قراءات نقدية

قراءات نقدية

الأبداع الأدبي مرتبط إرتبلطا وثيقا بحياة الأنسان ومنذ أقدم العصور، كحاجة روحية تعيد للانسان توازنه، وحتى قبل أن يعرف الكتابة، كان يرسم ويقرأ مدلولات صوره على الأحجار وفي داخل الكهوف وعلى جذوع الأشجار، حيث يبدو في طفولة البشرية الفن كوسيلة سحرية لتلبية حاجات مادية وروحية أنسانية، ترتبط بالطبيعة وفيما ورائها، وقد كان الشعر أي الكلام الممغنط والمموسق المتلائم مع ما تفرزه الطبيعة من أصوات المطر والرياح والشلالات وخرير المياه، وتلاطم أمواج البحر، وحفيف أوراق الأشجار بالأضافة الى أصوات الطيور والحيوانات ...

تطور الآداب مرتبط مع تطور حياة الناس من حياة القطيع والصيد والألتقاط الى الزراعة وأكتشاف النار، الى صناعة الأدوات الحجرية البدائية، وأكتشاف المعادن كالحديد والنحاس... التطور من مرحلة المشاعية الى مرحلة الأقطاع وتشكيلاته الى عصر النهضة وهيمنة البرجوازية من خلال الثورة الصناعية في عصر النهضة، وهيمنة البرجوازية على السلطة والثقافة، فقد تطورت الفنون كافة من حال الى حال الرسم من الأنطباعية الى التجريد والسريالية والدادائية، والشعر من الوزن والقافية الى التفعلية فالنص النثري والومضة والهايكو ..، والسرد من الملحمة الى الرواية وهي مقصدنا هنا وهي شكل متطور من التفاهم البشري مع ذاته ومع الأنسان الآخر ومع الآلهة معبرا عن هذه الرغبة للتواصل مرة بالحركة والايماءة والرقص، ومرة بالصورة، وفي مرحلة متأخرة ومتطورة باللغة والكتابة، ففي البدء كانت الرواية الخيالية وحكايا الجن والآلهة الى الرومانسية ثم الرواية الواقعية بمختلف أهدافها، وكل هذا يرافق ظروف الحياة الأنسانية المعيشة في كل مرحلة وكل أسلوب أنتاج وعلاقات الأنتاج،وحسب متطلبات وحاجات وثقافة كل طبقة أجتماعية...3960 حمد الحريزي

فالرواية كما هو معلوم هي ملحمة البرجوازية بأمتياز، هي الطبقة التي عاشت في بحبوحة من الرفاهية والكسل والتمتع بوقت فائض، حيث تعتاش وتعتصر جهد وفكر ووقت الطبقات الكادحة من العمال والمهندسين المهرة، فهذا الوقت الفائض بحاجة الى مايشغله فكانت الرواية أحدى هذه الوسائل وقد تمت كتابتها باسهاب كبير بحيث كانت بعشرات الالاف من الكلمات والمئات من الصفحات عنها فمثلا رواية البحث عن الزمن المفقود 1200000 كلمة لمارسيل بروست، زمن انعزال الشعوب عن بعضها البعض، مما أدى الى عدم معرفة تفاصيل حياة وثقافة كل منها، و أختلاف المعمار بين مختلف القوميات والشعوب والطبقات الاجتماعية، مما يستدعي من الروائي الإسهاب في ذكر أدق التفاصيل حول الشخصية الروائية كالبطل والشخصيات الثانوية من حيث الشكل العام للجسم ولون البشرة والعيون والطول والقصر وقوة أو هزال البنية العضلية، طبيعة الحركات والسكنات للشخصية وما يميزها عن غيرها، شكل الملابس وموديلاتها لكل طبقة وفئة اجتماعية ومايميزكل طبقة عن غيرها وكل قومية عن سواها .

هذا كان في بداية نهوض البرجوازية وعدم تطور وسائل الأنتاج ووسائل النقل والمواصلات بين القارات وبين الشعوب، وصعوبة التواصل حتى بين مناطق ومقاطعات البلد الواحد .

وما أن اشتد ساعد البرجوازية وتمكنت من انتاج المزيد من المنتجات الجديدة والمتطورة حتى أخذت تبحث عن الأسواق الخارجية لتصريف الفائض وللحصول على المواد الأولية بأسعار رخيصة، فكان الأستعمار وأحتلال البلدان، مما تطلب تطور وسائل النقل والتواصل كالبواخر والقطارات والسيارات فوفر للشخص في هذه البلدان مزيدا من المعلومات عن الآخر في قارة أخرى وشعب آخر وبلد آخر غير بلده وقومية غير قوميته، مثلا تعرف معلومات عن الشرقي العربي والمسلم والزنجي الأفريقي والهندي الأحمر والصيني والياباني وووالخ، كما أطلع على شكل معمار السكن والعمران والطرق وما اليه من عادات وتقاليد ... وبذلك انتفت الحاجة بالنسية للروائي للأسهاب في ذكر هذه التفاصيل كما وصفها أول من شاهدها وكتب عنها، من التعريف والتوصيف للأشخاص والأماكن، فالقاريء والمتلقي قد استبطنها مسبقا وبذلك تطلب الواقع أختزال الكثير من حجم الرواية حيث تطور وسائل النقل والمزيد من وسائل التواصل بين القارات والشعوب، وضع الأديب والفنان أمام خيار لابد منه الا وهو الأبتعاد عن الأسهاب الزائد فكانت الرواية القصيرة هي المعبر عن مثل هذا العصر حيث تترواح صفحاتها بين اقل من 100 صفحة الى 200 صفحة وعدد كلمات قد لاتزيد عن 20000كلمة.حيث توفرت وسائل النقل متوسطة السرعة وانتشار التلفزيونات والسينما والسفن البخارية والسيارات، وإمكانيات السفر التي تستغرق أياما أو أسابيع أحيانا ... رافق كل هذا أفرزت الحياة متطلبات حياتية متواضعة نسبياً لاتشغل أعظم وقت الأنسان الأعتيادي، وعدم هيمنة ثقافة الأستهلاك والتسليع كما سيكون لاحقاً، مما أتاح للمثقف والأنسان من الطبقة المتوسطة وبعض طبقة العمال المهرة الوقت قد يمتد لساعات للأهتمام بالغذاء الروحي متوسط الجم والكلفة كالرواية مثلا ن فاتت بحجم يتلائم تماما مع وقته المتاح .

أما في عصرنا الحالي حيث الآلاف من الفضائيت التي تبث عن طريق الأقمار الصناعية التي تغطي كل الكرة الأرضية، والتوصيف والتعريف بأدق تفاصيل عادات الشعوب والقوميات وتقاليدها وشكل معمارها وحتى نوعية المأكل والملبس لكل منها، وحتى لشكل غرف الضيافة وغرف النوم والحدائق والمتنزهات والشوارع والساحات، والثورة الهائلة التي أحدثها الانترنيت وسهل التواصل بين شرق الأرض وغربها خلال ثوان معدودة، وبث الملايين من اليوتيربات التي تتناول أشكال وعادات وطرق حياة كل شعب من شعوب العالم من الاسكيمو الى اقصى غابات أفريقيا .

كذلك تميز عصرنا الحالي عصر العولمة الرأسمالية بهيمنة ثقافة الاستهلاك وتسليع كل شيء، مما خلق حاجات متزايدة في حياة الانسان اليومية، توفرها كنار تلنهم وقت الانسان المعاصر من أجل توفر الحد الأدنى منها.

هذا الواقع يتطلب المزيد من ضغط الوقت لكل فعالية إنسانية، في عالم لاهث راكض، خاطف السرعة في كل شيء في العمل والأكل والحديث والتمتع بما هو كمالي ومن ضمنه الغذاء الروحي للأنسان كالافلام القصيرة والكتب المختصرة ومنها الرواية لتكون بحجم يناسب وقت وجيب المتلقي للأنسان الراكض دوما، وهنا كما نرى يطرح الواقع نوعا شديد الاختزال من الرواية وما اسميناه ب الرواية القصيرة جدا ...

حيث وفر الواقع العلمي والثقافي للروائي المزيد من أمكانية الحذف والاختزال لما اصبح شائعا ومعروفا ومتداولا بين الناس من شكل الملابس وتوصيف المساكن وأثاثها، وتوصيف شخصية البطل بأقل الكلمات، وعدم وجود حاجة الى الأسهاب في سرد الحوار المضمر الداخلي للفرد التي تعبر عن مشاعره وهواجسه وتطلعاته حيث أصبح الانسان في العالم الرأسمالي معلوم الهواجس للمثقف وللعامل والرأسمالي والطالب والرجل والمرأة، وكذلك في العالم الثالث أو مايسمى بعالم الأطراف، فاختزال هذا الكم الهائل من الأشكال والمشاعر والتصورات التي إستبطنها القاريء المتلقي من خلال وسائل التواصل الأجتماعي والفضائيات واسعة الأنتشار فلا داعي أن يعرضها الروائي أمام انظار القاريء، نعم لاحاجة لي بما تعرضه لي بما يشرب ويلبس ويسكن ويفكر أنا الأسيوي صديقي من فرنسا الذي ألتقيه كل يوم عبر الصورة والصوت بواسطة الأنترنيت وربما أعرف أدق التفاصيل حول حياته الشخصية وحتى حياة عائلته .

فحينما يذكر الروائي برج ايفل أو الساحة الحمراء أو نصب الحرية في العراق أو ناطحات السحاب أو مسرح البولشوي، سرعان ما تظهر بكل وضوح كل تفاصيلها في مخيلة المتلقي لأنَّه تعرفها أما من خلال سفره الذي اصبح ميسرا لأغلبية الناس أو من خلال الفضائيات، وكذلك عند ذكر اسم أحد الأعلام في السياسةأو الأدب أو الفلسفة في العالم مثل جيفارا او ماركس او جورج واشنطن أو بوتين أو ماكرون أو بايدن أو نيرودا واراغون وكذلك مشاهير الرياضين تحضر كل تفاصيل وتاريخ هذه الشخصية في مخيلة القاريء والمتلقي لأنه شاهدها ربما آلاف المرات في التلفاز وفي وسائل التواصل الأجتماعي حيث أصبح كل بيت في العالم لايخلو من جهاز التلفاز وتوفر شيكة الانترنيت وأمتلاكه لجهاز نقال ينقل له كل شيء ...

فعندما يتحث الروائي في عصرنا الراهن حول عمارة سكنية مثلا ليس بحاجة الى توصيف وعرض محتوياتها وتأثيثها ولكنه يكتفي بعضر (الماكيت) أي النموذج المصغر للعمارة دون الدخول في تفاصيل محتوياتها من حيث السلالم والتأثيث ووسائل الإنارة والتبريد والستائر ... الخ كما كان يسرده بأدق التفاصيل الروائي في العصور السابقة على العولمة، حيث أن المتلقي قد استبطنها مسبقا من وسائل التواصل الحديثة أو عن طريق السفر المتيسر .. فلاحاجة الى توصيف الشخصية سوى ذكر علاماتها الفارقة ...

وبذلك فالرواية القصيرة جدا بحجمها المختزل كثيرا الى كتيب أو كراس جيب صغير لاتحتاج أكثر من وقت الجلوس في قطار سريع متنقل بين المدن أو زمن سفرة تمتد لساعة أو اكثر من بلد الى أخر أو سيارة على خط سريع، هذا الوقت المتاح للأنسان في عصر العولمة الحاضر، هذه الرواية التي لاتزيد كلماتها على 5000 كلمة ولاتزيد صفحاتها كما نرى على 50 صفحة وقد تكون اقل من ذلك بكثير، فالأنسان في عصرنا الحالي مشغول دوما بالعمل من أجل توفير متطلبات الحياة المادية اليومية، لاتترك له المشاغل اليومية ألا حيزاً محدودا جدا من أجل تأمين احتياجاته الروحية ومنها الرواية والفنون عموما ً.مما جعل الرواية القصيرة جدًا من متطلبات الحياة الواقعية الحالية لتوفير مايمكن من الغذاء الروحي للانسان، وحمايته من الوحدة والتوحد وجفاف الروح وتصحر المشاعر وغلاضة السلوك ..

فالرواية القصيرة جدا هي رواية وامضة وليست قابضة يكون السائد فيها التلميح وليس الأسهاب والتصريح، شخصياتها الثانوية خفيفة الظل مختزلة الكلام ومؤقتة المقام أثناء تواجدها في متن الرواية، تقول ما عندها بما قل ودل وترحل مسرعة حتى لايفوتها قطار السرد فائق السرعة ولايتضايق منها القاريء المتلقي . وهي لاتمسك بالقاريء لوقت طويل لساعات طويلة وربما لأيام كما في الرواية الطويلة والرواية القصيرة ..

وهنا بالضبط تكمن الصعوبة بالنسبة لكاتب الرواية القصيرة جداً تفوق صعوبة كتابة القصة القصيرة جدا بكثير، حيث بجب أن يمتلك الروائي الحنكة والتجربة وقوة المفردة الموحية الجذابة حتى لايسهب مراعياً شروط الرواية المعروفة كتعدد الشخصيات، وتحولات الأحداث ـ وتغيرات الزمان والمكان على الرغم من الألتزام بالاختزال الشديد والتكثيف، مع عدم التفريط بالمضمون العام للرواية، أي أن يتمكن الروائي من تقديم وجبة غذاء روحية غنية بالمضمون وبالشعرية اللغوية بأقل عدد مكن من الصحون والمقبلات.

وبذلك فنوع الرواية القصيرة جدا رشاقة لاتعني الهزال،ومضمون يستدعي سعة الخيال وحبكة لاتفرط باشتراطات جنس الرواية .

في الختام أو أن أنوه الى مايلي:

- أنا لا أدعي إني أول من كتب هذا النوع من الرواية فبالتأكيد قد كتب بعض الأدباء في العراق وخارجه الرواية ضمن الأشتراطات التي ذكرتها في هذا المنشور أو ماسبقه، ولكن حسب علمي ليس هناك من عنون روايته بالرواية القصيرة جدا وطبعها في مطبوع كما فعلت أنا منذ 2019 حيث طبعة مجموعة روايات قصيرة جدا كما ارفقها مع مقالتي هذه، سأكون ممتنا لمن يمتلك معلومة تفيدني في هذا الشأن استجابة للامانة الأدبية حول سبق الريادة .

- يسعدني كثيرا أن تحفز مقالتي هذه الزملاء النقاد وكتاب الرواية لطرح آرائهم وتصوراتهم حول هذا النوع من جنس الرواية سواء اتفقوا أو اختلفوا معي الى ماذهبت اليه، كلي أمل في أمكانية شرعنة هذا النوع الروائي وتقعيده ونشره والجمال والأبداع من وراء القصد .

***

الأديب حميد الحريزي – العراق

 

تداخل الزمكانية وإحالات الميتاحكي

توطئة: قد يصح القول في صدد دراسة نصوص القاص والروائي القدير وارد بدر السالم عبر فحوى نصوص مجموعته القصصية (المعدان) ذلك التوافر التخييلي بالأداة ومعطيات العناصر والعوامل الوسائلية المبثوثة في جملة اوجه متباينة من انتقاءات الموضوعة الحكائية المكرسة في محمل مكتسبات خاصة من احوالية الواقع الجنوبي في الاهوار والاطراف المقصية من احياز هوامش المكان المركزي -اي المدينة- وعندما نطالع طبيعة التركيبة الموضوعاتية -الحكائية،، في أنساق هذه المختارات القصصية الرائعة، تواجهنا مستويات تخييلية عابقة بمعانقة تمثيلات الاحوال والوقائع التي وكأنها من الإمكان وقوعها في مجمل إشارات الزمن والبيئة الطبيعية لتلك الأمكنة والذوات العالقة في محفل تشعباتها العبقة بروائح القصب والبردي وهسيس قامات الاعشاب المتبرعمة عند حواف ضفاف المواقع التي تقع فيها المسطحات وجداول الانهار، ناهيك عن مغزى الأسرار  التي تنبعث مع تناقلات الزوارق -المشاحيف- وما تحمله من روائح رطوبة الاجساد التي اخذت سواعدها بالتجديف لتنكشف عضلات أيديهم المتعصبة والساعية بفعل الحركة التجديفية نحو أماكن أكثر غورا بالصورة والدلالة والمنظور الايقوني المحفوف بالمحتمل الممكن سرا وجهرا، والذي لا يمكننا توكيد وحداته، سوى بالاتكاء على حقيقة تفاصيل المرادات المدلولية والسياقية المدعمة من خلال معطيات حقائق الأمكنة والازمنة في جغرافيا المواقع الأهوارية في جنوب البلاد، اي أن من اعتاد معايشة تلك الطبيعة البيئية من منظور معايشة زمنية قصيرة، لربما سوف يجد في نصوص وارد بدر السالم القصصية موضع بحثنا، اثرا ومؤثرا فاعلا ومحققا في مجموعة (المعدان) خصوصا وإن جذور هذا القاص السيرذاتية تعود الى الجنوب نفسه، فلا عجب من أن يستثمر هذا القاص المبدع من الطبيعة المكوناتية للهور بهذا  الشكل الخصيب من الأسطرة في مستوى قد بدا للقارئ منه بعيدا عن ملائمة الصحة الموضوعية في النص، وأفتقادا الى دليل المعطى الدلالي المبرهن والمعقلن في مرسلات القص. ولكننا مع قصص وارد السالم كلها في نطاق احوال هذه الدالات من موضوعة القص، بخاصة وأن للطبيعة الموقعية والموقفية لمثل هذه الاجواء من الهيئات البيئية، مراحلا أكثر صدقية من الانظمة التوظيفية في النصوص الاخرى، صحيح من جانب ما أن القاص السالم يؤثر في محمولات نصه ظروفا أكثر قربا من الايهامات من حقيقة الوقائع، ولكنها ذاتها الاختلافات تأكيدا على حجم صحة المفترضات الواقعية ذاتها وبذاتها، إذ تتماشى هذه الفرضيات الى جانب حدود اسطورة الاهوار وعوامها القريبة من الغرائبية والأكثر بروزا بمثل تلك النوعيات من معالجة تنصيصات الموضوعة في قصص (المعدان) سردا وتوصيفا ودليلا . فلو قرأنا وقائع قصة (قصة الغياب) المنصوصة في لائحة قصص المجموعة، لوجدنا أن القاص راح يتعامل مع الانظمة الأدائية في محاور النص، من خلال نقطة شواغل حكائيه إمكانية مفترضة بالواقع المعاش، اي بمعنى اصح ان موضوعة الاهوار تتطلب من الكاتب نفسه، كل هذا المدى من القابلية التصويرية بالايحاء الوصفي، ذلك بحكم كون حيوات الشخوص في وسط هذا القلب من الواقع المستنقعي، كان ويكون بمثابة الافتراض على وجود مثل هكذا حساسية فنتازية وعجائبية و معادلات رمزية، تكشف لنا عن مغزى الصور الداخلية والخارجية من ذوات الطبيعة الشخوصية لسكان هذه الاحياز من القرى المستنقعية، وما يصاحبها من خيالات تتخذ لذاتها في الغالب ذلك النمط الصياغي المؤسطر من مجال مكونات الحياة في تلك الامكنة الغارقة في اللامكان في اللاواقع في اللاوثوقية من موارد ومقادير الحقيقة المبررة، ذلك لأن وجهة نظر الكتابة تدخل الحقائق في شكلها المادي الى مجالات مفترضة من تحليقات المخيلة في الانحاء الصورية الاكثر تأويلا في مبررات العليات والاستدلالات الفرضية البحتة.

- الرؤية الاستهلالية بين علاقة السارد ومحكيات المسرود

1- كينونة التمثل في ملامح زاوية الفعل والافعال:

لربما ونحن نطالع مستهل النص القصصي -قصة الغياب- تواجهنا جملة كثيفة من العلاقات والعوامل والأدوار الشخوصية في تدبر ومتابعة دلالات غرائبية لها جانبا من الايهام برؤية تستدع معاينة الاطوار الحوادثية بمنظور (اللامرئي: تصوير - تداخل - شواهد امتداد-ارتداد عكسي)وهذه الطبيعة من المحاور هي الاساس المؤسس لأطوار موضوعة حكاية النص، ناهيك عن ما يسودها من تداعيات استعارية ووصفية تتخذ لذاتها من تقانة التداخل بين الظروف والمتقابلات المشهدية، تفعيلا في أطروحة الحبكة القصصية التي أخذت من عقول وأفئدة الناس، ردحا ملحميا في الانزواء والبطولة والغياب بعدا يتماهى مع حقيقة التفاصيل في حكاية النص الايهامية: (ما من احد يريد تصديق الحاج، إذ انه لا يمكن أن تحدث معجزة، وما من احد بمقدوره أن يصدق أية أقوال أخرى -فقريتنا ما تعودت على مثل ما أشيع ليلة البارحة، برغم أن الحاج رجل طيب وشهم، ومن الصعب عليه وعلى رجالنا أن يكون -حاشاه كاذبا- ولو أن الأمر ظل مقتصرا على ما رواه الحاج لكان بإمكاننا نسيان ما سمعناه وأعتبرنا المسألة مجرد وهم أو ليس وقع فيه الرجل شأنه بقية عباد الله / ص 45، النص القصصي) تتوزع تواترات المناوشة في مجالات التخييل السردي، في حدود ملازمات السؤال والاستفسار وتداعيات مدارية التجاذب والتقاطع، وهذا الامر ما بدا يتعامل وجذوة فعالية خلق التوتر الاستهلالي، كحالات فرعية -عتباتية- تنطلق منها الوحدات في اتون صور ومظاهر الطريق الى الحبكة التي يحاول السارد تحفيزها في قواسم وأطر تحيينية لمعانقة العلل والاسباب التي جعلت من تلاقي أحابيل الدعوة في المقاصد الوحداتية، دليلا على البدء بحكي تفصيلات تتعلق بذلك الشخصية الحاج والاخر عبدالله البلام: (عبدالله البلام كان حائرا مثل الحاج، يقسم باليمين أن عينيه لا تكذبان..فالوقت كان فجرا وباستطاعة المرء أن يرى الاشياء بوضوح .. كان علي متعبا جدا.. لم اشأ أن أتعبه بالكلام، بدا قادما من سفر ./ ص45 ص46 النص القصصي) بين شخصية (الحاج) وشخصية (عبدالله البلام) تتمحور خصال التشابه في البرهان والمشاهدة، فكلاهما قد شاهد ذلك الرجل الذي لا نعلم عنه سوى ان له في الغفير الحاشد من أهل القرية، فمن ياترى هو علي؟هل هو من ذوي الشأن الاجتماعي الرفيع؟ أم تراه كان من كبار صيادي الاسماك ربما في الهور ويمتلك العديد من ملكيات المشاحيف و مئات من شباك الصيد ربما؟ إن لم يكن عليا هذا بهذه الصفات التي يقدرها ويقيم لها أهل القرية ك هذه الفرائض الخاصة، فما يعني هو تحديدا؟ هل هو يمثل سلطة دينية أو حكومية أو عرفانية أو صوفية مثالا؟ . في الحق أن السارد لم يعرف هوية هذه الشخصية في الوحدات الاستهلالية، ولا من ناحية الوحدات الاولى من الجزء الاولي من  الحكاية، بل أنه وضعنا من خلفه القاص في خضم استيهامات مسكوكة تعجز قابلية القارئ عن فك حجب أسلوبها المسرود خطابا وحكيا.

2- الاستيهامات المؤسطرة والحلم الشخوصي بقدوم الغائب:

لو سنحت لنا الفرصة في الاسهاب بصدد الحديث المتسائل حول سرانية أهل القرية واهتمامهم الخرافي بهذا الرجل المدعو ب(عليا) لكان لنا كل الحق في سبر أسرار هذه الهيمنة العجيبة لهذا الرجل، وعندما نتقدم في قراءة النص وحوادثه سردا وحكيا، تتحقق لنا النتيجة القصوى بأن هذا الرجل هو من خارج الزمان أو هو من الخوارق: (لولا أن رجلا من قرية المعدان قال انه شاهد بعيينه الاثنتين عليا يمرق في سوق القرية مصفرا بالتراب، يجري وراءه سحابة من رائحته المعروفة، وتطير خلفه اسراب من الزنابق البرية والشقائق الملونة./ص46 النص القصصي) بهذا النحو جعل السالم شخصيته القصصية تتعدى الٱفاق العلوية من وعي وسذاجة أهل اقرية، ولكن هل كل من شاهد عليا ملء عينيه أن يواجه حلمه في بث المزيد من استطردات الحكايا التي راحت تكشف عن أن هذا الرجل يتصل في حدود قداسية خاصة تتجاوز مواقع وكيفيات كيانية وشخصانية، وتبعا لهذا راحت تتوالد حكايا عمومية وخصوصية، منها ما جعله السارد تراتيبيا في التفاصيل الخطية، ومنها ماراح يتلبس لبوس جلبابا من هيئة الاستيهامات والعجائبي: (علي غاب كما تغيب الشمس في يوم بارد، بحثنا عنه في كل القرى والبزايز، غاب منا ألف رجل في بطون الاهوار الفسيحة أياما طويلة، سوى رائحته المعروفة التي تملأ كل الامكنة  أينما حلت -رجالا ونساء واطفالا واشجارا وبيوتا و انهارا وطيور ونخلا واحلاما، القرى كل القرى، مثل قريتنا، تمارس الانتظار المجهول وتناغي طيف علي وتجمع ما تبقى من رائحته الأليفة المطهرة./ص47 النص القصصي) إن الخطاب المسرود والمروى هنا عبر وحدات القص، هو في أفضل احواله  يشكل حالات  تداخلية في المسافة والرؤية في المنظور المرجعي المرمز، فمثل هكذا تفاصيل لا تستقم إلا والقاص يماثل درجة رمزية تتعلق بأحد من الشواهد المرجعية الخاصة بالمسمى الديني والعرفاني، أعني وضوحا أن القاص راح يختزل لبوس علامة لها شأنها في المعجم السياقي وقد تم بثها في جملة صفات إعادة التوليف لها في مفترضات خاصة تتتاسب طرديا مع حيثيات حكاية أهل القرية، لذا فهي تدخلا خارقا، ولكن في حدود سياق حكايةقصصية لها تمفصلاتها المتباينة والمضمرة مع علاقة تماثلية قصدا. لذلك فالقاص يدخلنا في وحدات نصه الصاعدة الى وقائع ترددية -مونولوجية، نستشف منها ومن وراءها بأن الحدود الزمكانية للافعال السردية راحت تدمج ذاتها في دائرة حوارية استيهاية تقع خارج الزمن للحكاية:(في كل مجلس في قريتنا، في كل القرى، لا بد أن يكون علي في صحراء على فرسه البيضاء، وهو يطوي موج الرمال بصدره المدرع- يطارد الحراب ويفتح اظافرة لجداول الماء، لابد أن يكون في وحشة أدغال الهور المنعزل خلف القرى /ص50) بهذا التعامل الشفراتي راح السالم يؤثث المجال المؤسطر في حياة الشخصية المحورية لديه، انعكاسا واختزالا لذلك الأثر المرجعي الصفات، ولكنه ادخله -اي القاص- في مجال إطار رؤية تتحدث عن محور شخوصي له من الوقائع ما يخوله ان يكون مسرودا في علاقة تتم في حدود خلق عجائبي يتجاوز منظومة الاحداث المتتالية في البناء القصصي، دخولا الى عوالم داخلية من النص، تعيدنا الى وظيفة المونولوج الدائري في مثل طي هذه المحاورة: (من أنت ايتها الصبية ؟ وجدت نفسي هنا .. أحدهم سرق قلائدي وخلاخلي وأقراطي .. وتركني هنا أذرع الرمال وحيدة./ص50)

- تداخل الزمن في كيفية استرجاعية انعكاسية

أن غائية تداخل الزمن أو عكس المنظورين في منظورا صفريا، لربما هي من تقانة التقاطب الكياني بين الطرفين، أو هو التمثيل في تقنية استرجاعية انعكاسية، ولعل جميع الصلات في عملية الاستقطاب الوقائعية للصوتين هي فعلا إيحائيا في الامتزاج بين الازمنة، والاحساس بها يكون متلازما في التضمين والاستحالة في محفوظية التنوع والانشطار، كما الحال في الاجزاء المونتاجية من الوسط الجزئي للتص، فهي عملية تتصادى فيها الابعاد الزمنية وتلتحم عبر مكون تركيبي يجمع ما بين (المونولوج- المونتاج) تماثلا مع تداخل الازمنة في تفاصيل تمدد الى ما قبل زمن الحكاية: (أمي... السنوات حفرت ٱثارها في عينيك - لقد حفرت في قلبي كثيرا ياعلي-- مازلت أمي التي لا أنام إلا في حضنها - وانت ولدي السبع ياعلي -ما حكاية سنواتك ياوالدة؟)

تعليق القراءة:

لعل سياق مقتبسات هذه الحوارية، هي أعلى الاجزاء في النص القصصي (قصة  الغياب) فمنها نستشف تداخل البرزخ الزمكاني في مضمرات مدلولية لها مشخصات وتماثلات عكسية وانعكاسية في الإيحاء الماقبلي لزمن الصفر في بنية الحكاية، ولها جمالية وحدات (الميتاحكي) ضمن مستويات توالدية مرٱوية بالافعال والفعل الشخوصي المتداخل في منظورية الواقع ووسائل فضاءات البناء النصي.

***

حيدر عبد الرضا

بقلم: رولان بارت

ترجمة: حسني التهامي

***

(1) خرق المعنى

دائما ما نتصور كتابة الهايكو بالأمر اليسير؛ وهذا ضرب من الخيال، يعزز هذا التوهم بساطة النص التالي ليوسا بوسن:

إنه المساء الخريفي

كل ما يشغلني

والداي

يفتح الهايكو شهية كثير من القراء في الغرب، فنراهم يحلمون بالتجوال في مجاهل هذه العالم، وهم يحملون مفكرات صغيرة يسجلون فيها "انطباعات" ينبثق الكمالُ من شكلها الموجز، والعمقُ من رحم بساطتها (يرجع الفضل في هذا إلى أسطورة ذات طابعين: أحدهما كلاسيكي يرى أن الفن يكمن في الإيجاز، والآخر رومانسي يعزو جوهر الحقيقة إلى العفوية)  وعلى الرغم من أن الهايكو يتسم بالوضوح والبساطة؛ إلا أنه لا يعني شيئا، وبتلك الاشتراطية المزدوجة يبدو أكثر انفتاحا على المعنى، وأقرب إلى الذائقة، على طريقة مُضيّف مهذب يتيح لك حرية اختيار ما تشاء من قيمٍ ورموزٍ.

 "غياب" الهايكو (نقول ذلك عن مالك عقار يذهب في رحلة مشتت الذهن) يوحي بإحداث خروقات وانتهاكات لاغتنام المعنى الذي نعتبره نفيسا وجوهريا. عندما نقوم بـ (ترجمة الهايكو)، يتحرر من قيد الأوزان، فيمنحنا الكثير مما نصبو إليه. في الهايكو، يمكننا القول بأن: الرمز، والاستعارة، والمعنى الأخلاقي على الأغلب أشياء لا قيمة لها: فذلك النوع من الكتابة ما هو إلا بضع كلمات ومشهدا حسيا وعاطفة: في حين أن أدبنا عادة ما يتطلب قصيدة أو حدثا متشابكا، أو فكرة منمقة (في الأنماط الموجزة)، وباختصار عملا بلاغيا مُطولا. يبدو أن الهايكو يمنح الأدب الغربي أشياء غير مقبولة لديه؛ كتناول ما نعتبره تافها وعاديا، بطريقة مختزلة، عبر التقاط ما نراه وما نحسه لإحداث نوع من الدهشة؛ بينما تعزز كتاباتنا فكرة الذات: فقط ذاتك جديرة بصنع وجاهتك، مهما يكن أسلوبك في الكتابة، فإنه سينم عن معنى ويتضمن رمزا ويحمل عمقًا: وعلى أقل تقدير ممكن، ستكتنز كتاباتك.

 يبلل الغرب كل شيء بالمعنى، مثل دين استبدادي يفرض معموديته على العالم بأسره، متبعا طريقتين لكي يُجنّبَ الخطاب فراغ المعنى: الرمز/ الاستعارة والمنطق / القياس، وانطلاقا من هاتين العلامتين، يتم إخضاع اللغة بشكل منهجي (في محاولة يائسة لملء زائف قد يكشف خواء اللغة) لـ (أي من هاتين الدلالتين) أو لتلفيقات العلامات النشطة. إن الهايكو القائم على فرضيتي: البساطة والمألوف، - إذا جاز لنا التعبير في علم اللغة – لا تستهويه تلك العلامات المتعلقة بالمعنى. في حين أننا نرفقه بهذا النوع من المشاعر العامة والتي نطلق عليه "الأحاسيس الشعرية "، انطلاقا من رؤيتنا له كقصيدة شعرية، (بالنسبة لنا، عادة ما يكون الشعر دلالة على" الإطناب " و" المشاعر " و" البعد عن تجسيد الصور الحسية "، "إنها مجموعة انطباعات غير قابلة للتصنيف)؛ نحن هنا بصدد " أحاسيس مكثفة " و" رصد أمين للحظة نادرا ما تتكرر، "وفوق كل شيء لـ " الفراغ" الذي يُعدُّ لدينا (دلالة على المنجز اللغوي). في النص التالي لـ "جوكو" (Joko) ، أحد شعرائهم، سندرك مفهوم اللحظة العابرة:

كم من العابرين

جسر سيتا

تحت أمطار الخريف!

 لنتأمل نصا آخر لـ (باشو):

أعبر الطريق الجبلي.

آه! يالبهاء

الأرجوان!

هنا سرعان ما سيُقدم القارئ الغربي على تفسيرالمعنى وتوظيف الرمز موضحا أن باشو قد التقى بناسك بوذي، أثناء عبوره الطريق الجبلي؛ وعلى هذا الأساس يشير الأقحوان إلى "زهرة الفضيلة ". يظل تفسير المعنى غاية كبرى في نص ذي ثلاثة أبيات (مكون من سبعة عشر مقطعا صوتيا 5-7-5)، يحتوي على مكونات ثلاث: (مفتتح/ دهشة / قفلة):

بركة عتيقة:

ضفدع يقفز …

طرطشة الماء

في هذا النص؛ يفرض البعض القياس والاستعارة عنوة، ظنا بأن استبعاد هاتين الخاصيتين سيجعل تناول القصيدة مستحيلًا: تلك الطريقة في تناول الهايكو، هي مجرد تكرار للنص، وهذا ما فعله أحد الشُرَاح لباشو، بطريقة ساذجة وسطحية:

تمام الرابعة ...

 استيقظت تسع مرات

أتأمل القمر.

"إن القمر غاية في الجمال"، يستطرد شارح النص قائلا " لدرجة أن الشاعر يصحو من نومه مرة بعد أخرى كي يتأمله من النافذة". هكذا يسعى الغرب إلى فك شفرة النص، وتفسيره للنفاذ إلى المعنى، والولوج إليه فقط لمجرد الولوج إليه - وليس لخلخلته، تلك الحالة أشبه بمتدرب زن – حيث لا يشفع له اجتيازه الـ"كوان"1، إخفاقه في كتابة الهايكو؛ لأن فعل القراءة لديه تعطيل للّغة، وليس استفزازا لها: إنها مغامرة أدرك باشو نفسه، وهو سيد الهايكو، مدى صعوبتها وضرورتها:

فواعجبا

لمن لا يرى "الحياة عابرة"

حين يومض البرق !

***

.........................

* نشر المقال في مجلة البيان الكويتية عدد شهر يناير 2024، وهو ضمن أربعة مقالات مجتزأة من كتاب رولان بارت الشهير " امبراطورية العلامات.

* "رولان بارت" (Roland Barthes 1915-1980) فيلسوف فرنسي وناقد أدبي ومنظر اجتماعي وسميولوجي . نال شهادة في الدراسات الكلاسيكية من جامعة السوريون عام 1939. كان لفكره بالغ الأثر في تطور مدارس أدبية عدة كالبنيوية والماركسية وما بعد البنيوية والوجودية، كما كان لآرائه الفكرية تأثير كبير في تطور علم الدلالة. يعد بارت واحدا من كبار الفلاسفة الذين أرسوا تيار ما بعد الحداثة. من مؤلفاته : لذة النص، الأدب والواقع، موت المؤلف، من البنيوية إلى الشعرية، الغرفة المضيئة، هسهسة اللغة، مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص وامبراطورية العلامات وغيرها.

  الكوان公案  .هو تدريب ذهني على موضوع ما للتأمل يلقيه المعلم البوذي على المتدرب (المريد)، ويطلب منه الإجابة بعد تأمل، وينصحه بالابتعاد عن طرق التفكير المعتادة مثل: المنطق، والمقارنة ،ومحاولة إيجاد طرق أخرى للوصول إلى صلب الموضوع وهو غالباً ما يكون الهدف الأساسي للبوذية ويطلق عليه "الاستنارة".

"بعد أن كبر الموج" مجموعة قصصيّة، صدرت عن دار الوسط للإعلام والنّشر في مئة وعشرين صفحة، وفي اثنتين وعشرين قصّة مختلفة تلامس أوتار القلوب، وتثير شغف القارئ بلغتها المتدفّقة بالمشاعر.

سيميائيّة العنوان ودلالاته العميقة المكثّفة:

هذا العنوان "بعد أن كبر الموج" مليء بالدّلالات التي تضفي على المجموعة ثراء معنويّا وبعدا أدبيّا خاصّا. هو عنوان رمزيّ مثير للفضول يمكن تفسيره بطرق شتّى، فهو يطلق العنان لخيال القارئ ويغريه بالتعمّق في هذه المجموعة لسبر أغوارها.

كما تبدو الكاتبة وكأنّها تضع نفسها في هذا العنوان الذي يشير إلى نضج اختيارها، فالموج رمز للحياة يموج بالأحداث والمشاعر، ينهمر ويتلاطم ويكبر؛ كتجاربها التي كبرت ونضجت مع مرور الوقت وحملت معها عبق الماضي وحكمة الحاضر. والموج يصوّر القوّة والصّلابة في مواجهة التّحدّيات والصّعاب، وهو أيضا رمز للحلم والرّغبة المتوقّدة في التحرّر من القيود.

يمكن ربط عبارة "كبر الموج" بشكلٍ مباشر بنموّ شخصيات القصص مع مرور الزّمن، فكما يتنامى الموج، تصبح شخصيات القصص أكثر نضجا وعمقا، تمرّ بتحدّيات تغيّرها وتطوّرها، وبالتّالي، فأحداث القصص تصبح أكثر تعقيدا. ولا تقتصر رمزيّة العنوان على ذلك فقط، بل تتّسع لتشمل طيفا من الإمكانيّات، تبعا لفهم القارئ وخيال الكاتبة ورؤيتها، وبناء سياقها السّرديّ.

إذن.. هو اختيار موفّق لمجموعة قصصيّة تعنى بموضوعات إنسانيّة متنوّعة، تشكّل فيها المرأة لوحة فنيّة حيّة بكلّ تناقضاتها، بقوّتها وضعفها، بفرحها وحزنها، بأحلامها وآلامها. ولم تغفل المجموعة أيضا، عن تصوير الرّجل بكل حالاته، مشاركا في أفراح الحياة وأتراحها، وشاهدا على متقلّباتها وتغيّراتها، متأثّرا بما حوله ومؤثّرا به.

قصص من أعماق الروح:

تطرح كلّ قصّة من القصص واقعا مختلفا، بينما تشكّل الرّسالة الكليّة للمجموعة دعوة لاستكشاف أعماق النّفس الإنسانيّة. ولعلّ التّركيز على بحث المرأة عن ذاتها، من أبرز علامات السرد النّسويّ في هذه المجموعة، فالمرأة تقاوم وتتحدّى وتواجه الصّعاب بقوّة وعزيمة.

تفتتح الكاتبة بقصّة "أفقد نفسي" (ص5)، فتجسّد صراعا داخليّا يواجهه الإنسان في خضمّ الخيانة وتأثيرها على علاقاته الاجتماعيّة والعاطفيّة.

في القصّة الثّانية "شغف" (ص20)، تغوص بنا في رحلة فلسفيّة داخل هذا الزّمن المتخبّط سعيّا لفهم طبيعته، فتمهّد للنّص بكلمات الشّاعر أدونيس الرّنانة، التي جاءت مدخلا ملهما ومثيرا للخيال، توضّح مشاعر الإنسان المتضاربة بين اليأس والأمل والفرح والحزن، وتعبّر عن نظرتها الفلسفيّة حول وجود الإنسان ومكانته في هذا الكوّن. ولا شكّ أنّها كتبت هذا النصّ متأثّرة بكتابات جبران الفلسفيّة، وما فيها من قيم إنسانيّة رفيعة، ومن تدفّق في الأسلوب ووضوح في الومضات، ومخاطبة رمزيّة وروحيّة، والتحام بالوعيّ الكونيّ.

لا نجد تسلسلا زمنيّا للأحداث في هذه القصّة، بل نجد رموزا تحتاج تحليلا عميقا، وهي لا تقاس بمعيار الأحداث الحقيقيّة، بل تفهم من خلال تعبيرها الرّمزيّ؛ فقد انبثق النصّ في ثوب نثريٍ مزخرف بالصّور البيانيّة التي تضفي عليه سحرا وجاذبيّة، تتدفّق كلماته كشلّال عذب، تاركة وراءها أثرا عميقا في نفس كلّ قارئ متذوّق للحرف. وممّا كتبته في الصّفحات (20-21-22):

تأبّطت كتاب الأجنحة المتكسرة لجبران خليل جبران، أخفيته تحت طيّات فستاني الذي كنس الطّريق الترابيّ المؤدّي إلى الكرم. أنا سلمى بحبّها العارم، وبأجنحتها المحلّقة خارج الزّمان والمكان، دعاني الوجد، وكنت ألمح طيف السيّد المسيح يمشي على الماء كالظّل، يقطع بحيّرة طبريّا هاربا من الأعداء، وقد عميت أبصارهم. لمحوه كطيف وكظل يسير حافيا فوق الماء. وبين النّبيّ والمجنون والأجنحة المتكسّرة ورمل وزبد، تتنازعني الأطياف والأفكار.

خشيت من إفشاء عشقي لجبران السّماويّ، الذي أهداني أوّل وردة محبّة، وبعث بي روحا متمرّدة، وعرائس ومروج، ودمعة وابتسامة، وعواصف وموسيقى، ورملا وزبدا.

استدعاني البحر إليه كما استدعى جبران، ووقفت على ربوع جبال الكرمل المحيطة بالكرم، وأدركت أنّني سأعطي للطّبيعة من نفسي، ومن الجمال كما أعطتني.

فهمت جبران بطريقتي، فبعضي حبر وبعضي ورق، وأنا كلاهما، وما أنبل القلب الذي بإمكانه إنشاد الفرح وهو حزين.

هكذا، ارتقيت بنفسي لوحدي، وحفظت قاموس الحياة منذ طفولتي وأنا أردد:

الحياة مثلما تتغنّى بجمالها، نستطيع أن نغنّيها بصمت، والبقيّة ستأتي.

من خلال هذا النصّ النّثريّ الصّوفيّ الرّومانسيّ، الذي قَدّمتُهُ هنا بشكل مختصر، تقدّم لنا الكاتبة وصفا غنيّا بتفاصيل رمزيّة ومشاعر جيّاشة؛ لحالتها النفسيّة والوجدانيّة، بعد قراءتها لكتاب الأجنحة المتكسّرة، فتُظهر تأثّرها الواضح بأعمال جبران الفلسفيّة، التي ذكرتها في النصّ لتجسّد رحلتها الفكريّة، معبّرة عن شعورها بالاندماج مع الكون أثناء رحلتها في البحث عن معنى الحياة.

يرمز الطّريق الترابيّ الذي وصفته إلى مسيرتها الداخليّة نحو الاكتشاف الذاتيّ، فكلمات جبران ألهمتها وأثّرت في مسارها الإبداعيّ، فشعرت وكأنّها سلمى في سيمفونيّة حبّ، ووحدة روحيّة مع جبران. وتشير عبارة "المسيح يمشي على الماء"، إلى الأمل والخلاص من المعاناة، ويمثّل البحر اللانهاية والحريّة.

أمّا جبال الكرمل فتشير إلى المكان الذي تعيش فيه الكاتبة التي نحاول استلهام أفكارها، فنجد أنّ ذكر كتاب النبيّ يجسّد شعلة التّوجيه الرّوحيّ المنير لدربها، بينما يدلّ كتاب المجنون على تفكيرها الداخليّ، ونضالاتها في سبيل التحرّر من قيود الواقع.

أما كتاب الأجنحة المتكسّرة، فيعبّر عن أحلامها وطموحاتها التي لم تُحقّق بعد، بينما نستدلّ من كتاب رمل وزبد على فناء الحياة وهشاشتها.

في هذا النصّ أيضا إشارة إلى أهميّة القراءة، إذ تؤكّد قبّلان على أهميّتها في تنمية العقل والرّوح، ودورها في صقل موهبتها ومهاراتها الكتابيّة والإبداعيّة التي تتخلّلها العاطفة والإلهام والتّعبير.

استخدمت أيضا أسلوب السّرد الذاتيّ، وركّزت على مشاعرها وأفكارها، وكذلك أسلوب التكرار، مثل: "الحياة مثلما تتغنّى بجمالها، نستطيع أن نغنّيها بصمت" و " استدعاني البحر إليه كما استدعى جبران".

كما خلقَت من اللّغة المجازيّة الغنيّة بالصّور والأسلوب السرديّ عالما من المعنى والجمال، مثل: "استدعاني البحر" و "حفظتُ قاموس الحياة".

أمّا عبارة "البقيّة ستأتي" فتركتها مفتوحة للتأويل؛ لتضيف الغموض إلى النصّ وتدعو القرّاء إلى الانخراط في تأمّلاتهم وتفسيراتهم المختلفة.

توضّح هذه العبارة أيضا، ترقّب الكاتبة لما يخبّئه لها المستقبل، فهي ترى الحياة رحلة متجدّدة ومستمرّة من التّجارب التي تلوح في الأفق، وهذا ما يتوافق مع صور البحر والطّبيعة في النصّ التي ترتبط بدورات التجدّد الدّائم.

في سياق قصّة أخرى تحمل عنوان "ثرثرة" (ص26)، تشاركنا تجربتها الشّخصيّة أثناء رحلتها من الأردن إلى البلاد، فتصف الشّعور بالتّرقب والقلق الذي ينتاب المسافرين بين المعبرين، وتسلّط الضّوء على المشاعر والأفكار التي انتابتها خلالها.

وفي سياق قصّة "اشتهيك يا موت"(ص30)، تقدّم لنا حكاية امرأة تهرب من رجل استباح جسدها، تصوّر حالة الخوف التي تسيطر عليها أثناء هروبها من معتديها، ورعبها وحالتها النفسيّة، واضطرابها بين الرّغبة في النّجاة والخوف من المجهول.

في القصّة التي تليها "العار" (ص34) تقدّم حكاية مؤثّرة وفكرة مشابهة، عن فتاة تصبح ضحيّة لخيانة خطيبها بعد أن استباحها وتركها محبطة وحيدة وحزينة، تتحمّل مسؤوليّة حملها، فتصوِّر مشاعرها المتضاربة بين الحبّ والألم والخوف.

تشكّلان هاتان القصّتان لوحتين مؤلمتين مظلمتين عن واقع العنف ضد المرأة، وتثيران أسئلة مهمّة حول مسؤوليّة الأسرة والمجتمع في حماية النّساء من الاعتداء.

تثيران أيضا فكرة ما يسمّى بالشّرف في المجتمعات الأبويّة الذكوريّة، المهووسة بتأثيم المرأة على خلفيّة هذا المفهوم الخاطئ، الذي يستخدم لتبرير العنف ضدها، حيث تعتبر رمزا لشرف العائلة وأيّ سلوك مخالف للأعراف والتّقاليد، يفسّر على أنه يلحق العار بالأسرة، فتقتل كوسيلة لاستعادة الشّرف المزعوم، الأمر الذي يمثّل ظاهرة خطيرة تهدّد حياة النّساء.

يحضرني هنا ما جاء في شعر عنترة بن شدّاد:

ولَقَد ذَكَرتُكِ والرّماحُ نَواحِلٌ مِنّي.. وَبيضُ الهِندِ تَقطرُ من دَمي

فَوَدَدتُ تَقبيلَ السّيوفِ لأَنّها..  لَمَعَت كَبارِقِ ثغركِ المُتَبَسّمِ

من رحم الزّمن العربيّ العريق، يرتسم هذان البيتان كلوحة فنيّة تُجسّد معنى الرّجولة الحقيقية. فيهما تتراقص كلمات الشّهامة والشّجاعة والشّرف، كسيف يصدّ العدوان، وتترقّرق مشاعر الإنسانيّة، لتلامس أرواحنا. فكيف إذن انحدرت هذه المعاني الساميّة لتُقيّد بأفكار رجعيّة؟

إنّ الرّجولة، إن هي إلاّ قيم إنسانيّة نبيلة، تُعلي من شأن المرأة وتُكرمها. فكيف استغلّت بعض المجتمعات هذه القيَم النبيلة، لفرض هيمنتها على المرأة، مُقحمة إيّاها في قفص من العادات والتقاليد الباليّة؟

أليست الرّجولة الحقيقيّة تكمن في تحرير المرأة من قيود الظّلم والقهر، وتمكينها من تحقيق ذاتها ومساهمتها في بناء المجتمع؟ إنها رحلة طويلة، تبدأ بخطوات صغيرة، تُكسّر قيود الجهل، وتنير دروب المستقبل.

فهل نعيد للرّجولة بريقها الأصيل ونحرّر المرأة من قيودها، لنسير معا نحو مجتمع ينعم بالعدل والمساواة؟

هذه الأسئلة وغيرها تشعل جذوة القصّتين السابقتين، وتثير التفكير حول مفهوم الشّرف والرّجولة في المجتمعات الذكوريّة.

نسير نحو قصّة "جمر وأمر" (ص41) نقرأ عن فتاة تدعى فاتن، ومعاناتها من تصرّفات والدتها المتسلّطة التي تؤثّر سلبا بأنانيتها على جميع أفراد الأسرة.

تلجأ الفتاة إلى أبيها، لكنّ شخصيّته ضعيفة، ويعجز عن المواجهة.

يفضّل الصّمت والسّكوت عن زوجته، تجنّبا لكلام النّاس وحفاظا على سمعة العائلة، فتقرّر الفتاة الهروب إلى الدّير كملاذ أخير يمنحها السّكينة والأمل والقوّة، وتكرّس حياتها للعبادة بعيدا عن قسوة الأمّ.

تسلّط هذه القصّة الضّوء على إشكاليّة وجود شخص نرجسيّ داخل المنزل، وتجسّد تأثير ذلك وتداعياته المترتبة على جميع أفراد الأسرة، كما تقدّم دعوة للتأمّل في دور الدّين في حياتنا، فهل هو ملاذ من متاعب الدّنيا، أم أداة للهروب من الواقع؟

أمّا الـقصّة المعنونة بسرب ضجيج (ص53) فتروي حكاية شابّة تعاني من التّشتّت النّفسيّ وتركّز على أهميّة الحبّ.

تستخدم الكاتبة في هذه القصّة أسلوبا سرديّا متدفّقا، يجمع بين الواقعيّة والخيال، وذلك بلغة شعريّة أنيقة، مليئة بالصّور الرّمزيّة والاستعارات. كما تعتمد على السّرد الدّاخليّ في كشف أفكار البطلة ومشاعرها للقارئ.

القصّة التّاسعة "بعد أن كَبُرَ الموج"، تحمل عنوان المجموعة بذكاء، وتصوّر صراعا داخليّا لفتاة عاشقة للقراءة والكتابة، وتحت الفراش بعيدا عن الأعين، تخبّئ ما خطّته من أفكار وخيالات وشغف، على أوراق تمثّل ملاذها الوحيد من قسوة الواقع.

لكنّ السرّ لا يطول، إذ تنكشف خباياه أمام والدتها التي تحاول قمعها؛ لتغدو الفتاة أسيرة حبّها للقراءة والكتابة، مجسّدة بذلك صراع الأجيال والقمع في بيئة لا تقدّر قيمة الإبداع، ولا تتيح مساحة للتّعبير عن الذّات، ولا تتفهّم طموحات الأفراد ولا تشجّعهم على التقدّم.

هذه القصّة ثريّة بالمعنى، تمكّن القارئ من التّماهي مع مشاعر البطلة وأفكارها، وتثير نقاشا حول حريّة التّعبير واحترام الخصوصيّة.

النّصّ العاشر بعنوان "لوّم" (ص64) وهو ليس قصّة بالمعنى التقليديّ، بقدر ما هو نصّ نثريّ مؤثّر، يظهر الألم الَّذي تعيشه أمّ جرّاء فقدان ابنها، فتعبّر الكاتبة عن مشاعر الأمومة الصّادقة والفقد والحزن، وتصف الظّلم والقهر والعنف وفقدان الأحبّة،  وتدعو إِلى التّضامن مع الأمّهات الثَّكلى في كلّ مكان.

تتميّز لغة النصّ بجمالها وصورها الشّعريّة وتعابيرها الحزينة، كما يضفي الاقتباس من أشعار سميح القاسم في نهاية السّطور عمقا ومسحة من التراجيديّا.

في قصّة "ذاكرة العسل المرّ" (ص68)، تخلق الكاتبة أجواء حالمة تثير الأحاسيس، حين تجسّد حكاية ستيفانوس وكارمن، في ظلّ مأساة إنسانيّة، ليجد كلّ منهما في الآخر ملجأ من آلامه وأحزانه، بعد أن عانيا من ويلات الحرب وفقدان الأحبّة.

أمّا قصّة "نقرات الكعب العالي" (72ص)، فتصف حالة الحزن التي تخيّم على شاب يرى في الخيال مهربا من واقعه القاتم.  تحلّق خيالاته وهو يتأمّل بشغف جمال شابّة يراها فتاة أحلامه، لكنّ القدر يتدخّل وتأخذ الأحداث منعطفا مأساويّا مفاجئا، حيث تصاب الشابّة بحادث مروّع، يطفئ شمعة حبّه وآماله وأحلامه.

وعند الحديث عن النّصّ المعنوّن بمنفضة (ص77)، فهو صورة قلميّة قصيرة ومكثّفة، تغوص بالقارئ في رحلة سرياليّة عبر دهاليز الذّاكرة والصّور المبهمة التي تثير الغموض وتحفّز على التأمّل.

يعتمد هذا النّصّ على الإِيحاء برموزه المنبثقة من العبارات الحسّيّة، التي تترك للمتلقّي مجالا للتصوّر والتخيّل لإكمال الدّلالات الرمزيّة كما يوحي بها، حيث تصبح المنفضة رمزا للأحلام والذّكريات التي تضمحلّ مع الوقت.

قصّة "رهان" (ص78) هي حكاية امرأة تنجذب إلى رجل غريب الأطوار يثير فضولها، وفي النّهاية يتحوّل هذا الانجذاب إلى ريبة وشكّ، ما يدفعها إلى الهرب.

لا يقدّم هذا النصّ تفسيرا واضحا لتصرّفات الرّجل أو لمشاعر المرأة، ما يترك الأمر مفتوحا للتأويل.

في نصّ طائر النّفايات (ص 83)، تحيك الكاتبة من الكلمات طائرا نادرا، مستهلّة سردها بكلمات الأديب حيدر حيدرِ، الَّتي تحمل معنى رمزيّا مجازيّا يتجاوز المعنى الظّاهريّ.

تتابع في نقد الواقع القاتم، فتشير إِلى عدم إيمانها بإمكانيّة التغيير أو الأمل، وتترك المعنى مفتوحا.

تتحدّث عن هذا الطّائر الغامض وتعرّف بأنواعه المختلفة، موظّفة لغة بيّنة مليئة بالرّمزيّة والصور الحيّة، لتضفِي على النّصّ تأثيرا عاطفيّا قويّا زاخرا بالإيحاءات والاشارات المُلَمّعة بالغموض، فتدفع إلى التّساؤل:

من هو طائر النّفايات هذا؟ هل هو ظاهرة متفشيّة؟ أم سلوك اجتماعيّ سلبيّ؟ أم رسم لواقع ديستوبيّ؟

في قصّة "دون خيار" (ص88)، تضعنا الكاتبة في مشهد يثير ألوانا من الحزن واللّوعة. تكتب عن صراعها مع المرض، وعن مشاعرها جرّاء الفقد؛ لتغدو الكلمات رثاء ووجدا، وتضيف إلى النصّ عمقا من خلال دمج بعض أَبيات الشّعر، الَّتي تعزّز من مشاعر الألم. وممّا كتبت:

تَلَوَّنَت الأقاحِي بِالشَّحُوبِ .. فَنُوحِي يَا مَدَامِعَ أو فَتُوبِي

أَيَغفُو العُمرُ بَعدَ فِرَاقِ نَهرٍ .. وَتَلتَئِمُ الثَّوَانِي مِن نَدُوبِي

وكأنّ الشّاعرة هنا، تعكس المشاعر المجروحة التي لم تلتئم، فالوقت برأيها لن يداوي الجراح، ولن يوقف الدّموع بعد الفقد.

تتساءل عن إمكانيّة الحياة بعد رحيل من وصفته بنهر الوجود ومصدر الحياة، تقوم بتوظيف الصّور الطبيعيّة المعبّرة، وتشير بالأقاحي إلى الزّهور التي أصابها الشحوب والذبول؛ لِتُرمِّز بذلك إلى شدّة الحزن بعد الفقد.

ثمّ تجمع شتات روحها فوق سرير أبيض داخل جدران المستشفى (ص94)، فتبوح عن مشاعرها المتضاربة بين الألم، والأمل بالشّفاء، ليغدو السّرير الأبيض مسرحا لصراع مؤلم مع المرض ومشاعر الفقد، وتغدو اللّحظات حينها اختبارا لصبرها وقوّتها.

نقرأ بعد ذلك قصّة "وفاء" (ص98) حيث تنقش البطلة ثوب ذكرياتها بخيوط الوفاء لزوجها الغائب تاركة قلبها رهينة لقيد الحنين، لكنّ شعلة الوفاء تنطفئ تدريجيّا مع مرور الزّمن، وتصبح الذّكريات عبئا ثقيلا.

تنتقل الكاتبة بعد ذلك إلى نصّ آخر بعنوان "مغفرة" (ص104) تختمه بعبارة "يسقط الحلم من حنين الذّاكرة"، وتلحقه بنصّ "هودج الأحزان" (ص106) الذي تنهيه بعبارة "الأمّ المكلومة"، وتصطحبنا إلى نصّ آخر بعنوان "خطيئة" (ص109)، ثمّ تختتم بقصّة "هناء" (ص112).

ملامح أسلوبيّة:

تتميّز هذه المجموعة بالدّمج المبدع بين السّرد والنّثر والشّعر والصّور القلميّة، هذا المزج الفريد يجعلها أكثر تشويقا وجذبا، فالسّرد يحاكي الواقع ويدخل المتلقّي في أجواء القصّص، ويسبغها النّثر بالسّلاسة والوضوح، أمّا الصّور القلميّة فتثير المشاعر وتحفّز الخيال، واللّغة الشّعريّة تكسوها بالجمال والرّومانسيّة.

تمتاز هذه المجموعة أيضا بقدرتها على خلق وحدة الأثر أو الانطباع، تماما كما وصفه "إِدغار آلان بو" الّذي عرّف الانطباع، أنّه كل ما يجب أن تخلّفه القصّة في ذهن القارئ، مؤكّدا على ضرورة أن يكون هذا الأثر واحدا ومباشرا وقويّا، ومشدّدا على أهميّة اختيار العناصر الفنيّة بعناية وتوظيفها بمهارة مع لغة قويّة، ذات إيحاءات معبّرة.

تتوفّر أكثر تلك الشّروط في قصص هذه المجموعة وأحداثها التي تركّز على جوانب الحياة اليوميّة، ببساطتها وتعقيداتها، ليغدو السرد متماشيا مع طبيعة الأفكار المتناولة، بكلّ ما فيها من ثراء.

كما نستشعر الأسلوب الأنثويّ النّاعم من خلال اللّغة العذبة، الزّاخرة بالكلمات ذات الدّلالات العاطفيّة؛ كالحبّ والأمل والحزن والفرح، التي أضافت إلى النّصوص لمسة خاصّة. ووفقا لعدسة نظريّة الاستقبال والتلقّي للمفكّر الألمانيّ "هانس روبرت ياوس" نجد أنّ عناوين القصص وضعت كبوابات، تفضي إلى عوالم مظلمة ونورانيّة في آن واحد، تشير إلى قضايا تؤرّق الكاتبة؛ فتبثّها في قصصها لتحفّز القرّاء على التّفكير في مغزى الوجود، وذلك من خلال تصوير العبثيّة والوجوديّة، والكشف عن تناقضات الحياة وصراعاتها.

كما يتجلّى تأثّر الكاتبة بكافكا، بوضوح في عناوين قصصها وأسلوبها الرّمزيّ، الذي يضيف طبقات من المعاني إلى القصص.

جاء ذلك في صور نثريّة غنيّة مقرونة بحوار تفاعليّ عاطفيّ، وسرد واقعيّ أحيانا، ورومانسيّ أحيانا أخرى، وغموض وسرياليّة مرّات ومرات، وكلّها تنصهر في بوتقة الخيال الأدبيّ، وتجتمع بشفافيّة اللّغة وانسيابها، وبفنيّة الصّور البيانيّة من وصف واستعارة وتشبيه وكناية ومجاز لغويّ، وثراء في المفردات ودقّة في التراكيب.

هذا من ناحية؛ لكن.. من ناحية أخرى فقد استهدف هذا العمل نخبة القرّاء، وذلك لغوصه العميق في الرّمزيّة.

يضفي هذا الاستغراق في الرّمزيّة على العمل بعدا من الرّقيّ والإلهام، بيدَ أنّ هذا الاستغراق صعب على القارئ العاديّ البسيط، ما يؤدّي إلى صعوبة فهمه للأفكار الواردة وتحليلها، وبالتّالي إلى عزوفه عن القراءة، وهذا الأمر يعيق وصول العمل إلى جمهور أوسع.

وبعد.. تبقى قراءة هذه المجموعة تجربة مثيرة للاهتمام؛ فكلّ جملة محكمة بعنايّة، وكلّ كلمة مختارة بدقّة، وكلّ مشهد يهدي إلى النّصّ جمالا وتأثيرا خاصّا.

***

صباح بشير

..........................

- ورقة مقدّمة إلى نادي حيفا الثقافيّ.

16.05.2024

للشاعر "أبوفراس جابر الصنهاجي"

1 - أقدّمُ الديوانَ بمفرداته:

يحرقُ الشاعر أبوفراس جابر الصنهاجي مراكبَهُ في أربعٍ وعشرينَ ساحلاً انزياحياً يبدأ بالربيعِ ينقشُ أحلامَهُ على جدار معتقلٍ، وينتهي بمكر الوشمِ ينرسمُ على خدّ راقصة. وبين النقشِ والرقص تنثالُ القصائدُ تباعاً، تغْرِفُ من نونِ الكتابةِ حروفَ الطينِ، مُزْوَرَّةً عنِ سراب الْمِياه، مبْتَهِلَةً في عبير وردة، منشّفَةً شموعَها في صمت الجراحِ، موقِّعةً على سوادِ الليلِ نغماتها الحزينة، ترجو فيها عطف القمر، خشية الضياعِ في أزمنةِ التّيه.

2 - أختارُ تيمةً واحدة:

هي واحدةٌ في صيغة المتعدد. وأقصد بذلك ثلاثية الماء والكتابة والألوان. وفي لغةٍ إجرائية بعيدة عن التناول العائم أقول:

قد مارستُ على الديوان قراءة إحصائية لا تتغيّى شيئاً سوى رصد المفردات في صورتها المورفولوجية. وبعد ذلك صنّفتُها في خانة الدلالة، فوجدتُ القصائد تتحرّك في كثيرٍ من التيمات أو الموضوعات. ولكن اللافِتَ فيها بقوة سيميائية ثلاثةٌ هي:

- دلالة الماء: 81 تردّداً

- دلالة الكتابة: 70 تردّداً

- دلالة اللون: 51 تردّداً

و لم نحص في هذه الحقول الدلالية مفرداتها داخل الجذر اللغوي الصافي فقط، بل حرصنا أيضاً على تتبع الكلمة في اصلها وفي اشتقاقاتها وفي ظلالها. ونمثّل لذلك بكلمة (الكتابة) التي أحصينا فيها مايلي: فعل كتب ومشتقاته، وسجلنا أيضا متعلقات الكتابة مثل القلم والخط والشعر والخطاب والحبر وكل ما يتعلق بهذا الحقل من قريب أو من بعيد دون ليِّ أعناق المفردة كي نراكمَ حصيلتها في فراغٍ دلاليّ. والأمر ينطبق على كل الحقول مثل الماء استدعينا فيه مفردات البحر والموج والسحاب والعطش وغيرها ... وفي حقل اللون استدعينا الأبيض والأحمر والأخضر ومتعلقات اللون مثل الثلج والغراب والليل  والدم و...

هكذا اشتغلنا حتى نوسّع من أفق تداولنا لمعاني الديوان ولفائض معانيه ولظلال معانيه. في تصورٍ نقدي يتبنّى الحقّ في التأويل المشروط بالقرائن المعجمية والسياقية والثقافية.

3 - أبحث عن أولِ تجلٍّ:

و أوّل التجلي لعنصر الماء واللون والكتابة يتبدّى في العتبة (أحرقتُ مراكبي):

- الكتابة - صوغُ العنوان مارسه شاعرٌ يكتب

- الماء - المراكب تحيلُ منطقياً على الماء الذي تمخُرُ عُبابه

- اللون - الإحراق يشي بلون السواد

وحالما ينفتح القارئ على الديوان تواجهه أول قصيدة بعنوان (ربيعٌ على جدار المعتقل) وهو تجلٍّ واضحٌ لطقس الكتابة والماء واللون، بادرتْ به القصيدة وهي تمسك بالعتبة في قبضة التأويل واحتمال التأويل. فالربيع لا يكون إلّا نتيجة الماء، والمعتقلُ هو في الأصل اعتقالٌ لفكرة الماء قبل اعتقاله للإنسان، والربيع لون أخضر، لا يُقحمُ ذاتَه قسراً وتعسّفا، بقدر ما ينساب في نسغ العتبة متخفيّاً في التلميح، رافضاً سطحيةَ التصريح.

