أن تعلم ألعاب اللغة لا يؤدي فقط إلى تحسين القدرات المجردة للإنسان، بل يعني أيضًا حدوث تغيير جذري في كيانه الإنساني. على سبيل المثال، عندما يكون المرء قادرًا على تفسير "شيء من خلال الوصف (الرسم)"، فإن كل قدراته الجسدية تتعرض للتغير. إن التأكيد على هذه المسألة مهم للغاية، لأن هناك كيانات بشرية تامة النضج في الدرك الأسفل لألعاب اللغة. في غياب هذا "الأساس المتين"، تصبح ألعاب اللغة غير ممكنة. يميز فيتجنشتاين بعناية بين "القاعدة rule" التي يتم تعلمها صراحة، وبين "الإنتظام  regularity" الذي يتعذر تعلمه؛ على العكس من ذلك، يشكل الإنتظام الأساس البيولوجي للقدرة على اتباع القاعدة. تتضح الضرورة (المنطقية) لهذا التفريق عندما يواجه المرء نفسه باستحالة تعلم القاعدة (الفوقية) لاتباع قاعدة ما:

إن اتباع القواعد شبيه بالإنصياع  للأوامر. يتم تدريب المرء على القيام بذلك، والتفاعل مع الأوامر بطريقة معينة. ولكن ماذا لو تفاعل شخص ما مع الأمر والتدريب بهذه الطريقة، وتفاعل آخر معهما خلافا لذلك؟ أيُّهما يكون  على حق إذن؟ لنفترض جدلا أنك أتيت كَمُسْتَكْشِفٍ لبلد مجهول يتكلم أَهْلُهُ لُغَةً تجهلها تمامًا. في أَيِّ الأحوال تستطيع أن تقول إن الناس هنالك قد قاموا بإصدار الأوامر واستيعابها وإطاعتها والتمرد عليها و غير ذلك؟ إن السلوك البشري المشترك هو النظام المرجعي الذي نستطيع من خلاله ترجمة لغة نجهلها. (Wittgenstein 1953, 206)

لقد تعلم المساعد أنه عندما يتلفظ البَنَّاءُ بكلمة "آجر "، يكون عليه أن يحضر الشيء المقابل للكلمة وتمريره إلى البَنَّاءِ. يمكننا أن نتصور أن هذا "التدريب" يتعلق بأمثلة من الأوامر وتنفيذها. في مرحلة معينة، يُتوقع من المساعد أن يكون قادرًا على الاستمرار بمفرده عندما يطلب منه البَنَاءُ شيئا جديدًا، لأن المساعد يكون قد "تعلم" كيفية المشاركة في لعبة اللغة بطريقة تؤهله لذلك- وهي فكرة يمكن أن تخطر ببال البَنَّاءِ. النقطة الجوهرية هنا هي أنه لا أحد يقوم بتعليم المساعد كيف ولماذا يستمر في هذه العملية؛ بعد فترة معينة من التدريب يتوقع من المساعد ضمنيًا "معرفة" كيفية المضي قدمًا دون الحاجة لأية تعليمات أخرى. إن "الانتظام" معرفة ضمنية:

دعونا نتخيل أن الناس في البلد الذي ذكرناه آنفا قد قاموا بأنشطة إنسانية مألوفة، واستعملوا أثناء ذلك لغة فصيحة بشكل واضح. إذا قمنا بمشاهدة أنشطتهم، نجد أنها قابلة للفهم، لأنها كما يبدو أنشطة "منطقية". لكن عندما نحاول تعلم لغتهم، نجد أنه من المستحيل فعل ذلك؛ لأنه لا يوجد اتصال منتظم بين ما يقولونه والأصوات التي يصدرونها والأنشطة التي يقومون بها؛ ولكن تبقى هذه الأصوات غير زائدة عن اللزوم، لأنه إذا قمنا، على سبيل المثال، بإسكات أحد هؤلاء الأشخاص، فسيكون لهذا نفس العواقب كما هو الحال معنا، إذْ في غياب هذه الأصوات، يصيب الإرتباكُ  أفعالَهم، كما أرغب في التعبير عن ذلك. هل يجب علينا أن نقول إن لهؤلاء الناس لغة خاصة بهم، تشمل الأوامر والتقارير وما  غير ذلك؟ لا يوجد انتظام كافٍ بالنسبة لنا لتسميتها ب"اللغة". (ص 207)

"الإنتظام " يفيد "السلوك البشري المشترك" الضمني، أي يفيد "النظام المرجعي" الشائع الذي يسمح للإنسان بتعلم قواعد واضحة، كالقواعد التي تنظم ألعاب اللغة. في غياب هذا الأساس، تتعذر إمكانية أية لعبة لغوية:

"كيف يمكنني أن أتبع قاعدة ما؟" إذا لم يكن هذا سؤالًا عن الأسباب، فهو إذن يتعلق بتبرير تصرفي بهذه الطريقة امتثالا مني للقاعدة. فبمجرد استنفاذ المبررات، فإني أكون قد وصلت إلى الأساس، ومن ثم أكون قد انتهيت؛ لأميل بعدها إلى القول: "هذا هو ما أفعله ببساطة". (ص 217)

في نهاية المطاف، لا توجد مبررات أخرى لأنني "عندما أتبع القاعدة، أفقد الاختيار. أتبع القاعدة بشكل أعمى" (ص 219). يمكن أن يوجد تبرير للقاعدة الواحدة، ولكن ليس للإنتظام  الذي يجعل أي قاعدة ممكنة. الفكرة الأساسية هنا هي أن لعبة اللغة ترتكز على أساس بيولوجي (Gallese 2008; Perlovsky and Ilin 2013)، وهذا الأساس هو الحياة الفعلية التي نعيشها نحن البشر. لكن هل هذه فرضية "إيجابية"؟ في النهاية، هل يؤكد فيتجنشتاين شيئًا مشابهًا لأطروحة فلسفية؟ من الواضح أنه لا يفعل ذلك. عندما يكتب عن "الأساس"، فإن ما يريد فعله هو التخلص من الحاجة الفلسفية- أي الحاجة المَرَضِيَّة- لمزيد من التبريرات: إن "الأساس" أمر طبيعي بالمعنى البسيط والمشابه للطيران الذي هو أمر طبيعي بالنسبة لطيور النورس. هذا يعني أننا نعيش بطريقة معينة، وأن طريقة العيش هذه هي الأساس الجوهري: "الذي يجب تقبله والتسليم به  هو- إذا جاز  القول-أشكال الحياة" (Wittgenstein 1953, Philosophy of Psychology - A Fragment, IX, 345)، حيث يكون التركيز على الأشكال "الجماعية" (لا يوجد شيء اسمه طريقة عيش الإنسان). هذه مسألة جديرة بالتذكر، كما سنرى في الفقرات التالية، لأن العمل العلاجي للفلسفة يتم وضعه بالضبط مقابل توهُّم أَيِّ أساس ميتافيزيقي - أَيْ مقابل أساس لا يقبل المساءلة.

