دراسات وبحوث

إنتزال الجبوري: نحو وعي تربوي جديد في عالم متغير (10) والأخيرة

تقويم العلاقة بين الجيل القيمي والجيل الرقمي

بعد الحديث عن أثر التكنولوجيا على تربية وتعليم جيل اليوم، ماذا في جعبتنا لكي نحقق التوازن بين التطور التكنولوجي والقيم السلوكية التي نلقّنها لأبنائنا وأحفادنا؟

اليوم تواجه المربين تحديات كبيرة في تربية النشء، أهمها المد التكنولوجي ودوره في اكتساح منظومة القيم والمُثل الأخلاقية التي أمدّنا بها الدين والمجتمع، ويفصل عالم الآباء عن عالم الأبناء؛ الذي تنامت فيه حالة الفردانية المتضمنة للانطواء، والاستلاب الذاتي (الجسدي، والنفسي، والعصبي، والعقلي)، والاستلاب الاجتماعي (اغتراب الطفل عن عالمه الاجتماعي المتضمن للعائلة والمجتمع العام)؛ والإنسان بطبعه كائن اجتماعي.

كيف يمكن الحفاظ على منظومة قيمنا ومثلنا إذا كنا نصدق أن التكنولوجيا قد حققت السعادة المادية، وأن الحياة مريحة ولا بأس بها، ونحن نسير في طريق التحضر، وكل شيء متوفر لدينا؛ فالتربية أيضا سهلة وليست صعبة كما نتصور؟

في الحقيقة تكمن مسؤولية ترشيد العلاقة بين جيل الآباء (جيل القيم)، وجيل الأبناء (جيل التكنولوجيا) في عاتق العائلة، والمدرسة، والدولة، والشرائح المثقفة من المفكرين والكتّاب، والمتصدّين من رجال الدين.

بالنسبة للعائلة فإن من الأوْلى للمقدمين على الزواج شبابا وشابات قبل كل شيء أن يعلموا أن شريكهم التربوي اليوم هي التكنولوجيا إذا كان همهم تكوين الأسرة والإنجاب؛ لذا فعليهم أن يفهموا أن الوعي والخبرة بعلم نفس الطفولة في العالم الافتراضي يتطلّب منهم الانخراط في دورات مراكز "محو الأمية الرقمية" للمربين، وتعليم تقنية طرائق التربية[1]. وإن أول قضية ينبغي للمربين فهمها في التربية هي حالة الشره والاستهلاك عند الطفل؛ للوفرة المادية بكل شيء في وقتنا الحاضر. ويستخدم الطفل البكاء كوسيلة لابتزاز الأهل واستنزافهم ليحصل على المزيد، فيستجيبون لرغباته بسهولة إذا كانت العائلة ذات دخل مالي عالٍ؛ والاستجابة السريعة هي الطريق لإفساده.

التدليل يؤدي إلى إلحاق الضرر الكبير بالطفل حينما يكبر وفي كل فصول حياته، وعدم الاستجابة لمتطلبات الطفل أو استخدام أسلوب بطيء في تلبيتها هو أفضل الوسائل لتعليمه الصبر[2]. يؤدي التدليل المفرط إلى حالة تضخم الذات والتمركز حولها، ومحاولة تدليلها بكل الطرق وفق مبدأ اللذة، مما يعيق الابن من التكيف مع الحياة وعواقبها ومفاجآتها، وكذلك يعيقه من إقامة علاقات متكافئة مع المجتمع، وتنجر عليه عواقب التدليل إلى آخر حياته، فيكون ضعيف الشخصية، خائفا، مترددا، وضعيف الثقة بالنفس، وغير قادر على مواجهة العقبات والمشكلات، ويكون اتكاليا، وغير شجاع حينما يكبر. والصبر يعلمه السيطرة على رغباته وميوله الشخصية المفرطة في الكبر، وإن الحد من متطلباته من ألعاب التسلية، وحثه على الألعاب الجماعية مع الأصدقاء خارج المنزل برفقة الأهل له دور كبير في تفتّح عقله وتعليمه فن الحوار، والنقاش، والتفاهم، المستقبلي في حل الأزمات التي تواجهه بجدارة، وتأمّل، وصبر، وحكمة، وثقة عالية بالنفس. إن الحد من تدليل الطفل يساهم في نمو شخصيته بشكل كبير، حيث تقوى إرادته بسبب الصبر والتحمل. هذا ما نراه في الأسر ذات الدخل المنخفض أو الفقيرة، حيث لا تتمكن العائلة من تلبية متطلبات الطفل المتكررة.

