دراسات وبحوث

مجدي إبراهيم: تجربة الشاعر وتجربة الصوفي.. مُقاربات فنيّة (2)

أعطينا تجربة الشاعر في المقال السابق النصيب الأوفى من حيث الدلالة الفنية، وقاربناها بتجربة الصوفي من حيث الدلالة الذوقيّة، وفي هذا المقال سوف نراجع خلال هذه العناصر ما كنا توقفنا عنده لنكمل خصائص التجربة الصوفية في ملامحها العامة.

(1) استدراك في استهلال:

في المقال السابق تحت هذا العنوان تحدثتُ عن الطبيعة الفنية لدى الشاعر المطبوع كونها تقترب من التجربة الصوفية عند الصوفي الكبير، تأخذ عنها وتتوحد بها حتى لا يكاد أحد أن يُفرّق بينهما، يظهر هذا في العلاقة بين الحب والموت، وهو ممّا لا شك فيه ولا خلاف عليه.

إنّما الأمرُ هنا لا يتوقّف عند حدّ العلاقة بين الحب والموت وكفى، بل يتعدّاه إلى ما بعده، وهو بقاء القصائد الشامخة في الوجدان الراقي، الصافي النقي، لتشرح العلاقة بين الحبّ والموت، وتجلو الصلة القويّة بين الحبّ الحسّي والحبّ الروحي، إذ كان الأول مقدّمة للثاني. ولا يفهم من الثاني (الحب الإلهي) إلا ما يستقر عليه الفهم حقيقةً من الحب الأولىّ، (الحبّ الحسيّ)، فلم تبدع رابعة العدوية في ميدان الحبّ الإلهي إلا بعد تجربة ممضّة مع الحبّ الحسيّ، ولم تكن الصبابة التي يعانيها المحبُّون في الأودية الحسية إلا مذاقاً إنسانياً صادقاً من ظلال التجربة الروحيّة، هذا ما ذكرته بنصه وحرفه في المقال السابق.

ثم ذهبت استطرد في الحديث عن العلاقة الظاهرة بين الحب الحسي والحب الروحي موضحاً أنّ المحبين في عوالم المحسوس هم أنفسهم المحبُّون في عالم المعقول، أو في عالم الروح. وأنّ معاناة التجربة في ميدان المحبّة الحسيّة هى نفسها معاناة التجربة في ميدان المحبّة الروحيّة، وأنّ القادرين على تذوق الحبّ الحسّي هم أنفسهم القادرون على تذوق الحبّ الإلهي من وراء الأشباح والظلال.

فارقُ التجربة الشعوريّة عندي هو التوجُّه، ولكن نهايات التجربة في الحبّ الحسّي تكون في الغالب بدايات التجربة في الحبّ الروحي الخالص، وربما يختلط الأول بالثاني وليس من ريب، وتكون التجربة واحدة، وتزول الفوارق الشعوريّة بين التوجُّهات وتذوب، فلا يعرف المُحب في أي واد من الأودية يتوجّه فيُسلم لها قياده؛ لأنه لا يلمس فارقاً باطناً في أصل المحبّة ولا يكاد يقف عليه.

وضربتُ المثال في المقال السابق بشعراء بني عُذرة كجميل بثينة، وقيس لبنى، وغيرهما من شعراء التبتُّل والعفّة، إذ كانوا أكثر الناس دلالة على هذا النوع بالحبّ إلى الموت؛ لوجود علاقة رُوحيّة صافية بين الحبّ في الأودية الحسيّة والحبّ في الأودية الروحيّة. وذكرت على سبيل الجزم واليقين أنّ صبابة العشّاق لوعة مُخامرة هى نفسها تكاد تكون الصبابة التي يعيشها أصحاب الأذواق والمواجيد.

وقلتُ إنّ الحُبّ الإلهي أصلُه في الإنسان محبّة جزئية محدودة بوقوف الهوى على المُحبّ - أي اقتصار المُحب على من يحب - تفاصيلها نزوع الوجدان إلى الأصل، وكلما اقتربنا من الأصل زالت الفوارق وذابت الحواجز والمحاجيب، وحلّت من ثمّ الوحدَة محلّ التعدُّد والكثرة، فليس يبقى إلّا الواحد على الدوام.