ماذا يمكن أن نجد في صلب هذا التحليل؟ في النهاية يوجد الكائن البشري، كما لو أنه كان هناك منذ البداية. هذه مسألة يجب الإلتفات  إليها، لأنه سيكون لها تبعات مهمة عندما نتناول العلاقة بين الفلسفة والتحليل النفسي. وفقًا لما ذكره فيتجنشتاين، اللغة ليست أداة تواصلية أو معرفية. من الواضح أنها تواصلية ومعرفية، بل إنها أكثر من ذلك بكثير، وهو ما يجعل الحياة البشرية، بصفتها حياة إنسانية، ممكنة. إليك مثال آخر: طائر النورس هو بمثابة تلك الحياة المستحيلة التي تفتقر للأجنحة. إذا قال أحدهم إن الأجنحة هي الأداة (الجسدية) التي يستخدمها طائر النورس للطيران، فسيكون ذلك تأكيدًا غريبًا حقا، لأنه ببساطة لا وجود لطيور النورس بدون أجنحة؛ أَيْ أَنَّهُ من المستحيل تعريف "النورس" على أَنَّهُ كائن حيواني لا يطير. وينطبق الشيء نفسه على الإنسان  واللغة. لا يوجد إنسان عاجز عن الكلام (هذا لا يعني أن الكائن الإنساني الصامت لا يجب أن يُنظر إليه بطريقة أخلاقية؛ علم الأحياء وعلم الأخلاق مختلفان. وجهة نظر فيتجنشتاين هي أَنَّ ما يجعل الكائن الإنساني العاقل كائنا بشريًا هو اللغة؛ لكن هذا الإعتبار  لا يمنع البتة إسناد حقوق (الإنسان) إلى مخلوقات صامتة):

يمكن للمرء أن يتصور حيوانًا غاضبًا وخائفًا وحزينًا ومبتهجًا ومذهولًا. لكن هل يمكنه أن يتصور حيوانا مفعما بالأمل؟ ولم لا؟ فالكلب قد يعتقد أن سيده لدى الباب. لكن هل يستطيع أيضًا أن يعتقد أن سيده سيعود إلى المنزل بعد غد؟ - وما الذي لا يستطيع القيام به هنا؟ - كيف أقوم بذلك؟ - ما الإجابة التي يجب عَلَيَّ أَنْ أعطيها لهذا السؤال؟ هل يستطيع الكلام فقط أولئك الذين لديهم الأمل؟ فقط أولئك الذين يتقنون استعمال اللغة؟ بتعبير آخر، إن تجليات الأمل عبارة عن تعديلات لهذا الشكل المعقد من الحياة. (إذا كان المفهوم يشير إلى خاصية من سمات الكتابة اليدوية الإنسانية ، فإنه لا ينطبق على الكائنات التي لا تكتب). (Wittgenstein 1953, Philosophy of Psychology - A Fragment, I, 1)

يمكن أن يكون الكلب غاضبًا أو متفائلًا. لكن لا يمكنه أن يأمل أن سيده سيأتي بعد غد. يبدو أن مفهومًا ك "بعد غد" لا يمكن أن يتخيله إلا كائن له القدرة على اللغة اللفظية. إنه مفهوم لا يستطيع المرء التركيز عليه إلا إذا كانت هناك كلمة أو جملة تعمل على توضيحه. وهذا يعني أن مفهومًا ك "بعد غد" لن يكون موجودًا بدون الكلمات التي تعمل على صياغته. لا تستطيع لغة الكلب صياغة هذا النوع من الجمل؛ لذلك لا يستطيع الكلب تصور مفهوم كهذا. المهم أن نلاحظ أن مفهومًا ك "بعد غد" يتسع إلى حد كبير لما يمكن أن يفعله الشخص ويتصوره. تصرفات شخص ما لا يعتقد أن هذه الأنواع من المفاهيم تقتصر على ما يمكن أن يفعله الشخص بشكل مباشر: يمتد خياله إلى حيث تمتد أطرافه. على العكس من ذلك، يمتد الكائن البشري إلى حيث تنتهي إليه أفكار الفرد (Menary 2010). بما أن ما يمكن أن يفكر فيه الشخص يعتمد على قدرته في صياغة الألفاظ، فمن الصحيح حرفيًا أن نقول إن "حدود لغتي تفيد حدود عالمي" (Wittgenstein 2002 , 5, 6). يعيش الكائن البشري في عالم مادي، وما يمكن أن يفعله في ذلك العالم يعتمد على ما يمكن أن يتخيله ويفكر فيه؛ نظرًا لوجود ارتباط مباشر بين اللغات والأفكار والأفعال، فإن اللغة تمتد إلى الزمان والمكان اللذان يمتد إليهما الكائن البشري. وهذا يعني أن حرية هذا الكائن تعتمد على العلاقة التي يقيمها مع لغته.

تكشف فكرة "لعبة اللغة" عن قضية أخلاقية غير متوقعة. السؤال الجوهري هو: من يعمل على استعمال الآخر؟ هل الكائن الإنساني  هو الذي يستعمل اللغة؟ أم أن اللغة هي التي تستعمل الكائن الإنساني؟ إذا كان التفكير لا ينفصل عن اللغة، فكم عدد المرات تكون فيها الإشكالية التي يعاني منها شخص ما مرتبطة بحياته الخاصة وليس فقط باللغة وشكل الحياة الذي ترتبط به حياته والذي يتم التعبير عنها من خلاله؟ إن "العالم والحياة شيء واحد" (Wittgenstein 2002, 5,621)، وأن حدود العالم تحددها اللغة؛ لذلك تعتمد حياتنا على الموقف الذي نتخذه بخصوصها. إن الإشكالية التي لا يزال فيتجنشتاين يواجهها- أي التي واجهته في كتابه الرسالة وفي كتاباته الأخيرة كذلك- تكمن في إيجاد طريقة لتصور كيفية التعامل مع "هذا الشكل المعقد للحياة": "ما هي وظيفتك؟ عليك أن تعتني بنفسك وتجعلها أكثر جدارة بالاحترام!" (Wittgenstein 1998, 35)

4: "عندما تتوقف اللغة عن أداء وظيفتها"

إذا وضعنا في الإعتبار  الخلفية الأخلاقية الملحة في تحليل فيتجنشتاين للغة (Johnston 1999; Diamond 2000)، فإن العلاقة بين "ألعاب اللغة" والفلسفة والتحليل النفسي تصبح جليةً للغاية. الإشكالية صراحةً هي: هل اللغة هي التي تقوم بالتفكير والفعل من خلال كياننا أم على العكس من ذلك؟ كلا الخيارين يتسمان إلى حد ما بالتفريط ومن ثم بمجافاة الصواب، لكن المسألة الأخلاقية تظل ترتبط بموضع كيان الإنسان في ارتباطه باللغة. كلا الخيارين مجافيان للصواب لأنه لا وجود لكيان بشري بدون لغة؛ كما أنه لا وجود للأخلاق بدون كيان بشري له القدرة على استعمال اللغة. لهذا السبب، يستحيل تحرر الكائن الإنساني  بِدَافِعِ اللغة. ومع ذلك، فإن الأخلاق هي تلك الحالة المريبة للشخص الذي يتموضع بشكل طبيعي داخل اللغة وخارجها في الوقت ذاته (يمكنه في هذه الحالة فقط أن يحاول معرفة متى يكون كيانه يفكر من خلال اللغة، ومتى تكون اللغة تفكر من خلال كيانه):

"إن موضوع الأخلاق لا ينتمي إلى العالم، بل يشكل حدوده" (Wittgenstein 2002, 5,632). تتموضع الأخلاق على حدود اللغة، وهو المكان الوحيد الذي يمكن فيه فصل الإنسان  عن اللغة. ولعل الإشكالية  الملحوظة هي أن هذا المكان ببساطة غير موجود (إن المكان الذي تختفي فيه اللغة من الوجود هو بالضبط المكان الذي يختفي فيه الإنسان من الوجود أيضًا). لهذا السبب يقدم فيتجنشتاين  اللغة دائما كمرض وكعلاج؛ من منظور فيتجنشتاين، تعتبر الفلسفة على وجه الخصوص محاولة علاجية لعلاج الكيان البشري الذي ضاق ذرعا باللغة، وذلك من خلال "لعبة لغوية" معينة أخرى، وهي لعبة تسعى وراء "التمثيل القابل للمعاينة ". لكن ماذا يعني أن اللغة تفكر نيابة عنا؟ أي ما هو مرض اللغة؟

هذا مرتبط بمفهوم التسمية كعملية غامضة إذا جاز التعبير. ويبدو أنها -أي التسمية- ارتباطٌ غريبٌ بين كلمة ما وموضوع ما- وهذا الارتباط الغريب يوجد بالفعل، خصوصا عندما يحاول الفيلسوف استيعاب العلاقة بين الإسم  ومسماه من خلال إمعان  النظر في شيء ما أمامه وتكرار تسميته، أو تكرار حتى كلمة "هذا"، مرات كثيرة. تشرع الإشكالات  الفلسفية في البروز عندما تتوقف اللغة عن أداء وظيفتها.  (Wittgenstein 1953,  38)

