دراسات وبحوث
محمد بنيعيش: العنف الغضبي وتأجيجه بين العوامل النفسية والشيطانية!!!
1) من القضايا النفسية التي يتعاضد فيها العنصر الذاتي مع المؤثر الغيبي المصطلح عليه دينيا بالشيطان والوسواس الخناس فقد نجد موضوع "الغضب" والعنف ضد الآخر على سبيل الانتقام والحسد والظلم والتكبر والتجبر وما يندرج تحت هذه المظاهر من سلوك متقارب. فقد يكون التعاضد في مثل هذه المواقف يتجلى بتحفيز الجانب الغضبي(السبعي) عند الإنسان حتى يتملكه ويفقده التحكم في ذاته، ومنذ هذه اللحظة سيكون الشيطان بالمرصاد حتى قد يجري من ابن آدم مجرى الدم كما دلت عليه الأحاديث.
ولهذا فلقد جاءت الآيات والأحاديث كلها تحذر من مغبة "الغضب" أو العنف وتدعو إلى الابتعاد عن أسبابه ومولداته، كما نجد في قول الله تعالى: "والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون "[1]، وكذلك تنص على مدح الضابطين له كما في قول الله تعالى: "الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين"[2].
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني. قال: لا تغضب فردد مرارا، قال: لا تغضب"[3].
قال الشارح العسقلاني في فتح الباري: "قوله: قال لا تغضب في رواية أبي كريب "كل ذلك يقول لا تغضب" وفي رواية عثمان بن أبي شيبة قال "لا تغضب ثلاث مرات".
وفيها بيان عدد المِرار وقد تقدم حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يعيد الكلمة ثلاثا لتفهم عنه، وأنه كان لا يراجع بعد ثلاث.وزاد أحمد وابن حبان في رواية عن رجل لم يسم قال: "تفكرت فيما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله".
قال الخطابي معنى قوله "لا تغضب" اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه، وأما نفس الغضب فلا يتأتى لأنه أمر طبيعي لا يزول من الجبلة، وقال غيره: ما كان من قبيل الطبع الحيواني لا يمكن دفعه فلا يدخل في النهي لأنه من تكليف المحال، وما كان من قبيل ما يكتسب بالرياضة فهو المراد، وقيل معناه لا تغضب لأن أعظم ما ينشأ عنه الغضب الكبر لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده فيحمله الكبر على الغضب، فالذي يتواضع حتى يذهب عنه عزة النفس يسلم من شر الغضب.
وقيل معناه لا تفعل ما يأمرك به الغضب، وقال ابن بطال في الحديث الأول: أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الذي يملك نفسه عند الغضب أعظم الناس قوة إشارة إلى حديث "ليس الشديد بالصرعة". وقال غيره: لعل السائل كان غضوبا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر كل أحد بما هو أولى به فلهذا اقتصر في وصيته على ترك الغضب.وقال ابن التين: جمع صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تغضب"خير الدنيا والآخرة، لأن الغضب يؤول إلى التقاطع ومنع الرفق، وربما آل إلى أن يؤذي المغضوب عليه فينتقص ذلك من الدين.
وقال البيضاوي لعله لما رأى أن جميع المفاسد التي تعرض للإنسان إنما هي من شهوته ومن غضبه وكانت شهوة السائل مكسورة، فلما سأل عما يحترز به عن القبائح نهاه عن الغضب الذي هو أعظم ضررا من غيره وأنه إذا ملك نفسه عند حصوله كان قد قهر أقوى أعدائه، انتهى.
ويحتمل أن يكون من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى لأن أعدى عدو للشخص شيطانه ونفسه، والغضب إنما ينشأ عنهما فمن جاهدهما حتى يغلبهما مع ما في ذلك من شدة المعالجة كان لقهر نفسه عن الشهوة أيضا أقوى.وقال ابن حبان - بعد أن أخرجه- أراد لا تعمل بعد الغضب شيئا مما نهيت عنه لأنه نهاه عن شيء جبل عليه ولا حيلة له في دفعه. وقال بعض العلماء: خلق الله الغضب من النار وجعله غريزة في الإنسان فمهما قصد أو نوزع في غرض ما اشتعلت نار الغضب وثارت حتى يحمر الوجه والعينان من الدم لأن البشرة تحكي لون ما وراءها، وهذا إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه، وإن كان ممن فوقه تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب فيصفر اللون حزنا.