(إنّ الغرام هو الحياة، فمُت به صَبّاً، فحقّك أن تموت وتعذرا)

هكذا كان ابن الفارض يقول. ومنه يتبين كما يتبين من زملائه شعراء الصوفية أمثال ابن عربي والحلاج أو من شعراء الصوفية الفرس أمثال جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وعبد الرحمن جامي ومحمود شبستري أن الحب في أتمّ معانيه هو: الإفصاح عن أقوى النزعات الروحيّة في الإنسان، واتجاه هذه النزاعات نحو الأصل الذي صدرت عنه، نحو الله تعالى.

هذا ظل ثابت في وجدان العشاق من ظلال التجربة الصوفية لا يمكن تغافله أو صرف نظر الدارس عنه بحال، لأنه يمثل في الروح الإنساني أشجان أتراحها وأفراحها، أوجاعها ومكامن غبطتها.

وعليه، فلا يوجد صوفي واحد له رأي أو مذهب أو أثر من آثار الكتابة والتدوين ولا تكون له تجربة روحيّة ينطلق منها ويعتمد عليها ويتذوق آثارها فيما يرى أو يقول؛ فلئن فاتته التجربة فلم يستطيع خوضها وركوب متاعبها؛ فلا يخلو من شرط التعاطف معها على أقل تقدير.

ولأجل هذا تجئ التجربة الصوفية دائماً أسبق لدى الأولياء والعارفين من الفكرة الفلسفيّة. وما الفكرة الفلسفية في ظلال التجربة الحيّة المعاشة إلا بمثابة شرح العقل النظري لتجارب العمل والإنشاء في إطارها. ولولا وجود التجربة الصوفيّة معتمد الأولياء والعارفين ما صَحَّتْ على الإطلاق أذواقهم ولا مشاربهم ولا أحوالهم، وما صَحَّ لهم حال ولا سرُّ ولا معرفة ولا علم ولا نظر، بل ولا مذهب ولا نظرية ولا رؤية ولا استقام لهم طريق؛ إذْ التجربة الصوفية مناط الثورة الروحيّة في الإسلام ومستندها الفاعل بغير شك، وأساس الثمرة المرتقبة من وراء المذاهب والآراء.

(2) التجربة الصوفية كثورة روحيّة:

الحقيقة بعد كتابة المقال السابق وبعد الفراغ من مراجعته، وقع نظري على كتاب (التصوف: الثورة الروحيّة في الإسلام) للدكتور أبي العلا عفيفي، وهو كتاب من الأهمية بمكان بحيث لا يمكن لباحث في التصوف الإسلامي أن يستغني عنه، كتاب مهم مكتوب بوعي مع حب، وتجربة حقيقية لا زيف فيها، وهو مصقول بخبرة واعية مع تراث الصوفيّة، يكفي فقط أن تقرأ فيه هذه العبارة:" ولنتذكر دائمًا أننا ونحن نكتب عن الصوفية وأحوالهم الغريبة وأطوارهم العجيبة، إنما نرقب الركب وهم يسيرون في طريقهم إلى غايتهم، ونحاول أن نقف - كلما أمكننا الوقوف - على البواعث التي تدفعهم إلى سفرهم، وأن نتعرّف الشعاب والدروب التي يسلكونها، والزاد الذي يتزودون به، واللغة التي يصفون بها الطريق، والغاية التي يصلون إليها. كل ذلك من غير ادِّعاء من جانبنا أننا نسير في ركبهم أو أننا نعرف دخائل أسرارهم أو نُترجِم عن حقيقة أحوالهم، فإنّ المترجم عن أحوال الصوفية هو الذي يُعاني ما يعانون، ويجرّب ما يجربون من الأحوال والأذواق".

أقول؛ يكفى فقط أن تقرأ هذه العبارة الخلابة لترى مقدار التعاطف مع الصوفية، ومقدار الأدب الجم الذي تمتع به الكاتب وهو يحدثنا حديث الوجد (منهجاً) عن الكتابة في الصوفية جليّاً، ويصف معاناتهم الروحية ومنازلاتهم الشعوريّة في غير ادّعاء من جانبه بالوقوف على حقيقة تجاربهم أو معرفة دخائل أسرارهم، لا بل فقط ما هو إلا باحث عن حقيقة أحوالهم يرقب الركب وهم يسيرون في طريقهم إلى غايتهم ليس إلا، فكما كتب "الكلاباذي" قديماً كتابه "التعرف لمذهب أهل التصوف"، لا لشيء إلا ليتعرّف فقط مُجرد تعرف على أحوال القوم وعلومهم، كذلك يأتي الدكتور عفيفي رحمه الله، ليتابع نهج أسلافه من كبار العارفين، ليقول إنه يرقب الركب، ولا يتعدى، ولا يدعي أنه يترجم عن الحال؛ فإنّ المترجم عن أحوال الصوفية هو ذلك الذي يعاني مثل ما يعانون من الأحوال، ويجرب مثل ما يجربون من الأذواق.

