دراسات وبحوث

إنتزال الجبوري: نحو وعي تربوي جديد في عالم متغير (5)

5 -القدرة على توجيه الصفات الموروثة لدى الطفل:

يُعتبر عامل الوراثة من العوامل الأساسية أيضا وأوّلها في تشكيل شخصية الطفل. ليس بالضرورة أن يرث الطفل الصفات الوراثية من أبويه المباشريْن (الأم والأب)، لأن الجينات الوراثية لا تخص الأبوين فحسب بل الأجداد وآباءهم، وأحيانا الأجداد الأوائل، سواء في الصفات الجسدية مثل الشكل، أو لون البشرة، أو لون الشعر، أو لون العيون، أو بعض القدرات العقلية كالذكاء، أو العادات كالكرم والنخوة، أو الصفات كالعاطفة العميقة والشجاعة، أو غيرها.

وينزع الأهل على الدوام إلى أن تكون كينونة الابن هي نسخة مطابقة من كينونتهم خاصة إذا كانوا حاملين الصفات الحسنة كالجمال، والذكاء، وقوة الجسم، وغيرها؛ ف "فوراثة الطفل لا يحدّدها الآباء المباشرون فقط بل انه يرث جدوده أيضا، إنه يرث أسلافه أكثر مما يرث من آبائه المباشرين وكلما ابتعد الجد تناقص تأثيره، وبصورة نسبية يمكننا القول بأن الطفل يرث النصف من أبيه وأمه، والربع من جده وجدته، والثمن من أبويهما وأميهما، وهكذا. وهذا بعض السبب في أن الوالدين الذكيين يكون لهما أولاد أقل ذكاء منهما، وأن الوالدين الغبيين يكون لهما أطفال أكثر ذكاء منهما، إنه تأثير الجدود الأباعد، ولكننا نعود ونذكّر بأن أثر الوالدين المباشرين أعظم وأهم في الوراثة" [1]، خاصة إذا كان الزواج بين الأقارب؛ فإن الصفات الوراثية التي يرثها من الأجداد تتركز عند الطفل.

الوراثة تعطي المواد الخام الأولية، أو الجذور التي تتولاها البيئة بالتنمية والصقل والتهذيب والتربية، أو بالإهمال والطمس والتلاشي والضياع-حسب نوع البيئة التي يتربى فيها الطفل، فالبيئة هي التي تحدد مسار القدرات والصفات المحددة أصالة وراثيا التي لدى الطفل، وتحسن استخدام مساراتها بنحو مستقيم، أو تسيئه بنحو منحرف. الذكاء مثلا صفة وراثية لكن استخدامه وتوظيفه واستغلاله يخضع لظروف البيئة، وقدرتها على توجيهه وإرشاده وتنميته وترقيته نحو الإبداع والإنتاج، في العلم، أو الفن، أو الاختراع في مجال من المجالات الكثيرة، أو نحو الانحلال، والانحراف، وارتكاب الجريمة، ورذائل الأخلاق.[2]

وتقتضي القدرة على توجيه وصقل الصفات الموروثة إدراك المربي لمسألة الاستعداد التكويني لدى الطفل، والتنبه إلى الموروثات الجيدة بما فيها الاستعداد العقلي الجيد، والعمل على توقيتها وتنميتها وتوجيهها والنأي بالطفل عن الموروثات السيئة "إن المخزون الكامن من الموروثات لا يمكن أن يصل وحده في التأثير إلى الغاية المقصودة من التثقيف بل لابد معه من ظروف وطاقات تكشف هذه الموروثات الكامنة في النفس، وتستثمرها. وتحتوي البيئة على هذه الظروف والطاقات المؤثرة بطرائق مباشرة، أو غير مباشرة في تكوين شخصية الطفل، ومن أقواها العوامل الثقافية التي تكتنف محيط الطفل، ويتعدى أثرها إلى التغلب على موروثاته السيئة"[3].

المربي الواعي يوجّه ويطوّر الصفات الجيدة الموروثة من الأجداد أو الآباء بنحو إيجابي، ويفتح للطفل نافذة للإبداع من خلالها، كالشجاعة -مثلا، حين يستغلها المربي ويوجهها صوب الجد، واقتحام الصعوبات، وتحقيق الإنجازات بجدارة وحكمة، والصفات السيئة يهذّبها، أو إذا لم يكن قادرا يزحزحها شيئا فشيئا حتى تندثر؛ خاصة في زمن التغيير والتجديد اللحظي؛ كالتردد والخوف بتقديم التمارين التي تروّضه على تجاوز الخوف وتعزيز الثقة بالنفس. كما إن تلقّي الطفل كلمات التحفيز الإيجابية تجعله يندفع بقوة لتحقيق ذاته.