4 -  أفكِّرُ في اطِّراحِ الشاعر لمقولة الكتابة:

و الكتابة تفيد في الديوان أكثر من معاني التسطير والتدبيج والتحبير والتعبير... إلى الدلالة على الوجود الذاتي والموضوعي للمقولات المتعددة منها مقولة الإنسان (الذات مثلا) ومقولة التاريخ (الأندلس مثلا) وغيرهما من المقولات التي تستحق وحدها وقفة قِرائية كاشفة.

و في مثالٍ نستخلصه من القصيدة الثانية وتحديداً في عنوانها (نون الكتابة) نشيرُ إلى أن الشاعر أسند فعل الكتابة إلى مفردة النون، وهو إسناد يبحث عن شرعية الكتابة الشعرية ويبحث عن مصداقية الجمالية الصوغية من مرجعية علوية. قال تعالي (نون والقلم وما يسطرون)1.

من هنا استيعابنا لربط الشاعر فعل الكتابة بمفردة النون، باعتبارها حرفاً مقدساً يتمتّع بخاصية صواتية تتميز عن غيرها داخل الصواتة العربية. فهو يتميز بأنه حرفٌ نوعيّ في الأبجدية العربية، لأنه يعبّر عن ذاته كصوت مستقل وقائم بخصائصه، ويعبّر عن ذاته أيضا كصوت يختم ثمانيةً وعشرين حرفا . هكذا يخترق صوت النون الصواتة العربية بسعة دخوله في الألفاظ وبكثرة استعماله في صورة لافِتة، لأداء الوظائف والدلالات المختلفة . (وقد حدّد القدماء مخرج النون المتحركة من طرف اللسان بينه وبين ما فوق الثنايا . أمّا مخرج النون الساكنة فمن الخياشيم وهي التي سماها العرب بالخفيّة أو الخفيفة . ومن صفات صوت النون: الجهرُ والغُنّةُ والذّلاقةُ والتوسّط بين الشدّة والرخاوة والانفتاح والانخفاض.)2. ناهيكَ عن شكله المعبّر عن نسقٍ دائريٍّ تتوسّطه نقطة، تدفع بالصورة إلى دلالة الاحتواء والضم وفعل الاحتضان والتسوير الجليل.

وينزل الشاعر من سموق المرجعية إلى مخيال الذاتية، ليشخصِنَ في هذا النزول مفهوم الكتابة، داخل منظور يبتعد عن التنظير والتفكير لأن المقام مقام شعر، ولأن الشاعر بصدد الهيولى لا العلم، وبصدد الزئبقية المنفلتة لا الدقة المحددة في صرامة التعريفات. إنه يحاول أن ينكتب، وداخل انكتابه نظفر نحن معشر القراء بشيءٍ من وجهة نظر خاصة حول مقولة الكتابة.

5 - أمارس التأويل على الثلاثية:

- الشعرُ ليس وثيقة:

ولا يفوتُنا تسجيل فكرة التبئير لمقولة الماء والكتابة واللون داخل عتبة العنوان الّتي تجاوزتْ محطّة التأشير على الديوان إلى التعبير عن الديوان في أبعاديتِه الدلالية. وهنا بالتحديد بدا الشاعر ماكراً مكراً أدبياً يتبنّى فكرة التاريخ داخل المتخيّل، لا فكرة المتخيّل داخل التاريخ. الشاعر ليس مؤرّخاً كي نطلب منه الحديث عن المراكب، وعن إحراقِها، وعن تماهيها بلحظة زمانية أسّسها علَمٌ بارزٌ في تاريخ هذه الأمة الإسلامية هو طارق بن زياد، أو أن ننتظر من الشاعر تغطية هذه اللحظة بدقّة العالِمِ المتخصّص ... الشاعر يدركُ دور الفنّان في حدود لا يشطُّ فيها بمخياله فوق الحدث ولا ينزل بمخياله أسفل الحدث. والأمر غير متعلّقٍ البتّةَ بوثيقة تاريخية محضة، بقدر ما الأمر متعلّق بتصوّر فنّيٍّ متأتٍّ من ذاتٍ مبدعة في مجال القول، همّها الأول تقديمُ متنٍ شعرِيٍّ متعالٍ عن الواقعِ ومحتضنٌ له في آن، لكنْ بطريقةٍ يتحولُ فيها الكاتب لهذه الإضمامة إلى هيولى إنسانية مسكونة بالخيال، بعيْنيْنِ: واحدةٌ تمكر بالإبداع الشعري في أبعادٍ ثلاثيةٍ تستحضر الماء (البحر) واللون (الدم والجهاد) والكتابة (التخييل لا التسجيل). وأما الثانية فعينٌ تمكرُ بالصياغة الشعرية القادمة من برزخ البيانِ والانزياح وتقدّمُ متناً شعرياً يقول كلمته في الذات والموضوع والتاريخ دون أن يكون هذا المتن متواطئاً مع الحيادية الانهزامية التي تلخصها مقولة (قل كلمتك وامْضِ).

- الكمُّ لا يعني:

عندما تحدّث الشاعر في العتبة عن المراكب وعملية الإحراق، ظننَّا من زاوية القارئ السّاذج أن الشاعر سيُغْرِقُ الديوانَ بمفردات المراكب. فإذا بالعكس تجلّى صحيحاً. فلم يتعدّ منسوب ملفوظ المراكب عدد أصابع اليد، ومن ثمّة فقد كسّر الشاعر مفهوم الهيمنة وحوّلهُ من ثراء التردد المعجمي إلى ثراء الحضور الرمزي الدالّ. وهذا نوعٌ جديدٌ من الصوغِ الشعري في قصيدة النثر الحداثية. وفي هذا التوجّه إدراكٌ طيّبٌ من الذاتِ المتكلمة أن يحظى المتلقي لديها بقدرٍ من الحضور الجمالي الذي يبدو فيه مشارِكاً ذكيّاً لا يستدعي من المبدعِ أن يُراكِمَ لديهِ مفهومَ الكمّ، ويقصّ من أجنحة تحليقه في التخيّل بتوجيهه اللامباشر بوضعِ كثيرٍ من المحطّات المعجمية، وكأنها علامات التشوير في الطريق... يتركُ الشاعر للمتلقي مساحة واسعة من حقّ التخييل لممارسة حقّ التأويل. ولأن المبدعَ مؤمنٌ بتناسل النص وتوالده خارج ذاتِهِ. فقد جنح إلى جمالية التلقي التي ترحّب بفكرة التفاعل المُهرّب للقراءة من سلطة النصّ و" فيتيشية " المؤلّف إلى الانفتاح على تعددية القراءات والتأويلات واحتمالات المعنى. ذلك أن (الإبدالَ لجديد الذي تقترحه جمالية التلقي هو الاهتمام بأثر النص في القارئ، لا بالأدب في حد ذاته أو في حد مرجعيته وحمولته الفكرية وتاريخيته، ولا من حيث ماديته الشكلية واللغوية. الإبدالُ هو ما وقعُ النص في القارئ؟)3.

- بلاغة الماضي:

تسكنُ الأندلس في العنوان عبر تحويل الإسناد من معترك الذاتِ (أحرقتُ مراكبي) حيثُ التاء المرفوعةُ على الفاعلية وحيث النسبة المتكلمة في ياءِ المراكب، إلى معترك الموضوع، أو التاريخ إن شئنا التعبير المباشر. وفيه يستدعي الشاعر المتلقي في بوّابتَيْ بيانِ التصريح ومخيال التلميح. فالمراكب كانت على الساحل في اتجاه الآخر حيث الأندلس تنتظر المنقد. وهذا لم يتكلم عنه الشاعر من باب أنه ليس مؤرخا، ولكن المتلقي قارئٌ ومنتج جديد يقوم بالتأويل. وحتّى التصريح بمفردات الأندلس كان شاعرياً بامتياز ومنه دلف الشاعر وأدلفَ معه المتلقي لاجتناء القطاف الشعري في هذا المقطع:

رائعةٌ حينَ تكتُبِين

و في بوحك جنونٌ كسّر القيود

في نبضك ربيعٌ وتغريد

شلال شوقٍ وحنين

بستان عشق بأندلس

يحكي لوعة ابن زيدون

واشتياق ولّادة

وبسمتك عابرة للأقفال

همسات تغرّد في كياني4

و تسكن الأندلس في الديوان دون أن تثير غبار المعجم، لأن الشاعر يؤمن بأنّ كثيرا من الحقائق تدخل في مقولة الآمدي (إن من الأشياء ما تدركها المعرفة ولا تحيط بها الصفة). والمعرفة هنا غير متحيّزة في المكان، بقدر ما تنسرب في عموم المكان، ونقصد بذلك المكان العربي الذي تبدو فيه ذاتُ الشاعر لا تفرّق بين أندلس وعراق ومصر ومغرب... قال الشاعر في ديوانه:

هل جفّ النيل في صعيدنا

وأغرق الفرات مراكبه

وبلع النمل المياه قبل الحصاد

ما بال دجلة سقط مغشياً عليه5

شعرية الزمان تلتقي مع شعرية المكان معجونتيْنِ في تجربة الماضي الّذي تستثمرهُ ذائقة الشاعر في مخيال هادفٍ لا يشطُّ في رومنسية الخطاب الحالم، بقدر ما يندفع سائلاً ومتسائلاً في نسق الاعتبار، محقّقاً بذلك انسجاماً جمالياً داخل تشعّبٍ أكثر جمالية.

6 - سيمياء اللون في الثلاثية الدلالية:

تقوم شعرية اللون أو الألوان في ديوان (أحرقتُ مراكبي) على تشكيل اللغة لتعيد تشكيل عالمٍ بديلٍ عن العالم الواقعي، داخل منظور تخييلي لا يكسر الرابط المعنوي والدلالي القائم بين الأشياء في وجودها المرئي وبين الأشياء كعلامات تلج مخيال الشاعر لتخرج منه  كائناتٍ زئبقية طافحة بالأبعاد.

و في ذلك المسار يلعب الشاعر لعبة الألوان:

و نقصد به توظيف دلالات الألوان في تناغم بين الصورة الذهنية للون وبين الصورة البيانية الكاشفة لهذا اللون أو ذاك . والصورة هنا تستنجد بالانزياحات الغائرة كي تلقيَ باللون الفيزيائي خارج التمثل الحسّيّ لتنقل المتلقي إلى اللعبة الشعرية المتوسلة سيمياء التأويل المشروط.

ومنها تجانس اللون في ماهية اللون (أبيض) مع الماهية في جسدٍ يحمل دلالة هذا اللون (الثلج)، أي أن الشاعر يمارس لعبة التجانس بين المحمول، أي البياض، والحامل، أي الثلج... أنظر الصفحة 10 من الديوان مثلا. وفيه يخرجُ الشاعربالتعبير من بداهات المعجم إلى معانقة الأشياء في تجليّاتها السيميائية الخازنة لمجموعة من الدلالات. فالبياضُ هنا لا يستثمره الشاعر باعتباره لوناً فيزيائياً بليدا تقف معانيه عند حدود الأصباغ، بقدر ما هو إشارة علاماتية تفضح في سمتٍ بلاغيٍّ ساخر هوية الموصوف. ونجد مصداقاً لذلك  في مثالٍ من القصيدة الأولى حيث يصف الشاعر الأحلام التي ماتت بقوله (يحرسها غرابٌ أبيضُ كالثّلج) أنظر الديوان ص 10.

و إذا استمدت العلاقة بين البياض والثلج مصداقيتها من مقولة المشابهة البائنة من خلال كاف التشبيه، فإنها في سياق آخر استمدت علاقتها من تجانس النقيضين (البياض والغراب). وحيث إن الأحلام ماتت فهي تنتظر درسَ الدفن التاريخي النازح من القصص القرآني، فيكون الغرابُ معادلاً موضوعيا يقتحم الصورة ليؤثّت بنياتِها البيانية بمزيدٍ من الضوء. اللون الأسود الدال على الموت نقيض اللون الأبيض الدال على الحياة،و في هذا التجانس يرقد عمق الانزياح، إذ الشاعر يكشف لنا في غير تكرار للتاريخ أن الغراب هنا غير حاضر ليعلّمنا طقوس الدفنِ وإن كانت الفكرةُ واردةً في بعض التأويل، ولكنه فضلاً عن ذلك هو حاضر لا ككائن حيواني بجناحيْنِ ومنقار، ولا كصورة مكرّرة لفعل الدفن، ولكنه حاضر كسوادٍ دلاليٍّ وبؤَرِيٍّ يقصّ من تحليق أحلامنا بسواده الغريب. قال الشاعر في نفس سياق حديثه عن الأحلام (حين تطل أحلامنا من القبور – يصعقها صوت الغراب ص 10). وإمعاناً في النكاية بهذه الأحلام يضيف الشاعر إلى كينونة الغراب وإلى سوادِه مكوّناً آخر هو صوتُ الغراب المرتبط بالصعاق. وفيه ما فيه من دلالة السلب والخواء والنفي والخراب...

و منها تجانس المحمول والحامل في مفردتيِ الحمرة والدم، وهذه الثنائية حاضرة في الديوان بشكل ملفت، نستدل على حضورها بالتمثيل لا بالحصر ونقف هنيهة عند القصيدة السادسة (سيد الشهداء) حيث اللون الأحمر حاضرٌ في صيغٍ متعددة منها (الدماء – بالدماء مدرجة أيدينا – الدماء الزكية - في عروقنا – نصلي بدون  نزيف – نصلي والدماء جارية - ...  ص 31 – ص 36) وسياق القصيدة يعضد مذهبنا في التخريج. الحمرة في هذا السياق متوارية تترك لتداعياتها ومتعلقاتها شرف البيان. قال الشاعر (نصلّي بدون نزيف  ص 36) معتمداً ظلال الإشارة بدل أجساد العبارة، في علاقة (تقوم على المجاورة فتكون العلاقة هنا سببية منطقية)*6 بين المحمول، أي الحمرة والحامل أي النزيف. ومثل ذلك التركيب كثيرٌ في الديوان بفصح عن دراية شعرية من لدن الشاعر الذي تأبى ذائقته الإمساك بالمعاني داخل شرنقات التقليد البلاغي، وتفضل التحليق في مخيال الانزياحات الذكية القابضة على المعنى لتتجاوزه إلى فائض المعنى ... وهكذا الشعر.

إن عبارة (نصلي بدون نزيف) عبارة ممتدة في عالم البلاغة الجديدة المبنية على اختيارات دقيقة لمنسوب التخييل، ذلك أن الصلاة تستدعي وضوءا وماء، والدمُ هنا معادل بلاغي غائب يستحضر الشاعر بعض تداعياته ألا وهو النزيف، لترتسم الصورة أمامنا بالغة في الوخز، حيث الدم سيد الموقف في سياق القصيدة الماتحة ألوانها من تيمة الشهادة، وهي تيمة تعجّ بالحمرة والدم، فيأتي قرار الشاعر بإيقاف هذا المشهد الأحمر توصيفاً للحياة البديلة عن قهر التيمم بقنافد الحظيرة... هكذا تتمازج في عرف الثلاثية صبغةُ الماءِ في مقولة الوضوء المتخفية، بصبغة اللون في الحمرة المتوارية بصبغةِ الكتابة الواعية بلحظة المفارقة والخلاص. قال الشاعر في محور الكتابة (العريس في مرقده يتلو الكتاب ص 34) والتلاوةُ هنا قرار ربّاني يعشق نهاية الشهادة في حرير الجنة وزعفرانها ومسكها كما لمّح إلى ذلك الشاعر (ص 35)

7 -  أكتشف لعبةَ الكتابة في الديوان:

أعتبر الانزياح اسلوباً بليغاً وماكراً في بلاغته وهو ينقل إلينا دلالات الثلاثية (الماء واللون والكتابة) نقلاً أيقونياً وإشارياً وزمزياً، في انتقالٍ بديعٍ  بالعلاقة بين الدال والمدلول، من مقبرة المعنى إلى حدائق اللامعنى، وأقصد بذلك فائض المعنى في أبعاده الدلالية وفي دلالاته البعيدة والمحلقة في عوالم التخييل المحترمة لجمالية التقلي كنسق إبداعي، ولحضور المتلقي كطاقة قارئة ومؤوّلة. وفي هذا الصدد سنختار بعض المقاطع من بين كثير، وهي كلها تميط اللثام عن منظورات الشاعر لفعل الكتابة باعتبارها آلية لا تقف عند حدود الصوغ الشعري وإنما تتجاوزه إلى آفاق الصوغ الوجودي لمختلف الماهيات المتناثرة هنا وهناك في غضون الديوان:

القصيدة الشاهد الصفحة

1 - على جدار المعتقل كتبنا- صفحة  12

2  - اكتبيني رواية - ص 14

4  - وحروف فقد لغتها - ص 24

4  - أشعاري تحررت من القافية - ص 30

6 -  العريس في مرقده يتلو الكتاب - ص 34

7 - ولا القراءات المتواترة  - ص38

9 - نكتب الأسماء كلها من جديد - ص 46

14 - قلمي كان واعياً بكلمات - ص 63

17  - تعطلت لغة الخطاب  - ص74

22 -  يغازل القرطاس والمحبرة  - ص 94

23 -  يراجع الفرزدق قصائده  - ص 98

24 - ركبنا صهوة الحرف  - ص 100

اخترنا هذا الغيض من ذاك الفيض تقريباً للقراءة من الأفهام،  وليس إحاطة شاملة. فذاك أمر موكولٌ إلى أفق آخر يدرس الديوان في كلياته الممكنة.

الكتابة جزءٌ من موضوعةٍ كبيرةٍ في الديوان، هي ثلاثية الماء والكتابة والألوان. ومن منظوري الخاص، هي تداخل ذكيٌّ من الشاعر يبني به فلسفته في الفنّ والحياة.

و حديثنا عن كل طرف في هذه التيمة على حدة هو مجرد إجراء تفكيكي لتقريب المسافة بين الديوان والقارئ. أما حقيقة الأمر فلا إمكان للفصل في تصور الشاعر بين الماء والكتابة والألوان. فهي أشكالٌ متداخلة ومنسجمة أشدّ الانسجام في إطار النسق الثقافي لهذا المبدع، على الرغم من تشعّباتها الماهياتية، إذ الماءُ مفارقٌ للكتابة وللون، ولكنّ هذيْنِ الأخيريْنِ متعلقان بالأول في ثقافتنا الإسلامية من باب المرجعية والمصدرية (وجعلنا من الماء كل شيء حيّ). ومما يعزّز طرحنا أن حقل الماء مهيمنٌ درجاتٍ قصوى في الحضور مقارنةً بالكتابة والألوان.

الشاعر لا يكتب إلّا من زاوية الوعي بفن الشعر:

أفتّش في قشّ أدواتي عن أثر لك

عن أوراق سقطت منّي ذات خريف

قلمي كان واعياً بكلماتي حتّى النّخاع

قبل أن يخطّها على الورق يسائلني

يعتذر عن بعضها ... ويأبى التدوين.    ص 63

و هو في وعيه بمادّة الشعر لا يسقط في صرامة الحدّ العلمي، بقدر ما يحرص على العومِ في كيمياء التخييل، حتى لا يسقط في شعر الفكرة الّتي لا يتبنّاها الديوان ولا يغازلها حتى مغازلة. والكتابة الشعريةُ في آخر المطاف ماءٌ يجري في نسغِ الإنسان، وعوضَ أن ينساب رقراقاً بعذبِ الزلال، نجده ينساب رقراقاً ببليغ الألوان. فيضمّخ وجودنا بالأبيض والأحمر والخضرة واللون الفضي والذهبي وغيره من الألوان ليقول لنا في صمتِ الشعر:

أنا الشاعر أبوفراس جابر لا أدقّ مسامير الواقع في تسجيلية الحرف البليدة، وإنما أصنع من المعتقل أفقاً مفتوحا على البياض الجميل، وأشقّ جداراته بعنف الخضرة الآتية من قلب الشهيد، وأحوّل الحمرة في تاريخ الأندلس إلى رؤية فضية تلهج بالضوء، وأصبغ مياه دجلة والفرات والنيل بعبق الانسياب الرقراق الحامل للشعور بالمكان والتاريخ في امتدادهما خارج شرنقات التحقيب، وأدلفُ بمعية عشقي الخاص إلى بساتين الماء واللون لأكتب أجمل قصيدة أحبّ فيها إنسانٌ إنساناً يستحق أن يكونَ نجمةً في سماء العاشق.

8 -  ختمٌ:

لا أقول إنني قرأت الديوانَ في شموليته وفي مستوياتِ تعبيره، وفي بنياته التركيبية والبلاغية والدلالية وغيرها... فهذا ضربٌ من الادّعاء. كل ما فعلتُهُ أنني شاكستُ بعضاً منه في أفق واحد تلتقي فيه عينُ الشاعر وعيني على مفترق ثلاثية الماء واللون والكتابة بهما وعنهما، في احتشامٍ شديدٍ لأن الديوان مفتوحٌ جدّاً على شساعةِ التأويل وقوة الاحتمال، فيما أناختْ قراءتي القاصرة عند عتبةِ جزءٍ من هذا الاحتمال الّذي أقول فيه: اجتهدتُ وفي نفسي كثيرٌ من " لوْ " ...

***

بقلم: نورالدين حنيف أبوشامة

...........................

إحالات:

1 – الآية 1، سورة القلم

2 - محمد سعيد الغامدي، بحث بعنوان، لغة الضاد أم لغة النون، مجلة الدراسات اللغوية، العدد الثاني، 2005، المملكة العربية السعودية، ص 40

3 – هانس روبيرت ياوس، جمالية التلقي من أجل تأويل جديد... ترجمة رشيد بنحدو، منشورات ضفاف، الرباط، ط 1، 216، ص 109

4 – أبوفراس جابر الصنهاجي، أحرقتُ مراكبي، مطبعة وراقة بلال، فاس، ط 1، 2022، ص 18

5 – نفس المرجع، ص 31 و32

6 – جميل حمداوي، السيميوطيقا والعنونة، مجلة عالم الفكر، العدد الثالث، مجلد 52، يناير- مارس 1997، ص 86

 

رؤية نقدية في عروض مسرح الشارع (5)

دخلت عروض مسرح الشارع وأفكاره المتعددة وأساليبه المتغيرة مع كل ظاهرة فنية وتظاهرة جديدة قائمة على الاستعراضات بجانبيها المادي والثقافي للشعوب في ساحات عالمية لاستعراض هذا التراث العالمي، لذا فقد عملت القوى الكولونيالية على إقامت الأحتفالات لتقديم هذا التراث العالمي في ساحاتها من خلال العمل على جلب هذه العروض كونها القوى المسيطرة على المشهد الثقافي العالمي والقادرة على إطلاق المجال في نقل التراث الثقافي للدول والشعوب التي وقعت تحت سيطرت الإستعمار، إذ أقامت ما يعرف بالمعارض الكولونيالية وذلك عن طريق عرض تراث الشعوب على أرض المستعمر، مثال على ذلك ما حدث في فرنسا،إذ أقامت عدد من المعارض الاستعمارية في (مرسيليا) وغيرها من المدن الفرنسية ما بين (1889 – 1931)، وكان يحضرها الرؤساء فرنسا الاستعمارية وكان المسؤول عن هذا المشروع المارشال (ليوتيه) . والهدف من هذه المعرض هو ترسيخ الواقع الاستعماري والتمجيد بالقوى الاستعمارية ومكانتها العالمية بين شعوب العالم . (1) إذ قدمت هذه العروض والرقصات من التراث الشرقي لفرق من آسيا، تمثل البعد الطقسي للثقافات والمعتقدات الشرقية التي كان يحضرها عدد من المهتمين بالمجال المسرحي ومن بينهم المخرج المسرحي (أنتونان آرتو) والذي شاهد في تموز من عام 1922 فرقة من المؤدين الكمبوديين وهم يقدمون عملاً فنياً في مشهد مطابق لما يحدث في إحدى المعابد الكمبودية . كان ذلك العرض للفرقة الكمبودية مقدم في مدينة (مارسيليا ) .(2) ومن بين المخرجين (أنطونين آرتو) الذي كان شاهداً على هذه العروض وتأثر بها في استخلاص مسرح القسوة منه، كون هذه العروض الكولونيالية كانت تقام في شوارع وساحات مدينة مرسيليا الفرنسية وهو ما أتاح للمخرج المسرحي والمفكر الفرنسي (آرتو) الإطلاع عليها ومعرفة ما تحتويه العروض الكولونيالية ، " فالعرض البالينيزي الذي شهده آرتو كان داخل إطار سياق ( الاستعراض الكولونيالي ) الذي كان يقدم في فرنسا . كذلك الحال بالنسبة للأقنعة النيجيرية أو المنقوشات البولينيزية والتي تتغير دلالتها تلقائياً حالما يتم عرضها كمعروضات فنية في أي دار عرض أو متحف غربي " (3)، هذا التغير يقع في دلالتها والمكانة التي عليها في مكانها الأصيل والمتحولة في وعي المتلقي الغربي عن طبيعتها الأصيلة، وهذا ما يجعل السياق الكولونيالي فعّال في إيجاد تفسير جديد يقدمه إلى جمهوره الغربي بما في ذلك المفكرين والفنانين من المسرحيين، ومن بينهم (آرتو)،إذ تعد نظرته "للدراما الراقصة البالينيزية نظرة كولونيالية بشكل ما وذلك في رؤيتها لهذه الدراما باعتبارها غريبة ومستطرفة، بل وباعتبارها آخر مغاير ؛ فمثل هذا العرض يجسد قيم تختلف تمام الأختلاف عن قيم المجتمع الغربي " (4)وتدخل هذه القيم المختلفة في مجال التوظيف الفني المستلب من مجالها الحقيقي في داخل الشكل الجديد وفي الأفكار الفنية التي تستمد صيرورتها وتغيرها من خلال دخول أفكار هذه العروض الكولونيالية فيها، أي في إنتاج الأعمال الفنية الجديدة ذات الثوب الغربي من جهة والفكر الشرقي من جهة أخرى، وهو أشبه بنوع من الاستغلال الثقافي أتاحته القوى الغربية لمثقفيها ومبدعيها من أجل تطوير المنظومة الثقافية الغربية بعد سيطرة الجمود في الأطر الاشتغالية التي أنتجتها المدارس الغربية من الطبيعية والواقعية وغيرها، ومن ثم جعلت المبدع الغربي يبحث في مثل هذه الاستعراضات عما يطوره من أفكاره وخياله وأعماله الفنية .

أما على مستوى الجمهور الغربي عامة والفرنسي خاصة فإن هذه العروض التي تقدم في الساحات العامة تعدّ فرصة مهمة للتفاعل مع التراث العالمي لكن على وفق النظرة المتعالية، أي أن " العامل الفعّال بالنسبة لهذه الطقوس داخل سياقها الأصلي هي الألفة الشديدة معها، وهي ألفة ترسخت منذ زمن بعيد، أما بالنسبة الى جمهور باريس(...) فالقوة والفعالية التخيلية لهذه الطقوس ترتبط أكثر بغرابتها وعدم تقليديتها " (5)، وهذا ما فرض متغيرات أخرى تدخل في تشكيل الوعي البصري على المشاهدين لهذه العروض التي تقدم أمامهم في الشوارع الفرنسية كاستعراضات تحمل في طياتها التباين المعرفي بين الأصل داخل السياق ذاته، وبين غرابتها في واقعها الكولونيالي الجديد.

إنَّ هذه التجربة لم تقتصر على (آرتو) فقط في هذا السياق الكولونيالي والاستعراضات التي صاحب الشارع الغربي والمقدمة فيه من خلال بعدها الكولونيالي، بل أن الأمر أستدعى بعض من المخرجين الغربيين أن يسافر إلى مسقط رأس هذه الطقوس الشرقية من أجل المقايضة، وهذا ما قامت به فرقة (أودين) والمخرج المسرحي (يوجين باربا) التي أعتمدت على تقديم " عروض فرقة (أودين) تياتريت في مراحلها الأولى وفي رحلاتها الخارجية في تقديم الرقصات ؛ وقد تطورت هذه الرقصات فيما بعد لتأخذ شكل العروض الاحتفالية التي تضم أشكالاً فنية تم تجميعها من مناطق محلية مثل الأشكال والرسومات التي تعبر عن الموت في جزيرة بالي . لقد كان الهدف من وراء مسرح الشارع هذا من وراء تجميع متفرجين من كافة فئات الجماعة البشرية التي يعرض داخلها ( والذين سيقومون هم أيضاً بدورهم بأداء عرض ما ) "(6). عملت فرقة (أودين) ومخرجها (باربا) على استثمار ما تحصلوا عليه من خبرات في مجال عروض مسرح الشارع الشرقية وغيرها من الهوامش التي زاروها في رحلاتهم، التي شاهدوها في أمكنتها الأصلية، أي استلهام هذه الصور الطقسية المؤداة في موطنها الأصلي في عرض مسرحية المليون التي قدمت عام " 1978: مستقاة من الكاثاكالي والرقصات المكسيكية ورقصات أخرى واعتمدت المسرحية على بقية الثقافات وقدمت على مساحة مستطيلة يحيط بها الجمهور من جانبين واستخدمت الموسيقى بشكل كثير وكذلك الأقنعة التي تمثل شخصيات راقصي البالينييز" (7)، هذا الخليط غير المتجانس حاول (باربا) تقديمه لإثارة الدهشة عند الجمهور الغربي على الرغم من أن بعض هذه الطقوس الموظفة في العرض لا تتلاءم مع بعضها الآخر، لكن الجمهور الجديد لا يعي هذا، وهو يركز فقط على غرابتها المتأتية من شكل الرقصات الطقسية المصاحبة للصورة الجديدة الموظفّة فيها، وهذا النوع من العروض المسرحية هي من جعلت توظيف هذه الطقوس البعيدة عن دلالاتها عامل مؤثر في الجمهور الجديد .

إنَّ العروض المقدمة في بُعدها الكولونيالي شكلّت غايات معينة قدمت في عروض مسرح الشارع من قبل المخرجين الغربيين والتي تلقاها الجمهور الغربي بشكل مغاير عن العروض التقليدية في المسارح وصالات العرض الغربية، وهذه الغايات هي:

1. العروض المقدمة في بُعدها الكولونيالي من خلال الاحتفالات الكولونيالية الغاية منها هو تجميع أكبر تراث ثقافي عالمي في الشوارع الغربية لإثبات السيطرة الثقافية على هذا التراث وجلبه في أي وقت ممكن من أجل المشاهدة والاستمتاع من قبل الجمهور الغربي .

2. إنّ هذه العروض المُقدّمة في سياق عروض الشارع على الرغم من أنها مأخوذة في سياق آخر غير سياقها الأصلي، إلا أن تأثيرها كان له غايات مهمة وأدوار في إيجاد متغيرات فنية جديدة داخل المنظومة المسرحية الغربية .

3. إعادة تقديم هذه الطقوس في سياق مسرح شارع على وفق النظرة الغربية ومنظومتها من أجل أن يكون لحضورها دور محفز في خلق الغرابة لدى الجمهور الغربي المتابع لهذه الطقوس الموظفة في داخل الدراما الغربية ذاتها .

***

أ.د محمد كريم الساعدي

..................

الهوامش

1. ينظر: باسكاله جوتشيل، وايمانويل لواييه: تاريخ فرنسا الثقافي، ترجمة: مصطفى ماهر، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2011، ص 169.

2. ينظر: مارتن أيسلن: انتونان أرتو، الرجل وأعماله، ترجمة: سعيد أحمد الحكيم، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، 2001، ص 241، 247.

3. كريستوفر أينز: المسرح الطليعي، ترجمة: سامح فكري، القاهرة: مطابع المجلس الأعلى للآثار، ب، ت . ص35.

4. المصدر نفسه، ص34.

5. المصدر نفسه، ص 36.

6. المصدر نفسه، ص 327.

7. د سامي عبد الحميد: قديم المسرح جديده وجديد المسرح قديمه، بغداد: إصدارات مهرجان بغداد لمسرح الشباب / الدورة الأولى، 2012، ص108.

للشاعر عبدالكريم الياسري

قصائد تؤكد بوضوح تام ارتباطها العميق للمكان (الوطن. المدينة. الاهل) في هالة الهيام والحب، تجسد حالة الأحاسيس العميقة، لهذه العلاقة والارتباط، في المشاعر الملتهبة التي تضع الوطن في اعلى قمة من الفخر والاعتزاز، في قصائد تغلب عليها لغة شعرية راقية في اللغة والبلاغة الشعرية، وليس لغة الشعارات الرنانة، التي تخل في القيمة اللغوية والبلاغية،، وإنما بقصائد ترفل برشاقة فخمة في اللغة الشعرية الخالصة، وجاءت كأنها معزوفات نغمية في إيقاعها الإنشادي، التي تعزف على أوتار، المحبة والصدق والوفاء، بحرارة الانتماء الواضح الذي ألهب المشاعر، شعرياً بلغة الحواس، لتلبية نداء الوطن، وتدل على قدرة الشاعر المتمكنة في صياغة القصيدة، في شكلها، قصيدة الشطرين أو قصيدة الشعر الحر (التفعيلة) تملك افكار وتصورات ورؤى تعبيرية وخيال فني في قدرته لخلق التعبير الشعري، وتكوينه برؤية فكرية ناضجة. في مشاعره ملتهبة، والتفهم العميق الذي يعزف على الحلم والأمل ان يصل من وجع القصب، الى حالة الاحتفال (حين يحتفل القصب). هذه رمزية الحب العميق في دلالتها ومدلولها في الإيحاء والمغزى في القصائد الشعرية، لتؤكد الالتزام الأخلاقي لمناصرة الوطن وهموم الناس، في الامل ان يخرج الوطن من محنته المتشظية، ليقف منتصب القامة، حتى لو كان في أسوأ حالاته المأساوية.. ولابد ان نبدأ من اصل المكان، البصرة : مدينة الحب والولادة، مدينة الشوق والحنين، مدينة نهر العشار وشط العرب والكورنيش والاسواق منها سوق المغازي. مدينة اسرار العشاق والمواويل والاغاني (البلم والمشحوف). البصرة مدينة الحسرة والأمل، مدينة المعالم الشاخصة في روعتها، مدينة الحب والحرب، ولكنها رغم كل شيء تبقى قندلاً مضيئاً.

الْبَصْرَةُ سِرُّ الْأَسْرَارِ

وَرَحِيقُ زُهُورِ الْأَفْكَارِ

وَسِلَالٌ تَحْمِلُهَا امْرَأَةٌ

لِلْجَارِ بِتَمْرِ الْقِنْطَارِ

**

رَاحَتْ تُغَنّي "عَلَى شَطِّ الْعَرَبْ تِحْله"

فَصَاحَ صَبٌّ "أغانينا، وعلى البصرةْ"

تَقَاذَفَ الْمَوْجُ صَوْتَيْ عَاشِقَيْنِ هَوَىً

في بَصْرَةِ الْـخَيْرِ:

لِلْعِشَّاقِ لَا حَسْرَةْ

×× إن فعل المناجاة وخاصة (وقفة على قبر أبي) تجسد لوحة الحزن والوفاء، الساكن في الأعماق، وخاصة أن الأب الراحل كان ايقونة من الوطنية والانسانية بقلبه الطيب والوفي، وروحه المتشبثة بالوطن، لأنه شرب من ماء دجلة والفرات، وعرف قيمة الوفاء والعهد، وبرع في خصائل التربية الوطنية الزاهية زرعها بكل نقاوة صافية إلى أولاده. مرثية ليس للنحيب والدموع، وإنما تؤكد وفاءها وولائها للعهد الذي رسمه الأب الراحل.

أَبَتَاهُ مَاتَ بِمَوْتِكِ النَّبَأُ الَّذي

أَفْتَى بِأَنَّ الْعِشْقَ فَوْقَ الْمِلَّةْ

**

لَا دَلْوَ يَقْتَرِحُ الْبَرَاعِمَ صِبْيَةً،

تَرْنُو لِكَفِّ فَتًى يُمَوْسِقُ حَقْلَهْ

**

لَا وَحْيَ يَنحَتُ بَيْدَراً،

لَا نَهْرَ، لَا..

وَفَسِيلَةٌ تَجْتَرُّ دَاءَ الْعُزْلَةْ

**

أَبَتَاهُ مَاتَ بِمَوْتِكِ النَّبَأُ الَّذي

أَفْتَى بِأَنَّ الْعِشْقَ فَوْقَ الْمِلَّةْ

**

لَا دَلْوَ يَقْتَرِحُ الْبَرَاعِمَ صِبْيَةً،

تَرْنُو لِكَفِّ فَتًى يُمَوْسِقُ حَقْلَهْ

**

لَا وَحْيَ يَنحَتُ بَيْدَراً،

لَا نَهْرَ، لَا..

وَفَسِيلَةٌ تَجْتَرُّ دَاءَ الْعُزْلَةْ

× × مجزرة سبايكر، الجرح العراقي الذي لا يشفى إلا بالقصاص من القتلة، فقد راح ضحية الحقد والإرهاب وسموم الطائفية البغيضة، اكثر من 1700 شهيد بعمر الزهور، عندما يوغل الإرهاب الدموي بالابرياء والمدافعين عن الوطن (كان الشباب في مرحلة التدريب والتجنيد) هذه الجريمة الكبرى هدفها شق اللحمة الوطنية بين مكونات الشعب، والقصيدة هي محاججة حوارية بين الضحية والقاتل، بالسؤال الكبير : بأي ذنب قتلت ؟؟ وكيف سيكون الحساب العسير للقتلة أمام رب العالمين.

أَبَتَاهُ مَاتَ بِمَوْتِكِ النَّبَأُ الَّذي

أَفْتَى بِأَنَّ الْعِشْقَ فَوْقَ الْمِلَّةْ

**

لَا دَلْوَ يَقْتَرِحُ الْبَرَاعِمَ صِبْيَةً،

تَرْنُو لِكَفِّ فَتًى يُمَوْسِقُ حَقْلَهْ

**

لَا وَحْيَ يَنحَتُ بَيْدَراً،

لَا نَهْرَ، لَا..

وَفَسِيلَةٌ تَجْتَرُّ دَاءَ الْعُزْلَةْ

×× العمر مثل كتاب يتجول في المحطات ليكتب صفحاته، وكل محطة له شكوى وانتظار وشوق وحنين، وذاكرة تتجوال في خواطر الروح، لهذا الجنوبي المعفر بالحب البصراوي، والأرغفة التنور والنخيل والحلوى، تزهو روحه مع الطقوس الجميلة ويداعبها مع أحلامه، بين كل سطر شكوى وصورة امرأة سمراء، وكل خطوة يسير يلاحقه ظل البصرة، يخلق الفرحة من العدم

في دَفْتَرِ الْعُمْرِ أَعْوَامٌ تـَجوبُ دَمي،

وَيَسْتَبيحُ صَدَى ضَوْضَائِهَا قَلَمي

*

أَشْكُو،

وَيَنْزفُ أَوْرَاقاً، تُـهَدْهِدُهَا

في كُلِّ حَرْفٍ "كَذَا" شَكْوَى مِنَ الْأَلَـمِ

*

أُوَرِّقُ الطِّفْلَ هَيْمَاناً،

فَتَخْطَفُهُ يَدُ الْفَتَى اللَّا فَتَى الْمَكْلومِ بِالْـهَرَمِ

*

حَتَّى إذَا عَسُرَتْ كَفُّ الرَّبيعِ

صَحَا

يُسْرُ الْـخَريفِ عَلَى أَشْوَاطِ مُنْتَقِمِ

*

في أَوَّلِ السَّطْرِ

أَحْلَامٌ مُبَعْثَرَةٌ

أَشْوَاقُهَا مُنْذُ فَجْرِ الْآهِ لَـمْ تَنَمِ

*

وَفي الزَّوَايَا انْتِظَارٌ،

بَوْحُهُ قَلَقٌ مِنَ النَّجَاوَى،

يَصُوغُ الْوَيْلَ مِنْ عَدَمِ

×× حينما يتذكر أمه كأنه يتذكر العراق، وحين يعلق عبائتها، كأنما يعلق خارطة العراق، للزهو والافتحار. فالام موجودة في كل همسة روح، فهي عالقة في وجدانه كالعراق، فكل فجر وصوت الاذان يتذكر سجادة الصلاة الام، فهي الام الكادحة التي تقهر الصعاب مثل مطرقة الكادحين. هذه هالة امهاتنا العراقيات، هيبة وجلال.

لَا،

فَالْعَبَاءَةُ مَا تَزَالُ مُعَلَّقَةْ،

هذي،

وَتَبْدو كُلَّ فَرْضٍ مُشْرِقَةْ

*

في كُلِّ فَجْرٍ تَقْتَفي صَوْتَ الْأَذَانِ

تَظــلُّ في صَـادِ الصَّـلَاةِ مُـحَـدِّقَـةْ

*

تَرْنُو لَـهَا سَجَّادَةٌ،

أَوْ تُرْبَةٌ

كَــانَتْ تَـمَـــسُّ جَبينَهَا كَـــيْ تَعْتِقَهْ

*

أُمِّــي تُــرَدِّدُهَـا الْــمَنَــاجِلُ كُــلَّمَـــا

رَفَّتْ بِكَـــفِّ الْكَــادِحينَ الْمِطْـرَقَةْ

***

جمعة عبد الله

في هذا العمل الروائي الجديد، المعنون" قطط إسطنبول" الواقع في 294صفحة من القطع المتوسط، طبعة أولى2023، منشورات نون4 للنشر والطباعة والتوزيع، يخوض المبدع السوري زياد كمال حمّامي، غمار تجربة روائية جديدة، تكلل مشواره الإبداعي القيم والمنذور للفرادة والاستثناء.

تتآلف ضمن عوالم هذه السردية جملة من المواضيع، في تناغم تام، وبلغة سلسة صافية تترجم نبض الواقع بوعي ومسؤولية.

الدعارة، تبعات اللجوء الاضطراري، خطاب العنصرية وإكراهاته، وهلم جرا، من أزمات حياتية وهوياتية، تختبرها كائنات هذه الرواية، وتكابد مرارتها شخصيات هذه المسْرحة الحكائية، بأسلوب لبق مراوغ أخاذ.

يقول:

{في هذه الليلة الشاردة من ليالي البؤس، التقى الصبية "شام" عند مدخل الحديقة، رآها تمشي متعرجة تغني، راعه بياض وجهها وطول عنقها الذي تتدلى منه قلادة تقليدية زائفة، وثوبها الملون شديد اللمعان، حيث كان يتبعها رجل عجوز سكير، فاقد رشده، حتى أنه لم ينتبه أنها تشعل سيجارا وتترنح، وحين قادتها قدمها إلى الدخول، كأنها معتادة على زيارة الحدائق بعد منتصف الليل، وقف الرجل السكير الذي يتبعها قليلا، ثم غب من عبوة في يده، سعل سعالا شديدا، ومضى في طريق آخر وهو يشتم الدنيا وما فيها، وظل الرجل يمشي مترنحا أيضا، بينما وقعت العصفورة على الأرض، قرب الشجرة، وبدأت تصيح بهستيريا وجنون:

ـــ أنا شام.. أنا لست داعرة.. أنا.. شام.

اقترب منها " اللولو" بهمة ورفق، أسند ظهرها إلى جذع الشجرة، فاحت منها رائحة الخمر والتبغ والعطر الأنثوي، حاولت أن تبعده عنها، هتفت بصوت خفيض:

ــ أتركني في حالي، أنا لا أعرفك، وأنت لا تعرفني، أتركني.}(1).

من هنا لم تجد الذات الساردة ضيرا في تبنيّ التفشي التعبيري الطقوسي، ومسايرة دهاليزه، سواء من حيث بث ثقافة الانتصار لقيمة مثلى ومركزية اسمها الحب، أو الاحتماء بأقنعة الانتماء إلى هوية المشترك الإنساني، على الرغم من إكراهات واقع رفض هذا المعطى من قبل الحزب المعارض في بلد اللجوء، خاصة في اتخاذ مثل هذا الحزب من الوردة شعارا له، ونحن نعلم دال هذا وما يعكسه من معاني لصيقة بالتيمة الأساس التي ستتمحور عليها السردية في سياقها العام، لاحقا، أي تيمة الحب، كعلاج للعديد من الأوبئة المجتمعية والسياسية والنفسية وحتى الاقتصادية.

لذا فقصة الحب الذي سيجمع بطل الرواية الرئيسي " اللولو" بالصبية السورية" شام" ليست من قبيل العبث أو الاعتباطبة والمجانية، في صيرورة الحكي هنا، بل استحضار ذلك مقصود ويسجل حضوره بكل وعي ودراية فنية وتعبيرية تلهب الأحداث، كما تمنح المنجز توازيا فيما يرتبط ببعدي عرفانية وجمالية هذا العمل السردي القيم.

إن شخصيات الرواية هنا، سواء أكانت تتمتع داخل حدود نظير هذه السردية، بالأدوار الطلائعية البطولية، أوالثانوية الضرورية المكمّلة، إنما تمّ توجيهها لتخدم معطى الحب الذي يصون للأنثى عفتها ورمزيتها ونموذجيتها ومثاليتها، فضلا عن أغراض التوعية بضرورة التعايش وقبول الآخر تحت مظلة الدين الواحد، بدرجة أولى، الإسلام بحنيفيته واعتداله، كما بصدد بلد من قيمة تركيا، ومدينة عالمية كإسطنبول، هنا، وبما يجمع ما بين الانتساب للعالم الإسلامي والحضارة الغربية على حد سواء.

لذلك جاء نضال" اللولو" بهذا الدافع العاطفي والوجودي الكبير، بما قد يحدث ثورة في وطن اللجوء، مفادها أن الكائن بحضوره الديني المتعايش والمتسامح والمنفتح والأكثر قابلية لاستيعاب مظاهر الاختلاف والتعدد، لا الغلو العقدي والتقوقع والعصبية والعنصرية والاضطهاد السياسي، أو قد يرج الراكد، في أقل تقدير.

ويقول كذلك:

{نظر اللولو بأسى إلى جسد القط المسكين، واتجه نحوه بهدوء، وحين وقف أمامه، جلس القرفصاء كي يحمله، الغريب في الأمر أنه عندما نظر إلى وجه، كانت المفاجأة غريبة إلى جد الجنون، إن وجه القط الحنطي هو وجهه نفسه.' القط هو اللولو نفسه، يا للعجب.'

ماذا حدث؟.' وبسرعة توجه إلى المرآة، وحين نظر فيها، استغرب.' تلمس جسده، رأى رجلا في وجه قط.' فصاح من الخوف، صاح.. صاح.. صاح، وحين فتح عينيه، استيقظ مذهولا من هذا الكابوس، حيث كانت الشمس، قد أشرقت في يوم غائم.

في تلك اللحظة من أيام اللجوء، لم تكن الحرب في بلده قد توقفت، فلم يستطع أن يتخلّى عن نفسه، وأن يكون مجرد شبه قط من قطط إسطنبول الساحرة، نظر إلى السقف المتشقق وصرخ بألم:

ــ أنا لست قطا.'

تلقفت الجدران الصماء صدى كلماته النازفة، ولكن يا للأسف لم يسمعه أحد غيرها، حتى النافذة المكسورة ابت أن تقذف هذه الأصوات إلى الخارج والعالم والكون كله، ذلك لأنها كانت مغطاة أيضا ببطانية كاتمة للصوت بإحكام شديد.}(2).

لذا تلكم الحاجة، أو العوز الإبداعي للبوس الغرائبي المسعف بتقنيات التحكم بالشخوص وتطويع الأحداث والمناخ السردي، ليكيفه مع إملاءات مثل هذه الظاهرة، أو الاستشكال الهوياتي الكبير.

آلية أقرب إلى المسخ منها إلى شكل تعبيري آخر.

فصيلة القطط أو ما ينجم عن راهنيتها من إسقاطات قد تعلل الحضور الغير المرغوب فيه لنخبة من اللاجئين، الأكثر وعيا بقصصهم، بل الأصدق انتماء وحنينا إلى المنبت والجذر الذي حرّقته الحرب المجنونة الجائرة.

برزخية أو إكلينيكية نفسانية تبارك أصوات اللجوء هذه، والتي تود أن تضيف إلى أرض اللجوء، على زخم القواسم المشتركة ما بين الطرفين، لا أن تنقص منها أو تتبوأ من حيّزها، كراسي العطالة والشغب والاتكالية والفوضوية والهدم.

فالمهاجر هنا ليس فيروسا مرعبا، بقدر ما هو إنسان عاقل وكامل ومضطر، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ذو شخصية متحضرة وأكثر قابلية للتعايش والتسامح، بحيث أن كل ما أهّلها لذلك، هو الانرسام العفوي لملامح قصة حب حقيقة وصادقة، قادرة على تصحيح أخطاء التاريخ، وقلب المعادلات صوب ما يتيح انخراطا واعيا ومسؤولا في فصول التصالحات على موسوعيتها وفي صميم شموليتها.

تصالح مع الذات، بعيش صفحات الحب الصادق والعادلة بحذافيرها، وبعد ذلك، التصالح مع الآخر، وفق قواعد التمرد على الصورة السلبية والناقصة لأسراب اللاجئين، في عقل ووعي هذا الآخر العنصري الحاقد، أي هذا الذي يمثل المعارضة في حزب سياسي غير عابئ بما هو إنساني، ما تنفك تنخر رهاناته النفعيات الضيقة والأنانيات وخطاب العنصرية والكراهية.

بذلك نلفي المبدع زياد كمال حمّامي رصّع سرديته، مختزلا أنساقها في أصوات اللجوء، مانحا إيها القوة والرمزية، اتكالا على البعد القيمي للعلاقة العاطفية الصافية والنقية، رفضا لسائر أنماط الاتجار بإنسانية الكائن، بصرف النظر عن عرقه أو لغته أو معتقده أو ثقافته.

إنها البطولة النموذجية لأشباه" اللولو" في شرف المحاولة.. محاولة الجهر بصوته كلاجئ، تطلّعا لكونية حاضنة، ترتب ما يمكن ترتيبه، وتجوّد اللملمة، قبل فوات الأوان.

***

أحمد الشيخاوي - شاعر وناقد من المغرب

.......................

هامش:

(1) مقتطف من فصل الرواية الأول، صفحة7/8.

(2) مقتطف من الفصل25من الرواية، صفحة160/161.

انظر رواية" قطط إسطنبول" لزياد حمامي، طبعة2023، منشورات نون4 للنشر والطباعة والتوزيع، حلب ــ سورية.

(أيها المحتمي بالأرق) لشلال عنوز

مما يميّز الموضوع في القصيدة الكبيرة، أنها تقترحه انطلاقاً منها، وتتخيّله مثولاً بين يدي أساليبها، ولهذا يتعذّر الفصل بين الشكل، بوصفه كيفية إبداع المعنى الشعري وبين المضمون كونه باعثاً على القول، أو مؤثراً في إبداعه، أو ما يقوله من معنى له حضور ما قبل الشكل، فهو ملحوظ، من لدن المتلقين قبل القصيدة. وقد قام الشعر العربي القديم والشعر التقليدي الذي جرى على نهجه إلى اليوم، على الموضوع قبل الشكل، وعلى الغرض قبل الفن، وعلى الفكرة الموضوعية قبل كيفية قولها، حتى لكأنّ الشاعر يترجم الموضوع إلى كلام شعري مستجيباً لمتطلبات الشكل، أو ينقل معاني الغرض المقصود قبل الكتابة إلى صياغات اجتهد ناظمها في تطبيق مكونات الإنتاج الشعري لأجل قولها في صورةٍ من قالب القصيدة. ومن ثمة فقد عمل العلماء في علوم كثيرة وحقول معرفية أكثر على ترجمة متبنياتهم وأفكارهم ورؤاهم وطروحاتهم إلى ممكنات الخلق الشعري في صورتها العقلية الصناعية الظاهرة، وظهرت على إثر ذلك منظومات في النحو والصرف والعروض والفقه والجغرافيا وعلوم كثيرة مما عرف تحت مصطلح (الشعر التعليمي).

ويظن أكثر المتلقين وكثير من الشعراء، أن مجرد الانتقال من اللغة المباشرة في الفكرة الجاهزة التي كانت في الشعر التعليمي أو المؤدلج إلى اللغة المجازية أو ذات الثراء التخيلي، ينتقل الكلام - إثر ذلك كله - إلى الشعر العالي، وهو تصوّر صحيح جزئياً؛ من جهة أن القول يصبح شعراً، ولكنه شعر تقليدي، لأن الارتفاع بعد ذلك يستدعي اكتناز رؤية ما، وإقامة النص على فلسفة خلقٍ أسلوبي من جهة المنشئ، وخلقٍ رؤيوي من جهة التخيّل، ونهج في إبداع معجم جامع لكلام القصيدة يوظف كلّ ما يدخل في التدوين الخطي عند الكتابة، أو في الأداء الإلقائي عند الإنشاد، لأن معجم القصيدة، هو الأشياء كلها، فالشعراء الاستثنائيون يجعلون موجودات العالم وأشياءه ومعانيها جزء معجمهم الجامع الذي يصدرون عنه، والذين هم فيه يضيفون إلى المألوف جديداً، وإلى درجة الصفر في الكتابة أرقاماً، وإلى الممكن من الأشياء محالاً متخيلاً واسعاً، ذلك أن المعجم يصل الشعر بالحياة، لا من جهة التوظيف، إنما القدرة على الخلق، ولما اعتاد الناس على الكلام اليومي المألوف فقد عدّوا الكلام الشعري العالي غامضاً، لأنه خلق شعري جديد، فهم يتذوقونه انطلاقاً من التناول اليومي القريب من درجة الصفر، وكأنهم يبحثون عمَّن يتوافقون معه، في مألوف ألفاظه، وشائع معانيه، وراسخ تقاليده، وهو بحث لا يستجيب له الشعر العالي، ولا الشاعر الاستثنائي.

وفي قصيدة الشطرين، لا يتحقق لشاعرٍ الإدهاش بمعزل عن فائض مجاز، وثري انزياح، ورؤية فردية، ونهج ذي حضور يكون الشاعر فيه (أمةً وحده) بين يدي تجربته التي يقدمها لعالم التلقي، وأحسب أن هذا السقف من (الأماني النقدية) مرتفع على جدران الشعر الشائع المألوف في المشهد الراهن، لذا فهو سقف محلق في الهواء على مبعدة أمانٍ من التجارب الشعرية التي تملأ الأوراق والمنابر والمهرجانات. حتى إذا بحث المتلقي النوعي الناقد عن الشعر الاستثنائي المدهش الذي يغذي اللغة بالماء، والوعي بالأسماء لم يجده إلّا نادراً، ولا سيما بعد (إعصار) قصيدة النثر التي غلب على الشعر الحر (التفعيلة) والشعر العمودي (الشطرين) غلبة المنظومات التعليمية على القصيدة في (ألفيات الشعر) التعليمي، لأن السقف التصق بالأرض فصارت مساحات العشب الأصفر الذابل، شبه اليابس، تلتحق ظنّاً بالمروج الخضراء، ولم تعد تقاليد الإبداع الخالص منظوراً إليها، بل صار مجرد القول المتخيّل القريب من الذاكرة اليومية محسوباً على (قصيدة النثر) المحسوبة على (قصيدة الشعر)، وصار قول الشعر بالرغبة لا بالإبداع، وبمجرد الرصف لا بالابتكار الذي يضئ الخيال، صار الشعر كتابة من يحسن الخطَّ، وموهبة من يتخيّل المرأة الجميلة ورداً، والرجل أسداً، والسراب ماءً. ويعرّفه بأنه (الموزون المقفى الدال على معنى أو الكلام المحتفل بالأخيلة أساليب تعبير، ومذاهب تخيّل أولية).

الشعر إحساس خالق باللغة، إحساس باللغة يتفوّق على إحساسك بنفسك معاني، وبجسدك حواسَّ، وبمشاعرك عواطف، وبرؤاك فائض أخيلة، الشعر إحساس هائل باللغة تكون أنت فيه نبياً، ذا نبوءات، ونبوّات، تكون فيه مجدداً ذات أبناء وأحفاد وقبائل وشعوباً تعارف بالإبداع لا الاتباع، وبمعزل عن أن يكون إحساسك باللغة إحساسك بمسلمات جسدك وبرغبات أناك، وأحلامك وطموحاتك، وأطفالك وحبيباتك، وعواطفك - بمعزل عن ذلك - لن تكتب إلّا شعراً منظوماً وإلّا شعراً تعليمياً مصنوعاً وإلّا كلاماً بارداً. وقد قال - قبل ألف وأربعمائة سنة - الخليل بن أحمد الفراهيدي؛ انطلاقاً من هذا: (الشعراء أمراء الكلام، يصرفونه أنى شاءوا، ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم، من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تصريف اللفظ وتعقيده... واستخراج ما كلّت الألسن عن وصفه ونعته، والأذهان عن فهمه وإيضاحه، فيقربون البعيد، ويبعدون القريب، ويحتج بهم، ولا يحتج عليهم، ويصورون الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل( (منهاج البلغاء/١٤٣)، وإنما هم أمراء الإحساس باللغة ويصرفونها فرط ذلك الإحساس، ولدقتهم فيه فيجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم، ولفرط إنسانيتهم فيه، فهم يطلقون المعنى حيناً، ويقيدونه حيناً، ولصفاء ذلك الطبع من الإحساس أيضاً فهم يصرفون اللفظ عند إبداع المعنى؛ لحاجة الإبداع لذلك، ويقيدونه لمقتضيات الإبداع لذلك. ويبعدون القريب متى رأوا في تبعيده دقة في الرؤية الشعرية ببصيرة الإحساس، ويعقّدون اللفظ بطفولة ذلك الإحساس حتى ينضج ويتحرر عند ذلك، ويؤول عنهم ما تكل عنه الألسن، ويصدر عنهم ما تكل عن وصفه الأذهان، لأن الإحساس به من لدنهم يؤدي إلى الفهم والإيضاح، فلا شعر ولا شاعر إلّا هواء الإحساس باللغة.

ولا يكون الشاعر شاعراً حقيقياً محترفاً، يعلو ولا يعلى عليه، إلّا بذلك الإحساس الهائل باللغة التي تكون فيه القصيدة كلامه الشخصي الشعري. والشعراء المدارس إنما كانوا مدارس بإحساسهم الذي يخلق اللغة، ويرتفع بها من درجة الصفر التي تنزل إليها في الكلام العلمي الخالص في الرياضيات والقانون والشريعة وتلك العلوم التي تستدعي أن نستخدمها ملتزمين (بدرجة الصفر) منها عند الكتابة، وإنما غادرَ بعض الشعراء العرب المعاصرين الشعر العربي في صورتيه: الشطرية في العمود والسطرية في الحر إلى (قصيدة النثر)، لأنّ إحساسهم بالعالم والمعنى وأنفسهم لم ينْبع من إحساسهم باللغة نفسها، بوسيلة تعبيرهم، إنما نبع من انتباههم إلى الفكرة، وإحساسهم بالمعنى لهذا تقدمت الفكرة على الرؤيا الشعرية، والعقل الفلسفي الحر على الخيال الرؤيوي الخالق، صاروا يجتهدون إحساساً منهم بالأفكار لا الألفاظ حتى صارت اللغة في المرتبة الثانية، صارت وسيلة مصطنعة باردة، ولم تعد تخلق الفكرة التي بها يعيد خلق العالم لغوياً؛ لأنه تأخر عن اللغة وتقدّم في الفكرة.

وإنما صار النقاد العرب والشعراء كذلك إلى القول بعدِّ قصيدة النثر شكلاً شعرياً ثالثاً مضافاً لـ (شكل الشطرين) و(شكل التفعيلة) (وشكل اللاوزن)، لأنهم مكثوا بعيداً عن الإحساس باللغة، بما فقدوا الإحساس بخصوصيتها بوصفها لغة إيقاعية، كمية لا نبرية، وذات نظام صرفي نحوي دلالي هائل، وإنّ الإحساس بوسيلة التعبير يحيي التعبير نفسه، ويتصل بالخلود غير بعيد منه، لأن الحاس شاعر بما يحسّ، حتى إذا انتقل إلى القول جاء الشعور بالمعنى صادراً عن الإحساس بوسيلة التعبير عنه، وعلى إثر ذلك يأتي المعطى الشعري مؤثراً صافياً ذا حضور وتأثير، وذا إنتاجية عالية. وبمعزل عن الشعور بالشيء شعوراً متصلاً بالإحساس بوسيلة التعبير عنه فإن الكلام الحامل لكل ذلك لا يكون حيوياً، ولا يجيء مؤثراً، إنما يأتي  مفتعلا مصنوعا. وإن الشعراء الأوائل ذوي الفطرة اللغوية الصافية كان إحساسهم باللغة هائلاً، وكذلك الأجيال الأخرى من المتنبي حتى محمود درويش وصولاً إلى محمد عبد الباري وجاسم الصحيح وأجود مجبل وقليل من الآخرين، ومن ذلك فإنني أعرّف الشعر وأتعرّف إليه على أنه: إحساس بكر متجدد باللغة تصير على إثره كلاماً شعرياً منسوباً لأسلوب قائله، وشعور بالأشياء والمعاني؛ الموجودة والممكنة والمحالة شعوراً يظهر للمتلقين بين يدي ذلك الإحساس البكر. فإذا ضعف الإحساس ضعف الشعور وجاء الشعر مصنوعاً بارداً، لا روح فيه، ولا إدهاش، وإذا دَقَّ الإحساس وشَفَّ اتقد الشعور وتجلّى، وتبدّى الشعرُ إبداعاً هائلاً، حيوياً، لافتاً؛ يؤثّر في الآخرين، ويتأثّر به آخرون، وقد يصل شاعره إلى أن يكون مدرسة، أو يكون ظاهرة. وهو ما يؤدي إلى أن يتعدد الشاعر الواحد في قصائد كثيرة، وعلى إثر ذلك يتطوّر ويجدد في تجربته، ولا يسكن إلى صورة واحدة. وهذا النهج في الكتابة، يجدد في مناهج النقد أيضاً، لأنه يمكث غير بعيد من الحاجة إلى جديد منهجي لقراءة الجديد الشعري. وحين نلتفت اليوم إلى أشكال كتابة القصيدة العربية المعاصرة نجدها متعددة كثيراً، متجددة قليلاً. على أنها لا تغادر الشكلين الرئيسين؛ أعني: (الشطرين والتفعيلة)، لأن قصيدة النثر جنس أدبي مستقل، وليست شكلاً شعرياً وإن اتصفت بالشعرية.

وفي الأداء بالعمود ذي الشطرين أشكال خلق للمعنى الشعري كثيرة جداً، كما في الأداء بالتفعيلة في الشعر الحر أشكال خلق للمعنى الشعري كثيرة جداً. ذلك أن الشكل في صورته الجزئية الأسلوبية كيفية في الخلق الشعري، كيفية في تفعيل كيميائه الإبداعية، وهي نهج يتباين فيه الشعراء كثيراً، (فقصيدة القناع) شكل قد يكون في الشطرين، وقد يكون في التفعيلة، وكذلك القصيدة (السير ذاتية)، وكذلك (قصيدة العائلة)، وهكذا في (القصيدة القصصية)، حتى تجد التجارب تنفتح على أشكال أخرى كثيرة جداً، تتعدد بحسب متغيرات الحياة، وتتطور بحسب ثراء التجارب، وتتجدد بحسب متغيرات الأسلوب، ونزعة التجديد في الزمكان الثقافي.

وفي قصيدة العمود عني شعراء الألفية الثالثة في الربع الأول من قرنها الأول باجتراح أشكال جديدة لافتة، وقفت عندها في دراسات خاصة منها قصيدة القناع عند محمد عبد الباري في (حدوس في استشراف الحجازي المقدس/ دار تموز دمشق، ط١، ٢٠٢١)، وقصيدة النبوءة في(قصيدة النبوءة/دار تموز، دمشق، ط ١، ٢٠٢٠م)، وقصيدة العائلة في (قصيدة العائلة/ مفهومها، مكوناتها، أنواعها)، وهي من منشورات اتحاد الكتاب والأدباء العراقيين، ط١، ٢٠٢٢م).

وقد وقفت في سلسلة (نقد الشعر الآن) في إصداراتها العشرين من سنة (٢٠٢١م) إلى سنة (٢٠٢٣م) - وهي ما زالت مستمرة - على أشكال هائلة لكتابة القصيدة العربية الحديثة في شكلي أدائها الرئيسين.

وهنا - بين يدي هذه المجموعة الشعرية للصديق الشاعر: شلال عنوز - أقف على شكل تقليدي في كتابة قصيدة الشطرين ينتمي لاتجاه (قصيدة الأداء الموضوعي) الذي هو اتجاه في التعامل مع الشكل، ومن ثمة فهو شكل في قصيدة الشطرين يقوم على: أن يلتفت الشاعر إلى موضوع ما، يعيشه، مباشرة أو تخيلاً، إلتفاتاً يقصد الإحاطة به من خلال ممكنات الخلق الشعري التي يستطيعها، أو متبنيات فن الشعر التي يقدر عليها، فهو ينجز المعنى شعرياً بحسب رؤيته المتصلة برؤى خلت وتجارب كانت، فهو يستعيدها معبراً عن نفسه، ويترجمها كاشفاً عن رأيه ورؤاه، يقدم المألوف بممكنات المجاز الشعري التي يستطيعها، ويجتهد في الانزياح مستعيداً ما كان من انزياحات الشعراء المدارس أو الشعراء الظواهر، فلا يخلو من الصدور عنهم والانتماء لكثير من مؤثراتهم وأساليبهم. يجد كثيراً في تقديم ما يعيشه تقدمة لغوية بيانية فنية، في معطيات إيقاعية مستقرة، وتصويرية مألوفة، ودلالية ذات شيوع.

في هذه المجموعة التي عنوانها: (أيها المحتمي بالأرق) بدءاً من عتبتي: العنوان والإهداء، ثم استمراراً في القصائد والنصوص الستين التي تضمنتها المجموعة، وقد أقيمت على ثنائية رئيسة تصدر عنها عتباتها، وبقية مكوناتها، وهي: (الوصول - الإبعاد)، وفي الوصول نزعة للمكوث فيما ينفع الناس، ويخضرَّ في الأرض، وفي الإبعاد زبد هائل يحمل سفينة الوصول ليلقي بها في متناول غيابٍ ما. وفي كلام القصائد تصوير لذلك الوصول يتخذ أساليب فيها البياني التقليدي والفني الحديث من ترميز وأسطرة وتوظيف استعاري لممكنات راهن ما، يرسم الخيال المعاني الشعرية بالأساليب البيانية والفنية بطرائق مألوفة شائعة، وعلى وفق تقاليد ألفتها القصيد العربية، وشاعت في خطابها. غير أن هذه الثنائية: (الوصول - الإبعاد) أضمرت (الوصول) نزعةً يعيشها الشاعر، يقصدها بكل حضورها، أما (الإبعاد) فمفروض من الآخر السلبي أو الآخر العدو، الآخر: الزبد، ومن ثمة فهو (إبعاد)، وليس (بعاداً) هو مصنوع مفتعل، وليس فطرةً في الحياة، هو غريب عليها، وليس أليفاً، وهو ما جعل الآخر السلبي هو ما يمثّل الفاعل في (الإبعاد)، والآخر الإيجابي هو عالم الوصول الذي يسكن إليه الشاعر.

