دراسات وبحوث

الإسلام ومجال اشتغالاته في السياسة (6)

في الإسلام تكون المباديء الكلية هي نتاج المطلق الإلهي، وهناك قواعد كلية وإن كانت عقلية من أستنتاج البشر لكنها ضمن أطار المباديء والقيم التي يحددها القرآن الكريم، أما تطبيقات هذه الكليات، وتنفيذها فيقوم بها البشر، وما يترشح منه من أجتهاد في بناء النموذج السياسي، ومن الطبيعي أن يكون أحتمال الخطأ بالتنفيذ وارد، وهذا الخطأ سببه قد يكون الفهم غير التام للنص الذي وضعه المشرع، وهذا متوقع من الأنسان (لأن كل فهم وتفسير من المفسر يتوقف على قبلياته وأفتراضاته المسبقة)(الهرمنيوطيقا وأشكالية التأويل ص66:  د.مصطفى عزيزي) ولاننسى مشاعر ووجدان وأرادة ونوازع المطبق للسياسة التي لها الأثر بورود الخطأ في الممارسة والتطبيق . مسألة الخطأ في الممارسة السياسية رُكبت عليها مغالطات كثيرة، حتى أصبحت منطلق للتشويه والتلبيس والأساءة للإسلام، حتى إن الكثير جعل منها دليل يلوح به على عجز الإسلام من تقديم نموذج ناجح للفكر السياسي، في حين أن المبدأ شيء، ومن يمارسه شيء آخر، وهذا يعتمد على كفاءة، وصدق، ونزاهة المطبق لهذه المباديء الكلية السياسية، كما قلنا كذلك يعتمد على قبلياته الفكرية وأدواته المعرفية، وخلفيته الثقافية . ولكن لضمان التطبيق المتسم بالصدق والأخلاص من قِبل الفاعل السياسي، بالأضافة لما ذكرنا من أهلية فكرية، ينبغي أن يتمتع بعاملين مهمين لضمان التطبيق النزيه لهذا النموذج، وهو مما لا يتوفر في غيره من الأنظمة السياسية الوضعية، وهذين العاملين هما القيم الأخلاقية التي يحرص عليها الإسلام، والتي هي أحد العناصر المهمة في الدين الإسلامي، وكذلك الأيمان بعقيدة الجزاء الأخروي من قِبل الفاعل السياسي،أي عقيدة الأيمان بالثواب والعقاب، وهما عاملان يعتبران الضمانة المهمة للتطبيق النزيه في رسم وتنفيذ النموذج الإسلامي للحكم، ومن مفردات هذه القيم، الأمانة، وقد بين النبي (ص) ذلك حين قال (أذا ضيعت الأمانة فأنتظر الساعة . قيل وكيف إضاعها ؟ قال إذا وسد الأمر الى غير أهله)(البخاري: كتاب العلم)، وقد أكد القرآن ذلك (ياداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى..)(سورة ص: 26)، كما أن من المهم على الفاعل السياسي أن يدرك بشكل جيد مقاصد الشريعة الإسلامية، والتي تهدف الى تحقيق مصالح الناس وتدبير شؤونهم بالعدل، وحفظ النفس المحترمة، وحماية الأمن والمال والحرص على كرامة رعايا الدولة من أي أعتداء سواء كان من الداخل أو الخارج، فالأخلاق عنصر أساسي، وعامل حاسم في مكافحة الفساد السياسي، وكبح حالات الأحتكار لها، وهذا ما جعل الفارابي يعتبر الأخلاق جزء لا يتجزء من السياسة، حيث يقول (بأن الدولة (المدينة) يجب أن تشتمل على صفات الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة)(الفقه الإسلامي ص96:  الفهدوي)، ومن الملاحظ حتى الفلاسفة المسلمون الذين تأثروا بالفلسفة اليونانية، وفلسفتها السياسية المتمثلة بأرسطو وأفلاطون كأبن رشد يرى من الضروري لبناء الدولة الفاضلة أن يكون الإسلام هو القانون الكامل للدولة الكاملة أو الفاضلة (الفقه السياسي ص97: الفهدوي).

