شهادات ومذكرات
محمود محمد علي: وداعاً أميرة الفلسفة

ترجع معرفتي بالدكتورة أميرة حلمى مطر أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة المصرية (1930 – 2025) منذ عام 1989 حين كانت تدرس لي مقرر مصادر الفلسفة اليونانية، وخلال تدريسها لنا أمام أستاذة متميزة لأستاذة أكاديمية، تختلف عن أساتذة كثيرين غيرها من الأساتذة، أستاذة تتوفر فيها سمات ومقومات وأبعاد، تنتزع بذاتها الاحترام وتفرضه، وتستأهل التقدير وتثير الإعجاب، وتغرس في النفوس حبا تخامره رهبة، وأملا يواكبه شعور بالتفائل، وانتماءً بصاحبه شعور بالزهو بالتدريس علي يديها .
وقد كثرت لقاءاتي بها خلال المحاضرات، وهنا اكتشفت بعدا آخر في شخصية الدكتورة أميرة مطر، حيث كنت أشعر في حضرتها دون ثالث لنا بالأم الحانية والأستاذة القديرة، لم تفرض علينا في تدريسها توجها معينا، ولم تستبد برأي، ولم تلزمنا بوجهة نظر خاصة، وإنما تحاور وتناقش وتوجه بجدية وصدق، وتفتح أمامنا أفاقاً جديدة، وتعرض آراءها وأفكارها ورؤاها، ثم تترك لنا حرية الاختيار .
لقد كانت له فوق ذلك ومعه، تواضع وحنو يذهبان عني كل رهبة دون افتقاد الاحترام والهيبة ويشجعاني علي طرح المزيد من الاستفسارات والتساؤلات، مما يطيل الحوار معها، ولم ألحظ منها قط ضيقاً أو امتعاضا أو مللا، ولا استعلاء وتكبرا، ولا أسمع منها إلا كلمات التشجيع بما يعزز الأمل عندي ويبعثني علي مضاعفة الجهد وبذل أقصي ما في الوسع عن رضي واقتنع .
وفي الأسبوع الماضي وافتها المنية وذلك عن عمر ناهز 95 عاما، وذلك حسب ما نشره الكاتب والناقد الأدبي شعبان يوسف والذي قال في منشور له عبر صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي: الدكتورة أميرة حلمي مطر، أستاذة الفلسفة وداعًا، هكذا فقد بيت الفلسفة المصري والعربي ركنًا متينًا وعظيما، كان وسيظل مشتعلًا دائمًا".
رحلت عن عالمنا أميرة الفلسفة تاركة وراءها إرثًا فكريًا خالدًا ومسيرة علمية حافلة بالعطاء والتنوير. لم تكن الدكتورة أميرة مجرد أكاديمية بارزة، بل كانت منارة للعلم، وفيلسوفة عميقة الفكر، ومربية أجيال، ونموذجًا للمرأة المصرية والعربية التى جمعت بين رصانة البحث العلمى وعمق التأمل الفلسفى ورهافة الحس الإنسانى.
قدّمت أميرة الفلسفة معظم مؤلفاتها في سياق أكاديمي موجه للطلبة والمتخصصين في حقول الفلسفة والعلوم الاجتماعية والآداب، ومنها "الفلسفة اليونانية: تاريخها ومشكلاتها" (مكتبة بستان المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع، 1988)، و"عن القيم والعقل في الفلسفة والحضارة" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010). بالإضافة إلى ترجماتها المتعددة التي صدرت منذ الستينيات، ومن بينها: "الفكر الإسلامي وتراث اليونان"، و"جمهورية أفلاطون، مكتبة الأسرة"، و"محاورتا ثياتيتوس وفايدروس أو عن العلم والجمال".
كانت الدكتورة أميرة حلمي مطر والتي ولدت في عام 1930 أستاذة جامعية في الفلسفة مصرية، وقد حصلت على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة القاهرة، ولها عدة دراسات وأبحاث وترجمات في الفلسفة، كما حازت على جوائز عديدة منها جائزة الدولة التشجيعية في العلوم الاجتماعية من المجلس الأعلى للثقافية في عام 1985.
وتنتمي الدكتورة أميرة حلمي مطر، لأسرة عريقة في العلم، كان والدها من أوائل المهندسين في مجال الهندسة الكيميائيّة حاصلاً على شهادة الدكتوراه من جامعة مانشستر بإنجلترا، التحقتْ بآداب القاهرة عام 1948 وتخرّجت الأولى على دفعتها بحصولها على الليسانس الممتازة من قسم الفلسفة عام 1952، عيّنت مُعيدة بنفس القسم عام 1955، ثم حصلت على دبلوم الماجستير في العلوم السياسيّة، وبعد حصولها على شهادة الدكتوراه واصلت عطاءها العلمي بقسم الفلسفة في جامعة القاهرة وحصلت على الأستاذيّة في السبعينات.