ويمكن الكشف عن متبنيات هذه الثنائية في المجموعة كلها، على النحو الذي أوجزه فيما يأتي:

- في عتبة العنوان (أيها المحتمي بالأرق) قاصد وصول هو (المحتمي) المنادى فرط بعادهِ بـ (أيها) فهو قاصد وصول، وليس قريباً منه بدلالة النداء (أيَّها)، وهناك (إبعاد) هو (شبه الجملة: بالأرق) هو يقصد الوصول، ولكنه احتمى بالإبعاد، فالأرق دال على ذلك موحٍ به، فالطمأنينة والسكينة مضمرتان في جملة النداء والإبعاد هو الظاهر المكشوف في (الأرق) بما يجعل عتبة العنوان ترسم الشاعر وهو يتوق للوصول إلى الطمأنينة، ولكنه فرط إبعاده عنها (يحتمي بالأرق)، فهو عالم محتلٌّ بالغياب، ماكث في تمنّي ما يحب، تحت غلبة ما يكره. ولهذا يضمر الأرق سبيلاً لفائض الكلام الشعري الذي دعاه إلى عدّ هذه التجربة (ديوان شعر) كما يحددها، وهي ليست بديوان شعر، إنما هي مجموعة شعرية، لأنها لم تنبنِ على تجربة ذات نظام متكامل، إنما هي مجموعة قصائد تتعدد حتى في أبعاد تجاربها أحياناً، ومن ثمة فهي مجموعة شعرية، وليست ديواناً، وأجد التصنيف الشكلي للتجربة يضعها تحت مصطلح (مجموعة)،بسبب هذا، و بسبب من غلبة هذه الثنائية التي تستدعي فائض الكلام في المصطلحات كما في المجازات والانزياحات استدعاءً يعوّض عن انحسار الوصول، وغلبة الإبعاد. وهو نهج يقصده الكلام الشعري في هذه التجربة بعناية.

- في عتبة الإهداء جاء: (إلى الوطن الذي يستنزفه الضجيج، وهو يتلمس الحلم)، حيث يتماهى الكلام - هنا - بما أوحت به عتبة العنوان، لأن (ما يستنزفه الضجيج) إبعاد، والذي (يتلمس الحلم) ينزع إلى الوصول؛ وقد انتقل الشاعر من المعنوي في الأرق عند عتبة العنوان، إلى الحسي: سمعاً عند الضجيج، واللمسي عند تلمس الحلم، في لغة من بناءٍ استعاري تشخصن الصوت، تؤنسن الحلم. والشاعر في (العنوان) كما في (الإهداء) يصف الأسى حيث (الاحتماء بالأرق) وحيث (الذي يستنزفه الضجيج)، ولكنه وصف لا يخلص إلى الحلِّ، لا يحيل المتلقي إلى الوصول الذي يتوق إليه، بقي يرثي الحال التي هو فيها بين يدي (الإبعاد)؛ وبلغة البيان فإن الشاعر فيهما معاً يكني عن الإبعاد، مرةً عبر الاحتماء بالأرق، وأخرى عبر تحمل الضجيج الذي يستنزفه، وعبر الحلم الذي ينزع إليه، في تلمس أخيلته، لا في الإحاطة واقعاً، فهو بين يدي تجربة واحدة، يكمل بعضها بعضاً.

- في عنوانات القصائد غير القصيرة إيحاء بالثنائية التي أوضحتها وإنما أقصد (غير القصيرة)، لأن الصلة بين العنوان والنص تنتمي للتجربة الكلية انتماءً عضوياً؛ هكذا أفترض، وذلك لا يتحقق بالقوة الدلالية نفسها في النصوص القصيرة غالباً. وهنا أذكر عنوانات القصائد الطوال وهي: (هي النجفُ، أنشودة ثورة التغيير، دع السرابا، ألق السماء، عفواً عراق المجد، أيها المحتمي بالأرق، غناء في المحنة)، وعند قراءة هذه القصائد التي  تلحظ  عنواناتها وهي تحتفي  بمتبنياتها المباشرة احتفاء الخطاب الآني بالمعنى،  في معجم يجمع بين الذاتية الحزينة المنكسرة عاطفيا والاخرى الحماسية الخطابية، وهو نهج يماهي فيه الشاعر بين المعجم وثنائية: الإبعاد – الوصول، وهو ما يلحظه المتلقي في: تركيب الجملة  وفي بناء الصورة أيضا:

- في قصيدة (هي النجف) يتأمّل النجف على النحو الحقيقي المباشر على أنها نهج في الوصول، وطريق فيه، لكنه يلتفت بعد ذلك إلى ما يؤدي إلى (إبعادها) عن حضورها هذا، فكأن الجملة الاسمية (هي النجف) وصول دائم، أما ما يلمح إليه الشاعر في مجازات القصيدة فهو (إبعادها) عن أن تكون كذلك، وبحسب ما خلص إليه فيها حيث قال: (1)

إني حزين ومدمى في محادثتي

بالسارقين، ومَنْ، من نهرها اغترفوا

بالخائنين دم الأحرار مذ قدموا

والنافثين سموم الحقد مذ وقفوا

يداهنون على أحلامنا عنتا

ويرقصون على أوجاع من رعفوا

تصدر القصيدة بدءاً من إيحاءات (عتبة العنوان) عن هذه الثنائية: (الوصول - الإبعاد)، فأخذ الأبيات الخمسة الختامية، لأنه مسكون بمعاني الوصول، ناءٍ عن دلائل الإبعاد فهي مؤقتة، وجاءت في لغة ذات بثٍّ بيانيِّ، مألوف متوقّع، لا تثير فيه اللغة أخيلة مستجدة، ولا ترتفع إلى الإضافة، ولكنها تسكن إلى (الوصول) سكناً شعرياً بيانياً. أما العنوان الثاني (أنشودة ثورة التغيير) فقد جعل المبتدأ (أنشودة ثورة التغيير) بكل هذا التعريف الإضافي المضاعف صوتاً في الوصول، أما القصيدة فقد أقيمت على وصف معاني (الوصول) بوصفها خبراً لعتبة العنوان التي جاءت مبتدأ، ليخلص كما في القصيدة الأولى في الأبيات الختامية إلى (الإبعاد) على أنه نهج تغييب مؤقت في: (2 )

هم راحلون وأنت وحدك شامخ

فاصدحْ فديتك، سيَّدَ البلدانِ

هيّا تمرَّدْ، لا تَهبْ، لرصاصهم

واخلعْ ثياب البؤس والخذلان

بلغة ذات خطاب مباشر، وأساليب طلب بياني تقدّم المعنى موضوعياً أكثر منها شعرياً، وهو نهج في قصيدة (الأداء الموضوعي) لم تعد تحفل به القصيدة الحديثة في شكلها العمودي الجديد، ولاسيما على مستوى إبداع المعنى الشعري.

أما العنوان الثالث (دَعِ السرابا) فقد رسم بدلالة الرفض معنى الوصول، وبدلالة لفظ السراب معنى (الإبعاد)، ثم جاءت القصيدة ليكون صوت الشاعر فيها معنياً بالوصول منتمياً إليه، ولتكون أساليب: النهي والنفي والأمر التي هيمنت على أبيات القصيدة معبرةً عن معاني الإبعاد، حيث تكررت ست عشرة مرّة على نحو مباشر أو غير مباشر في خلال أساليب التمني والشرط والترجي. فهناك تقابل بين صوتي: الشاعر وصوت الواقع الذي تضمره الأساليب المباشرة لبث المعاني الموضوعية على نحو مباشر. فالشاعر نزعة وصول، أمنيات وصول، ولكن الواقع الذي يظهر هو أسيره: صوت إبعاد، وتتبدّى الخطابية والمباشرة في القصيدة دافعاً ذاتياً مضمراً لِأن يرد الصوتان في كلام القصيدة موارد خطابية مقالية موضوعية مباشرة، فقد استهلها هكذا: (3 )

تمهَّلْ... واستفقْ ودعِ السرابا

فإن العمر قد بلغ النصابا

ولا تطربْ لأمنية تصابت

فهذا الدهر من أزلٍ تصابى

ولا تحزن على ما فات طرّا

فقلبك أعصرٌ رحلَتْ يبابا

فالشاعر في القصيدة كلها يخاطب نفسه، منتمياً للوصول، ومأخوذاً بأسبابه في كثير من الخطاب المباشر الذي يستدعي فيه بعض روح (بائية أحمد شوقي الشهيرة) حيناً، ويتناص معها أحياناً أخرى؛ نفساً وإيقاعاً وتضميناً، فأما النفس فيمثله أن كل واحد من الشاعرين يخاطب نفسه، وأما الإيقاع ففي الأسلوب حيناً وفي الوزن والتقفية أحياناً أخرى، وأما التضمين فأوضحه في قوله: (4)

وليس المجد يؤخذ بالتمني

ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

الذي هو تضمين لقول شوقي الشهير: (5)

وما نيل المطالب بالتمني

ولكنْ تؤخذ الدنيا غلابا

وفي هذا النهج من التناص مع شوقي نزوع إبعادٍ أكثر منه إمكان وصول، لأن الشاعر استدعى الآخر المؤثر ليكون مسافة وصول للمعنى الشعري أسلوباً، وللمعنى الموضوعي رؤيةً وأفكاراً. وأما غلبة أساليب: الأمر والنهي والنفي فتسحب جهة الكلام للإيحاء بالامتناع الذي يسكن إليه الواقع، أو تسكن إليه الحياة المجتمعية التي يصدر عنها هنا، لأن المخاطب بهذه الأساليب ينزع إلى الوصول ولو على جهة الطلب، وهو مغلوب بأشكال الامتناع التي يقع بين ظهرانيها؛ إنساناً وشاعراً ومجتمعاً.

والعنوان الرابع (ألق السماء) مأخوذ بالوصول في تمني ذلك الألق، ومحتل بالامتناع عن أن يكون ذلك الألق عالم حضور في الحياة، ويمثل الدال الاستعاري: (ألق السماء) توق الوصول ولو بالخيال، أما مضمرات الخطاب في عتبة العنوان، ثم في القصيدة كلها فتتمثّل (الوطن) الذي هو ماكث (ظلام الأرض) و(ألق السماء) عالم وصول و(ظلام الأرض) عالم امتناع، ويلحظ المتلقي ذلك في أول القصيدة الذي يقول: (6 )

تغفو العصورُ... وتستفيقُ... تغادرُ

إلّا سناك فمنْذُ ألفٍ ساهرُ

إلّا سناك يبثَّ في هذا المدى

دفق الشعور فتشرئبُ منائرُ

إلّا سناك يزقُّ في رئة الدنى

ألق السماءِ فتستنيرُ حواضرُ

في القصيدة تقابل ثنائية: (الوطن - الزمن) بوصفها الكيفية التي تشكلت بها، ثنائية بنائية أخرى هي ما تشكّل نهج المجموعة كلها، أعني: (الوصول – الامتناع)، حيث جاء الزمان في القصيدة مسافة وصول مائية سابقة، أما الوطن في مكينه الذي يؤلف (ممكناته) فجاء امتناعاً حتى بلغ الامتناع أن قال مستوحياً ذلك (المكين) (7)

ذبحوا العراقَ، وشيعوه جنازةً

وتقاسموا ميراثه، وتنافروا

وتجري النصوص الستون التي تؤلف هذه المجموعة على هذا النهج الذي تتحكم بمعطياته التعبيرية هذه الثنائية (الوصول - الامتناع)، وإنما (أقدّم الوصول) على غيره، لأنه خلق مقصود، وإبداع دائم مراد، وهو النشأة الأولى، والدوام المتوقع، أما (غيره) فمؤقت إلى زوال. ثم أن الشاعر - هنا – يقدم الوصول (خريطة طريق)، ونهج حياة، وإنما يعنى بالامتناع، وتهيمن دواله على خطابه على نحو لافت، لأنه جعل نفسه في (موضع دفاع)، فهو جزء من وصول دائم، والآخر: الخصم أو الضد أو العدو شكل امتناع رئيس، وقد غلب عليه (هجاء ذلك الامتناع) في صوره الكثيرة، حتى ليجد المتلقي أن صور (الوصول) واضحة، متقاربة، ممكنة الرصد، أما صور (الامتناع) فكثيرة، لا لأنها كثيرة، ولكن لأنه مأخوذ بتجليتها وكشفها، بما يستدعي منه هذه المباشرة في الخطاب، وهذا الوضوح في الرسم هذه (السيرة الأدائية) في الارتجالية المنبرية، التي لم تعد تأخذ بها التجارب الشعرية المسكونة بالتجديد.

وبناء التجربة على الخيال اللغوي في أبعاده المجازية وانزياحاته البيانية والفنية فقط، بمعزل عن رؤية فلسفية أو رؤية معرفية تستدعي الإضافة وتنفعل بها، وتضمر أسلوباً منفعلاً بشيء من التفرّد الذي يلمسه (المتلقي العابر) قبل (المتلقي الفائق) لا يكون الشعر فاعلاً حقيقياً مؤثراً ذا ممكنات هائلة، سيظلّ في متناول العاطفة فقط، وبين يدي ظهراني الخيال فقط، وهذا في عصرنا اليوم، وعند تأمّل التجارب الشعرية الهائلة الفاعلة ذات المكوث الجمالي في الأرض، يصعب الإشارة إلى فاعلية فن شعري ما، أو تجربة، تقرؤها موجودة، ولا تعدّها مؤثرة. وهنا في قصيدة (أيها المحتمي بالأرق) التي استمدت منها المجموعة عنوانها خطاب شعري حافل بالعاطفة، يمتثل لحنوِّ البيان التصويري، ويوظف الانزياحات الشعرية في أشكال حضورها المألوفة في الشعرية العربية، ولكنه خطاب لا ينافس اللافت، ولا يتجاوز المؤثر النوعي، ويجري بين ضفتي هذا النهر الشعري المألوف الشائع، وهو - هنا – مأخوذ بثنائية (الوصول – الإبعاد) بدءاً من العنوان الذي أشرتُ إليه ثم جرياناً في مطلع القصيدة الذي يقول: (8)

طبولَّ مآذنُ هذا المدقْ

على أي كفٍّ ينامُ القلَقْ

وفي أي ركن تلوذ النفوس

فراراً إذا ما الملاذُ احتَرقْ

وفي أيِّ جنْبٍ أخبِّي المنى

يقوم  ويجثو، ولم ينطلقْ

حيث المشابهة بين (طبول ومآذن) تؤدي معنى (غيابة البيان) تقع في سجن الصمت والغياب، مع أن المآذن معنى في الوصول لكن الطبول بديلاً عنها معنى في الإبعاد، وقد جعل الصورة التشبيهية في الشطر الأوّل تبلغ انحسار الوصول عند جملة السؤال في: (على أي كفٍّ ينام القلق؟)، حتى استمر السؤال في البيتين الثاني والثالث اللذين يؤولان السؤال بصورة في الشطر الثاني تنزع منزعاً (درامياً) في تمثيل حال الإبعاد، بأسلوب تقريري مباشر في جملتي: (إذا ما الملاذ احتَرقْ) و(يقوم ويجثو، ولم ينطلق)، وهما صورتان مباشرتان في متناول الذاكرة اليومية، أقرّهما الخيال الشعري، ولم يجترحهما، ويجري كلام القصيدة كله على هذا النحو من الأسلوب والنهج من الأداء حتى غلبت صيغ الإيحاء بنزعة الوصول ثم انحسارها، بسبب من هيمنة أشكال الإبعاد، حتى لتبدو القصيدة كلها في (رثاء معاني الوصول)!!

وفي حال تعدد الأصوات في القصيدة الحوارية فإن أي صوتين رئيسين مهيمنين سيمثلان هذه الثنائية التي أشرت إليها أعني: (الوصول – الإبعاد)، لأنها البنية الدلالية الباعثة للمعنى الشعري التي صدر الشاعر عنها، بما يبدو، أنه يعيشها، من ذلك قصيدة: (قالوا... فقلنا) التي جاءت في صياغة خطابية مباشرة: (9)

قالوا: هجمنا، فقلنا: إننا القدَرُ

من أيِّما جئتم... سجيلنا مطَرُ

من أيما جئتم... ضجّتٍ بنادقنا

من أيما جئتم... لواحة سَقرُ

كلُّ الدروب حرامٌ: قال مدفعنا

لا تدخلوها... حرام: قالها الشجَرُ

وتجري القصيدة على هذا النهج الذي يظهر فيه صوتا: (الوصول) في خلال ضمير (الشاعر المتكلم) بلسان جماعي. وهناك صوت (الإبعاد) الذي يمثله الآخر الموصوف على أنه الخصم، وهنا لا يرثي (الوصول) إنما ينتصر له، ولا يهجو (الإبعاد) إنما يصف انحساره، لأن ضمير (الأنا الجمعي) يستدعي هذا النهج ويتطلبه معطى خطابياً؛ واضحاً مباشراً. حتى تؤول القصيدة في ختامها إلى صور غزلية، عني الشاعر بها انتصاراً لوصوله العاطفي أو الوجداني، وبضمير المتكلم المفرد.

وتذهب هذه الثنائية في مجرى الصور الشعرية مذاهب متعددة يجمعها إحساس الشاعر بالعالم والإنسان بخاصة، متخذاً من مخاطبة ذاته بُعْداً ينتمي إليه الصوت، وقد بدأ من العنوان مخاطباً نفسه في جملة طلبية مبنية على فعل الأمر: (كفْكفْ دموعك) ليكون المحيط السلبي الغالب هو ما يشكل حال (الإبعاد)، وليكون (الشاعر) في حضوره الرمزي هو ما يمثل (نزعة الوصول)، ويبدأ القصيدة هكذا: ( 10)

كفْكفْ دموعك أيها الحيرانَ

وانثرْ أساكَ فهذه ميسانُ

وامسك جراحك؛ مستباحاً مذعنا

وانْدُبْ، فقد أكل الخطى الميدانَ

فعلام تبكي، تستشيط بحسرة

فالعيش يتْمٌ ها هنا وهوانُ

بناء القصيدة بدءاً من العنوان الذي يتنفّسه كلامها في أول جملة من بيتها الأوّل بناءً يقارب فيه بين الوصول انكساراً، والذكرى على أنها عالم إبعاد، لأن إحساسه بالزمن - هنا – رثائي سلبي في معطياته التي كانت حيث: (أكلها الميدان من قبل، وصودر إنسانها، وانحسر صباحها عن وضوح عاقر...)، حتى ليقف المتلقي على الصور الشعرية مرسومة بأسلوبين رئيسين؛ بعضهما من بعض هما: (التشبيه والاستعارة) اللذان تقوم بنيتهما على التقابل الثنائي بين (المشبه والمشبه به) أو (المستعار والمستعار منه)، وقد رسماً في ثنائية (الوصول – الإبعاد) رسماً شعرياً.

الشاعر المحتمي بالأرق: شلال عنوز، مسكون بالواقع المباشر سكناً وجدانياً، ومنفعل بالتعبير عن ذلك انفعالاً خطابياً بيانياً يقدّم المعنى الشعري على ثنائية: الإحساس – العاطفة تقدمة يتفوق المجاز المألوف فيها على المجاز المتخيّل، والانزياحات المنتجة للمعنى الخطابي على تلك التي تبعث على التأمّل في عميق ترميز، وتقارب المعنى المتخيّل بالمباني اللغوية المكشوفة أسلوبياً بأن يقع مراد الخطاب بين يدي ظاهر اللفظ. وهو نهج شاع في القصيدة العربية من عصورها الأولى حتى عهودها الأخيرة من عصرنا الراهن بما استدعى أن يلتفت الشعراء إلى مذاهب أخرى، وأن ينهجوا سبلاً شعرية، ويجترحوا ممكنات أداء لم تكن مألوفة حتى وهم يوظفون الأساليب نفسها التي بالغ القدماء في توظيفها، لأنهم يعدون الطريق واحداً أحياناً، ولكن السائرين فيه متعددون.

وأحسب أن شلال عنوز يشتغل في منطقة أليفة مألوفة، وبخطاب متوقع ممكن يدهش العاطفة إحساساً، ولا يدهش مجسات الخلق الشعري بجديد لافت، لأن القصيدة عنده حاسة إنسانية وجدانية يتلمس بها الواقع ومعانيه، ويستدعي الخيال وممكناته التي تصل أسلوب الشاعر بخيال المتلقي، والقصد من المعنى بالفهم من القراءة، بما يقترب فيه من الطين كله في زراعة الشعر، ولا يمكث عند ضفة واحدة، ذلك أن الشاعر المأخوذ بالخطاب المألوف والخلق الشعري المتوقع شاعر جماهيري، وليس شاعر نوع شعري خالص.

وهنا سيقرأ المتلقي الكريم خطاباً شعرياً مباشراً، وتتبدّى له أساليب خلق المعاني الشعرية، وهي تأخذ بتلابيب القارئ إلى واضح المعنى، وظاهر الدلالة، لأنّ فاعلية الإحساس بالأشياء عنده تقصد الظاهر، ولا تذهب إلى الغموض، وتعني المباشرة، ولا تلتفت إلى (غيابة المجاز)، هو شاعر منتمٍ لساحل القصيدة، لأنه مأخوذ بالوصول، منتمٍ إليه؛ شاعراً وإنساناً.

***

الدكتور رحمن غركان

.....................

الهوامش

1 – أيها المحتمي بالأرق، (مجموعة شعرية)، شلال عنوز، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، بغداد، 2023 م،  ص 9.

2 – نفسه، ص 58.

3 – نفسه، ص 58.

4 – نفسه، ص 59.

5 – الشوقيات، أحمد شوقي، 1 / 211.

6 – أيها المحتمي بالارق، ص 62.

8 – نفسه، ص 88.

9 – نفسه، ص 93.

10 – نفسه، ص 99.

عندما ندخل مرحلة التقويل النصّي، فهذا يعني أنّ أمامنا بعض النصوص التي تعلن عن نفسها بشكلها التلقائي، ومن هنا نستطيع أن نقدّر حالة الخلق النصّي، المواجهة النصّية والعلاقات التي تشكّل إطاراً حركياً في القول الآني والقول المتقدّم. وفي هذه الحالة فسوف نكون مع الدلالات الحركية والتي تكون عادة من اختصاص الأفعال بجميع تموضعها؛ الماضوي والحاضر والتموضعي والفعل المتقدم، ويعتبر الأخير مقدّما من خلال وضعه المستقبلي كفعل، ومتقدّماً من ناحية وحدات المعاني الدالة عليه.

ننطلق من خلال المنطلق اللغوي، والبنية ووظيفتها، والكشف عن شيفرات النصّ والمعاني العليا التي يشترك بها النصّ، وهي الحالات والاتجاهات النصّية التي تظهر كعلاقات تكوينية من جهة، وعلاقات دلالية تحدث عادة في داخل النصّ من جهة أخرى، وكلّ اتجاه من اتجاهات النصّ يعني أنّ هناك مخاتلات تنبيهية تقودنا إلى الوجود النصّي، وهذه التنبيهات لا تظهر بشكل عفوي، بل من خلال الذات الحقيقية التي تخزّن الأشياء، وتعمل على إيجاد عالم غير مطروق والالتجاء له، ومن هنا نقول إنّ الفعل المتقدّم حالة إبداعية تنوب عن القول الذي تمّت ترجمته إلى فعل مكتوب.

نقترب من نصوص الشاعرة السورية وفاء مخلوف، وهي تقرّب الرمز إلى الرمز من خلال البنية الاستثمارية؛ فإنّ أية تجربة تتصل بمعانيها من خلال القول اللامكتوب، أي أنّ المقروء الشفوي قد سيطر قبيل الكتابة، وهي المحطة الأولى لدى الشاعرة عندما تكون في المنحى الدلالي قبل كلّ شيء، والمنحى النصّي؛ وهي تزوّدنا بعناوين ومطالع لغوية تؤدي إلى وحدة النصّ.

عصف ريح بالطور الأخير

جلبة تهزّ سارية العمر

ارتحال قارب الوجه البشوش

مدينة.. تئنّ تحت أزيز الموت

وشاعر يرسم قصيدته.. أنثى

تغرق بالهزيع الأوّل

لشطر الشعر

سكون.. شحوب

مأساة بلد تغفو

على وقع

أقدام أطفالها الحفاة

من قصيدة: بلا عنوان

تغطي البنية الرمزية وانسجامها النصّي المقاطع النصّية والتي تتآلف مع منظور القصيدة، مثلا: تعتبر البنية النصّية وليدة عدة سياقات، ومنها التأويل الرمزي، كبنية فعّالة في النصّ المكتوب، وفاعلية النصّ من فاعلية التعدّدية السياقية ومفاهيمها والتي يلجأ بعضها إلى الرمزية أو الفعل التخييلي، والذي يلتقي مع التراكيب ودلالاتها.

عصف ريح بالطور الأخير + جلبة تهزّ سارية العمر + ارتحال قارب الوجه البشوش + مدينة.. تئنّ تحت أزيز الموت + وشاعر يرسم قصيدته.. أنثى + تغرق بالهزيع الأوّل + لشطر الشعر + سكون.. شحوب + مأساة بلد تغفو + على وقع + أقدام أطفالها الحفاة

عندما نتكلم عن البنية الرمزية، نتكلم عن الصورة الشعرية أيضاً، وكذلك لغة الاختلاف واللتين ترافقان النصّ مع كلّ جملة اعتمدت فعل التخييل من جهة، وحركة المعاني من جهة أخرى، حيث أنّ الوقوف يكون أمام الرمزية ككائن حركيّ.

نتوجّه نحو قوّة المعنى والتأويل والإيحاء، وجلّ ما نلاحظه؛ التواصل القولي وامتداد الجمل الشعرية، بحيث أنّ الواحدة يكون مكملة للأخرى، ومن هنا يكون تعدّدية المعاني منسجمة مع منظور اللغة العام.

يرتبط النصّ كبنية منغلقة على معانيه، ومن خلال هذا المنظور نلاحظ أنّ الشاعرة وفاء مخلوف قد جعلت المقاربات مفتوحة، وهي تلك المقاربات السياقية والتي تقودنا إلى الكلمات المركّبة في كلّ سياق تواصلي؛ مثلا: عصف ريح بالطور الأخير = جلبة تهزّ سارية العمر... ارتحال قارب الوجه البشوش = مدينة.. تئنّ تحت أزيز الموت...

كلّ جملة شعريّة من هذه الجمل، تساوي لنا، اختلافا مشروطاً، وهو اختلاف المعنى من جهة واختلاف اللغة من جهة أخرى، فالذي نلاحظه أنّ المعاني ليست مستقرّة في زاوية النصّ، بل تخرج بأنساق تراتبية وعلاقات لغوية متعدّدة مع الخارج النصّي.

بقايا علم يرفرف

ممزق الأطراف

تئنّ ساريته

بصدأ الحديد

صدى نشيد الأرض

غال في زاوية الجدار

من قصيدة: بلا عنوان

هناك أسلوب تواصلي للمقاربة البنيوية؛ ومن خلال اللغة نلاحظ هذه الأبنية التي اعتمدتها الشاعرة وفاء مخلوف، وتعد هذه الأبنية مفاهيم وصيغاً تركيبية غير محدودة، أي أنّ اللامحدود يتدخّل في البناء النصّي وذلك من خلال المكون الدلالي Semantic component والمكون اللغوي Linguistic component.

بقايا علم يرفرف + ممزق الأطراف + تئنّ ساريته + بصدأ الحديد + صدى نشيد الأرض + غال في زاوية الجدار

هناك المقاربة التأمّلية، وهناك الاقتراب بلا أمل، والأولى تعتمد قوّة الدلالة اللغوية، بينما الثانية فتعتمد قوّة دلالة المعنى، أي أنّ المكون الدلالي يوزّع طاقة العودة ويحصد طاقة اليأس في الثانية، حيث أنّ دلالة النصّ، من دلالة اليومي والأحداث المتوالية في الكثير من الشؤون المحيطة بالشاعرة.

بقايا علم يرفرف ممزق الأطراف؛ ندمج الجملتين لكي توصلنا إلى دلالة تكميلية وهي الأنين (تئنّ ساريته) حيث شبّهت الشاعرة وفاء البيئة بالبحر، وهي والذين من حولها على ظهرها ينتظرون.

بعض بقايا أصوات فرح

يقتلها الدوي

الوطن إشارة مرور

صوب الجحيم

نعق غراب فوق دم

الشهيد

من قصيدة: بلا عنوان

تعتبر بعض الأحداث مضمرة الدراية، فيبحث عنها الشاعر ليظهرها، وبعضها عدم التفات الناس عليها، ومن خلال منظور الحدث الآني غير الظاهر، فإنّ بناء المشهدية يكون بين ظهور الحدث من عدمه، لذلك فالمشهد الظاهري هو الذي يحرّك الفعل الحركي ويخرجه من النقطة العمياء.

بعض بقايا أصوات فرح + يقتلها الدوي + الوطن إشارة مرور + صوب الجحيم + نعق غراب فوق دم + الشهيد

التجاذب والقلق؛ التقابل والتنافر، المعقول واللامعقول...إلخ، ومن خلال الرؤية المقطعية نعتبرها وسائل مولّدة لتنمية النصّ وديناميته في المنظور الكتابي؛ لذلك نلاحظ أن الشاعرة وفاء مخلوف، تميل إلى الدلالة الإشارية وهي تشير بقلق إلى الفرح مثلا، وتشير إلى الوطن من خلال التشبيه، وكذلك استقرار التشبيه من خلال المعنى (صوب الجحيم)، هذه الوسائل تقودنا إلى التنافر بين الواقع الظاهري، والواقع الأوّلي، أي أنّ وجه المقارنة قائم بين مرحلتين من الزمنية.

حركة النص من خلال المكون الدلالي Semantic component

نأخذ المساحة الصالحة للعنوان وما تقدّمه الأنساق التواصلية بين الواقع الدلالي في النصّ، والعلاقة الدلالية مع خارج النصّ، أي أنّ المنظورين ومن خلال الجذب الدلالي يقوداننا إلى تناقضات في الحدث اليومي من جهة، وإلى النظرة الثاقبة للأشياء من جهة أخرى، فعوامل المعالجة وعدمها تؤدّي إلى تأثيرات في الحسّية الداخلية، لذلك نلاحظ ظهور اليومي على العامة، ومن هنا يكون النقل الحيّ من خلال التوظيف الشعري، هو الدلالة التي نبحث عنها في المعتقد الكتابي.

أعلن قلقي على البلاد

وعلى الإنسان في بلادي

بلادي التي انزوت كأرملة

في سواد

لتجهض في عدّتها حملا

من زيف التاريخ

ومستنقع الحاضر

فأحمل أنا عبء ماض وحاضر

ينزف حقيقة لن تقال ...

من قصيدة: إعلان

عندما نقول حركة النصّ، إذن نتجاوز الجمود النصّي، والحركة هي دلالة غير مستقرة بوتيرة المعنى، بل تتعدّى إلى اللغة وإلى الأفعال الحركية والتي تلازم النصّ وأي نصّ يمرّ أمامنا؛ ولكن موضوعنا يختلف قليلا بخصوصية الحركة، فالفعل الحركي الدال، هو مركز الانطلاقة، والذي يعتبر الدالة النصّية في النصّ أو في الجمل الشعرية التي تتعاقب الواحدة مع الأخرى.

أعلن قلقي على البلاد + وعلى الإنسان في بلادي + بلادي التي انزوت كأرملة + في سواد + لتجهض في عدّتها حملا + من زيف التاريخ + ومستنقع الحاضر + فأحمل أنا عبء ماض وحاضر + ينزف حقيقة لن تقال ...

لقد أكّد الباحث المصري الدكتور أحمد مختار بأنّه (هناك تحويل للدلالة من المعنى الكلّي إلى المعنى الجزئي)، وهنا يتطلب اللعب بالألفاظ والمراوغة، لذلك نلاحظ من خلال الرؤية المقطعية أنّ الشاعرة تبنّت هذا التغيير من خلال مفردة القلق، ولهذه المفردة خاصّية نفسية كما يؤكد ابن سينا: إنّ ما يميز التحليل الدلالي عند ابن سينا هو وقوفه على البعد النفسي والذهني اللذين يصاحبان العملية الدلالية.

فقد وزّعت الشاعرة السورية وفاء مخلوف قلقها بين البلاد والإنسان، وهذا يعني أنّ القلق الداخلي لديها أخرجته في التكوين النصّي، وهو المكون الدلالي الراقد في النفس الداخلية.

لم تكتف الشاعرة بالقلق، بل ذهبت إلى حالة التشبيه من خلال الاستعارة، فقد شبّهت البلاد كأرملة، وهو ليس بوصف، بقدر ما أخذت تميل إلى تعدّدية المسمّيات من خلال الذات الحقيقية، واعتبرت كلّ مسمّى حقيقة تواصلية للحدث اليومي.

لذا لن أقلق على الحقيقة

أو هو ليس بقلق

هو حزن من نوع مفجع

أو خوف من نوع مربك

لذا أعلن فجيعتي على بلادي

من قصيدة: إعلان

من المدلول الضيّق إلى المدلول الواسع يخرج النصّ، وتكون السببية هي النافذة في المنظور الكتابي، لذلك عندما تتبدّل المعاني، تتبدّل الدلالة، أي أنّ التغييرات مستمرّة بين نصّ ونصّ. ومن هنا يكون تعدّد المقاربات بين المعنى النصّي الداخلي، والمعاني الخارجية، أي أنّ الاستعارة تكون قد أخذت مساحة في النصّ، وخصوصاً تلك الاستعارة التصوّرية التي لا يستغني عنها شاعر.

لذا لن أقلق على الحقيقة + أو هو ليس بقلق + هو حزن من نوع مفجع + أو خوف من نوع مربك + لذا أعلن فجيعتي على بلادي

من خلال القلق العائم في النصّ، نلاحظ أنّ الخيبات والنكسات هي المقصودة في النصّ المكتوب، ومن هنا تحضر الدلالة القلقة أيضاً. فهناك علاقة مباشرة بين النصّ الشعري (النصّ الحتمي Imperative text)، وبين الحسّية الداخلية؛ ونلاحظ كذلك ما ذكره ابن سينا، حيث يميل إلى الوجود الذهني للعلامات اللغوية وارتسامها في النفس والخيال، عندما يكون راصداً للعملية الدلالية.

وعندما تؤكّد الشاعرة على القلق بخصوص الحقيقة، فإنّها تنتقل إلى أيقونة ثانية، أي أنّ القلق وليده الحزن، والحزن الصامت أقوى أنواع الحزن، فالموت هو المنتظر، إذن نستطيع أن نرسم عنونة أخرى للنصّ الدال للشاعرة السورية وفاء مخلوف وهو: القلق، والحزن، والموت في المنظور النصّي.

ويقودنا النصّ إلى الحسّ المأساوي، وهو الشعر المأساوي الذي يجعلنا معه في مساحة من المعرفة، تلك الدراية التي يعاني منها الآخر أيضاً، أي أنّ التحوّلات والولادات التي اعتمدتها الشاعرة، كانت على صيغة خطوط متوالية، فالقلق + الحزن + الفجيعة + الخوف = فجيعة البلاد. وفجيعة البلاد من فجيعة الفرد الذي يعاني بشكل يومي.

***

كتابة: علاء حمد – العراق

............................

بلا عنوان

عصف ريح بالطور الأخير

جلبة تهزّ سارية العمر

ارتحال قارب الوجه البشوش

مدينة.. تئنّ تحت أزيز الموت

وشاعر يرسم قصيدته.. أنثى

تغرق بالهزيع الأوّل

لشطر الشعر

سكون.. شحوب

مأساة بلد تغفو

على وقع

أقدام أطفالها الحفاة

*

بقايا علم يرفرف

ممزق الأطراف

تئن ساريته

بصدأ الحديد

صدى نشيد الأرض

غال في زاوية الجدار

بعض بقايا أصوات فرح

يقتلها الدوي

الوطن إشارة مرور

صوب الجحيم

نعق غراب فوق دم

الشهيد

**

إعلان

أعلن قلقي على البلاد

وعلى الإنسان في بلادي

بلادي التي انزوت كأرملة

في سواد

لتجهض في عدّتها حملا

من زيف التاريخ

ومستنقع الحاضر

فأحمل أنا عبء ماض وحاضر

ينزف حقيقة لن تقال ...

لذا لن أقلق على الحقيقة

أو هو ليس بقلق

هو حزن من نوع مفجع

أو خوف من نوع مربك

لذا أعلن فجيعتي على بلادي

***

وفاء مخلوف - سورية

تمتلئ أعمال شكسبير بشخصيات معقدة ومثيرة للاهتمام، كل منها يجلب منظورًا فريدًا لموضوعات الحب والسلطة والمجتمع. إحدى الشخصيات التي تبرز بين بقية الشخصيات هي السيدة السوداء، رمز الغموض والمكائد الذي يظهر في العديد من مسرحيات شكسبير وسونيتاته.

السيدة السوداء في مسرحيات شكسبير:

السيدة السوداء شخصية تتحدى الأعراف الجنسية والعنصرية التقليدية في المجتمع الإليزابيثي. غالبا ما يتم تصويرها على أنها امرأة قوية ومستقلة، تتحدى التوقعات المفروضة عليها بسبب عرقها وجنسها. يظهر هذا التحدي في شخصيات مثل كليوباترا في "أنتوني وكليوباترا" وتامورا في "تيتوس أندرونيكوس"، الذين يستخدمون حياتهم الجنسية وذكائهم للتلاعب بالرجال من حولهم.

ومع ذلك، فإن السيدة السوداء هي أيضا رمز للآخر والغرابة في أعمال شكسبير. كثيرا ما يتم تصويرها على أنها أجنبية أو دخيلة، حيث يميزها لون بشرتها على أنها مختلفة عن الشخصيات البيضاء المحيطة بها. يمكن رؤية هذا الآخر في شخصيات مثل شخصية عطيل في "عطيل"، الذي يميزه سواده عن بقية سكان البندقية ويؤدي في النهاية إلى سقوطه.

على الرغم من التحديات التي تواجهها، فإن السيدات السوداوات في مسرحيات شكسبير غالبا ما يمتلكن قدرا كبيرا من القوة والفاعلية. إنهم ليسوا ضحايا سلبيين للمجتمع الأبوي الذي يعيشون فيه، بل مشاركين نشطين في قصصهم الخاصة. شخصيات مثل الليدي ماكبث في "ماكبث" وبياتريس في "جعجعة بلا طحين" هن نساء قويات الإرادة ولا يخشين التعبير عن آرائهن وتحدي الوضع الراهن.

كما تعتبر السيدة السوداء رمزا للرغبة والإغراء في أعمال شكسبير. غالبا ما يتم تصويرها على أنها كائن جنسي، تستخدم سحرها لإغواء الرجال من حولها واكتساب القوة والنفوذ. يظهر أن شخصيات مثل كليوباترا والليدي ماكبث تدرك هوياتها الجنسية وتستخدمها لصالحها، وتتلاعب بالرجال في حياتهم لتحقيق أهدافهم الخاصة.

ومع ذلك، لا يتم تصوير السيدة السوداء دائما في ضوء إيجابي في أعمال شكسبير. ويمكن أيضا أن يُنظر إليها على أنها قوة خطيرة ومدمرة، تقود الرجال من حولها إلى الخراب من خلال قواها المغرية. شخصيات مثل تامورا وريجان في "الملك لير" هي أمثلة للسيدات السود اللاتي يستخدمن حياتهن الجنسية للتلاعب وإيذاء من حولهن، مما يؤدي في النهاية إلى سقوطهن.

على الرغم من تعقيدات شخصية السيدة السوداء، إلا أنها تظل شخصية ثابتة في أعمال شكسبير، حيث تتحدى وتخرب الأدوار التقليدية للنساء والأشخاص الملونين في المجتمع الإليزابيثي. من خلال أفعالها وكلماتها، تجبر السيدة السوداء الجمهور على مواجهة تحيزاتهم وافتراضاتهم حول العرق والجنس والسلطة.

إن السيدة السوداء في أدب شكسبير شخصية معقدة ومتعددة الأوجه تتحدى الأعراف الجنسية والعنصرية التقليدية في المجتمع الإليزابيثي. من خلال أفعالها وكلماتها، تجبر الجمهور على إعادة النظر في تحيزاتهم وافتراضاتهم حول العرق والجنس والسلطة. في حين أنها يمكن أن تكون قوة قوية ومغرية، فهي في النهاية رمز للقوة والاستقلال في عالم يسعى إلى تقييدها. تستمر سيدات شكسبير السود في أسر الجماهير وإلهامهم اليوم، لتذكيرنا بقوة النساء والأشخاص الملونين عبر التاريخ.

السيدة السوداء في سوناتات شكسبير

كانت السيدة السوداء في سوناتات شكسبير موضوعا لكثير من الجدل والتكهنات بين العلماء والقراء على حد سواء. تم تصوير الشخصية الغامضة، التي يشار إليها غالبا باسم السيدة السوداء، في السوناتات 127-154 على أنها امرأة جميلة ولكنها غير شرعية تأسر المتحدث وتسيطر على عواطفه. من خلال هذه السوناتات، يستكشف المتحدث الديناميكيات المعقدة للرغبة والحب والخيانة في علاقته مع السيدة السوداء.

أحد الجوانب الأكثر لفتا للانتباه في شخصية السيدة السوداء في سوناتات شكسبير هو مظهرها الجسدي. على عكس معايير الجمال التقليدية في إنجلترا الإليزابيثية، توصف السيدة السوداء بأنها ذات شعر داكن وعينين وبشرة داكنة. يتحدى هذا التصوير الأعراف والأعراف المجتمعية، مما يوحي بجمال أكثر غرابة وجاذبية، وهو أمر مقنع وخطير في نفس الوقت. تنجذب المتحدثة إلى مظهرها الخارجي، ولكنها تعترف أيضا بالظلام والغموض الذي يحيط بها.

كما تتميز السيدة السوداء بسلوكها الاستفزازي والمغري. في السوناتة 128، يعترف المتحدث أن جمال السيدة السوداء وسحرها لهما سيطرة قوية عليه، مما يجعله يفقد السيطرة على نفسه ويستسلم لرغباته. يعكس هذا التصوير للسيدة السوداء على أنها امرأة قاتلة مشاعر المتحدث المتضاربة بالانجذاب وعدم الثقة تجاهها، مما يؤدي إلى الشعور بالاضطراب العاطفي والارتباك.

طوال السوناتات، يتصارع المتحدث مع مشاعر الحب والخيانة تجاه السيدة السوداء. في السوناتة 138، يعترف بأن علاقتهما مبنية على الأكاذيب والخداع، ومع ذلك فهو لا يزال ينجذب إلى جاذبيتها التي لا تقاوم. يسلط هذا الصراع الداخلي الضوء على الطبيعة المعقدة للرغبة والعاطفة، والطرق التي يمكن أن تؤدي بها إلى النشوة وانكسار القلب.

يثير دور السيدة السوداء في سوناتات شكسبير أيضا تساؤلات حول الجنس والسلطة والقوة. في مجتمع كان أبويا للغاية ويقيد حريات المرأة، تمثل السيدة السوداء شخصية تتحدى الأدوار والتوقعات التقليدية للجنسين. تم تصويرها على أنها امرأة حازمة ومستقلة جنسيا تتحدى مفاهيم المتحدث عن السيطرة والهيمنة. يضيف هذا التخريب للمعايير الجنسانية عمقا وتعقيدا إلى تصوير السيدة السوداء، ويسلط الضوء على التوترات بين الرغبة والسلطة في علاقتهما.

جانب آخر مهم للسيدة السوداء في سوناتات شكسبير هو تمثيلها كمصدر إلهام أو مصدر إلهام لشعر المتحدث. في السوناتة 130، يصف المتحدث السيدة السوداء بعبارات غير جذابة، ويقارنها بالمثل التقليدية للجمال. يتحدى هذا التصوير الساخر المفاهيم التقليدية للإلهام الشعري والجمال، مما يشير إلى أن الفن الحقيقي يكمن في التقاط تعقيدات وتناقضات المشاعر الإنسانية.

إن وجود السيدة السوداء في سوناتات شكسبير هو أيضا بمثابة مرآة للصراعات والرغبات الداخلية للمتحدث. في السوناتة 144، يتأمل المتحدث ازدواجية مشاعره تجاه السيدة السوداء، المتأرجحة بين الحب والكراهية، واللذة والألم. يعكس هذا الصراع الداخلي تعقيدات العلاقات الإنسانية والطرق التي يمكن من خلالها إثارة مجموعة من المشاعر والاستجابات.

تضيف طبيعة السيدة السوداء الغامضة والغامضة جوا من الغموض والمكائد إلى سوناتات شكسبير. تظل هويتها بعيدة المنال ومفتوحة للتفسير، مما يؤدي إلى العديد من النظريات والتكهنات حول أصولها وأهميتها. اقترح بعض النقاد أن السيدة السوداء قد تكون تمثيلا لشياطين أو مخاوف المتحدث الداخلية، بينما ينظر إليها آخرون على أنها رمز للجوانب المظلمة للطبيعة البشرية.

بشكل عام، تجسد السيدة السوداء في سوناتات شكسبير شخصية معقدة ومتعددة الأوجه تتحدى المفاهيم التقليدية للجمال والحب والقوة. إن وجودها بمثابة حافز لاستكشاف المتحدث للرغبة والخيانة والاضطراب الداخلي، مما يؤدي إلى تصوير غني ودقيق للمشاعر والعلاقات الإنسانية. من خلال شخصيتها الغامضة والاستفزازية، تضيف السيدة السوداء العمق والتعقيد إلى سوناتات شكسبير، وتدعو القراء إلى إعادة النظر في مفاهيمهم المسبقة عن الحب والعاطفة وحدود التجربة الإنسانية.

والسيدة السوداء لغز من ألغاز الأدب والفكر والسياسة والدين ، إذ يفيض حضور المصطلح  عند الصوفيين و رجال الدين الأتقياء ورجال الفكر والأدب والسياسة للدلالة على مفاهيم بعينها .

*** 

محمد عبد الكريم يوسف

الأديب أ. عامر موسى الشيخ يطفئ الورق بقلمه.. والسارد أ. ماجد وروار يشعله !!

قراءة تحليلية تنظيرية في رواية (الخامس والعشرون من ايلول) للكاتبين الأديب أ. عامر موسى الشيخ والأديب الفنان أ. ماجد وروار

***

"هناك تعبير أبشع من الدموع التي نبكيها، إنها الدموع المكتوبة" باشلار

(في الحزن تكمن بواعث تهالكات تتبارى متهافتة في مسارب ذات الناص، فيعمد بعد محاولات لا تنتهي لإخفائها وإضمار كل ما يمت للكمد بصلة إلى البوح بها، استعانة باللغة التي تجسد فضاء الألم وجغرافية الحزن وعظم الجراح التي تتشعب فتأخذ لها حيزآ وسيعآ من ذاكرة المبيح، وأفقآ كبيرآ من نتاجه المباح..

إنها دفائن الجروح المتراكمة تتعالى دفقآ فتضيق عليه ما يضطره إلى سكبها ليست كشكوى يعرضها بل طلبآ لارتياح يبغيه:

أرق على أرق ومثلي يأرقُ

وجوى يزيد وعبرة تترقرقُ / المتنبي

 *

ينسل في داخل الأديب ا. عامر موسى الهاجس المتشح باللوعة والمرارة عبر مشاهدة إحزان السارد للقصة الذي هو الأستاذ ماجد وروار لرواية " الخامس والعشرون من ايلول "، فيغترفها لتكون منهلآ في التفاعل معها، وبوحآ للتدليل على أننا لا يجب أن ننظر لأحزاننا بإحساس أنها لا تخص الغير ؛ ولا لأحزان الغير على أنها ليست ذات صلة بمشاعرنا..

الأديب أ. عامر موسى كان هو الأكثر تشخيصآ لمشاعر صديقه أ. ماجد وروار والأدرك في تعامله مع القاص والتحاور معه وفق سياق البعد الإنساني للخروج بما يُضئل من غاثلة الأحزان:

(هل أقوى على رؤية حزن الآخر.

ولا أكون حزينآ كذلك.

هل أقوى على رؤية أسى الآخر

ولا أبحث عما يؤسيه

هل أقوى على رؤية دمعة تهل.

ولا أحس نصيبي من الأحزان)**

السماوة مدينة تكره الأيجاز في كل شيء. إنها تفرد ما عندها دائمآ، تمامآ كما تلبس كل ما تملك، وتقول كل ما تعرف. لهذا كان الحزن وليمة هذه المدينة لما مر منها من أحداث أليمة وما رافقها من ظلم على أبنائها أبان فترة الحكم البعثي المقبور..

(أترين تلك القلعة الحجرية الجدران؟

لي فيها صراخ شاسع..R

ودمٌ 

وأضلاع مهشمةٌ..

ودمع أبٍ تجرأ بالسؤالِ

عن ابنه المحكوم بالعشق المؤبد والتغرب

والهيامْ***

أ. عامر موسى جمع الأوراق المبعثرة امامه في قصة الأخ ماجد وروار، بعضها مسودات قديمة، واخرى أوراق بيضاء تنتظر منذ سنين بعض الكلمات فقط.. كي تدب الحياة فيها، وتتحول من ورق إلى أيام.

كلمات فقط، أجتاز بها الكاتب صمت السارد وروار إلى الكلام، والذاكرة إلى النسيان، يترك في كل مرة الرماد على الورق وكأنها سيجارة الحنين الأخيرة، وبقايا الخيبة الأخيرة..

فالكاتب عامر يطفىء والسارد ماجد يشعل!

الكاتب عامر لا يدري.. يحس أنه لم يكتب شيئآ يستحق الذكر مع السارد ماجد قبل هذه الرواية.. اليوم معه فقط سوف يبدأ بالكتابة. ولا بد على عامر ان يعثر أخيرآ على الكلمات التي سيكتب بها، فمن حقه أن يختار اليوم الذي يكتب، ولكنه لا يعلم أنه بعد الأنتهاء من كتابتها مباشرة سيكون هناك حدث كبير !! حيث أستشهد احد أبطال الرواية.. واصبح عامر هو الشاعل للورقة بعد ان كان قلمه مطفأة لها..

(لماذا ياعلي هكذا؟ لماذا جعلتهم يتمكنون منك)؟

 كبرت معي اللماذا، وكبرت الأسئلة، أمام تصاغر كل شيء وصولآ إلى التفاهة، ما أفعله الآن هل أبصق على الحياة؟ أم أن بصقتي ستعود علي ستعود علي مثل الذي يبصق بإتجاه السماء، درت في غرفتي راقصآ رقصة حزن مع بكاء مستمر، مستمر دون توقف، دوراني يستمر ودموعي تستمر، أدور مثل رحى تطحن دقيق الأيام والحسرات لتصنع خبزآ لمائدة الموت اليومي الذي يلهث خلفنا.

هل حقآ مات علي؟، ماذا ستقول أمه؟ علي مات! كيف سيكون حال ماجد؟  مات علي !! وأنا أكرر هذه الأسئلة، عدت إلى هاتفي طالبآ رقمه..

- الو ماجد، أنا عامر، أين أنت...؟

- عامر، لقد استشهد علي في أبي غريب، أنا ذاهب لجلبه، مع السلامة ! السارد للقصة في الرواية أ. ماجد وروار ذاكرته ثقيلة لا يشفى منها أبدآ.. تجد في سرده للقصة أنه غادرته الحروف كما غادرته قبلها الألوان، وتحول العالم فيه إلى جهاز تلفزيون عتيق، يبث الصور بالأسود والأبيض فقط، ويعرض شريطآ قديمآ للذاكرة، كما تعرض أفلام السينما الصامتة .

قصة كان يمكن أن تكون قصتنا جميعآ، لو لم يضعنا القدر كل مرة مصادفة، عند منعطفات فصولها.

ماجد أثناء سرده للقصة وكأنه يأتيه صوت عتيق غائب، وكأنه يطرح السؤال على شخص غيره، معتذرآ دون اعتذار، على وجه للحزن لم يخلعه منذ سنين، يشعل سيجارة عصبيته، فيذهب يطارد دخان الكلمات التي احرقته منذ سنوات، دون أن يطفئ حرائقها مرة فوق ورقته.

اليوم ماجد يكتب عن حياته وهو لم يشفَ منها بعد، ويلمس جراحه القديمة بقلم يؤلمه مرة أخرى.. قلمه اليوم أكثر بوحآ والأكثر جرحآ.القلم الذي لا يتقن المراوغة، ولا يعرف كيف توضع الظلال على الأشياء، ولا كيف ترش الألوان على الجرح المعروض للفرجة. يدون كلماته التي حرم منها، عارية كما أرادها، موجعة كما أرادها، وكأنه يستبدل بقلمه سكينآ، فالكتابة إلى من فقدهم قاتلة.. كحبه لهم.

تمطر ذاكرته فجأة ويسرد احداثا ومواجعَ ما زالت تشبهه، وأصبح يشبهها، وأصبح هو جسرآ معلقآ لها، وما زالت وجوه الاحبة التي فارقها تعبر الجسر على عجل..

ماجد يسرد قصته ويبعثها كرسائل وبطاقات خارج مناسباته المعلنة.. ليعلن عن نشرته النفسية، لمن يهمهم أمره.

ماجد في سرده في الرواية تجد أن الموت كان يمشي إلى جواره، وينام ويأخذ كسرته معه على عجل، تمامآ مثل الشوق والصبر والإيمان.. والسعادة المبهمة التي لا تفارقه. كان الموت يمشي ويتنفس معه.. وكانت الأيام قاسية دائمآ، لا تختلف عما سبقتها سوى بعدد شهدائها، الذين لم يكن يتوقع موتهم على الغالب.. فهو لم يكن يتصور لسبب أو لآخر، أن تكون نهايتهم، هم بالذات قريبة إلى ذلك الحد.. ومفجعة إلى ذلك الحد.

ما زال ماجد يتذكر اخوانه الشهداء، أولئك الذين تعودنا أن نتحدث عنهم بالجملة ! وكأن الجمع في هذه الحالة بالذات، ليس اختصارآ لذاكرتهم، بل لحقهم علينا.

تجد ماجد لم يتحدث عنهم كونهم شهداء.. بل كان كل واحد منهم شهيدآ على حدة. كان هناك من استشهد في كوكبة الشهداء البكر، وكأنه جاء للحياة خصيصآ للشهادة، والثاني من كان يحلم أن يعود يومآ لكي يتزوج.. ولم يعد.

والشهيد الثالث سقط في أرض المعركة قبل زيارته المسروقة إلى أهله بيوم واحد، بعدما قضى عدة أسابيع في دراسة تفاصيلها، والإعداد لها..

ذهبوا وتركوا خلفهم قبرا طريا لأم ماتت مرضآ وقهرآ، وأب مات كمدآ وهو كان مشغولا بمطالب أبنه للعرس..

(خداه، عيناه، طوله، اناقته، كله كان حلاوة، نعم انه شقيقي وصفي الذي خلف الباب..

فرحتي بتواجده بيوم زواج محمد كانت قد اعطتني همة بأن اخرج كل الصحون من الغرفة كي يبقى على رسله في الغرفة..

وبما انه وصفي لم استغرب هذا الدخول المفاجئ فقد كان على قدر كافٍ من الذكاء من أجل انهاء اية مهمة، نعم هذا وصفي مؤرق رجال الأمن والبعث، حضنته قبلته، شممته قلت له كيف، ماذا، قال لي: وهل تريدني أن لا أحظر حفل زفاف محمد.. !

:

:

بعد اتمام مراسم الزفاف، لم ينم وصفي، قال لي: رافقني إلى كراج سيارات بغداد، كان هذا عند الساعة الرابعة فجرآ، قلت له:

لم نشبع منك يا أخي، تأخر قليلآ، قال بهدوء وابتسامة تخبئ خلفها حدسآ غريبآ: لا، فعناصر الأمن سيأتون عند الساعة الخامسة ليلقوا القبض علي، دعني اذهب، رافقته حيث اراد، ودعته... وبالفعل ما ان جاء فجر ذلك اليوم، واذا برجال الامن يملؤون الشارع طارقين الباب بعنف " وين وصفي؟

الكتاب: رواية الخامس والعشرون من أيلول

المؤلف: عامر موسى الشيخ - ماجد وروار

الطبعة الأولى ٢٠١٦ / دمشق - مطبعة تموز

***

قصي إيدام

.........................

(*) نص ادبي للكاتب الكبير أ. زيد الشهيد / كتاب مملكة الأبداع

(**) نص ادبي للكاتب وليم بليك / حزن الآخر

(***) نص للشاعر الكبير أ. يحيى السماوي / ديوان جرح أكبر من الجسد

بقلم: مونيكا زغوستوفا

ترجمة: صالح الرزوق

***

حينما كنت أبحث عن مادة لروايتي "مسدس تحمله معك في الليل A Revolver to Carry at Night"، انغمست في مراسلات وسيرة وأعمال كل من فيرا وفلاديمير نابوكوف، وعلى وجه الخصوص وقائع حياتهما. واكتشفت من مذكرات نابوكوف الشعرية "تكلمي أيتها الذاكرة Speak, Memory" الحكاية التي استلهم منها رواية "لوليتا"، وبدأت أفهم علاقة نابوكوف مع روايته وموضوعها.

اعتاد والدا فلاديمير نابوكوف إنفاق عطلاتهما الصيفية في فيرا، والإقامة في فندق له حديقة فسيحة على مشارف سانت بطرسبورغ. وبعد واحد من وجبات الغداء العاطفية والطويلة والمتأخرة على عادة أغنياء روسيا قبل الثورة، خرج المضيفون والضيوف إلى الشرفة لشرب القهوة. وكان فلاديمير، البالغ يومذاك من ربيع عام 1907 ثماني سنوات، برعاية خاله الدبلوماسي فاسيلي روكافشنيكوف.

كان ركافشنبكوف معروفا أيضا باسم روكا، ويعني بالروسية "يد".  وكان الخال روكا أنيقا ويضع على الدوام تاجا بنفسجيا على ياقة معطفه اللؤلؤي الرمادي ويهوى إلقاء الشعر بصوت جهوري. وحينما خرج الحضور إلى الشرفة، اقترح الخال على الصبي أن ينتظر معه في غرفة الطعام المضاءة بنور الشمس. أجلس الصبي في حضنه وعانقه بلطف، وهو يهمس في أذنه بكلمات عابثة وبذيئة، فشعر فلاديمير الصغير بالارتباك. وارتاح واطمأن حينما عاد أبوه من الشرفة إلى غرفة الطعام. وأدرك فلاديمير أن الأب لم يكن ينظر بعين الرضا لإلحاح  شقيق زوجته كي يرافق الآخرين إلى الشرفة. وحالا أرسل الصبي إلى غرفته. في نفس الأمسية عاد الخال إلى غرفة الصغير فلاديمير. وطلب منه أن يعرض عليه مجموعة الفراشات التي أسرها، وبينما هما يتأملانها معا، دغدغ الخال وجهه بشاربه الناعم، وتابع حضنه وزاد على ذلك لمسات جريئة. وكانت هذه اللقاءات سارة ومحزنة أيضا، مثيرة ومقرفة في وقت واحد. واستمر على هذا المنوال لعدة سنوات. ومنذ نشر "لوليتا" يتساءل الناس في أرجاء العالم من هي تلك البنت الغامضة، وعلى أي تجربة أو علاقة اعتمد نابوكوف في رسم شخصيتها. وحينما كنت أبحث عن مادة لروايتي وجدت الدليل. ما لم يلاحظه أحد من قبل أن نابوكوف في هذه الرواية كان يسرف بوصف الاعتداء الجنسي مع أنه كان ضحية له في طفولته. في الفقرة 3 من الفصل الثالث من كتابه "تكلمي أيتها الذاكرة" قال نابوكوف: كان الخال روكا يأتيني في طفولتي مع عالم من الدمى والكتب المصورة المضحكة وأيكة من أشجار الكرز ذات ثمار سود براقة [...]، وكنت حينها في الثامنة أو التاسعة، وكان دائما يضعني على ركبتيه بعد تناول الغداء (وحولنا رجلان ينظفان الطاولة الموجودة في غرفة طعام تخلو من البشر)، ويداعبني بأصوات صفير وبعبارات غزل، وكنت أشعر بالارتباك من تصرفاته بحضور الخادمين، وأرتاح حالما يناديه والدي من الشرفة قائلا: "تعال يا فاسيلي".

وكما ألح نابوكوف في مذكراته بشكل غير مباشر، لكن جازم، استمرت هذه الألعاب الماجنة ثلاث أو أربع سنوات. وحينما بلغ فلاديمير الحادية أو الثانية عشرة، اعترف، أنه في أحد الأيام ذهب لملاقاة خاله في محطة القطار. كان خاله قادما من رحلة خارجية بعد أن استجم خلال الصيف في مزرعته في فيرا، المجاورة لمكان إقامة والدي نابوكوف. قال روكا للصبي حالما رآه "كم أصبحت خبيثا ومرهقا jaune  et laid  أيها الولد المسكين". وفي عيد ميلاد نابوكوف الخامس عشر أعلن خاله الواسع الثراء، بلغة فرنسية قديمة الطراز، أنه سماه وريثا له. ثم صرفه قائلا:"والآن بمقدورك أن تذهب. انتهت الجلسة ولا يوجد ما أضيفه.

l’audience est finie. Je n’ai plus rien à vous dire

***  

وحدث شيء مماثل في "لوليتا": في نهاية الرواية، وبعد بحث يائس، وجد الخاطف همبرت همبرت لوليتا اليافعة، وهي بعمر سبعة عشر عاما حاملا ومتزوجة. وشاهدها الذي غرر بها شاحبة، ومنهارة ومتعبة فقدم لها مبلغا كبيرا من النقود لزفافها. ولكن لم تتمكن لوليتا من الاستمتاع بثروتها المفاجئة لأنها ماتت أثناء الوضع.  وبطريقة مماثلة لم يكن نابوكوف قادرا على الاستفادة من ميراثه (والذي كان حسب أقواله "يبلغ بتقديرات هذه الأيام مليوني دولار "يضاف لها مزرعة روجديستيفنو المجاورة لفيرا، والتي كسبها من خاله).  فقد كان في الثامنة عشرة حين قامت الثورة الروسية للروبل وتسببت للروبل بفقدان سعره، ثم ذهب إلى المنفى، وفقد كل شيء. وهذه الحلقة من حياة نابوكوف أثارت اهتمامي لأنني شخصيا من المهاجرين. بحث والدا فلاديمير عن منفاهما في غرب أوروبا بعد ثورة أكتوبر وكان عمره لا يزيد على عشرين عاما. وكذلك والداي هربا من الشيوعيين إلى الولايات المتحدة حينما كنت في السادسة عشرة. ولذلك أشعر بقرابة متينة مع نابوكوف. وقد استحوذت على نابوكوف فكرة التحرش بالأطفال. وكتب عنها أولا في "الساحر"، وهي رواية قال عنها في وقت لاحق "إنها أول مسودة عن "لوليتا""، ولكنه لم يكن راضيا عنها تماما. وبعد "لوليتا" عاد إلى موضوعة التحرش والمضايقة الجنسية في "نار شاحبة". وفي التجارب الثلاث عبر عن عدم رضاه ورفضه للعنف الذي يستهدف الأطفال. وربما لم يعرف هذا السر غير عدد محدود من الأشخاص، وربما فقط زوجته فيرا،  فقد كتب عنه نابوكوف في سيرته "تكلمي أيتها الذاكرة" بطريقة مواربة. وكانت فيرا تعلم جيدا أن زوجها يحب النساء بمقدار غرامه للفراشات. وتقول كاثرين ريس بيبلز، وكانت على علاقة غرامية قصيرة مع نابوكوف حينما شغل منصب أستاذ في جامعة كورنيل الأمريكية، أنه كان يهوى النساء وبالتحديد الشابات، ولكن ليس المراهقات أو البنات الصغيرات مثلما فعل همبرت همبرت مع لوليتا. واستفاد نابوكوف من اختطاف البنت الصغيرة سالي هورنير، التي هزت قضيتها المجتمع في أواخر الأربعينات. كان يبحث يوميا في الصحف الأمريكية عن أخبار سالي الجديدة وأحوالها المرعبة وهي في قبضة مختطفها وذلك ليبني عليها روايته. وقد نشرت مؤخرا سارة وينمان كتابها بعنوان "لوليتا الحقيقية" وتناولت فيه تفاصيل اختطاف سالي هورنير.

وعلى امتداد عقود كنا نسمع النقد الموجه إلى لوليتا من زاوية أنصار الأنوثة. ولكن بعض هؤلاء النقاد لا يبدو أنهم فهموا كل اللغط الذي دار في الرواية. لكن "لوليتا" عمل فني مهم لأنها مكتوبة بحرية مطلقة ولأنها حرصت على أن تعكس تعقيدات نمط محدد من السلوك البشري.

وبداية كل فصل -"سيداتي وسادتي المحلفين" - تعني بوضوح أن قراءه هم القضاة المكلفون بمحاسبة المختطف موضوع المحاكمة. لم يقصد نابوكوف أن يكتب مرافعة، ولكنه أوضح بين السطور، لمن يعرف كيف يقرأ، أنه رفض مغوي القاصرات السقيم  وأن لوليتا ضحية مثله.

***

......................

* مونيكا زغوستوفا Monika Zgustova ولدت في براغ. وكبرت في الولايات المتحدة حيث درست الادب المقارن. انتقلت الى برشلونة وعملت بالكتابة لجريدة "البايس" و"نايشين" و"كاونتر بانش". ترجمت اعمال الادباء التشيك والروس الى الاسبانية. من اهم مؤلفاتها "متأنقة للرقص في الثلج: أصوات نساء من الغولاغ" 2020.

* الترجمة عن ليتراري هب، أيار 2024.

احتلَّ الشِّعر مكانة عظيمة عند العرب، عبَّر عنها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين قال: «كان الشِّعر عِلم قومٍ لم يكن لهم عِلم أصح منه»، فقد اختصَّ الله العرب بالفصاحة والبيان، وتجلَّى ذلك في أشعارهم وآدابهم، وكان الشعر هو المقدَّم عندهم؛ لِما يمتاز به من حضورٍ دائمٍ في شؤون حياتهم على اختلافها وتعدُّدِها؛ فالشِّعر هو المعبِّر عنها في كل حين، وهو المؤرِّخ لها، فكانوا يعدُّون الشعر من عوامل القوة التي تساعدهم في النصر على عدوِّهم، ومما رُوِيَ في ذلك أنه «أمسك على النابغة الجعدي أربعين يومًا فلم ينطق بالشعر، ثم إن بني جعدة غزوا قومًا فظفروا، فاستخفَّه الطرب والفرح، فرام الشعر، فذلَّ له ما استصعب عليه، فقال له قومه: والله لنحن بإطلاق لسان شاعرنا أسَرُّ منَّا بالظفر بعدوِّنا».