"تتوقف اللغة عن أداء وظيفتها" عندما يتحدث المرء دون أن يتحمل أدنى مسؤولية بخصوص ما يتفوه به. قد يعمل المرء ببساطة على تكرار ما تقتضيه الظروف- كما لو أن الظروف ذاتها تتحدث من خلال كيان المتحدث (كأن يقرأ مكبر الصوت الأخبار بعناية شديدة)، أو قد يتبنى المرء موقفًا بخصوص ما يلفظ من قول، متحملا بذلك المسؤولية عن ألفاظه. تأمل في حالة الشخص الذي يتحدث عن الناس الذين هربوا بشجاعة من المجاعة والحرب في شمال إفريقيا، باحثين عن الخلاص في أوروبا. يمكن للمرء أن يقول إنهم "مهاجرون سِرِّيُون"- كالجرذان التي تحمل عدوى خطيرة - أو يمكن للمرء أن يسميهم "أناسا"، مع التأكيد على الشبه القائم بيننا وبينهم، أي أنهم أناس عاديون يبحثون عن حياة أفضل (أي أنهم يفعلون ما يفعله أي واحد منا إذا وجد نفسه في وضع مماثل). في الحالة الأولى يعمل المرء فقط على تكرار المصطلحات البيروقراطية والبوليسية، التي تحول الشؤون الإنسانية إلى قضية إدارية مجردة؛ وفي الحالة الثانية، ينصب التركيز على التشابه المعقد القائم بيننا وبينهم، والذي لا محيد عنه.

ليست هذه مجرد إزاحة اصطلاحية بسيطة، لأن استخدام تعبير واحد يستلزم عددا من المفاهيم والإجراءات الإضافية التي لا تتدخل في الحالة الأخرى. من المهم أن نلاحظ أن الصياغة الثانية ليست أفضل من الأولى من حيث الجوهر. لا تكمن المسألة الأخلاقية في كون عبارة واحدة فقط من بين هاتين العبارتين هي العبارة الصحيحة، بل تكمن في كون أن مسؤولية التفكير تنطوي على مراعاة أكثر من جانب واحد للموضوع الذي نتدارسه: "ربما يكون البحث عن كلمات تحريرية لا متناهيا، لأنه يحتاج إلى إعادة الإجراء  والتنفيذ المستمر، نظرا لتغير الظروف الثقافية، ونظرا لتطور وتغير مسارات الحياة الشخصية والتعليم الفلسفي، و غير ذلك من المتغيرات. على أي حال، حتى الكلمات المختارة بعناية ستميل إلى 'التحجر' مع مرور الوقت" (Read 2005, 98)

عندما تعمل اللغة التي يتحدث بها المرء على تقديم حالة ما كما لو أن لها جانبا واحدا فقط، فإن خطورة " الإفتتنان  بإدراكنا " تُطِلُّ برأسها: يكمن الإفتتنان  في حقيقة أن اللغة شفافة، أي أننا نستعملها عن غير وعي منا بهذا الإستعمال ، وهو ما يجعل الأمر يبدو وكأنه لا وجود لها بيننا وبين العالم: هذه الحالة "شبيهة بالنظارات على أنوفنا نرى من خلالها كل الأشياء التي ننظر إليها، ولا يخطر ببالنا أن نخلع هاته النظارات" (Wittgenstein 1953, 103). يعتقد المرء أنه من الممكن وصف الحالة كما تبدو للعيان في الواقع، بينما في الحقيقة يمكنه في أحسن الأحوال أن يكون نوعًا من المتكلمين من بطونهم، أي من أولئك الذين يتكلمون دون تحريك أفواههم.

تملك الإشكالات التي تنشأ جرَّاء التفسير الخاطئ لأشكالنا اللغوية طابع العمق؛ وتشكل حالات القلق العميق بالنسبة لنا، كونها متجذرة بشدة فينا تماما كأشكالنا اللغوية، كما أن أهميتها العظيمة تضاهي أهمية لغتنا- دعونا نسأل أنفسنا السؤال التالي: لماذا نشعر أن المزحة النحوية تتميز بطابع عميق؟ (وهذا بالذات هو الطابع العميق للفلسفة). (ص 111)

من هذا المنظور، تعتبر الفلسفة نوعًا من المرض الذي يصيب حتى غير المشتغلين بها. إليك على سبيل المثال حالة الشخص الذي يتساءل عما إذا كان الشعور بإحساس ما يشكل حبا "حقيقيا" أم  "زائفا". هنا يتجلى الشعور "بالعمق" مخفيًا في كلمة "الحب" ذاتها، وهو ما يشجع على إجراء المزيد من الأبحاث حول ماهية الحب "الحقيقي". إن الإشكالية  هنا لا تكمن في الحب، أيا كانت طبيعته، بل تكمن في الإفتتنان  الذي يجعلنا نعتقد بوجود جوهر للحب. الإشكالية  هنا هي أن المرء يعتقد أن كل الكلمات أسماء/مسميات ك"الفأر" أو "الزجاجة"؛ ولذلك فإنه يسعى وراء شيء "عقلي" أو "نفسي" متوافق: "إن السبب الرئيسي للأمراض الفلسفية هو نظام التغذية أحادي الجانب: يغذي المرء تفكيره بنوع واحد فقط من الأمثلة" (ص 593). تأمل في المثال الشهير التالي، أي في الشكل البياني للبطة والأرنب. من ناحية، يبدو أنه يجسد بطة، لكن، من ناحية أخرى، يبدو أنه يجسد أرنبا.

صديقان يبحثان في كتاب علم النفس. يسأل أحدهم الآخر قائلا: "ما هذا الحيوان هنا؟" يرد صديقه بثقة مطلقة: "إنه بطة". هذا يعني أنه واثق من أن الصورة تمثل البطة فحسب. عليك أن تنتبه للعبة اللغة الخاصة هذه، لأنها تقدم الإستعمال  العلاجي للغة. "هل أنت متأكد حقًا أن هذه بطة؟" يُلِحُّ الصديق على زميله الآخر؛ ويتابع قائلا: "ألا ترى أنها بطة غريبة حقًا؟" عندما يبدأ المرء في الكلام، يفترض جانبًا واحدًا فقط لكلامه. هنا تكمن ضرورة وجود شخص آخر، أي وجود وجهة نظر أخرى. لكن عندما يرى الأرنبَ فجأةً، تختفي البطة: "انتظر!" يقول لصديقه، "إنها ليست بطة، إنه  أرنب." ليس مهما للغاية أن نعلم ماهية الحافز الدقيق الذي أدى إلى هذه الإزاحة اللغوية؛ لكن ما هو جدير بالملاحظة هو أنه في لعبة اللغة الفلسفية العلاجية يوجد صوت آخر يمثل جوانب أخرى للحالة.

لذلك، بناء على تصور فيتجنشتاين، هناك طريقتان لممارسة الفلسفة (وهما وجهان لهذا النوع من النشاط): الأول حبيسُ اللغة، ويكون عندما يستعمل الإنسان  اللغة دون أن يلحظ أنه يفعل ذلك، والثاني تواقٌ لتوضيح أن اللغة هي التي يستعملها الإنسان  في الواقع. تنشأ الإشكالية  الفلسفية عندما لا يدرك الإنسان  أن الإشكالات العميقة التي يسعى إلى معالجتها هي الآثار الجانبية للغة المستعملة في التفكير في هاته الإشكالات :