وإذا كان على النظير تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويترتب على الغضب تغير الظاهر والباطن كتغيير اللون والرعدة في الأطراف وخروج الأفعال في غير ترتيب واستحالة الخلقة حتى لو رأى الغضبان نفسه في حال غضبه لكان غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته، هذا كله في الظاهر وأما الباطن فقبحه أشد من الظاهر لأنه يولد الحقد في القلب والحسد وإضمار السوء على اختلاف أنواعه، بل أولى شيء يقع منه باطنه، وتغير ظاهره ثمرة تغير باطنه وهذا كله أثره في الجسد، وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش الذي يستحيي منه العاقل ويندم قائله عند سكون الغضب، ويظهر أثر الغضب أيضا في الفعل بالضرب أو القتل، وإن فات ذلك بهرب المغضوب عليه رجع إلى نفسه فيمزق ثوبه ويلطم خده، وربما سقط صريعا وربما أغمي عليه وربما كسر الآنية وضرب من ليس له في ذلك جريمة، ومن تأمل هذه المفاسد عرف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللطيفة من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تغضب" من الحكمة واستجلابه المصلحة في درء المفسدة مما يتعذر إحصاؤه والوقوف على نهايته، وهذا كله في الغضب الدنيوي لا الغضب الديني كما تقدم في الباب الذي قبله . ويعين على ترك الغضب استحضار ما جاء في كظم الغيظ من الفضل وما جاء في عاقبة ثمرة الغضب من الوعيد، وأن يستعيذ من الشيطان كما تقدم من حديث سليمان بن صرد، وأن يتوضأ كما تقدمت الإشارة إليه في حديث عطية والله أعلم "[4].
2) فهذه الشروح قد أوردتها مطولة للإشارة إلى مدى أثر النص الديني في ضبط مناهج معرفة النفس عند المسلمين، وأنه لولاه لما كانت لديهم هذه التدقيقات الرائعة التي تريد أن تحلل الظاهرة النفسية من كل جوانبها وكل خلفياتها وأبعادها المعنوية والسلوكية، وهو ما سنراه عند دراسة مناهج الفكر الإسلامي وتبيين مدى ارتكازه على هذه الأصول الإسلامية في تحديد الطبيعة النفسية وظواهرها.
فموضوع الغضب إذن يمثل مرتعا خصبا لتلاقح التأمر النفسي والكيد الشيطاني حتى إن الشخص قد يفقد معه حينما يسيطر عليه التمييزَ بين أسباب نجاته من هلاكه[5].والملاحظ على الشروح السابقة أنه يوجد لدى المسلمين إدراك واعي بطبيعة النفس وعلاقتها بالشيطان من حيث الميل نحو السيئ من التصورات والأفعال، وخاصة في جانبي الشهوة والغضب.
ولهذا ففي أغلب الأحيان لا يذكرون النفس إلا ويقرنونها بالحديث عن الشيطان لتعاون كلا الطرفين في الموضوع السيئ الأبعاد، وقد تجلى هذا الربط بين الجانب الغضبي والنفسي والشيطاني بصورة واقعية وعملية في الحديث الذي رواه البخاري عن عدي بن ثابت حدثنا سليمان بن صرد قال: "استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس وأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" . فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: إني لست بمجنون"[6].
وهذا يبين لنا أن الإنسان في حالة الغضب قد يصرفه الشيطان حتى عن الاستعادة منه، لأنه أصبح ممتلكه وتحت استحواذه آنذاك إلا إذا لحقته رحمة من الله يستبصر بها مصداقا لقول الله تعالى: "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم، إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون"[7].
وعند هذا الصرف الذي قد يتمكن به الشيطان من نفس الإنسان سيحدث الخلل في الملاحظة النفسية وذلك بالخلط بين وسوسة النفس ووسوسة الشيطان كما ظهر من خلال تعبير المخاصم الغضبان بقوله: إني لست بمجنون" ورفضه الاستعادة من الشيطان الرجيم، ظانا منه أن غضبه هو مجرد رد فعل نفسي غريزي عادي لا علاقة له بوسوسة الشيطان، وأن الذي يمسه الشيطان ويتطلب الاستعاذة منه يكون مجنونا أي ذا طبيعة مرضية.
***
الدكتور محمد بنيعيش - أستاذ الفكر والحضارة
...............................
[1] سورة الشورى آية 24
[2] سورة آل عمران آية 134
[3] رواه البخاري في كتاب الأدب
[4] العسقلاني: فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج10 ص 637-638
[5] محمد عثمان نجاتي: القرآن وعلم النفس، دار الشروق ط5-1414-1993 ص82
[6] رواه البخاري في كتاب الأدب
[7] سورة الأعراف آية 200-201
للاطلاع
https: //www.youtube.com/shorts/0vyZK-CAiR4?feature=share