والله تعالى حين نفى الشِّعر عن النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- لم ينْفِه لِعَيبٍ في الشِّعر؛ وإنما نفاه عنه لأنه -صلَّى الله عليه وسلَّم- يحمل رسالة من عند الله سبحانه، وكانت العرب أمَّةً شاعرة، فلو كان النَّبيُّ شاعرًا؛ لظنَّ المشركون أن ما يأتي به ما هو إلا من خيالات الشاعر، أو أنه جنسٌ أدبيٌّ جديد ابتكره؛ فمِن أجلِ قطعِ السَّبيل إلى هذه الظنون؛ نفى الله عنه الشعر، فقال تعالى: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) [يس: 69]؛ ونلاحظ هنا أن الله تعالى نسب تعليم الشعر إلى نفسه؛ لأن الشعر موهبة منه.

وكان الشعراء حين يتنافسون على الصَّدارة في هذا العِلم الفريد؛ كانوا يتنافسون بأسلوبٍ منهجي صحيح؛ فكانوا يتبارون في قول أجود ما يمكن أن يقال، وليس في الدعاية الإعلامية الكاذبة كما يحدث الآن في عصر التكنولوجيا والانفتاح، وكانوا يحتكمون إلى أهل الخبرة من ذوي الفحولة الشعرية والبصارة النقدية، وليس كما يحدث الآن من سباقٍ همجيٍّ إلى حشد أصوات مشجِّعين لا يعرفون ما هو الشعر ولا من هو الشاعر، يزاحمون بها الشعراء المبدعين من أجل التقدم عليهم بلا حياء.

لم يكن بين أسلافنا أمثال هؤلاء الذين يتطفلون الآن على الشعر، ممن لا يكادون يقيمون وزن قصيدةٍ أو يُتْقنون نظْمها، أو يفرِّقون بين البحور المختلفة أو بين الصور المتعددة للبحر الواحد، أو يعرفون علل القوافي وعيوبها التي يجب اجتنابها في أثناء النظم، ثم لا يكتفون بادِّعاء الشِّعر؛ بل يَنْحلون أنفسهم ألقابًا لا قِبَل لهم بها، ثم يجدون بعض وسائل الإعلام التي يقوم عليها أمثالهم فيروِّجون لهم ويجعلونهم في الصدارة، ثم نجدهم يمثِّلون بلادهم في المحافل الشعرية العربية والعالمية، وبرُفْقَتِهم أمثالهم من مدَّعي النقد ومحترفي التزييف والتدليس، بينما الشعراء والنقاد المبدعون الحقيقيون لا يستطيعون الخروج من العزلة التي صنعها لهم أعداء الأصالة بأحقادهم التي لا تنتهي.

وهؤلاء لا يدركون أن الشعر له مكانته السامية، الضاربة بجذورها في عمق الزمان، تلك المكانة التي لا تقبل التطفل؛ لأنها قائمة على ثوابت ومقوِّمات راسخة، وما يفعله هؤلاء لن يرقى بهم إلى مكانة الشعراء المبدعين؛ وفي هذا الصدد نَستذكر قول أبي عمرو بن العلاء: «كان الشاعر في الجاهلية يُقدَّم على الخطيب؛ لِفَرط حاجتهم إلى الشِّعر؛ الذي يقيِّد عليهم مآثرهم، ويفخِّم شأنهم، ويهوِّل على عدوِّهم ومَن غزاهم، ويهيب مِن فرسانهم، ويخوِّف مِن كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم؛ فلمَّا كثر الشِّعر والشعراء، واتخذوا الشِّعر مكسبة، ورحلوا إلى السُّوقة، وتسرَّعوا إلى أعراض الناس؛ صار الخطيب عندهم فوق الشاعر»، وكلام أبي عمرٍو يقصد به من كان شاعرًا فانحرف بأغراض شعره وسلك بها مسالك دنيئة لا تليق، فما بالك بمن هم يتطفلون على الشعر من أجل تلك المسالك، ومن يساعدونهم في ذلك؟!!.

وجودة الشعر ترتبط بدرجة الموهبة ومدى تمكُّنِ الشاعر من أدواته، ولا فرق بين الصغير والكبير في إتقان أي علمٍ من العلوم، ومنها الشِّعر، وكان لبيد بن ربيعة الشاعر الفحل -وهو أحد المعمِّرين- كان في نهاية عمره حين قدَّم على نفسه طرفة بن العبد الذي قُتِل وهو ابن ستٍّ وعشرين سنة؛ وفي هذا المقام «أتى فتى من أهل الكوفة حمادًا الرَّاوية، فعرض عليه شعرًا قاله، فقال: ليس هذا بشِعرك؛ إنما اجتلبتَه؛ قال: لا -والله- إنه لَشِعري؛ قال: فإن كان شعرك فاهجني؛ وكان حماد ضخم البطن، فتنحَّى الفتى ناحية، ثم رجع إليه، فقال: قد قلت؛ فقال: هاتِ؛ فأنشأ يقول [الطويل]:

سَيعلَمُ حمَّادٌ إذا ما هجوتُهُ

أكنتُ اجتلبتُ الشِّعرَ أمْ أنا شاعرُ

*

ألَمْ ترَ حمَّادًا تقدَّمَ بَطْنُهُ

فجاوَزَ منه ما تُجِنُّ المآزرُ

*

فليسَ بِراءٍ خُصْيَتَيْهِ ولو جَثا

لِرُكْبَتِهِ ما دامَ للزَّيتِ عاصرُ

فقال حماد: أشهد أنه شعرك».

وقديمًا لم يكن الشعراء يَعنِيهم الإعلام -الذي كان يمثِّله سوق عكاظ وغيره- بِقدر ما كانت تَعنِيهم قناعتهم الشخصية بما يقدِّمون من أشعار؛ لأن الجودة هي الحَكَم الحقيقي على امتداد الأجيال، فكانوا ينقِّحون أشعارهم ولا يعرضون منها إلا أجْودَها، و«كان زهير بن أبي سلمى يقول: خير الشعر الحولي النَّقِح المحكَّك»، ورُوِيَ في «الأغاني» أنه «تحرَّك كعب بن زهير وهو يتكلَّم بالشعر، فكان زهير ينهاه؛ مخافة أن يكون لم يستحكم شعره، فيُروَى له ما لا خير فيه، فكان يضربه في ذلك، فطال عليه الأمر، فحبسه، فمكث عدَّة أيام، ثم أُخبِرَ أنه يتكلَّم به، فضربه ضربًا شديدًا، ثم أطلقه وسرَّحه في بهمِهِ، فسمعه يرتجز، فخرج إليه زهير وهو غصبان، فدعا بناقته، حتى انتهى إليه، فأخذ بيده فأردفه خلفه، وهو يريد أن يبعث ابنه كعبًا ويعلم ما عنده من الشعر، فقال زهير [الطويل]:

وإنِّي لَتعْدِيني علَى الحيِّ جَسْرَةٌ = وإنِّي لَتعْدِيني علَى الحيِّ جَسْرَةٌ

ثم ضرب كعبًا، وقال له: أجِزْ؛ فقال كعب:

كبُنْيانةِ القَرْئِيِّ مَوضِعُ رَحْلِها

 وآثارُ نِسْعَيْها مِنَ الدَّفِّ أبلَقُ

*

وبعد أبياتٍ؛ تحوَّل زهير إلى نعت النَّعام، وترك الإبل، وغيَّر حركة الرَّويِّ فقال:

وظلَّ بِوَعساءِ الكثيبِ كأنَّهُ

 خِباءٌ على صَقْبَيْ بُوانٍ مُرَوَّقِ

فقال كعب:

تَراخَى به حَبُّ الضَّحاءِ وقَدْ رأى

 سَماوَةَ قَشْراءِ الوَظِيفَيْنِ عَوْهَقِ

ومَضَيَا على ذلك في أبياتٍ، فلمَّا رأى زهير أن كعبًا قادر على مجاراته؛ أخذ بيده ثم قال له: قد أذنتُ لك في الشِّعر يا بنيَّ»؛ فلم يدَع ابنه يقول الشعر إلا بعد أن اطمأنَّ على فحولة شعره؛ حيث كانوا يجعلون اهتمامهم بالشعر الجيد الذي يُعرَفون به، وليس بالشهرة من حيث هي شهرة كما يفعلون الآن؛ فقد نال الأقدمون جودة الإبداع وصحَّة الفكر، ولهذا بقيت إبداعاتهم شاهدة لهم بعد مرور تلك القرون الطويلة بما فيها من أحداث وتقلُّبات.

أما الآن في ظلِّ الغزو الثقافي والفكري، والتوسع الكبير في وسائل التكنولوجيا والانفتاح، وحب الشهرة الذي سيطر على كثيرٍ من العامَّة، الذين سارعوا بانتحال الشعر وادِّعاء الفكر والعلم، وصنعوا ثقافة خاصَّةً بهم، بزَعمِ التطور ومواكبة العصر، وسعوا جاهدين إلى فرضِها وتعميمها، ووجدوا أجهزة إعلامية تروِّج لأفكارهم التخريبية، تحت مسميَّاتٍ شعرية وأدبية وفكرية لا تربطهم بها علاقة من قريب أو بعيد، على مرأى ومسمع من وزراء ثقافةٍ معظمهم ضعفاء علميًّا وفكريًّا وغير مؤهلين للعمل في الميدان الثقافي والمعرفي، لا يَعنِيهم الإبداع، ولا يدركون ضرورة الحفاظ عليه.. في ظل ذلك كله اختلفت مكانة الشاعر وتدهورت كثيرًا، وأصبح الشاعر المبدع يبدو كأنه جاء في زمان غير زمانه، وما أكثر الشعراء المبدعين والشعر الجيد في هذا العصر!!، لكن طغت على ذلك أجهزة منظَّمة جاءت من أجل القضاء على الشعر، ضمن خطَّتها للقضاء على هويَّتنا العربية والإسلامية العريقة.

***

حسن الحضري

شاعر وكاتب مصري

قصائد تزدهر بوهج الابداع، ملتهبة بالاحاسيس الوجدانية العميقة، التي انطلقت من عقالها الكامن لتغرد بشفافية بليغة بالمعنى والمغزى، في وضوح المراد والغاية في الصور التعبيرية، التي لامست شأن العشق الحياتي، وسهام الحنين والشوق، من خلال السيرة الذاتية الطويلة في سفرها وتنقلها في محطات سنوات العمر المتنوعة، وجدت الفرصة السانحة لهذا البوح بصدق نوايا القلب، في العزم في مواصلة طريق الكفاح، مهما بلغت الجروح والمحن والمعاناة، مهما كثرت العثرات والمطبات،  في الاشتياق العارم الذي يلعب داخل القلب، ويدفعه عنوة إلى المواصلة و العناد بالتشبث بالحياة، في هذه الذكريات الدسمة من حصاد العمر التي سطرتها القصائد الشعرية، تلألأت بهذا الإنشاد المترنم في ابتهالات الروح، ترنمت بنغمات مختلفة من الإيقاعات والتقاسم الشعرية في مفاصلها الدالة، بهذا الشريط الحياتي الطويل المنقوشة في وشمها على صدر السنين الطويلة، وتدل ايضاً على السمة الزاهية في الارتباط الحياتي المفعم بالحركة والفعل، الذي يملك الإدراك والفهم لمعاني الحياة في أزمنتها المختلفة والمتقلبة، تراوحت بين الشوق والحنين والغربة، في عالم مليء بالزيف والغدر وسؤ النوايا، عالم يتجه بكل عنفوانه الى الحصار والحروب والخراب ودمار الإنسان، لكن العناد الحياتي بالشوق والاشتياق يدفعه إلى مواصلة الدرب مهما بلغ الثمن الباهظ.. نجد في ثنايا قصائد الديوان الشعري الذي يضم 34 قصيدة متعددة الصياغة الابداعية والاغراض التعبيرية، في عذوبة الصوت الشعري، في حلو الكلام وفي المخاطبة والجدل في داخل الروح والقلب (وأنا كل الكلام) صوتان منصهران في صوت واحد، الشاعر وكل الكلام، كأنه يغرد بزقزقة العصافير في ابتهالات الحب، رغم الأهوال والعويل، لكنه يدرك رسالة القلب مرسومة بنشوة الوئام والسلام في داخل مشاعره، انهالت بمطر ذكريات العمر بهذا الشريط الشعري. نقتبس من فيضه هذه المقاطع الشعرية الدالة في مدلولاتها البليغة.

1 - ماذا سيحمل العام الجديد؟ لا شيء سوى انه سيكون نسخة من سلفه، ألم يكون أسوأ، في الاضطراب والارتباك والتيه والخراب، وطعن الامال بسكاكين قاتلة، لقد خلق هذا الواقع المزيف، آلهة أو ارباب، أو الاصنام مزيفة تتاجر بالدجل والمكر، تخدر المواطنين بعلكة الأدعية والتعاويذ والحجاب والرجاء الذليل للركوع تحت اقدامهم، لن يكون هذا العام الجديد أقل خراباً وكارثة، أقل جنوناً وظلاماً، اقل تناحر الثيران الهائجة على الاستحواذ والاستيلاء، وهي تصعد على أكتاف الخائبين، لن يكون اقل حروباً وحصاراً وظلماً، كل الدلائل تؤكد انهم سائرون على نهج الخراب والحروب بنكهة المجانين.

قد دَخَلنا..

مشجَبًا تَرقدُ فيهِ جُثّةُ العامَ الجديد

وفيوضٌ مِنْ صِياغاتِ التواريخِ اللّئيمةْ

وذيول من خيول الغابرين

قد نَسيْنا قَبْضَةَ الدّرْعِ وصَدّقنا الرَّخاءْ

وحَلَلنا رَبْطَةَ الصّدقِ وأبدَلنا القِناعْ

كالأميراتِ السّبايا

نَسْتَرِّقُ السّمعَ من جُحْرِ العدوِ

علّهُم يَرضونَ عَنّا.. عاهِراتْ

 من قصيدة: متاهات العام الجديد.

2 - هذا حال العراق التعيس مع تموز المتقلب بين النار الساخن والملتهب، انه على خط الاستواء بين الجحيم والمعاناة. والخراب يتعمق أكثر فأكثر، سواء كان تموز حياً أو ميتاً، لا فرق بين الاثنين. على سعير النار يحترق الأخضر واليابس، فكل مجيء لتموز لنا مأتم وحداد، وتبقى تنتظر النوارس، تتجول في سماء الغربة وقلق المنفى. فمتى تدق ساعة العمل؟ ونقول: حي على خير العمل.

تموز مات

حَيِّ على الحياة

تموز قام

حَيّ على خَيرِ العمل

لم يبق في العراق من اَمل

المِلحُ في النصال

والخَسفُ في الرجال

والموتُ في مُغتسل العورة في العراء

والماء في مِعصِرَةِ الهواء

وهدهدُ التاريخ في اسرة القصب

يُعيرُ رحلة الجهاد مرةً لرِيبة الجسد

ومرة لعِمَّة الرَّمَد

ونحن في بوصلةِ المغيب

لقالق الهجرةِ للأبد

حي على خير العمل.

من قصيدة: فريضة العمل

3- يتناغم الواقع المر على معزوفة الحلال والمباح شرعاً بناموس الشيطان، كأن من امتلك صولجان السلطة والنفوذ، حل محل رب العالمين، يلعب ويخرب بما يحلو له المذاق والمزاج، في المتعة الجنة الفردوسية، يتقمصون كل الأدوار من الكذب والرياء والنفاق، فطالما لبسوا جبة الدين، أذن امتلكوا الارض والسماء، على نحيب الثكالى والمحرومين. يغتسلون في شفاعات الفتاوى، التي تبيح لهم كل شيء حلال.

وإذا لامستمُ السلطةَ يوماَ فاستحموا

من زلالِ الهاوية

او تضمخْ بالعماءِ

فهوَ حَدُّ الزانية

فالوضوء باختزالات الحلال

سيكون بالحلال

كل شيء بالحلال

فالزواج في شفاعات الفتاوى

بالحلال

والدجاجُ بالحلال

والخياناتُ نذور في مضافات التملك

بالحلال

وليالي الرقص حتى مطلع الفجر المعنى

بالحلال

من قصيدة: المال الحرام

4 - التوغل في مفاصل الحياة والوجود، بوعي وادراك وفهم ناضج، تزدهر القيمة الحياتية والانسانية، وتثمر في براعمها وفاكهتها الناضجة، فهي تنهل في الارتواء من الماء العذب، لذلك تعطي قيمة للشاعر ان يكون مرآة حقيقية للواقع، بدون تساوم وتهاون، لان ضميره حياً يحب الجمال ويكره القبح، ويترنم باحلى الكلام.

حينَما الحِكْمةُ باتَتْ

في فِراشي ذاتَ لَيلَةْ

اَهرَقَتْ خُصلةَ ضَوءٍ

من يَواقيتِ الكَلامِ

فوقَ قلبي ولِساني

فَتَغَطّيتُ بِشَمسٍ

ظِلُّها أَحْلى الكَلامِ

من قصيدة: وانا كل الكلام.

5 - اللهفة المرهفة الى وميض الحب وصداه يتناغم مع شغاف القلب، في أعماق الحواس الداخلية، حتى بحبها وطيشها المتبعثر والخائب، فتظل الروح تتطلع الى عناقيد العنب الدالية، فالحياة لا تسمو إلا مع الحب، والحياة لا يكمل قمرها إلا بالشوق والاشتياق، ولا تدع القلب يهدأ إلا بهما، بغواية الحب، يفيض بالقلب نغماً وطرباً.

قُلتُ يَومًا للذي لَوّعَني داخَل صَدري:

دَعْ شَفاعاتِ الغوايةْ

دَعْ مِنَ اللّوعَةِ روحي والضَّياعْ

دَعْك من قولِ النساءِ

والوَميضِ الغضِّ

ما خبَّئن سرًا

تحت ياقوتِ صَداريهُنَّ يومًا

من ينابيع الكلام

دعك منّي

فَلِماذا...؟؟

كُلّما رَفَّ جَناحٌ

رفرفت روحك بالبهجة وامتد حبورك

ولِماذا لا تَدعْني أهدأ الليلَ

لماذا لا تَدعني

***

جمعة عبدالله

 

مزرعة الحيوان رواية (ديستوبية) تقع في 120 صفحة نُشرتْ عام 1945، الرواية (مجازية) بالتشبه بالحيوان دون المساس باحاسيس ومشاعر الأنسان ربما تبدو فنتازية ساخرة وتارة سوداوية مؤلمة ومعيبة، وجه الأنتقاد اللاذع لموجة الأشتراكيات السائدة في دول العالم الثالث وربما الآول، وإن العدل لابد أن يسود \ص2، إن الثورات يصنعها الشجعان ويسرقها ويبيعها الجبناء، وضمن مغزى الرواية أيضاً تتعرض الثورات إلى أنتكاسات وحروب نفسية وغسيل الأدمغة وهو درس لعالم السياسة، وفي حيثيات رواية الكاتب الأسطورة جورج أورويل " مزرعة الحيوان " خطط لأنتفاضة الحيوانات أو ثورتهم ضد مالك المزرعة المتعسف الظالم المهمل والسكير المخمور دوماً، وبعبقرية هذا الروائي البريطاني قام بتسمية أبطال روايته في أدارة حكومة الثورة الحيوانية الجديدة بين (الخنزير والقرد والحمار) أعطى للآول المهام السياسية وأدارة الحكومة والدولة ولكنها لا تؤمن بنظرية المؤامرة السائدة في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط العربي بانقلابات العسكرتارية العبثية ولكن الخنزير لا يصدق ويصرخ أين هي؟ والثاني القرد لُه دور (لوكي بلا حدود) أومن ضمن جماعة وعاظ السلاطين الآنتهازية وصيد المواقف النفعية طالما هناك وفرة من الموزفي الغابة، والأخير الحمار كلفته حكومة الخنزيربجميع الأعمال الشاقة لآنهُ صبور يفضل الصمت دوماً ولا يعترض ويصدق الحكومة بتطبيق الديمقراطية .

إن الروائي جورج أورويل صحافي وروائي بريطاني وناشط سياسي مهتم بالتأريخ والقانون الجنائي (الجزائي) وهو معارض للحكم الدكتاتوري الشمولي ويحذر دوماً لعدم حجب حرية الرأي والتغاضي عن العدالة الأجتماعية وأيمانهُ بالأشتراكية الديمقراطية (اللبرالية الحديثة) كتب أورويل في النقد الأدبي والشعر الخيالي والصحافة الحديثة، وأشتهر بأنجازهِ الديستوبي (رواية 1984)التي تنبأ بحلول التعسف والظلم وحكومات الشمولية الدكتاتورية وأحتلال الجارة الكويت والحصار الأقتصادي الظالم وعدد من الأنقلابات العسكرية في دول أمريكا اللاتينية، وأزمة الأقتصاد العالمي وأستحواذ الأمبراطورية الأمريكية على منابع الطاقة في الشرق الوسط لذا سمي (أورويل) على الصعيد الثقافي والأدبي (بمتنبي الغرب)، وأخيرا هذا مقتبس بحق جورج أورويل من كتاب (شخصيات لها تأريخ) للكاتب السوري جلال أمين {... إن صانعي القرن العشرين كثيرون منهم ستالين وهتلر وأنشتاين وبيكاسو: بيد أن قليلين هم من عبروا عن ضمير القرن العشرين ومنهم وعلى رأسهم الكاتب والمفكر الروائي والاعلامي " جورج أورويل "

ملخص الرواية: إن حيوانات المزرعة قررت ثورة ضد مالك المزرعة الذي يسومهم سوء العذاب حيث التجويع والعمل المضني والضرب والتعسف فاجتمعوا تحت قيادة كبير الخنازيرالمهيب (أولد ميجور) هكذا أسمهُ دعى الحيوانات إلى الثورة على صاحب المزرعة الفض والمتوحش والسكير المخمور دوماً وهو ديكتاتورومهمل ومستبد فنجحت الثورة، وبذلك صرح رئيس الحكومة الخنزير (أولد ميجور) فقد محونا الجوع والأستبداد، وشكل حينها كبير الخنازير الحكومة من عائلته ومقربيه من الخنازير فقط، وقسم الأعمال والواجبات بين باقي الحيوانات يعني تكريس المحاصصة بشكلٍ مميز، وأصدر لائحة قوانين وتعليمات للثورة:

1- كل من يمشي على رجلين هو عدونا.

2- كل من يدب على أربعة وله جناحان إنما هو من الأصدقاء .

3- على الحيوان أن لا يقتل حيواناً آخر .

4- وقت العمل نهارا ولمدة 12 ساعة .

5- عدم تشغيل الأطفال من الحيوانات الصغار.

6- كل الحيوانات سواسية .

7- الآدارة السياسية من حصة الخنازير وباقي الحيوانات عليها العمل ومن لا يعمل لا يُعلفْ .

8- يشطب أسم مزرعة الحيوان لآنهُ لا يعنينا .

9- الأعمال الشاقة صارت من حصة الحمار.

10- إن جميع الحيوانات متساوية بالحقوق والواجبات ما عدا بعض الحيوانات المميزة بالشراسة والجريمة كالأفعى والذئب أو حيوانات ذات تكتلات حزبية فئوية شعبوية، وترميزة أورويل هنا أغلب حكومات العالم الثالث الأنقلابية لبست جلباب ما قبلها من الحكومات الشمولية مثل مابعد سقوط ثورة تموزعام 58 في العراق وثورة يوليو 52 في مصر العربية، وسوف لن أشرح مغزى فقرات الرواية إلا للضرورة، أطلب من المتلقي اللبيب أن يقرأ ما بين السطور ويكتشف (رمزية) وترميز الروائي البريطاني الحاذق، وماذا يقصد بكل عبارة في روايتهِ " مزرعة الحيوان " والذي أبدع في تقسيم الأدوار بين أبطال الرواية والذي حذر حكومة المزرعة ونبهها من خطر الأعلام لأنهُ أساس المخرجات السيئة للعولمة الحداثوية وهم ضد السامية في أغلب الأوقات الذي يقلق الحكومات ويفقدها التوازن إذن يكون الآعلام في معسكر الخصم، وإن تشكيلة أورويل لحكومة المزرعة من الخنزير والقرد والحمار وهي تشبه سفينة نوح فيها من كل زوجين أثنين ذكر وأنثى عدا بني البشر.

أبدع أورويل في شخصية الحمار الذي بقى طول الرواية يعمل بجد وهو ساكت دون المشاركة بأي نشاط أو نقاش أو أبداء رأي أو وجهة نظر، وهو يصدق الحكومة في تطبيق الديمقراطية، إن من يقرأ الرواية يعتقد بأن الحمار أغبى شخصيات الرواية حتى يتبين في نهاية المطاف إن الحمار كان مستوعباً لكل شيءٍ حولهُ، كان قد فهم أكثر من غيرهِ كيف تجري الأمور لذلك فضل (الصمت) لأنهُ فهم أيضاً لا جدوى للكلام، والمغزى الترميزي لدى المفكر أورويل:... وتظل الوحدة أجمل والصمت أرقى والكتمان يحفظ السر، ويقول غابريل ماركيز في الصمت: ليس كل صامت غير قادر على الرد هناك من يصمت حتى لا يجرح وهناك من يصمت لآنهُ يتألم والكلام يزيدهُ ألماً، وهناك من يعلم أن الكلام لن يفيدهُ إن رد .

لقد دب الخلاف لاحقا بين الخنازير المتنفذة وأنقسموا إلى تكتلات شعبوية متصارعة بالتسقيط السياسي وآلت الحكومة إلى الأضمحلال بسبب التمرد وفي آخر اللحظات الحرجة ظهر خنزير بري متوحش وقوي جداً أستولى على الحكم سمي بالملك المنتصر الذي أستعمل مبدأ الحديد والناربالتصفية الجسدية للمتمردين وأقنع رعيته بأن أستعمال العنف السياسي ضروري لأدامة الملك، والمغزى المشفر عند الروائي الفذ أورويل: إن أغلب الثورات في العالم الثالث قد مرَتْ بهذه الأرهاصات السياسية والفكرية

***

عبد الجبار نوري

كاتب وناقد أدب عراقي مغترب

مايس 2024

يلعب الأب أوبو دورا هاما في مسرحيات أوبو ملكا؛ أوبو زوجا مخدوعا؛ أوبو مقيدا للكاتب الفرنسي ألفريد جاري

إن مسرحيات ألفريد جاري مسرحيات أوبو عبارة عن سلسلة من الأعمال الدرامية العبثية التي عُرضت لأول مرة في باريس في نهاية القرن التاسع عشر.

تتكون الثلاثية من أوبو ملكا أوبو زوجا مخدوعا وأوبو مقيدا، وتتبع مآثر الشخصية البشعة والاستبدادية، الأب أوبو. تشتهر مسرحيات جاري بتخريبها للأعراف المسرحية التقليدية ودفعها لحدود التوقعات، وتحدي الجماهير لمواجهة عبثية ديناميكيات السلطة، والأخلاق، والأعراف المجتمعية. خلال مسرحيات أوبو، يستخدم جاري الفكاهة السوداء والشخصيات المبالغ فيها للسخرية من الفساد السياسي والجشع وإساءة استخدام السلطة.

 يستكشف هذا المقال المواضيع والتقنيات التي استخدمها جاري في هذه الأعمال المميزة، مع التركيز على كيفية استمرار صداه في منهجه غير التقليدي للمسرح مع الجماهير المعاصرة. من خلال الخوض في عالم الأب أوبو السخيف وتحليل التعليقات المجتمعية المضمنة في مسرحيات جاري، يمكننا الحصول على فهم أعمق للأهمية الدائمة لمسرحيات  أوبو في سياق المشهد الاجتماعي والسياسي المتغير باستمرار في يومنا هذا.

مسرحيات أوبو

إن مسرحيات ألفريد جاري "مسرحيات أوبو" عبارة عن سلسلة من الأعمال الدرامية الساخرة والسخيفة التي تسخر من السلطة والسلطة والأعراف المجتمعية. تصور المسرحية الأولى في السلسلة، "أوبو ملكا"، صعود وسقوط الشخصية البشعة والمتعطشة للسلطة، الأب أوبو. على الرغم من افتقاره إلى الذكاء والبوصلة الأخلاقية، تمكن أوبو من التلاعب والمناورة في طريقه ليصبح ملك بولندا. ومع ذلك، فإن فترة حكمه لم تدم طويلاً لأن أفعاله الاستبدادية والأنانية أدت إلى سقوطه.

في "أوبو زوجا مخدوعا"، المسرحية الثانية في السلسلة، يواصل جاري السخرية من ديناميكيات السلطة والحماقة البشرية. تتبع المسرحية محاولات أوبو للحفاظ على مكانته وسيطرته على من حوله، لكنه يفشل مرارًا وتكرارًا بطرق كوميدية وغريبة. من خلال تصرفات أوبو السخيفة والسخيفة، يكشف جاري عبثية السلطة ونقاط ضعف الطبيعة البشرية.

 أخيرا، يستكشف فيلم "أوبو مقيدا" رحلة أوبو وهو يواجه عواقب أفعاله ومحاولاته الهروب من القيود التي صنعها بنفسه. من خلال الفكاهة السوداء والصور السريالية، يتعمق جاري في مواضيع السلطة والفساد والطبيعة المدمرة للغطرسة.

بشكل عام، تعد مسرحيات أوبو بمثابة نقد لاذع للهياكل المجتمعية والسلوك البشري، وذلك باستخدام السخافة والسخرية لتسليط الضوء على عيوب وإخفاقات من هم في السلطة. لا يزال نهج جاري الفريد والمبتكر في المسرح يتردد صداها مع الجماهير اليوم، مما يذكرنا بمخاطر السلطة غير المقيدة وأهمية التشكيك في الوضع الراهن.

أوبو ملكا:

مسرحية ألفريد جاري "أوبو ملكا" هي استكشاف فوضوي وسخيف للقوة والجشع والوحشية. إن شخصية أوبو، الشخصية البشعة والمستبدة، تجسد أسوأ جوانب الطبيعة البشرية. يعد صعود "أوبو" إلى السلطة من خلال القتل والتلاعب بمثابة تعليق لاذع على المدى الذي سيذهب إليه الناس من أجل إشباع رغباتهم الخاصة. المسرحية مليئة بالفكاهة السوداء والهجاء، حيث يشوه جاري نفاق وفساد من هم في مناصب السلطة. تصرفات أوبو مدفوعة بالجشع المطلق والتجاهل التام لرفاهية الآخرين، مما يجعله شخصية حقيرة حقا. على الرغم من سلوك أوبو المستهجن، إلا أن هناك شيئًا مقنعا بشكل غريب في شخصيته. إن طموحه الجامح وتجاهله المخزي للأعراف المجتمعية يجعله بطلا رائعا، مما يجذب الجمهور إلى عالمه الملتوي. من خلال "أوبو ملكا"، يجبرنا جاري على مواجهة الظلام داخل أنفسنا والمجتمع ككل. تعد المسرحية بمثابة تذكير صارخ بالقوة التدميرية للطموح الجامح والتهديد الدائم للاستبداد. وبهذه الطريقة، تظل "أوبو ملكا" عملا خالدا ومثيرا للتفكير ولا يزال يتردد صداه لدى الجماهير اليوم.

أوبو زوجا مخدوعا:

في مسرحية ألفريد جاري "أوبو زوجا مخدوعا"، نرى استمرارا للتصرفات الغريبة السخيفة والغريبة للشخصية الفخرية، الأب أوبو. هذه المرة، يجد أوبو نفسه وسط مؤامرة تنطوي على الخيانة والتلاعب والانتقام. تتعمق المسرحية في موضوعات الخيانة الزوجية، وديناميكيات السلطة، وعواقب الجشع والطموح الجامح. كما يوحي العنوان، يتم خداع الأب أوبو من قبل زوجته، الأم أوبو، مما يؤدي إلى سلسلة من الأحداث التي تكشف المزيد عن وجوده الفوضوي بالفعل. لا تمثل الخيانة بمثابة ضربة لغرور أوبو فحسب، بل تكشف أيضا عن هشاشة هيمنته وسيطرته المتصورة. من خلال هذا الفعل من الخيانة الزوجية، نشهد هشاشة ذكورة أوبو وانعدام الأمن المتأصل الذي يدفع أفعاله. علاوة على ذلك، يستكشف فيلم "أوبو زوجا مخدوعا" عواقب سعي أوبو القاسي للحصول على السلطة والثروة. إن هوسه بالمكاسب المادية وتجاهل النزاهة الأخلاقية يؤدي في النهاية إلى سقوطه، حيث تعود أفعاله لتطارده بطرق غير متوقعة. تعتبر المسرحية بمثابة حكاية تحذيرية حول مخاطر الطموح الجامح والطبيعة المدمرة للرغبات الأنانية. بشكل عام، تقدم أوبو زوجا مخدوعا تعليقا كوميديا قاتما ومثيرا للتفكير حول الطبيعة البشرية وعواقب أفعالنا. إنه يتحدانا للتفكير في تأثير خياراتنا وتكلفة التضحية بقيمنا من أجل مكاسب شخصية.

يتألق ذكاء ألفريد جاري الذكي وتعليقاته الاجتماعية اللاذعة في هذا الاستكشاف السخيف والمؤثر للحماقة البشرية.

أوبو مقيدا

في مسرحية ألفريد جاري الأخيرة لأوبو، "أوبو مقيدا"، نرى الشخصية المميزة، الأب أوبو، يواجه عواقب حكمه الاستبدادي وأفعاله العنيفة. مع بدء المسرحية، يجد أوبو نفسه مسجونا ومقيدا بالسلاسل، ومجردا من سلطته وسلطته. يمثل هذا خروجا كبيرا عن مسرحيات أوبو السابقة، حيث كان أوبو قادرا على التصرف دون عقاب وإحداث الفوضى دون خوف من الانتقام. طوال المسرحية، يتصارع أوبو مع ضعفه المكتشف حديثا وفقدان السيطرة. إنه مجبر على مواجهة عواقب أفعاله والأذى الذي ألحقه بالآخرين. بينما يكافح من أجل التصالح مع سقوطه من السلطة، يواجه أوبو حقيقة موته والطبيعة العابرة لحكمه الاستبدادي. يستخدم جاري مأزق أوبو لاستكشاف موضوعات السلطة والفساد وقدرة الإنسان على القسوة. من خلال تقييد أوبو، يسلط جاري الضوء على الطرق التي يمكن أن تكون بها السلطة جاذبة ومدمرة في نهاية المطاف. تعتبر سلاسل أوبو بمثابة استعارة للقيود التي تربطنا جميعًا، سواء كانت جسدية أو اجتماعية أو نفسية. وبينما يتصارع "أوبو" مع قيوده، فإنه يضطر إلى مواجهة حقيقة أفعاله وتأثيرها على من حوله. من خلال عملية التأمل والمحاسبة الذاتية هذه، يبدأ أوبو في تجربة تحول، وإن كان مترددا.

 يقترح جاري أنه حتى أكثر الحكام استبدادا ليسوا بعيدين عن الخلاص، وأن هناك دائما إمكانية التغيير والنمو. في "أوبو مقيدا"، يجبرنا جاري على مواجهة عواقب أفعالنا والطرق التي يمكن أن تفسدنا بها السلطة وتدمرنا في النهاية. من خلال تقييد أوبو، يتحدانا جاري للتفكير في قدرتنا على القسوة والطرق التي يمكننا من خلالها التحرر من القيود التي تقيدنا.

في الختام، تعتبر مسرحيات ألفريد جاري وتحديدا "مسرحيات أوبو" بمثابة نقد مؤثر للسلطة والجشع والعبثية في المجتمع. من خلال شخصية أوبو الغريبة والمتنافرة والمتناقضة، يدعو جاري القراء إلى التفكير في العواقب المدمرة للطموح والطغيان الجامحين. ولا تزال المسرحيات ذات أهمية اليوم كما كانت قبل أكثر من قرن من الزمان، لتذكرنا بأهمية تحدي السلطة والوقوف في وجه الظلم. يستمر عمل جاري الرائد في إلهام الجماهير وإثارة التفكير النقدي حول حالة العالم من حولنا.

والحياة مليئة بأمثال أوبو، ومصيرهم لن يكون بأحسن من مسرحيات ألفرد جاري... والسجلات التاريخية خير دليل على ذلك.

***

محمد عبد الكريم يوسف

الأديب حسن مروّح يكتب بصمت، ويعيش بصمت أيضا، ولكنّ حروفه تنزف وجعا من حدة التجارب المختلفة التي عاشها ولامسها عن كَثَب، فأنتج مجموعات قصصية ومجموعة من الروايات التي مازالت مجرد مخطوطات بسبب ضيق ذات اليد، ولعل هذه الرواية الوحيدة التي استطاع طباعتها من خلال مطبعة (أور للطباعة والنشر) والتي تتناول مسحا لجزء من حرب الثمان سنوات بين العراق وإيران.

تلك الحرب التي غيّرت من طبيعة النسيج الاجتماعي العراقي، وساهمت في تجميد الزمن، وجعله مجرد عَتَبة لانتظار عقيم. الرواية لا تتناول الحرب بشكل مباشر، ولا تصف أحداثها من انتصارات أو هزائم أو كرّ وفر، فلا نسمع فيها صرير الدبابات ولا صراخ المدافع ولا ضجيج الطائرات ولا انفجار الألغام، لا نسمعه ونستشعره، فهو يحيط بنا، لأنه يصف هامش الحرب التي تبدو بأنها أكثر رعبا، باعتبارها تمثل هواجس الجنود المرابطين عند خطوط النار، واضطراب مشاعرهم الإنسانية، واجتثاث أحلامهم، وشلّ عواطفهم، والانغماس الكلي في محو الرمق الأخير من مشاعر الرقة والعواطف والمحبة ومشاعر الأخوّة بينهم، وكأن هناك حربين؛حرب مع الأعداء في الجانب الآخر، والذي لا يُسمع منه سوى أصوات الأذان أو صليل المدافع المتقطعة، أما الحرب الثانية، فهي التي تتمثل في الخوف والتوجس وعدم الثقة بين عسكر السرايا أنفسهم، وطبيعة التعامل اليومي بينهم في ظل قسوة الظروف المحيطة، والذي تتمثل في غياب أو بروز صفات الأخوّة والنبل والرجولة والشهامة والصدق. لقد أخفت الحرب هذه الصفات واحلت محلها صفات هجينة تتميز بالأنانية والحقد والكراهية، إنها الحرب التي تتسرب إلى أعماق من يكتوون بها، وتجعلهم لا يفكرون إلا بالنجاة بأنفسهم دون سواهم.3867 حسن مروح جبير

سامي عبد المجيد بطل الرواية الذي وجد نفسه في أحد المواقع العسكرية المواجهة للجيش الإيراني. وهو يقوم بسرد الوقائع اليومية، وكأن يقوم بكتابة ريبورتاج صحفي يخلو من الأحداث التي تشدّ بعضها في نسيج روائي ينمو ويتصاعد، فليس ثمة محاور سردية، مما جعلها بدون حكاية محورية تضبط الإيقاع، لذلك جاءت الأحداث مبعثرة على الثلاثة والعشرين فصلا، دونما تلتصق بخيط روائي يربطها مع بعضها، ويوفر للقارئ متعة سردها. فهي أقرب إلى اليوميات التي تصوّر أيام الحرب وانعكاساتها . ورغم ذلك فالكاتب قدم لنا لوحات فنية، عبّر فيها عن عمق المكان، من خلال القدرة على تصوير بؤس جبهات القتال والذي يتجلى في عفونة الملاجئ وبشاعتها، وروائح الدم الذي يلتصق بأسمال الموتى، وتفسخ الأغذية التي توزع على الجند، وتسرب بعض الوحوش الضارية الى الملاجئ للبحث عن طعام لها. كما حفلت الرواية بلمحات فنية عبرتيارات اللاوعي التي تجعل البطل يعيش في زمنين متجاورين؛ الواقع المُعاش بكل قسوته وخشونته، وغياب الإنسانية فيه، وبين الحلم ووهم الذكريات بكل رحابتها وإنسانيتها وقدرتها على انتشال المرء من أغلال اللحظة.

الزمن ينشطر في السرد حتى يمتزج ويتغلغل في الأمكنة بنسق حكائي يرافق رواية الأحداث من بدايتها إلى نهايتها، ويتشكل على هيئة حوارات داخلية بين سامي عبد المجيد وعوالمه المتخيلة، والتي تحف به كلما تعرض للانكسار، فيصبح الهروب من بؤس اللحظة سبيلا للتغلغل بين ثنايا الذكريات والتعلق بالأمومة، والحنين إلى حياة المدينة والبيت والشارع، والتعلق بخيال امراة، أو النزوح إلى الطفولة وذكرياتها الجميلة. كل ذلك نجده في الرواية حتى تشتبك الوقائع بالأخيلة، ويتحد الحاضر بالماضي. ورغم أن هذا الأسلوب ينأى عن المباشرة والتسطيح في السرد، ولكنّه من زاوية أخرى يغرق ذلك السرد بالابهام، ويعرقل السيولة في ترتيب الأحداث.

ورغم انهماك الرواية بهموم سامي عبد المجيد كشخصية محورية حيث يُجَنّد في القتال من أجل الوطن كبقية أبناء جيله، ولكنه يشخّص فداحة الحرب، ويصف أهوالها المدمرة على نفسية المقاتل ولاسيما حينما يشعر بأنها حرب عبثية ولا يمكن القبول باستمرارها، وحينما يجد نفسه في الجبهة وضمن إحدى السرايا المقاتلة. ومن هناك نُطل على حافة عوالم بائسة وظروف تفتقر إلى مقوّمات الحياة البشرية، فالخنادق الآسنة، هي التي تطمر أرواحهم في التراب، وتقي أجسادهم من الموت. والملاجئ المتعفنة، وسواتر الحجر والتراب، وأمامهم الأرض الحرام التي تزدحم بالألغام وبفوهات الموت المصوّبة باتجاههم، يُضاف إلى ذلك طبيعة ضباط ومراتب السرية الذين يمارسون القسوة والكراهية والحقد على بعضهم البعض، ولكنهم في نفس الوقت ينافقون بعضهم، بروز الأنانية في أسوأ تجلياتها، وظهور حالات من الشذوذ الجنسي بين بعض العاملين هناك، لقد رسم الكاتب عوالم تعيش في مستنقعات الذات البشرية الهشة، حيث الفضاء الملوّث بغبار الحرب والحقد والخوف والتمايز المقيت، لا ضوابط للعلاقة سوى أمزجة لنفوس تعاني من أمراض الكبرياء والتفوق، حيث يصف لنا سامي بأن آمر السرية يمقته، ويُكثر عليه الواجبات الخطرة مثل وضع الكمائن عبر حقول الألغام، أو الحراسات أو الأعمال الشاقة، وفي نفس الوقت يعامل البعض بمعاملة أخرى. ومثلما رسم عالم القسوة متمثلا ببعض الأسماء من أفراد السرية، فقد رسم صورا لبعض زملائه، ضحايا الإرهاق والتعسف والموت، فقد استشهد البعض منهم في معارك لم يصفها الكاتب، بل اكتفى بوصف ما تركه الشهيد من ملابس ملوثة بالدم.

ولكي لا يستغرق الكاتب في روايته في وصف البؤس فقد وصف لنا بعض المشاهد والدعابات والمفارقات التي تحدث في خضمّ القسوة، ولم يتورع في دندنة لبعض الأغاني الشائعة، مما يوحي بأن ثمة مسامات لقشرة البؤس، يستطيع الإنسان أن يستنشق بعض حريته منها.

لقد كانت الأحلام رفيقة لسامي عبد المجيد بطل الرواية في هذا الخواء المطلق، حيث لا روح ولا أمل، بينما الموت يترصد الجميع في كل لحظة، وليس ثمة ما يعزيه سوى اختراق هذا الواقع والسفر بعيدا عبر الذاكرة ومحاولة ترطيبها بحكايات الطفولة والمدرسة، وجدران البيت وحنوّ الجيران ووداعتهم، والمرأة التي تشكل عشقا مستحيلا، فهو يستحضرها في أخيلته ويناجيها ويقاسمها همومه، ولكنه حينما ينعتق ذاهبا في إجازته الدورية، وحالما يصل إلى بيته حتى يستسلم لنوم عميق بفعل الإرهاق والخوف وسوء المعاملة، تطارده في إجازته أيام المعسكر وأسماء الذين مارسوا قسوتهم ضده، كما تطارده أصوات المدافع وعجلات سيارة الايفا وهي تحمل المؤنة التي تعفنت بفعل العوامل الخارجية، يطل عليه( اليربوع والأحيمر وعامر جبل وشوكت) وغيرهم من الأسماء التي جعلها القدر تقتحم حياته وتؤثر فيها.بينما لا يجد في بيته أثناء الإجازة إلا ضغط العيش على أهله وجيرانه. وحتى الحبيبة التي حلم بملاقاتها كي تمنحه بعض الدفء، لم يجدها ولم يجد يدا حنونة تزيح بعض أوجاعه. فيعود إلى المعسكر مثقلا بهموم مضاعفة، ولكنه يجد أن ضابطا كبيرا رأى اللوحة التي خطها في مقدمة المعسكر، فأُعجب بها، وأمر بنقله إلى معسكر آخر.

(الطريق الذاهب شرقا) عمل روائي يتأمل فاجعةَ الحرب وتأثيراتها الكارثية على الإنسان، حيث تحوّله إلى حطام بشري، وقد اكتنز بحشد من التناقضات التي أفرزتها تلك المرحلة، كما استخدم الروائي حسن مروّح كل إمكاناته الأدبية في تطويع اللغة لتعبر عن فاجعة الحرب وعن معاناة الجنود الذين اكتووا بجحيمها، وكان بالإمكان أن يكون العمل أجمل لو تخلص من الإعادة والتكرار لبعض المواقف والمشاهد غير الضرورية. ولكنّه في كل ذلك كان صادقا مع نفسه في التعامل مع الحدث، مستخدما صياغات فنية تدل على احترافية عالية في كتابة الرواية.

***

رحمن خضير عباس – ناقد

كندا

عرفنا الرواية الفلسطينيّة على مَدار النّصف الثاني من القرن الماضي، القرن العشرين، رافعةً مشعلَ المعرفة، ومُنبّهةً الذاكرة، ومُستنهضةً الهمم، وباعثة الأمل، وراسمة دربَ المستقبل الواضحَ الطّريق. ولم تكن صرخةُ سائق الشاحنة في رواية "رجال تحت الشمس": لماذا لم تدقّوا الخزّان!؟ إلّا الصّرخةَ المدوّية التي أرادها غسان كنفاني: أنْ كفانا اتّكاليّةٌ على الغير، وانتظارُ رحمةِ الرّب، وأنّ علينا أنْ نأخذَ أمورَنا بأيدينا لتحقيقِ أهدافِنا التي نعمل لأجلها.

بهذا الاتّجاه الذي رسمه غسان كنفاني انطلقت معظمُ الرواياتِ الفلسطينيّة ترسمُ خطى الحاضرِ لتنطلقَ نحو المستقبل، عازفةً عن العودة للماضي الموجعِ للقلوب لتكونَ الاندفاعةَ لمستقبلٍ أقوى وأجْدى.

وكان اتّفاقُ أوسلو، وسقط الحلمُ على أرض الواقع، وتعثّرت خطواتُ المقاتل على أرض المعركة، وتراجعت الآمالُ لتتَقزّمَ في واقع لا يرحم. وكانت الصّرخاتُ المتألّمةُ التي أطلقتها شخصيّاتٌ صدمها تكسيرُ الحلم الكبير على أرض الواقع في الوطن الغريب كصرخة بطل رواية "نهر يستحمّ في بحيرة" ليحيى يخلف "أنا العائدُ أقفُ ضائعا في شارع من شوارع وطني، أشعر بالغربة والوحدة، أشعرُ بالرّغبة في البكاء" (ص26).

وصوّرت الروايةُ الفلسطينيّة نكسةَ الفلسطيني واختزالَ حلمه الكبيرِ في وطن يتكوّنُ من بَلداتٍ مُتقَطّعة تحرسُها حرابُ جندِ الاحتلال، وليس للفلسطيني إلّا أنْ يقبلَ بالواقع ويرضى بما يمُنُّ عليه المحتلُّ الغريب.

فراح الفلسطينيّ يهربُ من واقعه ليعودَ ليبحثَ في الذّاكرة، ويسردَ سيرَ الآباء والأجدادِ لعلّ في استحضارهم تعزيةً للحاضرين، وتعويضا لكلّ ما فقده من حلم ٍكبيرٍ أمِلَ أن يكونَ الذي يُجَسّده على أرض الوطن. مثل: ("فرَس العائلة" و "مديح لنساء العائلة" لمحمود شقير، و"ترانيم الغواية" لليلى الأطرش، و "سيرة بني بلوط" لمحمد علي طه، و"زمن وضحة" لجميل السحلوت.)

يحيى يخلف خلال حياته اليوميّة والأدبيّة عاش هذه المراحلَ المتغيّرةَ، عايش حلمَ الشابّ العربي المتوقّدِ ثورةً وعطاء وتضحية في "نجران تحت الصّفر" ورافق الفدائيّ المندفع نحو تنفيذ المهمّاتِ الكبيرة دون وَجَل في "تفّاح المجانين" وشارك المقاتلين الواثقين بانتصار قضيّتهم وتحقيقِ أهدافهم في "نشيد الحياة". ولكنّه عاد وعايشَ صدمةَ انكسار الحلم الكبير وتقزيمه في "نهر يستحمُّ في بحيرة" وبكى وخافَ فقدانَ البطلِ الأب في "تلك الليلة الطويلة" وظلّ يرصدُ التّحوّلاتِ والتّقلبّاتِ، ويكتبُ ويستفيد من الأحداث وتراكماتها، ويتمزّقُ لحالة العرب التي وصلوا إليها بعد تمزّقِ ما اعتقدوه ربيعا عربيّا فكان خريفا قاتلا.

يحيى يخلف ليس الكاتبَ والمفكّرَ الذي يتجمّد أمام النّظريّات والمقولاتِ والمواقف. بل هو صاحبُ الفكر الثوري النيّر الذي يستوعبُ ويستفيدُ ويتعلّمُ ويخرجُ بنتائجَ قَيّمةٍ. يحيى يخلف عرف أنّ الواقعَ المعيشَ لا أملَ لنا فيه، وأنْ نبني مستقبَلَنا على ما هو قائم من ضروب المستحيلات. لهذا وجد أنّ البناءَ يجب أن يكونَ من الأساس، من البدايات، طوبة فوق طوبة كما نقول. وأنّ الحياةَ والصّراعاتِ والانكساراتِ والنّكَساتِ والأحلامَ الكبيرةَ المتكسّرةَ عَلّمَتْنا كيف نُعمِلُ العقلَ ونُهدّئُ الطاقةَ المشتعلةَ فينا لنعرفَ كيف نرى طريقَنا وكيف نتعاملُ مع مَنْ حولنا لنبنيَ لنا الحياةَ الجديدةَ التي قد تكونُ التي نريدُ أو قريبةً منها.

وكانت رواية يحيى يخلف الجديدة "راكبُ الرّيح". واعتقدتُ لأوّلِ وَهْلةٍ أنني سأقرأ روايةً بطلُها مَسْحوبٌ من عالمِ ألفِ ليلةٍ وليلة وأساطيرَ بعيدةٍ في الأزمنة، أو من أجواءِ دون كيخوت أو حتى رامبو زماننا.

ووجدتُني أنسابُ مع اللغة الجميلة الموقّعة، وأقلّبُ الصفحاتِ الواحدةَ تلو الأخرى، وأختار رِفْقةَ يوسفَ في قَفْزه  فوق السّور والغَوْص العميق في البحر، وفي مواجهةِ الحوت وملاحقةِ الفتياتِ واللهو مَعَهن، واسْتراقِ القُبَلِ من أجملهِنَّ حتى وجدتُ نفسي ويوسف تأخذنا سِنَةٌ من النوم، ولم نستقيظْ إلّا وطابورٌ من الجواري الحسانِ تُحِطْنَ بنا.

يوسف الشخصيّة التي رسمها الكاتب بدقّة

يوسف هو الشخصيةُ الرئيسيّةُ ومركزُ أحداث الرواية. شخصيّةٌ اختارها الكاتب بدقّة وحساسيّةٍ لتكونَ كاملةَ الأوصاف. فمولده كان في مدينة يافا يومَ احتلّها القائدُ المصري محمد بك أبو الذهب من يد ظاهر العمر وأعادَها لحظيرة الخليفة العثماني(ص5). ويومها كانت مدينة يافا تمتاز بالحركة النشطة في مختلف مجالات الحياة، وكانت معروفة بتنوّع أهلها، ففيها تجد العربي والتركي والألباني والشّركسي والأوروبي، المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي، وتسمع تخالطَ اللغات وتَداخلها، وتلمس بسهولة مَحبّة الناس وتعاونهم، ولكن تشهد أيضا تعدّيات جند الأنكشارية على السكان ومحاولة فرض رغباتهم وأوامرهم، وضعف حكم الوالي العثماني أمام جبروتهم.

والدُ يوسف عمل في التجارة، وأمُّه بهنانة اعتنت بولدها وربّته أحسنَ تربية. تعلّم في حلقات الدّراسة في الجامعِ الكبير على يد كبار العلماء والفقهاء ورواة الحديث، فتعلّم الفقهَ واللغةَ والعلوم. وأرسله والده أيضا إلى مدرسة الراهبات فتعلّم اللغةَ الفرنسية. عشق الخطَّ العربي فتعلمَ خطَّ الثلث وخطَّ النّسخ وباقي الخطوط العربية، وتعلّم الرسمَ وأتقنَ الرسم بالفحم وبألوان الشّمع وألوانِ الزّيت، واشتهرت رسوماته، وزار مرسمَه أبناء الطبقات الغنيّة ومحبو الفنون. كما أحبَّ يوسف البحرَ وأحبّ القفزَ من الأعالي إلى البحر.

كان يوسف وسيما، جميلَ الطلعة، يمتلك عيني صقر، وحاجبين مرسومين كأنهما خُطّا بقلم، وجبينا كالفضّة، وشعرا كستنائيّا، وأنفا مستقيما. وفَمًا دقيقَ الشّفتين. ويبدو بقفطانه الأبيض والطّاقيّةِ الحمراء المشغولة بصِنّارة بهنانة، والشّالِ الأخضر الذي يُزنّر وسطه، مثلَ أمير من أمراء الأستانة، بل إنّ النساءَ من أحباب بهنانة كنّ يُشبّهنَ جمالَ خلقته بجمال النبي يوسف، الذي عشقته النساءُ حتى الذّهول(ص7). وما أنْ وصل إلى مرحلة الشباب المبكّر، حتى اكتسبَ لياقة وجسما مفتولَ العضلات، وبنيةً متينة، وجرأةً تفوّق فيها على أقرانه، خصوصا في رياضة القَفز من أعلى أسوار يافا إلى المياه العميقة. (ص8) وبهر الجميعَ بقَفزه ، وذات مرّة وجد نفسَه بعد أنْ أتمّ قفزتَه وغطس، وسبح نحو عُمق البحر وجها لوجه أمام حوت انشقّت الأمواج عنه وصعد إلى السطح ، ظهر رأسُه الرماديّ وزعانفُ ظهره المنقطة وكان يفتح فكيه. داهم يوسفَ خوفٌ ورعبٌ، وارتبك. وبعد مواجهة صامتة بين يوسف والحوت، أغلق الحوتُ فكيه وتوقّفَ عن نَفْث الماء وسَكنتْ حركتُه ثم انسحبَ واختفى كأنّه لم يكن. انتشرت قصةُ الحوت في المدينة وردّدتها المجالسُ في كلّ مكان.

إضافة إلى كلّ ما ذُكر سكنَ جسمُ يوسف القَرينُ الذي أعطاه القوّةَ الخارقةَ التي كانت تظهر في حالات الحبّ أو الحرب الشديدة. وقد بهرَ بهذه القوّةِ كلَّ مَن عرَفه، وجذبت إليه كلَّ الناس، خاصّة الفتيات وجواري وسيّدات القصور.

يوسف اتّسم بمسحة إلهية، فهو شبيهٌ بالنبي يوسف بجماله وفتنته وعِشْقِ الفتياتِ له، وهو كالنبي يونس قابَلَ الحوتَ، لكنّ الحوتَ بُهِتَ وصمت وتراجعَ ولم يحاولْ إيذاءَ يوسف. وهو البطلُ المغوار حامي المدينة وأهلِها، مَنْ قتلَ جندَ الانكشارية عندما اعتدَوْا على السكان، وقتلَ جُنْدَ نابليون الذين عملوا على تدمير يافا وقَتْلِ أهلها، وانتقم للغزال بقتل الفَهد الذي تعرّضَ له.

وهنا يدخلنا الكاتب في عالم الخيال السّحري اللامعقول وعالم رامبو حيث نرى يوسف في مواجهته لجند الانكشاريّة، يجمع نفسه وطار في الهواء وسقط فوق رؤوسهم، وتحوّلت أذرعه إلى سيوف، وأرجله إلى خناجر. وأعمل فيهم، أوسعهم ضربا حتى طحنهم كما يطحن حجر الرّحى حبّات القمح، ومَن ابتعدَ ولّى هاربا، ونجا تاركا طبنجتَه وسلاحَه الأبيض."(ص131) كذلك قصّة قتل يوسف للفَهد الذي أراد قتلَ الغزال، كيف التقط السوطَ الذي يحمله سائقُ العربة وقفز إلى الأرض العشبية التي تجاور النّبع . وإذا شعر بقرب الفهد من الغزال وأنّ الخطر داهم، داهمت السخونة جسد يوسف، اشتعلت نيران بداخله، داهمته عاصفة وأثارت حوله زوبعة، نشطت حوله الريح، فقفز عاليا واعتلى الريح، وطار في الهواء عاليا، وحطّ على الأرض على بُعد خطوة من الفهد الذي كان قد قبض على الغزال وأوشك أنْ ينشبَ أنيابَه في حنجرته. رفع السّوطَ الذي داخله شواظٌ من نار عاليا، وبيد من حديد، ضرب الفهدَ الذي يوشك على الفَتك بالفريسة. ضربة على رأسه وطرَحَه أرضا وصار يتفعفل بدمائه. (ص230).

وقصّة يوسف مع جند نابليون حيث وصل بقَفزة واحدة، وتحكّم في طاقته، وتحوّلت أصابعه إلى صلابة الحديد، وأعمل فيهم ضربا بحركات خاطفة، فشَلّ قدراتهم، وأفقدهم توازنهم، وضغط على نقاط ضعفهم. وبسماع يوسف لطلقات المدفعيّة في النّطاق العالي من المعسكر اندفع يوسف. ركّز وشحن جسده بطاقة مغناطيسيّة تُعادل القوّة المغناطيسيّة للأرض، فانفلت من الجاذبيّة، وبقفزة واحدة كان في أعلى الجبل، وأعمل بأصابع يده الحديديّة توجيه الطعنات إلى الجنود الذين يتهيَأون لتلقيم المدفع، وبقفزة أخرى، أجهز على آخرين، وولّى مِنْ تبقّى الأدبار. (ص293).

وهو الإنسانُ النبيلُ الطاهرُ الذي رفض إيذاءَ الفتيات اللاتي أحبّهن وعرفَهن تماما كفعل النبي يوسف الطاهر الأمين الذي رفض ملاحقة الفتيات وحتى زوجة فرعون مصر له: فماري التي أظهرتْ عشقَها له ساعةَ جاءت لوداعه اكتفى بتمَنّي النجاح والتوفيق لها. وفيديا اكتفى بالإعجاب والفرحِ برؤيتها ولم يتعدَ ذلك. حتى العيطموس التي كانتْ أمنيةَ حياته وحُلمِه الكبيرِ وسعادتَه، اكتفى بتَقْبيل شفتيها في الصورة ليُظهرَ طهارةَ حبّه لها رغم أنّها كانت على استعداد لتُعطيه خدَّها ليُقبّلَه. حتى ذات السنّ الذهبيةِ التي عمِلتْ على إذلاله لم يقُمْ بالانتقامِ منها واجبارِها على ممارسةِ الحبّ معه، وانّما اكتفى بالحُلم ليُحقّقَ ذلك.

ويوسف كان رجل العلم والثقافة، فقد اهتم من صغره بإتقان لغات عديدة، وبرّز في الرسم وكذلك في السّباحة والغَوص، كذلك لم يكتف بما اكتسب من علم، واستغل مدّة الحكم التي صدرت ضده بإبعاده عن يافا، عقابا له على قتله لجند الانكشاريّة، بالتوجّه نحو مدينة دمشق حيث التحق بمدارسها وتابع دراسته. كما أنه استغل تنقّلاته للاطّلاع على الفلسفات المختلفة وخاصّة الهندية منها، وتعرّف على الحكيم الهندي وتلقى العلوم عنه التي أفادته في فَهم نفسه والتّحكّم بقُدراته وتصرّفاته.

مركزيّة المرأة في الرواية

تستحوذُ المرأةُ على القسم الأكبر من الرواية، وما يجمعُ بين كل النساء اللاتي كنّ في قلب الأحداث: الجمالُ والفتنةُ وحلوُ الكلام وجرأةُ الفعل وعُلُوُّ المكانة وغنى المال واستقلاليةُ التصرّف. وينقلنا الكاتب إلى هذا الجوّ الجميل لمجالس النساء الذي يُبعدنا عن هموم الحياة اليومية، ويطلعنا على حياة القصور وأصحابها وأبناء الطبقات الغنيّة والحاكمة التي لا علاقة لها بما يجري في واقع الحياة للناس العاديين.

ويُدخلُنا عوالمَ ألفِ ليلة وليلة ومخادعَ حريمِ السّلطان العثماني وهو يصوّرُ مشهدَ اللهو في المتنزه الطبيعي بين المياه والينابيع وحدائقِ الورد، حيث كان يوسف يلهو مع الفتيات ويمسك بأيديهن، ويمسّدُ شعورَهنّ، ويُداعبُ خدودَهنّ، وتلك الفتاةُ الحسناء بعينيها الواسعتين ونظراتِها التي تشبهُ المخالبَ، التي أغوته فرافقَها بالدخول إلى الغابة وانتهى اللقاءُ بينهما بقبلته الحارقة لأسفلِ رقبتها عند نحرها بجَمر شفتيه. ويصفُ كيف وجد يوسف نفسَه عندما استيقظ بعد تقبيل الفتاة ومُداعبتها محاطا بكوكبة من جواري القصر، ينظرن إليه بشغَف وانبهار، وقد أماطت كلٌّ منهن الخمارَ، فظهرت له وجوهٌ تركية وشركسيّة وقوقازية وألبانية. ألقت إحداهن عليه غصنا من شجرة ليمون تفتّحتْ عليه زهورٌ بيضاء. وألقت أخرى بعِرْق من الريحان، وثالثة بباقة من النّرجس البريّ(ص 13-14).

ورغم كثرة المعجبات بيوسف والمطاردات له من الحسان إلّا أنّه اهتمّ، وبدرجات متفاوتة بـــــ:

ماري: الفتاة الشقراء، بيضاء البشرة ذاتُ العينين الزّرقاوين. هي ابنةُ قنصل الدولة العليّة العثمانية في مدينة باردو بفرنسا، أمّها طبيبة فرنسية، وعائلتها تقضي عطلتَها الصيفيّة في منزلها الفاخر في البيوت المتدرّجة على التلّة. زارته ماري في مرسَمه مَع أمّها ثلاث مرات. في المرّة الأخيرة جاءت وحدَها. طرقت البابَ ودخلت بوجهها الطفولي، وعينيها الزرقاوين، وشعرها الأصفر، وأنفها الدّقيق، وفمها رقيق الشّفتين، وثوبها الفضفاض. وقالت إنّها جاءت لتودّعه لأنّها عائدة مع العائلة إلى فرنسا، واغرورقت عيناها وألقت بنفسها على صدره، فربّت يوسف على كتفها ومسح دمعَها وتمنّى لها رحلة سعيدة.(24)

العَيطموس: هي المرأة الأولى التي دخلت حياة يوسف، وقد عرفها عندما زارته مع ماري وأمّها فشدّت اهتمامه وشغلت تفكيره. امرأة كاملة الأنوثة(ص27)، كاملة الأوصاف، مانحة ومانعة، مقبلة ومدبرة معا. محافظة ومتحرّرة، ذاتُ عزّة وذاتُ بساطة معا. عينان يرفرفُ فيهما طائرُ عناق وطائرُ فراق. ملامحُ مظلّلةٌ بالقداسة ومظلّلة بالغواية. (ص65) مليحةٌ مثلُ تمايل غصن، مهفهفةُ الخصر، مصقولةُ الترائب، ضحكتُها مجلجلةٌ. إطلالتُها مُفْعمةٌ بنسيم الصبا. خفيفةٌ، رشيقةٌ. تسحرك ببسمة ثغرها، وتَلويحة ٍمن يدها، ورنّة من خلخالها، وهفهفةٍ من ردائها، وتأوّدٍ وتثنّ من قامتها. (ص67)

قالوا إنها يهوديّة، وقالوا إنها مسيحيّة، وقالوا إنها تعتنقُ البوذيّة. ولكنها شوهدت تمارسُ العبادةَ في مصلّى النساء الملحق بالمسجد الكبير في حيّ العجمي، وأسست تكيةً بجانب مسجد حسن بيك في المنشيّة.

ولا يعرفُ أحدٌ إنْ كانت تركيةً أم شركسيّة أم من أصول إغريقيّة. وهي ثريّةٌ تملكُ عقارات وأموالا وأسطولا من السّفن التّجاريّة، تحظى بحماية أمير البحر جركس باشا. (ص26)

أحبَّها الناسُ الفقراء والبسطاءُ لتواضعِها، كانت تتصدّق على المحتاجين، وتزورُ المرضى في البيمارستان، وتوزّعُ لحمَ الأضاحي في الأعياد. (ص28).

أعجبت برسومات يوسف، وطلبت منه أنْ يرسمها مقابل قبلة تمنحه إيّاها. استقبلته في قصرها، وجالسته العديد من المرّات، شجّعته على الصّبر وتحمّل صعوبة الابتعاد عن يافا وأهلها بعد صدور حكم الإبعاد ضده. أحبّت يوسف بصدق، ولكنها رفضت أيّة علاقة جسديّة معه.