تواضع تصحبه معرفة. وحدها هذه العبارة تترجم عن عقل كبير وذوق بصير وطوايا نظيفة، عبارة لا يقولها إلا الدكتور عفيفي طيّب الله ثراه أو مَنْ في طبقته.

لم تكن هي المرة الأولى التي أتوقف فيها أمام كتاب الدكتور أبي العلا عفيفي، رحمه الله رحمة واسعة، (التصوف الثورة الروحية في الإسلام)، بل طالعته عدة مرات بما لا أدري حصره، ونقدتُه كثيراً كما استفدتُ منه كثيراً. واعتبرته منذ سنوات طويلة المرجع الأصيل للدراسات الصوفية الأكاديمية الخالصة، ولم أعتبر سواه من كتب الأدعياء والمتطفلين، لأن هذه الكتب على تعددها تنقصها الذائقة كما ينقصها عنصر الكمال الذي سبقت الإشارة إليه في تناول علوم الصوفية، والتحقق من تجاربهم، وتذوق لغتهم وإشاراتها، ثم التعاطف المشبوب مع معاناتهم الروحيّة.

كتب ينقصها الإخلاص، كما ينقصها الفهم والتخريج، ويزيدها فقدان إعمال المنهج نقصاً على نقص مع ظلمة في الوعي وعقم في البصيرة. كتب تخبط في كثير ممّا تتناوله بالبحث والدراسة خبط عشواء، فهي - من ثم - ليست حقيقة بالوقوف عندها لمجرد شهرة أصحابها أو حتى لدعواهم في هذا الفن بالاختصاص.

كان أول ما طالعته من كتابات الدكتور عفيفي، رحمه الله، تعليقاته على فصوص الحكم لابن عربي، ثم قرأت كل ما كتب حرفيّاً، ومع إعجابي بكتاباته منهجاً ورؤية، لم أكن معجباً بنزعته الأكاديمية الحادة، ولا بتطبيق مناهج المستشرقين تطبيقاً حرفياً على تراثنا الصوفي الإسلامي. ولكنني في المجمل أقدّره وأعرف قدره، وحين أجد رأياً فيما يكتب بعيداً عن الصواب لا أتردد في نقده، غيرةً على مكانته وعرفاناً بمناقبه.

كنتُ قد أهديت له كتابي (التجربة الصوفية) وهو من الكتب التي أعتز بها أيما إعزاز، صدر في العام ٢٠٠٢م، وحين كنت طالباً في مرحلة الماجستير والدكتوراه كنت أحب أن أسمع كثيراً من أستاذي الدكتور عاطف العراقي عليه رحمة الله، الحكايات المشوقة عنه، وكنت دائماً ما أذكّره به فيحكي لي عنه، ويقول كلما رأيتك تذكرت الدكتور عفيفي، ويستطرد في حديثه عنه ويقول: كان في أيّامه الأخيرة يفتقدونه فيبحثون عنه، وبعد عناء من البحث يَجدونه جالساً في استغراق في مقام سيدنا الحسين بالقاهرة.

كان الدكتور عاطف العراقي عقلانيّاً لا يؤمن بجذبات الحق للصوفيّة، وكلما يذكر هذه الحكاية ينفجر ضاحكاً ويشير إليّ ويقول: مصيرك تصبح مثله؟! وكنت أبادله الضحك لكنه الضحك الذي ينتهي في النفس بلوعة أسيانة عندي. سبحان الله! أكاديمي درس المنطق والفلسفة، وأخلص في دراسة التصوف فيجذبه الحق إلى رحاب الأصفياء. وأي جذبة روحية تلك عامرة بفيض اللقاء لا يتمناها مخلص؟!