لكي يسير النظام السياسي الإسلامي على أكمل وجه، علينا توفير البيئة الأجتماعية التي تتعشق مع هذا النظام، وتتعاضد معه، لأن الإسلام يعتبر تطبيق النظام هو عملية تضامنية (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(معارج اليقين في أصول الدين: الشيخ محمد السبزواري ص327)، كما أن الراعي للنظام السياسي هو الآخر عامل مهم في ضمان سير تطبيق النظام السياسي، وأن يؤمن به، وأن يكون الرعاة له على مستوى عالي من الأمانه والأخلاص والكفاءة في تطبيقه، وأن لا يكونوا من ذوي النزعة الأبتلاعية، والأستغلالية، وذوي طبع أستبدادي، فالنظام الإسلامي لايقوم بالأسم والشعار كما حصل في الدولة الأموية والعباسية، فقد حكموا بأسم الإسلام من دون مراعاة لقواعده الفقهية السياسية، ومن حَكم لم تتوفر فيه الصفات الأخلاقية التي ذكرناها أعلاه، ولم يكونوا من المؤمنين أصلاً بالإسلام، وأنما جعلوا من االإسلام حصان طروادة للوصول به لسدة الحكم، فقد قال معاوية بن أبي سفيان (ماقاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، وقد أعرف أنكم تفعلون ذلك، ولكن إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، فقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون)(بحار الأنوار ج44 ص53)، فكانت هذه النماذج من الحكم سيئة وفاشلة، بل أعطت صورة لايزال الإسلام متهم بسببها بالدكتاتورية والأستبداد السياسي، فكان تطبيقهم تطبيق مشوه ومتعسف، ولا يمت للإسلام بصلة، لا من ناحية قواعد الحكم، ولا من ناحية الحاكمين، الذين هم بعيدين كل البعد عن فهم الإسلام وأخلاقه السامية .

يتضح لنا أن تطبيق النموذج الإسلامي للحكم له ثلاث مرتكزات أساسية، وهي وجود القواعد والضوابط الكلية للفقه السياسي الإسلامي، بالأضافة الى وجود رجال حكم أكفاء مؤمنين بالنظام، ويتصفون بالكفاءة والنزاهة، ويؤمنون بمبدأ الجزاء الأخروي،وثالثاً حضور منظومة القيم والأخلاق الإسلامية كسور يحمي رجال الحكم من الأنحراف والزلل، فالمبدأ الأخلاقي، والأيمان بالجزاء الأخروي يُعد ضمانة لنجاح هذا اللون من الحكم، وبدونه يتحول الى حكم ثيوقراطي يتستر بالدين ليكون مطية للحكم من قِبل جلاوزة من الحاكمين، ولم يبخل التاريخ بتزويدنا بالكثير من الأمثلة لحكام مستبدين جعلوا من الدين ستار يغطوا به أهدافهم السلطوية . أن ما قدمناه من أدلة أُستنبطت كقواعد كلية من القرآن الكريم والسنة النبوية والعقل، يعضدها تجربة الحكم التي أقامها رسول الله في المدينة المنورة، وما أقامها الخلفاء الراشدون من بعده، وهي تجارب تدل دلالة واضحة على ممارستهم للسلطة السياسية، ونظام الحكم، حيث توفرت فيها كل عناصر الدولة من سلطة سياسية، ورعايا، وجغرافية لها مساحة محددة من الأرض، وهذه هي مقومات تكوين الدولة، فقد كان لهذه الدولة عاصمة وتُسمى المدينة المنورة، والتي أنتقلت بعد ذلك الى الكوفة، ولها أقاليم، وولاة تحكمها، وكان لهذه الدولة دواوين تُسير أمورها، كبيت المال وديوان الجند، وديوان القضاء وغيرها من الدواووين، كما يمكننا أن نُشير الى إشارات واضحة وردت في القرآن الكريم تؤكد وجود عنصر الحكم في الإسلام، وأنه يمثل أحد العناصر الضرورية التي أشار أليها المشرع الإسلامي، ومنها:

1-(إن الحكم إلا لله)(الأنعام:57)

2-(وله الحُكم وإليه تُرجعون)(القصص:70)

3-(وما أختلفتم فيه من شيء فحكمه الى الله)(الشورى:10)

