دراسات وبحوث
رحيم الساعدي: البعد الوجودي لمفاهيم القران (العوالم = مفاهيم الابعاد)

البُعد (Dimension) معنى قد يدل على الخط المستقيم او على البعدين (طول وعرض)، او الفضاء الثلاثي الأبعاد (طول، عرض، ارتفاع)، وفي اللغة العربية توزع معاني البعد بين المادي (المسافة) والمجازي (الجوانب غير الملموسة). او المفاهيم مثل البعد الروحي، الاجتماعي، النفسي، الوجودي …الخ
وفلسفة الأبعاد تتنوع فلربما تعلقت بالابعاد الخاصة بالأسس الميتافيزيقية، والمعرفية، والرياضية، والوجودية، سواء كان ذلك في الفضاء الفيزيائي، أو الإدراك البشري، أو حتى في الفلسفة الدينية والصوفية.
فمثلا تعتمد الرياضيات والفيزياء على مفهوم الأبعاد لفهم الفضاء والهندسة، اما الابعاد المعرفية فتنحو نحو إدراك الإنسان للأبعاد فيما إذا كانت الأبعاد مجرد تصورات ذهنية أم أنها كينونات مستقلة عن وعينا.
وفي علم المستقبليات والذي يقابله عالم الغيب (سواء غيب التاريخ ام غيب المستقبل) في القران يُنظر إلى الأبعاد بوصفها الاطار المفاهيمي لفهم الزمن والتغيرات المستقبلية، مثل الحديث عن “البعد الرابع” باعتباره الزمن، اما ما يخص فلسفة الدين والمعرفة الصوفية فترتبط مفهوم الأبعاد أحيانًا بالرؤى الروحية، مثل الابعاد الغير مادية للوجود، والعالم الغيبي، والعوالم الروحية، وأبعاد المعرفة الإلهية.
وقد نجد في القران نوافذ وجودية عديدة، يمكن وصفها بالابعاد، منها الابعاد التالية:
١- الزماني ٢- الغيبي ٣- المستقبلي ٤- الميتافيزيقي ٥- النفسي الباطني ٦- البعد المعرفي ٧- المادي ٨- العقلي ٩- المكاني ١٠- الروحي ١١- الاجتماعي ١٢- الوجودي ١٣- الانساني ١٤-الاعجازي.
واتصور ان مفهوم البعد يمثل جزءا من هوية الشيء، بمعنى ان يكون البعد الانساني الخاص بي او العلمي او بعدا الجسد والروح او بُعدي الذي يرتبط بالعالم الاخر او بُعدي الاجتماعي والنفسي والوجودي، الخ، كل هذه الابعاد اننا هي جزء من ماهيتي وهويتي، وقد يقال ان هذه ليست الا صفات للانسان او الموجود، ولعل ذلك يصح، لكن مفهوم البعد يعني الوجود الاخر المتميز لشيء ما.
حتى انه يمكنك ان تعد الموبايل بمثابة البعد الوجودي الالكتروني، وقد اصبح الجانب الإلكتروني اليوم، هو البعد الاهم، لانشغال الشعوب قاطبة به، ولفترات زمنية طويلة بالقياس الى معايشة العالم الواقعي، مما ولد فصلا وانعزالا عن ممارسة الواقع وامراض تتعلق بالنسيان والامراض البدنية والنفسية. وهذا البعد اصبح اشبه بالشخصية المعنوية، فوجودي في الفيس مثلا، اصبح واقعا يعتمد عليه، وهو بعد الكتروني يظهرني اكثر من وجودي الحقيقي للناس.
وساستعرض بشكل عجول بعض الابعاد الخاصة بالقران وهو الكتاب الخلاق الذي يقل بالتدريج الاهتمام به مع تطور العالم واتضاح افاقه، و الذي يتوجب قراءته بمخيلات خارقة متعددة وليس بالية الرتابة وعدم الاهتمام.
واعود للحديث عن الابعاد المختلفة فالبعد الزماني في القران، يتصف بالنسبية، فقد قال تعالى ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ (الحج: 47)، لكن لفظة الخلود تدل على بعد زماني مختلف، بمعنى انتقال الفرد من البعد النسبي في حياتنا المحدودة الى بعد اخر في حياة لا تنتهي، وهذا الامر لم نشهده بعد.
وقد يشترك البعد الزماني مع ابعاد اخرى مثل المكاني او الاعجازي او الغيبي، كما في تداخل حادثة الاسراء ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ (الإسراء: 1)
ومن الابعاد القرانية يبرز الغيب، فالقران يورد الغيب بقوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة: 3) وايضا “الروح” كبُعد غير محسوس قال سبحانه وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (الإسراء: 85)، وعن المستقبل وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ (الأنعام: 59) وتتداخل الابعاد هنا عند سؤال البعد المحسوس عن البعد غير المحسوس.
ان هيدكر يعد البعد الوجودي هو البعد الأساسي في حياة الإنسان في كتاب والزمان، فهو يرى أن الإنسان يعيش في حالة من الزمانية التي سيكون الماضي والحاضر والمستقبل جزء من وجوده وهذا البعد يتجاوز الزمن الفيزيائي إلى الزمن الوجودي، وقد لا يختلف هذا عن مفهوم البعد الوجودي عند سارتر وكيركيجارد، فهذا البعد يتعلق بأسئلة الوجود، الحرية، المسؤولية، والموت، والفلاسفة الوجوديون مثل سارتر وكيركغور يركزون على هذا البعد، اذ يعتبرون أن الإنسان يخلق معنى وجوده من خلال اختياراته وتجاربه.