ترشيد الإنفاق والاستهلاك بكل شيء يعتمد على ثقافة الأهل، والتدليل المفرط للأبناء يضرهم في مستقبل أيامهم "وهم في الحالات الحادة معوقون عاطفيا، ويصعب عليهم أن يتكيفوا مع الظروف الطبيعية. لقد فشلت الحماية المفرطة التي مارسها الوالدان أو الأسرة في إعطائهم حيزا كافيا لكي تنمو فيه شخصيتهم على نحو سوي، ومن المحتمل جدا أن يكون أحد الأقرباء قد دأب على تولي مسؤولية حل المشكلات المهمة في طفولتهم دون أن يترك للطفل حيزا، أو وقتا كافيا لكي يقوم بذلك بنفسه. وعندما يذهب الطفل المبالغ في حمايته إلى المدرسة فإنه يواجه عادة مشكلات مهمة مع زملائه ومعلميه ويمكن أيضا أن يفشل في دراسته"[3].

إن عادة الطلب في الوقت الحاضر تتزايد عند الطفل؛ ومنها طلب المزيد من الوقت لإمضائه أمام الشاشات. ضبط عادة الاستهلاك لدى الأبناء تعلمهم الصبر والانتظار، ويعتبر هذا عامل مهم في تأخير دخولهم إلى عالم الانترنت، واستخدام قنوات التواصل الاجتماعي حتى بلوغهم أربعة عشر عاما، ومراقبة الأبناء حال استخدامهم الجهاز الخاص بهم. أما إذا اقتضى الأمر أن يستفيد الطفل من الجهاز الإلكتروني، أو أي وسيلة اتصال في عمر مبكر فعلى الأهل أن يكونوا بجنبه ولا يتركوه لوحده مع الجهاز خشية عليه من مردودات العالم الجديد السلبية سيما هو لا يعيه، ولا يفهمه، وأن لا يكون في جهازه اتصال بالإنترنيت.

كشف تقرير أعده خبراء فرنسيون بتكنولوجيا المعلومات يوصي "بعدم السماح للأطفال باستخدام الأجهزة والألواح الذكية حتى بلوغهم ثلاثة عشر عاما لأسباب عدة، ومنعهم نهائيا من الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي، تحقيق الربح لجذب الأطفال والسيطرة عليهم وإشراكهم وتحقيق الدخل منهم هو القصد؛ فأصبح الأطفال سلعة في سوق التكنولوجيا الحديثة بحسب ما نقلته صحيفة (غارديان)، وأوضحت الدراسة أن الأطفال دون سن الثالثة يجب أن لا يتعرضوا للشاشات بما في ذلك التلفزيون ولا ينبغي أن يكون لدى طفل الحادي عشر من العمر أي جهاز هاتف، وإذا منح في هذا السن أو في سن الثالثة عشر يجب أن يكون هاتفا لا يمكنه الوصول إلى الإنترنيت، وأشار التقرير أن الشاب ذا الخامسة عشر ربيعا يجب أن يكون قادرا على الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي "الأخلاقية". وكشف التقرير بمنع الشاشات بشكل كامل عن رياض الأطفال والمدارس الابتدائية، ولا ينبغي إعطاء الأطفال أجهزة لوحية، أو رقمية فردية للعمل عليها إلاّ في حالات الإعاقة، وحضر التقرير الألعاب المتصلة بالإنترنيت باستثناء تلك المستخدمة لسرد القصص، كل هذا سوف يضر بالنمو العاطفي لدى الشباب"[4].

