دراسات وبحوث
أياد الزهيري: الإسلام ومجال اشتغالاته في السياسة (8)
قدمنا في الحلقة السابقة من هذه الدراسة المبررات التي دعتنا الى الأخذ بتجربة الإمام علي (ع) كأنموذج للحكم في الإسلام، وقد ذكرنا فيها الأسباب الموجبة لذلك، وفي هذه الحلقة سنستعرض هذا الأنموذج، وما أختص به من ممارسات، وسيتضح من خلالها كيف أن الإمام وَظف كليات وقواعد الفقه السياسي الإسلامي، والمنظومة الأخلاقية، وأثر المعتقد على سلوكه وطريقة عمله السياسي في مجال الدولة وَسَيرعملها . وفي هذه الحلقة سنبدأ بالخطوة الثانية التي قام بها الإمام بعد خطوة أسترداد الأموال المسروقة من الفاسدين، وسراق المال العام:
2- العدالة والالتزام بالقانون:
وهو الشعار والمحور الذي تدور حوله سياسة الإمام علي (ع)، كيف لا والرسول (ص) يقول (علي مع الحق، والحق مع علي) (الهيثمي في مجمع الزوائد، ابن المغازلي في المناقب، وابن عساكر في تاريخ دمشق). كان شعار علي (أعدل تحكم) (ميزان الحكمة ج6 الشيخ الريشهري)، وهو القائل (العدل أفضل السياستين) (ميزان الحكمة:ج6)، فكان الألتزام بالقانون هو قطب الرحى في حركته الأصلاحية السياسية، فقد حرص الإمام على أداء حكومي عادل بعيد عن الممالئة والمحاباة، والمحسوبية والمنسوبية التي تميز حكم من كان قبله، فلا مجال للقبائلية والعائلية والمناطقية في تطبيق أحكام القضاء، وقد ضرب مثل أعلى بنفسة لكي يكون درس بليغ لغيرة بأن القضاء خط أحمر لايمكن تجاوزه، وأن حادثة قضائية حدثت له مع يهودي، فقد قاضى رجل يهودي الإمام على درع أدعى له، فأستجاب الإمام للدعوة القضائية، ووقف أمام القاضي مع اليهودي على حد سواء، وأنكر الإمام على القاضي عندما كنى الإمام وهو في دار القضاء، وهناك حداثة أخرى تكشف عن حالة يكون هو المنفذ للقانون بها، بأعتباره يمثل السلطة التنفيذية بالدولة، وهي حينما أقر القانون حَدّ رجل من بني أسد، فجاء جمع من قومة مصطحبين معهم الحسن (ع)، معتقدين إن أصطحابهم للحسن (ع) سيكون نصيب المتهم الأعفاء من العقوبة، فكلموا الإمام (ع)، فقال لهم: لاتسألوني شيئاً إلا أعطيتكم فخرجوا وقد تيقنوا أنهم فلحوا بتحقيق ما أرادوا، ولكن علي (ع) أخرجه وأقام عليه الحد، ثم قال (هذا والله لست أملكه) (موسوعة الإمام علي ج4 ص130 نقلاً عن المناقب لأبن شهر آشوب ج2 ص147)، فالسياسة في نظر الإمام ليست هدفاً بحد ذاته، وأنما هي وسيلة لتحقيق هدف سامي، وهو أقامة حكومة العدل الإلهي، كما أن الأمام يعتبر العدل أساس الأستقرار السياسي، فقد قال في عهده لمالك الأشتر واليه على مصر (وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأتمها في العدل، وأجمعها لرضى الناس)، ومن صفحات عدل حكومة علي (ع) هو توزيعه للثروة بشكل عادل ومنصف، وهذه قضية مهمة وغاية بالحساسية لأستقرارالمجتمعات وأستباب السلمي المجتمعي، لأن العدالة في التوزيع يشعر الناس بالأنصاف، مما يكسبهم الثقة بالدولة والشعور بالأطمئنان، ويكرس حالة الأحترام لها . ومن صور العدالة في دولة الإمام هو المساواة بين رعايا الدولة بغض النظر عن دينهم ولونهم وقوميتهم، ولا بين فقير وغني، فالكل متساوون أمام القانون، فهناك قول مشهور للإمام (ع) يقول فيه (الناس أما أخ لك بالدين أو نظير لك بالخلقة) فلا أمتيازات ولا حصانات خاصة، وأن من أرقى صور المسؤولية القانونية هو الكشف عن ذمته المالية، وهذا يكشف عدم حصانة أحد أمام القانون، فقد قال في هذا الصدد لأهل الكوفة (يأهل الكوفة ان خرجت من عندكم بغير رحلي وراحلتي وغلامي فأنا خائن) (الإمام علي