المرأة ذات السّنّ الذهبيّة: وهي الجارة في دمشق: التي عاكسَته وتحدّته ودَعَتْه: اعتلِ السورَ وتعال إلى مخدعي عندما ينتصف الليل.(178).وبالفعل غامر وجاءها منتصفَ الليل فاكتشفَ خديعتَها له، ووقع في أيدي الحرس فسلّموه للجند ووُضع في المخفر.

لكنها عادت للتّحرّش به وطلبت منه أنْ يتبعها فتبعها دون تلكؤ. (ص189) ووصل معها إلى بيتها الفَخم، وإذ طلبت منه الجلوس سألها: مَنْ أنت، أنسيّة أم جنيّة؟ فأجابته: الاثنان معا، في النهار إنسيّة، وفي الليل جنيّة. وتابعت وهي تُنْشبُ مخالبَ عينيها في عينيه: أنا قاتلةُ الرجال، لا أذبحهُم بالسّكين، إنّما أذبحهُم بسلاح المتعة واللذة وطاقةِ الجماع. أذبحهم بناري وشبَقي. أمتصّ كلّ الطاقة الكامنة في أجسادهم. أنهكهم، فأنا بقوّة عَشر نساء. فهل أنتَ مستعدّ للموت اللذيذ؟ إنّني مزيجٌ من الإنس والجان. أنا مِنَ اختلاط نار البراكين بسواد الدخان. أنا في النهار (أندروميدا)، وفي الليل (ميدوسا). أندروميدا التي تَسقيك من عينيها خمرا، وفي الليل، ميدوسا التي تحوّلك إلى حجر. أنا ساحرةٌ ومشعوذة أعلمُ ما في الغيب وأكون قبيحةً وشريرة أحيانا، وفي أحيان أخرى، أكون مثلَ قطعة نقود ذهبية، سَكّها الحاكمُ الإغريقي سكاريوس الذي حكم بلدَكم يافا. أمّا أنتَ، فإنّك في مَنزلة بين منزلتين، من جهة جميلٌ ومُذهل، ومن جهة ثانية قبيحٌ وكاذب. يتعيّنُ أنْ تكونَ غامضا ومختلفا مثلي، نهارُك أسود، ومساؤُك أبيض."

وبعد الجلسة الحواريّة السّاحرة صدّته بعيدا، وطلبت منه أن يغادرَ بيتَها دون إبطاء، ودفعته بعصبيّة إلى الخارج. (ص194-196) لم يستطع التّسليم بهزيمته، فحلم بها، وأنّه قام باغتصابها بقوّة أفقدتها وعيَها وتوازنها. وعوّضَ بحلمه ما فاته في الواقع.

فيديا التي كانت في خدمة الحكيم الهنديّ، لفتت اهتمامَ يوسف بجمالها ولطفها، وأحسّ بحنين قويّ لها وهي تمسك بيده وتُعلّمه الرّقص، أحسّ وهو ممسك بكفّها والدّماء الحارّة تسري في عروقها، كأنّه يمسك عصفورا ينبض في يده. أحسّ بها. أحسّ برسائلِ الودّ التي تُرسلها إليه، باللمساتِ الرقيقة، والنّظراتِ العميقة. كان يخشى من هذه المغامرة. كان عليه أنْ يفكّرَ أكثر، وأنْ يتصرّفَ بحكمة، فلماذا تُلاحقُه نزوةُ المغامرة أينما ذهب، وحيثما حَلّ. (ص266)

المُميّز في رواية "راكب الرّيح"

"راكبُ الريح" روايةٌ تبدأ مرحلةً جديدة في إبْداع يحيى يخلف، وتختلفُ عن رواياته السّابقة بالكثير، وتتفرّدُ بــــ:

اللغة الممَيّزة، الجديدة، السّلسة المنسابة بإيقاعيّةِ الحروف والمقاطعِ ومَخارجها "غابتْ عنك. غابَ عطر. وغابت هالةُ غواية. وغاب سوادُ كُحْل، وكَرَزُ شَفَةٍ، وعقيقُ قرط، ولؤلؤٌ يُحيط بجيدِها النّبيل."(ص67). و"تدور وتدور معها عيناه، تدور لهفتُه. تتوقّفُ فجأة. تتوقّف عيناه على انفعالات وجهها، طائرُ الشباب يرفرفُ في عينيها، هالة سرور تُكَلّلُ قامتَها، فجأة، تُطلق هتافَ فرح وتكادُ تقفز وتطير، تهتف مثلَ صَهيلِ فرس، مثلَ حنينِ ناقة، مثلَ سَليلِ غزالة، مثلَ تغريدِ بُلبُلة"(ص98)، وباللغةِ الجميلة المتداوَلةِ المطعّمةِ بالتعابيرِ الشعبية (فَرْكة كعب)(ص52)

وبالتّعابير القديمة التي تزيدُ العبارة جمالا والمعاني عُمقا (مانحةٌ ومانعةٌ هي، مُقبِلةٌ مُدبرةٌ معا. محافظةٌ ومُتحرّرةٌ معا. ذاتُ عزّة وذاتُ بساط معا. عينان يرفرفُ فيهما طائر عناق وطائر فراق) (ص65).

ومزيّنةٍ باقتباسات (مشت أمامه خطوةً خطوة، كمَشْي قَطاة إلى غدير)(ص66) " ولعلّها بعيدةُ مَهوى القِرط"(ص175) " كأنّما الموتُ طحنَ المدينة بكَلْكله" "وعلى ليلٍ شديدِ السّواد يُرخي سُدولَه على خَوْف  ، ويُغْلقُ رتاجَه على فَزَع"(ص304)

وببعضِ التّعابير التي تجعل القارئ يعيشُ لحظةَ ذهول وسُكْرٍ وتَجَلّ. "بينهما كان يمتدّ حبلُ شوق ورذاذ أحاسيسَ ومشاعرَ"(ص97) "همسَتْ ووصلته أنفاسُها، رائحةَ سِواك وأراك ومسك، لأنفاسِها رائحةُ حديقة"(ص84)

وبألفاظٍ ترسمُ الحركاتِ والمشاهدَ وتبعثُ الحركةَ في كلّ شيء، "سَحرَها كلامُه، وسَحَرتها إطلالتُه، وحرّكَ شهوةً في أعماقها، وأذْهلتْها جرأةُ عينيه اللتين تطلّ منهما مخالبُ."(ص106). "فصرختْ وهي جذلى: هيّا نأكلُ، نأكلُ بأصابعنا وبأَكفّنا وبأيدينا وبرموشنا، إلى الجحيم ذلك الإتيكيت. لا نريد وساطةً بين الزّادِ وأفواهنا"(ص89). وأخيرا، اكتملَ استواءُ السّيّدةِ على أريكتها، وبدتْ كأنّها خارجةٌ من وراء المجرّاتِ ونجومِها وأقمارِها، من وراء الرّياح والبرق والرّعد والمطر"(ص93).

وتألّقت اللغة في رثاء يوسف لأمّه: "اغفري لي إنْ كنتُ نسيتُ أو أخطأت. لا ظلّ إلّا ظلّك يا أمّاه. انهضي يا سيّدةَ الرّوح. انهضي يا سيّدةَ الدّفء والطيبة. انهضي يا مَنْ قلبُك مَعبدٌ للمحبّة. انهضي يا سيّدةَ الأيائل وحوريّات النجوم. انهضي لتنهض يافا من جديد."(ص317)

وفي كلمات العيطموس ليوسف في اللقاء الأخير قبل الوداع:"أمّا أنتَ يا يوسف، فإنّك حصان، بل مهر من أمهار البراري، مهر غير مُدَجّن يرمح ويعدو على طريق البّحث عن الحقيقة والمعرفة من خلال الرّقش والتّزيين والتّوريق والتّوشيح والتذهيب والتّرصيع والتّزجيج والتّشجير والتّزهير، وفي طريقه البكر، يتعرّفُ على لذّة المغامرة، وحسن الغواية، ويركب الريحَ، ويعلو.. ويعلو".

"أنتَ خُلقتَ من ضلع هذه المدينة، وأنتَ عنوانُ جمالها وأساطيرها ومخزونُ ذاكرتها وتراثها، ولا عشقَ لك بعد الآن سوى عشقِ بحرِها، ومآذنها، ومعمارها، ومنارتها، وأسواقها، وأسوارها، وأبراجها، وأروقةِ مساجدها".

"عِشْ كمهر غير مُدَجّن، فأنا أيضا أرغبُ في أنْ أكونَ مهرةً متحرّرةً من العبوديّة، مهرةً خارجة إلى الأبدِ من أسواق الرّقيق، ومن عبوديّة الحَرَملك، ومن أقفاص القصور." (ص341).

الزّمن

اعتدنا في قراءتنا لرواياتِ يحيى يخلف أنْ يُعيّشَنا الزّمنَ المعيشَ في رواياته، ويصرُّ على مُرافقة الأحداثِ وتسجيلِ نَبَضاتِ الزّمن والنّاس والمواقعِ التي تطؤها الأقدامُ، لكنّنا نجده في روايته هذه "راكب الرّيح" يسرقنا ويسحبُ بنا على صَهوة الرّيح إلى زمن بعيد في التاريخ، يعود إلى القرن الثامن عشر، فترةِ الحكم العثماني وغزوِ نابليون بونابرت للبلاد. وقد يكون الكاتبُ أراد أنْ يؤكدَ حقيقةً تاريخيةً أنّ البلادَ التي تشهدُ احتلالَ الغرباءِ لها قد عرفت الكثيرَ من الغازين والمحتلين، ولكنهم هُزموا ورَحلوا، وهذا هو مصيرُ كلِّ محتلّ ظالم غريب. وكما حدث في الماضي، هكذا سيكونُ في أيامنا، وفي كلّ زمان، مصيرُ المعتدي إلى الهزيمة، والمحتلِ إلى الرّحيل.

المكانُ بطل الرّواية

تساءل الشاعرُ أدونيس: هل المكانُ يموت هو أيضا؟ هل تموتُ الأمكنةُ حقّا، كما يموتُ البشر؟ علما أنّ المكانَ ليس مجرّدَ مساحةٍ جغرافيّةٍ. إنّه بالأَحْرى مساحةٌ إنسانيّةٌ – حضاريّةٌ. أنْ يموتَ المكانُ يعني أنّ البشرَ الذين يُقيمون في هذا المكان يموتون هم أيضا أو يُميتُهم بشرٌ آخرون. ربّما يستمرُ المكانُ ظاهريّا: سطحيّا ماديّا. لكنّه يستمرُ كمِثْلِ هيْكلٍ خاوٍ، لا جوهرَ له. المكانُ مسكونٌ بموته مثل الإنسان. مسكونٌ ببُعْدٍ استئصالي يُفْرغُه ممّا هو، ويملؤه بشيء آخر. إماتَةُ المكان تعني خَلقَه من جديد، على صورة الذين أماتوه. يُخرجونه من صورته القديمة، ويمنحونه صورةً جديدةً. مُحاكاةً لانبعاث الإنسان بعد الموت."(القدس العربي 18.8.2016)

وصدمةُ المكان هذه عاشَها يحيى يخلف يوم زارَ أطلالَ بلدته سمخ بعد اتّفاقِ أوسلو وعودتِهِ للوطن. "سمخ وردة كالدّهان، سدوم أكلتها الأمواج.. بل أكلتها أسنانُ الجرّافات، سمخ بلدةٌ غيرُ مَرئيّةٍ، وهذا الذي أراه على أنقاضها تلالٌ من بيوتِ الإسمنت، تلالٌ من الأسوار التي تحجبُ البحيرة، مدينةٌ على النّمط الأوروبي. مكانُ سمخ صارتْ مدينةٌ يهوديّةٌ جديدةٌ فوق ترابها، على أنقاض بيوتها. سمخ مدينةٌ تمّ ترويضُها وتهويدُها "(نهر يستحم في بحيرة ص77/80)

وكما الأزمنةُ هكذا الأمكنةُ، تُبَدّلُ شكلَها الخارجيَ وتتآلفُ مع مُغتصبها الجديد، وتتعايشُ معه، ولكنّها تُخفي حنينا قويّا إلى صاحبها الأوّل ولا تنساه أبدا.

وإذ يرى يحيى يخلف كيف تُنتَهكُ الأمكنةَ يوميّا على طول وعرض الأراضي المحتلة، ويعملُ المحتَلُّ على مَحو واقتلاع كلّ أثر للمكان الذي كان، ويعملُ بكلّ جدّ لتغييرِ شَكلِ وصورةِ الأمكنةِ وتَبْديلِ أسمائها لتُصبحَ غريبةً على أهلها الأصليين، فتنتهي العلاقاتُ وتتقطّعُ الوشائجُ. يركبُ الريحَ ويأخذُنا إلى يافا التي عرفَتْ جريمةَ الغزو الفرنسي لها وفضيحةَ نابليون بونابرت الذي أمرَ بقتل الآلافِ من أهل يافا وتدميرِ المدينة. أخَذَنا يحيى يخلف إلى يافا ليقولَ لنا: قد ينجحُ الغزاةُ الأقوياءُ في انتهاك الأرضِ وتدميرِها وقَتلِ الناسِ وتشريدِهم. لكنّ نهايةَ كلّ محتَلٍّ مهما عظمتْ قوّتُه وسَطْوتُه إلى الزّوالِ ومَزْبلةِ التاريخ، هكذا كان في الماضي، وهكذا يكون في الحاضر وفي المستقبل، فلا يأسَ مع الحياة ومع الثّقةِ بالنّفس.

المكانُ في "راكب الريح" هو البطلُ الوحيدُ المستحوذُ على كلّ جوانبِ الأحداثِ والشّخصيّاتِ، فالتّوقّفُ عند العديدِ من الأماكن يتكرّرُ ويكونُ الوصفُ الرّائعُ للمشاهدِ المختلفةِ مثل:" أطَلّ السّهلُ من وراء دَغلِ الأشجار، سهلٌ تكسوه الخضرةُ والعشبُ وزهورٌ تطرّز المشهدَ كلّه، وصخورٌ وأحجار ٌكبيرةٌ نحتَتْها الرياحُ وشذّبتها، فامتلأ السهلُ بمزيدٍ من السّحر. مشت ومشى إلى جانبها، وكلما تقدّما، ينفتحُ المشهدُ على مَزيد من بساتينِ الألوان: هذا أقحوانٌ، وهذا الزعمطوط أو عصاةُ الراعي، وهذه خزامى، وتلك سَوْسنةٌ، ومن بين الأشواك، تتفتّحُ زهرةُ الخرفيش بلون زهري ساحر، وإلى جانبها زهرةُ التّرمس تُشكّلُ زهورَها تدرّجا، وتبدو مثلَ مَنارة البحر. وراء الحجارةِ زهرةُ زعفران، وخلفَ نبات الخرفيش زنبقة بريّة. وزهور الحمّيض والخبيزى والمصيص والمرّار والسنّاريّة وأوراق السرخس. زهور وألوان وشموخ، فلسيقان بعضِ الأزهار عنقُ زرافة، وعرفُ ديك، وعَيْنُ غزالة، تشرئبُّ تيجانُه ومَيْسمُها وأوراقُها، كأنها تُطلُّ من شرفة. وتزهو بجمالها مثلَ صبيّة تستغرقُ في أحلامِها. وتضربُ جذورَها الطريّةَ في التربة. وتحيطُ بها الأعشابُ النديّة"(ص57).

"القَرين" حيلة لبَلوَرة شخصيّة الفلسطيني الجديد

آمن العربي منذ الجاهلية أنّ لكلّ شاعر شيطانا يوحي له بما يقول من شعر. وفي الإسلام آمن المسلم بوجود الشيطان وأنّه عدوه المبين، كما ورد في سورة يوسف آية (5)"إنّ الشيطان للإنسان عدوّ مبين"، وآمن بملازمة القَرين له، وقد يكون قرين خير أو قرين شرّ. وفي سورة الصافات، الآية (51) ورد ذكر القَرين "قال قائل منهم إنّي كان لي قرين". وورد في حديث للرسول قوله: "ما من أحد إلّا وُكّل به قرينُه من الجنّ وقرينُه من الملائكة".

ويوسف يعترف بملازمة قرينه له بقوله: هناك قرين يسكنني. سألتُ شيخَ المسجد الكبير، فقال إنّ لكل مسلم عفريتا من الجن يُصاحبُه، ويحلّ في بدنه، ويغويه، والجنُ الذي يسكن جسدي لا يستيقظُ إلّا في وقت الحبّ ووقتِ الحرب. والشيخُ يقول إنّ ذلك ذُكرَ في القرآن والسنّة، وإنّ القرينَ يمكنُ أنْ يكونَ من الملائكة فيدفع صاحبَه لفعل الخير فيتجنّبَ أفعالَ الشرّ، ويمكن أنْ يكونَ من الشياطين فيدفعه لعمل الشرّ" (ص163-164)

والقَرين هو الصاحبُ أو الرّفيق بل هو الذي يتطابق في الصّفات مع قرينه. وكان دوستويفسكي (1821-1881) في روايته "القرين" قد رسم هذه الشخصيةَ الملازمةَ لغوليادكين بطلِ الروايةِ، والدّافعةَ لها للقيام بأعمالٍ مختلفة.

ويحيى يخلف استخدم هذا الإيمان بوجود القرين ليكون مُنْطلقَه في خلخَلة المسلّمات التي آمنّا بها وكبّلتنا عشرات السنين، وأبعدتنا عن إمكانية الشكّ بمصداقيّة ما نحن عليه، أو لنُعْطي أنفسَنا إمكانيّة التجريب لسُبُل جديدة لتحقيق أهدافنا وبناء مستقبلنا. يحيى يخلف يريد أنْ يقول إنّنا تصرّفنا وعملنا في الماضي منقادين بإرادتنا المشلولة وعقلنا المعطّل ورؤيتنا المحدودة، وكان قرين يقودنا ويُحدّد لنا مَسيرَنا. وآن لنا الآن، بعد كلّ ما أصابنا أنْ نتخلّص من قريننا ونملك مصيرَنا وقدرتَنا ونعملَ بإرادتنا الحرّة.

وكما رأينا في الرّواية لازَم القَرينُ يوسف، وكان مَصْدرَ القوّةِ الهائلة التي عُرف بها، وسببَ تميّزهِ وتفوّقه على كلّ زملائه في القفز للماء وغير ذلك. كذلك كان القرينُ وراء انتصارِ يوسفَ على جند الانكشاريّة بقَتلهم جميعا. وكذلك كان وراء القُبلةِ الحارقةِ خدّ الجارية الجميلة، ومن ثم مُلاحقةِ الفَهد وصَرعه، ومقارعةِ جندِ نابليون والتّنكيلِ بهم.

لكنّ استعمالَ القوّةِ المفرطة بغير تَفكير وتقديرِ العواقبِ أدّى إلى الحُكمِ على يوسفَ بمغادرة يافا والابتعادِ عن بلدته وأهله وأحبّائه. ممّا جعله يقف على خطإ تصرّفه واستخدامه القوّة، فقرّر التّخلصَ من هذا القرينِ الذي في داخله ليكونَ الإنسانَ العاديَّ البسيطَ الذي يفكّر برويّة، ويتّخذ قراره بعيدا عن تأثيرات غير محسوبة وقد تعود عليه بالضّرر. وبالفعل اهتمّ بالوصول إلى الحكيم الهندي الذي ساعده في ذلك، وجعله يفكرُ أنّ طريقَ استعمالِ القوةِ غير المحدودة المتهوّرةِ توصلُ للدمار، ولا خيرَ من طريق اتّباع السلام ونشرِ المحبّة وروحِ التّعاون بين الجميع. وقد أسهب الحكيم ساعة لقائه بيوسف في شرح رسالتَه في "دفاعه عن الشرق وحكمتِه وقيَمِه وعلومِه وثقافته في مواجهة التوحّش الغربي"(ص234) قائلا "نحن لدينا رسالةٌ، رسالةُ محبّة ومساواة وسلام. نحن نُبشّرُ بالأخوّة والمحبّة بين بني البشر، فالناس في دينِكم هم عيالُ الله. وهذه الأرضُ التي يتقاتلون عليها هي أرضُ الله، والبلادُ في الشرق والغرب هي ملكُ الخالق، وهو الذي يرثُ الأرض وما عليها يوم القيامة. رسالتنا للغرب الذي يغزو الشرقَ ويأتي إلينا ليستعبدَنا وينهبَ خيراتنا ويذلَّ حضارتنا وأدياننا ومعتقداتنا، رسالتنا بمثابة اليد الممدودةِ له للسلام والأخوّةِ من موقع الندّ والتّكافؤ"(ص241)

صعُبَ على يوسف بعد أن رأى ما فعل جندُ نابليون بيافا وأهلِها وباقي البلاد أنْ يتسامحَ مع عدوه، ورفضَ دعوةَ الحكيم للمصالحة قائلا:

- لا كلامَ ولا صلح مع مَن ذبحوا والدي وأهلَ مدينتي.

فجاء جوابُ الحكيم هادئا مقنعا: هذه البلاد تدفعُ ثمنَ موقعها في قَلبِ العالم. وتدفع ثمنَ قداستِها، فمنها انطلقت الرّسالاتُ السّماويّة، ولقد عبَرها حكماءُ وحاملو قناديلَ معرفة، وعبرتها رماحٌ وسيوفٌ ومنجنيقات. لكنّ غُزاتها مضَوْا وعبرُوا تاركينَ عمائرهم أطلالا. وهذه المدينةُ يافا تعرّضت لغزوات على مدى القرون، ومذابحَ لا تُحصى، وستتعرّض لغزوات أخرى في القرون القادمة، طالما أنّ الظلمَ قائمٌ، والقلوبَ سوداء" وختم كلامَه متوجّها إلى يوسف: "يا بنيّ، علينا أنْ نُخاطبَهم ونتحاورَ معهم بلغة الحكمة، لعلّنا نلتقي معهم عند منتصف الطريٌق" (ص331-332).

التّناغم التّاريخي بين الحاضر والماضي

مَن مثلُ يحيى يخلف يعرفُ مأساويّة الرّاهن العربي الذي نعيشُه؟

ومَن مثله يُدرك أثرَ هذا الواقع على إفْقاد الفلسطينيّ كلّ أمل له في تحقيق حلمه وأمله بدَحْر الاحتلال وقيامِ الدولة الفلسطينيّة العَتيدة التي قاتل لأجلها؟

لكنّ جذوةَ المبدع، ورُؤيا الثوريّ، وثقةَ المقاتل بعَدالة قضيّته، وقدرتَه على تحقيق الهدف، تدفع ُكلّها بيحيى يخلف نحو التّفكير الهادئ الرّزين، والتّبصّرِ بواقع الحالِ وصيرورةِ المستقبل، ومِن ثم الاندفاع نحو الماضي البعيد والقريب لاستخلاصِ التّجارب والعبر.

"التاريخُ يُعيد نفسَه" جملةٌ يتيمةٌ تتكرّرُ وتُستعادُ كبدهيّة مقبولة. ومثلها: "لا ظالمَ باقٍ" و "لا دولةً خالدة" و "الزمن دوّار يوم إلك ويوم عليك".

تعابير نُكرّرها ونستشهدُ بها، وكثيرا ما نسخرُ منها. ولكنّها في المحصّلة بنتَ تجاربِ الشعوب، استخلصتها وصاغتها بالكلمات الموجزة الرّصينة.

ويحيى يخلف وصل إلى القناعة الثّوريّة الواعية: أنّ الحقَّ لا يموت، لكنْ حتى تصلَ إليه وتنالَه عليك أنْ تكونَ حكيما، وإن لم تحصلْ على الكلّ فاقبل بالقليل، وإن واجهتَ المستحيلَ فلا تيأسْ، وغيّر من أسلوب فكرِك وعملك، واسْعَ لشقّ الصّعاب، وإذا وجدتَ في استعمال القوة تهوّرا يوصلُ للدمار، ففكرْ بإعمالِ فكرك في اتّباع الحكمة والتّروي.

هكذا ركبَ يحيى يخلف الريحَ، وحلّقَ بعيدا في الزّمان والمكان، يرصدُ أرضَ الوطن ويتابعُ حركاتِ الجيوش الزّاحفة والأخرى المنهزمة، وقَتْلَ وتشريدَ الناس، وتدميرَ بيوتهم وبلادِهم. فنزل في مدينة يافا، وكانت ككلّ البلاد يومها، أواخر القرن الثامن عشر، تدينُ للحكم العثماني وتخضعُ لظُلم جُندِ الانكشاريّة. وشهد الجريمةَ التي اقترفها نابليون بونابرت بحقّ أهلها حيث قتل الآلافَ ودمّرَ البيوتَ وحرق الزّرع .

وعاد راكب الريح بعد طوافه لواقع الحاضر، ووجدَ أنّ الامبراطوريةَ العثمانية انهزمت، و جُندَ الانكشاريّةِ اختفَوْا منَ الوجود، وغيّبتِ الأيامُ والسّنونُ والتاريخُ نابليون، وظلّت يافا قائمةً، وعادت لتكونَ عروسَ حوضِ البحر الأبيض المتوسط ودرّةَ فلسطين، وعاد أهلُ يافا ليزاولوا حياتَهم ويُقيموا الأفراحَ ويرقصوا ويغنّوا ويحلموا بمستقبلٍ أجمل.

"لا ظالمَ باق" و "التاريخُ يكرّر نفسَه" ولا دولةً خالدة". والتاريخُ عِبرٌ ودروس.

ويحيى المبدع الثوري المتفائل يستخلصُ العبرَ، يركبُ الريحَ ويعودُ من الزمن البّعيد ليحطّ في رام الله وهو أكثرُ ثقةٍ بالآتي.

الاستفادة من الآداب العالميّة والأساطير

الجوُّ السّحريُّ الخيالي المأخوذُ من أجواء "ألف ليلة وليلة"، واللغةُ السّلسةُ الجميلةُ المشحونةُ بالعواطف والحنين والحبّ، والحسانُ اللاتي التقينا بهنّ كالعيطموس الفاتنةِ الجمال المُستعارةِ من حوريّات الجنّة التي تقودنا إلى "أندروميدا" الجميلة ابنة كيفاوس ملك مدينة يافا وكاسيوبيا. وكيف أدّى تكبّر كاسيوبيا إلى أن تتباهى بأنّ ابنتها أندروميدا أجمل بكثير من حوريات البحر، أرسل بوسيدون إله البحر وحشَ البحار لتدمير المدينة كنوع من العقاب الإلهي. وفي محاولة لاستلطاف الوحش، قيّدَ الملك كيفاوس ابنتَه أندروميدا على الصخور كقربان، وقبيل أن يتمكن الوحش من اختطاف الأميرة، نزل البطل بيرسيوس من السماء على حصانه المجنّح وأنقذها من الموت وتزوّجها. (ويكيبيديا) وذات السنّ الذّهبيّة المتحديّةُ الرجالِ وقاتلتهم، تأخذنا مباشرة إلى أسطورة "ميدوسا" الجميلة التي مارست الجنس في معبد اثينا فأغضبتها وحولتها إلى امرأة بشعة المظهر كما حوّلت شعرَها إلى ثعابين، وكلّ مَن ينظر إلى عينيها يتحوّل إلى حجر. (ويكيبيديا).

وبتلك الجلسات العاطفيّة التي أقامتها العيطموس بحضور يوسف حيث تختار في كل جلسة مَن تروي حكاية رجل عشقَ امرأةً، وكاد يفقدُ حياته بسبب هذا العشق. (ص103-115) تأخذنا إلى قصص "الديكاميرون" المشهورة.

كما أنه اعتمد على الفلسفة القديمة والهنديّة خاصة كما وردت على لسان العيطموس حول القبلة التي تعتبر عند الهندوس مَدخلا إلى اللقاء الحميم الذي يمثّل نقاء للروح، وصفاء للذهن. وتعني السموّ الروحي ولها أنواع مختلفة. (ص165) وفي حديث الحكيم الهندي الذي علّمَ يوسف كيف يتخلّصُ من قرينه، الذي هو الطاقةُ الكامنة في الإنسان، باعتماده على الحكمة والعقل والتّمارين (ص269-271).

ورغم كلّ ما قلنا يظلّ الكثير

رواية "راكب الريح" جاءت بأسلوبها الجديد، وبنائها، رغم كلاسيكيّته، يوهمُنا بجديد لم يُطرَق بخَلط الأجواء والتّلاعب باللغة والزّمان والمكان وتقابل الشخصيّات. وفي "راكب الريح" نُحلّق بعيدا في الأعالي لنراقب كلّ ما كان وقائم ونفكّر بكل ما يجب أن يكون. نستذكر الماضي ونستشرف الآتي.

***

د. نبيه القاسم - الرامة - فلسطين

مستحدثات فنتازيا الموضوعة ونوعية الأسطرة المتعدية

توطئة: لعل الكتابة القصصية في عوالم تجربة الكاتب الأمريكي إدغار ألن بو، يمكننا وصفها بكونها مجموعة معادلات نفسانية معبئة في شحنة حوافز مركبة من صنيع لغة الذات الفردية ونزوعاتها السلوكية والاجتماعية والعاطفية التي راحت تغالب قهرية معايير (العقل- الممكن- التخييل) إذ أن المتحكم الرئيسي لدوافعية تلك النصوص التي قام بو في كتابها، لا تتخلى عن سيرورة طابعية (النشأة- الممارسة-الذئقة) وصولا الى دقائق ثمينة من عاملية التخييل وحنكة تصيير المكونات نحو ذلك المنحى المخصوص من ناحية العلامات وزمن ومكان الذات التي تفاعلت فيه لتقدم لنا صورية الأشياء بفطرة السارد العليم أم المشارك في عملية تمثيلات دلالات الحكاية ونواة خطابها المتقهقر بثوابت أصول كتابة الفن القصصي القصيرة، لتتاح لنا إستجابات القراءة والتلقي لتلك الهيئات الفنية، ضمن ذائقة تستشعر ذلك الوجود الحكائي في حدود مواضع معقولة أو غير معقولة في جملة ممارساتها الموضوعية:فهل ياترى أن حكايا هذا القاص الرائد تصب في وجودها ضمن حقائق صورية لها إستجابة وانعكاس خطابها وحكيها في زمنه تحديدا؟أم انها تواجدات لمتواليات خلقت فينا جملة التفاتات تتعلق بهوية هذا النص ومؤولاته الفرضية الخاصة؟ لذا نقول ليس غريبا أن يكتب القاص نصوصه القصصية في هيئة لحالات معادلة في الثيمة والموضوعة والمعالجة وفداحة التجريب، ولكن من الصعب ان نتلقى هذه الحكايات ضمن قواسم ذوقية عشوائية، تواجه صعوبات ما في عملية الاستقصاء والتمحور في محمولات تلك النصوص ومواضعها الكيفية من ناحيتي البناء والأسلوب.في الواقع ماجعلني التفت ألتفاتة معمقة لمشروع بو القصصي الكبير، وإختياري لعوالمه نموذجا للدراسة المستقلة في شكلها العضوي والمقدماتي والمدخلي، ليس لما كان تسجيلا من عدة انطباعات وفراسات لبعض من النقاد والأدباء، ممن زامنوا عصره وأعتاشوا مع طبيعة نصوصه، لا طبعا فالأمر ليس بهذه الصورة إطلاقا، فقط أقول أن سلسلة قراءاتي المبكرة لهذا الكاتب، هي من جعلت لدي ولع التقديم لهذه النصوص، حقيقة تقويمها من جهتي المنظورية الخاصة، وليس تقيدا بما اضفى عليه بعض من النقاد من توصيفات في أغلبها الأعم لا تتناسب مدلوليلا ولو للحظة مع شكل وبنية قصص عوالم بو.إذن الرغبة لدي كما قلت سابقا منذ قراءتي لأول قصة في مختارات كانت تجتمع فيه ثريا نصوص بو الساحرة. لذا فأقول في كل مرة من كتابتي عن قصة جديدة لهذا الفذ، أن كل ما كتبه النقاد في زمنه وحتى يومنا هذا، لا تتعدى حساسية القراءة المحاكاتية السائلة في وجهة نظرها، في حين كان بعضها لا يتجاوز كتابة السيرذاتية للمؤلف نفسه، أما ما الشكل النقدي الذي آثاره النقاد في بعض وقفاتهم شبه الجادة، فلا يتعدى هو الأخر حدود وصف عرضي يتلخص في كون قصص بو عبارة عن لوحات تثير الرعب والسخرية والعدمية لدى البعض منهم. بهذا وذاك تم وسم أدب بو القصصي ضمن عضوية آداب الناشئة قسرا وقهرا، ولو كان هناك فعلا علاقة نقدية وبحثوية ناضجة في مقارية أدب بو القصصي، لما استطاعت كل مناهج النقد التوقف عن مقاربة كل قصة من قصص الكاتب بموجب مواضعة وممارسة منهجية فعالة وجادة. في الواقع كنت لا أحبذ لنفسي مثل هذه الاطالة المدخلية من القراءة، خصوصا وإن ما ذكرته قد تحدثت عنه في قراءات سابقة لقصص بو، ولكن من الممكن أن تكون طبيعة دراستي القصيرة لقصة (الحيوان الغريب) هي ما أثارني في طرح هذه المدخلية الخارجة عن نوعية المقاربة للقصة موضع بحثنا.

- الحيوان الغريب: المبنى القصصي وفرضية الاستيهام بالوقائعي.

1- الحكاية الفنتازية ووسائط السارد العليم وصوته وتحولاته:

ان العناية بخلفيات زمن الحكاية القصصية في المفهوم السردي، ماهي إلا من الفواعل والاواصر البالغة في أهميتها وتأثيراتها عبر ممارسة الافعال المحكية من ناحية كون منظورها السردي هو السبيل في تنام متبايناتها الرابطة والمتحولة في هيئة حالات خاصة من الديمومة والاستقراء والتدليل، لذا وجدنا بدايات قصة (الحيوان الغريب) تعكس لنا ذلك المستوى التأشيري من عوامل وعناصر وأسباب حقبة زمنية غاطسة في وباء الكوليرا في نيويورك، ذلك قبل أن تتم دعوة السارد المشارك من قبل احد أصدقائه في منزله المطل على ضفاف الهدسن. وبو في هذا الإجراء والتحديد الزمني لاعراض ذلك الوباء، يمهد للقراءة تجلبات حدوثات زمن حكايته بنظام العلامة الخطية التتابعية والاستطرادية في نمو الوحدات الخاصة بالمكان المنظور من حيز التجاوز والممارسة في وسائطية مادة الحكي: ( كان لدينا هناك مختلف وسائل التسلية العادية التي يمارسها المصطافون، وكم كانت أيامنا تغدو جميلة وممتعة بنزهاتنا في الغابات أو الرسم ورياضة التجديف والصيد والسباحة والموسيقى والكتب، لو أننا لم نكن نتلقى كل يوم الأنباء المرعبة عما كان يجري في المدينة الآهلة ./ص145 النص اقصصي) من عبر هذه المواطن العرضية- المحكية، تتشكل تتابعية الزمن القصصي من ناحية كونه (الماقبل نصي) وفي هذه الزمن الصفري تواجهنا أدوارا للشخصية كإمكانية محورية دالة على بث المسرود له-كمساهمة مفصلية- تربط المسرود بين زمنين (خارج الحكاية- داخل الحكاية- ساردا ومحورا) وتتوازى العلاقة المكانية بالشخصية ورفيقها الذي يحل في المسرود والسرد عاملا، أو كعنصرا جهاتيا أو هو بمثابة المسند إليه -اي للشخصية المحور- حيث لا نلمس منه سوى حضوره كمادة جانبية في صلة متممة للمحور الفاعل.

2- الزمن الماقبلي تصورا:

تجدر الإشارة الى أن هناك جملة نوازع خاصة لدى متعلقات المحور العاملي، جعل السارد يوظفها وينسبها الى علاقة تصاهرية بين (السارد- الشخصية) على اساس من كونها مجموعة الحدوس التي تسبق عملية وقوع الاحداث، فتتجلى هذه القابلية من الحدوس لدى مركبي (السارد+الشخصية) ذلك تبعا لمواثيق وراثية على حد قول السارد في حال لسان الشخصية ( وهو أعتقاد كنت في هذه المرحلة من حياتي مستعدا للدفاع عنه ./ص145, النص القصصي) الشخصية الساردة هنا تحيل معتقداتها بصورة تعتمد على مؤثرات من ظواهر ما قد حدثت في حيز من حاضرها المعيشي المفترض، وعلى هذا فهي ترسم وفقا لذلك جملة من تتاليات من النوع الذي يشبه أن يكون ضمن حقيقة كاملة في صلب تلك الاحداث السابقة والمنصرمة، اي انها إذا مرت بظروف قاهرة في مرحلة سابقة، فإنها تتخيل بروح تنبؤية بأن شأن القادم حتما سوف يكون جديدا لتلك الخصائص من الاحداث المنصرمة، وعلى هذا النحو رأينا ان الشخصية يعثر في منزل صديقه على مجموعة من الكتب التي تولد عند المرء حالات ذهنية تشيع لمن يقرؤها إحاسيس غرائبية في التعامل والاعتقاد بوجود تلك الميول في حقيقة الظواهر الخرافية التي غدت بدورها تفصيلا في مشاهدات تتم للشخصية نفسه من منطلق فرضية حقيقية قادمة من عين الواقع الاستيهامي: (كانت أفكاري تشرد منذ وقت غير قليل بين الكتاب الذي أقرؤه وحزن المدينة المجاورة وخرابها .. وحين رفعت عيني رأيت سفح الرابية العاري ولمحت شيئا - مسخا غريب الخلقة يهبط سرعة كبيرة من الذروة الى الأسفل ثم يغيب أخيرا في الغابة الكثيفة./ص164 النص القصصي) من الواضح أن الواقع الفعلي للمشاهدة لم يكن ملتبسا على الشخصية، خصوصا وأن شريط الوصف التفصيلي لذلك المسخ كان في وضح النهار: ولكن بأي حقيقة يمكننا تلخيص هوية ذلك الكائن !,أهو محض تصورات تركتها انطباعات القراءة لمادة ذلك الكتاب خصوصا وان الشخصية أصبح يمارس طقسا سريا في قراءة ذلك الكتاب دون علم ومراءى من صديقه به! أم أنها اشباح ميكروبات الكوليرا التي تجسدت للرائي بتلك الهيئات الأليغورية حيث بدت الاحداث القصصية وكأنها شجرة في غابة الحقبة الرومانسية، حبكتها مختزلة من رحيق شرارات المدرسة الطبيعية، ولكن مضمونها حمالا لمغزى حكاية طافحة بدلالات الوصف والتأمل في الافاق الأليغورية المتوجة بملامح حكايا الاسطرة وتمثيلات الفاعل المؤسطر من احياز الفضاءات القصصية المعادلة في الموضوعة والثيمة والدليل.

تعليق القراءة:

لعل آليات الكتابة القصصية لدى بو تتعامل مع ثيمات الواقع في حدود منظومة رمزية حسية تخييلية تتعدى هيئات الاوضاع النمطية من وظيفة الرموز وزمن العلامات، لتمنحنا ظواهر نصية تقترب من الفنتازيا، ولكنها ليست كفنتازيا كافكا أبدا، ذلك لكونها تنطلق من حقيقة مشخصة ومفترضة في الان نفسه، لذا فإن بو لا يغرق نصه داخل حدود من ذلك المعنى المضلل، بل هو يستأثر ممارسة تشترط تواجد الطرفين (الواقع-المفترض) في أوضاع تشغلها المرموزات وليس الفعل الرمزي بذاته الكمولية والمنجزه في حدود وظيفة محالة .لعل بو يصور حقيقة التوالدات للمادة الحكائية داخل وسائط وملمحات أكثر توغلا في حاصيلات المتعدي والمتعدد من المعنى الظاهر في متن ومبنى النص القصصي.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

 

غابرييل غارسيا ماركيز يعود ليشغل القراء من جديد بعد عشرة اعوام على وفاته – رحل عن عالمنا في السابع عشر من نيسان عام 2014 - في روايته الأخيرة والتي اوصى بعدم نشرها " موعدنا في آب " – صدرت ترجمتها العربية قبل ايام ترجمة وضاح محمود -، يتناول غابرييل غارسيا ماركيز في روايته التي تبلغ ما يقارب المئة صفحة، حكاية " آنا مجدلينا باخ "، وهي امرأة في السادسة والاربعين من عمرها، عاشت حياة زوجيّة سعيدة طوال سبعة وعشرين عاما وليس لديها أيّ سبب للهروب من عالمها الذي بنته بيديها. مع ذلك، فإنها تسافر في السادس عشر من آب كل عام لزيارة قبر أمّها المدفونة في إحدى الجزر، لتتحول هناك الى امرأة مختلفة تماما لليلة واحدة فقط. :" كان شهر آب شهر الحر والعواصف المطرية المجنونة، المباغتة، لكنها اعتبرت زيارة قبر أمها كفّارة إضافية من الكفّارات التي يتعين عليها أن تؤديها في موعدها حتما " – موعدنا في شهر آب –.

 في معظم رواياته كان للنساء دور مهم،، إلّا أنّهن لا يؤدّين دور البطولة مثل آنا مجدلينا باخ، وهي امرأة قرّرت في لحظة ما من عمرها استكشاف حياتها الجنسيّة من جديد والبحث عن حريتها الفردية. وهذا الامر سيسبب لها صراعات في أعماق نفسها، لكنها تستمرّ في هذا الطريق، على الرغم من أنها كانت سعيدة في زواجها وليس لديها أسباب للقيام بما تقوم به. وصف روديغو الابن الكيبر لماركيز رواية " موعدنا في شهر آب " بأنها رواية نسوية بامتياز " واضاف في حديث لمحطة بي بي سي :" أعتقد أنّ هذه الرواية تعيد ترتيب جميع أعمال غارسيّا ماركيز وبخاصّة دور المرأة فيها، والذي يجب إعادة النظر فيه بعد هذه الرواية. ولهذا السبب بالذات أعتقد بأهميّتها البالغة ".

الرواية الأخيرة تفضح تعب الروائي الذي كان يبلغ " 72 " عاما عندما قرر كتابتها، بدأ التخطيط لكتابتها عام 1999 وانتهى منها عام 2002، لكنه تركها جانبا وانشغل بكتابة روايتة " ذاكرة غانياتي الحزينات " والتي كان تآخر عمل ادبي ينشره ماركيز في حياته، وفيها نتابع حياة رجل عجوز قرر أن يجعل من الحب المستحيل فرصته الاخيرة قبل الموت . يخبرنا محرر الكتاب " كريستوبال بيرا " والذي عمل مع ماركيز لسنوات وكان محررا لسيرته الذاتية " عشت لاروي " ان ماركيز فاجأ القراء قي آذار من عام 1999 بأنه يعمل على رواية جديدة من خمسة فصول وهي تعالج " موضوعة الحب لمن تقدم بهم العمر قليلا " . سينشر ماركيز الفصل الاول من الرواية عام 2003 في احدى المجلات الاسبانية وتشير سكرتيرته ان ماركيز استأنف العمل من جديد على الرواية في شهر تموز من عام 2003، وبنهاية عام 2004 كانت لديه خمس مسودات من رواية " موعدنا في شهر آب " . يخبرنا وفي المقدمة التي كتبها للرواية يخبرنا كريستوبال بيرا ان وكيلة اعمال ماركيز " كارمن بالثلس " اتصلت به عام 2010 لتخبرنه ان ماركيز " لديه رواية غير منشورة، لم يتمكن بعد من إيجاد خاتمة لها، فطلبت إليّ أن أحفزه على إنهائها "،وسيقوم بيرا بسؤال عن ماركيز عن الرواية وهل صحيح أنها تحتاج إلى خاتمة :" طلب من مونيكا النسخة الأخيرة منها، ثم قرأ عليَّ الفقرة الأخيرة التي يختتم بها القصة ختاما مدهشاً..كان شديد التكتم على عمله، لكنه سمح لي بعد بضعة أشهر أن اقرأ ثلاثة فصول منها، والآن أتذكر ذلك الانطباع الذي خلفه في نفسي ببراعته المطلقة في معالجة موضوع مبتكر " – موعدنا في شهر آب - . من اخلال تتبع حكاية رواية " موعدنا في شهر آب" يتضح أنه كانت هناك لحظة شعر خلالها ماركيز بأن لروايته الاخيرة هذه يستحق النشر، حيث قرأ منها نهاية عام 1999 مقتطفات خلال ندوة مع صديقه الروائي خوسيه ساراماغو في مدريد. بعدها نشر مقتطفات منها في الصحيفة الإسبانية إلباييس"،. إلا أنه نحى مشروع الرواية جانباً، لكنه عام 2004 سيرسل مخطوطة إلى وكيلته كارمن بالثاس مع توصية بان ترتاح الرواية عندها .

كان فقدان الذاكرة الذي عانى منه ماركيز في سنواته الأخيرة سبب رئيسي في امتناعه عن نشر الرواية حتى أنه قال لزوجته :" هذا الكتاب لا نفع منه أبداً، ولابد من تمزيقه " .لكن العائلة لم تمزق الرواية تركته ضمن ارشيف ماركيز االذي انتقل الى جامعة تكساس بعد ان اشترته للحفاظ عليه .يقول الابن غونثالوا ماركيز، مبررا نشر الرواية :"لم يكن والدي في وضع يسمح له بالحكم على عمله لأنه كان يرى فقط العيوب وليس الأشياء المثيرة للاهتمام".، ويضيف :" بعد قراءة النص مرة أخرى مؤخرا، لم يجده كارثيا كما حكم عليه غابو" وقال رودريغو ماركيز في المقدمة التي كتبها للرواية " لقد قررنا بفعل يقارب افعال الخيانة أن ننشره مراهنين على مسرّة القراء قبل أي اعتبار آخر . فإن هم احتفوا بالكتاب وسُروا به، فعسى ان يغفر لنا غابو فعلتنا ويعفوا عنا " . وفي هذا العام كان ماركيز قد أدلى بتصريحات صحافية قال فيها إنه " راضٍ كل الرضى" عن مقاربته للأزمة التي كانت تعاني منها بطلة الرواية، لكن ناشره صرّح بعد عام على وفاته بأنه لم يكن مقتنعاً بالنتيجة النهائية التي آلت إليها الرواية على رغم السنوات التي أمضاها في كتابتها. والمعروف عن ماركيز أنه كان يعدّ كتابة رواياته ما لا يقلّ عن عشر مرات قبل أن يستقرّ على الصيغة التي يريدها، وهذا ما لم يحصل له مع " موعدنا في شهر آب " التي قرّر تنحية مخطوطها بين محفوظاته.

الذي يجعلنا نطارد كل ما كتبه ماركيز، سألت نفسي وانا استعد بالذهاب الى شارع المتنبي يوم امس الجمعة – الثالث من آيار 2024 – كان الجو ممطرا، وكنت انوي الذهاب مع صديق اعتذر في اللحظة الاخيرة مبررا :" ان الجو لا يشجع الذهاب الى المتنبي "، لكني منذ ان وضعت دار نابو قبل ايام قليلة اعلانا عن توفر رواية ماركيز، كنت استعجل الزمن لكي احصل على نسخة من الرواية .. واخذت اسأل نفسي هل شهرة ماركيز كانت وراء تلهفي على قراءة ىخر اعماله؟ يعتمد الحكم على الكتاب احيانا، على ما يكتب عنه من نقد او مراجعات في الصحف، واحيانا اخرى على رأي القراء .. ولكن علينا الإنتباه إلى ان الاعجاب بكتاب ما يعتمد على وجهة نظرنا فيه، فبعض الكتب نقول عنها عظيمة لانها حازت على هذه السمعة عبر العصور..كان برنادشو يقول اننا نقرأ احيانا بعض الأعمال الأدبية التي حازت على شهرة كبيرة بالطريقة التي نأكل بها الاطعمة الغريبة، فأنت لا تحبها تمامًا ولكن الجميع يقول عنها إنها أطعمة خارقة. .ولعل روايات ماركيز مثل الاطعمة الغريبة التي تحوي اشياء لم تخطر على بالنا.. ولهذا سواء كنت قرأت، او لم تقرأ كلمة من روايات غابريل غارسيا ماركيز، فانت بالتاكيد تجد نفسك مدمناً على الحديث عنها .. فالواقعية السحرية التي برع بها هي الوحيدة التي تجعل أغرب أحلامنا متاحة ويمكن تصديقها بشدة. فماركيز برع في ان يدمج عناصر خيالية في بيئة "واقعية"، نساء تطير في سماء طبيعية، جد يعيش على مدى قرون، ولكن لا أحد يلاحظ أن شيء تغير فيه، خلطة روائية غريبة فيها الشخصيات التي نحبها والتي نكرهها، القضايا الفاشلة في الحياة، الحب، والجنس، العنف، والخلافات التي لا نهاية لها، المأساة، والمؤامرات، الميلودراما، والواقعية، فقد قرر ماركيز أن تصل اعماله إلى أكبر عدد ممكن من الناس، ليحقق المتعة والتسلية.. وعلى حد تعبير الناقد الادبي الشهير هارولد بلوم، فان مثل هذه الروايات يمكنك قراءتها اكثر من مرة لأنها لا تستنفذ اغراضها :" كل صفحة مليئة بالحياة تفوق قدرة أي قارئ واحد على استيعابها، لا توجد جمل ضائعة او زائدة، ولا مجرد انتقالات، في هذه الروايات، ويجب أن تلاحظ كل شيء في الوقت الذي تقرأ فيه." قال بابلو نيرودا عن ماركيز بانه افضل من كتب بالاسبانية منذ ان كتب ثيرفانتس ملحمته دون كيشوت .  

في معظم رواياته سيحاول ماركيز ان يخدع القارئ لكي يصدقه، وهو يستخدم مهارته الصحفية التي تعلم منها كيف يستخدام تفاصيل محددة للغاية عند وصف الأحداث الرائعة. وجد أن القراء كانوا أكثر ميلًا إلى تصديقه عندما وصف الاشياء الغريبة والخارقة، أصر على أنه كان يقدم الحقيقة ببساطة كما يراها:" الحقيقة ليست مجرد الطريق التي تحت قدميك. إنها أيضًا خرافات عامة الناس".

 قال يلينيو أبوليو مندوزا في حوار مطول نشر بعنوان " رائحة الجوافة :"   الحياة في حد ذاتها أكبر مصدر للإلهام، والأحلام ليست سوى جزء صغير جدا من هذا السيل الذي يمثل الحياة، أرى أن الأحلام جزء من الحياة بشكل عام، لكن الواقع أغنى بكثير".

في كلمتها امام لجنة جائزة نوبل قالت الكاتبة الجنوب أفريقية نادين جورديمر ان واجب الكاتب، هو أن يكتب بشكل جيد"

في مواجهة معركته مع المرض فعل ماركيز ذلك ايضا عندما قرر كتابة " موعدنا في شهر آب " فهذا العمل ثمرة صراعه مع المرض وفقدان الذاكرة، وهو شهادة على شكل حب ماركيز والتزامه بالأدب.

صحيحٌ أن الرواية ليست مصقولة مثل أعماله الأخرى كما يقول ابناه في المقدمة، لكنّ محرر الكتاب كريستوبال بيرا يؤمد انها رواية : " مكتملة وناجزة وسوف يرى القراء اكتمالها بأعينهم. لم أجدْ نفسي مضطرًّا ولا مرّة بالطبع لإضافة أيّ كلمة على النصّ، بل إنّني لا أجد ضرورة لذكر ذلك.

يقول غونزالو في حديث الى صحيفة الشرق الاوسط اجراه شوقي الريّس :" هذه الرواية هي ثمرة الجهد الأخير الذي بذله والدي للاستمرار في الكتابة رغم الظروف الصحية التي كان بدأ يعاني منها. ولدى قراءتها مرة أخرى بعد عشر سنوات تقريباً على وفاته، اكتشفنا أن النص يزخر بالعديد من المزايا التي تستدرج القارئ إلى التمتع بأبرز ما في أعمال غابو: قدرته على الإبداع، ولغته الشعرية، وسرديته الأخّاذة، ومعرفته العميقة بمكامن النفس البشرية، ومدى التصاقه الحميم بما عاشه من التجارب، وبخاصة في الحب الذي ربما هو المحور الأساس والمحرك الأول لكل أعماله " .

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

قصيدة "أقنعة الرّهبة والصّمت" للشّاعر صالح أحمد كناعنة، من الأعمال الشّعريّة التي تعبّر عن معاناة الإنسان في زمن قاتم قاس وشعوره بالضّياع وفقدان الهويّة، والوحدة والاغتراب، تتميّز بلغتها الرّمزيّة وصورها الغامضة. تشير إلى الموت كحاضر دائم يهدّد كلّ شيء، ويلقي بظلاله على كلّ جوانب الحياة؛ ليصبح بمثابة دافع لصرخة مدوّية في وجه الظّلم والقهر، ولكنّ هذه الصّرخة لا تقف عند حدود التّعبير عن الألم، بل تصبح دعوة للكفاح من أجل عالم أفضل، ينتصر فيه النّور على الظّلمة، والأمل على اليأس، فيشعل الشّاعر جذوة التمرّد في قلوب قرّائه، تاركا إيّاهم في حالة من التأمّل والتّساؤل: هل يستطيع الإنسان التّغلّب على قوى الظّلام؟ أم سيظلّ أسيرا لقوى الشرّ؟. ومن وراء العتمة، ينادي صوته المقاوم للصّمت، يبحّر في عتمة الوجود باحثا عن بصيص أمل في هذا العالم القاتم.

صراع واضح يتجلّى بين الواقع المرّ، والخيال الذي يلجأ إليه، إذ يمثّل الحلم ملاذا بالنّسبة له من قسوة الواقع، فيحلّق بأجنحة خياله، لكن سرعان ما ينهار هذا الحلم، وتعوده قسوة الواقع، وعلى الرّغم من أجواء اليأس التي تسيطر عليه، إلا أنّه لا يفقد الأمل تماما، فيشير إلى فجر باحث عن نشوة جديدة، ففي داخله شعلة لا تزال تضيء، شعلة تؤمن بصبح جديد يبدّد العتمة، ويحيي في قلوب البشر الأمل والحبّ والحياة.

الأسلوب والتّأثير:

يتميّز أسلوب الشّاعر بالتّعبيريّة، فهو يعبّر عن مشاعره الدّاخليّة بشكل مباشر وصادق، فتترك قصيدته انطباعا عميقا لدى القارئ، وتجعله يفكّر في قسوة الحياة، تسلّط الضّوء على المعاناة البشريّة جرّاء العنف والصّراعات والحروب، فتثير مشاعر الحزن والتّعاطف مع المكلومين والضّحايا، وتذكّرنا بضرورة البحث عن الأمل وسط الأنقاض والرّكام.

تمّ توظيف تقنيّة التّقابل والتّضاد بين الكلمات، مثل تقابل الموت والحياة، الخير والشّر، الظّلم والعدالة، اللّيل والفجر والصّبح، ممّا يخلق تأثيرات دراميّة قويّة. كما استخدمت الجمل المتوازيّة في بعض الأبيات؛ وذلك لخلق شعور بالانسجام والتّوازن. ووظّفت تقنيّة التّكثيف؛ للتّعبير عن الكثير من المعاني في كلمات قليلة، الأمر الذي يخلق إيحاءات عميقة ودلالات متعدّدة، ويثير مشاعر القارئ بشكل مباشر وفعّال، ويحفّز خياله ويشركه في عمليّة التّأويل.

تكشف تقنيّة التّكثيف المستخدمة عن مهارة الشّاعر وبراعته في اختيار الكلمات، واستخدامه للصّور المجازية بحرفيّة.

الرمزيّة، ورحلة في أعماق المعنى:

للرّمزيّة دور هامّ في هذه القصيدة، فهي تزيدها عمقا ودلالة، تتيح للقارئ تفسيرها بطرق مختلفة، وتساعد على إثراء المعنى، وتعمل على إيصال أحاسيس الشّاعر المتناقضة كالخوف والقهر واليأس والرّجاء والأمل، تثير التّساؤلات حول القضايا الإنسانيّة المختلفة، مثل الحريّة والعدالة والظّلم؛ لتزداد السّطور جمالا ورونقا، وتغدو أكثر جاذبيّة.

إليكم بعض الأمثلة التي وردت فيها الرّمزيّة:

"أقنعة الرّهبَةِ والصّمتِ": ترمز إلى القمع والخوف الذي يُفرَض على النّاس.

"الدّربُ ثُقوبٌ تتعرّى": ترمز إلى الطّريق الصّعب، المليء بالعقبات.

"الموتُ يُحايِلُ لَونَ المَوت": ترمز إلى تكرار عمليّات القتل والموت.

"العالم أنقاضٌ تعوي": ترمز إلى الدّمار والفوضى التي تسيطر على العالم.

"الغيم، لا يُرسِلُ إلا رَشحَةَ عُقم": ترمز إلى الأمل المتلاشي.

"الخَيمَةُ أوتادٌ في جُرح": ترمز إلى الشّعور بالوحدة، وتجسّد حالة اللّجوء والتشرّد نتيجة للظّلم.

"بَصَماتٍ لِنَهارٍ مات": ترمز إلى آثار الحرب والعنف والدّمار.

"النّاسِكُ لمّا صارَ المَوتُ هُناكَ هِوايَة، وضعَ النّظّاراتِ الأغمَق": ترمز إلى استسلام المثقّف لليأس والإحباط وفقدان للأمل، والتّجاهل واللّامبالاة، خوفا من ملاحقة الأيديولوجيّة الرسميّة في بلاده، وبالتّالي يختار الصّمت.

"تَتثاءَبُ أحلامُ النّهرين": ترمز إلى موت الحضارة العربيّة.

"سَيفُ المُتَنَبي": ترمز إلى قوّة الشّعر وقدرته على التّغيير؛ كأداة لمقاومة الظّلم والقهر.

"اللّيلُ يلوكُ اللُّقمَةَ، يَرميها في نَعشِ المَوتى": ترمز إلى قسوة اللّيل وظلمه.

"الفجرُ الباحِثُ عن نَشوة": تجسّد تطلّعا نحو غد أفضل، وتعبّر عن رغبة جامحة في التّغيير والتّجديد، وعن شوق لفجر متحرّر من قيود الظّلام، يبشّرنا بنهاية اللّيل وبدء نهار جديد.

كما تلعب الذّاكرة دورا في هذه القصيدة فتثير اللّوعة والأسى، ويدلّ الحبّ إلى التّوق إلى التّواصل والانتماء، لكنّه يظل بعيد المنال، كما يمثّل الزّمن قوّة قاهرة تسحق آمال الشّاعر وتفقده إيمانه بالحياة، فيثقل الهمّ صدره ويشعره بغصّة تعتصر دواخله، وبالضّيق والاختناق الذي يهدّد كينونته.

الفلسفة، بين عبثيّة الحياة والأمل:

تحمل هذه القصيدة فلسفة عميقة، تعبّر عن مشاعر مبدعها تجاه العالم، وتطرح التّساؤلات حول عبثيّة الحياة والموت ومعناهما، والحريّة والقمع والانتماء، وتُؤكّد على أهميّة الحلم والذّاكرة في الحفاظ على الهويّة. ولا تعدّ العبثيّة موضوعا رئيسيّا فيها، لكنّها تظهر كأحد الأفكار التي يناقشها الشّاعر، ويمكن تفسير العبثيّة في القصيدة بطرق مختلفة، وذلك حسب وجهة نظر القارئ، فهي مليئة بالرّمزيّة، ما يجعلها مفتوحة للتّأويل والتّفسيرات المختلفة، وإثارة ما يستحقّ النّقاش والطّرح.

كما تغلّف القصيدة أيضا، أجواء سياسيّة تجسّد صرخة الشّاعر ضدّ منع الحريّات وفرض الرّقابة على الأفكار في ظلّ الأنظمة القمعيّة، فالصّمت الأعمى يخيّم على المشهد، وهو رمز لقمع حريّة التّعبير وخنق الأصوات، أمّا "الدّربُ ثُقوبٌ تتعرّى" فرمز إلى الفوضى والانهيار الذي يصيب المجتمع تحت وطأة القمع.

"يتمرّغُ منفيًّا زمني"، تعبّر عن الشّعور بالوحدة والاغتراب في المنفى، بعيدا عن الوطن والأهل.

"هَجَرَتني صَحوةُ أَسمائي": ترمز هذه العبارة إلى فقدان الهويّة بسبب النّفيّ والاقتلاع من الجذور.

"الصّحوةُ لا تُسبى": تعبّر عن إيمان الشّاعر بإمكانيّة التّغيير من خلال الثّورات التي تقوم بها الشّعوب.

"تردي لَيلَ الصَّمتِ الأعمى": تشير إلى انتصار الثّورة على القمع، وإسكات صوت الرّعب.

"نخاسٌ... إنّي نخاسٌ": تشير إلى الاستغلال والفساد.

الصّمت: يمكن تفسيره كرمز للقمع السياسيّ، فالأنظمة الدّيكتاتوريّة تقمع حريّة التّعبير، وتجبر النّاس على الصّمت.

الموت: يمكن تفسيره كرمز للقتل والقمع الذي تمارسه الأنظمة.

المنفى: يمكن تفسيره كرمز للتّشريد القسريّ نتيجة القمع السياسيّ.

النّاسِكُ: يمكن تفسيره كرمز للمثقّف أو المفكّر الذي يسجن أو ينفى بسبب أفكاره المعارضة.

النّخاسُ: يمكن تفسيره كرمز للنّظام الذي يتاجر بحياة النّاس ويستغلّهم.

اللّيلُ: يمكن تفسيره كرمز للظّلم والقهر الذي تفرضه السلطات على شعوبها.

الموسيقى وأدواتها:

تتميّز القصيدة بإيقاع منتظم يساعد على إيصال المشاعر بوضوح، أمّا الموسيقى الشّعريّة مثل التّكرار والجناس والطّباق، فتساعد على جذب اهتمام القارئ.

أضفت الموسيقى حزنا على أجواء القصيدة، تكرّرت بعض الكلمات والعبارات مثل "الصّمت" و"الموت" و"المنفى" مما عزّز من معانيها، وساهم في خلق شعور بالثّقل والضّيق.

كما تتّبع القصيدة نظام القافيّة الداخليّ، الذي يضفي عليها موسيقى هادئة تناسب موضوعها الحزين، ويربط أبياتها ببعضها البعض.

تتواجد القافية الدّاخليّة في نهاية كلّ بيتين أو أكثر من أبيات القصيدة، نجد أنواع مختلفة من القافية مثل القافية التّامّة: "يُمارِسُ سَكرَتَهُ" و "تَتعرّى"، والقافية النّاقصة: "يَسعى بيدينِ مُضرّجَتَين" و"تعوي"، والقافية المتشابهة: "يَستَجدي أنّاتِ مَخاضٍ" و "رَشحَةَ عُقم"، والقافية المتضادّة: "يَعرِفُ حالاتٍ وفُصول" و "ماضٍ مُغرِق".

بشكل عام، تتوزّع القافية بشكل عشوائيّ، مما يضفي على القصيدة إيقاعا متنوّعا، ويمنحها وحدة وتماسكا، ويسهّل على القارئ فهمها، ويساهم في جعلها عملا شعريّا منسجما ومؤثرا.

الاستعارة في القصيدة:

تضفي الاستعارة على القصيدة جمالا ودلالة، وقد استخدمت بشكل متكرّر، مما أشار إلى أهميتها في إيصال المعنى، وإثارة اهتمام القارئ وجذبه. هذه بعض الأمثلة:

"أقنعة الرّهبَةِ والصّمتِ": استعارة مركّبة تشبّه الخوف والقمع بأقنعة تغطّي الوجوه.

"الدّربُ ثُقوبٌ تتعرّى": استعارة تشبّه الطّريق بالجروح المفتوحة.

"الموتُ يُحايِلُ لَونَ المَوت": استعارة تشبّه الموت بالشّخص الذي يغيّر ملابسه.

"العالم أنقاضٌ تعوي": استعارة تشبّه العالم بحيوان مصاب يصدر أصواتا مؤلمة.

"الغيم.. لا يُرسِلُ إلا رَشحَةَ عُقم": استعارة تشبّه الغيم بالعاجز الذي لا يقدّم أيّ مساعدة.

"الخَيمَةُ أوتادٌ في جُرح": استعارة تشبّه الخيمة بالجروح التي تسبّبها الوحدة والألم.

"بَصَماتٍ لِنَهارٍ مات": استعارة تشبّه آثار النّهار بالأثار المدمّرة والجروح التي تخلّفها الحرب.

"النّاسِكُ لمّا صارَ المَوتُ هُناكَ هِوايَة، وضعَ النّظّاراتِ الأغمَق": استعارة تشبّه الموت بالهواية التي يمارسها النّاس، وتشبّه النّظارات الأغمق باللامبالاة التي يظهرونها تجاه الحدث.

"تَتثاءَبُ أحلامُ النّهرين": استعارة تشبّه الأحلام بالنّوم والتّكاسل.

"سَيفُ المُتَنَبي": استعارة تشبّه الشّعر بالسّيف الذي يقاتل الظّلم.

"اللّيلُ يلوكُ اللُّقمَةَ، يَرميها في نَعشِ المَوتى": استعارة تشبّه اللّيل بالوحش الذي يأكل الموتى.

"الفجرُ الباحِثُ عن نَشوة": استعارة تشبّه الفجر بالشّخص الذي يبحث عن السّعادة.

الصّور واللّغة الشّاعريّة الأنيقة:

استخدمت اللّغة والبلاغة والصّور المجازيّة ببراعة؛ للتّعبير عن المشاعر والأفكار، واستخدمت الاستعارة والتّشبيه والكنايّة؛ لإيصال المعنى بشكل أكثر عمقا وجمالا.

يشبّه الشّاعر نفسه بأفعى في قيظ الصّحراء تتلوّى من شدّة الألم، وذلك لخلق شعور بالرّهبة والعناء، كما يشبّه أحلامه بنهر يتثاءب على شفتيه، ويستخدم التّكرار لخلق شعور بالضّغط والتأكيد على الأفكار الرئيسيّة للقصيدة، فيكرّر كلمات الصّمت والموت واللّيل، لإبراز أهميتها في إيصال المعنى.

من وحي المتنبّي:

تشير عبارة "سَيفُ المُتَنَبي" إلى شجاعة الشّاعر وإصراره على التّعبير عن آرائه ومشاعره، حتّى في ظلّ الظّروف القاسية، فكما استخدم المتنبّي سيفه للدّفاع عن نفسه ومبادئه، يستخدم الشّاعر كلماته كسلاح لمقاومة الصّمت والخوف والقهر، وعلى الرّغم من أنّ العالم من حوله قد تحوّل إلى "أنقاض تعوي" و "غيم لا يُرسِلُ إلا رَشحَةَ عُقم"، إلا أنّه لا يزال يملك "سيف المتنبّي" الذي يمكّنه من إيصال صوته معلنا إيمانه بالأمل، مؤكّدا على أنّ "الصّحوة لا تُسبى" وأنّ "الفجر الباحث عن نَشوة" سيأتي ويبدّد الظّلمة.