"من هنا يحسن بالوالدين التعرف على القدرات الحقيقية للطفل كي لا يضيعا له من مستويات الطموح ما لا يتفق وقدراته؛ فاعتقاد الوالدين بتدني مستوى ذكاء طفلهما ينعكس على سلوكه لأنه قد يؤدي بالفعل إلى الفشل حتى ولو لم تكن قدرات الطفل كذلك"  [4] .

بالنتيجة قدرة المربي على توجيه الصفات الموروثة للطفل خاصة في بواكير نشأته هي عامل مهم وأساس، وتعتمد على ثقافة المربي ووعيه في تهذيب وتشذيب تلك الصفات.

عقاب الطفل في التربية الحديثة

نسميه عقابا ويُسمى في التربية الحديثة تأديبا؛ فإن العقاب يستبطن معنى ذا مردود سلبي على نفس الطفل، والتأديب يستبطن معنى ذا مردود إيجابي؛ إذ التأديب يعني التهذيب وتعديل سلوك الطفل، والتهذيب يعطيه سلوكا إيجابيا يجعله يتبع المثل العليا. عقاب الطفل في التربية الحديثة لا يكون شديدا وقاسيا بل خفيف لا يترك أثرا عميقا في نفسه.

من واجبات الطفل تجاه نفسه أهمها أن يكون معتدلا جدا وقنوعا وهذا يرتبط بأنه كائن واع إذ يملك كرامة معينة تجعله أنبل من سائر المخلوقات الأخرى كلها، وأن من واجبه أن يتصرف بطريقة لا ينتهك فيها كرامة الإنسان في شخصه، على سبيل المثال أن نرتكب خطايا غير طبيعية أو نمارس كل أنواع المخالفات وغيرها، وهي تصرفات تضع الإنسان في مرتبة أدنى من الحيوانات[5].

يستمع الأطفال اليك بعد أن تستمع أنت إليهم، يعني على المربي أن يهيئ بيئة تربوية تساعد الأطفال على الإصغاء وتعلمهم فن الاستماع، بعيدا عن التهديد والدفاع عن أنفسهم[6].

كيف يمكن أن نتعامل مع الطفل المشاكس، أو الحاد عن خط طاعة المربي هذا يتبع أسلوب المربي في التربية. يمكن للمربي استخدام أسلوب رمزي مع الابن في حالة صدور تصرف أو سلوك منه غير مُرضٍ كالكذب، أو أذى أخيه الأصغر، ففي مثل هذه الحال لا يجب الصراخ بوجهه أو ضربه؛ إنما يمكن أن يوبّخ بشكل رقيق هادئ غير متشنج، أو يترك في مكان لوحده في المنزل ولا يتكلم معه الأهل حتى يعود، أو يمتنع الأب عن تلبية طلب له، أو إظهار الامتعاض على وجهه أمام الابن، أو يُعامل باللامبالاة الوقتية وعدم الاحترام له بشكل مؤقت، أو لوم الطفل على ارتكاب الخطأ، ولا يجب أن يستمر إذا ترك اللوم أثره عليه حتى يتراجع، ولا يرتكب الخطأ مرة أخرى، و"يجب أن يطبق العقاب الموجه إلى الأطفال بكثير من الحذر، كي يفهموا أن الهدف الوحيد هو تحسين حياتهم"[7]. أو يمنع عنه مصروفه اليومي، ليدرك خطأه، ويتعلم منه، وإذا لم يجد نفعا العقاب الرمزي يلجأ المربي إلى استخدام العقاب الجسدي الذي لا ينبغي أن يكون شديدا بل هادئ وحذِر، كأن يضرب الطفل خاصة حينما يهدده أنه سيضربه، وإذا ارتكبه يجب أن يضربه ضربا خفيفا لا يؤدي إلى أي ضرر بدني، فتنفيذ العقوبة يعلم الطفل التحكم بإرادته، فضلا عن تعليمه الصدق، والخطأ طبع إنساني، ولا ينبغي أيضا فسح المجال لفعل أي شيء يريده؛ فترسيم حدود الطفل في التعبير عما يرومه مهم جدا، ويعدّ شخصه ليكون كائنا اجتماعيا منضبط السلوك.