ومشكلة نظام الحكم) وهذه ألتفاته لم يسبقه بها أحد، فهو يرى نفسه موظف على أموال المسلمين، وقد طُلب منه بأمتيازات مالية من قِبل سياسين كبار فرفض ذلك، فهو القائل (لو كان المال مالي لسويت بينهم، فكيف والمال مال الله) فقد كان شديد الحرص بالذمة المالية ، فالأمام كان بأمكانه آنذاك والظروف الأجتماعية والثقافية مؤاتية له وتساعدة في بناء حكم ثيوقراطي أو أوتوقراطي، وهي أشكال حكم تتيح للحكام القدامى من ملوك وأباطرة أن يستئثروا بكل الثروات والأمتيازات، ولكن الإمام لا تشغله الثروات ولا الأمتيازات بكل أشكالها، وهو القائل (يادنيا غرّي غيري قد طلقتك ثلاثا) (نهج البلاغة) فكان الإمام زاهداً بالدنيا، وهذه بالحقيقة أهم ميزة للحاكم الصالح والأمين لأن المال والملك كثيراً ماتغري الإنسان وتسقطه في حبال الغرور والأثرة، والقرآن الكريم يصف الإنسان (وإنه لحب الخير لشديد) (العاديات:8). كان الإمام من شديد حرصة على تطبيق العدالة، والدعوة لأنصاف الرعية، فمن وصاياه للأشتر في عهده له (وأنصف الناس من نفسك ...ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده)، وضمان أستقلال البلاد، وتأمين الحصانة للقاضي لسير العملية القضائية على أتم صورة، لضمان النزاهة والموضوعية في القضاء، وتأمين الحقوق المدنية للمجتمع، نراه يؤكد على توفير مستلزمات عيش القاضي لكي لايضعف أمام قوة المال، ويُدفع به الى محاباة من يرشيه بالمال، لذلك نراه في عهده الى مالك الأشتر (واعطه (ويعني القاضي) من المنزلة لديك ما لايطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن من ذلك أغتيال الرجال له عندك وأنظر في ذلك نظراً بليغاً) (نهج البلاغة).
3- تعامله مع المعارضة:
لا يعتبر الإمام (ع) المعارضة سواء كانت فكرية أو دينية كأصحاب الأديان الأخرى، سياسية كالخوارج وغيرهم حالة مزعجة، بل يعتبرها حالة طبيعية، مادامت لم تسلك طريقاً عنفياً وفوضوياً، يتعرض فيه السلم المجتمعي والدين للخطر، والدليل على ذلك، فقد كان يعرف في معارضة طلحة والزبير له، ومايضمرونه من غدر له، إلا أنه لم يتعرض لهم بسوء، ولايحاسبهم على مايضمرون، وتركهم وشأنهم، لأن لا عقوبة عنده بدون جريمة تقترف، فتركهم وشأنهم مادام لم يبدر منهم مايزعزع أمن النظام السياسي، ويؤثر سلباً على الأمن المجتمعي، على الرغم من علمه بسبب خروجهم من المدينة، وكان يعلم أنهم سيغدرون، حتى قال لهم بعد أن أستأذنوه بالذهاب الى مكة للعمرة، فقال لهم (والله ماتريدان العمرة، ولكنكما تريدان الغدرة) (علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ-محمد الشهري ج5) ومع ذلك لم يسعى الى أعتقالهم، ومنعهم من مغادرة المدينة المنورة، فهو لايحاسب على النوايا والظن، كما يحاسب معاوية بن أبي سفيان، وكل الحكومات الدكتاتورية، ولم يُعرف عنه أنه كره أحد على بيعته، وقد قال ذلك لطلحة (أني ما كرهت أحداً على البيعة، ولو كنت مكرهاً أحداً لأكرهت سعداً وابن عمر، ومحمد بن سلمة وأعتزلوا فتركتهم) (علي ومناوؤه:الدكتور نوري جعفر)، كما أن الأمام لم يستخدم سلطته في الدولة ومركزه الوظيفي كأداة للوي أذرع خصومه وأستغلاله في أخضاعهم له بالقوة، فقال للخوارج رغم معارضتهم القوية له وتكفيره، فكان رده (كونوا حيث شئتم، وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما ولا تقطعوا سبيلا ولا تظلموا أحدا) ولم يكفرهم بالرغم من تكفيرهم له، بل قال (إخوان لنا بغوا علينا) بل كان يضرب مثل بالتعايش السلمي وأحترام معتقدات الآخرين، حتى أن الخوارج رغم تهديدهم للدولة