دراسات وبحوث
محمد أحمد عبيد: علاقة الإنسان بالله في الفضاء السيبراني

الملخص: تسعى هذه الدراسة إلى مقاربة فلسفية-عقدية لبحث علاقة الإنسان بالله في الفضاء السيبراني، في ظل التحولات العميقة التي أحدثتها الثورة الرقمية في أنماط المعرفة والهوية والتدين. وتنبع أهمية البحث من أنّ الفضاء السيبراني أصبح فضاءً وجوديًا جديدًا يفرض إعادة التفكير في صلة الإنسان بخالقه، سواء على مستوى الإدراك أو الممارسة أو المعنى، وهو مجال لم يحظَ بعدُ بدراسة معمقة من زاوية فلسفية-عقدية.
وقد اعتمد البحث على المنهج التحليلي النقدي للكشف عن التحولات الفكرية والروحية التي فرضها العالم الرقمي، مع توظيف المنهج الاستشرافي لاستطلاع مآلات العلاقة بالله في المستقبل.
وقد توصلت الدراسة إلى عدة نتائج، أبرزها أنّ الفضاء السيبراني يعيد تشكيل الإدراك العقدي عبر وفرة المعرفة وتناقض الخطابات، مما يفتح آفاقًا للتفكر لكنه يهدد بالتشظي والسطحية. وقد أوصت الدراسة بضرورة بناء مشروع فلسفي-عقدي متجدد يعيد تجذير العلاقة بالله كجوهر أصيل، ويوظف التقنية لتعزيز الروحانية بدل إضعافها.
الكلمات المفتاحيّة: الخالق عز وجل، الإنسان، الفضاء السيبراني، التحول الرقمي، الذكاء الاصطناعي.
Abstract:
This study seeks a philosophical-theological approach to exploring the human relationship with God in cyberspace, in light of the profound transformations brought about by the digital revolution in patterns of knowledge, identity, and religiosity. The importance of this study stems from the fact that cyberspace has become a new existential space that requires a rethinking of the human relationship with their Creator, whether at the level of perception, practice, or meaning. This is an area that has not yet received in-depth study from a philosophical-theological perspective.
The study relied on a critical analytical approach to uncover the intellectual and spiritual transformations imposed by the digital world, while employing a foresight approach to explore the future prospects of the relationship with God.
The study reached several conclusions, most notably that cyberspace reshapes theological perception through an abundance of knowledge and contradictory discourses, which opens horizons for reflection but threatens fragmentation and superficiality. The study recommended the need to build a renewed philosophical-theological project that re-establishes the relationship with God as an authentic essence and employs technology to enhance spirituality rather than weaken it.
Keywords: God Almighty, humanity, cyberspace, digital transformation, artificial intelligence.
المقدّمة
شهد العالم المعاصر ثورة رقمية هائلة أدّت إلى إعادة تشكيل أنماط التفكير والتواصل والمعرفة، وبرز معها ما يُعرف بالفضاء السيبراني باعتباره فضاءً مفتوحاً، لا تحدّه الجغرافيا ولا الزمان، ويؤثر في وعي الإنسان وهويته وعلاقاته.
وفي خضم هذا التحوّل، يبرز سؤال جوهري: كيف تتأثر علاقة الإنسان بالله في عالم تهيمن عليه التقنيات الرقمية وتعيد صياغة تصورات الفرد عن الغيب والمعنى والمقدّس؟
وتنبع أهمية الموضوع من أنّه يمسّ جوهر الوجود الإنساني، إذ يتعلّق بالصلة الروحية والعقدية التي تربط الإنسان بخالقه، ومدى قدرتها على الصمود أو التحوّل أمام ضغوط الثورة الرقمية. كما تكمن الأهمية في أنّ الفكر الفلسفي والعقدي لم يُولِ بعدُ عناية كافية لدراسة انعكاسات الفضاء السيبراني على هذه العلاقة، رغم أنّه أصبح ساحة جديدة للتدين والتشكيك والبحث عن المعنى.
أما أسباب اختيار الموضوع، فتعود إلى ما يعيشه الجيل المعاصر من انتقال جذري نحو العوالم الافتراضية، وما يحمله ذلك من فرصٍ لتجديد الخطاب الديني والفلسفي، ومخاطر على وعي الإنسان العقدي إذا لم يُدرَس هذا التحوّل بعمق ونقد علمي رصين.