حدثتني إحدى الأمهات عن أسلوب العقوبة لديها حينما تخطئ ابنتها تأمرها أن تقف وراء باب إحدى الغرف فقط -حسب عمره-، يعني إذا كان عمره سنتان يقف خلف الباب دقيقتين، وإذا كان ثلاث سنوات يقف ثلاث دقائق، وهكذا.  تقول: هذه العقوبة هي خفيفة لكنها حققت نتائج جيدة وفائدة لي ولها كذلك، ولم تكرر الخطأ مرة أخرى.

خبيرة التربية جان نيلسن تطلق على عملية تأديب الطفل تسمية "الاستراحة التأديبية" بدلا عن العقاب السلبي أو "العزلة العقابية" أو "كرسي العقاب" كما أطلقت عليه، ويعني كرسيا أو مكانا يختاره المربي أبًا كان، أو أمًا، أو معلما يوضع فيه الطفل قسرا عندما يرتكب خطأ، فيشعر فيه الطفل بالعزلة والنبذ والبعد عن الأقران، ظنا منهم أن الطفل حينما ينعزل يفكر مليا، ويستدرك خطأه، ولا يرتكبه في المستقبل. أما في المدرسة فهو الوقوف لمدة محددة في زاوية الصف ووجه الطالب نحو الجدار، أو إرساله إلى غرفة المدير، وقد ينال العقاب، أو الطرد من المدرسة. [8]

أسلوب الاستراحة الإيجابية يعتبر لدى خبيرة التربية نيلسن من أساليب التربية ذات المردود الفعال والمفيد كونه يجعل الطفل قويا وراغبا من داخلة في التحسن والتغيير. تعني الاستراحة الإيجابية وضع الطفل في مكان خاص بالاتفاق معه، وإشراكه في تسميته، وهو مكان يمكّن الطفل حين يشعر بالضيق والغضب أن يذهب إليه لتنفيس غضبه، ويمكن للطفل نفسه أن يختار اسم المكان دون تدخل من المربي كأن يطلق عليه اسم(مكان تحسين المزاج، مكان تنفيس الغضب، مكان ضبط النفس، مكان تحسين العقل، مكان تحسين الشعور، وتحسين السلوك)؛ هذه الأسماء للمكان تعزز لدى الطفل فكرة الإحساس لامتلاكه المكان. ويمكن إخباره بأن هذا المكان يمكّنه من اتخاذ القرار حينما يشعر بتحسّن ويصبح مستعدا ليظهر سلوكا جيدا ومفيدا للآخرين. وعلى المربي أن يخبر الطفل متى شعر بالضيق والغضب أن يذهب إلى المكان من تلقاء نفسه دون أمر من المربي نفسه. ومن الممكن إشراك الطفل في اختيار المكان الذي يحتوي على أشياء يحبها الطفل مثل حيوانات قطنية، دمى، كتب، وسائد ناعمة، كراسي مريحة، سماعات إذن، موسيقى هادئة، أوراق وألوان ليرسموا ويعبروا عن مشاعرهم، ومكعبات، وأكياس ملاكمة للتنفيس عن غضبهم، ...الخ مما يختاره الأطفال أنفسهم.

وقد يشترك طفلان في مكان واحد، وهنا يمكن للمربي أن يحدد وقتا لكل طفل حتى لا يدع مجالا للمشاكسة والعراك لأنه مكان تفريغ الغضب والراحة. ويجب أن يترك المربي للطفل تحديد وقت المضي في المكان الإيجابي لا إملاء رأيه فيه  .[9]

العقاب الإيجابي أو الاستراحة الإيجابية تعتمد على فكرة " إن جميع البشر (بما فيهم الأطفال) أن يكون لهم احترام وكرامة. وهذا مبدأ أساسي لدى العالم ألفريد أدلر مؤسس علم النفس الفردي، وهي الفلسفة التي تدعو للحفاظ على احترام كل البشر وكرامتهم [10].