التي يرأسها الإمام، وأجمعوا على أن يخرجوا عليه، وهناك من قال له أن القوم خارجون عليك، فيرد ويقول فأني لا أقاتلهم حتى يُقاتلوني، وسوف يفعلون (تاريخ الرسل والملوك/تاريخ الطبري)، وأكثر من ذلك كان لايقمع رأياً، ولا يسكت صوتا، حيث قام له رجل من الخوارج في مسجد الكوفه وهو يخطب، فقال له الرجل لا حكم الا لله، وقام آخر فقال له نفس القول، فرد عليهم الإمام (ع) (الله أكبر كلمة حق يُلتمس بها باطل أما أن لكم عندنا ثلاثا ماصحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها أسمه، ولا نمنعكم الفيء مادامت أيديكم مع أيدينا ولا نقاتلكم حتى تبدؤونا)، فقد كان الخوارج يجاهرون بتكفير الإمام، ويصرحون بذلك أمامه، وهو لم يستعمل القوة ضدهم ماداموا لايستخدمون هم القوة، وخير دليل ماقال له بن عبد الرحمن بن سعيد البكائي وكان خارجيا، وكان الإمام يخطب (ولقد أوحى إليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) (الزمر:65) فجاوبه الإمام (ع) (فاصبر إن وعد وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) (الروم:60) فقد حاوره الإمام ولم يصده بعنف كحاكم يمتلك القوة والمنعة، فكان صدره يتسع لهكذا معارضة تتسم بالوقاحة وعدم اللياقة في معارضتهم، فالإمام لا يستخدم القوة المسلحة لردع الخصم، سواء كان داخلي معارض أو خارجي إلا أذا كان يمارس العنف المسلح كما حصل لحروبه الثلاثة (صفين مع معاوية، والنهروان مع الخوارج، والجمل مع طلحة والزبير)، فالأمام لم يرغب بأستعمل القوة مع معارضيه، والدليل كان يحاورهم بنفسه قبل المعركة، وأحياناً يرسل لهم ابن عباس في محاورتهم لأقناعهم بالرجوع عن الحرب، في حين كان معاوية يقتل معارضيه على الظن، وهناك كلمه معاوية يأمر بها شرطته ويقول لهم (خذوهم بالظنّة وأقتلوهم بالتهمة).
4- سياسة الإمام الاقتصادية والمالية:
يعتبر الجانب الأقتصادي من الجوانب المهمة والحساسة في أستقرار وتنمية الدول، وخاصة جانب التأمين الغذائي . فأهمية الموضوع هي من دعت الإمام الى القول (لولا الخبز ما عُبدَ الله) ولأهمية هذا الجانب يقول أحد المفكرين (أن الخبز قبل الشعار)، ولحساسية الموضوع أتبعت بعض الأنظمة سياسة التجويع من أجل تركيع الشعوب وأذلالها وبالتالي أستسلامها، كما أن الإمام جعل من العامل الأقتصادي عنصراً مهماً في الأستقرار الجتماعي لذلك حرص على تقليص التفاوت الأقتصادي بين طبقات المجتمع، لأن كلما أتسعت الفجوة بين الطبقات الأجتماعية مالياً، كلما يدفع بأتجاه التذمر والسخط الشعبي مما يدفع بأتجاه العنف، فيشتعل الشارع بأقل شرارة تُطلق بالهواء، وهذا ما دعى الإمام الى أسترجاع الأموال التي أُخذت بغير حق، وقد أشرنا الى ذلك بالحلقات السابقة في باب أسترجاع الأموال المنهوبة من بيت المال، وهنا نذكر حادثة وردت بأن الأشعث بن قيس أصاب مائة الف درهم، ويُقال أقطعه عثمان أياها عندما أستعمله على أذربيجان فأمره الإمام بأحضارها فدافعه، وقال يأمير لم أصبها في عملك قال (والله لئن أنت لم تحضرها بيت مال المسلمين لأضربنك بسيفي هذا ...فأحضرها ووضعت في بيت المال). كانت الضرائب أحد مصادر تمويل الدولة، وأحد أهم موارد الأعانة التي تُقدم للمحتاجين من رعايا الدولة (الطبقة الفقيرة)، ومع ذلك كان يوصي جامعي الخراج بالتسامح فقد نبه في عهده لمالك الأشتر الى هذا الجانب، بأن لايمارس عملاً تعسفياً في جباية الضريبة من دافعي الضرائب، فيقول له (ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم..)