وتنبثق من ذلك إشكالية الدراسة، وهي: كيف أثّر الفضاء السيبراني في علاقة الإنسان بالله من حيث الإدراك، الممارسة، والمعنى؟ وهل أدّى هذا الفضاء إلى تعزيز هذه العلاقة أو إلى إضعافها وإعادة تشكيلها؟
ومن هذه الإشكالية تتفرّع أسئلة الدراسة:
ما طبيعة الفضاء السيبراني وأبعاده الفلسفية والوجودية؟
كيف غيّر الفضاء السيبراني من أشكال التعبير الديني والتواصل الروحي؟
ما التحديات التي تواجه العلاقة العقدية باللّه في بيئة رقمية مفتوحة؟
هل يمكن للفضاء السيبراني أن يكون فضاءً داعماً لتجديد الخطاب الديني وتقوية الإيمان؟
أما أهداف الدراسة فهي:
الكشف عن التحولات التي أحدثها الفضاء السيبراني في علاقة الإنسان بالله.
بناء مقاربة فلسفية-عقدية تفسّر أثر العالم الرقمي في تشكيل الوعي الديني.
استشراف آفاق التعامل مع الظاهرة بما يحفظ للإنسان توازنه الروحي والقيمي.
وتقتصر حدود الدراسة على دراسة العلاقة بين الإنسان والله في سياق الفضاء السيبراني من منظور عقدي-فلسفي، دون الدخول في التفاصيل التقنية البحتة أو الجوانب الفقهية التطبيقية المباشرة.
وتعتمد هذه الدراسة على المنهج التحليلي النقدي من خلال تحليل الظاهرة في ضوء المفاهيم الفلسفية والعقدية، مع توظيف المنهج الاستشرافي لاستكشاف مآلاتها المستقبلية.
وفيما يخص الدراسات السابقة، فقد تناولت بعض الأبحاث علاقة الدين بالتكنولوجيا بشكل عام، وأخرى بحثت التدين الرقمي أو التواصل الافتراضي للطقوس الدينية، غير أنّ معظمها لم يركّز بعمق على البعد العقدي والفلسفي لعلاقة الإنسان بالله في الفضاء السيبراني، وهو ما يجعل هذا البحث جديداً من حيث الزاوية والمقاربة.
ويُبنى هيكل الدراسة على ثلاثة مباحث رئيسة:
المبحث الأول: الإطار النظري والمفاهيمي للفضاء السيبراني وعلاقته بالإنسان.
المبحث الثاني: التحولات التي أحدثها الفضاء السيبراني في علاقة الإنسان بالله (الإدراك – الممارسة – المعنى).
المبحث الثالث: مقاربة فلسفية-عقدية لاستشراف مستقبل علاقة الإنسان بالله في العالم الرقمي.
المبحث الأول: الإطار النظري والمفاهيمي للفضاء السيبراني وعلاقته بالإنسان
يشكّل الفضاء السيبراني واحداً من أكثر المفاهيم تعقيداً وتشابكاً في الفكر المعاصر؛ إذ يتجاوز مجرد وصفه كبيئة رقمية أو شبكة اتصالات، ليُعبّر عن فضاء وجودي جديد تتقاطع فيه التقنية مع الوعي الإنساني.
ويعود أصل مصطلح "السيبرانية" (Cybernetics) إلى الكلمة اليونانية kybernetes التي تعني "الموجّه" أو "الربّان"، وهو ما يحيل منذ البداية إلى بعدٍ فلسفي عميق مغزاه: من يقود من؟ هل الإنسان هو الذي يوجّه التقنية، أم أنّ التقنية باتت هي التي تعيد توجيه وعي الإنسان وسلوكه؟(1)
أما اصطلاحاً، فيُعرَّف الفضاء السيبراني بأنه المجال غير المادي الذي تنشئه شبكات الحوسبة والاتصالات، حيث تتشكل هويات جديدة، وتُعاد صياغة العلاقات والمعاني بعيداً عن حدود الزمان والمكان(2).
وهنا لا يكون الإنسان مجرد مستخدم للتقنية، بل يصبح كائناً سيبرانياً يعيش بين الواقعي والافتراضي، بين الجسد المادي والهوية الرقمية.