الصراخ والصياح دليل على فشل المربي وإعلان إفلاسه الفكري تجاه طفله الذي مازال إنسانا يتشكل ويتعلم. ينبغي أن يتعلم المربي "استراتيجيات التحكم في الغضب"، حتى يستطيع منح الطفل المهارات التي تساعده على التعامل مع ضغوط الحياة في كل محطاتها، في المنزل، والشارع والمدرسة والمحيط العام، المهارات تلك تساعدهم على الحفاظ على السلامة النفسية والعاطفية والجسدية[11] . الصراخ بوجه الطفل الرضيع ليس صحيحا، فالطفل منذ الشهور الثمانية يستطيع تمييز لغة وجه أمه إن كانت راضية ومرتاحة، أو غاضبة. تستطيع الأم من إنشاء لغة خاصة بينها وبين طفلها الصغير، وتستخدم لغة الوجه الهادئة غير الغاضبة، والإشارات، والتعبيرات الإيجابية له حتى تمكنه من النشوء والنمو الهادئ الساكن الذي يحقق له الراحة النفسية في مقتبل أيامه.[12]

وليس صحيحا حينما يغضب الطفل توجه له الألفاظ غير اللائقة والفضة من قبل الأم أو الأب، بل يجب أن يترك الطفل في مكانه حتى تنتهي لديه موجة الغضب ويعود هادئا. يقول راي بيرك صاحب كتاب "تربية الأطفال بالفطرة السليمة": إن توضيح عواطف الأفعال أمر مهم ضروري فالعواقب تساعد الأطفال على معرفة أن أفعالهم تؤدي إلى نتائج إيجابية أو سلبية، ومن ثم يتعلم الأطفال أن الحياة مليئة بالاختيارات، وأن اختياراتهم تؤثر بشكل هائل على ما يحدث لهم" [13].

الأطفال سيئو السلوك هم أطفال محبطون، يعني على المربي أن يدخل في عالم الطفل الداخلي؛ ليكتشف سوء السلوك، ويتعامل مع القناعة الكاملة وراء السلوك السيء. ويجب أن يخضع المربي إلى تمرين يعلمه فن دراسة وفهم السلوك السيء حينما يصدر من الطفل، وفهم مشاعره، وتعليمه بضع خطوات صغيرة للتخلص منه لأنه يتألم[14]، والطفل المحب يحتاج إلى المحبة والاهتمام والاحترام وتوجيه اهتمامه نحو التعلم لتطوير إدراكه لقدراته[15]. يظهر الأطفال سلوكا أفضل عندما يشعرون بشعور أفضل، والوسيلة الفعالة في هذا المجال هي الاستراحة الإيجابية للطفل التي أوردناها. حيث يتحسن الشعور لدى الطفل ويتحسن سلوكه[16]. الإيمان بقدرات الطفل وأنه يستطيع تحمل المشاعر الصعبة والإحباطات والمشكلات وأن نثق بقابلياته على حلولها مع دعمه بالحنان والاهتمام [17].أن نؤمن به قبل أن نطبق فكرة التأديب الإيجابي حتى تكون تجربة فعالة ومشجعة ومفيدة للطفل لا أن تكون مهينة ومحقّرة ومذلّة له.

منح الحرية للطفل لممارسة حقه الطفولي وإشباعه حسب طبيعته، هو من مناهج الأبوة والأمومة العادلة، والمتوازنة، والصارمة دون عنف واستبداد، وتدع مجالا للطفل أن يكبر بشكل تدريجي ويأخذ حقه الطفولي كاملا من اللعب، وممارسة كل فعالياته البريئة حتى ينمو وينضج.

(يتبع)

***

إنتزال الجبوري - باحثة

......................

[1] عاقل، فاخر. مصدر متقدم، ص257.

[2]أنظر: العيسوي، أ.د. عبد الرحمن. سيكولوجية الطفولة والمراهقة. عمّان- الأردن: دار أسامة للنشر والتوزيع، 2009، ص25.

[3] الجندي، أنور. مفاهيم العلوم الاجتماعية. بدون مكان النشر: بدون دار النشر، بدون تاريخ، ص76.

[4] عبد الله، عبد الرحمن صالح. دراسات في الفكر التربوي الإسلامي. بيروت: دار البشير، ط1، 1408هـ- 1988م، ص57.

[5] كانط، مصدر متقدم، ص99-100.

[6] نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص152.

[7] كانط. مصدر متقدم، ص90.

[8] نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص14.

[9] نيلسن، جان. مصدر متقدم، ص36-39.

[10] نفس المصدر، ص27.

[11] أبي أرجوك لا تفعل هذا، ص73.

[12] نفس المصدر، 74.

[13] نفس المصدر، ص95.

[14] نفس المصدر، ص27.

[15] نفس المصدر، ص165.

[16] نفس المصدر، ص153.

[17] نفس المصدر، ص158.

 

في المثقف اليوم