عندما نقلق بشأن طبيعة التفكير، فإن الإرتباك  الذي نُؤَوِّلُهُ خطأً على أَنَّهُ ارتباك بشأن طبيعة الوسيلة/الناقل هو ارتباك ناتج عن الإستعمال  المُربِك للغاتنا. يتكرر هذا النوع من الخطأ مرارا وتكرارا في الفلسفة: على سبيل المثال عندما نشعر بالإرتباك  بشأن طبيعة الزمن، عندما يبدو لنا الزمن شيئًا غريبًا. نحن نميل بشدة إلى الإعتقاد  بأن هناك أشياء مخفية، وهو أمرٌ بمقدورنا رؤيته من الخارج، وليس بمقدورنا التفكير فيه. ومع ذلك، لا شيء من هذا القبيل هو المسألة ضالتنا. ليست الحقائق الجديدة عن الزمن هي التي نسعى لمعرفتها. كل الحقائق التي تشغل اهتمامنا معروضة أمامنا؛ لكن الإستعمال  الموضوعي "للزمن" هو الذي يصيبنا بالإرتباك. إذا تأملنا في القواعد النحوية لتلك الكلمة، فسوف نشعر أنَّ الضرورة الإنسانية لتصور إلهِ الزمن ليست أقل إثارة للدهشة من تصور إلهِ النفي أو الانفصال. (Wittgenstein 1969, 6)

بخلاف ذلك، تبدأ الفلسفة كَعِلَاجٍ عندما يأتي صوت/متحدث آخر يساعدنا على رؤية تعددية الجوانب التي كنا غافلين عنها. كما أدرك أرسطو (Metaphysics, 982b-983a)، تبدأ الفلسفة مع الدهشة: "الغريب هو الدهشة حقًا؛ يمكن التعبير عن السؤال 'كيف يكون ذلك ممكنا!' بالعبارة التالية: "إن الشيء هو ذاته- وفي الوقت ذاته هو شيء آخر" (Wittgenstein 1982, 174). من ناحية، هناك جانب واحد يظهر بشكل فجائي؛ ومن ناحية أخرى، يظهر جانب آخر بشكل فجائي كذلك. المرض الفلسفي هو عدم القدرة على رؤية هذين الجانبين كشكلين لشيء واحد فقط. ما يصعب تحمله حقًا هو "تغيير الجوانب":

لنتأمل في قصة مصورة. في إحدى الصور هناك بط، وفي الصورة الأخرى هناك أرانب؛ لكن أحد رؤوس البط مرسوم تمامًا كرأس الأرانب. ينظر شخص ما إلى الصور، إلا أنه لا يلاحظ ذلك. عندما يصف الصورتين معا، فإنه بدون تردد يصف الشكل في الصورة الأولى  أنه بطة، ويصف الآخر في الصورة الثانية  أنه أرنب. لا تصيبه الدهشة إلا عندما نبين له أن الشكلين منطبقين تماما مع بعضهما البعض (ص 165).

وإذن، فهو قد رأى الجانبين معا، ولم ير تغيير الجوانب (ص 166).

إن "نظام تغذيتنا أحادي الجانب"، الذي تعودنا عليه، يجعلنا نعتقد أن هناك شيئًا واحدًا فقط وراء كل تسمية. وهذا هو أصل "الأمراض الفلسفية". ويكون العلاج ممكنا فقط عندما يتم الاستماع إلى صوت/متحدث آخر- مهما كانت أصوله- لأنه يساعدنا على رؤية "تطابق الأشكال."

غالبًا ما يتحدث الفلاسفة عن البحث عن معنى الكلمات وتحليلها. لكن دعونا لا ننسى أن الكلمة ليس لها معنى معين قد أُعْطِيَ لها، إذا جاز التعبير، من قبل قوة مستقلة عنا، بحيث يمكن أن يكون هناك نوع من البحث العلمي فيما تعنيه الكلمة حقًا. تشتمل الكلمة على المعنى الذي يعطيه شخص ما لها. (Wittgenstein 1969, 28)

هذا هو الجانب العلاجي للفلسفة: أن تعمل على توضيح أن "الكلمة لها المعنى" الذي تتضمنه لأن "شخصًا ما أعطاه" "لها"، أَيْ أَنَّ الجانب العلاجي للفلسفة يسعى لإحْيَاءِ التفريق القائم بين من يقوم بالكلام ومن يُوَجَّهُ إليه الكلام. الكائن البشري هو أساس اللغة. يبدأ مرض اللغة عندما ينسى المرء هذه الحقيقة الإنسانية الأساسية، ويتعامل مع اللغة على أَنَّها كيان مكتفي ذاتيًا. يرتبط هذان الجانبان للفلسفة بموقفين محتملين يمكن للمرء أن يفترضهما بخصوص اللغة: في الحالة الأولى، يفكر المرء ويتحدث، ولكن حقيقة التحدث تظل ضمنية؛ وفي الحالة الثانية، يفكر المرء ويتحدث، ولكن حقيقة الكلام تكون في غاية الوضوح.

لهذا التفريق تبعات أخلاقية واضحة: في الحالة الأولى، ما يفكر فيه المرء ويفعله يتحدد إلى حد كبير بما تقدمه اللغة ضمنيًا كمسألة تفكير وفعل. في هذه الحالة، يعتقد المرء ببساطة أنه مسؤول عن أفعاله، بينما في الواقع، تكون اللغة الموضوعية/المجردة هي التي تقوم بالتفكير والفعل من خلال المتحدث: "عندما نقبل افتراضا  ما على أنه بديهي، فإننا نعفيه أيضًا من جميع المسؤوليات في مواجهة التجربة" (Wittgenstein 1978, 239). هذه هي المسألة الأخلاقية بالضبط: مسؤوليتنا "في مواجهة التجربة". وفي الحالة الأخرى، يأخذ المرء في الحسبان أن هناك لغة بينه وبين ما يريد أن يفعله؛ أي هنا يتحمل المرء مسؤولية اللغة التي يستعملها. في هذه النقطة يظهر التشابه بين (الجانب العلاجي) للفلسفة والتحليل النفسي. تهدف كل من اللعبتين اللغويتين إلى تحسين الإستعمال  الواضح للغة: "أن تتعرض للتحليل النفسي أشبه، على نحو ما، بالأكل من شجرة المعرفة. المعرفة التي نكتسبها تخلق لنا إشكالات  أخلاقية (جديدة)، لكنها لا تساهم في حلها " (Wittgenstein 1998, 40). "الإشكالات  الأخلاقية الجديدة" هي تلك الإشكالات  التي تتطلب أن يختار المرء مسار العمل الخاص به؛ أَيْ أَنَّ الهدف من الفلسفة العلاجية والتحليل النفسي هو جزئيًا (جزئيًا لأن اللغة هي التي تسبب هذا المرض، ولكن العلاج لغوي أيضًا) تحرير الكائن الإنساني  من اللغة:

على سبيل المثال، إذا تم وضع بعض المقترحات البيانية للإنسان كمعتقدات تتحكم في تفكيره، أي بطريقة لا يتم فيها تحديد آرائه، بينما يتم التحكم في التعبير عن هاته الآراء تمامًا، فسيكون لذلك تأثير غريب جدًا. سيعيش الناس في ظل طغيان مطلق ملموس، ولكن دون أن تكون لهم القدرة على التعبير على أنهم ليسوا أحرارًا. أعتقد أن الكنيسة الكاثوليكية تفعل شيئًا من هذا القبيل. لأنه يتم التعبير عن العقيدة في صيغة توكيدية، لأنها شيء راسخ، وفي نفس الوقت يمكن تقديم أي رأي عملي يتوافق معها؛ باعتراف الجميع، إنَّ  هذا شيء أيسر في بعض الحالات، وأكثر عسرا في حالات أخرى. إنه ليس جدارًا يضع حدودًا للإعتقاد ، ولكنه كالفرامل التي تخدم عمليا نفس الغاية، كما لو أن شخصًا ما يعلق وزنًا على قدميك لتقييد حريتك في الحركة. هكذا تصبح العقيدة غير قابلة للدحض وخارج نطاق النقد. (ص 32)