ومن الناحية التقنية، يقوم الفضاء السيبراني على التفاعل بين الإنترنت، والذكاء الاصطناعي، والواقع الافتراضي والمعزز، وشبكات البيانات الضخمة، غير أنّ ما يهم الفلسفة والعقيدة ليس البنية التقنية في ذاتها، بل ما تُحدثه من تحولات في أنماط المعرفة وإنتاج المعنى، فقد نقل هذا الفضاء الإنسان من المعرفة الخطية إلى المعرفة الشبكية، ومن الذاكرة الفردية إلى "الذاكرة السحابية"، ومن التواصل المباشر إلى التفاعل الرقمي العابر للحدود.
وهذه التحولات لا يمكن قراءتها بمعزل عن السؤال الوجودي الأكبر: كيف يؤثر هذا التوسّع السيبراني في إدراك الإنسان لذاته ولموقعه في الكون ولعلاقته بالمطلق؟
لم يعد الفكر الإنساني بمنأى عن تأثيرات الفضاء السيبراني، فالفلسفة ذاتها تعيد النظر في أسئلتها التقليدية متسائلة: ما الحقيقة؟ ما الهوية؟ ما الحرية؟ وما الغاية من الوجود؟
إذ يفرض العالم الرقمي إعادة صياغة هذه الأسئلة في ضوء معطيات جديدة، حيث الحقيقة باتت تُصاغ عبر خوارزميات، والهوية تُبنى عبر ملفات رقمية، والحرية تُختزل في "خيارات" تتحكم فيها المنصات والشبكات.
وهنا يبرز التوتر بين الفضاء السيبراني بوصفه أداة تحرير من قيود الزمان والمكان، وبين كونه آلية جديدة للهيمنة والسيطرة على الوعي الجمعي.
يتجاوز أثر الفضاء السيبراني حدود الممارسة التقنية إلى إعادة تشكيل الوعي ذاته، فالإنسان لم يعد يعيش تجربته الدينية أو المعرفية كما عاشها في الماضي؛ بل بات يختبرها عبر وسائط رقمية تُعيد تشكيل تجربته الروحية.
وهنا يصبح السؤال الفلسفي-العقدي أكثر إلحاحاً مُثارًا: كيف يمكن للوعي الإيماني أن يحافظ على أصالته في فضاءٍ مفتوح على كل أشكال التأويل، التضليل، والتعدد اللامتناهي في المعاني؟
إنّ الوعي في الفضاء السيبراني ليس وعياً فردياً خالصاً، بل هو وعي متشابك تُسهم في تشكيله ملايين العقول والبرمجيات في آنٍ واحد، وهو ما يستدعي إعادة التفكير في مفهوم الذات ومسؤوليتها أمام الله سبحانه.
وفي ضوء ما سبق، يتضح أنّ العلاقة بين الإنسان والفضاء السيبراني علاقة جدلية بامتياز؛ فهو فضاء يفتح للإنسان آفاقاً غير مسبوقة للتعبير عن إيمانه، والتواصل مع النصوص المقدسة، وبناء مجتمعات روحية عابرة للحدود، لكنه في الوقت ذاته يطرح تحديات عميقة على مستوى الهوية، والمعنى، والقدرة على التمييز بين الحق والباطل.
ومن هنا تتجلّى خطورة هذه العلاقة؛ فهي ليست مجرد علاقة استخدام للأداة؛ بل علاقة وجودية تُعيد تعريف موقع الإنسان بين الأرض والسماء، بين الفناء والخلود، بين العجز البشري والقدرة الإلهية.
المبحث الثاني: التحوّلات التي أحدثها الفضاء السيبراني في علاقة الإنسان بالله (الإدراك – الممارسة – المعنى)
لقد مثّل الفضاء السيبراني نقطة انعطاف في تاريخ الوعي الإنساني، إذ لم يعد الدين مجرد منظومة تقليدية تُمارس في حدود المسجد أو الكنيسة أو المعبد؛ بل أصبح حاضرًا في فضاء مفتوح تتداخل فيه الأصوات والرؤى والتجارب الروحية.
ومن ثمّ، فإن علاقة الإنسان بالله لم تعد بمنأى عن هذه التحولات؛ بل وجدت نفسها في قلبها، تُعاد صياغتها إدراكًا وممارسةً ومعنى.