ويقع أيضا على عاتق الأسرة تشجيع الأبناء على الانخراط في دورات تعليم اللغة الإنكليزية، لغة العالم الرقمي، وعلم الرياضيات بشكل خاص لتنشيط أذهانهم وتحفيزها على طرح الأسئلة دون وجل، والتحليل، والتأمل، والإنتاج المفيد، والإبداع، والتفكير الدقيق والعميق، والنقد؛ لتمكينهم من حل المشكلات والإشكالات التي تواجههم بسهولة، وطرح المقترحات في حقل الطفولة عبر لغة التفاهم في العالم الرقمي، خاصة الألعاب الإلكترونية التي قد تفيد في تطبيق برامج فكرية ثقافية تناسب أعمارهم، فتقوى قدراتهم العقلية على المناقشة وتنمو بشكل آمن في الفضاء الرقمي، والتشذيب والتعامل بحذر بكل ما يزخر به هذا العالم. وعلى الأهل أن يبحثوا للطفل عن الألعاب التي تعتمد على شخصيات كرتونية تعلم الطفل الأخلاق والسلوكيات السليمة والفاضلة منها الصدق، عدم الغش، حب العائلة والمجتمع والأصدقاء، وحب البيئة المحيطة والحفاظ عليها من كل عبث وتلوث. وهناك ألعاب فكرية تعلم الطفل فن التفكير، وقوة الملاحظة، والتركيز، وسرعة البديهة، وتدعم الخيال الخصب لديه، وتقوّي ذاكرته، وتنشّط ذهنه. وعلى الأهل أن يشاهدوا الألعاب أولا بأنفسهم، ثم يقيّمونها، ومن ثم يسمحوا للأبناء من الجلوس عليها. ولنعلم أن وظيفة الآباء والأمهات الأولى هي إغداق المحبة والاحتضان للأبناء وخطابهم باللغة اللائقة الهادئة[5].

وتوجيه الأبناء للانخراط في دورات تدريبية في فهم الذكاء الاصطناعي وكيفية الاستفادة من تطبيقاته، والذكاء الاصطناعي عالم شاسع جدا لا يمكن الخوض في تفاصيله المعقدة، ويكمن فيه النافع وغير النافع، والصحيح والخطأ، والأمان والخطر؛ فهو محيط مجهول شاسع يكمن فيه الكثير من المعلومات، ويخفي الكثير من المجهولات. الذكاء الاصطناعي سوف يكتسح مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية. وينبغي جدا على الأهل والمدرسة تنبيه الأبناء عند استخدامهم أي جهاز من الأجهزة الذكية من خطر سلبيات الذكاء الاصطناعي، وتعلّم مختلف العلوم والمعارف والفنون، وفن التخاطب والتعامل مع الروبوتات والتحكم فيها، والتعلم منها. "ويرى الخبراء أننا عندما نربي الأطفال لا نعرف بالضبط المواقف التي سيواجهونها. نحن لا نزودهم بالإجابة عن كل سؤال يطرحونه علينا بدلا من ذلك نعلمهم كيفية العثور على الإجابة بأنفسهم"[6]. وما ينبغي على الأهل هو استخدام اسلوب الصرامة غير الحادة وغير العنيفة في توجيه الأبناء نحو الاستفادة من تطبيقات العالم الرقمي، ويمكن للأهل مناقشة الأبناء فيما يعرض لهم على الشاشات وتوضيح الجيد منه والمناسب لهم، وتجنّب ما لا يتناسب مع أعمارهم، ومداركهم، ومصالحهم، وإغراؤهم بالتشجيع وتقديم الهدايا لهم.

ويتعين على الأهل خوض حوار هادئ مع الأبناء لأجل إيجاد صيغة توازن بين محيطهم الخاص بتشجيعهم على ممارسة الأنشطة الرياضية البدنية واللعب مع أقرانهم في المحلة، أو المدرسة، أو أماكن الترفيه العامة، والحدائق، والطبيعة، وتوضيح سبل التعامل مع العالم الرقمي، وسبل ترشيد استخدام وسائله بنحو إيجابي لا يتعارض مع سلوكيات وأخلاقيات الأبناء التي تربوا عليها. وإشراك الأطفال في اجتماعات العائلة الأسبوعية. تشير الكاتبة سوزان إلى أن شركات التكنولوجيا بمختلف تطبيقاتها تتظاهر بتقديم الرعاية والعناية للأطفال بزرع المودة في نفوسهم، والتغلب على نقاط ضعفهم، ولكنها في نفس الوقت تنظر إليهم على أنهم مصار ربح، وتشجّعهم على المضي الطويل على الشاشات، وتضعف بذلك روابطهم الأسرية، وتشير الكاتبة إلى أن الشركات تلك لا تهتم بأوقات نمو الأطفال بقدر اهتمامها بأرباح الإعلانات. قصد الكاتبة هو حماية الأطفال من الاستغلال من قبل تلك الشركات التجارية الإعلانية[7].