4-(قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ماعندي ماتستعجلون به إن الحكم إلا لله يُقص الحق وهو خير الفاصلين)(الأنعام:57)

5-(ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم وما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أَمر ألا تعبدوا إلا أياه..ز)(يوسف:40)

6-(...وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما أختلفوا فيه...)(البقرة:213)

7-(ألم تَر الى الذين أُتوا نصيباً من الكتاب يدعون الى كتاب الله ليحكم بينهم ...)(آل عمران:23)

8-(ماكان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله.زز)(ال عمران:79)

9-(إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل..)(النساء:58)

10-(فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ..)(النساء:65)

11-(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله....)(النساء:105)

12-(...وأن حكمت فأحكم بينهم بالقسط...)(المائدة:42)

13-(...ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الظالمون)(المائدة:45)

14-(... مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ..)(المائدة:48)

كلمة الحكم التي وردت في هذه الآيات تدل دلالة واضحة بأن الحكم أحد المفردات التي رُكزَ عليها في النص القرآني، وأشار الى ضرورة الأخذ بها، ولزوم العمل بها، كما أن من غير الممكن أن تكون عملية الحكم بدون مؤسسة قضائية، والمؤسسة القضائية لايمكن أن تكون إلا ضمن دولة، أذن الدولة في الإسلام أحد لوزام أقامة الحكم ووسيلة من وسائل تنفيذه، والمؤسسة القضائية بطبيعة الحال تحتاج الى قاضي، والقاضي لايمكن أن يحكم إلا بوجود قانون، وكل هذه لا يمكن أن تقوم ألا بالدولة.

فيما وردنا أعلاه قد أكتملت الصورة التي تتحقق بها أقامة الدولة، حيث القواعد الكلية للتشريع، مع وجود القضاة والمؤسسات القضائية، والتي لايمكن تحقيقها الا بوجود جهة تنفيذية تنفذ ما يصدره القضاء من أحكام، أضافة للقانون الأخلاقي والأيمان الديني للجزاء من قِبل العاملين في هذا المضمار، كل هذا يشكل ضمانة وحماية للنظام السياسي من الأنحراف، وتبقى ضمانة غير تامة لأن المنفذ هم البشر، والبشر عنصر قابل للخطأ، وهذه الخاصية جداً مهمة أن تُفهم من قِبل الجمهور بأن الحكم مصدره ألهي، لكن من ينفذه هم البشر، مما يجعل من الخطأ أحتمال وارد جداً. هذا الفهم ضروري لكي لا ينعكس الخطأ الصادر من البشر على الدين نفسه، ويحصل الألتباس بين ما هو ألهي وبين ما هو بشري.

خلاصة الموضوع أن كلمة حكم تعني السلطة الإدارية والقضائية والسياسية، فكلمة حكم تتناغم إذن مع مجموعة من الدلالات كالقيادة، وأصدار الأمر والقواعد والقوانين، ليكون بذلك معنى الحكم هو الممارسة الإجرائية للسلطة التي تمتلك حق الأمر والنهي، والمنع والعقاب والتي تضع القوانين، وتحكم بين الناس وتنظم حياتهم)(العقل السياسي الإسلامي:ص21 قاسم شُعيب). فالسلطة أداة تنفيذ الحكم، وهي أداة ضرورية لأستتاب الأمن والأستقرار، وأقامة النظام، وقد أشار الرسول ص الى هذا المعني في قوله (إن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن)(أبن كثير في تفسيره). فالسلطة ضرورة لابد منها، كما أن الأجتماع الإنساني بفطرته ينزع أليها، لأن مصالح البشر مختلفة، وتحتاج الى تنظيم وترشيد، وذلك يرجع الى طبيعة التزاحم والأختلاف الذي يحدث بين البشر، فالنظام السياسي تحتمه الضرورة البشرية، ولا وسيلة لأقامة حكم سواء كان مرجعيته نصوص مقدسة ألهية أم وضعية إلا بنظام حكم تقوده سلطة سياسية، وقد أشار الأمام علي ع الى هذه الضرورة حين قال (وأنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن ويستمع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به بر، ويستراح من فاجلا)(شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد:ج19 ص16)..  يتبع

***

أياد الزهيري

في المثقف اليوم