إن الإدراك يمثل البوابة الأولى لعلاقة الإنسان بالله سبحانه، حيث يتجلّى الوعي بالوجود وبالمطلق، وتتشكّل صورة الإله في ضمير الفرد، فقد أحدث الفضاء السيبراني ثورة في أنماط الإدراك، إذ أتاح للإنسان سيولة معرفية غير مسبوقة، جعلته يتعرّض لفيض متناقض من الخطابات الدينية والفلسفية واللادينية.
وفي هذا السياق، برزت مفارقة مزدوجة؛ فمن جهة عزّز الفضاء الرقمي إمكانية الوصول إلى مصادر الوحي والتفسير والتأملات الفلسفية، بما يقرّب الإنسان من الله ويفتح أمامه آفاقًا جديدة للتفكّر. ومن جهة أخرى ضخّ هذا الفضاء خطابًا تشكيكيًا متناميًا، يخلط بين النقد المعرفي والسطحية الإعلامية، مما يربك الإدراك ويضعف الثقة بالثوابت العقدية.
لقد صار الإدراك في العصر السيبراني إدراكًا مهدّدًا بالتشظي، لا بسبب قوة الحجة الفلسفية دائمًا، بل بسبب إغراء الصورة الرقمية وسرعة انتشارها. وهنا يواجه الإنسان سؤالًا وجوديًا عميقًا: هل يستند وعيه بالله إلى يقينٍ روحي أصيل، أم إلى معطيات متقلبة تتقاذفها المنصات الافتراضية؟
إذا كان الإدراك يمثّل البعد النظري؛ فإن الممارسة تجسّد البعد العملي لعلاقة الإنسان بالله، والفضاء السيبراني غيّر شكل هذه الممارسة بشكل جذري، فقد ظهرت أنماط جديدة من "التدين الرقمي"؛ مثل صلوات تُنقل عبر البث المباشر، وخطب تُلقى عبر المنصات، وحلقات ذكرٍ وتأمل تُعقد في غرف افتراضية، واستشارات فقهية تُقدّم عبر الذكاء الاصطناعي!
لقد جعلت هذه الوسائط الممارسة الدينية أكثر شمولًا وانتشارًا، وأتاحت للمغتربين والبعيدين عن المؤسسات الدينية التقليدية أن يحافظوا على صلتهم بالله بشكلٍ ما.
غير أن هذه الممارسة الرقمية تحمل مخاطر لا يمكن إنكارها، فهي قد تُحوّل العبادة إلى تجربة سطحية تفتقد عمق الحضور الروحي، حيث يتحول "المصلّي" إلى "مشاهد"، ويستعيض الإنسان عن خشوع المسجد بجاذبية الشاشة.
وهكذا يظل السؤال مفتوحًا: هل الممارسة الرقمية قادرة على أن تكون امتدادًا أصيلًا للعبادة، أم أنها مجرد صورة هجينة تُضعف صلة الإنسان بالله بدل أن تعزّزها؟
ويبقى المعنى هو جوهر العلاقة بالله؛ إذ لا قيمة للإدراك والممارسة ما لم يتوّجا بمعنى يمنح للحياة غايتها ولمسار الإنسان وجهته، وهنا يتجلّى أثر الفضاء السيبراني بعمق؛ إذ لم يعد المعنى الديني متحصنًا خلف جدران العقيدة وحدها، بل أصبح جزءًا من حوار عالمي مفتوح، فالإنسان في العالم الرقمي يجد نفسه أمام بدائل متنوعة: خطابات إيمانية تقليدية، رؤى صوفية، أطروحات فلسفية وجودية، وأحيانًا دعوات عبثية تلغي كل معنى.
وفي هذا السياق، لم يعد معنى التدين مرتبطًا فقط بمفاهيم الطاعة والعبادة؛ بل انفتح على آفاق جديدة كالهوية الرقمية، والبحث عن السكينة في وسط الضجيج الافتراضي، ومحاولة استعادة الحضور الإلهي في عالم يزداد تغريبًا، غير أن هذا الاتساع في إمكانات المعنى يهدّد بوقوع الإنسان في فراغ روحي إذا لم يُحسن التمييز بين الحقائق والمُلهيات.
وهكذا يمكن القول إن الفضاء السيبراني لم يُلغِ المعنى الديني، لكنه أعاد تشكيله، فجعله أكثر هشاشة من جهة، وأكثر انفتاحًا من جهة أخرى.