، فقال لرجل من ثقيف أستعمله الإمام في جباية الخراج (أياك أن تقرب مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً في درهم خراج ...فأنما أمرنا أن تأخذ منهم العفو) وقال لآخر (لا تضربن سوطاً في جباية..)، فلم تكن سياسة الإمام في جباية الضرائب سوطاً مسلطاً على رقاب الناس كما فعل الكثير من الحكام قديما وحديثاً، حيث أثقلوا كاهل المواطن بها لأغراض الحاكم الخاصة، وليس من أجل التوزيع العادل بين جماهير الشعب، أضافة على حرص الإمام على أموال بيت المال، كان ينزل الى الأسواق بنفسه ويراقب الأسعار، ويحذر من الغش والخداع في عمليات البيع والشراء، فكان يركب بغلته الشهباء ويجول الأسواق سوق سوق فيأتي لسوق اللحامين فيقول بأعلى صوته يامعشر القصابين لا تنخعوا، ولاتعجلوا الأنفس حتى تُزهق، وإياكم والنفخ في اللحم للبيع، ثم أتى التمارين فقال أظهروا من رديء بيعكم ماتظهرون من جيده، ثم يأتي السماكين فقال لاتبيعوا إلا طيباً وإياكم وماطفا) وكان يقول لهم (..وتبركوا بالسهولة، وأقتربوا من المبتاعين .. وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب ..ولاتقربوا الربا وأوفوا بالكيل والميزان، ولاتبخسوا الناس أشياءهم ..) (الكافي، تهذيب الأحكام، الأمالي للمفيد) . ومن أعمال الأقتصاد هي الضرائب، التي هي مصدر من مصادر المال للدولة، حيث توظف لأعمار منشأت البلد ومشاريعها، ومساعدة ذوي الدخل المحدود من الرعايا، والمحتاجين من الفقراء والمرضى، والأيتام والأرامل من النساء، فقد أولى الضريبة (الخراج) أولوية كبيرة، وقد قدم توصيات مهمة في كيفية التعامل مع الذين يُخذ منهم الخراج، وأكد على نوعية الجابي له، وما يجب أن يتمتع به من مواصفات أخلاقية، وقد جاء ذلك في عهده لمالك الأشتر وهي وثيقة هامة كنظرية عمل في كيفية أدارة الحكم، حيث قال له في هذا الصدد (وَتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحاً لمن سواهم ..لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله، وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في أستجلاب الخراج لأن ذلك لايُدرك الا بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره الا قليلاً)، وهنا يركز الأمام على أن من أولويات أستثمار الضريبة هو العمران، وكل ما تتطلبه عملية أصلاح المجتمع، لأن الخراج في نظره ليس لذاته، وأنما لتطوير وأصلاح الحياة الأجتماعية، كما أن الإمام يٌشير على عامله في أختيار موظفي جمع الضريبة (الخراج) من الكفوئين وأصحاب الأمانه، فيقول (فعمد لأحسنهم كان في العامة أثراً، وأعرفهم بالأمانه وجهاً ..)، فقد كان الأمام (ع) شمولي بنظرته في تنظيم الجانب الأقتصادي مما أولاه عظيم الأهمية والأعتناء، فنراه يوصي بكيفية معاملة التجار لأنهم عصب الحياة الأقتصادية، فيوصي عامله الأشتر في عهده له (ثم أستوص بالتجار وذوي الصناعات، وأوصي بهم خيراً.. فأنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح . أعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً، وأحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة، عيب على الولاة، فأمنع الأحتكار، فإن رسول الله (ص) منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل وأسعار لاتجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكره بعد نهيك إياه فنكل به وعاتب في غير أسراف)، نلمس من خلال ذلك أن الأمام يوجه ولاته في الحياة الأقتصاديه أدق توجيه، وفي غاية الدقة من أجل أن تنتعش الحياة الأقتصادية والمالية، وبنفس الوقت يمنع الأحتكار في السوق، وذلك لمنع الأستغلال .