5: خريطة اللغة

التحليل النفسي هو "العلاج بالكلام" (Breuer and Freud 1991)، أي هو طريقة علاجية تعتمد على اللغة فقط. تكمن فكرة التحليل النفسي في جوهرها في كون أّنَّ اللغة هي التي تهم حقًا كلا من المحلل النفسي analyst والشخص الخاضع للتحليل النفسي analysand. على الرغم من الرؤية الشائعة (والسينمائية) للتحليل النفسي، والتي تؤكد على أهمية التفسير، كما لو أنها هي النقطة المحورية لهذه المقاربة، فإن ما يحدث بالفعل خلال جلسة التحليل النفسي هو تحليل مكثف إلى حد ما لما يقوله الشخص الخاضع للتحليل النفسي؛ أيْ أَنَّ العمل العلاجي الفعلي هو البحث الصعب عن طريقة لكشف الطرق المعقدة والمتشابكة التي تربط الكلمات بعضها إلى بعض. على سبيل المثال، عندما يقول المحلل شيئًا عن حلم أحد الأشخاص الخاضعين للتحليل النفسي (وهو بالمناسبة موقف نادر جدًا في التحليل الفرويدي الصارم)، فهو في الحقيقة لا يكون يتحدث عن المحتوى الداخلي المفترض لهذا الحلم؛ ما يفعله حقًا هو أن يُظهر للأشخاص الخاضعين للتحليل النفسي العلاقة بين ما يقولونه الآن وما قالوه في مناسبة أخرى؛ أي أنه يتعقب الروابط التي لم يلاحظها أحد من قبل بين الكلمات:

قارن أقسام الكلام المختلفة في جملة ما بخطوط على خريطة ذات وظائف مختلفة (الحدود والطرق وخطوط الطول وخطوط الارتفاع). سوف يرى الشخص غير المتعلم مجموعة من الخطوط، ولن يستطيع معرفة تنوع معانيها. (Wittgenstein 1974, 58)

هذا وصف دقيق جدا للتحليل النفسي (وإن كان يلائم أكثر التحليل اللاكاني Lacanian؛ Benvenuto 2006؛ Cimatti 2013b). إن الشخص الخاضع للتحليل النفسي هو "الشخص غير المتعلم"، والذي يفتقر إلى القدرة  على استعمال خريطة بلدته التي يعيش فيها؛ لذلك، فهو لا يعرف بلدته حقًا. وهذا يعني أن انزياحاته/تنقلاته تقتصر على عدد قليل جدًا من الطرق والساحات التي يتردد عليها في الغالب. لكن يتواجد أناس ومتاحف وبرك سباحة ومسارح ودور سينما ومتاجر وأشياء أخرى كثيرة  على الطرقات والساحات التي لا يعرفها، مما سيتيح له تجارب وإمكانيات لا يستطيع حتى تخيلها. إن جهله ببلدته لا يَحُدُّ بشدة من انزياحاته/تنقلاته فحسب، بل يحد من تطور حياته الخاصة. ما يفعله المحلل هو أن يوضح "للشخص غير المتعلم" كيفية استعمال خريطة البلدة، أيْ كيفية استعمال اللغة بطريقة فعالة، لأن "أقسام الكلام المختلفة في الجملة" تتوافق مع "الخطوط الموجودة على خريطة ذات وظائفَ مختلفةٍ (الحدود والطرق وخطوط الطول وخطوط العرض)."

لا يشرح المحلل للشخص الخاضع للتحليل النفسي ما قاله "في حقيقة الأمر" (كما لو كان هذا الشخص خبيرا فيما نسميه بالعقل الباطن)؛ ما يفعله المحلل في الواقع هو أن يوضح للشخص الخاضع للتحليل النفسي كيف يمكنه أن يتنقل في البلدة، أي كيف يستعمل اللغة. إن الفكرة الأساسية لهذه المقارنة هي أن معرفة لغة ما تفيد القدرة على القيام بإجراءات معينة، والتي يستحيل القيام بها بدون هذه اللغة: "فكر في الأدوات الموجودة في صندوق الأدوات: هناك المطرقة والكماشة والمنشار ومِبْرَمُ البراغي والمسطرة ووعاء الغراء والغراء والمسامير والبراغي- إن وظائف الكلمات متنوعة كوظائف هاته الأشياء. (وفي كلتا الحالتين هناك أوجه تشابه)" (Wittgenstein 1953, 11). إذا كانت اللغة التي تم تحليلها مقتصرة على أنواع قليلة من الكلمات والجمل، فإن قدرة الأشخاص الخاضعين للتحليل النفسي على صياغة الأفكار ستكون محدودة. لذلك، سيكون خياله محدودًا أيضًا، لأنه لا وجود لخيال لا يقترن بفكرة ما يتم تخيله (Krebs 2010).

لكن، ماذا تعني معرفة البلدة في الحقيقة؟ يمكن القول إن المرء تكون لديه معرفة جيدة بالبلدة عندما يكون قادرًا على التنقل من أَيِّ نقطة فيها إلى أخرى؛ أَيْ أن المرء يكون يعرف البلدة عندما تكون لديه فكرة عامة إلى حد ما عن كيفية التنقل فيها، بغض النظر عن نقطة البداية. من ناحية أخرى، وهذه الكفاءة لها نفس القيمة أو ربما أكثر من الأولى (Posnock 2010)، يكون المرء يعرف البلدة عندما يكون لا يخشى الضياع فيها، أو يكون قادرا على أن يهيم على وجهه فيها دون غاية تذكر. إن معرفة بلدة ما تعني أن المرء  يتحرك فيها بثقة. عندما نفكر الآن في اللغة، تنحصر هذه الكفاءة المزدوجة فيما يسميه فيتجنشتاين  ب"التمثيل القابل للمعاينة " (Wittgenstein 1953, 122). خذ حالة الشخص الذي يتأمل في المعنى "الحقيقي" لكلمة ما ك"فلسفة" على سبيل المثال. إذا تأمل المرء في هذه الكلمة بمعزل عن غيرها، فمن المحتمل أن يسفر تأمله هذا عن قدر هائل من التكهنات غير المنطقية، التي لا علاقة لها بالكيفية التي يستعمل بها الناس هذه الكلمة (وهذا هو الخطأ الميتافيزيقي).

يكمن الخطأ هنا في عزل الكلمة عن استعمالها الفعلي، وكأن معناها "الحقيقي" قد ألقى بظلاله عليها. بمعنى أن المرء لا يحتاج لفهم كلمة "فلسفة" إلى تجاوز اللغة كي يتأمل في الكلمة من الخارج:

قد يعتقد المرء أن الفلسفة إذا تحدثت عن استعمال كلمة "فلسفة"، فلا بد من وجود فلسفة من الدرجة الثانية. لكن ليس الأمر كذلك، كما هو الحال مع الإملاء، الذي يتعامل مع كلمة "إملاء" من بين كلمات أخرى دون أن يجعل من نفسه شيئا من الدرجة الثانية (ص 121).

بما أن مدلول كلمة "فلسفة" (شأنها في هذا شأن أي كلمة أخرى) يوجد في استعمالها وارتباطاتها بكلمات أخرى- إذا كان المرء حقًا يود استيعابها- فيجب عليه أن يبقى داخل اللغة المألوفة. أَيْ لتفسير كلمة ما، لا يتعين عليه أن يترك اللغة باعتبارها المكان الوحيد الذي تأخذ فيه الكلمات مدلولاتها: "كل علامة في حد ذاتها تبدو ميتة. ما الذي يعطيها الحياة؟ - حياتها في استعمالها. هل تأخذ نَفَسَهَا الحيَّ بداخل هذا الإستعمال ؟ أم أن الإستعمال  هو نَفَسُهَا بحد ذاته؟" (ص 432). يمكن القول إن المرء يعرف مدلول كلمة "فلسفة" عندما يكون قادرًا على استعمالها في مجموعة متنوعة من السياقات. لذلك، فإن السبيل الوحيد للخروج من الخطأ الميتافيزيقي هو محاولة ربط الكلمة ببقية اللغة التي هي جزء منها. عندما يرى المرء الكلمة جنبًا إلى جنب مع الروابط المتعددة والمتغيرة التي تربطها بباقي اللغة (أي تربطها "بأنفاسها الحية")، يمكن القول إن هذا الأخير قد حقق كفاءة جيدة:

يكمن أحد المصادر الرئيسية لفشلنا في الاستيعاب، في كوننا لا نمتلك نظرة عامة عن كيفية استعمال كلماتنا- نظرا لافتقار قواعدنا النحوية لإمكانية المعالجة surveyability. يُفضِي  التمثيل القابل للمعاينة  بالضبط إلى هذا النوع من الإدراك  الذي يشمل "رؤية الروابط". ومن هنا تأتي أهمية إيجاد واستحداث روابط وسائطية (ص 122).