"اللّيلُ يلوكُ اللُّقمَةَ يَرميها في نَعشِ المَوتى": تشير هذه الأبيات إلى أنّ الشّاعر يدرك أنّ قوى الظّلام قوية، لكنّه لا يستسلم لها، بل يواصل مقاومتها بكلماته.

"يصحو... الصّحوةُ لا تُسبى الفجرُ الباحِثُ عن نَشوة يبعثُ أُغنيةً مُرتَجَلة تُردي لَيلَ الصَّمتِ الأعمى": تشير هذه الأبيات إلى أنّ الشّاعر يتمسّك بالأمل، ويؤكّد على أنّ "الفجر" سيأتي.

ختاما.. أبدع الشّاعر صالح أحمد كناعنة في هذه القصيدة لوحة فائقة، غَزَلَ خيوطها بمهاراته الشّعريّة العالية، ونسجها بلغة آسرة غنيّة بالصّور البيانيّة والمعاني العميقة، فاستخدم مفردات مختارة بعناية، تداعب مشاعر القارئ وتثير خياله، وظّف موسيقى شعريّة منسجمة تضفي على القصيدة سحرا خاصّا، ولم يكتفِ بذلك، بل أضاف إليها تقنيّات ذكيّة ودلالات رمزيّة غزيرة، تعمّق من معانيها وتضفي عليها أبعادا جديدة. ونتيجة لهذا التّكامل المتقن بين العناصر الشّعريّة المختلفة، برزت هذه القصيدة كتحفة فنّيّة، تثير الدّهشة وتحفّز على التأمّل. وإليكم القصيدة.

***

صباح بشير

............................

أقنِعَةُ الرّهبَةِ والصّمت

للشّاعر صالح أحمد كناعنة

كم يَقتُلُني زَمَنُ الصّمتِ الأعمى

في عمرٍ يَعشَقُ غُربَتَهُ..

يَتعمَّدُ عُذرًا بالبَرق..

والصّبحُ يُمارِسُ سَكرَتَهُ

فالدّربُ ثُقوبٌ تتعرّى ..

تتوارى من عُريِ الخُطُواتِ مسافةُ رأي

وتلوذ بنارٍ تُذكيها سَكَراتُ الصّمت

والموتُ يُحايِلُ لَونَ المَوت

يسعى بيدينِ مُضرّجَتَين

والعالم أنقاضٌ تعوي

تَستَجدي أنّاتِ مَخاضٍ

والغيم...

لا يُرسِلُ إلا رَشحَةَ عُقم

لا تنبِتُ إلا عُشبًا مَسكونًا بالوَحل

لا يَعرِفُ حالاتٍ وفُصول

يتلوّى في ماضٍ مُغرِق

ماضٍ راحت عَنهُ الغيمَة

تَرَكَتهُ لأرياحٍ تتناوَح

تأبى أن تصرُخَ "واجرحاه"

وتلوذُ بأنقاضٍ تَعوي..

بَصَماتٍ لِنَهارٍ ماتْ

والمَنفى...يَجتاحُ المَنفى..

والخَيمَةُ أوتادٌ في جُرح

الجرحُ بلا ألمٍ لكن..

أَنساني أن أسمَعَ صَوتي

وأنا أتَحسّسُ أقنِعَةَ الرّهبَةِ والصّمت

وكأفعى في قيظِ الصّحراء

يتلوى الطّقسُ بذاكرتي

والطّقسُ شُرود..

النّاسِكُ لمّا صارَ المَوتُ هُناكَ هِوايَة..

وضعَ النّظّاراتِ الأغمَقْ..

وأسرّ لليلٍ يسكُنُهُ:

نخاسٌ.. إنّي نخاسٌ!

يتمرّغُ منفيًّا زمني..

وعلى شفَتَيْ..

تتثاءَبُ أحلامُ النّهرين..

لا يَسبي.. لا يُسبى الحُلُمُ!

هَجَرَتني صَحوةُ أَسمائي

يا عُنوانَ الفَجرِ الغائبِ عن لُغَتي..

سَكِروا...

تَرَكوا أُمنِيَتي للرّيح...

يسكُنُها سَيفُ المُتَنَبي

يُنزِلُها من قُرصِ الشّمس

يُعطيها رهنًا للّيل

لِحُروفٍ خَلَعت أضلُعَها

لِتُلائِمَ أَصواتَ اللّيل..

واللّيلُ يلوكُ اللُّقمَةَ..

يَرميها في نَعشِ المَوتى..

يصحو...

الصّحوةُ لا تُسبى..

الفجرُ الباحِثُ عن نَشوة..

يبعثُ أُغنيةً مُرتَجَلة

تُردي لَيلَ الصَّمتِ الأعمى.

"جنين مريمنا البتول" لعصري فيّاض، أنموذجًا

يشكل عنوان العمل الأدبي فضاء لغويًّا ينبغي أن يتسع للإشراقات الدلالية التي تضيء حنايا النصوص كلها، فالعنوان وفق المنظور النقدي هو العتبة التي يستشرف منها القارئ آفاق النص، وهو النافذة التي تتيح للقارئ أن يرى المدى الدلالي الذي يتشكل وفق تأملات القارئ وثقافته.

ويأتي عنوان "جنين مريمنا البتول"؛ ليجيب عن تساؤلات عتبة العنوان التي تعد في النقد السيميائي باكورة الإبداع الكتابي. المبتدأ المكاني في الجملة الاسمية يؤنسن بالإخبار عنه بمريمنا المقدسة، وليس (مريم)، ف(نا) تستدعي تفاعل الوعي الجمعي، وإضافة صفة القدسية والطهر لهذا التآلف (البتول)، فالقارئ المتأمل يجد أن لفظ (الطاهرة) معادلًا موضوعيًّا لكلمة "البتول" وفق المفاصل الدلالية للنصوص. ولكن المبدع يختار العنوان وفق رؤية شمولية، وإحساس مكثف في وقت تتداعى فيه عصارة الفكرة وعبق العاطفة، فيولد العنوان من هذا المزيج؛ ليشكل لوحة متمايزة تتعدد فيها تأويلات القراء، وفي التعدد والاختلاف جماليات التأويل، ومن المفيد التأكيد إن لفظة "مريمنا" في العنوان الرئيس تتجاوز دلالة (سيدتنا مريم) المألوفة إلى دلالات رحبة تشمل الوفاء والإيمان والإخلاص للخطاب الثقافي، الذي يشكل تحديًا للكاتب. وتغادر لفظة "مريمنا في العنوان المستوى المعجمي إلى مستوى تأويلي، يمتد إلى العصب النابض في جسد النصوص، وتختزل طهرها في رؤية ثقافية تتجلى في البنية العميقة لها.

واستئناسًا بدلالة العنوان فإن عصري فياض يبتكر أسلوبًا لافتًا في صياغة العنوان الرئيس، بعيدًا عن مضامين العناوين المجردة المألوفة، وكأنه ينقل الأفق الدلالي المتوقع من العنوان إلى مضامين النصوص، وفي هذا التحول الأسلوبي يكمن التجديد والابتكار والتفرد.

أما العتبة الثانية فهي الإهداء الذي اختزل الخلايا الدلالية للنصوص بوساطة ست علامات سيميائية موزعة على "روح، الشهيد، زياد، جنين، المخيم، ثرى". وتجسد العلامات الستة العصب الدلالي والتوهج الوجداني في الكتاب كله، فالنصوص لا تغادر دلالات العلامات الستة.3854 جنين مريمنا البتول

وأما العتبة الثالثة فهي العناوين الفرعية للنصوص التي جاءت في مسارات متعددة، منها ما هو قريب للقصة، ومنها ما هو خاطرة، ومنها ما هو قريب للشعر، وهي من حيث الدلالة جاءت في مسارين، منها ما هو مباشر تتجلى فيه العلاقة بين العنوان الفرعي ودلالة النص، ومسار إيحائي رمزي يقتضي تأملًا في العلاقة بين المعلن والمضمر، ويتعالق كلا المسارين مع الفضاء الدلالي للعنوان الرئيس، والآفاق الدلالية المبثوثة في خلايا النصوص.

ويغلب على عناوين النصوص التشكيل الاستعاري الظاهر في نسق العنوان، والذي يتوزع على التشخيص/الأنسنة/التجسيد/التجسيم، وفي غير موضع تتضاعف يقظة القارئ للمعنى حينما يتأمل الصورة الاستعارية التي تنقل المعنى من المألوف إلى الدهشة (طعم الصباح ص5، جنين مريمنا ص7، يا حيفا ماذا فعلت؟ ص12، لا تئدوا الزلزال ص23، هلّ الخريف ص71، طهر أحذيتكم ص91، رفيقي الرخ ص136، المخيم يحبس أنفاسه ص145، شمسنا محمد ص150)، ولا يخفى أن القدرة على التصوير تكشف عن قدرة المبدع في التحليق بخياله؛ لتشكيل دلالة غير مألوفة في الغالب، ورغبته في إعادة صياغة مفردات الحياة وفق رغباته غير المعلنة، ورؤيته التي تضمرها البنية الاستعارية، كما يحدد التصوير مدى تفاعل المتلقي مع مكونات الصورة، وإذا استطاع القارئ تفكيك مكنونات الصور الاستعارية يستطيع أن يرى جماليات المضمر، أو قبحه، وأسراره الذي حرص الكاتب على إخفائه من خلال ذلك البناء الاستعاري.

هناك عناوين فرعية أخرى ترتبط بالصور الاستعارية من خلال متنها (يزوره الضحى في فراشه ص10، يزرعون الحياة ويقتلعون الموت ص115، طوّق جيد نابلس سبحة حباتها من قرنفل وشقائق وإكليل الغار ص13، من يستطيع أن يقود القمر إلى كبد السماء؟ ص36، يقتلع الثلج الخيام ص42، كل طقوس الفرح مبتورة ص44، عناق الحلم ص56، من أغرق العيون ببحر الاحزان؟ ص60، المخيمات لسان الحق الصارخ في وجه البشرية ص16، أحاول كسر ليلي الثقيل ص26، القبلات مفاتيح النفاق والسلامات الحارة سموم الأفاعي ص29، ولدت ثورتنا من رح النكبة ص116). نلحظ أن الصور السابقة مؤسسة على الأفعال الحركية المتلاحقة والمتتابعة التي ترسم أطيافا نفسية ذات إيقاع صاعد أيحانا ثم ينحدر أحيانا أخرى، تكشف تلك الصور عن الأفق النفسي للنص، وتوجه المتلقي نحو المعنى المضمر الذي يحرص الكاتب على تجسيده وتكثيفه، نحو نص (يزرعون الحياة ويقتلعون الموت) الذي تتسارع فيه الدفقات الدلالية والإيقاع الصاخب بوساطة أفعال حركية ذات كثافة دلالية ونفسية، فالحياة والموت التي حصرها في العنوان وفي كافة متون النصوص تحصر الممارسات التي تحاول سلب الحياة من فلسطين، وما يحدث في جنين ونابلس وغيرها من المدن، التي تناولها الكاتب، لشاهد على ذلك، ولذلك سعى الكاتب إلى مخالفة هذه الأفعال الإحلالية بزرع الحياة واقتلاع الموت.

كما تصل بعض الصور الحركية إلى (التحريض) على التغيير الذي يعد رسالة سامية يتكفل بها الأدب عامة "تولد الثورة من رحم النكبة" التي ترسم فيها الأفعال المتتابعة فضاء دلاليًّا تحريضيًّا مقترنا بإيقاع وجداني صاخب يتجلى في فعل الولادة، المعادل الموضوعي لزراعة الحياة، واقتلاع الموت، ومن هنا تنهض هذه الأفعال بوظيفتها الدلالية الوجدانية.

يبدو واضحًا، إن المشارب الثقافية التي أفاد منها الكاتب في نصوصه، هي مشارب ثقافية تمنح الفضاء الدلالي للنصوص خاصية التناسل والتكاثر الدلالي التي اصطلح النقاد على تسميتها بـ"التناص"، الذي تشكل بفعل التلاقح الفكري والثقافي للأديب، فالتناص دلالة واضحة على مساحة اتساع الأفق لديه، وحجم ثقافته.

يتناص فياض أدبيًّا في قوله: "جنين، يا مريمنا البتول، قد جاوزت قدري بتوصيفك يا طهر الزمان والمكان… ص9"، مع الشاعر أحمد شوقي، في مدحه رسولنا الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- في قصيدة "سلوا قلبي": أبا الزهراء قد جاوزت قدري ... بمدحك بيد أن لي انتسابا.

ونجده يتناص في عنوان النص "تلك المرأة الحمراء" ص128، من عنوان قصة قصيرة "تلك المرأة الوردة" للروائي يحيى يخلف. كما قد يستعير الأديب بعض أدوات مادية أو غيرية، وينسبها إلى أبطاله، تقديرًا لهم، واعتزازًا بهم، يقول: "نحن سيف علي، وصفحات في كتاب الله الجليّ، وروايات في سنة المصطفى، وهديه القويّ، نحن عصا موسى، وسفينة نوح، وصبر إسماعيل، ولسان عيسى، وطهر مريم، وبشرى زكريا، نحن قدر الله".

وقد ظهر التناص الديني؛ ليعمّق الدلالات التي تضمنتها رسالة الكاتب، فتعلق العنوان الرئيس (الذي تكرر في عنوان فرعي "جنين مريمنا البتول") بمعنى بالطهر والقدسية والنقاء، وظهر كذلك في اقتباسات من ميلاد سيدنا المسيح عليه السلام، وحالة أمه مريم النفسية عند الولادة: "تلكم المدينة التي انتبذت لنفسها… مكانًا شرقيًا"، " كذلك قال ربك هو علي هيّن… هزّي إليك بجذع المجد، يتساقط عليك أنوارًا بهيّة" ص8، وفي قوله: "قالت بانبهار: أو حاصل هذا سيدي؟ قلت: أو لم تؤمني بما سمعت؟ قالت: بلى، ولكن ليطمئن قلبي" ص62.

وأما الغلاف يعدّ العتبة الأهم التي تقابل بصر المتلقي، ويمكن من خلاله أن نفهم متن العمل قبل الولوج فيه، ومن شروط الغلاف القوي الفعال أن يكون قادرًا على جذب انتباه القارئ وإثارة اهتمامه، فهو يساعد القارئ على المضي في قراءة العمل، هو بمثابة بوابة عبور للجمهور، وهذا ما كان عليه غلاف "جنين مريمنا البتول"، حيث عرض صورة لبوابة مدخل مخيم جنين، تعبره سيدة وجهها ضبابي، لكن جسدها مغطى بلباس نساء الدين المسيحي، في إشارة إلى سيدتنا مريم، وعبور كل من هو طاهر، مخلص لقضية وطنه التي تمثلها أكبر شريحة هجّرت من أرضها وبيوتها وسكنت المخيم، فضلًا عن اللون الأحمر الذي سيطر على الغلاف، إشارة إلى حجم التضحيات التي قدمها المخيم من دماء وأرواح شهدائه. والملاحظ حجم العنوان الذي يكتسح ثلث لوحة الغلاف وبخط أبيض عريض، في حين ينزوي اسم المؤلف في الزاوية السفلية يسار الغلاف، وفي ذلك إشارة إلى تصغير الأشخاص إذا ما قورنوا بحجم الوطن، القضية الكبرى التي يفتديها كل إنسان فلسطيني بروحه ودمه، رخيصًا في سبيل نيل حريته.

في الخاتمة أجد الكاتب عصري فياض قد وُفّق في هذا العمل الذي يعدّ شاهدًا إبداعيًّا وموضوعيًّا، يوازي قضية كبرى بحجم وطن، كان وما زال يواجه صلف الاحتلال الإحلالي.

***

سماح خليفة - فلسطين

.....................

* الكتاب صادر عن دار الجنان للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1 سنة 2023م.

مرح شعري بين الأشياء والتفاصيل بالحنين والذكرى حيث الطفل بوجه الحيرة والضجيج... والقلق.

الشعر هذا الآخذ بناصية الأشياء والعناصر والتفاصيل حيث الذات (في حلها وترحالها) تلك الاقامة التامة بنبضها تشوفا ونشدانا وحلما... وقلقا تجاه الآخر.. العالم.. هذا القلق المولد بما يحدثه وينتجه من تجارب ونصوص وابداع اذا رمنا الخوض في هذا الجانب المتصل خاصة بحالات القلق قبل وأثناء وبعد الكتابة الشعرية بالنظر لطبيعتها المتصلة بالمبتكر والمختلف والجديد وهو الأمر المتطلب لعدم الطمأنينة والبحث الدائم والاجهاد.. انها لعبة الكتابة الشعرية في تجليات عناصرها ولحظاتها بل أزمنتها باعتبار معايشات الشاعر الممتدة والمفتوحة والتي منها تنطلق الخلاصات الباعثة على الكتابة وحتى التفكير فيها وملابسات كل ذلك.. وهكذا..

يقول سيجموند فرويد " لست في حاجة إلى تقديم القلق لكم، فكل منا قد ابتلي بهذا الشعور، والحق أقول لكم إنه حالة وجدانية نشعر بها بأنفسنا وتعاودنا مرة تلو الأخرى".

لقد تعددت الرؤى والأفكار بشأن القلق تعاطيا وبحثا وفق الأبعاد العلمية والطبية والنفسية والسوسيولوجية باعتبار التعقيدات المتصلة وبخصوص القلق قي صلته بالشعر فقد رأى الباحثون والنقاد في دراساتهم لنماذج من هذا الشعر أن القلق عادة ما يمثل المحرك الأبرز للكتابة الشعرية فهو الباعث على الاتيان بالجميل والمبتكر وما هو خصوصي وبالتالي فان القلق المبثوث في قصائد الشعراء منذ العصور القديمة ومنها العهد الجاهلي والى اليوم هو قلق عضوي في الذات القلقة وفي القصيائد الناجمة عن الحالة فالقلق وعدم القرار والحيرة وما الى ذلك هي من الطواهر التي برزت وشهدها الشعر العربي قديمه وحديثه وهي نتاج توق وحلم بين الخيالي والواقعي نشدانا للأجمل ولما هو بديعي.. وهنا نذكر بيت المتنبي الشهير (على قلق كأن الريح تحتي أوجهها جنوبا أو شمالا) انه يعيش قلقه يمتطيه يجعل له رياحا لا قرار لها... والشابي الذي ذهبت به حيرته وقلقه الى آفاق من الشعورالقاتم ليجعل من وجدانه وغربته حالة شعرية مخصوصة من عناوينها الأسى ويبرز ذلك في شعره وفي مذكراته حيث يقول “أشعر الآن أنني غريب في هذا الوجود، وأنني ما أزداد يوما في هذا العالم إلا وأزداد غربة بين أبناء الحياة وشعورا بمعاني هذه الغربة الأليمة”.. انه الألم القادم من قلق الشاعر لفرط حساسيته.. وهذا القلق نجده عند بدر شاكر السياب الذي يعيش حيرة وغربة الواقع والمنشود والحلم والمثال..

هذا هو القلق الذي تخيره الشاعر الذي نحن بصدد ديوانه الشعري بل جعل منه قلقا مخصوصا عايشه ومضى به الى حالات من الكتابة لديه مشيرا الى حموضته فهو ليس بالقلق العادي والمألوف انه " قلق حامض " وهو العنوان.. عنوان هذه المجموعة الشعرية للشاعر جلال باباي التي تنوعت مناخات قصائدها بين اليومي والحنين وذاكرة الأشياء والتفاصيل فضلا عن حميمية التعاطي تجاه الأصدقاء لتتعدد الاهداءات وهو ما يحيل الى رؤية الشاعر بشأن الكتابة باعتبارها حاضنة شجن بحميمة فارقة ومن ذلك ما يرد في قصيدة " بعيد مطر البارحة " ص21:

على سطح بيتنا العتيق

صمت يراودنا

و مشهد أترتحنا وأفراحنا يلملم باقيات الذاكرة

ألمح الصديق يقتات من وقفته على طلل لذيذ

عنب الدالية... سفرا بلا بوابات

و فتات قصائدي المجلجلة

حل الخريف بغتة

وانتبذ الرفيق

مساءه اليتيم خرائط خلجاته

وصدى الخطاطيف في الأروقة

يقتفي وجهه في الغمام... ".

ثمة شجن في القصائد يفصح عنه الشاعر عبر تعدد الاهداءات في هذه المجموعة لشخصيات ثقافية وأسماء وشعراء وأصدقاء وما الى ذلك من مكونات المحيط الثقافي للشاعر الذي يرى في القصائد حالات وجد يغذيها القلق المقيم في الذات الشاعرة وفي النصوص ومن ذلك نقرأ مما يرد في قصيدة " قلق حامض... ومواسم غائرة بالسحب " ص71:

ما أكثر الظمأ

ينهمر واقفا في دمي

ما أمر شفتي عمياء فوق مراتيج من صخب

بددتني عاريا كثرة الخسارات ورأيت الأم ثكلى في الطريق

تحت مطر هشة ترثي كبدها

لذت من فقر الصباح

بفجر يشتعل بالشهب

أتوكأ بحبوب منع الأرق والاحتراق

و خطوط صوتي الى هبوط

تلك حماقاتي المتشنجة شردتني زهاء حبل غسيل... "

مجموعة " قلق حامض " كون قصائد متعددة يجمع بينها وجدان الشاعر القلق المتقلب والمسكون بجميمية العناصر والأشياء كل ذلك في بوح شعري تقول عنه الشاعرة أمال موسى في تقديمها لهذا الديوان في نص بعنوان " شعرية القلق الحامض " ولعل هذا البوح والقدرة على تعرية الوجدان بصور شعرية بسيطة غير متمنعة هو نتاج تراكم تجربة جلال باباي الشعرية وتقدمها النوعي حفرا في مكاشفات جديدة وراهنة تتفاعل مع الحاضر وحها لوجه فينحت الشاعر معناه الخاص ومعه السياق المنتج لقلقه والمحدد لطعم هذا القلق... ".

في قصيدة " تستند الى البحر ضاحكة... أو.. فوق تفاحة قلبي الجريح " ص 25 يقول الشاعر:

" مثل كمان الليل تغرد فتنتي

خارج سرب النائمين

تلقي بفوضاها اللذيذة على مياه متحركة

و تنبس في آذاننا...

سأتنحى بلا ضوضاء

من سماء ناعمة بالماء... ".

هكذا هي هذه المجموعة فسحة للشاعر مع الشعر بقصائد طافحة بما يشبهه من قلق حيث اللغة تدعو عباراتها قي كثير من الانتباه والانكسار والحلم أيضا ففي طيات قلق الشاعر أمل هو عين القصيدة وترجمانها..

"قلق حامض" قصائد يمرح فيها الشاعر بين الأشياء وتفاصيل الحياة متأنقا بالحنين وبالذكرى يعلي من شأن الطفل الكامن فيه بوجه الحيرة والضجيج... والقلق.

***

شمس الدين العوني

 

قراءة في زجلية للزجال المغربي يوسف أسكور

- تمهيد:

وجدتُ في هذه الزجلية المحلّقة شيئاً غريباً غرابةَ إدهاشٍ في عالم الشعر الباني أنساقَهُ داخلَ الإبداعِ اللّهجيّ باللسان اللّهْجِي. ويتعلّقُ الأمر بقصيدة الزجال المسفيوي (يوسف أسكور) النازح من جِدّة وجودةِ الكلام، الحامل لرسائل فنية إلى أهل الكلام، أنِ اقترِفوا الجمال في محاريب الجلالِ ولا تُهينوا الحرف العاميَّ بالزَّجِّ بهِ في لغطِ الكلام.

و الأمرُ هنا بائنٌ أن الزجال يوسف يدركُ عمقَ أن يكونَ المرءُ زجّالاً، كما يدركُ عقْمَ أن يتحاملَ المرءُ على الزجلِ في وهمِ تسطير جملتينِ أو ثلاثة تعيش سرابَ الشعرِ فيما الشعرُ منها براء...

القصيدةُ الزجلية اختارتْ لذاتِها عنواناً حاملاً للاعتراف الإبداعي والوجودي في جملة قويّة الرنين( أنا لي خنتْ لغْرامْ).

- مشاكسةُ العتبة:

و عادةً ما يكون فعل الخيانة مُسنداً إلى كائن بشرِيّ تتم خيانته أو تصدر منه الخيانة، لكن صياغة العنوان هنا انزاحتْ إلى تركيب عامر بالدلالة. (خنتْ لغرام) حيث وقع الفعل على مجرّدٍ هوالغرام. والمسألة أكبر من تصوّرنا المُعتقلِ داخل البداهَة التي ترى في الخيانة فعلاً مذموما وقبيحا ومرفوضاً من جهة الدين والقانون والقيم... وربّ قائل إن العبارةَ ( خنتْ لغرام) عبارة عادية ومستهلكة، أقول: إنها عبارة انزياحية غائرة في فنِّ الدلالة. فالخيانة المسندة إلى مخونٍ بشريّ قابلة أن تتحول إلى صلحٍ عبر تجاوزِ المخون زلّةَ الخائن، ولكن العبارة هنا ألحّتْ على إلصاق الفعل بالغرام. فأنتَ إن تمّتْ خيانتُك فلك أن تُعاقب أو تغفر. ولكن الشاعر الزجال يوسف ألقى بالأمر بين يدي الغرام الذي لا يغفر، ولا يتجاوز، لا لأنه بعيدٌ عن قيمِ الغفران والتغاضي والتجاوز وطيّ صفحة الماضي، ولكنْ لأنه كائنٌ مجرّدٌ يدخل في إطار القيمة، والقيمةُ تسجِّلُ الفعل في خاناتِ الذّاكرة وخاناتِ الزمان، ومن ثمّة فلا قِبلَ لنا بمحو ما تمّ فعلهُ واقترافهُ في حق الإنسان وفي حقّ القيمة. الأمر أكبرُ من سلوكٍ يمسّ طرفاً صدق في ظنّه وآخر خانَ الظن، الأمر تجريدي يلقي بظلاله الوارفة على كينونة تدركُ كم هو جليلٌ هذا الغرام، وكم هو صفيقٌ ظلمُ هذا الغرام.

- اشتغالُ الفضاء:

الزجل عالمٌ من الإبداعِ لا يقترفه إلا متمكّنٌ من المعنى ومن فائضِ المعنى، ومتمكنٌ من مغازلة اللهجةِ في تحليقها بعيداً عن لغة الخطاب اليومي. والقصيدة هنا حمّالةُ أوجه، ومن محمولاتها البديعة أن الشاعر الزجال يوسف لعب لعبة الفضاءات في تمرّدها عن المألوف. فقوله ( سدْ الخوفْ) استعارة تستحضرُ مكوّنَ البابِ في غيرِ ذكرٍ للباب. وهذا من مشوِّقات البناء اللهجي العامر بالجمال. فالخوفُ في منظور ومن منظور الزجال يوسف باب مفتوح على مصراعيْهِ، لا ينغلق أبداً إلا بقرارٍ شجاع. لأن الخوف ظاهرةٌ نفسيةٌ ولّادة، تستدعي الخوف المنتاسلَ في انثيالٍ مستمر إذا ما وجدتْ خائفاً ضعيفاً جدّا. والخوف هنا في سياق الزجلية أمرٌ عميقٌ لأسباب: منها أن المخاطب بإغلاق باب الخوف هو العشقُ لا المعشوق، وفي هذا التركيب نزوعٌ بديعٌ نحو رفض المتشيِّئِ في رسم دلالات الخطاب الزجلي اللهجي المسافرِ في غرابة الجمال.و هنا يحدثُ انسجامُ الفضاء (الباب) مع المخاطب ( العشق) مع الظاهرة (الخوف)... فتنتفي في العبارة أبعادُها المتشيِّئة لتحلّ محلّها الأبعادُ المجرّدة القابضة على فائضِ المعنى. فنكون أمام التأويل التالي:

لا وجود للخوف إذا حلّ العشق

و الدليلُ على افتراضنا هذا هو انسيابُ الكلام في السطر الثاني الذي يعضد البعد الفضائي في قول الشاعر (شْراجمْ السمعْ فِيَّ)... فالبابُ يستدعي النوافذ وهما يستدعيانِ معاً الفضاءَ المُختزلَ تعسُّفاً في تصورنا داخل غرفة أو ما شابه ذلك. لكنّ الأمر أبعد من هذا الاختزال، وأبعد من تسييجٍ بديهيٍّ للمعنى في إطار ضيق. وبالتالي فالذاتُ هي الفضاءُ لا الفضاء في مفهوم الحيّز والمكان. وهكذا الزجلُ عندما يلقي بظلالهِ الجمالية على الأجسادِ ويحولُها إلى فائضِ المعنى وإلى أبعد من فائضه. فالأصل في الكلام هو الكنايةُ لا العبارةُ المفضوحةُ في تلابيت المعنى.

- لعبة الأزمنة:

تشيرُ الزجلية فيما تشيرُ، إلى وجود الآخر مجسَّداً في الأنثى (رَبِّيتكْ في قفز الخاطر ابْنِيَةْ - وهَمْ فراقك مازال فيَّ حاتل) متعيِّنَةٍ في مفردتيْ (ابنية وكاف المخاطبة في كلمة فْراقك). وهذا مدخلٌ دلاليٌّ يتحول من المكان (قفْزْ) إلى الزمان (مازالْ).و هذه إشارة قوية الحضور الإبداعي من الزجال يوسف، الذي يداعبُ فكرة الزمان في تشعّبِها الجميل الماضِي في تشعبه إلى نحوٍ منسجم أشدّ الانسجام، في اتّجاهِ التصريح بالمقولة في عموميتها الأبعادية (بعتك لحر الزمان بالنِيَّةْ) حيث تقرر الذات تفويضَ أمر هذه الأنثى إلى سلطان الزمان، طلباً للإنصاف والعدل.

و في هذه المحطة الدلالية وفي غيرها لا تهمّنا تيمات الحكي الزجلي بقدر ما تهمّنا طريقة صوغ الزجال يوسف لهذه التيمات. فالزمان هنا لا يحضر كبعد فيزيائي قابل للتحيز داخل فعل التحقيب، إنه انزياحٌ نفسيٌّ يتدرّجُ من حالة عائمة (مازالْ) إلى حالةٍ مقولية (الزمان) إلى حالةٍ جزئية (الليل) إلى حالة الديمومة الواخزة (ليّامْ)... هذه الأخيرة صرّح فيها الشاعرُ وبطريقة سيميائية قاهرة عن أوج الاعتمال الضارب في نفسه مضرب الأثر الباقي بقاءً وجوديا يكادُ يتاخم الأزل، وعبارة الوشم أشدّ تدليلاً وبرهنة. قال الشاعر (‏ديك ليام الواشمة فيها شوفتنا - ‏مازال كتزورني في كل حلمة).

- في الصوغ الزجلي:

اختار الزجالُ يوسف أسكور الإبداعَ على صهوةِ اللهجة المحليّة، على اعتبار أنها صهوةٌ قادرة على استيعاب الذاتِ والموضوعِ في تجلّياتهما المفارِقة. وهي اللهجةُ الماتِحَةُ أصولَها من قلبِ (المرڭد العبْدي) في توجّهٍ إرْساليٍّ لا يُغرِقُ في المحليةِ ولا يجرى خلفَ المفرداتِ الغابرة في ترابِ الحزام الجغرافي الضيق. إنه شاعر يدركُ بعمقٍ رسالة الزجل، لهذا وجدناهُ ينتقي من اللهجةِ ما يتسمُ ببعض الشمولية في الخطاب، حيثُ يكادُ الوجديُّ والحسّاني وابن الشاوية وأهل الشمال والجنوب التفاعلَ مع منطوق الزجلية التي تمثل الشجرة وهي تُخفي غابة زجله قاطبةً...

من هنا عبقرية الزجل حين يُطوّعُ اللغةَ لا حين يأسرُ ذاتَه في اللغة. ومثال صاحبنا يوسف ينطق واضحاً ببعض رسالات الزجل في توجّهٍ يوسّع من رقعة التفاعل والانتشار.

و ربّ قائلٍ إن الزجال هنا يبسّطُ البناء اللهجي، ويُخشَى عليهِ من السقوط في الابتذال. نقول: إن الصوغَ هنا أبعد ما يكون عن السهل المتناول والذي يُبيحُ ذاتَه للقارئِ في مجانية خاوية. الزجالُ يوسف من الشعراء القلائل الذين يمتلكون القدرة على بناء القصيدة داخل السهل الممتنع، امتناعاً طافحاً بالشاعرية أو بالشِّعرية، أي عامراً بأدبية النص وأيضا باستيطيقا النص. من هنا نسلتْ انزياحات القصيدة الزجلية هادئةً وعميقةً وناطقةً خارج البداهة والرتابة والمألوف.

و الأمثلة وافرة هنا بحيث لا يخلو سطرٌ زجليٌّ من انزياحٍ ذكي يمكر بأذنِ المتلقي في احترامٍ جليٍّ لأبعاد العبارة ودلالاتها الماسكة بالمعنى وفائض المعنى على حدٍّ سواء.

خذ مثلاً قوله: سد الخوف – شْراجم السمع – قفز الخاطر – الهمّْ الحاتلْ – بعْتكْ – خنجر الشمتة... ولو تتبعنا هذه الانزياحات لوصلنا إلى حقيقةٍ أدبية هي أن الزجليةَ في كلّها وجلّها انزياحٌ كبير، حمّالٌ لكثير من الجمال:

- قفز الخاطر: انزياحٌ دالٌّ على ضيق الخاطر عبر اختيار فضاء استيعابٍ هو (القفز\القفص) الذي لا يتسع لطائر في حجم قبضة اليد. والشاعر هنا قد حوّل الفونيتيك الثاوي في صوت الصاد إلى فونيتيك الزايْ، في اختيارٍ ذكي للعلامة الصوتية القابعة في الوجدان الشعبي المغربي وهي التي تعبّر بشكل قويّ وواضح عن المعنى أكثر من الصاد، وتمارس تأثيرها المناسب الزجلي على المتلقي.

- خنجر الشمتة: وتبدو في العبارة آثارُ الطعنة من خلال ربط المسند (الخنجر) إلى المسند إليه (الشمتة) في توجّهٍ انزياحي بياني يستفيد من مسافةِ التوتّر الحاصلة بين محسوس هو (الخنجر) ومجرد هو (الشمتة) حيث يلتقيان في برزخ التصور الفنيّ للشاعر. فالزجالُ يوسف ردمَ المسافة بين المسند والمسند إليه في وعيٍ فنيّ يقتضي المضيَّ بالقارئ والمتلقي إلى أبعد حدود الإحساس بحالة الغبن أو (الشمتة) فاختار هذا الانزياح الماكر بآذاننا وهو يهدم المسافة الماهياتية بين مختلفين ويلقي بهما في إطارِ تجانسٍ أدبي موسوم بالبناء الزجلي الجميل. فكانت العبارة أشدّ تعبيراً عن إحساسنا ب(الشمتة).

- ‏وخيالك يمشطها بريق الكلمة: يُظهرهذا الانزياحُ كم هو ماكرٌ هذا الزجالُ يوسف بذائقتِنا مكراً أدبياً مشروعاً يمضي بالإدهاش الصوغيّ الزجليّ أيما مذهب. فمفردة (خيالك) تعوّضُ مفردة (وجودك) وهنا لعبةُ الاستبدال الدلالي على محور الاختيار في استنطاقٍ سيميائي غير مقصود من الشاعر ومقصود من جهتنا داخل الحق الأدبيّ في التأويل. فحضور المعشوقة جسداً هو أمر مألوف في التعبير الشعري، ولكن حضورها خيالاً فأمرٌ طريفٌ لا من باب الاستعمال المشترك الذي طبخه الشعراء طبخاً، ولكن من باب قوة الخيال في ممارسة الضغط على الذات المتكلمة. والخيال هنا حاضر في الفعل وفي القوة (يمشطها) والهاء تعود على الحلمة أو الأحلام في السطر الزجلي السابق. وبماذا يمشط الخيال أحلامَ الذات؟ إنه يمشطها بمادة زئبقية التجلي في المعنى. وإذا طرح الزجال يوسف العبارة في مفردة (بريق) المكونة من حرف جر هو (ب) واسم مجرور هو (ريق) أي الرضاب واللعاب النازح من ثغر المعشوقة، فلنا نحن القراء تأويلات أخرى في مضمار الانزياح المتعدد، بدلالتيْن أو أكثر، منها دلالة اللفظة على البرق في جهة التصغير (بْرَيّقْ) فيكون المعنى أو فائضه دالاًّ على لمعان الكلمة من ثغر المعشوقة. ومنها دلالة اللفظة على الإناء في حالة التصغير (إبريق – بْريّقْ) فيكون المعنى أن ثغر الحبيبة سائلٌ بإدهاش الكلمات مثل إبريق حليب... 

و لو تتبعنا تراكم هذه الانزياحات في جماليتها الدالّة لما أسعفنا مقام هذه الصفحات، وحسبنا من ذلك التمثيلُ لبلاغة الزجلية المسافرة في الجمال، لا حصر مظاهره المتعددة والمتنوعة.

و مما يضفي هالاتِ الجمالِ على القصيدة انسيابُها داخل إطار صوتيٍّ مُمَوسقٍ مثيرٍ وأخّاذ. ومن مظاهر هذا المستوى الصوتي نذكر وحدة الأروية في مثال: (باطل – حاتل – قاتل) ومثال (ابنيّة – النيّة) ومثال (دْموعْ – رْجوعْ – الطّوعْ) ... مما يضفي على الزجلية إيقاعاً آسراً لأذن المتلقي أسراً جليلاً يستدعي فيه تشنيفاً، وفوق التشنيف إدراكاً للمقصود في المعنى والدلالة.

- ختمٌ:

الشاعر الزجال يوسف أسكور أكبر من أن نختزل إبداعه في عبور قِرائيٍّ يقارب جانباً من عالمه الإبداعيّ، وقد نكون جانبْنا صواباً في إغفالِنا بغير قصدٍ جزءاً مما يمكن أن يكونَ أساساً في القصيدة، وشفيعُنا في هذا وذاك أننا ناوشْنا الزجلية وشاكسناها في انتظار قراءة أخرى أشدّ إحاطة بعالمٍ هيولانيٍّ وجميلٍ في حجم إبداع هذا الزجال المختلف.

***

بقلم نورالدين حنيف أبوشامة

................................

المتن الزجلي:

انا لي خنت لغرام

...

سد الخوف ياعشقي

شراجم السمع فيَّ

وخلا السكات يشهد باطل

رَبِّيتكْ في قفز الخاطر ابْنِيَةْ

وهَمْ فراقك مازال فيَّ حاتل

بعتك لحر الزمان بالنِيَّةْ

وخنجر الشمتة سَمُّو كان قاتل

ياعمري

ياعمري

قلة عقلي دَوْبَتْ عنايتي

في تالي الليل ادموع

تهت في ادبال دروبو

ونسيت طريق الرجوع

عشقت لهبال وحروفو

عاندني ما اعطاني الطوع

 ياعمري

 ‏ديك ليام الواشمة فيها شوفتنا

 ‏مازال كتزورني في كل حلمة

 ‏انا نگول غير زغبة من لحلام

 ‏وخيالك يمشطها بريق الكلمة

 ‏ضفيرة وطوالت لحد لحزام

ؤ مقص لفياق من جناب مضمة ..

قطعها واقطع انعاسي .

خلاني وحدي نقاسي

نبكي ونگول

انا لي خنت لغرام

انا لي خنت  لغرام

يوسف أسكور

***

بقلم: ميغان أغويار(1)

ترجمة صالح الرزوق

***

عسكر، قصي (2)، مؤلف دانمركي - عراقي نشيط، تمكن بإسهاماته في الأدب أن يأسر القراء من عدة بلدان وعدة أجيال. ولد قصي في العراق عام 1951، تأثرت رحلته مع الكتابة بعاطفة عميقة  عبرت عن نفسها من خلال رواية الحكايات  لهدف متكرر وهو اكتشاف التجربة الإنسانية المعقدة.

نشر قصي خلال مهنته الطويلة أكثر من 20 رواية، في كل منها رؤية ثاقبة للنفس البشرية وإتقان لا يبارى لفن الكلمة المكتوبة.

وبالإضافة إلى رواياته، قصي شاعر متمكن وباحث، خلفت أعماله علامة واضحة على المشهد الأدبي.

بدأت رحلة قصي مع الأدب بالحصول على بكالوريوس في الأدب العربي من جامعة البصرة. وهناك انغمس بتفاصيل اللغة والثقافة العربية العريقة. ثم دعم موهبته بدرجة ماجستير في الأدب العربي، حصل عليها من جامعة دمشق، قبل أن يتوجها بدرجة دكتوراة فلسفة من الكلية الإسلامية بجامعة لندن عام 2004.

تجاوز عمل قصي في الدانمارك الكتابة، فأسس اتحاد الكتاب العرب في إسكندنافيا، وترأسه، ليعلي من شأن صوت الكتاب العرب في المنطقة. وأخلص لرعاية العلاقات الأدبية، وساعد ذلك على تشكيل المشهد الأدبي في إسكندنافيا.

ربحت مساعي قصي الأدبية ثناء واسعا، ومنحته اهتماما جاء من نقاد وباحثين  معروفين في الحقل الأدبي. في عام 2017 اختار الناقد العراقي نجم كاظم ثلاثا من رواياته، وأضافها إلى قائمة أهم 100 رواية عراقية في القرن العشرين، الأمر الذي ضمن له مكانة أدبية مرموقة.

حالما ندخل في عالم العسكر، قصي، نقوم برحلة اكتشاف، وتنوير، وتراحم، ودليلنا خلالها إتقانه لمهارات السرد، فلكلماته قدرات تتجاوز الحدود وتوحد القراء، وتمنحهم وعيا مشتركا بجمال وتعقيد الوضع البشري.3836 مكتبة نوتنكهام

أرحب بكم في مقدمة هذه المجموعة من قصار القصص، حيث نكتشف تعقيدات الحياة الإنسانية بموضوعات وسرديات مفصلة. فكل قصة تدخل في أعماق النفس البشرية،  وتقدم لنا لمحات عن ملايين العواطف والتحديات والانتصارات التي تعرفنا بجوانب حياتنا.

وفي هذه الصفحات ستلاقون مجموعة غنية من الموضوعات، تتراوح بين القبول بالموت وحتى التماس روابط العائلة ومسؤولياتها. موضوعات الخداع والأسف وعواقب اختيار الإنسان تربط حكائياته بخيوطها، وتطالب الشخصيات بمجابهة شياطين الداخل وتجاوز آثار أفعالهم. وعبر هذه القصص، ستشاهد قوة الاتحاد والتراحم التي تساعد على تخطي الصعاب، كلما تجمعت الشخصيات معا بوجه المحن، وشكلت روابط تتعالى على المكان والزمان. ويضيف تفهم الخلود والحدود السائلة بين الواقع والوهم طبقات عميقة للسرد، فتدعو القراء للتفكير بطبيعة الوجود وألغاز الكون المبهم. وخلال رحلتنا عبر الحكايات وما نكتشفه فيها، من مغامرات، وصداقات، نواجه ثنائية الأسطورة والواقع والتضحيات المبذولة في سبيل تحقيق الأحلام الشخصية. تباشر الشخصيات رحلات اكتشاف مستمر، وتتغلب على المخاطر وتبحث عن شيء واضح وسط فوضى الحياة. وبين القيم الاجتماعية المتبدلة وامتلاك السلطة، تبرز موضوعات التفرد والتردد والتعامل مع الشذوذ في المجتمع، ويتطلب ذلك من القارئ أن يتقبل التنوع وأن يحتفل بتميز كل إنسان على حدة. علاوة على ذلك، نواجه ضمن موزاييك الخبرة الإنسانية، أحلك جوانب المجتمع، ابتداء من سيادة الاتهامات الخاطئة وحتى الأثر النفسي للفساد واستغلال السلطة.  هذه القصص تأتي بمثابة إنذار يحذرنا من خطر القفز إلى خواتيم ويذكرنا بالحاجة للوضوح والانتباه أثناء التواصل كي نتجنب العواقب غير المقصودة. وفوق ذلك تحتفي هذه القصص بقوة الفن في إيقاظ العواطف والتأثير بحياة الإنسان، وتهيب بالقراء أن يكتشفوا أعماق إنسانيتهم ويمتحنوا تعقيدات العالم المحيط بنا. وأنا أدعوكم للدخول إلى أعماق  هذه الحكايات ومباشرة رحلة اكتشاف، وتنوير، ووعي الذات.

***

.......................

* المقالة مقدمة لترجمة منتخبات من قصص قصي الشيخ عسكر، إلى اللغة الإنكليزية، وهي قيد الطباعة.

1- ميغان أوغويار Meghan Aguiar أمريكية مقيمة في بريطانيا. تعمل مديرة مكتبة نوتنغهام. تحمل إجازة في علوم المكتبات من جامعة سان خوسيه الحكومية.

2 - قصي الشيخ عسكر كاتب عراقي، مقيم في إنكلترا. يحمل الجنسية الدانماركية. له أكثر  من 25 كتابا مطبوعا، من آخرها رواية "علاء الدين" الصادرة عن دار أمل الجديدة في دمشق.

ترجمة صالح الرزوق / حلب. سوريا

ثمة أسس معمارية هندسية متقنة بنى عليها الكاتب الروسي الشهير" ديستوفيسكي" افكارهِ الفلسفية في مجمل أنجازاته الأدبية والعلمية الأخوة كارمازوف، والآبله، الجريمة والعقاب، المقامر، المراهق، ورواية الشياطين ووو، أثرى المكتبة الروسية والعالمية ب43منجزا أدبيا وعلميا، هوعالم نفس محترف ومتفهم عميق للذات البشرية والكاتب العبقري والروائي الواقعي بحيثيات مدونته السوسيولوجية الأجتماعية " حياة لها معنى "، يقول في مقدمة الفصل الأول من الكتاب: علينا نحن البشر أن نتساعد ونحبُ بعضنا بمسك أيدي بعضنا بعضاً فإما الوصول إلى المدينة الفاضلة (اليوتوبيا) وإما نهلك معاً في جحيم أتون مدينة الأشرار (الديستوبيا)، ويستعرض بعض من آراءهِ الثاقبة والحكيمة لتعبيد طريق الألف ميل أمام البشرية بالنضال والكفاح والتضحية بشجاعة فرسان لنيل قصب السبق في نيل (الحرية) لأن الجبناء لن يصنعوا الحرية .لا للحروب نعم للسلام، الحب والأنسنة لا تتغيران وإذا تغيرتا حصلت الكارثة ، وديستوفيسكي في عقيدته الوجودية يقول: عبثية الحياة بدون الله وبدون الخلود، وهو رجل دين لاهوتي من أرائهِ ان نهب محبتنا للرب  احراراً لا عبيداً، فهو يمثل جيل الواقعية السحرية للأدب الروسي، فهو مفكرليس واعظاً، يقول في روايته (الأبله): خيرٌللأنسان أن يكون تعيساً خيرُمن أن يكون سعيداً ومخدوعاً، ويقول في روايته (الجريمة والعقاب) ربما أبدوا للبعض عجيبا وغريباً " أيكون جريمة قتل قملة قذرة ضارة وقتل عجوز لا يحتاج أليها أحد مرابية تمتصُ دم الفقراء إلا أن قتلهم يمحو أربعين خطيئة، لا أظن إن هذا الفعل جريمة ولا أريد أن أتطهر منها وأكفر عنها !.

هوكاتب قدير، وفيلسوف متفهم عمق النفس البشرية وزواياها المظلمة، وقدم في كتابه (حياة لها معنى) وصفا ثاقبا وصادقا للحالة السياسية والسوسيولوجية للمجتمع الروسي آن ذاك والذي أصبح مصدر ألهام للفكر والأدب المعاصر، أضافة إنهُ مخابراتي بوليسي كما ظهر في روايته (الجريمة والعقاب)، وهو أحد أعضاء جماعة الفكر المتحرر(جماعة بيتراشيفيسكي)، يقول فيه فرويد: تعلمتُ سلوك النفس البشرية من روايات ديستوفيسكي، وقال فيه الفيبسوف الألماني هيغل: يمكن أن يكون في موقع النبي المصلح، وأمتدحهُ الفيلسوف الوجودي مارتن هيتجروعالم الرياضيات الحديثة لودويك وعالم الفيزياء أنشتاين، إذاً هو أستاذ كل الأزمنة، ففي عالم ديستوفيسكي تتصارع الأ ضداد الخير مع الشرالحقيقة مع الزيف الرحمن مع الشيطان الموت والخلود والعاقل والأهبل، وهو عليم بميتافيزيقيا الكينونة البشرية وبنهايات ممزوجة بالبراكماتية المطابقة للواقع، لا يهتم بالقاتل أكثر مما يهتم بالأسباب والدوافع، يقول في روايته المقامر:{الرذيلة لها مقياس واحد بالنسبة للجميع وحتى إن أختلفت بالدرجات لأن لطخة السوء تبقى} تمكن من فك شفرة الأنسان بالغوص في أعماقه يكتشف إن الذات البشرية ممزوجة بالخير والشر والنسبة تضطرب بينهما ربما غريزيا تعلو نسبة الشراكثر، وأثني على رأي الكاتب لأن الصراع بين الخير والشر أزلي وتأريخي وما حصل بين الأخوة قابيل وهابيل، فكان هابيل الضحية وقابيل القاتل الجلاد، الناس يميلون إلى قابيل القاتل ويسمون أبناءهم قابيل ولا يقتربوت من هابيل!؟، ويوثق هذه النزعة الشريرة والبائسة الدكتور علي الوردي في كتابه (مهزلة العقل البشري) .

ويلخص الكاتب الروسي الفذ الحالة البشرية بأكملها ضمن صفحة واحدة فقط، فهو في القمة الهرمية للأدب العالمي 1821-1881 .

مقاربات فكرية تأريخية في تلاقح الحضارات!؟

- وجدتُ التشابه والمقاربة بين رؤى ديستوفيسكي في مغزى روايته (حياة لها معنى) الوصول إلى المدينة الفاضلة وبين حيثيات سفر التكوين وملحمة كلكامش، حيثُ تظهر الحكاية الفنتازية السحرية أن Nintiآلهة الحب  والجمال السومرية التي خُلقت ْمن ضلع (أنكي) لتشفيهِ بعد أن أكل الزهورالسحرية المحرمة من الشجرة الممنوعة التي ظهرت كأساس لقصة أدم وحواء في سفر التكوين، وإن فكرة خلود الآلهة التي ظهرت في ملحمة كلكامش والتي دفع بطلها بهوس وجنون وركوب المخاطر والمغامرات المرعبة لأكتشاف سرموت صديقهُ الحمبم (أنكيدو) وهو سرالحياة والموت أنتهت بأستسلام البطل كلكامش بعد مقتل (أنكيدو) وسرقة الأفعى عشبة سر الخلود، ونصائح الكاهن (أتونابشتم) مندوب الآلهة في سماع القرار السماوي أن الخلود للألهة فقط والموت من نصيب البشرية وقرر البطل كلكامش الرجوع لموطنه وبناء مدينة أوروك لآعتقاده الأنساني { بأن سر الخلود للبشريكمن في العمل الخير والصالح والذكر الحسن في خدمة البشرية} أي تحقيق حلم البشرية في المدينة الفاضلة .

- توضحت رؤى فلسفة ديستوفيسكي تلك الحقيقة المطلقة في فهم قيمة الأنسان (كأثمن رأسمال) لكون هذا الأنسان قادر على تطوير ذاتهُ ليحصل على السعادة الحقيقية عبر ألتزامه بالفضيلة وترسيخ السلام العالمي ونبذ الحروب والبحث عن القيمية المعرفية وليس السعي وراء المتعة الفانية تلك هي الفكرة الفلسفية الأخلاقية، وهنا قراتُ دراسة لزميلي الكاتب الأكاديمي "علي القاسمي" في كتابه الموسوم (عودة كلكامش): إن الملحمة السومرية تصدت لثلاث قضايا مهمة (الحياة والحب والموت) بدأ من النهاية حسب أعتقادهِ ليست اٌقل شأناً من البداية، فأذاً الفكرة فلسفية أخلاقية صيغتْ بهيئة  (ملحمة شعرية مطولة) شرقية ظهرت في عراق وادي الرافدين، وليس غريبا أن تظهرالفكرة الفلسفية الأخلاقية في الألياذة الأغريقية لهوميروس في حروب طروادة في أزدراء وأحتقار (باريس) لخطفه (هيلين) زوجة الملك  مينالاوس)ملك أسبارطة أعتبرت خطيئة والتجاوز على قانون قواعد لعبة الحروب في الملحمة الطروادية، إن كلا الملحمتين الشرقية والأغريقية مكتوبتين بنص شعري مطول في نصه السردي وكلاهما يتقاربان بالفكرة الفلسفية: إن الأنسان يخلد بأعماله الصالحة للفوزبالتغيير ويذكرنا التأريخ بأنجازات عظمائه في نقلة نوعية في تحديثها وعصرنتها في زمن العولمة الرقمية نجد الكثير من الرموزالعلمية أضاءوا زمن العتمة أمثال أديسون مخترع الكهرباء، أنيشتاين صاحب النظرية النسبية في الفيزياء الكونية، ونلسون مانديلا صاحب الثورة البيضاء والقس لوثر صاحيب الأصلاح الديني، ووليم مورتون طبيب أسنان مكتشف (البنج) 1846، والزعيم الشهيد عبدالكريم قاسم صاحب ثورة الخبز والسلام  .

***

عبد الجبار نوري

كاتب وناقد أدب عراقي مغترب

مايس 2024

...........................

المصادر والهوامش

-عودة كلكامش – الدكتور علي القاسمي

- ملحمة كلكامش – الدكتور طه باقر

- ديستوفيسكي – ميخائيل ياختين

 

المَدخل المُثير

يضعنا الكاتب من البداية، في مُواجهة مع المشهد الذي اختاره ليكون عنوان روايته "مشاة لا يَعبرون الطريق"(الأهلية للنشر والتوزيع طبعة أولى. عمّان 2019) حيث يرتسم في مخيّلتنا مشهدٌ للعَشرات أو المئات أو الآلاف من الناس الذين يُقيمون داخل بلدة، قد تكون مدينة غزة حيث عاش الكاتب، محاطة بطريق طويلة، تشدّ بأهلها للمُخاطرة والسّعيّ لعبورها كي ينطلقوا نحو عالم جديد أكثر اتّساعا وأوفر حظا، لكنّهم إذا ما حاولوا، يجدون أنفسَهم عاجزين عن تحقيق رغبتهم، فيعودون، وقد أيقنوا أنّهم يعيشون داخل سجن كبير لا يُمكنهم الخروج منه، ليتابعوا حياتَهم بروتانيّتها المملّة وطموحاتها المحدودة.

وهذا الارتداد وافتقاد الأمل، وحتى الحلم بالأفضل، يأخذنا إلى النهاية الحَتْميّة التي هي الموت الذي "تنثر ضرَباتُ حوافره على الإسفلت دويّا صارخا يُقلق مضاجعَنا، وفي مرّات كثيرة يمرّ مرور البرق لا نكاد نتيقّن من وقوعه إلّا بعد أنْ يرحل مَن نحبّ"(ص7)، حيث لا يبقى لنا ما نتلهى به غيرُ نَدْبِ حاضرنا واستعادة أرواح موتانا الذين رحلوا، وترقّب الآتي، حيث لا بدّ وأنّه قادم، إن لم يكن في الغد، فبعد الغد.

بداية ليست من عالم السينما

اعتدنا في القصص والأفلام السينمائيّة البولسيّة على البدايات المثيرة، حيث تقع الجريمة، وتبدأ تحرّياتُ الشرطة في السّعي للوصول إلى مُرتكب الجريمة، فتأخذ بنا الأحداثُ إلى كلّ الاتّجاهات، وتتداخلُ الأزمنة والأمكنة وتتقاطعُ، وتتوالى الشخصيّات، تؤدّي دورَها المناط بها وتختفي.

لكنّ الكاتب عاطف أبو سيف لم تشده بداياتُ الأفلام والقصص البوليسية، وإنّما استمدّ بدايةَ قصّته، كما كشف في أمسية أدبية أقيمَتْ له في مدينة رام الله، من حادثة حقيقيّة حدثت معه حين أقَلّ على وجه السّرعة مُسنّا سقط أرضا دون مَعرفة السّبب من أزقّة المخيم إلى المستشفى، وهناك أصرّ الشرطي على اتّهامه بالمسؤوليّة، لولا أنّه، وبعد حين، ثبتت براءتُه حين استفاق المسنّ وقال الوقائعَ كما حدثت".

هذه الحادثة تركت أبو سيف في حالة ذهول لم يستوعبها في البداية.

فماذا كان سيحدث له لو لم يستفق الرجل المسن، ومات؟

كيف كان سيُثبت براءتَه وأنّه قام بعمل خير فقط؟

 وكيف كان سيقضي السّنوات الطويلة في السجن أو يُحكَم عليه بالإعدام بتهمة قتل الرّجل المسن.

وتساءل أبو سيف: كم من بريء تَرمي به الصّدفةُ في واقعة تكون المدمّرةَ لحياته.

وأخذت خيوطُ القصّة تتشابك، وترسم المشاهد، وتستحضر الشخصيّات، وتبني واقعا مُتَخيّلا، يضيق بكثرة الناس الذين رمَت بهم نكبةٌ هجّرتهم من بلداتهم المختلفة وجمَعتهم في مخيّم ينتظرون فيه يوم عودتهم. يعيشون حياتهم البسيطة العاديّة، يسعون لتأمين الطعام والشراب لأفراد أسرهم، يخافون أنْ يفقدوا عملَهم فيما لو أغضبوا المتحكّمين بهم، السّارقين قوت أطفالهم باسم الوطنيّة والنّضال والاستعداد لليوم الموعود.

حقيقة لا لبس فيها، أنّ حياة الواحد منّا، طالت أم قصُرَت، تتوزّع على عالمين لا ثالث لهما: عالم الواقع المعيش الذي نحياه بحواسّنا الخمس. والعالم المتخيّل الذي نحلم به طمَعا في حياة أفضل، أو نخافه لأنّه يُهاجمُنا على شكل كوابيس مُرعبة تشلّ إرادتَنا، وتوقعنا في مَطبّات مجهولة ومُعاناة وعذابات. 

ويقيني أيضا، أنّ كلّ عالَم مُتَخَيّل ينطلق من الواقع المعيش الذي نعملُ على تَغييره، فنعيش ساعات البُعد والحريّة والانطلاق لنعودَ بعدها إلى حيث كنّا، نتفقّدُ أحوالنا، ونراودُ أحلامَنا، وننطلق بخيالنا.

هكذا انطلق عاطف أبو سيف من الواقعة التي حدثت له مع الرجل المسنّ الذي سقط أمامه، وقام بنَقله إلى المستشفى، ليُواجَهَ هناك بتهمة التّسبّب في سقوط المسن. ليبني عالما متكاملا يرويها في قصّته "مُشاة لا يَعبرون الطريق".

"مرّت الشّاحنة سريعة عند المنعطف. كان يجرّ درّاجتَه الهوائيّة القديمة، يكاد يعبرُ الشارع حين صدَمته الشاحنة. وقعَ أرضا. ندّت عنه صرخة خفيفة. عجلاتُ الدّراجة الهوائيّة ظلّت تدور بوَهن بعد أن ارتمت على وجه الإسفلت. لم تتوقّف الشاحنة أكثر من عشرين ثانية ثم واصل السائق اندفاعَه في الشارع، كأنّ شيئا لم يحدث. ثم كأنّه انعطف عند نهاية الشارع شرقا إلى الضواحي المجاورة. مشهد بسيط لكنّه حدَث بتَعقيد كبير."(ص9)

هذا المشهد الكامل الذي حدث، افتتح به الكاتب روايتَه ليتابعَ في عالمه المتخيّل رسمَ المشاهد وبناءَ قصّته المتكاملة.

وطبيعي أنْ يثيرَ هذا المشهدُ مَن تَواجد صدفة في المكان. وبالفعل سارع صاحبُ دكّان الفاكهة القريب لمساعدة المسن، ومثله فعل السائق الذي مرّ، والفتاة الجامعيّة التي نزلت لتوّها من الباص، حيث قاموا بإدخال الرجل المسن إلى السيارة التي نقلته إلى المستشفى.

لم يستغرق الحدَثُ وقتا طويلا. ولم يُثر اهتماما كبيرا. فالحياة مستمرّة والناس يُتابعون حياتَهم الاعتياديّة:

 "طفل صغير، يمرّ صدفة، استغل عدمَ وجود الفاكهاني في دكّانه فتناول حبّة خوخ وأكلها غير عابئ بكلمات التأنيب التي يقذفه بها بائعُ الترمس والفول. شابّ يجلس على شرفة يُدخّن نرجيلة بطعم التّفاح، رأى المشهد كاملا ولم يُحرّك ساكنا. بائع في الثلاثينات من عمره يجرّ عربة ترمس وفول نابت. امرأة خمسينيّة تجرّ طفلها متأفّفة من الحرّ. تلاميذ مدارسَ يخرجون من الشارع الذي تقع فيه مدارسُهم. باص يتوقّف في المحطة لتنزلَ منه طالبة جامعيّة. ثلاث صبايا يدخلن محلَّ الموبايلات الذي افتتح حديثا. رائحة الدّجاج المشوي تفوح من داخل المطبخ الكبير على مَدخل أحد الأزقّة. من فوق سطح يقف طفل لم يتجاوز العاشرة يُطلق العنان لطائرته الورقيّة تحمل أحلاما كثيرة لتسافر بها إلى فضاء آخر. صوت الأم يحذر ابنَها من السقوط. تطير الطائرة الورقيّة سارحة في السّماء الواسعة شمالا. الأعينُ الكثيرة تشخص نحوها محلّقة في مساحات لا مُتناهية. الطائرة الورقية تبدو وكأنها تستقرّ فوق المستشفى الذي تمّ بناؤه حديثا على التلّة شمالي المخيم حيث ستَنقل السيّارة الرجلَ العجوز الذي دهسته الشاحنة"(ص10-12).

هذه المشاهدُ العاديّة لحياة الناس اليوميّة غير المبالية لوقوع هذا الحدَث أو ذاك، فكلٌّ مَشغول بهمومه الخاصّة. والأحداثُ العارضة تمرّ سريعا، لا تترك أثرا لها.

كان من الممكن أنْ تنتهي القصة بإدخال المسن إلى المستشفى، ونُتابع مشاهدَ الحياة الروتانيّة للناس. الدّالّة على استمرارية الحياة العاديّة.

لكنّ الكاتب عاطف أبو سيف عاد لتجربته الخاصّة، واتّهام الشرطي له بالتّسبّب في سقوط الرجل الذي نقَله إلى المستشفى لينطلق في عالمه المتَخَيّل، ويتغلغل في دواخل الشخصيّات التي استحضرها، ليكتشف سرّها وطُرقَ تفكيرها وعوالمها السريّة التي لا يعرف حقيقتَها غيرُها.

"أمام باب قسم الطوارئ في المستشفى التَمَّ المارّةُ والزوّار حول السيّارة ليساعدوا في نَقل الرجل إلى الدّاخل. الجميعُ يهتم لمعرفة ما حدَث: ما الذي حدث؟ ما له؟ حادث؟ شجار؟ هل اعتدى عليه أحد؟ أين عائلته؟ مَن قريبُه؟ معقول لا أقارب له؟ هل من قريب هنا لهذا الرجل؟ معقول أنّ الرجل نزل من الفضاء؟ مَن اللعين الذي حاول قَتْل الرجل؟  لكن أين أهله؟ لا بُدّ أنّ له ابنا أو بنتا أو زوجة أو أخا أو أختا. مقطوع من شجرة؟ لا بُدّ أنّ سائق السيارة الذي أحضره يعرف؟ أين سائق السيارة؟"(ص13-14).

الجلبة التي حدثت عند وصول الرجل المسن إلى المستشفى، واهتمام كلّ مَن صدَف وجوده بالحدَث، انتهت بمجرّد أن أُدْخِل الرجلُ إلى المستشفى، فتفرّق الناس، كلّ إلى همومه، وانحصر الاهتمامُ بالرّجل بين الذين أحضروه والصّحفى الذي يريد كتابة تقريره عن الحادث، والممرّضات والطبيب. ثم سرعان ما أصبح الرجلُ حالة طبيعيّة بالنسبة للممرّضات والطبيب. وظلّ الاهتمامُ به ينحصر في السائق وبائع الفاكهة والطالبة الجامعيّة والشرطي الموكل على الأمن والصحفي.

فَنيّة الكاتب الذّكيّة

استمرار الرجل المسن في غيبوبته أخرجَه من مركز الأحداث، وحوّله لينحصر في كونه نقطة الارتكاز الحياديّة التي يلتقي الجميع حولها. ممّا أتاح للكاتب أن ْينطلق في غَوْر ذاتيّة كلّ شخصيّة على حدَة ليكتشف المشترك بينها ويقفَ على الخاصّ بكلّ منها.

الصفة المشتركة البارزة التي جمعت بينهم، وحتى مع باقي الناس المّارّة والمتجمّعة في الشارع، حيث سقط الرجل المسن، والناس المتواجدين أمام المستشفى والممرضات والطبيب، كانت الناحية الإنسانيّة الدّافعة بالواحد ليكون إلى جانب الضّعيف والمريض والمصاب ليمُدّ له يدَ المساعدة المطلوبة. لكنّها حالة عابرة، سرعان ما يرتدّ الواحدُ عنها ليعتني بمشاغله ومتطلّبات حياته. وأيضا هذا الارتداد هو حالة إنسانيّة تفرضها رغبةُ كلّ واحد في استمرار حياته وتجاوز الصّعاب فيها. وهذا ما حدث بالفعل حيث عاد الفاكهاني إلى دكّانه، والسائق إلى عمله، والطالبة إلى جامعتها، والشرطي لمزاولة عمله المناط به، والصّحفي ليكتب التقريرَ المطلوب منه للجريدة. رغم أنّ حالة الرجل المسن لم تغب عن أيّ منهم، وظلّت تدفعهم لزيارته والاطمئنان عليه.

الصّفة المشتركة الثانية التي جمعت بين الجميع هي الشّك. فسَعْيُ كلّ منهم لمعرفة ما حدث للرجل، وكيف أصيب وسقط، أدْخَلت كلا منهم في دوّامة مُقلقة مخيفة، جعلت الواحدَ يشكّ في الثاني، والجميع يشكّون ببعضهم البعض، ويُطلقون الاتّهامات في كثير من الحالات بصوت عال وواضح. كما حدث بين السائق والشرطي "انفجر السائق في وجه الشرطي: أنت تشكّ؟ ونحن نشكّ فيك أيضا. نعم نحن نشكّ فيك. أنت تشك في كلّ شخص، تريد أن تحرف الحقيقة لأنّك تعرفها، أو لأنك فعلا جزء منها. لماذا تكون بريئا ونحن كلّنا متهمون؟ تعتقد أنّنا لا نعرف الحقيقة. الحقيقة أنّنا كلّنا متّهمون، وأنت متّهم أيضا. لماذا أنت وحدك بريء؟"(ص145).