إذا كان الطفل في عمر يسمح له بالتواصل عبر جهازه فإن الملاحظة الأولى التي من الأوْلى للأهل أن يتنبهوا لها هو الوقت الذي يمضيه أمام الشاشة، وهذا يعتمد على عمره، وخصائصه الفردية، وسياق حياته الأوسع. إن أجهزة الاتصال ومواقع الانترنيت تجمع معلوماتهم وبياناتهم الشخصية؛ وهذه مسألة يجهلها الكثير من الأهالي. وعلى الأهل توضيح أضرار الجلوس الطويل على الأجهزة الذكية للأبناء، وتقنين فترات استخدامها، ويخصص الأهل أوقاتا ليكونوا إلى جنب الأبناء لتوجيههم وتعليمهم بكل حرص وحصانة وأمان السلوك الإلكتروني الآمن عبر التأكّد من القنوات التي يتعاملون عبرها كالمواقع، والألعاب، ووسائل التواصل الاجتماعي، وتأثيراتها وسلامة وصواب معلوماتها. وينبغي على الأسرة استخدام تطبيقات على الأجهزة التي يستخدمها الأبناء لحمايتهم من المواقع غير المناسبة التي تشكل خطرا على حياتهم، فضلا عن إيجابيات تقليص ساعات المضي أمام الشاشات التي تنعكس على سلامتهم الجسدية والنفسية والعصبية والعقلية. أكّدت دراسة جديدة "أن الحد من وقت استخدام الأطفال للشاشات ل3 ساعات أسبوعيا فقط له تأثير إيجابي على السلوك والصحة العقلية. وبحسب شبكة "فوكس نيوز"الأميريكية فقد أجريت الدراسة على 181 طفلا ومراهقا بأعمار تتراوح ما بين 4 و17 عاما، تم تقسيمهم بشكل عشوائي على مجموعتين، وكان على المجموعة الأولى التخلي عن هواتفهم الذكية وأجهزتهم اللوحية لمدة أسبوعين، والحد من استخدام وسائل الإعلام الأخرى -مثل التلفزيون وأجهزة الكومبيوتر إلى ثلاث ساعات أو أقل في الأسبوع. أما المجموعة الأخرى الضابطة فلم يكن لديها أي قيود. وأكملت عائلات المشاركين جميعا استبيانا لقياس الحالة النفسية والعقلية للأطفال ونقاط القوة لديهم والصعوبات التي واجهوها في فترة الدراسة. ووجد فريق الدراسة التابع لجامعة جنوب الدانمارك أن المجموعة التي حدت من وقت استخدام الشاشات إلى ثلاث ساعات أسبوعيا شهدت تحسّنات في الصحة العقلية، وخاصة في كيفية إدارتهم لمشاعرهم والتواصل مع أقرانهم. بالإضافة إلى انخفاض الصعوبات السلوكية التي واجهوها"[8].

أما بالنسبة لدور المدرسة في تقويم العلاقة بين قيم جيل الآباء وجيل الأبناء فإنه لا يقل أهمية عن دور الأسرة. وإن على المدرسة بطاقمها التعليمي تعليم الأبناء فن الاستفادة من تكنولوجيا المعلومات وتقنين المدة التي يمضونها على مواقع الانترنت. وأن يتولى مهمة توجيه الأبناء نحو طاعة الأهل في تقنين فترات الجلوس أمام الشاشات والاندماج في أجواء العائلة، و"أن يوجّه الطفل للتعلم الجاد المنتج عن طريق العناية بتثقيفه العلمي، وشحن تصوراته وأفكاره بقصص تتحدث عن إنجازات العلم الباهرة ومستقبله المضيء في إطار من الموضوعية، وبما يتناسب مع كل مرحلة عمرية"[9].

وأيضا ينبغي على المدرسة "ربط العلوم النظرية التي يتلقاها الطفل بواسطة القنوات والوسائط المختلفة بالتطبيق، وتثقيف الطفل علميا، أو تكنولوجيا بشكل صحيح بهدف إنماء التفكير العلمي لدى الأطفال"[10].