5- الرعاية الأجتماعية:
لقد أولى الأمام علي بن أبي طالب (ع) الطبقة المسحوقة من الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل الأهمية القصوى، فقد جهد الأمام نفسه، وبذل كامل طاقته في محاربة الفقر، حتى أن له قول شهير يكشف عن أهتمامه بهذا الجانب، وأمتعاضه منه، حيث قال قولته الشهيرة (لو تمثل الفقر لي برجل لقتلته). الأمام يعرف تداعيات الفقر، وما يمكن أن يسببه من أمراض وعيوب أجتماعية، وما يعكسه على الفرد من أمراض نفسيه وعيوب أخلاقية، ففي قول له (ع) (إني أخاف عليك الفقر فأستعذ بالله منه، فإن الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت)، لهذا نرى الأمام (ع) حريص على توصية عماله بالعناية الشديدة بالطبقة المسحوقة من المجتمع، عن طريق تخصيص المبالغ المالية لهم من بيت المال، حيث يقول للأشتر في عهده (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لاحيلة لهم، والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤس .. وأحفظ لله ما أستحفظك من حقه فيهم، وأجعل لهم قسماً من بيت مالك .. فأن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى .. وتفقد أمور من لايصل أليك منهم ...فأن هؤلاء من بين الرعية أحوج الى الأنصاف من غيرهم .. وتعهد أهل اليتيم وذوي الرقة في السن، ممن لاحيلة له..)، نرى من خلال هذه الوصية أن الأمام يعمل الى بناء مؤسسة كبيرة لرعاية الطبقات الفقيرة من المجتمع، كل المجتمع بلا تميز بين مسلم وغيره من اليهود والنصارى وغيرهم، ودليل ذلك عندما شاهد رجل كبير كفيف يطلب المساعدة، فسأل عنه فقالوا له أنه رجل نصراني فقال (أستعملتموه حتى أذا كبر وعجز منعتموه ! أنفقوا عليه من بيت المال) (المعرفة والتاريخ: يعقوب بن سفيان بن جوان المتوفي 277 ه) تحقيق أكرم ضياء العمري، مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الثانية 1981)، وهذا دليل على وجود مبدأ المواطنة في دولته ونظامه السياسي القائم على مباديء الإسلام، وأعتبرأن ما تعطيه مؤسساته الحكومية ليس مِنه منه ولا من ولاته، حيق قال للأشتر في عهده (وأياك والمن على رعيتك بإحسانك أو التزيد فيما كان من فعلك) وأعطاءها حقوقها، والدعوه الى رعايتها، فهو سبق دول كبرى في عالم اليوم في أنشاء هكذا مؤسسة ترعى الطبقات المسحوقة من المجتمع، وهكذا مؤسسات أُنشئت حديثاً في العصر الحديث، بعد الحرب العالمية الثانية، تحت مسمى (مؤسسات الرعاية الأجتماعية) .