تولّت الدكتورة أميرة رئاسة قسم الفلسفة لفترات متعدّدة وأشرفت على العديد من الرسائل الجامعيّة وحصلتْ على جوائز الدولة التشجيعيّة والتفوّق وعلى وسام الامتياز من الدرجة الأولى لمجموع أعمالها العلميّة، تتقنُ اللغة اليونانيّة القديمة واليونانيّة والفرنسيّة والانجليزيّة، تعتني بقراءة الشعر وسماع الموسيقى الكلاسيكيّة وتتذوق الفنون التشكيليّة ويشكّل الفنّ عندها وبجميع أشكاله جانبا هامّاً وأساسيّا من هواياتها، درّستْ في كثير من الجامعات العربيّة كجامعة قطر، السعوديّة، الإمارات العربيّة المتّحدة وجامعة بغداد، وهي على صلة وثيقة بالجمعياّت الفلسفية في العالم وعضوة في بعض المؤسّسات الفكريّة في اليونان وفي جَمْعيتها الفلسفيّة.
تخصصت الدكتورة أميرة فى الفلسفة اليونانية والفلسفة الجمالية، وهما مجالان يتطلبان فهمًا عميقًا للتاريخ الفكرى الغربى، وقدرة على الربط بين النصوص الفلسفية الكلاسيكية والتحديات المعاصرة. فى الفلسفة اليونانية كانت مرجعًا لا يضاهى، فقد كرست جزءًا كبيرًا من حياتها لدراسة أعمال الفلاسفة الكبار مثل أفلاطون وأرسطو، وقدمت تحليلات جديدة ومبتكرة لنظرياتهما ما أسهم فى إثراء فهمنا لهذه الحقبة الذهبية من الفكر البشرى. كانت قادرة على إحياء النصوص القديمة وجعلها ذات صلة بالنقاشات الفلسفية الحديثة، ما يعكس سعة اطلاعها وعمق بصيرتها.
أما فى مجال الفلسفة الجمالية فقد كانت الدكتورة أميرة رائدة بمعنى الكلمة، إذ فتحت آفاقًا جديدة للدراسة والبحث فى العالم العربى، وقدمت مقاربات فريدة لتحليل الفن والجمال من منظور فلسفى عميق. كتاباتها فى هذا المجال لم تكن مجرد شروحات نظرية، بل كانت دعوة للتأمل فى جوهر التجربة الجمالية وأثرها على الوعى الإنسانى، ما جعلها مرجعًا أساسيًا لكل مهتم بالفن والفلسفة. لقد أسست لمدرسة فكرية خاصة بها فى هذا المجال، وألهمت أجيالًا من الباحثين للسير على خطاها.
وتنتمي الأميرة إلى رعيل المفكّرات المصريات اللواتي يُشهد لهنّ بالموهبة والكتابات النوعيّة في مجال الفلسفة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، لقد قدّمت إنتاجاً قيّما متفرّداً في الفكر بشكل عام وفي الفلسفة اليونانيّة والجماليّة والسياسيّة بشكل خاصّ.
كانت تؤمن بأن الفلسفة ليست مجرد معلومات تحفظ، بل هى منهج حياة وطريقة للتفكير، ما انعكس على تأثيرها العميق فى طلابها الذين حملوا على عاتقهم مسئولية مواصلة مسيرتها الفكرية.
وكانت الدكتورة أميرة شخصية عامة مؤثرة، شاركت بفاعلية فى الحياة الثقافية والفكرية المصرية والعربية. كانت آراؤها وأفكارها تُحترم وتُقدر، وكانت تُدعى للمشاركة فى المؤتمرات والندوات الفكرية، حيث كانت تثرى النقاشات بعمق رؤيتها ورصانة طرحها. وكانت تتميز بشجاعة فكرية نادرة، وقدرة على التعبير عن آرائها بوضوح وصراحة، حتى لو كانت هذه الآراء تخالف السائد، إيمانًا منها بأن الفكر لا يزدهر إلا فى بيئة من حرية التعبير والتفكير النقدى. لقد كانت مثالًا يحتذى به فى الالتزام بقضايا الفكر والمجتمع، وتكريس حياتها للارتقاء بالوعى الفلسفى والثقافى.
رحيلها يمثل خسارة كبيرة ليس فقط لأقسام الفلسفة فى جامعات مصر، ولكن للثقافة العربية بأكملها. ستبقى أعمالها وكتاباتها مرجعًا أساسيًا للباحثين والطلاب، وستظل ذكراها العطرة مصدر إلهام لكل من يسعى إلى العلم والتنوير. نعزى أنفسنا وجميع محبيها وطلابها وأسرتها فى هذا المصاب الجلل، ونسأل الله أن يتغمدها بواسع رحمته ويسكنها فسيح جناته، وأن يلهم أهلها وذويها الصبر والسلوان.
رحم الله الدكتورة أميرة الفلسفة، الذي صدق فيها قول الشاعر: وليس موت امرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه إذا يعزوه فقدان في كل يوم ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.
***
دكتور محمود محمد علي - مفكر مصري