وعلى المدرسة أيضا "تعليم الأطفال القدرة على التفكير والنقد والتحليل والتحقق من أهداف ما يعرض لهم حتى تصبح لديهم القدرة على الانتقاء والتقييم"[11].

ويمكن أن تتعاضد العائلة مع المدرسة في تعليم الأبناء فن التعامل مع التكنولوجيا، ونموذجها الذكاء الاصطناعي بنحو إيجابي الذي يساعده في تطوير مهاراته العقلية والعلمية والفنية والاجتماعية. ويمكن للتربويين من طرح استراتيجيات تخص الموازنة بين القيم التربوية التي تربوا عليها؛ مثلا عقد الاجتماعات الأسبوعية التي تخص الآباء والمعلمين من جهة، والطاقم التعلمي والأهالي والأبناء من جهة أخرى، يتم فيها تناول إيجابيات وسلبيات التطور التكنولوجي الذي يفرض سلطته على الأبناء بقوة، وترشيد العلاقة بين قيم الآباء وقيم الأبناء. وأن تكون الاستراتيجيات متجددة مع تجدد وتطور التكنولوجيا. و"تعليم الأطفال المواهب العلمية بدءا من البيت ثم المدرسة، والمؤسسات المهتمة بتنشئة الطفل، وهو ما يفتح الآفاق أمام الأجيال في مستقبل اللغة الأساسية بما تمتلك الأجيال من علم وتقنيات ووسائل متطورة، وأن يستثمر هذا الجانب ويقدم لهم ما يناسب مجتمعهم وتوفير الحماية اللازمة من مخاطر التكنولوجيا المعاصرة"[12].

جاء في تقرير اليونيسف بشأن الطفولة في العالم الرقمي لعام 2017. "ومن خلال مناقشة ودراسة قضايا الطفل والعالم الرقمي فإن بعض الحقائق بدأت بالتبلور. الوساطة اليقظة والداعمة من قبل الأسرة والمدرسة تعد بالتوصل إلى أفضل النتائج في تمكين الأطفال من الاستفادة القصوى من الوصول إلى الانترنت بالحد الأدنى من التعرض لمخاطره. وفي هذا السياق ينبغي إيلاء مزيد من الاهتمام بأنشطة الأطفال التي يمارسونها من خلال تجاربهم الرقمية بدلا من حصر الاهتمام بالمدة التي يقضونها في الفضاء الرقمي. وينبغي على الدراسات والبحوث المستقبلية أن تأخذ بنظر الاعتبار سياق حياة الطفل بالكامل؛ عمره، وجنسه، وشخصيته، وأوضاعه الحياتية، وبيئته الاجتماعية والثقافية، وغير ذلك؛ لغرض رسم الخط الفاصل بين الصحي والنافع والضار"[13].

أما مسؤولية الدولة فهي أن تأخذ على عاتقها فرض قوانين تخص الرقابة الصارمة على مواقع الإنترنيت التي تضخ المعلومات بشكل متسارع، وتوضيح المخاطر التي تكتنف عملية الاستفادة منها، وتشذيبها من كل ما يشين عملية التربية والتهذيب، أو نسف القيم التربوية التي تربى عليها الأبناء. وهي مسؤولية وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات التي نأمل أن تُخصص وزارة خاصة بها في كل البلدان العربية؛ نموذجها (وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات القطرية) التي "تأسست عام 2021،  وتتحدد اختصاصاتها في الإشراف على قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وتطويره بما يتفق مع متطلبات التنمية الوطنية، والإشراف على إيجاد بيئة تنظيمية مناسبة للمنافسة العادلة، ودعم وتنمية وتحفيز قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وتشجيع الاستثمار فيه، وتأمين ورفع كفاءة البنية التحتية التكنولوجية والمعلوماتية، وتطويرها، وتوعية المجتمع بأهمية استخدام الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بطرق آمنة لتحسين حياة الفرد والارتقاء بالمجتمع، وصولاً إلى بناء مجتمع المعرفة القائم على أساس الاقتصاد الرقمي، وتنفيذ برامج الحكومة الإلكترونية والمجتمع الذكي والإشراف عليها، وتعزيز البنية التحتية والقدرات الحكومية في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات"[14].