إن "التمثيل القابل للمعاينة " للغتنا هو بالضبط ما تتيحه لنا الفلسفة العلاجية. تأمل في حالة الشخص الخاضع للتحليل النفسي الذي يروي الحلم لمحلِّله. يتكون الحلم- من وجهة نظر المحلِّل- من مجموعة من الجمل. حاليا، ما يقوم به المحلِّل في الواقع هو ربط هذه الكلمات بكلمات أخرى سبق أن استعملها الشخص الخاضع للتحليل النفسي في الماضي، أو بكلمات أخرى يمكن للمرء أن يستعملها في هذا الموقف؛ أيْ أنَّ المحلِّل يعمل على تشجيع الشخص الخاضع للتحليل النفسي بطرق غير متوقعة على رؤية جوانب جديدة للكلام الذي قاله من قبل. من المهم أن نلاحظ أن هذا ليس تفسيرًا أو تأويلاً، وإنما هو "تمثيل قابل للمعاينة ". هذا الأمر شبيه بضياع أحدهم في بلدة مجهولة؛ من أجل الحصول على فكرة عن مكان وجود هذا الشخص، يحتاج المرء إلى خريطة للمدينة تمكنه من رؤية شبكة طرقاتها  بالكامل (لكننا  نقول إن ما يحتاجه المرء اليوم هو الإتصال  بشبكة الإنترنت كي يلج خرائط جوجل). جدير بالتذكر أن هذا "التمثيل القابل للمعاينة " هو تمثيل يضع نفسه في نفس المستوى لما يمثله؛ بمعنى أن المحلِّل والشخص الخاضع للتحليل يضعان نفسيهما في نفس المستوى؛ لأنهما  يتحدثان لغة مشتركة. هذه مسألة في غاية الأهمية، إذا ما تذكرنا الموقف الأخلاقي الذي نسبه فتغنشتاين إلى العمل العلاجي للفلسفة: "الفلسفة [كأداة علاجية ]، كما نستعمل الكلمة، هي معركة ضد الافتتان الذي تمارسه علينا أشكال التعبير" (Wittgenstein 1969, 27).

تأمل في المقترح التالي الذي جاء في مباحث فلسفية كمثال على طريقة فيتجنشتاين الفلسفية والعلاجية الفعالة (Ammereller and Fisher 2004):

"ومع ذلك، إذا كان هناك بعض الغموض في القواعد، فإنها لا تكون لعبة على الإطلاق." ولكن هل حقًا، تبعا لذلك، أّنَّهَا ليست لعبة؟- "حسنًا، ربما ستسميها لعبة، لكنها ليست لعبة مثالية على أي حال." هذا يعني أنها قد تعرضت للإفساد، وما يهمني الآن هو ماهية الشيء الذي تعرض للإفساد- لكني أود أن أقول: نحن نسيء فهم الدور الذي يلعبه النموذج the ideal في لغتنا. بعبارة أخرى، نحن أيضًا نسميها لعبة؛ نحن فقط أصابنا النموذج بالإنبهار، ولذلك نحن لا نقدر على رؤية التطبيق الفعلي لكلمة "لعبة" بوضوح. (Wittgenstein 1953, 100)

في البداية، هناك مقولة تقدم نفسها كما لو أنها لم تعد قابلة للتصحيح، وليس واضحا من يصر على صحتها. يبدو أنها تأكيد رياضي، أي أنها شيء أشبه بالنظرية أو المسلَّمة. هذه هي الطريقة المألوفة التي يُظهِر بها المرض الميتافيزيقي أو الفلسفي نفسه، وكأنه صوت من العدم، مطلق وخارج عن الزمن. بعد ذلك مباشرة، يقدم الشخص الثاني، أي صوتُ الجانب الآخر للفلسفة- ونقصد به  الجانب العلاجي- شكًا، أي وجهة نظر أخرى، أي جانبًا آخر. بعد هذا التبادل الأولي الذي يقدم منظورين مختلفين، نجد أولاً توضيحا لما يتناقشه الصوتان- صوت الميتافيزيقي (أي الشخص الخاضع للتحليل النفسي) والفيلسوف (أي المحلِّل): "الدور الذي يلعبه النموذج في لغتنا". في هذه المرحلة هناك ما يمكن تسميته خاتمة لهذه المناقشة الموجزة. إنها ليست خاتمة في الواقع. يتم تقديم توضيح بشأن ماهية الشيء الذي يعيق قدرتنا على استيعاب طبيعة الألعاب بطريقة أكثر شمولاً. الآن يرى الميتافيزيقي جانبًا واحدًا مما لا يعرفه عن الألعاب التي حالت بينه وبين تشكيل تمثيل صحيح لاستعمال كلمة "لعبة."

هذا الإجراء شبيه جدًا بما يحدث في العلاج النفسي الفعلي، ويستطيع المرء أن يُعاين هذا الشبه في هذا الجزء من جلسة العلاج النفسي الحقيقية، حيث من الواضح أن "إحدى الخصائص المحددة للعلاج هي أن المريض والمعالج كلاهما يفترضان أنهما  يعملان على التأكد من وضوح مقترحات معينة" (Labov and Fanshel 1977, 53)

الزوجة: لماذا أعتقد أنه يتحدث بهذه الطريقة؟ …. حسنًا، استمع إلى عدد المرات التي توقفنا فيها عند كشك بيع الفواكه ليلة السبت-

المعالج: [مقاطعًا] أفضل تقريبًا عدم سماع هذا...

الزوجة: أوه؟ تفضل عدم سماعه؟

المعالج: لأن الحالة ستكون حالة أخرى.

الزوجة: لأني كلما …. حسنًا، كلما أفعل شيئًا، سواء كان صحيحًا أم خاطئًا، فإنه دائمًا يراه خاطئا.

المعالج: حسنًا. إذن، هذا سبب واحد (المرجع نفسه).

في هذا المقطع، يفضل المعالج عدم اتباع مجموعة لا متناهية ومتكررة من الأمثلة التي يقوم الشخص الخاضع للتحليل النفسي بالإبلاغ عنها، مما يمنعه من رؤية الحالة برمتها التي تورط فيها. في نفس الوقت، لا يقوم المعالج بشرح سلوك المريض بالضبط؛ ما يبحث عنه هو إيجاد وسيلة لتوضيح ما تخفيه ضمنيًا كل أمثلته الشجية: ذلك أنه مهما فعل المريض، فإنه يرى أن كل أفعاله خاطئة إلى حد ما (ليس مهمًا أن تنسب الزوجة هذا الشعور إلى زوجها): "يبذل المعالج [...] جهدًا مضنيًا لاستخراج وتوضيح الإفتراضات  العامة المتضمنة في الحكايات والأمثلة التي يقدمها المريض" (المرجع نفسه). هذا ما يعتقد فيتجنشتاين أنه يشكل غاية الفلسفة العلاجية:

تسعى الفلسفة إلى التوضيح المنطقي للأفكار.

ليست الفلسفة مجموعة من العقائد، وإنما هي نشاط.

يتكون العمل الفلسفي بشكل أساسي من التوضيحات. لا تَخْلُص الفلسفة إلى "افتراضات فلسفية"، وإنما تخلص إلى توضيح الإفتراضات.