يرى الدكتور عفيفي - طيب الله ثراه - إنّ المحور الذي يدور حوله بحث الباحثين في الحياة الصوفية هو "التجربة الصوفية" التي أطلق عليها الصوفيّة أنفسهم اسم "الحال"، ووصفُوها بأنها المنزلة الروحية التي يتَّصل فيها العبد بربه، أو يتَّصل فيها المتناهي باللامتناهي، كما وصفوها بأنها المنزلة الروحية التي يحصل لهم فيها الإشراق، ويفيض عليهم فيها العلم الذوقي.

وليست هذه الحال من أحوال العقل الواعي، وإلا كانت خاضعة لحكم العقل وقوانينه، وإنما هي حالة من حالات الوجود الباطن المتحفز للإعلان عن نفسه في كل ضروب النشاط الروحي.

بعبارة أخرى، هي حال من أحوال "الإرادة"، والإرادة هنا بمعنى مُطلَق النزوع لا بمعنى الاختيار. واتصال الإرادة المتناهية بالإرادة اللامتناهية، وانمحاؤها فيها هو ما عبَّر عنه الصوفية تعبيرًا دقيقًا باسم الفناء في الله.

(3) القلب لا العقل:

القلب أو المعرفة القلبية لا العقلية رمز من رموز الحقيقة المجهولة المغيبة التي لا يكاد أحد يعرف شيئًا عن كنهها. في التجربة الصوفية تتحدَّد الإرادة الإنسانيّة مع العاطفة في الرغبة الملحَّة التي تدفع بالنفس دفعًا إلى تجاوز عالم الحس والعقل إلى عالم تتصل فيه عن طريق الحب إلى محبوبها الأول الذي تدركه النفس بالذوق كما يقول الصوفية، أو تدركه في النفس حاسة مُتعالية كونية Cosmic Transcendental Sense كما يُسميها علماء النفس الحديثون.

أمّا أن هذه الحاسة "كونية"؛ فلأنها تدرك الوجود في كليته وإطلاقه ولا يَحجبها عن هذا الإدراك الصفات المشخصة للأشياء، وهي الصفات التي ترجع من جهة إلى عمل الحواس الظاهرة، ومن جهة أخرى إلى الأساليب العقلية لإدراكه.

وأمّا أنها متعالية وفوق الطبيعة؛ فلأنها تتجاوَز بطريقة لا يُعرفُ كنهُها حدودَ العالم الطبيعي وقيوده إلى عالَم تنمحي فيه صفات الذاتية الفردية مثل "الأنا" واﻟ "نِّي" واﻟ "ي" (ياء المتكلم) وهي ما يجعل الإنسان ذلك الكائن المتناهِي المحدود.

ولم يهتد علم النفس القديم ولا الحديث، كما لم يهتد الصوفية أنفسهم إلى معرفة كنهِ هذه الحاسة الغريبة، ولا إلى موضعها من الحياة الروحية، وإن وصفها الجميع - أو بالأحرى وصفوا مظاهرها ووظائفها - بصفات متقاربة، فهي تعقل نوعًا ما من التعقل، ومع ذلك ليست هي العقل الذي نعرفه، وهي تنزع نحو موضوعها وتتعشقه إلى درجة الفناء فيه؛ أي إن فيها عنصرَي (الإرادة والوجدان) كما قلنا، ولكنها مع ذلك ليست الإرادة التي نعرفها، ولا هي واحدة من العواطف التي لنا عهد بها.

فهي حاسة عاقلة مريدة وجدانيّة مختلفة تمام الاختلاف عن الحواس والقوى العقلية الأخرى التي ندرك عملها في حياتنا الشاعرة، وهي وإن كانت موجودة في كل إنسان بالقوة، فإنها لا توجد في كل إنسان بالفعل، ولم يحدثنا عن وجودها سوى ذلك الصنف من الناس الذين بلغت فيهم الحياة الروحية أوج كمالها.

وتلعب العاطفة دورًا له خطورته في "التجربة الصوفية"، وإلى عنصر العاطفة فيها ترجع مظاهر الشمول والاستغراق والفناء، وما إلى ذلك من الصفات التي تتمثل في وحدة الطالب والمطلوب، أو المحب والمحبوب. فالتصوف كالفن لا وجود له بدون العاطفة الجامحة. وإذا حصرنا النشاط الروحي في الإنسان في اتجاهين كما يقولون: اتجاه نحو حب الحقيقة، واتجاه نحو معرفتها، كان التصوف هو الميدان الوحيد الذي يلتقي فيه الاتجاهان على أتم وجه؛ لأنه يمثل تعطش الروح إلى الاتصال بالله، وفي هذا الاتصال يجتمع الحب والمعرفة في تجربة واحدة.