ثقافة القيم لدى الطفل في ظل التكنولوجيا تفرض على المثقفين، والمفكرين، والكتّاب، والتربويين المهتمين، أن يشمّروا سواعد الجد ويضعوا قواعد لفهم العالم الافتراضي، وتحديد المواقع التي تعود بالفائدة على الطفل وتحفظ حياته من الخطر، وإعداده لمواجهة العقبات والمشكلات التي تعتريه في المستقبل، وتحمّل مسؤولية "البناء القيمي المتين الذي يمكّن الأفراد من مواكبة التكنولوجيا والتصدي لآثارها السلبية، ومنها حث الأطفال في أوقات فراغهم على إكساب المهارات في الأعمال التي تنمّي لديهم الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية تجاه مجتمعاتهم، وإنشاء برامج توعوية في نشر ثقافة الالتزام بالقوانين المجتمعية ومعاييرها واحترامها، وكذلك تمكين الأفراد من مواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية من خلال تعزيز الرغبة في التفوق العلمي والتكنولوجي لاكتساب القيم والمعارف العلمية، ومنها نشر ثقافة احترام الآخر، وقبول التعددية، والاختلاف الديني والثقافي والفكري والاقتصادي والاجتماعي"[15]. وهذه العملية هي "التي يتم بها انتقال الثقافة من جيل إلى جيل، والطريقة التي بها يتم تشكيل الأفراد منذ طفولتهم حتى يمكنهم المعيشة في مجتمع ذي ثقافة معينة، ويدخل في ذلك ما يلقنه الآباء والمدرسة والمجتمع للأفراد من لغة وتقاليد وقيم ومعلومات ومهارات"[16]."ومن ثم فهي تهدف إلى إكساب الأطفال أساليب سلوكية معينة، ودوافع، وقيمًا واتجاهات يرضى عنها المجتمع الذي يعيش فيه الفرد بحيث تشكل طرق تفكيره وأنماط سلوكه وحكمه على المعاني والأشياء"[17]. ويقع على عاتق الشرائح المثقفة عقد المؤتمرات والندوات والحوارات الهادفة لإيجاد صيغة توازن بين التقدم التكنولوجي وأثره على سلوك الجيل، والموروث القيمي الذي استمدوه من العائلة والمجتمع العالم.

ومسؤولية رجال الدين أيضا تكمن في دعم العائلة، والمدرسة، والدولة، وكافة الشرائح المثقفة، في توجيه الجيل نحو الحفاظ على القيم السلوكية التي تلقوها عن المحيطات التربوية بإصدار الأحكام الشرعية في هذا الشأن، والمواعظ الأخلاقية.

حينما تُطبّق تلك الإستراتيجيات من قبل العائلة، والمدرسة، والدولة، والمفكرين والمثقفين والتربويين، ورجال الدين؛ فإنها بلا شك سوف تقوى عضلة السلوك لدى جيل اليوم، وتجعله يواجه العالم الجديد بكل قوة واقتدار وجدارة وحصانة ذاتية، كما يقوى الجسم على ممارسة الرياضة بشكل يومي، ويتّزن سلوكه، وينشأ قويا في مواجهة التحديات التي يفرضها عليه العالم الرقمي.

ولا ننسى الإشباع العاطفي من قبل الأهل، فالطفل المشبع عاطفيا ينشأ محبا لنفسه، ومجتمعه، والمحيط، والطبيعة، معبرا عن نفسه، أمام العائلة، وحرا صريحا، وشجاعا جريئا في المحيطين الواقعي، والافتراضي.

نخلص مما سبق أن العائلة المحيط الأول الذي فيه يتلقى الطفل كل القيم السلوكية، والمعايير الأخلاقية، والأعراف، والتقاليد، وتبقى العائلة المحيط الأساسي الأول الذي يشكل صمام الأمان لحماية الطفل من تداعيات المستقبل. وقد تطرّقنا إلى كيفية تربية الطفل التربية الصحيحة التي تؤهّله ليكون قادرا على الانسجام مع المحيط الاجتماعي العام الذي يلي محيط العائلة، المتمثل بالطبيعة، والمدرسة، والمجتمع العام؛ والمحيط الافتراضي الذي يشكل شريكا موازيا للعائلة والمدرسة في عملية التربية بكل حذر وحيطة واقتدار من جهة أخرى.