بدون الفلسفة، تكون الأفكار، إذا جاز التعبير، ضبابية وغير واضحة المعالم: مهمتها هي توضيح هاته الأفكار وإعطاؤها  حدودًا واضحة. (Wittgenstein 2002, 4,112)

طالما أن الأفكار "ضبابية وغير واضحة"، فإن اتخاذ الإجراءات المسؤولة أمر مستحيل. بهذا المعنى، تتموضع الأخلاق في نهاية هذا النوع من العلاج اللامتناهي (لأن خريطة اللغة هي في أحسن الأحوال تقريب جزئي للغة الفعلية فقط). هل هناك فرق بين هذا النوع من العلاج الفلسفي والتحليل النفسي؟ إذا كان التحليل النفسي في حقيقته "علاج بالكلام" (ليس من الواضح كم هو عدد المحللين النفسيين الذين قد لا يزالون يتفقون مع هذا التعريف)، وإذا كانت الفلسفة هي بالفعل ما تصوره فيتجنشتاين (من المؤكد أنه يوجد اليوم عدد قليل جدًا من الفلاسفة الذين سيقبلون أفكاره، إن لم نقل لا أحد منهم سيفعل ذلك؛ Tripoli 2009)، أضف إلى ذلك الإنطباع  بأنه لا توجد فروق ذات دلالة إحصائية بين هذين النشاطين (Crittenden 1970; Peterman 1992; Cavell 1993; Ellenbogen 2006; Burton 2011). وهذا واضح بشكل خاص فيما يتعلق بالتحليل النفسي: يبدو أن الحقيقة المذهلة للغاية بأن النظريات النفسية الفوقية - المتباينة إلى حد كبير والقائمة على افتراضات مختلفة تماما  حول العقل الإنساني وتطوره، يمكن أن تكون فعالة (أو غير فعالة) على حد سواء، ويبدو أنها تؤكد أن هذه النظريات ليست هي التي تجعل مناهج التحليل النفسي المختلفة ناجعة، وإنما الذي يفعل ذلك هي الحقيقة البسيطة المتمثلة في وجود علاجات لفظية. يجب أن يجعل رجحان الجانب اللفظي في كل من التحليل النفسي والفلسفة بتعريف فتجنشتاين أوجه التشابه بينهما أكثر وضوحًا.

المسألة الأخلاقية هي أنه عندما يتم تقديم "تمثيل قابل للمعاينة " في نهاية المطاف، حتى وإن لم يكن هناك شيء كالتمثيل النهائي للغة، تَظْهَرُ إمكانية جديدة وغير متوقعة تمامًا للحركة: "يُسجن شخص ما في غرفة إذا تم فتح الباب، أي إذا كان الباب يُفتح باتجاه الداخل؛ لكن لا يخطر ببال هذا الشخص أن يعمل على سحب الباب، بدل القيام بدفعه" (Wittgenstein 1998, 48). كما هو الحال مع التحليل النفسي، تعمل الفلسفة على توضيح ما تجشمه السجين ضمنيًا. لم يكن الباب مقفلاً في الحقيقة، لأنه يفتح بالسحب بدلاً من الدفع. عندما يدرك الشخص المشار إليه آنفا في النهاية أنه لا يوجد عائق يمنعه من مغادرة الغرفة، فإن إمكانية جديدة للفعل تطرح نفسها أمامه: فهو لا يعرف ما هو الصواب كي يفعله- وليس من الواجب الفلسفي تحديد الصواب والخطأ—إلا أنه يدرك الآن ضرورة اتخاذ القرار. تبدأ الأخلاق (وتنتهي جزئيًا أيضا) عند اتخاذ القرار. أصبح القرار ممكنًا بدليل أن السجين قد غير الجانب الذي من خلاله قد عاين الفضاء الذي سُجن فيه، أي عندما شرع في رؤية هذا الفضاء كغرفة، وليس كزنزانة سجن. يمكن الخروج من غرفة ما في أي لحظة، ولكن لا يمكن الخروج من زنزانة السجن.

هناك مسألة أخيرة يجب تحليلها: أي نوع من الأشخاص ذاك الذي يخضع للعلاج الفلسفي؛ لأنه قد يبدو أن هذا النوع من الأخلاق الغريبة التي يقترحها فيتجنشتاين عقلي ومجرّد تمامًا. وهذا سوء فهم عميق؛ لأنه في عمق اللغة يوجد شكل الحياة البشرية، وتوجد "حقائق عامة عن الطبيعة" (Wittgenstein 1953, 142). المسألة هي أن الشخص الذي يقدم على المشاركة في العلاج الفلسفي (أو التحليل النفسي؛ Cimatti 2013b) ليس هو تماما ذات  الشخص الذي وقع عليه العلاج (Krebs 2010). هذا الشخص "الجديد" قد وسّع من إمكانية أفعاله لأنه الآن "يعرف" خريطة اللغة. لذلك هو الآن يمتلك القدرة على التحرك في كل الإتجاهات.

لهذا السبب يكون "عالَم الرجل السعيد مختلفا عن عالَم الرجل الشقي" (Wittgenstein 2002, 6,43): "الرجل الشقي" غير سعيد فقط لأنه مقيد في تحركاته بشدة، حاله كحال السجين في الغرفة، لا يعرف كيف يخرج من زنزانة السجن. إن الذي اكتسبه الإنسان "السعيد" هو القدرة على التجوال بحرية في المدينة بأكملها، أي أنه اكتسب القدرة على استعمال جميع أشكال اللغة. لكن هذا يعني في النهاية أن هذا الشخص قد أصبح الآن جزئيًا هو والمدينة شيئا واحدا، لأنه لا وجود لمكان فيها لا يعرفه: "لكي أعيش بسعادة يجب أن أكون منسجما مع العالم. وهذا ما يعنيه 'أن يكون المرء سعيدا'" (Wittgenstein 1979, 75). هذا هو التوافق/الانسجام الأخير الذي يهدف الشخص إلى تحقيقه، بعد انتهائه من العلاج الفلسفي: أن يكون "منسجما مع العالم". وليس هناك انسجام أفضل من أن يصبح المرء هو العالم بشكل مباشر: أي ذلك الشخص الذي لا يحتاج إلى معرفة خريطة المدينة، لأنه الآن هو المدينة. لا وجود للعقل أو الوعي بالذات في نهاية هذا الطريق الصعب والمعقد؛ هناك وجود للغريزة:

يمكننا أن نتخيل بشكل واضح جدا أن شخصًا يعرف طريقه حول المدينة بطريقة ممتازة، أَيْ أَنَّهُ يستطيع أن يجد بثقة عالية أقصر طريق يأخذه من أي مكان فيها إلى آخر - إلا أنه قد يكون غير مؤهلٍ تمامًا لرسم خريطة للمدينة. وحالما يحاول فعل ذلك، فإن فعله هذا لا يُسفر عن شيء ليس خاطئا تماما. (هذا هو مفهومنا عن "الغريزة"). (Wittgenstein 1981, 1)

***

........................

المراجع

Adamson, Lauren B., Roger Bakeman, and Deborah F. Deckner. “The development of symbol-infused joint engagement.” Child Development, 2004, 75 (4): 1171–1187.

Ammereller, Erich, and Eugen Fischer, eds. Wittgenstein at work: Method in the philosophical investigations. London: Routledge, 2004.

Anderson, Stephen R., and David W. Lightfoot. “The human language faculty as an organ.” Annual Review of Physiology, 2000, 62:1–23.

Baker, Gordon. “Wittgenstein’s method and psychoanalysis.” In Wittgenstein’s method: Neglected aspects, ed. Katherine J. Morris, 205–222. Oxford: Blackwell, 2004.

Baz, Avner. “What’s the point of seeing aspects?” Philosophical Investigation, 2000, 23 (2): 97–121.

Becchio, Cristina, and Cesare Bertone. “Wittgenstein running: Neural mechanisms of collective intentionality and we-mode.” Consciousness and Cognition, 2004, 13:123–133.

Benvenuto, Sergio. “Wittgenstein and Lacan reading Freud.” Journal for Lacanian Studies, 2006, 4 (1): 99–120.

Black, Max. “Wittgenstein’s language-games.” Dialectica, 1979, 33 (3–4): 337–353.

Bouveresse, Jacques. Wittgenstein reads Freud: The myth of the unconscious. Princeton: Princeton University Press, 1995.

Breuer, Josef, and Sigmund Freud. Studies on hysteria. Angela Richards and James Strachey (eds). London: Penguin Books. 1991/1895.

Brooks, Rechele, and Andrew Meltzoff. “The development of gaze following and its relation to language.” Developmental Science, 2005, 8 (6): 535–543.