والشكّ صفة إنسانيّة أيضا، فيها الجوانبُ الإيجابيّة التي تجعل الواحدَ لا يقتنع بما هو عليه، ولا يقبَلُ بالمسلّمات، ويريد تَغيير كلّ شيْء للأفضل، ويدفع الواحد للبحث والتّنقيب والعمل. وفيها السلبيّة التي توتّر العلاقات بين أقرب الناس، وقد تُدمّرُ حيوات الكثيرين، فتمزق الأسرَ والمجتمعات، وقد تؤدّي إلى الفوضى والعِداء.

وهذا ما حدث لجميع الشخصيّات التي التقت عند الرجل المسن الغائب في غيبوبته الطويلة، فكل واحد يشكّ في الثاني بأنّه وراء الجريمة التي حدثت، وكلّ واحد يعتقد أنّ الثاني يريد التّستّر على ما قام به، مُلقيا التّهمة على الآخر. ومع كل رواية جديدة تغيب الحقيقة أكثر، ويظلّ الرّجل في غيبوبته.

لم يشأ الكاتب أنْ يقفَ بنا عند شكّ الواحد في الثاني، وينهي الحكاية بهذه الحالة المرفوضة، وإنّما انطلق من فكرة أنّ حياة الواحد موزّعة، كما قلت سابقا، بين عالمين: عالم الواقع والعالم المتخيّل. وهما مُتداخلان في حياة كلّ إنسان. وانطلاقُنا من واقعنا لنُحلّق بالمتخيّل قد يُخلّصنا من جمودنا وافتقار إبداعنا لننطلقَ بالمتخيّل الذي يفتح أمامنا عوالمَ لا نهاية لها، وآفاقا تدفعُ بنا أكثر وأكثر.

وإذا كان الشرطي يُمثّل الغَباء برغبته في إرضاء المسؤول عنه الذي لا يقلّ عنه غباء، وهمّه فقط إثبات التّهمة وإلصاقها بأيّ واحد ليبرز موهبته وقُدُراته أمام المسؤولين عنه. فإنّ السائقَ والفتاة وحتى الفاكهاني يريدون التخلّصَ من شكّ الشرطي بهم باتّهام الغير. والحقيقة التي يعرفها، ورصدَها الشاب الذي كان يجلس في الشرفة بأنّ الشاحنة لم تصدم الرّجل المسن، وأنّه سقط وحده، ظلّت مَخفيّة، لأنّ أنانيّتَه، وقد يكون تخوّفُه من التّورّط في التّحقيق معه، دفعاه لالتزام الصمت، وعدم الإدلاء بمعلوماته لأحد.

هذه الحقائقُ الواقعيّة التي أبقت أصحابَها في دوّامة من الضّياع، كانت بحاجة لمَن يتحرّر منها ليخرجَ الجميع من دوّامتهم. وكان صوتُ المحرّر صاحب الصحيفة الدّافع لهذا التّحرّك. "القصّة الحقيقيّة ليست فيمَن حضر، بل فيمَن غاب. الغائبون هم الذين يصنعون الحكايات الحقيقيّة. فالقاتل غائب، كما أنّ أهل الرجل غائبون" (ص76).

والتقط الصحفيّ الإشارة الذكية من المحرّر، وفكّر: "عالم الغائبين، هو العالم الذي عليه أنْ يقومَ بصياغته، وخَلق حكاياته. من المؤكّد أنّ عالَمَ الحاضرين حول السّرير مليء بالقصص، أمّا البطل الحقيقيّ للتّقرير، الذي عليه أنْ يُبرزه، أيّ الرجل العجوز، فهو الغائبُ الأكبر في الحكاية. الحكاية والبطل توأمان عادة، لكن في هذه الحالة فثمّة حكاية بطلُها غائب. ومهمّته الكبرى يجب أنْ تكون خَلق عالم خاصّ بالرّجل العجوز. تخيّلُ حكايته الخاصّة، وافتراضُ وجود هذا العالم وتلك الحكاية، وتأسيسهما وفْق منظومة علاقات من الأشياء التي تتوفّر في مَتْن الحكاية، وتأثيثهما بكلّ ما تمّ العثور عليه على قارعة الحكاية."(ص77). 

هكذا أخذت القصّة المتَخيّلة تنبني انطلاقا من "صورة بالأسود والأبيض لشابّة جميلة وُجِدَتْ في محفظة بنيّة اللون، احتفظ بها الرجل. ودرّاجة هوائيّة قديمة. ثلاثة أشياء لا بُدّ أنْ تصلحَ لكتابة قصّة حياة الرّجل العجوز.". (ص 77)

القصّة المتَخَيّلَة

صورة الشّابّة الجميلة التي وُجِدَت في المحفظة كانت بدايةَ الانطلاق في بناء القصّة الكاملة. فلا بدّ أن تكون صاحبةُ الصورة عشيقةَ الرّجل، حيث احتفظ بها كلّ هذه السّنوات الطويلة. هكذا افترض الصّحفي في قصّته المتخيّلة. "فالحبّ هو الشيء الوحيد الذي لا يذوي في حياتنا. نشيبُ، وتوهن أجسادنا، ويفتك الزمن برغباتنا، وتدوس عرباتُه أحلامَنا، لكنّ الحبّ يظلّ فتيّا في القلب. له نفسُ إيقاع النّبضة الأولى، دهشةُ الرّوح ذاتها، وارتعاشةُ الجسد نفسها حين يخطر على بالنا مَن نُحبّ. فأجملُ ما في الحبّ هو إصراره على البقاء، على عبور الزمن، على التّعبير عن نفسه في أشدّ اللحظات قسوة، مقدرتُه على مَدّنا بأكسجين الأمل. لذلك فمَن نُحبّ يظلّ شابّا، فالعشّاق لا يشيخون، لا تدوس أرواحَهم عربةُ الزّمن". (ص78)

واختار اسمَ "سلوى" للفتاة لتتجسّدَ حقيقةً ملموسة. كلاهما من مدينة يافا. التقيا صدفة في أحد نهارات نيسان من العام 1946، كانت عائدة من مدرسة "حسن عرَفة" الثانوية فيما كان هو عائدا من مدرسة "العامريّة". وقف مثل مَن صَعَقته الكهرباء أكثر من دقيقتين دون أنْ يرمش. ظل يُحَملق إليها وهي تخطو مثل طاووس بين صديقاتها. وتطوّرت العلاقة بينهما، وتقاربت الأسرتان، وانتهزا فرصةَ التقاء العائلتين في سهرة من ليالي يافا الرّائقة ليختليا معا، ويخطفا قبلة سريعة، لا يُفارقُه مذاقُها طوالَ العمر. أمِلا بالزّواج بعد انتهاء دراسته في الكلية العربية في القدس والحصول على شهادة "المَتْرك". وكانت سلوى في وداعه ساعة سفَره إلى القدس، وظلّت تلوّح له بيديها والدّموع تُغطّي وجنتيها حتى اختفت الحافلة.

وحدث ما لم يكن مُتوقّعا. وقعت النّكبة. واحتلّ اليهود مدينة يافا وطرَدوا أهلَها العرب، فتشتّتت العائلاتُ. وحملت النّكبةُ عائلتَه إلى مدينة غزّة فيما كان هو في القدس. وفقط بعد ستة أشهر نجح في الوصول إليهم. لم ير محبوبتَه سلوى منذ لقائهما الأخير، ولم ينجح في العثور عليها أو معرفة أيّة معلومة عنها. ظلّ عمره كلّه ينتظرها. رفض كلّ العروض التي قُدّمت له للعمل، وفضّل أن يعمل ساعيا للبريد عَلّ رسالة منها تصله. مرّت السنوات وقارَبَ الثمانين من عمره وهو ينتظر، حتى جاءه خبرٌ من صديقه حبيب بأنّ أخبارا جديدة ومُفرحة من سلوى سيُفاجئه بها. وغمَره الفرحُ مرّة واحدة، استعدّ للقاء سلوى، صفّف شعره ، رتّب هندامَه نزلت دمعة ساخنة على خده، رشّ العطرَ على جسده، فكّر باستئجار سيارة توصله إلى بيت صديقه حبيب، لكنّ نظرته الخاطفة إلى درّاجته أعادته إلى صوابه. فهي رفيقة عمره في انتظاره لسلوى والبحث عنها. احتضن الدرّاجة الهوائيّة، شعر أنّه يستعيدُ شبابَه، اعتلاها وقادها شاقّا زقاقات المخيّم صَوْبَ بيت صديقه حبيب، حيث تنتظره، كما كان متأكدا، محبوبتُه سلوى. ، لكنّه وقد اقترب من الشارع الرئيس، نزل عن درّاجته من شدّة الازدحام، وتقدّم يجرّ درّاجته نحو الشارع، وإذا بالشّاحنة اللعينة تصدُمه، فسقط ودخل في غيبوبة طال أمدُها، وحرمته من الوصول إلى بيت صديقه حبيب واللقاء بمحبوبته سلوى. وكانت النهاية بأنْ عادت سلوى إليه، كما أمِلَ طوال سنوات عمره، حضرت إلى المستشفى "فتحت البابَ ودخلت. كانت عتمة تسحب عباءتَها عن الغرفة. وضعت يدَها على رأسه فأفاق من الغيبوبة على اللمسة التي ظلّ ينتظرها عقودا وعقودا. ترَجّل ونهضَ عن السرير مثل شمس تُشرقُ من بين تلال الغيوم. كأنّه كان ينتظرها، فتح عينيه وملأهما بحضورها في قلبه الثمانيني. وعاد طفلا يلهو في أزقّة يافا". (ص203)

مُواجهة المستسلمين الخانعين

كنتُ على ثقة، ولا أزال، أنّه لا وجودَ لإبداع حقيقيّ إذا لم يرتكز إلى واقع قائم، نتعايشُ معه بكل علّاته وفَضائله، ويتطلّع إلى واقع افتراضيّ يرسمُه له الخيال، يعمل على تَحريره من قيود الواقع المعيش المقَيِّد، ويأتي بالأفضل.

ومن هذا المنطلَق، كما أعتقد، أدخلَنا الكاتبُ في روايته إلى هذين العالمين ليوقفنا على الأخطار التي تتهدّدُ الناسَ الذين عاشوا وناضلوا وضحّوا لتحقيق أمل، حرصوا عليه عقودا وعقود، وبدأ يتوارى ويُغلّفُه الإهمال، وحتى النسيان، أمام هموم الناس اليوميّة، ولا مَعْقوليّة، ولا مُبالاة العالَم القريب والبَعيد، وتَحميل كلّ واحد لغيره مسؤوليّة الذي يحدث.

فالرجل المسن المقتربُ من الثمانين عاش عمره كلّه، رافضا أيّ عمل يُبعده أو يلهيه عن هدفه الوحيد في البحث عن محبوبته والوصول إليها والتّوحد معها. وفضّل العملَ ساعيا للبريد، يُوزّعُ الرّسائلَ إلى أصحابها وهو يقود عربتَه الهوائيّة. بينما باقي الناس أخذتهم المشاغلُ اليوميّة. منهم مَن أغرتهم المناصبُ والسّلطة فاتّخذوها وسيلةً للوصول إلى الغِنى والتّحكّم برقاب الناس ومَصائرهم. ومنهم مَن انشغل بهمومه العائلية الضيّقة البائسة، فلم يفكّر بغيرها. ومنهم مَنْ زاول حياته العادية اليومية فارتاح إليها، واختار هَدْأةَ البال على مُواجهة الصّعاب ومخاوف الموت والإبْعاد والسّجون. فتركوا أحلامَهم الكبيرة وعزَفوا عن العمل لتَجسيدها.

ووحده مَن عانى من تضاؤل تَعاطفِ الناس معه، والاكتفاء بالكلام المعسول المخادع، وشهد انحدارَ الجميع في خوضهم صراعات البقاء فيما بينهم، كلّ يشكّ بغيره ويُباعِده ويُعاديه ويعمل على إضعافه، وحتى مَحوه من الوجود. والرجل تُرهقُه السنواتُ الطويلة وهو يرفض الاستسلامَ، ويتشبث بالأمل والإيمان بأنّ محبوبتَه ستعرفُ الطريقَ إليه وستأتيه ليبدآ حياة جديدة سعيدة. 

قصص جانبيّة ولَسَعات قد تُنبّه 

كما في كلّ رواية، انطلق الكاتبُ ليتابعَ قصصَ الشخصيّات الأخرى التي تُحيط بالشخصيّة المركزيّة، لدورها المهم في بناء الجسم الكامل للرواية التي تُصوّرُ عالما مُتكاملا تنبضُ فيه الحياة، وتتفاعلُ الشخصيّات، وتتهادى الأمكنة، وتتزاحمُ الأزمنة.

لكنّ المثيرَ أنّ كلّ الشخصيّات مشغولةٌ بأمورها الخاصّة وحاجيّاتها اليوميّة غير مُنتبهة أو مُهْتمّة بالشّأن العام أو واضعة أمامَها هدَفا تسعى للوصول إليه. فالناس العاديون أمثال السّائق وبائع الفاكهة يهمّهم تأمينَ لقمة العيش لأفراد أسَرِهم. والشرطي الذي شارك في الانتفاضة واعتُقل خمسَ سنوات، وفرح يوم التقى الرئيس ياسر عرفات الذي كان يُخبّئ صورتَه في السجن ويرسمُه على الورق، أصبح العبدَ المطيعَ المنافقَ الساعي لنَيل رضا الضابط المسؤول عنه، ولا يفكّرُ بغير رضاه ليضمنَ لنفسه استمراريّة الوظيفة وتأمين مستقبل الأسرة. والطالبة الجامعيّة رغم لفتتها الإنسانيّة ومساعدتها للرجل المسن إلّا أنّ شغلَها الشّاغل في التفكير بحبيبها الذي تركها، وتعملُ جاهدةً لاستعادته ونَيْل رضاه، بينما هذا الحبيب تركها لأنّه غير راض عن تصرّفاتها. وهو شاب أنانيّ غير مهتم بكل ما يدور حوله، ويجري أمامه، فهو جَبانٌ لا يُواجِهُ، ويُؤْثرُ السّلامةَ على تَعْريض نفسه للخطر. والصّحفيُّ يُسايرُ رئيسَ التّحرير ويقبل بنصائحه ويجتهد ليكتب التّقرير الأفضل. ومنهم مَن انقلبَ على ماضيه النّضالي، وتسلّق سلالمَ السلطة الدينيّة والدّنْيَويّة، فتحكّم َبرقاب الناس، وظلمَهم، واستغنى على حسابهم باسم الوطن والنّضال.

عالم افتراضيّ هو أقربُ إلى الواقع المَعيش

في روايته "مُشاة لا يعبرون الطّريق" اهتمّ الكاتبُ عاطف أبو سيف أنْ ينقلَ لنا الصورةَ الحقيقيّةَ للواقعِ المأساويّ اليوميّ الذي يعيشُه الشّعبُ الفلسطيني في الأراضي المحتلّة. وقد اجتهد أن يُقدّم، بهدوء وبعيدا عن الصراخ والشعارات المعتادة، صورة بانوراميّة لمعاناة الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة نتيجة لثقل نير الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينيّة وحرمان أبناء غزّة من المَخارج الجويّة والبحريّة والبريّة، إضافة إلى ثقل وظلم حكم المتسلّطين على الحكم في غزّة وانفلات الفئات الاستغلاليّة الانتهازية التي تلتهم أموال الناس، وتغنى على حساب الفقراء باسم النضال ومحاربة المحتل. فالشعب الفلسطيني يعيشُ حياةً باهتة، فارغة، عبثيّة، حالمة، غافلة عمّا يحدُث ويُنَفّذُ يوميّا. ويشهدُ انحسارَ الوطن، وافتقاده، وضياعَه، ولا يملك القُدرةَ على التّصدّي والمواجهة. يعيشُ حياة يتهدّدُها الخَرابُ، كما قال النّاقد فيصل درّاج "الممتدّة من متزعّم تآلف مع "الأنْفاق والمولات"، إلى مواطن بسيط هاجسُه "تأمين الأولاد" ومناضل قديم يوغل في التنازل يُفاخرُ بأنّه لا يتنازل، وصولا إلى فتاةٍ يقهرُها إخوتُها وأبٍ ينتظرُ زيارة ابْنٍ بَعيد، ومعلّم شبه أميّ غدا مسؤولا تربَويّا عالي المقام، وإنسان فاسد حافظ على امتيازاته في أزمنة غزة جميعا".(مجلة الكلمة.عدد 151 نوفمبر 2019)

نهاية الكلام

"مشاة لا يَعبرُون الشّارع" ليست مُجرّد رواية تُضاف إلى عدَد الروايات التي صدرت قبلها، وإنّما هي صَرخةٌ عالية، يوقفُنا بها الكاتبُ على الهُوَّةِ السّحيقة التي تنتظرُ الشعبَ الفلسطيني فيما لو ظلّ على حالِه مِنَ الاتّكاليّة والأنانيّة والانشغال بالصّراعات والعَداوات والهموم اليوميّة التي تُثقل كاهلَه.

في مجتمع يعيشُ حالةَ اغتراب، فقَدَ بوصلتَه، وضَيّع هدفَه. ومع شعب يُعاني تحت الاحتلال، يبحث عن طريق خَلاصِه، تصدرُ روايةُ عاطف أبو سيف "مُشاة لا يعبرون الطريق" لتصرخَ مُنبّهةً ومُثوّرةً ومُحذّرةً أنّ الاستمرارَ في المشي البطيء مرفوضٌ في زمن السّرعة الفَوْق ضَوئيّة اللامَعْقولة. والقُبولُ بالطّريق المسْدودة الملتفّة حول الأعناق، لم تَعُدْ بالقَدر المحتوم المرضي عنه. والعبورُ لم يَعد اختيارا، وإنّما هو فَرْضٌ حَتْميّ لحياة كريمة حرّة.

ولحرص الكاتب على تَثْبيت إيمان أبناء شعبه بمستقبلهم يرسمُ، من البداية، المشهدَ الذي يبعث الأملَ، ويُطمْئنُ على المستقبل الآتي مهما بعُد، "مَشهدَ طفل لم يتجاوز العاشرة، يقف فوق سطح البيت، يُطلقُ العنان لطائرته الوَرَقيّة، تحمل أحلاما كثيرةً لتُسافرَ بها إلى فَضاء آخر. تطيرُ الطائرةُ الورقيّةُ سارحةً في السّماءِ الواسعة شمالا، تَشْخَصُ نحوَها الأعْينُ مُحَلّقة في مساحات لا مُتناهية، لتستقرَّ أخيرا فوق المستشفى الذي تَمّ بناؤه حديثا على التّلّة شماليّ المخيّم، حيث ستقلُّ سيّارةُ الأجرة الرّجلَ العجوزَ الذي دهسته الشّاحنة". (ص12) 

***

د. نبيه القاسم - الرامة - فلسطين

* تأطير: هذه ورقة تعرف بمؤلف "النادل والصحف" للراحل الأستاذ عبد الرحمان الفايز، المربي والأستاذ المفتش قيد حياته، والذي أصدر كتابه سنة2019، وقد عرف الراحل بروح المرح والدعابة والطيبوبة الكبيرة والتطوع لخدمة الآخرين ومساعدتهم، وهي بعض الأصداء التي تعكسها فصول هذا الكتاب الغني بالمواقف والأحداث والمفارقات والطرائف . وهذه الورقة هي تقديم لعمل مفصل نستكمله قريبا إن شاء الله. فتحية إلى روح الراحل الأستاذ عبدالرحمان الفايز، وإليكم الورقة:

* سؤال التجنيس في "النادل والصحف":

أول ملاحظة تصادف القارئ لكتاب "النادل والصحف " هي غياب أية  إشارة لجنس هذا العمل سواء في الصفحة الأولى من الغلاف، أو في الصفحات الداخلية(1-2-3) الواردة قبل الإهداء (ص5). وهو غياب يجعل القارئ يتساءل عن هوية الكتاب الموجود بين يديه.

وليستطيع القارئ بناء افتراض معقول بهدف تصنيف الكتاب عليه أن يتوقف عند الصفحتين: 5 و7، إذ يرد في ملاحظة الكاتب بالصفحة الخامسة ما يلي:"تمت بداية تسجيل هذا العمل خلال سنة 2010، وما بعدها على وجه التقريب". هذه الملاحظة تقدم لنا معلومتين: اولاهما أن الكتاب في بدايته كان  تسجيلا والتسجيل هنا يحتمل: تسجيل شفهي بواسطة آلة تسجيل، ثم تأتي عملية تفريغ العمل كتابة. أو تسجيل كتابي بمعنى تدوين وكتابة وهو أمر آخر. فهل كان الكتاب شفهيا في البداية أم كتابة؟

ما الفرق بين الأمرين؟ لعل ذلك ينعكس على أسلوب الحكي، فالتلقائية والتداعي الحر يختلفان عن القصدية والانتقاء.

والمعلومة الثانية تحيل على زمن الكتابة/التسجيل(٢٠١٠ على وجه التقريب أي قبل ٩ سنوات من النشر).

و في نفس الصفحة يشير الكاتب إلى أن:" هذا العمل المتواضع". ولفظة التواضع سنحتاجها لاحقا لتساعدنا على تحديد هوية العمل.

أما في الصفحة السابعة فقد تم إثبات تقديم من ثلاثة أسطر وردت فيه المفاهيم التالية: عمل سردي/السيري والقصصي/ الواقع/ تخضيب الواقع بالخيال.

وبهذا يتضح أن الكاتب اختار هوية محددة لكتابته وأطرها في خانة السرد الحكائي.

وبالعودة إلى الهوية السردية للنص نستحضر التصنيفات النقدية المتداولة الآن فنقف عند الأنواع السردية المهمة الآتية:

السرد الروائي-القصصي، السرد السير/ذاتي (السيرة الذاتية)، والتخييل الذاتي. دون أن ننسى باقي الأنواع: السيرة الغيرية، الخاطرة،و الأشكال السردية التراثية....

ومع غياب أية إشارة إلى الهوية الروائية/القصصية لعمل "النادل والصحف"، وكذا غياب وسمه بالسيرة الذاتية الصريحة، يتبقى لنا افتراض قوي هو أن كتاب "النادل والصحف " عبارة عن تخييل ذاتي.

فما التخييل الذاتي؟

بالتوقف عند هذا المفهوم نعرف أن "سيرج دوبروفسكي"حدده من خلال أربع سمات:

سمة شكلية (مغامرة لغوية)، سمة أجناسية (الكاتب يصبح شخصية خيالية)، وسمة التخييل (الإهتمام بحياة الناس العاديين التي أشار إليها الكاتب بالتواضع)، وسمة الموضوعية (سرد الحياة الحقيقية مع انزياح عن المرجع/الواقع).

ورغم الانزياح عن الواقع فإن القصة تحرص على الإيهام بالواقع، مع توظيف أسماء مستعارة أو كنى وألقاب، ويسعى الكاتب إلى إضفاء التخييل على الذات ويبعدها عن الواقع/المرجع (كما يقول كولونا).

فهل يرقى هذا "التخييل الذاتي" إلى أن يكون جنسا أدبيا مستقلا أم هو مجرد سجل خطابي؟ أو وضعية خطابية تعتمد في الكتابة السردية؟ وهل هو جنس كامل؟ أم غير معروف؟ أم خفي؟

بالعودة إلى مقولة:" بمجرد أن يحرف اسم العلم يبدأ التخييل "(سيلين ومالرو)، نستطيع القول مع محمد الداهي بأن نص "النادل والصحف" يندرج ضمن التخييل الذاتي، وذلك لأسباب نذكر منها:

- انه يحكي حياة البسطاء(متقاعدون، الجيران،التلاميذ، القرويون،...)،أو حياة بسيطة: حياة رجل تعليم متقاعد وتفاعلاته مع الحياة ورصده لظواهرها السلبية: سرقة جرائد المقهى، ظاهرة المشردين، العنف الرياضي، سوء الجوار،العلاقة مع السلطة، مشاكل التعليم...). وقد عبر الكاتب بلفظة "المتواضع" مبعدا نفسه عن حياة العظماء التي هي موضوع السيرة الذاتية الصريحة كما يرى دوبروفسكي.فالكتابة هنا سيرة ذاتية لعموم الناس (وليس للمهمين فقط).

- ان الكتاب يقدم لنا "حقائق مزيفة"، أي ينطلق من مرجعية واقعية (حياة المتقاعد وباقي الشخصيات التي يذكرها وهي حياة اجتماعية ونفسية) ويلونها بالخيال (تزييف فني)، أي اضفاء التخييلي على الواقعي.

- ان الكاتب يقدم نفسه بصيغة:"هذا أنا وليس أنا" حسب تعبير جيرار حنيت، أو كما قال داربوسك ماأقوله:" حقيقي يجب عدم تصديقه".

- ان العلاقة بين الكاتب والشخصية والسارد تكون مبنية على التطابق الجزئي(على عكس السيرة الذاتية الصريحة التي تقوم على التطابق التام). فالكاتب  في "النادل والصحف" لا يصرح باسمه الحقيقي،وإنما صادفنا ثلاثة أسماء في الكتاب: أحمد (ص10)، عبد الله (ص134) ومحمد(ص167). وقد ورد اسم كل من عبد الله ومحمد مقرونا بصيغة السارد الشخصية المستعمل لضمير المتكلم(يظهر هنا التطابق بين الشخصية والسارد مع الاختلاف مع الكاتب). وأما اسم محمد فقد ورد بصيغة الغائب (تمايز الكاتب عن الشخصية/ تمايز الشخصية عن السارد/تمايز الكاتب عن السارد).

وهنا يطرح اشكال وحدة الشخصية/ البطل. هل هو نفس الشخصية في جميع الفصول؟ أم هو أكثر من شخصية؟

يبدو أن الفصول الاثنى عشر تتحدث عن نفس الشخصية التي يختفي خلفها الكاتب، وهذه الشخصية هي الخيط الرابط والناظم بين جميع الفصول. أما اختلاف الأسماء فقد يعود إلى "مكر التخفي" الذي يمارسه الكاتب. فاختلاف اسم البطل عن اسم الكاتب في التخييل الذاتي يفسر ب"المكر"الفني عبر تحريف أسماء الشخصيات(يشار إليها من وراء حجاب!) لأن المهم ليس الإسم في حد ذاته وإنما الدور الذي تقوم به الشخصية.

وهكذا نستخلص فيما يخص الهوية الأجناسية لنص "النادل والصحف " الآتي:

التخييل كتابة حكائية تخترق الخصائص الفنية للكتابات السردية: القصصية والروائية والسيرية. وهي تقوم على:" إضفاء التخييل على التجربة الذاتية المعيشة"حسب فانسون كولونا. وعلى المستوى الشكلي يتخذ التخييل الذاتي شكل طبقة من النصوص المتواجدة في السرد (حكايات الفصول الاثنى عشر وقد ترد أكثر من حكاية داخل الفصل الواحد). ويتوفر على بعض شروط ومواصفات الجنس الأدبي(تقنيات السرد: الاحداث، الحبكة، الشخصيات والصراع واللغة كوصف أو سرد أو حوار، المكان والرؤية السردية والزمن).

هذا الشكل الحكائي لم يرق بعد إلى مستوى أن يكون جنسا أدبيا معترفا به مؤسساتيا، ويبقى عبارة عن: وضعية تلفظية تعبر عنها عبارة (لنتخيل بأنني) حسب كولونا.وربما بحسب البعض هو" جنس غير مكتمل" أو في طور التشكل والاكتمال (منذ 1977-الابن لدوبروفسكي)، وربما له علاقة بالخانة الفارغة التي تركها فيليب لجون وهو ينظر للجنس السير-ذاتي.

وهذا كله لا يقلل من القيمة الأدبية للتخييل الذاتي فقد انتسبت إليه نصوص رائعة ك: مثل صيف لن يتكرر ودليل العنفوان وغيرهما كثير وضمنه نص "النادل والصحف "للراحل الأستاذ عبد الرحمن الفايز رحمه الله.

***

عبد الجليل لعميري

 

عند توقّد شرارة ما، جراء تماس ثقافي بين كيانين ثقافيين مستقلين ومتباعدين، سينتج عن ذلك كيان ثقافي جديد، هو ما يسُسمى اليوم "بالثقافة الهجينة" Cultural Hybridity، وهي حالة تزيد ثراء الثقافات، وتضاعف أهميتها وتأثيرها، عند إتصالها وإرتباطها بثقافات أخرى تؤثر وتتأثر بها. أي أن الثقافة المتأثرة بغيرها والتي تحمل الصفات الهجينية، لم تعد تحمل هوية عناصرها الأساسية فقط، على الرغم من مظاهر الخصوصية الذي تحمله، وذلك لإدماجها عناصر من ثقافة أو ثقافات أخرى، بفعل ما يمر به العالم من إنكماش في المسافات المكانية والزمانية عبر مختلف وسائل الانترنيت والاتصال وباقي وسائط العولمة. "فالتهجين الثقافي لا يعني محو أو تمييع الهوية الثقافية للفرد، بل يعني احتضان تنوع الثقافات والاحتفاء به." – كما تؤكد الباحثة والاكاديمية الامريكية غلوريا أنزالدوا. Gloria Anzaldúa  أي بعبارة أخرى، ان هذه الثقافة، التي تُدمج وتُصهر عناصر من ثقافة أخرى في صلب محتواها، لا يجعلها تُلغي أو تُذوّب هويتها الأساسية، بل تزيد تأثيرها في المحيط المُنتج والمستهلك لها على السواء. فالتهجين الثقافي مفهوم يستبطن إدماج عناصر وأفكار وممارسات ثقافية متنوعة بثقافة أخرى، فضلاً عن ان هذه الثقافة المُدمجة تُنتج أشكالاً تعبيرية جديدة، وإبداعات تجريبية خلاّقة، وثقافة جديدة تنبثق عنها هويات ثقافية بالوان جديدة.

وقد كان للمسرح دورٌ أساسيّ في مزج الثقافات، وفي إبتداع ملامح ثقافية جديدة، ونقل تجارب هذا الانصهار الثقافي عبر العروض الدرامية التي تتجاوز الموانع الجغرافية والثقافية والحضارية. حيث ان المسرح المعاصر يُمارس قوة تغييرية فعّالة في تعزيز التفاهم وإحترام ثقافات الآخر عبر توطيد التعاون والتبادل الثقافي. فمن ضمن الإمكانات الإبداعية للمسرح، تذويب الحواجز الثقافية التقليدية، ونبذ الاشكال النمطية، وتسهيل ازدهار الفكر والابداع التجريبي، والتحريض على التطوير والنماء الاجتماعي، وذلك بدعم ومساندة المجتمعات المهمشة، من خلال إستكشاف مساحات جديدة ومختلفة للحوار والتفاهم. فضلاً عن تقوية مشاعر التضامن والتعاطف الإنساني، وتعزيز الوعي بمعايير المساواة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. وعلى هذا الأساس فإن التهجين الثقافي يُمثل بيئة فريدة من الابتهاج والاحتفال المشترك بحالات ومفرزات التنوع والاختلاف.  ينتج عن هذا الابتهاج تنشيط وتعميق للقدرات الإبداعية، وخاصة التجريبية، كما يفضي الى دعم وتعزيز جهود التجانس والاندماج للمجاميع الاجتماعية، الأقل حظاً، ضمن نسيج المجتمع الواسع، وفي إطار ديناميكية عالمنا الذي لا يكف عن تحديث ذاته، فهو عالم شديد التغيّر، ومتواصل بشكل متزايد. وللمسرح تحدياته، وامتداداته في هذه الثقافة الهجينة، عبر التبادل المشترك للرؤى الفنية والأفكار، والقيم، والمعتقدات المختلفة، العابرة للثقافة الوطنية وجغرافية الحدود والقيود.

الثقافة الهجينة والقوة التغييرية للمسرح

من الواضح ان الثقافة الهجينة هي المولود المتميز لتيار العولمة. فالعولمة هي حالة من زيادة الترابط والاعتماد المتبادل بين مختلف الثقافات والمجتمعات التي أدّت الى تبلور حالة مبتكرة من التبادل الثقافي، عبر تشارك وتعلم الأفكار والقيم والممارسات. فالتهجين الثقافي، كما يصفه الاكاديمي وأحد أبرز المنظرين لهذا المفهوم، هومي ك. بهآبها، Homi K. Bhabha  "ليس كياناً منفرداً، بل هو عملية تفاوض وإعادة التعريف بشكل مستمر". وقد إنعكس ذلك بشكل مباشر وواضح على المسرح المعاصر بإعتباره حالة فريدة في ديناميكية التغيير والتطوير المستمر، فالمسرح لايعرف التوقف عند حدّ أو الاستكانة بثبات، لأنه في حركة تجريبية، دينامية، مستمرة ومتطورة من افراز الأفكار الجديدة، ومن الابداع في الرؤى المختلفة، ومن إبتكار وسائل جديدة للإدهاش، في إطار المشهدية الجمالية الإبداعية للمسرح وتطوير وتجديد عناصر ومرتكزات الشكل النهائي ومخرجات محتوى المضمون في العرض المسرحي. وكذلك فإن المسرح يعكس حالة العالم الراهنة، هذا العالم المتنوع والمترابط الذي نعيش فيه اليوم. من الثابت أن العولمة والتبادل الثقافي قد ساهما في تشكيل الملامح الجديدة في المسرح المعاصر، من خلال إثرائه بالتنوع والشمولية، وتعزيز التعاون بين الثقافات، وتعزيز العروض متعددة اللغات والعابرة لأسوار المجتمعات الثقافية.

غير ان التهجين الثقافي يستدعي التوقف، ببصيرة ثاقبة، عند عدد من التحديات الهامة والتي يستوجب الالتفات اليها بكثير من الحذر والانتقائية.  فالتبادل الثقافي في المسرح، مثلاً، يجب أن يتم التعامل معه بحساسية شديدة وإنتقائية. حيث إن الانخراط في مسارات التبادل والتعاون الثقافي يجب أن تتم على مستوى واحد من الاحترام والتقدير، خاصة في تبادل الأفكار والحوارات ووجهات النظر. كما يؤكد ذلك المنظر الادبي والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد بأن "لكل ثقافة إنسانية الحق في العيش في سلام والتطور وفقا لقيمها واحتياجاتها الخاصة، ولكن الشيء الأكثر أهمية هو توفير وسيلة يمكن من خلالها لجميع هذه الثقافات أن تتواصل مع بعضها البعض وتتعرف على بعضها البعض". حيث ان هيمنة ثقافة على أخرى ستؤدي بالضرورة الى الاستيلاء الثقافي، مما يُقوّض جوهر ما يرمي اليه التبادل الثقافي، وذلك بإدامة الصور النمطية البعيدة عن الابداع. أدناه، سأستعرض بعض أهم هذه التحديات.

أولاً. الاستيلاء الثقافي: يمكن أن يفرز التهجين الثقافي، أحياناً، عناصر قد تؤدي إلى الاستيلاء الثقافي، حيث يتم تبنّي عناصر من ثقافة هشة، أو غير مهيمنة، من قبل ثقافة واسعة الهيمنة دون إستيعاب مناسب لمفاهيم ومدلولات تلك العناصر، مما يؤدي الى تحريف هذه العناصر ضمن سلطة الثقافة المهيمنة وتحويلها الى سلعة للمتاجرة، أي إنهاء معناها ومدلولاتها الاصيلة. علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي تهجين المسرح أيضًا إلى تسليع الثقافة. ففي عالم يتسم بالعولمة بشكل متزايد، غالبًا ما يتم استهلاك المنتجات الثقافية وتسويقها بسبب جاذبيتها واهتمام الناس بها. وهكذا بدأت بعض العروض المسرحية تتضمن عناصر من ثقافات مختلفة، ربما، ضمن منظور أنها ستكون أكثر قابلية للتسويق والنجاح التجاري.  وهذا يمكن أن يؤدي إلى استغلال التقاليد الثقافية لتحقيق الربح، دون إيلاء الاحترام الواجب للأهمية الثقافية والمعنى الكامن وراءها. بمعنى آخر، إنه يختزل الثقافة إلى سلعة، ويقلل من قيمتها الجوهرية، ويقوم بتسطيحها وتحويلها إلى مشهدية مُمسرحة لأغراض الترفيه.

ثانياً. غياب العدالة الاجتماعية: عند إستيلاء واستغلال الثقافة المهيمنة على عناصر من ثقافة هشة او مهمشة فإن ذلك يُضاعف من تهميش هذه المجتمعات، واضعافها ويخلّ بالتوازن القائم بين شرائح المجتمع، أي إدامة الهيمنة الثقافية والمساهمة بتغييب مبدأي المساواة والعدالة الاجتماعية، وبعبارة أخرى، المساهمة بتعميق الفوارق الطبقية عند الشرائح المهمشة من المجتمع.

ثالثاً. فقدان الأصالة الثقافية: إن التبادل الثقافي، او التمازج الثقافي قد يُعّرض الاصالة الثقافية والتقاليد الجمعية والفردية الى التشوية والتحريف، لذلك يُمكن ان يؤدي التهجين الثقافي الى تشويه الممارسات الثقافية الاصيلة وتمييعها لكي تنصهر ضمن عناصر فضفاضة تُفقدها معانيها ومدلولاتها الاصيلة. فالتهجين الثقافي يفترض التكيّف بهدف إستيلاد سياق ثقافي جديد، وقد يقود ذلك الى تمييع مميزات التنوع الثقافي وبالتالي ضياع اصالة التراث المجتمعي الثقافي.

رابعاً. تشويه الهوية الثقافية الاصيلة: ان التأثيرات العميقة التي تتركها الثقافات المختلفة على ثقافة الافراد، وخاصة أولائك الذين ينتمون الى شرائح ثقافية من أقليات مجتمعية، قد تُعّرض الافراد المعنيين الى الشعور بالانفصال عن المجتمع، أو الى الاغتراب الثقافي والانسلاخ من كلا الثقافتين، أي الثقافة الاصيلة وتلك المدمجة عبر التهجين. فالتهجين الثقافي "يتحدى فكرة الهويات الثابتة والنقية، وبدلاً من ذلك يعترف بالطبيعة السائلة والديناميكية للتفاعلات الثقافية."، يحاجج بذلك الاكاديمي وعالم الاجتماع البريطاني بول جيلروي،  Paul Gilroy، لذلك فإن الانفتاح على ثقافة الآخر يجب ان يتوازن دائماً مع مشاعر الانتماء والمواطنة. فالحاجة الى الثقافة الهجينة تزداد،  كحاجة الى الانفتاح والتنوع، ولكني أعتقد بانها أيضا حاجة لتأكيد خصوصية الهوية الثقافية التي تسعى الى مثل هذا الانفتاح والتنوع. فخصوصية الهوية الثقافية هي الاطار العام الذي يحتوي على الهوية الوطنية ويصونها.

تأثير المسرح في الثقافة الهجينة

بتزايد إستخدامات الانترنيت وما تتيحه من تنوع واسع في المعلومات والاتصالات بين مختلف الاجناس والثقافات أصبح من النادر، بل والشاذ، أن تجد ثقافة وطنية مجردة من أي تأثير ثقافي خارجي. أي أن الثقافة الهجينة هي المولود الواثق والمتميز للعولمة، في عالم يرفض الإستكانة لخصائص تجعله أسيراً وراء أسوار ونوافذ الحضارة العالمية الراهنة. فأهمية التهجين الثقافي هي إستكشاف ومزج عناصر وممارسات من مختلف الهويات الثقافية، بهدف تعزيز التنوع والابداع والابتكار والتجريب، وقد انعكس ذلك في سياقات المسرح المختلفة. أما التبادل الثقافي فهو أحد وسائل المسرح التي تتأكد عبر التعاون الدولي والإنتاج المشترك، مما يُفضي، غالباً، الى عروض مسرحية آسرة ومثيرة للتفكير والتأمل، علاوة على أنها تُوفر منصة للمسرحيين للتعلم من بعضهم البعض وتبادل الأفكار، بل وتجاوز آفاق إمكانياتهم الفنية.

ولا شك أن المهرجانات المسرحية تشكّل اهم وسائل التبادل المسرحي والثقافي، فهي معنية بفتح ثغرات في الحدود التقليدية للثقافة الوطنية ولفضاءات المسرح الإبداعية من أجل تمرير عناصر حداثية من ثقافة او ثقافات أخرى. فالمهرجانات تشكّل منصة تجمع بين المسرحيين والجماهير من مختلف البلدان والثقافات لعرض الأساليب والتقاليد المسرحية المتنوعة، والاندماج بالحوارات والمناقشات التي تخص الموضاعات الإنسانية ذات الصفات العالمية، وترتبط بهموم الانسان بعيدا عن الحدود الجغرافية والاسوار المحلّية للثقافة. هذه الحوارات تعزز خصوصية الهوية الوطنية، وتوسّع مدارك المواطنة العالمية. كما توفر المهرجانات المسرحية الفرصة للفنانين والمتفرجين باكتشاف التجارب الجديدة، والابتكارات، والابداعات في الأشكال المسرحية المتنوعة وتثمينها والتمتع بها. أدناه بعض أهم انعكاسات الثقافة الهجينة على السياقات المسرحية، وتأثير المسرح في هذه الثقافة:

التنوع والشمولية: إن للتنوع والشمولية تأثير عميق على مسارات المسرح الديناميكية والتغييرية، من خلال إستقطاب المسرح لمجموعة واسعة من الثقافات والخلفيات الفكرية، ووجهات النظر، والابداعات، والابتكارات. ولم يؤد هذا التأثر إلى إثراء التجربة المسرحية فحسب، بل عزز أيضًا إستيلاد نماذج من أشكال فنية أكثر جاذبية، وأوسع شمولاً وتمثيلاً. علاوة على ذلك، فقد أدى التنوع والشمول إلى تحفيز الإبداع والابتكار والتجريب في حرفية المسرح. فمن خلال احتضان مواهب واصوات جديدة، يتم تشجيع المسرحيين على استكشاف أنماط وتقنيات وأساليب جديدة لتشكيل السرديات الدرامية. وقد أدى ذلك إلى تطوير إنتاجات فريدة ورائدة تدفع حدود المسرح التقليدي الى ماوراء ماهو متعارف عليه.

التبادل والتعاون الثقافي: لا شك أن للتبادل والتعاون الثقافي في المسرح دورٌ أساسيّ في صياغة إنتاجات مبتكرة، تمزج بين التقاليد الفنية المتنوعة والتقنيات السردية الدرامية الابداعية. حيث انها تجمع فنانين من خلفيات ثقافية مختلفة، والمشاركة بآرائهم ووجهات نظرهم وخبراتهم وممارساتهم الفنية الفريدة. " يمكن أن يكون التهجين الثقافي مصدرًا للتمكين، حيث يتنقل الأفراد والمجتمعات ويتفاوضون بشأن هويات ثقافية متعددة."، (غلوريا أنزالدوا)، والنتيجة هي نسيج غني من الإبداع الذي يتخطى حدود المسرح التقليدي، ويخلق أشكالاً جديدة ومثيرة لسرديات وعروض مسرحية متميزة.

تعدد وتنوع اللغات: في عالم اليوم، حيث أصبح فيه التواصل والتفاعل بين الثقافات واللغات المختلفة أمرًا عادياً بشكل متزايد، تقدم لنا العروض المسرحية متعددة اللغات منصة لسماع الأصوات المتنوعة من خلال دمج لغات مختلفة في الأداء المسرحي، مما يُعرّض الجمهور لتعابير لغوية مختلفة وفروق ثقافية دقيقة. يعزز، هذا التعرض، الإحساس بفهم وتقدير كبيرين للنسيج الغني من اللغات والثقافات الموجودة في مجتمعنا الواسع والمعولم. فقد لعبت العروض متعددة اللغات دورًا مهمًا في تحدي إستكانة الجماهير وحثّهم على القبول والاشتراك في الانفتاح والتنوع اللغوي لمجتمعات حضارة اليوم. تتضمن هذه العروض استخدام وسائل مسرحية وفنية مختلفة، ولغات متعددة، مما يسمح بتجربة أكثر ثراءً وشمولاً وتمثيلاً للمشاهدين.

تطبيقات مسرحية في الثقافة الهجينة

ومن الأمثلة العالمية الموثقة حول تأثير المسرح في الثقافة الهجينة نذكرتجربة، تعتبر واحدة من أبرز وأهم هذه التجارب وأعني بها مسرحية "المهابهاراتا" وهي من إخراج بيتر بروك. نص المسرحية مقتبس من الملحمة الهندية القديمة والتي تحمل نفس الاسم، وتعتبر واحدة من أطول الأعمال الأدبية وأكثرها تأثيرًا في العالم. يضم الإنتاج ممثلين من بلدان وثقافات مختلفة، مثل الهند واليابان وفرنسا وإنجلترا وعدد من بلدان أفريقيا، ويستخدم مزيجًا من اللغات والموسيقى والرقص وعروض الدمى لسرد قصة حرب وآثارها الأخلاقية والروحية. تم عرض المسرحية للمرة الاولى في عام 1985 في باريس، ومنذ ذلك الحين تم عرضها في العديد من الأماكن والمهرجانات حول العالم، بالإضافة إلى تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني، وفيلم سينمائي. يُنظر إلى تجربة المهابهاراتا المسرحية، وعلى نطاق واسع، على أنها تحفة فنية لمسرح متعدد الثقافات، لأنها توضح كيف يمكن للتقاليد ووجهات النظر الفنية المختلفة أن تثري وتضيء الدراما الإنسانية على الصعيد العالمي.

وللتذكير، فإن المخرج بيتر بروك (بريطاني يعمل في المسرح الفرنسي) صاحب رؤية شمولية، سعى إلى إنشاء مسرح عالمي يتجاوز الحدود الثقافية، ويجذب جماهير واسعة ومتنوعة. لقد تعامل مع المسرح متعدد الثقافات من خلال العمل على استكشاف التقاليد المسرحية المختلفة من جميع أنحاء العالم، مثل الآسيوية والأفريقية والأوروبية، ودمجها في أعماله. لذلك فقد عمل بروك وتعاون مع ممثلين وموسيقيين وفنانين من بلدان وخلفيات مختلفة، وشجعهم على نقل وتقديم إبداعاتهم، وتعبيراتهم، ومايتمتعون به من رؤى فنية وثقافية إلى المسرح. يؤمن بيتر بروك أن المسرح العابر للثقافات يمكن أن يثري وينير الحالة الإنسانية، فضلا عن تحدي وعي، ووجدان المشاهدين والقيم الثابتة عندهم، والحث على إشراكهم في التجربة المسرحية.

المثال الثاني، والأقرب زمنياً، هو مسرحية "جزيرة الذهب” للمخرجة أريان منوشكين، والتي كانت شغوفة جدا باليابان والثقافة الآسيوية، حيث سافرت الشابة منوشكين، وهي تحمل على ظهرها حقيبة سفر صغيرة، بباخرة منطلقة من ميناء مرسيليا في فرنسا الى ميناء يوكوهاما في اليابان. كان ذلك في عام 1963 ومنذ ذلك الوقت، وهي في شغف تام بالثقافة الشرقية عامة والمسرح الياباني، وخاصة مسرح "النو" و "الكابوكي". وفي اليابان توجد جزيرة صغيرة لها تاريخ خاص ومؤثر جداً، وهي جزيرة "سادو" حيث تم نفي المثقفين والفنانين، بما في ذلك ممثل مسرح "النو" الشهير، آنذاك، زيمي موتوكيو في أعوام 1363-1443. هذه الجزيرة هي المُستعارة في مسرحية منوشكين الأخيرة والمسمّاة "الجزيرة الذهبية"، أي جزيرة الاحلام والفنتازيا والواقع الآخر، عُرضت هذه المسرحية في عام 2022 على مسرح الشمس، في باريس، الذي قامت بتأسيسه منوشكين بمشاركة عدد من الفنانيين منذ ستين عاماً. هذا التمهيد سيكون مهم ومفيد لفهم العرض المسرحي.

الكاتبة هيلين سيكسوس تقول في مستهل مقدمتها لهذه المسرحية " كم كنا مرضى من ماحولنا من رداءة، ومن إنحطاط، وكم كنا، جميعاً، مرضى في كلّ أنحاء العالم، من (الخوف) والجبن، ومن تسميم الحقيقة، ومن المُهربين المتاجرين بالضمائر والعلوم، المثيرون للشفقة، ومن تواطؤ السلطات مع جميع قوى الدمار، ومن الإنهيار المتعمد للغة التواصل، ومن السقوط الهائل للأنوار في قمع الظلام!". من هذا الواقع المعتم والخانق ينبثق، إذن، الحلم في جزيرة نائية خالية من أمراض الخوف والجبن والانحطاط والتواطؤ الوضيع. حلمٌ بجزيرة يتعايش الإنسان فيها بلغة لا لبس فيها، وبآمال تعبّد طريق الآخرين نحو حياة أفضل. حلمٌ "بجزيرة ذهبية" بعيدة عن الجوار.  ( للمزيد حول هذه المسرحية يمكن مراجعة مقالي المعنون "أريان منوشكين ومسرحية الجزيرة الذهبية” المنشور في "الحوار المتمدن" في 13 كانون الأول/ديسمبر 2022). اما إطار السرديات اللغوي في المسرحية فقد شمل اللغات الفرنسية، والانجليزية، واليابانية، والعربية والعبرية مع ممثلين وفنيين يمثلون ثقافة هذه اللغات.

الثقافة الهجينة والمجتمع العربي

لم يتوقف التهجين الثقافي عند عتبة بعينها، فقد تجاوز الحدود والمغلقات وإجتاز جدران سميكة من تقاليد وقيم ثابتة، وقد إنعكس ذلك على المجتمعات العربية من مشرقها الى مغربها، عبر تأثّرها المباشر والفعّال بمجتمعات وثقافات أخرى، في مجالات الفكر والفلسفة والعلوم والفنون في حين كان تأثير هذه المجتمعات -العربية- خارج أسوارها محدود للغاية. ويعود ذلك، كما أعتقد، لسببين، الأول، هو أن المجتمعات العربية لم تنجح في تنظيم وتحديث وتأمين إنسياب وتسلسل التراكم الفكري والتنظير الفلسفي، والبحوث العلمية التي أنتجها الاسلاف. والثاني، هو عدم تمكن هذه المجتمعات من الاستفادة من تجاربها التاريخية الهامة، وتصنيفها لها، بعيدا عن التعمق الفكري، والتأمل العلمي، والتحليل الواقعي عبر إستسهال العودة الى هذه التجارب ضمن مخزونات واسعة من مشاعر وعواطف الحنين والنوستالجيا لماضي الزمان، مما يُلحق ضررا بالغاً بنمو وتقدم وإزدهار هذه المجتمعات وثقافاتها. يذكر الباحث والناقد الادبي والاكاديمي هومي ك. بهابها،  Homi K. Bhabha في كتابه الهام (الموقع الجغرافي للثقافة)،  Location of Culture  "إن التهجين الثقافي ليس مجرد حقيقة من حقائق الحياة في العالم الحديث، بل هو ضرورة لبقاء الثقافات ونموها."

أما فيما يخص التهجين الثقافي، الواضح تأثيره أو تأثّره بالثقافة والمجتمع العربي، فهو يتمثل في مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية المتنوعة، والمختلفة. من أبرز هذه التأثيرات وضوحاً نجدها في الثقافة عامة، ومناهج البحث العلمي والفلسفي ومختلف مجالات الفن ولا سيما المسرح، ثم تأثيرات أخرى أساسية تمس مباشرة اللغة، والغذاء، والموسيقى، ووسائل الاعلام، وسأورد بعض الأمثلة على ذلك:

المسرح:

من التجارب العربية، ضمن مفهوم إمتدادات المسرح في الثقافة الهجينة، عدد من الاعمال المسرحية لمخرجين عرب بارزين، سأشير هنا الى ثلاثة أمثلة، كان لها أثر وتأثير مباشر وفعّال في مجمل سرديات وأطر العمل الفني والمشهدي في المسرح في المنطقة العربية. فالمثال الأول، قدم المخرج التونسي الكبير المنصف السويسي عملا مسرحيا قائمآً على دمج مختلف الأفكار والثقافات والتيارات التقليدية في عرض مسرحي متكامل ومبهر لنص مسرحية "واقدساه" للكاتب والمسرحي المصري الدكتور يسري الجندي، وقد إستعان المخرج بممثلين من عدد من الدول العربية ومن خلفيات مجتمعية متنوعة لتوحيد الرسائل السياسية التي يرمي اليها العرض المسرحي.  أما المثال الثاني فهو مجموعة أعمال وأفكار المخرج المسرحي المغربي الطيب الصديقي، فقد كان له الريادة في الاستثمار بالتراث العربي لإنارة حياة أكثر حداثة وانفتاح للمجتمعات العربية المعاصرة، وإجتذاب أوسع شرائح الجمهور لحضور العروض المسرحية. وبذات السياق فإن المثال الثالث البارز فهو للمخرج العراقي الرائد قاسم محمد الذي تعامل مع التراث العربي بإعتباره نوافذ يطلّ منها على عناصر الحداثة المعاصرة، بدمج حقب زمنية متباعدة، وقوالب ثقافية تبدو جامدة وساكنة ومركونة على رفوف التاريخ، غير انه نفض عنها الغبار وألبسها ضياء حداثي معاصر من خلال كتابته وإخراجه لمسرحية " بغداد الازل بين الجد والهزل". والجدير بالإشارة هنا بإن الارتكان للتراث، والثقافات غير السائدة، وقيم ومبادئ الاسلاف، شكّل اسلوباً ينفذ من خلاله المخرج من سلطة الرقابة. علاوة على ذلك فإن جدارة واهمية هذه الاعمال المسرحية تكمن بما سعت اليه من الخروج من أُطر الثقافة الوطنية والاحتباس المناطقي الجغرافي. ومما يعزز أهمية هذه الاعمال المسرحية هي انها كانت تسعى الى وضع أسس حقيقية لتشكيل عناصر هوية مبتكرة، وحداثية وخاصة لمسرح يُمكن تسميته "بالمسرح العربي". هذه الهوية لم تتشكل الى الآن، بل ازدادت ارتباكا وتشويهاً بسبب الإيغال بإنتاج أعمال مسرحية ذات طابع ثقافي مناطقي.

اللغة:

اللغة العربية لم تعد كافية في المحادثات العامة والنقاشات الفكرية عند بعض شرائح المجتمعات العربية، فبدت لهم بأنها عاجزة عن إشباع التعبير والافصاح عن المعنى، فظهرت قوالب لغوية جديدة مثل الفرانكوأرب، وغير ذلك. ويتضح هذا بجلاء في بعض المجتمعات العربية، مثلاً في دول المغرب العربي التي تستخدم لغة مدمجة بين الفرنسية والعربية، والامر نفسه يحدث بتزايد في دول المشرق العربي بالجمع بين اللغتين الإنجليزية والعربية في المحادثات العامة. ولاشك أن الانترنيت وسّعت مسألة إهمال اللغة العربية أو تشويهها بدمجها باللغة الإنجليزية أو الفرنسية وتبني أفعال وصفات وأسماء من هذه اللغات وتوطينها ضمن النحو والصرف الخاصة باللغة العربية.

الغذاء:

- المطبخ المختلط في المنطقة العربية، يجمع بين عناصر من تقاليد الطهي المختلفة، وبتأثيرات من المطبخ التركي والإيراني والهندي وبعض الدول الغربية. وبذات الوقت فإن تأثيرات المطبخ العربي قد أُدمجت الى حد التبني في مطابخ أوربية وغيرها. ربما أشهر منتجات الاغذية في الدول العربية التي سافرت بعيدا عن موطنها الأصلي وعن مجتمعاتنا العربية هي الفلافل والحمص والتبّولة، تلى ذلك الكس كسي المغاربي والكباب ..الخ)

الموسيقى:

مزج آلات غربية وأجنبية مع آلات عربية في الموسيقى العربية المعاصرة مثل دمج السانتور والبيانو والفلوت والأبوا والكونترباس والأوكورديون وغير ذلك في الموسيقى والاغاني الحديثة ضمن تراث التخت الموسيقي الشرقي. هناك أيضا حالات لدمج وتوطين بعض تيارات ومناهج موسيقية عالمية في مجرى الغناء والموسيقى العربية، كما جرى مع موسيقى ورقصة الرومبا، والسالسا، والسامبا، والمامبو، وموسيقى ورقصة التانجو وأخيرا مع موسيقى وأغاني الجاز.

وسائل الإعلام:

في التلفزيون نلاحظ تحول الصور النمطية والجامدة لبرامج وأشكال تقديم الاخبار والحوارات، في معظم محطات التلفزيون العربية، الى الاشكال العالمية الأكثر تأثيرا في الاعلام متمثلة بشبكة تلفزيون السي أن أن CNN وما شابهها مما يعزز الايهام بوجود وممارسة الديموقراطية. أما في السينما فقد نسجت صناعة السينما المصرية، وهي اكبر صناعة سينمائية في المنطقة العربية، ويعتبر المجتمع العربي برمته المستهلك الأكبر، ويكاد ان يكون الوحيد لهذه السينما، نسجت سرديات وتقنيات مبنية على العنف المفرط والعصابات المتنوعة المهجّنة من عناصر مختلفة من السينما الهوليودية والبوليودية، ثم ادخلتها على الفيلم العربي الذي يبتعد فيها، نسبيا أو كليا، عن قيم وسلوكيات المجتمع المصري وكذلك بقية المجتمعات العربية.

توضح هذه الأمثلة كيف يمكن أن يحدث التهجين الثقافي في مختلف جوانب الحياة والمجتمع، مما يؤدي إلى خلق أشكال تعبير ثقافية فريدة ومتنوعة.

في الختام

مع تجذر ثورة الاتصالات، والتوسع في إستخدامات الانترنيت ووسائل الاتصال المختلفة، وتنامي الهجرات الخارجية، لم يعد التبادل الثقافي أو تجاوز أسوار المجتمع بحدث إختياري، وكذا الحال بالنسبة للثقافة الهجينة. فقد غيّرت العولمة ديناميات وآليات مدارك المجتمع وسلوكياته، ورفعت من مناسيب معاييره فيما يخص النظر الى القيم والتقاليد والسلوكيات عامة. ومن هذا المنظور فإن المسرح يُعدّ أداة سحرية قوية للمحافظة على الثقافة الوطنية وصيانتها ولكن بإنفتاح واعٍ وحذر لتبني ودمج عناصر من ثقافات أخرى بهدف إثراء المخزون الثقافي والاجتماعي على الصعيد الوطني، و لتعزيز التفاهم بين الثقافات والمجتمعات المختلفة. أهم الوسائل للوصول الى تلك النتائج تتمثل بتحدي الصور النمطية التي تفرزها الثقافات المغلقة والمجتمع الراكد والساكن، ثم تعزيز وتعميق التغيير في شتى مجالات الثقافة والمساهمة في تجذير الوعي الاجتماعي الحداثي، والتمسك بخصوصية الهوية الثقافية، وتعزيز الإحساس بالانتماء الوطني. ضمن هذا المفهوم، فإن قدرات المسرح التغييرية تعتمد بشكل جوهري على آليات التبادل الفني، والتعاون الدولي، وتنظيم وإستضافة المهرجانات والجلسات الحوارية، فالمسرح يتمتع بالقدرة على تجاوز الحدود الثقافية المناطقية وعبور اسوار المجتمع الثابتة والجامدة بهدف إنشاء مساحة مشتركة حيث يمكن سماع الأصوات المتنوعة لمختلف شرائح المجتمع والدفع بالهموم الجمعية والفردية في المجتمع الى مقدمة أولويات التنمية البشرية على الصعيدين الوطني والإقليمي. فالتهجين الثقافي  "يسمح بخلق أشكال جديدة ومبتكرة من التعبير، حيث تتجمع الثقافات المختلفة وتؤثر على بعضها البعض."، كما يؤكد ذلك هومي ك. بهابها.

ففي حين تتلمس مجتمعاتنا صعوبات التكيّف مع الثقافات الجديدة والوافدة، وتعقيدات ما يجري في عالم اليوم، هذا العالم المنكمش في مسافاته، كما هو منكمش في أزمانه، ينبثق المسرح بأنواره ليضئ الجوانب الخافية من الأجوبة المستحيلة والاحتفاء بها، تأكيدا وتعميقا لروابط إنسانيتنا المشتركة كأفراد وكمجتمع.

***

علي ماجد شبو

حين أسس عزرا باوند مدرسته التصويرية على أساس مشتق عن الهايكو ... كان ذكيا جدا إلا أن ضبابية الهايكو في وقتها وعدم سماح اللغة الإنكليزية اضطره أن يؤسس مذهبا جديدا في الشعرية العالمية من مرتكزات المشهد...

نحن وبعد عقد من كتابة الهايكو وتوظيفه والعمل على التنظير والنقد ليس من الممكن أن نعيد بناء النص بشكل مغاير عن تلك المرتكزات إلا أننا عملنا على الواقع العربي وكيف نوجد أرضية خصبة لهذا الوافد.

التصويرة أيضا مشتقة عن الهايكو بكل أجناسه في بلاغته المشهدية وبذات الأسلوب النقدي المتبع خارج اليابان من بنية وتقطيع وباقي الخصائص بتسميات عربية فلغتنا قادرة على تعريب كل شيء. وأكيد في كتاب الهايكو من مترو باريس إلى البيان الشعري في بغداد نشرنا تعريب لكل تقنيات الهايكو ومصطلحاته إلا أن كانت العقبة الوحيدة هي اسم النص...

أنا على يقين أن هناك من يعارض التسمية وهذا حقه إلا أننا اصطدمنا بمعنى العنوان ودلالاته في اللغة العربية... وللتجنيس لا ننظر إلى رفاهية الاسم المستورد بقدر إيجاد مرادف يحقق الغاية المرجوة من النص العربي وان أخذ مساحة عالمية.

كلمة هايكو لم ولن يعطينا أي كاتب معنى له خارج اليابان ما لم يعد إلى أصل التسمية داخل اليابان بالتالي أن أردنا العمل تحت التسمية يجب أن تكون نصوصنا ضمن خصائص تلك التسمية التي لم نصل إلى مستواها كما الشعر العمودي أمام اللغات الأخرى.

لذا؛ أن طالبنا ترجمة الشعر العمودي إلى اللغات الأخرى أيضا لن يكون بخصائص اللغة الأم بل سيكون النص ترجمة تفاعلية إن لم يكن ترجمة حرفية لذا؛ لن يقال عنه نص عامودي بالتأكيد.

التصويرة اسم بديل للهايكو

آن الأوان أن يكون للعرب تسميتهم الخاصة للهايكو ليس بعيدا عن الهايكو لكن من أصل اللغة العربية.

وقد بحثت كثيرا عن اسم يسع هذا الفن النبيل لم أجد أفضل من "التصويرة" ومن المؤكد لن نكون خارج الخصائص فنحن نعمل بها منذ سنوات.

وبما أننا نستحدث فنا جديدا على الذائقة العربية لا بد من أن نكون ضمن هذه الذائقة فنا وكتابة ولعل أبلغ ما اشتققت منه اسم التصويرة مرادفا للهايكو الذي بالتأكيد كتبناه بلغتنا بعيدا عن الكثير من أصل النص الياباني وأهمها الإيقاع والاكتفاء بالبلاغة المشهدية صار إلزاما أن نعطيه اسما يليق بإبداعنا وتراثنا من السهل ان تعرف معناه.

وقد حاول كيرواك أن يطلق عليه البوب الذي يعني الأدب الشعبي لذا سنطلق على النص اسم التصويرية الذي وجدته في تعريف للجاحظ عن الشعر حيث يقول

"فإنما الشعر صناعة وضرب من النسيج وجنس من التصوير" فالشعر عند الجاحظ هو ذلك الكلام الذي يصنع وينسج ويصور، والشاعر عنده صانع ونساج ومصور، ويعلق إحسان عباس على هذا القول قائلا: "لو تخطى الجاحظ حدود التعريف لوجد نفسه في مجال المقارنة بين فنين: الشعر والرسم."

أن التصويرة هي مشتقة من الهايكو إلا أنها تمثل العرب فقط في التعاطي مع النص واعتبر هذا انفرادا وانعطافا مهما للتقبل من الشارع الثقافي والمتلقي على حد سواء

نحن نساج المشاهد أولى بهذا الاسم فنحن نرسم بالكلمات نصا وكي نخرج من بوتقة الاتهام خصوصا أن اسم الهايكو مربك في تعريفه ضمن ثقافتنا العربية من طفل الرماد أو النص الهزلي أجد هذه الأسماء مجحفة لما نكتب فنحن أهل التصويرية وهي أساس ثقافتنا ولغتنا

وكي لا يختار لنا أحد اسم كما حدث في شعراء الطبيعة الأولى بنا أن نشتق اسما خاصا بنا فنحن لا نكتب عن الطبيعة فقط إنما في كل شيء

وهذا ما حدث مع الهايكو لذا؛ كانت التصويرة هي الحل برأي ورأي أغلب النقاد في العراق ليس أمام الهايكو فقط بل في جميع الأجناس المستوردة كالشعر الحر أو النثر والشذرة ووو.

***

علي محمد القيسي

 

قدم مركز بغداد الثقافي للفنون عرض مسرحية (كرستال) يوم الجمعة ١٩/ ٤/ ٢٠٢٤ تأليف جبار القريشي، اخراج كريم خنجر.