6- سياسة السلم:
كانت سياسة الإمام (ع) تؤكد على حالة السلم المجتمعي داخلياً، وكذلك خارجياُ مع الدول الأخرى، فكان الإمام يدرك جيداً ما تولده الصراعات الداخلية من فوضى، ودمار لبنية البلد، وماتتركه من خطر على السلم الأهلي، وتقديراً لتبعات وضرر الصراعات الدموية، دعى واليه على مصر في عهده له (أياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شيء أدنى لنقمة، ولا أعظم لتبعه، ولا أحرى بزوال نعمة وأنقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها) . فالإمام أبدى حرصاً شديداً بمنع سفك الدماء، وأحرص ما يكون على السلام الذي شدد عليه بالتوصية الى عماله، وهنا نذكر ما وصى به واليه على مصر الأشتر النخعي، حيث قال له محذراً (ولاتدفعن صلحاً دعاك إليه عدوك ولله فيه رضى، فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من همومك، وأمناً لبلادك، ولكن الحذر الحذر من عدوك بعد صلحه ..وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة فحط عهدك بالوفاء، وراع ذمتك بالأمانة .. فلا تغدرن بذمتك، ولاتخيسن بعهدك، ولا تعقد عقداً تجوز فيه العطل، ولاتعولن على لحن قول بعد التأكد والتوثقة ..) . نلمس من ذلك حرص علي (ع) على السلام، ومن حرصه الشديد يُنبه الى كتابة العقود والمعاهدات بدقة حتى لا تكون مدعاة للتجاوز والتفسير المتسم بالغموض الذي يكون سبب لأندلاع الصراع مرةً أخرى . من المعروف من تاريخ الحروب التي خاضها الإمام (ع) أنه كان يبدأ بالتفاوض مع خصومه أما هو من يقوم بالتفاوض والمحاورة، وأما يرسل أبن عباس لمحاورة الخصم، كما أنه من مبادئه التي لا يميل عنها أنه لايبدأ الحرب حتى يبدأها خصمه، وهو القائل لقواد جيشه عندما خرج لقتال الخوارج بالنهروان (دعوهم فإني لا أقاتلهم حتى يُقاتلوني ..) (تاريخ الرسل والملوك-تاريخ الطبري:دار التراث بيروت).
7- تنظيمه الأمني:
أولى الأمام علي (ع) الجانب الأمني عناية عظيمة لما لها من أهمية وما يشكله الأمن من عظيم التأثير على الحياة العامة، وعلى الدولة بشكل خاص، فقد ورد عنه قوله في هذا الصدد (شر البلاد بلد لا أمن فيه ولا خصب)، فنرى كيف يعطي للجانب الأمني من أهمية قصوى، كذلك كان يوصي عماله بأقامة عمل أستخباراتي في ملاحقة الأعداء، والمجرمين، ومتابعة موظفي الدولة، حيث يُسمي هذا الجهاز بالعيون، فيقول (فأسئل عنهم أهل بلادك وأجعل عليهم العيون في كل ناحية..)، وهؤلاء يُسمون حالياً بالأمن والأستخبارات المدنية، كما أن الأمام عمل على أستحداث خط مدني أستخباري، وهذا يعتير هيكل أو هرم أداري غير رسمي (عيون)، يكون بالتوازي مع الجهاز الحكومي الأمني، يراقب به موظفي الدولة، وقد ورد له كتاب الى كعب بن مالك، يقول فيه (أما بعد فأستخلف على عملك وأخرج في طائفة من أصحابك حتى تمر بأرض كورة السواد فتسأل عن عمالي، وتنظر في سيرتهم فيما بين دجلة والعذيب) (موسوعة الإمام علي ج4 ص138-139 نقلا عن تاريخ اليعقوبي ج2ص204)، ولكن بالتوازي مع هؤلاء هناك ما يُسمى بالجانب الشرطوي، حيث أسس جهاز يُسمى بشرطة الخميس، وهي تشبه بما يُسمى اليوم بشرطة الطواريء، وهم يمثلون الجانب العسكري الشرطوي للأمن الداخلي .