Budd, Malcolm. “Wittgenstein on seeing aspects.” Mind, 1987, 96 (381): 1–17.

Burton, Neel. “The talking cure—Wittgenstein’s therapeutic method for psychotherapy.” The British Journal of Psychiatry, 2011, 199:255–256.

Cavell, Marcia. The psychoanalytic mind: From Freud to philosophy. Cambridge: Harvard University Press, 1993.

Cimatti, Felice. “For in psychology there are experimental methods and conceptual confusion: From embodied cognition to Wittgenstein on language and mind.” In Perspectives on pragmatics and philosophy, A. Capone, F. Lo Piparo, M. Carapezza (eds), 637–647. Dordrecht: Springer, 2013a.

Cimatti, Felice. “La zecca e l’uomo. Antropologia e linguaggio fra Wittgenstein e Lacan.”

Rivista Italiana di Filosofia del Linguaggio, 2013b, 7 (2): 38–52.

Cioffi, Frank. 2009. Making the unconscious conscious: Wittgenstein versus Freud. Philosophia 37 (4): 565–588.

Crittenden, Charles. 1970. Wittgenstein on philosophical therapy and understanding. International Philosophical Quarterly 10 (1): 20–43.

Diamond, Cora. “Ethics, imagination and the method of Wittgenstein’s Tractatus.” In The new Wittgenstein, ed. Rupert Read and Alice Crary, 328–364. London: Routledge, 2000.

Ellenbogen, Sara. “Wittgenstein and philosophical counseling.” Philosophical Practice, 2006, 2 (2): 79–85.

Freud, Sigmund. “Constructions in analysis.” In Complete psychological works of Sigmund Freud, vol. 23, ed. J. Strachey, 257–269. London: Hogarth Press, 1937.

Fulkerson, Anne L., and Robert A. Haaf. “The influence of labels, non-labeling sounds, and source of auditory input on 9- and 15-month-olds’ object categorization.” Infancy, 2003, 4 (3): 349–369.

Gallese, Vittorio. “Mirror neurons and the social nature of language: The neural exploitation hypothesis.” Social Neuroscience, 2008, 3 (3–4): 317–333.

Gallese, Vittorio, Christian Keysers, and Giacomo Rizzolatti. “A unifying view of the basis of social cognition.” Trends in Cognitive Science, 2004, 8 (9): 396–403.

Garver, Newton. “Form of life in Wittgenstein’s later work.” Dialectica, 1990, 44 (1–2): 175–201.

Genova, Judith. Wittgenstein: A way of seeing. London: Routledge, 1995.

Hanfling, Oswald. Wittgenstein and the human form of life. London: Routledge, 2002.

Heaton, John M. The talking cure: Wittgenstein’s therapeutic method for psychotherapy. London: Palgrave Macmillan, 2010.

Hintikka, Jaakko. “Language-games.” Synthese, 1979, 5:1–26.

Hutchinson, Phil, and Rupert Read. “Toward a perspicuous presentation of ‘Perspicuous Presentation’.” Philosophical Investigations, 2008, 31 (2): 141–160.

Johnston, Paul. Wittgenstein: Rethinking the inner. London: Routledge, 1993.

Johnston, Paul. The contradictions of modern moral philosophy. London: Routledge, 1999.

Krebs, Victor. “The bodily root. Seeing aspects and inner experience.” In Seeing Wittgenstein Anew. New essays on aspect-seeing, ed. W. Day and V. Krebs, 120–139. Cambridge: Cambridge University Press, 2010.

Labov, William, and David Fanshel. Therapeutic discourse. Psychotherapy as conversation. New York: Academic Press, 1977.

Lycan, William. “Gombrich, Wittgenstein, and the Duck-Rabbit.” Journal of Aesthetics and Art Criticism, 1971, 30 (2): 229–237.

Mancia, Mauro. “Wittgenstein’s personality and his relations with Freud’s thought.” The International Journal of Psychoanalysis, 2002, 83 (1): 161–177.

McGuinness, Brian. “Freud and Wittgenstein”. In Approaches to Wittgenstein. Collected papers, ed. Brian McGuinness, 224–235. London: Routledge, 2002.

Menary, Richard, ed. The extended mind. Cambridge: The MIT Press, 2010.

Mulhall, Stephen. “Seeing aspects.” In Wittgenstein: A critical reader, ed. Hans-Johann Glock, 246–267. Oxford: Blackwell, 2001.

Mulhall, Stephen. “Ethics in the light of Wittgenstein.” Philosophical Papers, 2002, 31 (3): 293–321.

Perlovsky, Leonid I. and Roman Ilin. “Mirror neurons, language, and embodied cognition.”

Neural Networks, 2013, 41:15–22.

Peterman, James. Philosophy as therapy. An interpretation and defense of Wittgenstein’s later philosophical project. Albany: SUNY Press, 1992.

Posnock, Ross. “Don’t think, but look!’ W. G. Sebald, Wittgenstein, and cosmopolitan poverty.” Representations, 2010, 112 (1): 112–139.

Purton, Campbell. “Wittgenstein and the expression of feelings in psychotherapy.” Philosophical Investigations, 2013, 37 (2): 152–166.

Radford, Colin. “Wittgenstein on ethics.” Grazer Philosophische Studien, 1989, 33/34:85–114.

Read, Rupert. “IV*—Throwing Away ‘THE BEDROCK’.” Proceedings of the Aristotelian

Society, 2005, 105 (1): 81–98.

Reddy, Michael. “The conduit metaphor—A case of frame conflict in our language about

language.” Metaphor and Thought, 1979, 2:164–201.

Ribes-Iñesta, Emilio. “Human behavior as language: Some thoughts on Wittgenstein.” Behavior and Philosophy, 2006, 34:109–121.

Rubinstein, David. “Language games and natural reactions.” Journal for the Theory of Social Behaviour, 2004, 34 (1): 55–71.

Sigmon, Scott. “A specific philosophical influence on applied psychology: Wittgenstein to Watzlawick.” Psychology: A Journal of Human Behavior, 1985, 22 (2): 42–45.

Sluga, Hans. Wittgenstein. Oxford: Blackwell, 2011.

Taylor, Charles. Human agency and language. Cambridge: Cambridge University Press, 1985.

Tripodi, Paolo. Dimenticare Wittgenstein. Una vicenda della filosofia analitica. Bologna:

Il Mulino, 2009.

Waxman, Sandra R., and Susan A. Gelman. “Early word-learning entails reference, not merely associations.” Trends in Cognitive Sciences, 2009, 13 (6): 258–263.

Wittgenstein, Ludwig. Philosophical investigations. The German Text, with an English translation by G. E. M. Anscombe, P. M. S. Hacker, and J. Schulte, revised 4th ed. by P. M. S. Hacker and J. Schulte. Oxford: Blackwell, 1953/2009.

Wittgenstein, Ludwig. The blue and brown books. Oxford: Blackwell, 1969.

Wittgenstein, Ludwig. Philosophical grammar, ed. Rush Rhees. Oxford: Blackwell, 1974.

Wittgenstein, Ludwig. Remarks on the foundations of mathematics, ed. G. H. von Wright, R. Rhees, and G. E. M. Anscombe. Oxford: Blackwell, 1978.

Wittgenstein, Ludwig. Notebooks 1914–1916, ed. G. H. von Wright and G. E. M. Anscombe. Oxford: Blackwell, 1979.

Wittgenstein, Ludwig. Zettel, ed. G. E. M. Anscombe and G. H. von Wright. Oxford: Blackwell, 1981.

Wittgenstein, Ludwig. Last writings on the philosophy of psychology, vol. I. Oxford: Blackwell, 1982.

Wittgenstein, Ludwig. In Culture and value. A selection from the posthumous remains, ed. G. H. von Wright and H. Nyman. Oxford: Blackwell, 1998.

Wittgenstein, Ludwig. Tractatus logico-philosophicus. Trans: D. F. Pears and B. F. McGuinness. London: Routledge, 2002/1921.

في المثقف اليوم