القول الأخير: تبقى المحيطات الثلاثة؛ العائلي، والاجتماعي الواقعي المتمثل بالمجتمع العام، والمدرسة، وجغرافية المكان، والافتراضي؛ هي الحاضنات الأساسية لطفل اليوم في كل مراحل حياته؛ التي إما يكون نتاجها جيلا سالما إذا حظى بكل ظروف التربية الناجحة من تغذية، وتدريب، وتحصين ضد الأوبئة المختلفة، ورفاهية نفسية وعاطفية وسلوكية، ومخاطر المجتمعات الثلاثة؛ العائلي، والواقعي، والافتراضي، متمتعا بعلاقات متينة في كل محيطاته. أو جيلا مريضا محمّلا بالعاهات، والإعاقات البدنية والأخلاقية والسلوكية، وحالات الفقر، والحرمان، والفشل، والإحباط، والقسوة، والإهمال، والعنف، والتشرّد، والنبذ، والتمييز، والتفريق العنصري، ورفاق السوء، والإصابة بالحوادث، والكثير من مردودات التكنولوجيا السلبية على الطفل. وكل ذلك مرتبط بطبيعة البيئة المسؤولة عن التنشئة الأخلاقية والتربوية والتعليمية والسلوكية للطفل في سنواته الأولى؛ وهي السنوات الحاسمة من عمره.

المعايير التي تساوي بين ذات الفرد وكينونته الأصل وبين تابعيته الاجتماعية ومسؤولياته العامة تُحدث توازنا في شخصه، وإذا تحقق التوازن في العوالم الثلاثة ستكون مثرية له، حينئذ سيكون الجيل الرقمي يتحلى بالوسطية والاعتدال على مختلف الصعد الشكلية، والظاهرية، والمعنوية.

ما دام العقل البشري في حالة اكتشاف، واختراع، وإبداع أبدي، والذكاء الاصطناعي ليس آخره، والروبوتات بأنواعها الآمنة والخطيرة إحدى تطبيقاته؛ فإنه يتعين علينا أن نكون على بصيرة، وحذر، وصرامة، ونقف وقفة حازمة لنحمي أبناءنا من مخاطره.

كل ما يدور في أفكارنا يحضر بسرعة الإلكترون دون بذل الجهد؛ هذا ما تفرضه علينا عالمية العقل البشري.

***

إنتزال الجبوري - باحثة

........................

[1]  أنظر: الحلقة الثانية من هذه الدراسة، الشرط الرابع لإيجاد المحيط التربوي الملائم.

[2] أنظر: كانط. في التربية، مصدر متقدم، ص56-60.

[3] موقع قناة العربية(مايو 2024).

[4] نفس المصدر.

[5] أنظر: سيد حامد، مصدر متقدم، ص134-136.

[6] جودت، مو. المؤلف والرئيس التنفيذي السابق للأعمال في جوجل إكس. في موقع BBC.

[7] أنظر: ندمان، محمد خير. "في هذا العصر الرقمي.. من يربي أبناءنا؟". صحيفة الشرق الأوسط (9 أكتوبر2022) (تحقيقات وقضايا).

[8]ما المدة الآمنة لتعرض الأطفال للشاشات يوميا؟). صحيفة الشرق الأوسط(12 أغسطس2024- 7 صفر 1446)(يوميات الشرق).

[9] بركات، مصدر متقدم، ص14.

[10] نفس المصدر، ص15.

[11] عبد الرحيم، هناء محمد. أطفالنا والكومبيوتر. القاهرة: دار الفكر العربي، 2005، ص34، نقلا عن بركات، مصدر متقدم، ص15.

[12] الحيلة، محمد محمود. الألعاب التربوية وتقنيات إنتاجها. عمان: دار المسيرة للنشر والتوزيع، ط3، 2005، ص211

[13]تقرير اليونيسف بشأن الطفولة في العالم الرقمي لعام 2017.

[14]موقع رابطة العلماء العرب.

[15] إنظر: سرحان، وليد. تأثير التكنولوجيا على القيم الأخلاقية. موقع موضوع (7 ديسمبر2022).

[16]جبريل، ثريا، وآخرون. الخدمة الاجتماعية والأسرة المصرية المعاصرة. القاهرة: المكتب الجامعي الحديث، 2006، ص206، نقلا عن بركات، مصدر متقدم، ص11.

[17] عماد الدين، محمد. مصدر متقدم، ص11.

 

في المثقف اليوم