وقد أطلق الصوفية على هذه الحاسة المتعالية اسم "القلب"، والسر، وعين البصيرة"، وما إلى ذلك من الأسماء التي لا تعدو أن تكون رموزًا لحقيقة واحدة نَفترض وجودها ولا ندري من كُنهِها شيئًا. فلنُسمِّها إذن باسمٍ واحد هو القلب (إذ لا عبرة بالأسماء)، ولنحاول أن نعرف كل ما يمكن أن نعرفه عنها وعن صفاتها وخصائصها من أقوال الصوفية أنفسهم.

(4) الإرادة لا العقل:

إذا كان القلب - لا العقل - هو أداة المعرفة الصوفية، فإن الإرادة لا العقل كذلك هى مناط التحقق بالاتصال الإلهي، ولا يمكن للعقل أن يبلغ ما تبلغه الإرادة في طريق العرفان. لقد ساء بعض الباحثين ألا يجعلوا للعقل قيمة في المعرفة الصوفية فتقرر لديهم وهم وجوده فاعلاً في التجربة وهو ليس له دور ولا غاية فيها على الإطلاق. إنمّا الدور والغاية للإرادة لا للعقل. ربما جاء دور العقل في مرحلة لاحقة تكون بعد انتهاء التجربة نفسها من حيث قدرته الشارحة لما تبقى في ذاكرة العارف منها، لكن وجوده الفعلي أثناء التجربة مستحيل.

وقد اعتبر صوفيةُ المسلمين الإرادة - لا العقل - جوهر الإلهيّة، كما اعتبرُوا الإرادة - لا العقل - جوهر الإنسان.

فالإرادة عندهم نقطة الابتداء من جهة، ونقطة الانتهاء من جهة أخرى؛ إذ بالإرادة وحدها يُثبتون وجودهم، وعن طريق الإرادة وحدها يتصلون بمطلوبهم أو يصلون إلى مطلوبهم وهو الله.

فالصوفي لا يقول كما قال ديكارت: «أنا أفكر، وإذن فأنا موجود» بل يقول: «أنا أريد، وإذن فأنا موجود» ولكن إرادته - في نظره - ليست على الحقيقة الإرادة الإنسانية المتناهية، بل الإرادة الإلهية المُطلَقة؛ لأنه فانٍ في الله، متحققٌ (في حاله) بوحدته الذاتية معه، يرى كل ما يجري في نفسه وفي الكون الذي حوله مظهرًا من مظاهر الإرادة الإلهية؛ لأنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله، ولا مريد في الحقيقة إلا هو.

بل إن "المعرفة" التي أطلق عليها متصوفة المسلمين اسم "الذوق" ليست هي الأخرى عملًا من أعمال العقل الواعي ولا مظهرًا من مظاهره، بل هي مظهر من مظاهر الإرادة والوجدان، مظهر من مظاهر الاتصال الروحي الذي هو أشبه بالاتصال البدني؛ ولهذا لا تخضع المعرفة الذوقية لمقولات العقل ولغته ومنطقه، بل لها لغتها الخاصة ومنطقها.

والصوفية لا يتردَّدون في القول بأن العقل ومقولاته حُجب كثيفة تحول بين الإنسان وعالم الحقيقة، وأنه لا بد لمن ينشد المعرفة الذوقية الخالصة من أن يتجرَّد عن العقل وأساليبه وحيله ويتحقق بمقام الإرادة الصرفة.

يقول الشيخ محيي الدين بن عربي في كتابه "فصوص الحكم" في شرح هذه المسألة:

(فمن أراد العثور على هذه الحكمة، فلينزل عن حكم عقله إلى شهوته، ويكن حيوانًا مطلقًا حتى يكشف ما تكشفه كل دابة ما عدا الثقلين؛ فحينئذٍ يعلم أنه قد تحقق بحيوانيته، وعلامته علامتان: الواحدة هذا الكشف، والعلامة الثانية الخرس بحيث إنه لو أراد النُّطق بما رآه لم يقدر).