8- رؤيته في اختيار موظف الدولة وأرشاداته في تقديم الخدمة للناس:
حرص علي بن أبي طالب (ع) شديد الحرص في عملية أختيار العاملين في جهازه الحكومي، لذلك نرى في بداية أستلامه للحكم، قام بعملية تنظيف للجهاز الحكومي، فقام بطرد الفاسدين منه، وقد سببت عليه هذه الخطوة متاعب كثيرة، وقد نُصح بالتوقف عنها أو تأجيلها الى حين، ولكن الأمام رفض ذلك بقوة، لأنه جاء بسياسة أصلاحية جذرية وثورية لاتقبل التهادن ولا التراوغ، وقد لمسنا رفضه بقاء معاوية في الشام رغم ظرفه الصعب، فقال (ماكنت متخذ المضلين عضدا) (الكهف:5). فكان الأمام (ع) يتبع في سياسة التوظيف الحكومي أُناس من أهل الخبرة، والتجربة، ومن ذوي الأخلاص والأيمان والأخلاق العالية، تكون حارسةً لهم، وضمانة تكفل نزاهتهم في العمل الأداري والمالي والقضائي، ونلمس ذلك بوضوح في عهده للأشتر النخعي في توجيهه على أختيار معاونيه، فيقول (أنظر في أمور عمالك، فأستعملهم أختباراً ولاتولهم محاباة وأثرة .. وتوخ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام، فأنهم أكثر أخلاقاً وأصح ..ثم أسبغ عليهم الأرزاق فإن ذلك قوة لهم على أستصلاح أنفسهم، وغنى لهم من تناول ماتحت أيديهم، وحجة عليهم .. ثم تفقد أعمالهم وأبعث العيون من أهل الصدق عليهم..) . تعليمات وضوابط بغاية الأهمية تنم عن فكر أداري عظيم أذا نظرنا الى العمر الزمني، والظرف التاريخي لهذه القواعد والتوجيهات الأدارية، التي تدل على أن صاحبها يحمل فكر قيادي، ومهارة أدارية سياسية في علم الدولة، فنرى توجيهات الإمام (ع) في العمل الأداري للموظف الحكومي واضحة في عدم التراخي، والتكاسل في أداء مهامهم، فيقول في هذا الصدد لولاته (ثم أمور من أمورك لابد من مباشرتها: منها إجابة عمالك يعي عنه كتابك، ومنها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك .. وأمض لكل يوم عمله، فإن لكل يوم مافيه..). ويقول (.. وإياك والعجلة بالأمور قبل أوانها.. فضع كل أمر موضعه وأوقع كل عمل موقعه، وأياك والأستئثار..) . أما تأكيده على ذوي الكفاءة، فله كلمة تصلح شعار في علم الأدارة، يقول فيها (من رُفع بلا كفاية وضع بلا جناية) (غرر الحكم).
قبل أن أنهي دراستي رأيت من المهم أن أشير الى ملاحظة في غاية الأهمية، وهي الرد على بعض من أشار منتقداً تجربة الإمام بالحكم، على أنها كانت فاشلة لأنه لم يستعمل أدوات السياسة المكيافيلية (الدهاء والمراوغة والخداع ..)، أن الإمام ما كان ينوي أن يبني نظام سياسي قائم على الخداع والمراوغة لأن أحد أعمدة ومرتكزات نظريته السياسية هي الأخلاق، وهي عنصر عظيم الأهمية في نظامه السياسي، وهذا مايميزه عن غيره، من سياسات خصومه، وخاصة ممن عليهم مؤشرات فساد مالي، وكذلك أصحاب المطامح السلطوية مثل معاوية بن أبي سفيان، وهنا أقول لهم أن الأمام لا يُريد أن يكون لتجربته السياسة أن تقوم على مبدأ الغاية تبرر الوسيلة كسنّة لما يأتي من بعده، لتكون قاعدة لهم يتحججون بها عند حكمهم لرعاياهم بأساليب لاأخلاقية ومنحرفة، فهو أراد أن يكون نموذج سياسي أخلاقي يُحتذى به من بعده، وكتراث وتجربة يُعتد بها للمستقبل، فهو ممن يجعل من السياسة في خدمة الدين والمجتمع، باعداً أياها من كل منطق مصلحي أستحواذي، تكون فيه السياسة مطية لأصحاب المصالح الشخصية، ومن المغامرين من السياسيين ذوي الميول السلطوية . فالإمام (ع) ليس ممن يهوي أيهام الجماهير ليصبح عليهم سيداً، بل كان رجل قاد نظام سياسي دمج فيه الأخلاق مع الممارسة السياسية. كما من الضروري أن أشير للقاريء الكريم أن ماقدمته في هذه الدراسة لا أدعي فيها بأن ما جاء فيها من تصور هو يمثل ما جاء به النص الإسلامي المقدس تماماً، بل هو يمثل مقدار فهمي لما قرأته من النص الديني الإسلامي بأنه نص يحمل في ثناياه نظرية حكم في الأسلام لها خصوصيتها التي تنفرد عن غيرها من نظريات السياسة الأخرى، وأن تجربة الأمام علي (ع) في الحكم تجسدت بها كل مقومات النظام السياسي، المتمثل بوجود الشعب، والأرض (المنطقة الجغرافية، والنظام السياسي (الدولة بكل مؤسساتها:القضائية والسياسية والمالية) .
***
أياد الزهيري