وهنا يظل التحدي الأكبر: كيف يُمكن للإنسان أن يحافظ على مركزية علاقته بالله كمعنى وجودي أصيل، وسط عالمٍ يميل إلى تفكيك كل المعاني الكبرى؟
المبحث الثالث: مقاربة فلسفية-عقدية لاستشراف مستقبل علاقة الإنسان بالله في العالم الرقمي
إنّ استشراف مستقبل علاقة الإنسان بالله في الفضاء السيبراني ليس تمرينًا في الخيال وحده؛ بل هو ضرورة فلسفية وعقدية تمليها التحوّلات الجذرية التي يعيشها الإنسان المعاصر، فنحن أمام واقع يتغير بوتيرة سريعة، يفرض إعادة التفكير في موقع المقدّس ودور الدين وعمق العلاقة بالله وسط عالم يزداد تغريبًا وتشابكًا مع الآلة والافتراض.
وهنا لا يكتفي البحث بالوصف والتحليل، بل يسعى إلى بناء مقاربة فلسفية-عقدية تستنطق الاحتمالات، وتستكشف المآلات، وتبحث في السبل الكفيلة بصون جوهر العلاقة الروحية رغم رياح التغيير.
ومن المرجّح أن يتعرض الإدراك الديني لمزيد من التشظّي في ظل الثورة المعرفية القادمة، مع تنامي قدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي وتدخل الخوارزميات في تشكيل قناعات الإنسان، فقد يصبح الدين مُختزلًا في "محتوى" رقمي يُقدّم للإنسان بما يناسب ذائقته اللحظية، مما يهدّد بتحويل العقيدة إلى مجرد سلعة معرفية خاضعة للعرض والطلب.
لكن، على الجانب الآخر، يمكن لهذه الأدوات ذاتها أن تعمّق إدراك الإنسان بالله إذا وُظّفت في خدمة التأمل العقلي والبحث العقدي الرصين، فالمعارف المجمّعة، والشروح المبسّطة، والمنصات التفاعلية، قادرة على فتح آفاق جديدة للتفكر والتأمل في النصوص المقدّسة، بحيث يغدو الفضاء الرقمي مجالًا لتقريب العقيدة لا لتشتيتها.
وسوف تشهد الممارسة الدينية مزيدًا من "الرقمنة"، بحيث تصبح الطقوس والعبادات جزءًا من بيئات افتراضية أو معزّزة، قد تتداخل فيها عناصر الواقع والخيال.
وهنا يطرح سؤال جوهري: هل يمكن أن تنقل التجربة الافتراضية حقيقة العبادة؟ وهل تتحقق فيها شروط الحضور القلبي والخشوع الذي هو لبّ العلاقة بالله؟
فمن الناحية العقدية، يظل الأصل أن العبادة ليست مجرّد فعل شكلي؛ بل هي مقام يتجاوز الصورة إلى الجوهر، فإذا استطاع الإنسان أن يوظّف الوسائط الرقمية لتقوية صلته بالله مع المحافظة على جوهر العبادة، فإن هذه الممارسة قد تكون امتدادًا مشروعًا. أما إذا تحوّلت إلى محاكاة فارغة تُغري بالسطح وتفتقر إلى العمق، فإنها ستكون صورة من صور الاغتراب الديني الجديد.
يمكن القول إن المعنى هو الكنز الذي يسعى الإنسان لحمايته في وجه العدمية التي تلوّح بها الحضارة الرقمية، فمن جهة يمكن للفضاء السيبراني أن يفتح أمام الإنسان إمكانات جديدة للبحث عن الله، عبر حوارات عابرة للثقافات والأديان، وعبر تجارب روحية تتخطى الحدود الجغرافية واللغوية، ومن جهة أخرى يمكن أن يغدو هذا الفضاء ساحة لتفكيك المعنى وإحلال العدمية محلّه، عبر الترويج لفلسفات ما بعد الحداثة التي ترفض المطلقات وتحتفي بالنسبية المطلقة.
إن المقاربة العقدية هنا تتطلّب التأكيد على مركزية التوحيد كإطار جامع للمعنى في مواجهة التفكك، وعلى أنّ العلاقة بالله ليست خيارًا بين خيارات؛ بل هي أصل الوجود وغاية الحياة، وهكذا يغدو التحدي في المستقبل مزدوجًا: الحفاظ على معنى أصيل في عالمٍ يوسوس له العدم، وفي الوقت ذاته إعادة صياغة خطاب ديني جديد قادر على مخاطبة إنسان الفضاء السيبراني بلغة عقلانية وروحية عميقة.