وما يهمنا هنا هو ليس البعد الزماني، بل تداخل البعد الزماني مثلا بالبعد الوجودي وغيره في القران، وقد نوهنا ان الابعاد القرانية مفتوحة المصدر، فهي تتداخل وتتنوع وتتشابك، بوصفها منظومة متينة البناء، يقود بعضها لاكمال المشهد المعرفي والفكري والميتافيزيقي والتاريخي مع بعضها البعض، ولهذا فان بعض الابعاد قد تشمل مفاهيم مثل الروح، الخلود، أو الاتحاد مع الكون. او الخلق او المجتمع او التاريخ …الخ.
ولابد من الاعتراف بان مساحات حقيقة هذه الابعاد لم تكتمل لدينا نحن البشر البسطاء، ولهذا لايمكننا انتاج المعنى او العلم او المعرفة الافضل لكشف اسرار تلك العوالم او الابعاد. لانها ليست تجريبية ولاننا لم نرسمها وفق التنظير العلمي المبني على التجريد والبرهان.
ولا شك ان القرآن اورد عوالما متعددة تتجاوز عالمنا المادي، مثل عالم الملائكة، الجن، السماوات السبع، الروح، البرزخ، الجنة، النار، العرش، والكرسي. ويمكن وصف هذه العوالم بأنها "أبعاد" غير مرئية أو غير ملموسة للاخرين.
ان علم المستقبليات وايضا أينشتاين في الفيزياء او النظرية النسبية كبُعد رابع يكمّل الأبعاد الثلاثة للمكان، يستخدمان مصطلح “البُعد الرابع” كمفهوم رمزي للإشارة إلى الزمن بوصفه عنصرًا أساسيًا في تحليل التغيرات المستقبلية. لكن في المستقبليات، يتم استعارة هذا المفهوم لاستخدام الزمن كإطار لفهم التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، في عوالمنا الواقعية وايضا استخدام نماذج الاستشراف، والتنبؤ السيناريوي، والتخطيط الاستراتيجي لفهم كيف يمكن أن تتطور الظواهر بمرور الوقت.
ولعل البعد المستقبلي في القران يحتاج الى وقفة اخرى بمقال اخر، فالقران تحدث عن النافذة المستقبلية، بل انه اعطى تصورا عن ابعد انواع الفهم المستقبلي بعد نهاية العالم وانهيار المنظومة الدنيوية، ليرسم بعد العالم الذي لا ينتهي، ويفصل بطبيعته وحياته الواقعية. مع هذا نجد القران يتحدث عن سيناريوهات واشارات مستقبلية مهمة مثل:
١-انتصار الروم على الفرس كما في {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (سورة الروم: 1-4). ٢- وفتح مكة (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ) (سورة الفتح: 27). ٣- وانتشار الاسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ}** (سورة التوبة: 33). ٤-وعلامات الساعة (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَينَهُم يَومَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) (سورة المؤمنون: 101). ٥-وخروج ياجوج وماجوج وظهور عيسى.
ان العوالم في القران ليست الا الابعاد المختلفة، وهي ارخبيل معرفي غيب ولا يمكن توصيفها بدقة إلا بما عرفناه من النصوص الدينية التي عرفناها، لاننا لم نملك الادوات التي تجعلنا نخوض تلك التجربة، لكننا يتوجب علينا التنظير لتلك الابعاد وفق تجميع النصوص ومقارنتها وتحليلها، خذ مثلا عالم الملائكة وهم (عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء: 26-27). او عالم الجن وهم مخلوقات من نار، وهي غير مرئية لنا، ولكنها تعيش في عالم موازٍ لعالمنا {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} (الرحمن: 15).
وهذا البعد لم تناقشه الفلسفة لانها تعده من الاساطير في حين انه ينتمي الى الواقع واحيانا الى (الواقع المعزز الشخصي) لبعض البشر الذين يصابون بمرض الجن، فتتداخل العوالم لدى الفرد المصاب ليعيش في عالمين، وهو اقرب الى مشاكل المرض النفسي منه الى اللعبة والتسلية، ومثال ذلك ايضا التوحد وانفصام الشخصية، بل يمكنني اضافة تجربة الاحلام ايضا الى تلك المنظومة.
ان السماوات السبع والأرضين السبع هي عوالم وابعاد فيزيائية، وقد قال جل وعلى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}** (الطلاق: 12). ولكن العملية ايضا تنتمي الى البعد الميتافيزيقي الغيبي. حتى ان النص هنا يتداخل مع البعد المعرفي والوجودي، وهذا يشمل منظومة خلق الروح، ذلك البعد الذي اشار له رب العالمين بانه يحتاج الى منظومة علمية خارقة (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 85).
والروح هي بعد يرتفع عن المادة و يتعلق بالحياة والوجود.
ومثله مثل البرزخ، وقد قال الله سبحانه {وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}وايضا الجنة والنار**
والعرش والكرسي و عالم الذر وهو البعد الوجودي الاول لاجتماع الناس مع خالقهم، وهو المعروف بعالم الذر، يقول الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ}** (الأعراف: 172).
ويمكننا ادراج الملاحظات الاتية:
١- الابعاد في القران تتوزع على بعد نسبي واخر مطلق، فدائرة الله وصفاته هي بعد لا يتناهى.
٢- البعد الأنطولوجي، وهو اهم الابعاد، يتوزع ايضا على محورين، الاول هو الأنطولوجيا النسبية، والاخرى الأنطولوجيا الخالدة وهي تمثل العالم الاخر.
٣- الابعاد المتعددة في القران تتركز حول الله والانسان، بين البعد المطلق والنسبي.
٤- تتداخل الابعاد فيما بينها، في عالمها الارضي وتتفاعل، ويحملها الانسان معه الى عالمه الاخر. فهي حصيلة وجوده وكينونته وماهيته التي لن تتغير، فكل نفس بما كسبت رهين.
***
ا. د. رحيم محمد الساعدي