وليس المراد بالتحقُّق بالحيوانية سوى التحقق بالإرادة؛ إذ الإرادة (بمعنى مطلَق النزوع) هي أهم صفات الحيوان؛ فابن عربي لا يُعارض القدماء في اعتبار "النطق" فصلًا منوعًا للإنسان يُميِّزه عما عداه من أنواع الحيوان المشتركة معه في الجنس، ولكنه يأبى أن يعتبر العلم الذَّوقي وليد تلك القوة الخاصّة (قوة النطق) في الإنسان، بل على العكس من ذلك يعتبر قوة الإرادة - التي يرمز لها بالحيوانيّة - مصدر ذلك العلم وأداته.

ثم إنه ليشير بعد ذلك إلى علامتين هامتين من العلامات الأربع التي عدّها ويليم جيمس مميزات للتجربة الصوفية: أعني حالة القابلية الصرفة Absolute Passivity وحالة الخرس Ineffability، والحالة الأولى هي التي يسميها ابن عربي حالة الكشف؛ لأن الكشف حالة قابلية محضة لا أثر للفعل فيها.

على أنه لا يَقصد بالقابلية المحضة أو الانفعال الصرف ركودًا أو تعطيلًا في النشاط الروحي عند الصوفي، وإنما يُريد انعدام الفاعلية من جانب العقل.

أمّا الناحية الأخرى، وهي ناحية الإرادة، فالنشاط الروحي فيها - في التجربة الصوفية - أقوى وأعنف ما يكون؛ إذ الصوفي في معاناته لتجربته في حالةٍ تعمل فيها النفس بجمعيتها لا بجزء منها.

ومن هنا؛ جاء ذلك الاستغراق الروحي، وذلك الشمول الغامر الذي أطلق عليه الصوفية اسم الفناء والجذب والوجد.

ويجب ألا يتّسرَّب إلى الذهن بحالٍ أن ابن عربي يقصد بعبارته السابقة أن الحيوان لخضوعه في حياته للإرادة دون العقل، يشارك الإنسان في قدرته على الإدراك الذوقي والعلم بحقائق الأشياء علمًا مباشرًا، وإنما يريد أن يؤكد انعدام الفاعلية العقلية في التجربة الصوفية، ذلك الانعدام الذي نشاهده أكثر ما نشاهده في الحيوان؛ لذلك اتخذ الحيوان مثالًا، وتكلم عن مقام التحقُّق بالحيوانية.

(5) الحب:

ويعتبر الحب جوهر الحياة الروحية وسبب وجودها الأسمى. وبما أن "التجربة الصوفية" عملًا من أعمال الإرادة والوجدان لا العقل ظهرت في أخصّ وأعلى مظهر من مظاهر الإرادة والوجدان، وهو "الحب"، لا الحب المادي الذي يَهدف إلى إشباع شهوة أو حاسّة، بل الحب بأعمق وأتم معانيه: أعني الإفصاح عن أقوى النزعات الروحيّة في الإنسان، واتجاه هذه النزاعات نحو الأصل الذي صدرت عنه.

ولهذا اصطنع الصوفية على اختلاف مِلَلهم وأجناسهم وأوطانهم لغة الحب للتعبير عن أحوالهم وأذواقهم التي لا يستطيع العقل إدراكها، ولا اللغة التعبير عنها، وأبدعوا في اصطناع هذه اللغة أيما إبداع، فزخرت لغة التصوف بكنوز من الشعر الخالد في الحب الإلهي، ولشعراء الفرس من الصوفية أمثال؛ جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار وعبد الرحمن جامي ومحمود شبستري، وبعض شعراء الصوفية العرب أمثال ابن الفارض وابن عربي، في رياض الحب الإلهي أناشيد تهتز لسماعها قلوب العاشقين ممن يُدرِكون إشاراتهم ومراميهم.

كان هذا رصد الدكتور عفيفي طيب الله ثراه لمعالم التجربة الصوفية ولبيان عناصرها الفاعلة فيها وهو رصد لو تأملته لوجدت أكثره صواباً وأقربه دلالة على تجارب العارفين الحقيقية، فما من تجربة لوليّ من أولياء الله تخلو من الحب لتنزع في طريقها إلى غيره، فالحب الإلهي أصل هذا الوجود الإنساني، وهو ثروته الحقيقية. ومن طريق الحب تولدت في الصوفي أبدع ألوان اللغة الرمزية، فشفافية العبارة دالة على تجربة معاشة تحقيقاً وهي التمهيد لرمزية الإشارة. ولولا وجود مثل هذه الشفافية في اللغة ما ظهرت لغة الباطن رمزية وإشاريّة، مبدعة فيهم على الأصالة.

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

في المثقف اليوم