إنّ استشراف المستقبل في ضوء الفلسفة والعقيدة لا يعني الانحياز لليوتوبيا(3) أو الاستسلام للدستوبيا(4)، بل يقتضي وعيًا نقديًا متوازنًا، فمن منظور فلسفة الدين يتّضح أنّ الإنسان لا يستطيع أن يعيش بلا معنى يتجاوز ذاته، وأنّ كل محاولات استبدال الله بالآلة أو بالعقلانية التقنية مصيرها إلى الفراغ الوجودي. ومن منظور العقيدة الإسلامية يظلّ التوحيد هو البوصلة التي تهدي هذا الإنسان في مساره الرقمي، لتذكّره بأنّ الله هو الثابت amid سيولة الصور والرموز، وهو الحق amid ضجيج الافتراض.
وعليه، فإن المقاربة المستقبلية تقوم على مبدأين، وهما:
1- إعادة تجذير العلاقة بالله كجوهر غير قابل للمحو، مهما تعددت الوسائط أو تغيّرت الصور.
2- تجديد الخطاب العقدي والفلسفي بلغة قادرة على التفاعل مع تحديات الرقمنة، دون أن تفقد أصالتها.
يمكن القول إنّ مستقبل علاقة الإنسان بالله في العالم الرقمي سيظل ميدانًا مفتوحًا بين إمكانات الانبعاث الروحي وخطر الاغتراب الوجودي، فالتقنية ليست قدرًا محتومًا، بل أداة يملك الإنسان أن يوظفها في بناء وعيه الديني أو في تقويضه.
ومن هنا فإنّ المسؤولية الفلسفية والعقدية تقتضي بناء مشروع معرفي متجدد، يحفظ للإنسان توازنه الروحي وسط الطوفان السيبراني، ويؤكد أنّ العلاقة بالله ليست مجرّد ممارسة تقليدية، بل هي حقيقة وجودية أبدية تعبر العصور والوسائط.
الخاتمة
أولًا: النتائج
أثبت التحوّل الرقمي أنّه ليس مجرّد تطور تقني، بل ثورة معرفية وفلسفية تعيد صياغة الوعي الإنساني والأنساق القيمية.
يشكّل الفضاء السيبراني فضاءً جديدًا للوجود الإنساني، حيث تتداخل فيه مفاهيم الذات والآخر والزمان والمكان بصورة غير مسبوقة.
العلاقة بالله في العالم الرقمي تتأثر على مستويين: مستوى الإدراك الذي يعيد تشكيل صورة الإنسان عن الغيب والمقدّس، ومستوى الممارسة الذي يحوّل الطقوس إلى أنماط رقمية تثير أسئلة حول أصالة العبادة.
يتسم الإدراك العقدي في البيئة الرقمية بالازدواجية: فهو قد يتعمّق عبر سهولة النفاذ إلى المعرفة الدينية، وقد يتشظى بفعل هيمنة الخوارزميات والانتقائية المعلوماتية.
الممارسة الدينية في الفضاء الافتراضي تحمل إمكانات للتواصل الروحي وتجاوز الحدود، لكنها في الوقت نفسه مهدّدة بالسطحية والاختزال إذا غاب البعد القلبي والجوهر التعبّدي.
يشكّل "المعنى" أكبر رهانات العلاقة بالله في العالم الرقمي، إذ تتنازع الإنسان نزعتان: نزعة البحث عن يقين مت transcendental، ونزعة الانجراف إلى العدمية والنسبية المطلقة.
الفضاء السيبراني أتاح فرصًا لتجديد الخطاب الديني والفلسفي، لكنه كشف أيضًا هشاشة بعض الأسس التقليدية التي لم تتفاعل مع تحديات التقنية.
التوحيد في المنظور الإسلامي يظل البوصلة العقدية التي تمنح الإنسان استقرارًا في مواجهة التشظي الرقمي، بما يعيد مركزية الله في الوعي الإنساني.
العلاقة بالله ليست جامدة أو ثابتة الشكل، بل قادرة على التكيّف والتجدّد مع الوسائط المستحدثة، شريطة بقاء جوهرها الروحي متأصّلًا.
الفضاء الرقمي يطرح تحديات غير مسبوقة أمام مفاهيم الحقيقة والمعرفة والحرية، ما يتطلّب خطابًا فلسفيًا عقديًا متوازنًا يجمع بين النقد والتأصيل.
الانفتاح الرقمي أوجد فضاءً للتلاقح الديني والثقافي، لكنه في الوقت نفسه أفسح المجال أمام موجات الإلحاد واللاأدرية، ما يفرض تحديًا على المؤسسات الدينية.
الهوية الإنسانية في العصر الرقمي تواجه خطر التفكيك بفعل سيولة الحدود بين الواقعي والافتراضي، مما ينعكس مباشرة على علاقة الإنسان بالله.
الفكر الفلسفي الإسلامي يمتلك من المرونة ما يمكّنه من الحوار مع الرقمنة دون أن يفقد أصالته.
مستقبل العلاقة بالله مرهون بمدى قدرة الإنسان على التمييز بين الجوهر والشكل، وبين الوسيلة والغاية.
العلاقة بالله ستبقى الميدان الأعمق لامتحان إنسانية الإنسان وسط التحوّلات الرقمية، فهي الكفيلة بمنحه الأمان الوجودي والمبدأ الأخلاقي والوجهة النهائية.
ثانيًا: التوصيات
إعادة تجديد الخطاب العقدي والفلسفي بما يراعي تحديات الرقمنة ويخاطب الإنسان السيبراني بلغة عقلانية وروحية.
توظيف التقنيات الرقمية في خدمة التربية الإيمانية والتأمل العقدي العميق، بدل الاكتفاء بالمضامين الوعظية السطحية.
إقامة حوارات بين الأديان والفلسفات عبر الفضاء السيبراني لتعزيز قيم التلاقي الروحي بدل الانغلاق أو التفكيك.
***
إعداد: محمد أحمد عبيد
كاتب وباحث في الفلسفة
............................
قائمة المصادر والمراجع
الجوانب القانونية للحرب السيبرانية دراسة في إطار القانون الدولي الإنساني، ناجى محمد اسامه الشاذلى، مجلة روح القوانين، المجلد 35، العدد 103 - الرقم المسلسل للعدد 103 يوليو - الجزء الثانى يوليو 2023.
الفضاء السيبراني: المفاهيم والأبعاد، نورالدين حامد، المجلة العلمية للبحوث والدراسات التجارية، المجلد 38، العدد 2، يونيو 2024.
معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عبد الحميد عمر، عالم الكتب الطبعة: الأولى، 2008م.
معنى الديستوبيا باللغة اليونانية المكان الخبيث وهي عكس المكان الفاضل يوتوبيا. انظر: مدينتي.. بين اليوتوبيا والدستوبيا!، الكاتب: محمود أبو العدوس، موقع الجزيرة نت – منصة المدونات: me، تاريخ الدخول: 28/07/2025، الوقت: 12:55 م.
(1) الجوانب القانونية للحرب السيبرانية دراسة في إطار القانون الدولي الإنساني، ناجى محمد اسامه الشاذلى، مجلة روح القوانين، المجلد 35، العدد 103 - الرقم المسلسل للعدد 103 يوليو - الجزء الثانى يوليو 2023، ص 1244.
(2) الفضاء السيبراني: المفاهيم والأبعاد، نورالدين حامد، المجلة العلمية للبحوث والدراسات التجارية، المجلد 38، العدد 2، يونيو 2024، ص 711-746.
(3) يوتوبيا: أفكار متعالية تتجاوز نطاق الوجود المادي للمكان، وتحتوي على أهداف ونوازع العصر غير المحققة، ويكون لها تأثير تحويلي على النظام الاجتماعي القائم. معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عبد الحميد عمر، عالم الكتب الطبعة: الأولى، 2008م، 3/2520.
(4) معنى الديستوبيا باللغة اليونانية المكان الخبيث وهي عكس المكان الفاضل يوتوبيا. انظر: مدينتي.. بين اليوتوبيا والدستوبيا!، الكاتب: محمود أبو العدوس، موقع الجزيرة نت – منصة المدونات: ajnet.me، تاريخ الدخول: 28/07/2025، الوقت: 12:55 م.