إن الخروج من مسرح العلبة إلى الفضاء المفتوح لتقديم العروض المسرحية يتطلب مضامين على قدر من الجرأة والوضوح، وتتجلى في خطابه المواجهة المباشرة بين المؤدي والمتلقي، إذ لا حدود تفصل بين مساحة الأداء ومكان المتفرجين، ولا ضوء على المؤدين ولا عتمة تحجب المتفرجين الذين يعتمد مدى متابعتهم وتركيز انتباههم على توفر وسائل الجذب في العرض، وتيسير المشاهدة لذا " تعتبر الدائرة أنسب الأشكال لمشاهدة اي عرض مسرحي في الهواء الطلق، والقيام بالتمثيل للجماهير في كل الجوانب امراً محتملا لكنه ليس بالشيء اليسير، حيث يستلزم ذلك القيام بعملية دوران مستمر لكي يشاهد كل المتفرجين ما تقوم به، ولذلك يستخدم الممثلون ثلاثة أرباع دائرة مع وجود الأدوات والمعدات خلف الممثل "(1) وهذا ما عمل عليه فريق عرض مسرحية (كريستال) وهم مجموعة من المتحمسين الفاعلين في مسرح الشارع، عندما قدموا رسالة درامية توعية المجتمع، محورها مخاطر المخدرات، ومحاربة شيوعها في أوساط بعض الشرائح الاجتماعية، وبلا شك هي رسالة مهمة ويفترض تناولها وتداولها والتأكيد عليها عبر مختلف الفنون والآداب والوسائط الإعلامية، وقد تناولها المؤلف القريشي سابقا وأخرجها المخرج (كريم خنجر) نفسه، يمكن تصنيف العرض على أنه رسالة تهدف إلى استنارة الوعي الجمعي بآفة المخدرات والتبعات التي تلحق متعاطيها. وهو رسالة تأكيد أكثر مما يتضمن شكلا فنيا مغايرا لما سبق تقديمه في عرض مسرحية (كوكايين) للمخرج نفسه، ونوع من التواصل مع موضوعة ذات تأثير اجتماعي واسع.3801 مسرحية

تستلزم طبيعة الدراما -عادة- وجود طرفي صراع، ودرجة من التعقيد والتأزم، في عرض مسرحية كريستال غاب طرف الصراع المضاد من الحضور العياني / الملموس، واكتفى المؤلف / المخرج بالإيحاء بوجود المعاناة والقهر والخيبات التي يتعرض لها  المدمنين على المخدرات قبل إدمانهم مما يدفعهم إلى التعاطي كنوع من الهروب من الواقع، وفي الوقت نفسه في لحظات الوعي يحرض احدهم الآخر على مواجهة الواقع والتصدي لسلبياته بدلا من الاستسلام والخنوع.

لقد حضر طرف صراع واحد في العرض، أما الطرف الآخر فقد كان غائبا عن العين، ماثلا في الوجدان، من خلال علامات وإشارات وضعها المؤلف واعتمدها المخرج، وكلها تدل على تدهور المستوى المعيشي -ظهر المؤدون بملابس رثة ووجوه متعبة حتى ان احدهم لم تفارق يده قطعة الخبز الكبيرة - يعد غياب أحد طرفي العرض خروجا البنية التقليدية للنص/ للعرض، وبذات الوقت عمل الاخراج على اثارة مخيلة المتفرج ليتصور هذا الطرف السلبي/ الشرير الغائب.

قدم العرض رسالته عبر سرد خطابي ذي اتجاهين: الأول موجه للجمهور المحيط بالمؤدين مباشرة (من المؤدي إلى المتلقي)، أما الثاني: من المؤدي الى المؤدي، وبدء ذلك من محاورة بين الشخصيات حول العقل وأهمية الحفاظ على الوعي. 3802 مسرحية

تضمن العرض:

1. موضوعة المخدرات، ويفترض ان لا محور غيرها وهذا يتضح من عنوان العرض (كريستال)

2. التذمر من أوضاع الخدمات المقدمة للمواطن (مثل: الكهرباء، والماء …)

3. الابتزاز بأنواعه (السياسي والاقتصادي والاجتماعي والاليكتروني )

إن طرح ثلاث (ثيمات) لها ثقلها في مسرحية لا يتجاوز زمن عرضها أكثر من ثلاثين دقيقة يصعب إشباعها من الناحيتين الموضوعية والفنية، لاسيما ان عروض الشارع لا تحتمل تفرعات قد تشتت انتباه المتلقي وتبعد تركيزه عن القضية المحورية للعرض وهي (كريستال) وهنا تبرز الحاجة إلى الحضور الدراماتورجي كضرورة لمشاركة فريق العرض بالإمساك في دفة العرض وتوجيهها.3803 مسرحية

ينتهج مسرح الشارع سبلا عدة لجعل المتلقي مشاركا فاعلا في مجريات العرض المسرحي، وذلك من خلال جمع فنون متعددة في هذا النوع، منها الغناء والموسيقى والحركات الإيقاعية والتعبير الجسدي فضلا عن عماده الأساسي (الدراما المسرحية الحوارية)  لقد عمد هذا العرض إلى الموسيقى والغناء المسجل بصورة مختزلة مما جعله يفقد شيئا من خطوط المشاركة، إلا أن الموضوع المحوري الحيوي وأسلوب الأداء بات معادلا فنيا تعويضا لحالة التوتر والترقب لما سيؤول إليه مصير الشخصيات.

لقد تم حساب توزيع حركة الممثلين بالصيغة الدائرة بدقة وعدم انحياز الحركة على كتلة الأمامية من الجمهور التي غالبا ما يقع فيها الإخراج الحركي في مسرح الشارع، حين يتعامل مع الحركة على وفق الاعتبار في المسارح التقليدية وهذا ناتج عن خبرة د.كريم خنجر الواسعة في تقديم عروض مسرح الشارع.

المشهد المفصلي في عرض (كريستال) والذي ختم به العرض مشهد المرأة التي تتعرض لابتزاز بتهديدها بنشر صورها، رغم عن وجود الصلة المباشرة بموضوعة العرض الأساسية (المواد المخدرة) إلا أن مشهد ابتزاز المرأة حاز على التركيز الأعلى لعدة أسباب:3804 مسرحية

* رمزية قطع شيء من جسد المرأة من قبل مجموعة الرجال (عمد المخرج إلى ذهاب المرأة إلى رجل تتوسل اليه واذا به ينزع عنها شيء من القماش الذي يغطي جسدها وهكذا تذهب إلى رجل ثان وثالث ورابع … ) لكنهم يستدركون فيما بعد وينزعون عنهم قمصانهم ليغطوا جسد المرأة بها

* الأغنية ذات البعد الديني - رغم قصرها - عقدت صلة بين العرض والمتلقي ودفعته للمتابعة، بسبب من روحانيتها وتوفيرها لحالة من التنوع الصوتي، وكسر حالة الإلقاء الخطابي / السردي.

شكل المخرج كريم خنجر والمؤلف ثنائي متناغم في طروحات مسرح الشارع وسجلوا حضورا متميزا باضطراد العروض بفعل هاجس تقديم ما يعتمل في الشارع عبر مسرح الشارع.

مبارك لفريق العرض جميعا: وأخص بالذكر المؤدين الهواة بحماسهم واندفاعهم، والممثلة (شوق) التي وضعت بصمة جميلة في هذا العرض.

*** 

د. حبيب ظاهر حبيب 

.....................

بيم بيسون: مسرح الشارع والمسارح المفتوحة، تر: حسين البدري، القاهرة، ١٩٩٧، ص١٢٨.

 

يتمثل الشكل الجمالي في السرد، في براعة نسيج الصياغة الفنية، في لغة مغناطيسية تشد القارئ بتلهف، وتحفيزه الى متابعة احداث الحدث السردي، في ديناميكية متصاعدة في درامية تفاصيل الحدث وتطوراته المتلاحقة، وكذلك براعة الرؤية الفكرية والتعبيرية الدالة بشكل بليغ، التي لامست الاحساس الملتهب بمشاعره الانسانية الداخلية، والضمير الحي في تصوير معالم النص السردي وخياله الفني الواقعي بكل جوانبه، ليعطي جمالاً لدور الاديب الملتزم تجاه قضايا الناس والوطن، بالشعور الانساني المتضامن، كأنه يتعايش مع تفاصيل الحدث السردي في داخل مشاعره، بكل تفاصيل المعاناة والظلم والحرمان الكبير لشريحة كبيرة من الشباب، الذين امضوا زهرة شبابهم من أجل الحصول على الشهادة الجامعية، وحين تكللت جهودهم بالنجاح في نيل الشهادة الجامعية، وجدوا انفسهم امام أبواب الحياة موصدة في وجوههم، كأنهم فائضين عن الحاجة والطلب والقيمة الانسانية، مما يفجر الاحتقان بدواخلهم بالإحباط والخيبة، بأنهم أصبحوا ضمن جيش العاطلين، مما يزيد من معاناتهم وبؤسهم و فقرهم وعوزهم، بأن دروب الحياة جفت ويبست بشكل لا يرحم، هذا الشعور يعمق الفجوة والشرخ الكبير، بين الواقع وشباب المستقبل، أن يصبح مصيرهم مجهول الهوية، مما يزيد القهر الحياتي الذي يتفجر بداوخلهم، في مطالبهم البسيطة، التي تقرها الشرائع السماوية، بالخبز والعمل والحرية . وحين يعبرون عن معاناتهم بالتعبيرالحر أو التظاهر السلمي، نجد سوط الإرهاب والبطش يترصدهم في كل زاوية . كأن الواقع ضد التعبير عن نيران الظلم والحرمان والحيف ( فكان التظاهر وسيلة العاطلين الوحيدة ليطالبوا بحقوقهم بعد تخرجهم من الجامعات.. فقد اكلت معاول السنين أجمل محطات أعمارهم الفتية ونبذتهم ساحة عمال البناء وذاقوا لهب سياط العوز والفاقة..) ويصبح صوت القمع ورعيده المخيف، هو الوسيلة لخنق الأصوات الشابة وإجهاض تحركاتهم السلمية في مطالهم الشرعية والبسيطة، يرفضون أن يصبحوا من جيش العاطلين، هذا الرفض يواجه بالقسوة المفرطة (حتما سيكون التظاهر وسيلتهم الوحيدة وعزاء نفوسهم للتعبير عما يجول بخواطرهم المتعبة ومعاناتهم الأبدية مع الفقر الذي عصي الفكاك عنهم..) هذا الشاب الطموح الذي حصل على الشهادة الجامعية، اقترن بفتاة بعلاقة الحب الصادق والعفيف، كان يرسمون مستقبلهم بالألوان الوردية، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فوجدت الشابة التي كان يداعب قلبها الحب واصرت عليه بالبقاء، رغم ضغوط العائلة والعشيرة بفرض الزواج عنوة عليها، وكانت تعلل نفسها بالذرائع المختلفة، لعل تنفرج أزمة حبيها الشاب الجامعي، وكانت تغازل حبها وهي تتورد أوداجها بالفتنة والجمال . كأنها سليلة عشتار (إله الحب ) ( بضفائرها السود وعقد يطوق جيدها ونظرة عينيها الصغيرتين الحادتين تبدو أجمل صبية رأتها عيناه.. عشتار (كما يناديها) أضناها تعلقها به ولوعة روحها.. لكن أحلامها تبقى نقية..) وكان يأكلها القلق والهواجس المخيفة على حياة حبيبها الشاب، وهو ينغمر في حماسته في الانخراط بالتظاهر السلمي، يطالب بحقه الشرعي في فرصة العمل، ورفض أن يكون من جيش العاطلين، والتظاهر السلمي الوسيلة الوحيدة للعاطلين، فكانت تخاف عليه من العواقب الوخيمة، وخاصة ادارة سلطة الواقع، تعتبر التعبير بالرأي الحر والتظاهر، جريمة لا تغتفر، ونسوا كلام سيد البلاغة الامام العظيم علي (ع) يقول (الفقر في الوطن غربة) فكيف الخلاص من الواقع المأجور، الذي ينشر زعانفه واخطبوطه بالإرهاب والقمع، فكيف السبيل والمخرج؟، حتى مصباح علاء الدين رمي في اعماق البحر !! . هذه دوافع الخوف والقلق على حبيبها الجامعي / العاطل، اضافة الى الضغوط الهائلة من العائلة والعشيرة في ارغامها على الزواج عنوة . لذلك انها تعيش محنتين في آنٍ واحد، أحدهما أشد ضراوة من الاخر، هل هناك سبيل تطرح اسئلة كثيرة على نفسها، ولكن دون جواب . وهذا نص القصة:

***

جمعة عبد الله أديب وناقد ومترجم

...................................

محنة عشتار

 سنية عبد عون

سنية عبد عونتبدو الفتاة قلقة حياله.. والسؤال الذي يبقى ملحا داخل راسها لم تنطقه بعد أمامه.. فهي تلوذ بالتأني.. كانت تنتظره كل يوم بعد عودته من نهار عمل مضن من خلال كوة في غرفتها دون ان يلاحظ ذلك الترقب وتلك القطرات المتساقطة من مسام جسدها الرقيق في نهار تموز اللاهب.. لقد غدت تدور في أفلاكه ولا انفكاك منها وليت الزمان ينصفهما ويلم شملهما دون عناء..

بضفائرها السود وعقد يطوق جيدها ونظرة عينيها الصغيرتين الحادتين تبدو أجمل صبية رأتها عيناه.. عشتار (كما يناديها) أضناها تعلقها به ولوعة روحها.. لكن أحلامها تبقى نقية..

فقد قال لها يوما ان قاربنا لن يغرق أبدا وستجري الرياح بما تشتهي السفن ولن تبقى لهفتنا مضطربة في غد.. وهي تصدقه تماما لكن في دواخلها تسكن أفكارا مرعبة لا ترغب ان تبوح بها أمامه..

جرأته وحماسته أزاء الأحداث في ساحة التظاهر وازاء البطالة التي رافقته منذ سنين عالقة بمخيلتها.. فهي تقف بين نارين كليهما يعذب روحها..

براءتها تروي قصة شقائها انها تهرب منه واليه..

ومن الحاح اسرتها وسعيهم لتزويجها دون يعرفوا سبب رفضها.. فهذا زمن تتفجر فيه صخور الارض لمعاناة الارواح المثقلة بشظف العيش..

فكان التظاهر وسيلة العاطلين الوحيدة ليطالبوا بحقوقهم بعد تخرجهم من الجامعات.. فقد اكلت معاول السنين أجمل محطات أعمارهم الفتية ونبذتهم ساحة عمال البناء وذاقوا لهب سياط العوز والفاقة..

عشتار مصممة ان تمضي بانتظارها دون ان تضل طريقها.. لكنها تتوجس خوفا من اجله انه يسلك طريقا وعرا وإنها ابدا في قلق مريب.. حين يلقي قصائده بين حشود اقرانه.. وبين حشود المتظاهرين.اشعاره تلهب حماستهم ليطرقوا كل الابواب المؤصدة امام ربيع صباهم.. وكما يقول سيد البلاغة (الفقر في الوطن غربة)..

في سوق المدينة تسحب غطاء رأسها برقة وتأنٍ وترمقه بنظراتها الوله وهي تتهجى حروف اسمه مرارا في سرها وتتعمد ان يراها.. خطواته المتعثرة تنبئها بلهفته وشدة شوقه.. تبتسم له بغنجها المعهود وتمضي.. وكيف تفضح سر قلبيهما وان يشاع خبر قصتيهما..

ستجبر بالتأكيد على زواجها عنوة من أي طارق يتقدم لخطبتها.. وربما لا يتقدم لخطبتها أي رجل وتلك هي سمة تقاليدنا والعشائرية التي غدونا نسبح بفضائها عند ذاك يتهاوى قطار عمرها سدى..

في المقابل هناك في ساحة المدينة حيث يتجمع الفتية.. لم ينتبه الفتى الى ما حل بقدميه الحافيتين وقميصه المتهدل وهو يدس جسده المتهالك وروحه الهائجة بحماسة آمالهم الضائعة وغير آبه بمن قضى نحبه في هذا المكان.. .. فهم لا يمتلكون صخرة يستندون اليها ولا حتى قريب ذو نفوذ يسندهم بعد الله سبحانه وتعالى..

حتما سيكون التظاهر وسيلتهم الوحيدة وعزاء نفوسهم للتعبير عما يجول بخواطرهم المتعبة ومعاناتهم الأبدية مع الفقر الذي عصي الفكاك عنهم..

تقول فتاته.. يا لدهشتي ظننته لا يقوى على حمل جسده وسط حشود المتظاهرين.. كان الفتى يفتح ذراعيه واسعتين لإحساسه بوجع يدفعه بإرادة لم يشعر بها من قبل لكنه لا يعرف كيف يصفها لحبيبته التي تؤنبه وتخاف عليه من الأذى وترفض ان يندس بين تلك الحشود الصاخبة وهي تسمع وترى عويل الامهات الثكلى وأنين الحبيبات.. الخوف يملأ قلبها الغض دائما وأبدا من أجله..

كان التفكير بالهجرة أمرا واردا بالنسبة له.. لكن ذلك قبل ان يعرف تلك الحبيبة التي شدته لجذور هذه الأرض.. انها المرأة وهي الحبيبة والوطن..

أما الصبية.. فكانت تراقب سنان الرعد والغيث الهاطل.. أمانيها الموحشة يتسامق فيها العوز والضجر ولحظاتها أشد قسوة مما يعانيه فتاها فهي مثله غدت جليسة الدار بعد سنوات المثابرة لسنين خلت فهي تعيش ضمن أسرة كثيرة العدد قليلة المورد تشكو العوز هي الأخرى.. فلا منقذ لهما سوى مصباح (علاء الدين)..

تطفح حمرة على ملامح وجهها الأسمر وهي ترمقه بنظراتها المتفائلة.

فاجأته بضحكتها الخافتة وهي تسأله بشيء من الخجل: ما الذي يجري هناك في تلك الساحة.. ؟؟؟ وهل هناك نتائج بشرى قادمة.. ؟؟؟.. اتمنى المشاركة بالرغم من هواجسي وخوفي ولكن اهلي منعوا تواجدي هناك فهم يعرفون أساسا ليس هناك من يحترم انسانية الانسان وحقه في التظاهر..

أجابها بحماسة.. الشمس وحدها تعرف ضراوة المشهد وحماسة القلوب التي تحترق هناك

انها لحظات تعسر فيها الطلق وصراخ الوليد..

.. قالت: تقودني محنتي الى اسئلة كثيرة..

***

المضمون والبنية

"أنا مؤلف أكتبُ قصةَ مؤلف" ص 108

 تتداخلُ في هذه الرواية "مخطوطتان"، وتتكون من قسمين:

المخطوطة الأولى: "العهد القديم:

"صباحات عرزال بن أزرق" يقدمها مؤلفها باقتباس من الكاتب الألماني باتريك زوسكيد: ..." تعدى الخمسين من عمره عاش منها عشرين عاماً خالية من أي أحداث، حتى فاجئته ذات يومٍ حمامة". ص7

وعرزال راويها وشخصيتها المحورية، أما منوال أزرق فهو مؤلفها الذي كتبها خلال 12 ساعة، ويتحدث عن تكنيك كتابته، وسيصير راوياً للمخطوطة الثانية، أما الفرق بين المخطوطتين فهو اختلاف اسم الشخصية المحورية كما توضّحُ قطنه في الهامش كأنها سكرتيرة الكاتب! ص 121

تعتمد بنية "العهد القديم" على سرد الأحجيات ومناقشتها في استراحة السارد: "قبل ساعة تأمل" حيث يبدأ سرديته بعنوان محبطٍ: "إلى هنا يكفي هذا الهراء". ص 11

نلاحظ أن عرزال بن ازرق يكتبُ في هذا الفصل مذكراتِه، يقدّمها كأنه يقرأها أو يرويها، فنحن أمام راوٍ يقترب من "صورة الكاتب" أحياناً، كون السرد من مؤلف عن مؤلف آخر. 3790 سعود السنعوسي

المخطوطة الثانية: العهد الجديد:

يبدأ الساردُ سرديتَه "صباحات منوال بن ازرق"، مُلمّحًا عن "جريدة قديمة  مصفرة الأوراق" ص 23 ، وينتهي بها حيث نطلع على الخبر المنشور فيها عن "حادثة اختفاء توأمي ساحل المرسى..." ص 181. 

بينما أخذ منوال "يترنم وهو يستدعي صوتَ أمّه "يا نظير عيوني، ودعتك الله... نحت أنا لو أبرا، نوح الحمامه.... فتح عينيه التي رأت كل شيء. نفخَ صدره. باعد بين ذراعيه. ثنى ساقيه يهم بالقفز. غروووغ. ثمّ..... سمعَ طرقاً على باب شقته". ص 182 أراد أن ينتحرَ فلم يَجرُؤ على ذلك!

وبعد فصل: "قبل ساعة تأمّل" يُعنونُ روايته ب "مشروع رواية " و"نص لقيط" ، كونه "وُلد بغير فكرة"  كما قالت قطنه للمؤلف. ص 105 و"نص نسيب". وخمسة صباحات، كل منها فصل بحد ذاته تكوّن بنية الرواية.

وهناك فصل طويل بعنوان: "أثناء ساعة تأمل" مكرس لشخصية "قُطنه" البطلة "المحيرة التي ستتضح معالمها بعد انتهاء عملية سيرورة النص. ص 85-106

"أنا مؤلف أكتبُ قصةَ مؤلف، وهذه ساعة تأملي، لا تهدري وقتك!... أنا لا يرضيني هذا الهراء.... إقرئي المذكرات التي أخفاها فحسب... إخترتُ أن أكون أنا وفق ما أروم. كتبتُ نصاً يخالف النص اللقيط الذي تعرفين. ...هنا نصٌّ نسيب أنسبه إلى فكرة واضحة المعالم. انسَي المؤلف بن أزرق الحائر في نصه في العهد القديم". ص 108

نحن هنا أمام مذكرات يكتبها منوال بن أزرق. "مشروع رواية"، حيث يحاول الكاتب من خلال راوٍ آخر أن يفلسفَ النصَّ الأولَ، ويسهل المحتوى، لكن قد يحدث العكس أحيانًا! بالذات في حواراته مع بطلته قطنه. هنا، تكاد الحقيقة تغيب أو تضيع "أثناء ساعة تأمل"، لكنه من أجمل المقاطع السردية التجديدية التي طورت المونولوج التقليدي إلى هجين من مناجاة وحوارات فنية. ص 106

أما الفصل الأخير فهو قصير مكرس للراوي "عرزال" الذي يتحدث أحيانًا بانتقالات واقتضابات عن ذكرياته ويقدم الأحداث والشخصيات الحقيقية مثل زينه ورحال مختلِطَة بالحَمَام وبه والمعزه قطنه والخ.

عندما انتهيت من قراءتي الأولى لهذا العمل المهم، بالذات من الناحية اللغوية، تذكرت "الصخب والعنف"** للأميركي وليم فوكنر، "رواية الروائيين" الصعبة الفهم، لدرجة أن كاتبها أعاد إصدارها بملحق يوضح بعض غموضها! ولاحظت أن الروائي سعود السنعوسي عمل نفس الأمر في فصله الثاني "العهد الجديد" بلغة أقل ما يقال عنها إنها رائعة، سلِسة! أعادَ فلسفة الرواية وطرق الكتابة وفكرتها: الحقيقة أنه لا توجد حقيقة! ص 110

يصورُ الكاتبُ مؤلفًا خمسينيًا، يجلس أمام "مخطوطه" محتارًا "في أمره" كما يقول لمنيره! وهو مكتئِب ومحبَط مما يكتب  ويكرر: "إلى هنا يكفي هذا الهراء!". ص 11

نلحظُ أن الكاتب استجابَ لعقله الباطني، وأطلق العنان لأفكاره وتداعياته في هذا النص ضمن "عفوية" مقصودةٍ ومصمّمَة من قبل الروائي سعود السنعوسي بمهارةٍ عاليةٍ بحيث لا يشك القارئ بها، رغم سخرية الراوي من نصه.

يُفصحُ المؤلفُ هنا عن طريقته في السرد والبنية والتكنيك محاورًا القارئ: "ألفيتني أكتبُ فحسب" ص 13، أنا أعرف القليل عن شخوص روايتي ..." ص 14، وتتضح الإجابة بالتدريج في ثنايا النصوص عن "عرزال" الراوي و"منوال" الكاتب ومنيرة وأسماء أبنائه "البدوية" "الأليغورية" والحفيدين والطيور، إنه المفسّر في حواره مع  قطنة.

في إعادة فلسفة النص تقول قطنه للكاتب: "أنا هنا رسولة مِمّن كتبني ...هو لا يعرفني... أنتَ تقول أشياءً غريبةً عرزال!...سوف يحيطُ جسدَكِ بذراعيه يهمسُ بأذنكِ. الروائيون مرضى، يُنفّسون عن معاناتهم ويستزيدون بالكتابة تعويضًا لنقص في نفوسهم!". ص 103

يتحدث منوال مؤلف "العهد الجديد" عن رغبته في تحفيز شخصياته وحثّها "لفتح حوارات فيما بينها" ويود أن يعرف ايَّ شيء عنها، فقد يستطيع ان ينهي قصته بالانتحار. ص 15

ويقول: "...فجأة. وجدتني ألهثُ في الكتابة، شخص مضطرب اسمه عرزال بن أزرق! حتى الاسم غير مألوفٍ لا أدري من اين جاء. لا أملك تصوراً حول ما كتبت. لا الزمن.. لا المكان... لا الشخوص... بطل؟ الكلمة ذاتها تمنح صاحبها قيمة اشك في وجودها!". ص 13 كأنه هنا أيضًا يوكد فكرة التلقائية والفقد وضياع الحقيقة!

نلاحظ أن الرواية انتهت عملياً بفشل تحقيق فكرة الانتحار! وهنا أيضًا تعبير أليغوري عن استمرار الحياة! "أكتبُ لأدرك مشهد انتحار تلك الشخصية، وحينما اقتربتُ منها لم أقوَ على قتلها!". ص 13 

وهكذا تنتهي الرواية مع استمرار الحياة رغم الصعوبات! وهذا هو مغزاها!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

1 – القراءة

- مكرُ العتبات:

في مستهل المتن تتبدى علامتان، واحدة تفضح تيمة الضياع، وثانية تمكر بالتجنيس. وفي كلا العلامتين نحس شجْب الراوي هذا الماحولَ المادي والفكري وإدانته. ونقصد بالمادي تيمات الضياع واليباب والموت، في حين نقصد بالفكري رؤية الراوي لفن الحكي عبر قراره البائن بينونةً كبرى وهو يسائلُ جنساً أدبياً وينفي عنه خاصية الامتداد في وصمِهِ إيّاهُ بـ (ليست قصيرة) اعتباراً لسلطان الحجم والكمّ في تحديد الماهيات الأدبية. وهو السلطان الذي يبدو من خلال السياق أن صاحبنا لا يرضى عنها أبدا.

و من هذين المكرين نكتفي بواحد في هذه التوطئة، وهو المتعلق بالتجنيس، لحاجةٍ بعيدة عن المفاضلة بقدر ما هي لصيقة بمنهج التداول لهذا الموضوع في جرأته الأدبية العامرة داخل سياقٍ يروم التعتيم والتعميم وتسمية المتون بغير أسمائها هروبا من مسؤولية التجنيس أو تهريبا لعجزٍ واضح عن فعلِ التجنيس.

أصرّ السارد على وضع العنوان في وضعية ماكرة لا تبدو براءتُها التلقائية بقدر ما يبدو إثمُها المشروعُ في نقد الخطاب السردي. قال: (كتاب حب ضائع في أرض يباب.. ومقصلة). وهو عنوان مُذيّل بمكرٍ آخر. قال: (قصة ليستْ قصيرة). فما الدّاعِي إلى هذا الهجوم الأدبي على النوع القصصي متلبّساً بمفهوم( القصيرة) ؟ والجواب في نظري القاصر موجود في رؤيتيْنِ، واحدة عامة وأخرى خاصة. فأما العامّة فترتبط باستنكار السارد لتغوّل ما يُدَّعى أنه ينتمي إلى فن السرد، وفنّ القصّة. وقدْ سمّاهُ أصحابُهُ في يقينٍ غريبٍ تسميةً مُكثّفة وأقحموه في جسد السرديات، وبنوا له عالماً من الخرجات مشفوعةً بتراكمات تأليفية غمرتِ الساحة الثقافية وجنّدوا له ترساناتٍ من المقاربات والندوات والمحافل.. وأما الخاصّة فترتبط بميثاق براءة من هذا الجنس الأدبي إن جاز نعته بذلك. فالسارد يؤمن بالامتداد النفسي والزمني للإبداع، وهو لا يقدر على تصوّر خطفِ الحدث الذاتيّ أو الغيْرِيّ في مساحةٍ قوليةٍ مركّزَةٍ مسْروقَة وسريعة لا تُوفّر للقارئِ فسحةً زمنية من التفاعل المنساب مع صيرورة السرد في عمقه الوجودي وفي عمقِه الفنّي. ناهِيكَ عن إحساس السارد بعمق وغور ما يحدث له في صميم الحياة المتنكرة له، وبالتالي إحساسه بالغبْنِ وهو يغرف من سيرته الطويلة العميقة ثم يصبّه في إناءٍ نوعيٍّ لا يقدر على استيعاب دفق الروح المجروحة والمطروحة هنا. فالصورة في آخر المطاف تشبه من يروم صبّ مائة لترٍ من بنٍّ في فنجانٍ لا يتّسعُ لثلاثِ رشْفات، ولكم أن تتصوروا هُزءَ المشهدِ ووخْزَهُ  والروحُ العارمة تتدفق هدراً خارج هذا الفنجان المسكين. السارد هنا يشجب النعت( قصيرة) وكأنّه أيضا يصرخ في وجهِنا أنْ نُسمّي ما قَصُرَ في تصوّر مشّائي هذا النوع باسم آخر غير القصة، توقِيراً واحتراما لهذا الجنس الأدبي التاريخي والمارد.

- مكرُ السرد:

يتجلى هذا المكرُ الأدبيّ في بنيتيْن سرديتيْن تُسيِّجان مسار السرد، ويتعلق الأمر بفعل (أغلق) المتصدّرِ لصيرورة الحكي، وفعل (واصل) الخاتِمِ لهذه الصيرورة في تجدّد وانفتاح مُشْرعٍيْنِ على الممكن واللاممكن من عمليات اجتِراح السرد. فكيف نستوعبِ هذا الانشطارَ السردي بين نسقيْنِ: واحدٌ مغلقٌ والثاني منفتح؟

يتحرّك السرد في هذه القصة المستشكلة في حجمها داخل قدر البحث عن شكلٍ مناسبٍ لكتاب الحب، مادام الساردُ مقتنعاً جدّاً بأن الحبّ مستحيلٌ خامسٌ مضافٌ إلى الأربعة القابعة في استحالة الجمال القيمي كما سطّره همسٌ قديمٌ في التراث:

لَمَّا رَأَيْتُ بَنِي الزَّمَانِ وَمَا بِهِمْ  \\\ خِلٌّ وَفِيٌّ، للشَّدَائِدِ أَصْطَفِي

أيْقَنْتُ أَنَّ المُسْتَحِيلَ ثَلَاثَةٌ \\\ الغُولُ وَالعَنْقَاءُ وَالْخِلُّ الوَفِي – صفيّ الدين الحليّ

وهذا الهمسُ يتكرر في سياق آخر حداثِيٍّ موسوم بفكرة النوع الحاكي لا المترنّم. وبفكرة السرد المكتوي بسطحية الماحول وقسوته وتنكره لذاتٍ أجمعتْ كلُّ تفاصيلِها على تبنّي فلسفة العطاء في غير منٍّ ولا أذىً أو انتظار شكرٍ أو مقابل. وعِوضَ أن تُتَوَّجَ الذاتُ الساردة باعترافٍ جميلٍ وجليلٍ من قِبلِ هذا الماحول، نجد هذا الأخير يُسارِعُ في إعدامِ هذه الذات والتنكيل بها في غير رحمة أو حتّى شفقة، فيبْني لها مقصلة ويدعو الدهماء إلى الاحتفال بلحظة الشنق والفتك والقتل.

السردُ هنا لا يفتكُ بالإنسان وحده، بل يفتك بالقيمة، فالإنسانُ ماضٍ في تخومِ السديم فيما القيمةُ باقيةٌ ما بقيَ المعنى. من هنا قسوةُ السردِ في هذه القصة المستشكلة، لأن الأتّهامَ لا يستهدفُ الأنامَ في هبوطهِ بقدر ما يستهدِف الفكرةَ في تردِّيها وفي أفولِها واندحارِها. وهو لعمْرِي أقسى وأشدّ مضاضةً على الوجود الإنساني في مشروعِ كينونتِهِ وهو لا يدرِي كمْ يفتِك بهذه الكينونة خارجَ مقولاتِ التناغم والحب.

يتقدّمُ السرد إلى المتلقّي في بنيتيْنِ أخْريَيْنِ، واحدة مثبتَةٌ وأخرى منفية لحاجةٍ في نفس السارد. (أغلق – خرج – تعب – جلس .. نفت – واصل) في مقابل (لم يجد – لم يعرف – لا تعرفه – لا يعرفونه – لم ينتبه – لم يلاحظ). وهنا بالذّاتِ لا تهمُنا الأفعالُ في تعبيراتها المباشرة عن معناها الثاوي في وجودها القاموسيّ بقدر ما يهما سكونها وحركيتها، انغلاقها وانفتاحها، استسلامها وشجبها، مكرها وبراءتها، دناءتُها وكرمها.. ولنأخذ مثالاً لذلك، ففعل (أغلق) لا يرتبط في المحكي بعملية حسية فيزيائية ترتبط بوجود حسي لباب أو ما جاور، بقدر ما يرتبط بمدخل يتجلي في أبعاد غزيرة منها البعد المعرفي (أغلق ملف الدراسة النقدية) والبعد النفسي (لم يكملها بعد) والبعد الانتظاري المرتقب بقافيْنِ واحدةٌ مفتوحةٌ وأخرى مكسورة. وهكذا فكل الأفعال هنا لا تتحدد ماهيتها إلا داخل السرد في مكره الباني للأنساق المعرفية والنفسية والوجودية بشكل عام.

داخل هذه النسقية الواخزة، يتبدّى محورُ النفيِ قويّاً ومؤلماً لأنه ورد في سياق الآخر المتنكّر. وهو نفيٌ دلاليٌّ لا يقف عندحدود السلوك المجانب لقواعد السلوك البينية في مجال الاجتماع. إنه نفيٌ فلسفيٌّ من جهة الذات المستقبلة يستبطن القيمةَ في وجهَيْها: الوجه المعترف والوجه المتنكر. داخل هذه الثنائية ترقد المعاناةُ التي تتجاوزُ الإحساس بالغبنِ إلى الإحساس بالعبثية. وفي ذلك ما فيه من فلسفة تُلغي الفعل وردّ الفعل لتثبِتَ القيمة واللاقيمة.

والانغلاق في مقابل الانفتاح، هما أكبر من نسق سردي ينظّمُ عين القارئ وذهنه داخل مسار الحكي. إنهما إذانةٌ قاسيةٌ لفعل غير مسؤول، وشجبٌ وجوديٌّ لسلوكٍ جانبَ المعقول. وفي آخر المطاف، فهما مسارُ حكي يصرخُ في وجهِ الرّداءة القيمية التي تتغوّل في الماحول وتُملي على الذواتِ قراراتها العطنة وكأنها محاكم تفتيشٍ تعود من أزمنة الظلام القروسطي لتمارس سطوتها على الفن والإبداع والإنسان، تتسلطنُ وتتمادي في سلطانها لتحكم قبضتها على عنق الساحة الإبداعية، تؤشّرُ للمرور على ما أرادتْ هي في غير معيار.

- مكر الكمّ والحجم:

يُعْفينا السارد من البحث عن مبطّنِ حكيهِ فيما يخصّ شكل المتن الذي نتنزّه في عمقه المؤلم. والمتتبع لهذا المسار يدركُ مورفولوجيا الرسم، وأقصد الكتابة الطباعية للنص. وهي الموسومة بكثيرٍ من نقط الحذف. وهي علامة سيميائية شكلية تنطوي على أكثر من دلالة. وأقربُها إلى محطّتنا التحليلية هو تعبيرُها عن قناعة تجنيسية للمتحدّث هنا باسم السارد. إنه يعترف في مكر الحدث وسرد الحدث وتشكيل الفضاء بشيء واحد وأساسيّ، هو النوعُ الأدبي. فالسارد يقدّمُ في نقط حذفه رواية كاملة بتفاصيلها وجزئياتها ومتاهاتها وتلميحاتها وتصريحاتها. في لبوس جنس القصة القصيرة، مع العلم أن الافعال السردية هنا فاضحة لمشروع الرواية العميقة في مكر هذا السارد. والمتتبعُ باجتهادٍ لهذا الصوغ القصصي سيدرك لا محالة كم هو مختزلٌ هذا الحكيُ لعوالم أخرى معلنٍ عنها في قبضة الإشارة بدل العبارة الثواية في مستقْبَلِ الرواية.

- ختم مفتوح:

الباحثُ والناقدُ والشاعرُ والروائيُّ (عبدالرحمن بوطيب) علامة إبداعية مثقّفة كبيرةٌ جدّاً على وصفنا أو تقريضنا أو مدحنا أو تحليلنا. وهو رجل لمْ يحظَ بعدُ بأيّ اعترافٍ أو تقديرٍ أو حق. وعيبٌ ، كلُّ العيبِ أن يُتركَ هذا المبدعُ في الظل فيما هو يُزِيحُ باستمرارٍ قويٍّ الستائر عن المغمروينَ والمغموراتِ في ساحتنا الثقافية الموسومة بالتناقض القيمي الغريب.

***

بقلم نورالدين حنيف أبوشامة

............................

2 – المتنُ المقروء:

حب ضائع في أرض يباب.. ومقصلة

أغلق ملف دراسته النقدية التي لم يكملها بعد.. خرج يبحث عن كتاب الحب في دروب المدينة.. لم يجد ضالته في الدكاكين والأكشاك والحمّامات والمقاهي.. لم يعرف طريقه إلى مكتبة في دروب لا تعرفه.. كل الوجوه التي يصادفها في طريقه لا تعرفه.. كل الوجوه لا تعرف الحب الضائع الذي يبحث عنه رجل لا يعرفونه.. وصل إلى مركز المدينة.. سأل كلَّ الناس عن مكتبة.. لم ينتبه إلى أن فرقة من الناس كانت تتغامز من وراء ظهره.. لم يلاحظ أن فرقة من الناس كانت تشفق على رجل يبحث عن كتاب حب ضائع في دروب أرض يباب.. تعب.. جلس على رصيف قديم.. أخرج من جيبه ورقة وقلماً.. كتب "هذا كتاب الحب والضياع".. بدأ يسرد.. يسرد.. يسرد.. يتعرق.. يتعرق.. يتعرق.. يرتجف.. أحس بحركة حوله.. رفع رأسه.. شاهد مقصلة منصوبة أمامه.. وعديد جلادين بألف قناع وقناع.. أشعل آخر سيجارة سوداء متبقية في علبته القديمة.. نفث من صدره سحابة دخان أسود كثيفة.. واصل سرده.

***

قصة.. ليست قصيرة. عبد الرحمن بوطيب.

الدار البيضاء / المغرب: الخميس 11 أبريل 2024.

{النص}

المرايا

تسألني المرايا

واسألها؟

من هذا الجسد الطافح بالحزن

تلك الملامح المتصلبة

كبقايا أخمس بندقية في ارضِ

الحرام

أو نطاق ،

كُمَ قميص لبدلة شهيد

لازالت تندبه ثكلى

يمر ذكرى  بأحلام جميلة لامس

الوجد    .

كم حرب مرت

أخذت من سمرة ملامحي

و من سواد رأسي شيبا

أكتست بالظلمة صباحاتي

لكن لازال لي قلب  ينبض بالود

وللود يحلم بوطن حر وأمل جديد لاطغات فيه .

***

تحليل النص  من خلال العناصر الأدبية والسيميائية  المتواجدة فيه:

1. الشكل الشعري: النص يتكون من أبيات مرتبطة بنظام القافية، وهو ما يميزه كقصيدة. الشكل الشعري يساهم في خلق تأثير جمالي وإيقاعي للنص.

2. الرمزية: النص يحتوي على تعابير رمزية ومجازية تعطيه طابعًا استعاريًا. على سبيل المثال، المرآة التي تسأل وتجيب تمثل تواصل الشاعر مع ذاته واكتشاف هويته الداخلية.

3. الصور البصرية: يستخدم الشاعر صورًا بصرية لتوصيل المشاعر والأفكار. على سبيل المثال، وصف الملامحالمتصلبة في الوجه ومقارنتها ببقايا البنادق والحروب يخلق صورة قوية تعبّر عن الآثار السلبية للصراعات والمعاناة على الجسد والروح.

4. العواطف: النص يحمل عواطف متعددة مثل الحزن، الألم، الود، والأمل. يستخدم الشاعر اللغة الشعرية لنقل هذه العواطف بشكل تفصيلي وعميق، مما يلمح إلى التجربة الإنسانية والمعاناة التي يمكن أن يواجهها الفرد.

5. الرؤية الاجتماعية والسياسية: يعكس النص رؤية الشاعر للوطن والحرية والعدالة. يعبر عن رغبة الشاعر في وجود وطن حر يعيش فيه الناس بكرامة وسلام، ويحلم بمستقبل أفضل خالٍ من الاضطهاد والظلم.

السيميائية في النص

 يمكن رؤية عناصر من السيميائية واستخدام الرموز والعلامات لنقل المعاني والرسائل.

1. المرآة: يمكن اعتبار المرآة رمزًا في النص. تعتبر المرآة نقطة تواصل بين الذات والعالم الخارجي، وتعكس الصورة الداخلية والهوية. في النص، تسأل المرآة وتجيب، مما يشير إلى التواصل الداخلي والتفكير الذاتي.

2. الألوان: يمكن أن تحمل الألوان دلالات سيميائية في النص. على سبيل المثال، يشير الحزن والظلمة إلى الألوان المظلمة والمظلمة، بينما يمكن أن يرمز الود والأمل إلى الألوان الزاهية والمشرقة.

3. الحروب والأسلحة: تعد الحروب والأسلحة رموزًا للصراع والعنف في النص. يشير استخدام البنادق والحروب إلى التدمير والدمار، وتأثيرها السلبي على الجسد والروح.

4. الحرية والأمل: تعتبر الحرية والأمل رموزًا للتحرر والتغيير في النص. تمثل الحرية الوطنية والشخصية، بينما يعبّر الأمل عن التطلع لمستقبل أفضل ووطن حر.

من خلال استخدام هذه الرموز والعلامات، يتم توصيل رسائل ومعانٍ عميقة في النص.

كما يمكننا استنتاج أن النص يحمل رسالة أدبية تعبّر عن الإنسانية والتجربة الشخصية، وتسلط الضوء على الصراعات والآثار السلبية للحروب والقهر. كما يدعو النص إلى الأمل والتغيير الاجتماعي، ويعكس رؤية الشاعر للعالم والواقع الذي يعيش فيه. كل المحبة.

***

بقلم الأديب الاستاذ الناقد خلف ابراهيم

يظل الأدب الألماني دون بقية الآداب الأوروبية الأخرى اِنتشارا واِطلاعا بين قراء العربية بالرغم من كونه يعتبر أحد أهم الآداب في العالم وربما يعود سبب قلة انتشاره بين العرب إلى عدم اطلاع المتعلمين العرب على اللغة الألمانية بصفة واسعة سوى نخبة قليلة نذكر من بينهم الدكتور عبد الرحمان بدوي الذي تخصص في الثقافة الألمانية وترجم منها عيون فلسفتها وأدبها وشعرها وإن كتابه حول الأدب الألماني في نصف قرن الصادر عن سلسلة، عالم المعرفة، يندرج ضمن جهوده للتعريف بهذا الأدب حتى يكون رافدا من روافد الابتكار والتجديد والإثراء في أدبنا العربي الحديث.

والشاعر الألماني رلكه عاش بين سنة 1875 وسنة 1926 وهو أهم الشعراء الألمان المعاصرين وقد حظي بأوسع شهرة وأرفع مكانة طوال القرن العشرين لأنه كان حقا نسيج وحده.

المولد والنشأة والانطلاقة:

هو رايتر ماريّا رلكة من مدينة براغ عاصمة الدولة التشكيوسلافيكية وقد ولد سنة 1875 لأب كان ضابطا في الجيش النمساوي وقد شارك هذا الأب في حملة النمسا ضد ايطاليا سنة 1859 ثم اضطر لترك الجيش بسبب صحته والتحق بإدارة السكة الحديدية أما أمه فهي ابنة تاجر كان مستشارا لإمبراطور النمسا لكن الحياة الزوجية لم تستمر طويلا بينهما فعاشا حالة انفصال من دون طلاق وكانت أمه هي التي أنفقت عليه ورعته ودفعته للمطالعة ونمّت فيه مواهبه الفنية.

بعد تعليمه الابتدائي التحق رلكه بالمدرسة العسكرية الثانوية بالقرب من فيينا عاصمة النمسا وذلك سنة 1886 ثم انتقل منها إلى الكلية الحربية سنة 1890 التي لم يمكث فيها سوى عام واحد حيث لم يكن منسجما مع جو الانضباط والقسوة الذي وجده بين زملائه والمدرسّين وقد شبّه ذلك الإطار ببيت الموتى.

ومن القصائد الأولى التي نشرها رلكه قصيدة تحت عنوان ( الفستان الجرار هو الموضة) وذلك سنة 1891 وفي نهاية 1894 ظهرت له مجموعته الشعرية الأولى (الحياة والأغاني) وقد اهتم فيها بالقصائد القصيرة ذات الإيقاع الذي يقوم على المحسنات اللفظية ومن بينها هذه القطعة التي يقول فيها:

غنّ من جديد لحبيبتي

يا صوت عودي المضيء بالحب

غنّ إبّان الليل

وفي هذه المجموعة قصائد أخرى تعتمد الومضة والإيجاز:

من يعرفون الإنسانية يقولون

إن العبقرية مقدّر عليها الهلاك

كلا:إذا كان الزمان لا يخلق عظماء

فإن الإنسان يخلق لنفسه زمان مجده

ونشر رلكه مجموعته الشعرية الثانية تحت عنوان "قربان إلى اللارات" واللارات في الديانة الرومانية القديمة هي الآلهات التي تحمي البيوت وموطن الميلاد فمعني العنوان كما رأى الدكتور عبد الرحمان بدوي أن القصائد الواردة في المجموعة تدور حول مدينة براغ موطن ميلاد الشاعر وحول أهلها ومن هنا نعتها البعض بأنها تندرج ضمن (شعر المدينة) حيث نجد فيها وصفا لبعض الأحياء المتميزة في براغ خصوصا الأحياء الشعبية مثل قوله في إحدى تلك القصائد:

هم يذهبون في حرارة المحبّ الحارة

ويخرجون من المصانع رجالا وفتيات

وعلى جباههم المنخفضة المغلّقة

كتب البؤس مدادا من العرق

الوجوه حزينة والعين منطفئة

والنعال الثقيلة تقرع الطريق

مثيرة التراب والغبار

لكن الشاعر – وهو يتحدث عن القضاء في المدينة بمختلف مكوّناته وأبعاده – نلاحظ انه ينخرط في الصراع السياسي في عصره فهو يقول في قصيد له بعنوان " الشك " :

النزاع الوحشي بين ألم

لا يصل إلى منه أيّ صدى

لأني لا أنحاز إلى أيّ طرف

إذا الحق ليس هناك ولا هنا

وفي أوائل سنة 1896 طبع مجلة أدبية اسمها "الشيكوريا البريّة" وهي تقع في 66 صفحة وقد وزعها مجانا على المستشفيات والنوادي المختلفة ثم راح بعد ذلك يوزعها على المارة بالمجان أيضا وقد قدّم لهذه المجلة قائلا: " مجرد كلمة واحدة: أنتم تنشرون مطبوعاتكم في طبعات رخيصة الأثمان وبهذا تسهّلون على الغني الشراء لكنكم لا تساعدون الفقير لأنه بالنسبة إليه كل شيء غالي الثمن... أنا أيضا فقير لكن هذا الأمل يجعلني غنّيا. إنّ "الشيكوريا البريّة" ستظهر مرة أو مرتين في العام فاقطفوها ولتكن مصدر سرور لكم".

ومن روائع الشاعر رلكه هذه القصيدة:

مثل الريح اخترقت الخمائل

ومن كل بيت كان ينبعث دخان

وبينما كان الآخرون يستمعون بما اعتادوه

بقيت أنا شبيها بعدة غريبة

يداي دخلتا دخولا رهيبا

في مصيرالآخرين المعلّق

لا بد من سند أرضي

لان الثقة لا تتولد إلا في الثقة

كل إحسان هو فعل بمثابة مقابل

أوّاه لم يتطلب مني الليل شيئا

لكن حين توجهت نحو النجوم

أين كنت أنا؟

* البحث عن الشرق

و تماما مثل الشاعر الألماني "قوته" وبتأثر حركة الاستشراق انبهر الشاعر رلكه هو أيضا بعالم الشرق و بما في حضارته من تأمّل وبساطة وروحانيات خاصة، لكن السبب المباشر في انفتاح مهجته على العوالم الشرقية يعود إلى زوجته التي قامت برحلة إلى مصر ومن زمن تلك الرحلة تراه مولعا بالنيل وبالصحراء وبتمثال أبي الهول الذي كتب فيه قائلا ضمن رسالة: "أبو الهول ليس ذلك الأثر الفني الذي صنعه نحات معيّن، بل هو أولا وقبل كل شيء ذلك الأثر الذي عاون في صنعها الزمان، إذن لقد اشترك في عمله فنانان: الفنان البشري ثم ذلك الفنان العظيم الآخر إلا وهو الزمان، فلم يعد الحجر مجرد نحت بل صار كائنا حيا وشاهد إصباح آلاف الأيام وأمواج الرياح وما لا يحصي من النجوم التي تطلع وتأفل ومواكب الأفلاك في العلا وحرارة السماوات الممتدة هناك أبدا.

رلكه في تونس

و قبل أن يصل إلى مصر زار رلكه بلاد الجزائر وتونس التي كتب عنها بعض رسائله قائلا انه طاف بأسواقها الغنية بعروضها ومتاجرها وأقمشتها المتعددة الألوان حيث يسود جوّ ألف ليلة وليلة وقد تجّول في سوق العطّارين فتعّرف إلى عطار لا تصافحه اليد حتي تظل معطرة النهار كله وهو في رسالة كتبها من القيروان بتاريخ 21 ديسمبر سنة 1910 يكشف الجانب الصوفي بما فيه من تقوى وزهد فيقول عن القيروان إنها مدينة مقدّسة وفيها مسجد جامع عظيم استخدمت في بنائه أعمدة كثيرة من آثار قرطاجنة والمدن الساحلية الرومانية والفينقية لتحمل سقفا من خشب الأرز وقبابا بيضاء ولا يحيط بالمدينة سوى السهول والمقابر لهذا تبّدت له كأن الموتى يحاصرونها وهم راقدون حولها يزدادون دائما ولا يتحّركون أبدا.

ويثير هذا المنظر في نفس رلكه خواطر عن الإسلام فيكتب قصيدة "رسالة محمد"، جاء فيها:

لّما تبدّى الملك الكريم الطاهر

ذو الملامح المعروفة والنّور الباهر

تبدّى رائعا له خلوته

خلع كل كبرياء وخيلاء وتوسّل إلى التاجر

وقد اضطرب باطنه إثر أسفاره

توسّل إليه أن يبقى

لم يكن قارئا، وها هي ذي كلمته

كلمة عظيمة حتى على حكيم

لكن الملك وجّهه بمهارة

إلى ما كان مسطورا في لوح

ولم ييأس، بل ظل

يردّد دائما: إقرا

فقرا حتى انحنى الملك

وأصبح ممن

يعرفون كيف يقررون

ويستمعون ويتمون "الرّسالة"

ويرى الدكتور عبد الرحمان بدوي أنّ السبب الذي كان وراء كتابة هذه القصيدة ربّما مأتاه التأثر بكتاب "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي" أو أنّ الشاعر قد قرأ سيرة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتأثر بها وبسورة "العلق".

الرحلة إلى مصر:

في سنة 1911 أبحر الشاعر إلى مصر وهو يشعر أن عالم الشرق بدا يتفتّح له بل وقد استولى على كامل وجدانه عندما بدأ رحلته من الإسكندرية إلى القاهرة ومنها ركب الباخرة إلى الصعيد عبر نهر النيل حيث أوحت إليه بقصيدة "الكرنك".

كان ذلك في الكرنك

إلى هناك ذهنيا على فرس

هيلمانه وأنا،بعد عشاء سريع

وتوقّف الترجمان: هنا طريق آباء الهول

آه..المدخل... لم أنص من قبل

في عالم جديد مثل هذا

أهذا ممكن أيتها العظمة؟

لقد عظمت في نفسي عظمة مفرطة

السفر، هل هو البحث؟ الآن، قد أصبح غاية

والحارس عند المدخل أشعرنا

بقشعريرة المقدار: فلكم كان صغيرا

إزاء ارتفاع البوّابة المتواصل

والآن، طول العمر كله

العمود، ذاك العمود،ليس كافيا

إنّ التدمير جعله على حق

لقد كان أعلى

من أيّ سقف؟ ولكنه بقي حاملا

لقد أودع الشاعر رلكه هذه القصيدة كل انطباعاته تلك التي خطرت له قبل مشاهدة الآثار الفرعونية وسجل فيها أيضا ما لمسه من عظمة الإبداع المصري القديم في الأقصر وطيبة ووادي الملوك والمناطق المجاورة حيث يقول في إحدى قصائده

الفلاح الذي كان يرافقنا

ظلّ في المؤخرة، لقد كنا في حاجة إلى وقت

لتحمل أثر هذا، إذ كان أثرا شبه مدمر

أثر الوقوف وحده في الوجود:

لو كان عندي ولد

لأرسلته إلى هناك في نقطة تحوّل العمر

التي فيها يكّرس المرء نفسه للحق وحده

وعلى طول الجدران ملاحم

الملوك: لم يسمع بمثلها

وامتلأت التماثيل بنور القمر

واحد إثراء آخر

لقد كان نحتا بارزا

و يتحدث رلكه عن رؤيته لتمثال أبي الهول فيقول "تركت ساعة العشاء تمرّ وكان الأعراب يقعون هناك بالقرب من نارهم والظلمة تحول بينهم وبين رؤيتي، لقد انتظرت حثي أسدل الليل ستائره بعيدا في الصحراء ثم مشيت من خلف أبي الهول وقدّرت أنّ القمر لا بد أن يكون على وشك الطلوع خلف الهرم القريب الذي أحرقته شمس المغيب ذلك أن الليلة كانت ليلة بدر، وفي الواقع لم أكد أستدير حول أبي الهول حتي كان القمر قد تصاعد عاليا في السّماء وانتشر منه فيض من النور على الأفق اللامتناهي". ونرى رلكه في قصيدة " أبي الهول " يخلط بين ذكريات الأقصر والكرنك وطيبة وبين ذكريات أبي الهول والأهرام حيث يقول فيها:

إنه يقوده بخفة خلال مناظر الأنين

ويدلّه على أعمدة المعابد أو إطلال

القصور المحصنة التي كان بها أمراء الأنين

يحكمون البلاد بحكمة

ويدله على أشجار الدموع وحقول الأحزان الزّاهرة

ولا يعرف الأحياء عنها إلا الأوراق الرقيقة

ويرى الدكتور عبد الرحمان بدوي أنّ القصيدة تحتاج إلى تفسير لأنها تحيل على عدة إشارات حول التاريخ الفرعوني.

إن الشاعر الألماني رلكه (1885-1927) كان أحد الشعراء في العالم الذين تعرفّوا إلى البلدان العربية واستلهموا حضاراتها فكانت إضافة نوعية في شعره مما جعله الشاهد على اِنصهار الثقافات وتداخل الحضارات في شعره ذي المنزع الإنساني الذي ينظر إلى الثقافة العربية ورموزها نظرة إيجابية.

***

سُوف عبيد – كاتب وأديب تونسي

 

(مقاربةٌ نسقيةٌ ثقافيةٌ في شعرِ سعد ياسين يوسُف)

سعد ياسين يوسف شاعرٌ عراقيٌ مبدعٌ وأكاديميٌ مقتدر، يعيش الكتابة الشعرية كونها ملاذاً وأكسير حياة، اكتشف ثمرة شعره الناضجة في شجرة روحه اليانعة بالإبداع منذ منتصف السبعينات، حتى أضحى شعره فردوسه الذي يظلله وعالمه الخاص به، فأضحت الشجرة تيمة من تيمات شعره في مجاميعهِ ودواوينهِ، عبر في شعرهِ عن مشاكل الإنسان ومآسيه في هذا الوجود، وقد لفت انتباهي في مجموع شعرهِ عتباته النصية التي عالجت مشاكل الإنسان مع الزمان واستشرافه المضيء لحياتنا القاتمة، عندما نقرأ شعره ما أن نبدأ به حتى يأخذنا لعوالم مختلفة لا تنتهي إلا بإيعاز شديدٍ منا. ومن خلال قراءتي لقصيدة شجرة بيروت والتي نشرها في مجموعته الشعرية شجر الأنبياء في تموز /٢٠٠٦، وظف الشاعر في هذه القصيدة (بيروت)حتى غدت صورة مصغرة عن (لبنان) بل واقعاً عن لبنان بل لبنان نفسه بل لبنان في حضوره وشخصه وذاته، وقد حاولت في هذه القصيدة أن استشفَ حركية الأنساق المضمرة، وتعالقها مع الأنساق الظاهرة في الخطاب الشعري، لأنهما وجهان لعملةٍ واحدةٍ، ولا يمكن أن ينفصل أحدها عن الآخر .

يستهل الشاعر قصيدته الموسومة ب (شجرة بيروت)استهلالا مكانياً محدداً (بيروت):

بيروت

روح البحر

قلادته الملأى بجواهره

الزرقاء

بحكايا الحوريات

على رمل شواطئه

شهوته الحرى .. لحياة

لا تشبه أي حياة

 تحيل هذه العتبة الاستهلالية المتلقي إلى أنساق نصية مضمرة،تكمن في نفسه الشاعرة لتجسيد غربته النفسية، خلال التيمة المكانية المشخصة في تعالق تشبيهي استعاري مكثف، حيث تتوالد الصور الاستعارية التشخيصية من التشبيه الكلي أو التمثيلي، وهو من خلال تلك التشبيهات يكشف النقاب عن الهوية المتفردة بكيانها وصورتها الفكرية، التي تحقق تمثلاته الثقافية إذ إِنٌ الحزن والوجع واحد في بلاد الرافدين، من خلال إبراز تلك المهيمنات الثقافية بأنساقها اللفظية الظاهرة، والتي تُضمر للدلالة عن رفض شعوري وسياسي لأي سلطة واعتداء صهيوني لهذه المدينة التي وسمها بروح البحر، تتضمن القصيدة العديد من الإشارات والإيماءات التي تتكشف مدلولاتها من خلال التوليد التصويري في تشبيهات وتعالق استعاري مكثف، لتصوير مواجهة بيروت في معركتها الشرسة مع الاعتداء الصهويني بصفاتها وعروبتها الشامخة. فكان الشاعر حاذقاً في اختياره للفضاء المائي في تجسيد تلك التجربة الشعرية، لما يمتلكه ذلك المهيمن الفضائي المائي (البحر) من كوامن وأنساق ثقافية مضمرة، تجسد تلك العوالم البيروتية القاهرة للعدو بعطائها الشبيه بالبحر. وقد اختار الشاعر المشبه به العقلي (روح البحر) ليحيل المخيلة المتلقية إلى عوالم من العطاء الذي لاينضب للمشبه (بيروت)، ثم تتوالى الصور التمثيلية التشبيهية الحسية فيشبهها بقلادة البحر في تعالق استعاري مكثف، حيث الجواهر الزرقاء ومايحيل إليها هذا الرمز اللوني إلى الصفاء، والعطاء المشترك .بين لون السماء، ولون البحر، وماينضوي عليه من دلالات الصفاء والعطاء، ثم تتوالى التيمات البحرية في توالٍ منسقٍ يستكشف عن مضمرات تخيلية مرتبطة بعالم الأسطورة، والطفولة، والحكايات الشعبية، عن الحوريات، وعروس البحر، في تجسيد لواقع بيروتي قبل الاعتداء مسترجعاً ذلك الواقع الصافي غير الملوث، من خلال تلك التيمات التي تعكس تلك الإيجابية الواقعية المعيشة، فالحياة ليست كأي حياة في ذلك الفضاء الرائع برونقه.

صخب الموج،

 هدير الريح،

نسمات ترقص غنجا

بليالي الصيف تهب

" من أطراف الوادي "

 يجئ صقيع الخبث

تستيقظ شهوةُ موت

الغرباء

كعادتها تقطرُ

موتاً وقذائف

 فيمزق شجر الأرز حبال الثلج

يمد غصونا بردا

 غارا

يا "سيدة نجاة" الجبل،

البحر

هاتي من كفيك زيتا

امسح وجع الجبل

البحر

ويقول أيضاً :

أنيرُ مرافئه الثكلى

وأهلة عشق مآذنه

الذهبية

أُسكتُ صفارات الإنذار

امسح قلب الأطفال،

 بهدأة عينيكِ

 بهدأة عينيكِ

وافتح أبواب الجبل

سلاما طلتك

سلاما همسات الروشة

كل مساء

صباحك يا"صنين "

أغاني الخبز الطالع من أفرانك

عند الفجر الأشهى

من شفتي الشاطئ

عند غروب الشمس

عند نزول الشمس

على شرفات الحمراء

فوق بيوت الضيعة،

في المتن

حيث الريحاني يغني

أخر أغنية للعشق

يشتعل القرميد

يميد الحبق المنثور

بممرات بيوت القرويين

بكهوف جعيتا

حيت أساطير ملوك

 وممالك تصعد تنزل

حفلات من رقص رخام

تتوالى الصور السمعية بدلالاتها الرمزية في هذه النصوص التي تجسد عطاء الطبيعة في مضمر خفي، إلى عطاء المدينة وواقعها قبل الاعتداء الصهيوني، ثم نسمات الصيف الراقصة غنجاً ودلالا في صورة استعارية تخييلية إبداعية، ثم يأتي الواقع المفروض بسلطة الاعتداءوالتدمير، فيوظف الشاعر صور الطبيعة القاسية، لتحيل وبذاكرة جغرافية ثقافية إلى تلك السلطة القاسية التي تصورها بالصقيع الخبيث، وبشهوة الموت في رؤية تجسيمية استعارية دالة،فينقلب الهدوء والطبيعة الرائعة إلى أجواء صقيعية، وموت، وقذائف،وصفارات إنذار، فتصبح المرافئ ثكلى لتلك الذكريات المورقة، ثم يستطرد الشاعر ثانية إلى ماضي بيروت في ذاكرة تجسد الهوية البيروتية، في تيمات تصويرية تحيل بأنساق مضمرة إلى ذلك الماضي البيروتي المورق قبل الصقيع والثكل والاعتداء الصهيوني، حيث شرفات الحمراء، وبيوت الضيعة، ونزول الشمس عليها وغروبها، وأغاني الريحاني، ويمتد ذلك الاسترجاع بعمق ثقافي إلى تأريخ بيروت حيث أساطير الملوك، والعصر الباروكي، وخيول وفرسان، وغجر، لتبقى بتأريخها شامخة في إبداعها:

العصر الباروكي

تصدح موسيقاها

شُرَفٌ مشرعةٌ

 وجميلاتٌ يتقنَ التلويحَ

خيولٌ، فرسان،غجرٌ

ألقى البحرُ عليهم

سحره، جمدوا

علَّ السحر يذوب، يفلُ،

تولد مدنٌ أخرى .

تتوالى في هذا النص التكرارات اللفظية لبعض التيمات الدالة كـ(الشمس، البحر، الجبل، سلاماً، المساء) المترجمة لذلك الاغتراب النفسي عن كل شيء، وقد تجلت الرؤية الشعرية للشاعر المتمخضة من الحالة الوجدانية، من خلال الاستهلال المكاني (بيروت)في سياقات تصويرية مجازية متعددة، تحقق تلك الرؤية لواقعين معيشين ماض مورق، وحاضر أليم، ثم تزداد الشحنات الانفعالية لتبلغ قمتها في تكرار عناصر الطبيعة بصورها الإيجابية والسلبية، لتجسد الواقعية المكونة لرؤية زمكانيةمجازيةمتفردة، تعكس مشاعر الحزن والأنين الثكلى لتلك المدينة الضائعة، ثم يختم تلك الصور النصية المتراكمة في تراكم تأريخي، يعكس تأريخ عريق وتراثي لبيروت الحبيبة، إذ إِنّ هذه الصور جسدت ذلك الغياب الحاضر الموجع، من خلال تقابل الثنائيات (الحضور، والغياب) حيث الوجه الغائب الحاضر المبعثر في ضباب الغياب، في حين لاشيء يظهر إلا ذلك الواقع الأليم، حيث يتماهى الغائب الماضي المورق، ويتجلى ذلك الإبداع التصويري التوليدي من خلال الاسترجاع الزمني،مسترجعاً ومستذكراً الأزمنة الماضية المورقة الشاخصة في قلبه، فضلا عن ذلك لايخفى ما للفونيم الصوتي للحروف المجهورة كالراء، والسين، والحاء من شحنات صوتية جسدت الطاقة التكرارية للراء المتكررة، حيث الوجع المتكرر النفسي للأنا التائهة المبعثرة في متاهات الآخر (بيروت)، ذلك الوجع المتمخض عن تجربته الوجدانية الموجعة، من الثنائية الضدية الماثلة بالدمع الكثير والأمل القليل في علاقات لغوية ولغة شعرية، تحيل إلى تراكمات نسقية ثقافية لتحقق ذلك الفقد والوجع الجمعي، فيغدو ظلام بني صهيون مغلفاً بالكوابيس الطبيعية حيث الصقيع والريح المقتلعة وصفارات الإنذار. فيوظف الشاعر عناصر الطبيعة لتكون معادلا موضوعياً في تجسيد الماضي والحاضر البيروتي، والذي يفضي إلى التردد والتكرار المنسجم مع دلالة التكرار المشهدي، لذلك الحزن والثكل والذكريات بمشهدياتها المختلفة، والطيف المنشود بالتحرر من الظلم والقمع، فضلا عن الواو العاطفة التي تكررت في النص، والتي حققت التواصل المشهدي النصي . إذ إِنّ ذلك الامتزاج والتراسل الحسي بين عناصر الطبيعة المختلفة والفضاء المكاني (بيروت)، يشكل رمزاً فاعلا وحياً لوحدة الحواس المنهمكة بالدال (بيروت)، وذلك ما ينسجم والدلالة النصية. وتتراكم الصور التجسيدية لتكون الذكريات الماضية ملاذاً مؤاسياً في تراصف وتجاور لفظي، حيث صورة ذبول الأمل، والفراغ الآهل بالحسرات، فتنبثق الصورة المائية لتشكل إيحاء رمزياّ فاعلا،في الدعاء بالسقيا والانبعاث لبيروت الضائعة، فتلك السقيا بدلالاتها ما هي إلا رمزاً ومعادلا للدعاء بالخلاص من الظلم والقمع.

وأخيراً أقول تشي نصوص سعد ياسين الشعرية بالقدرة على توليد الصور المبهرةوالمدهشة وغوص بالمعنى، يجعلنا نحلقُ بفضاءات المدى الوجداني والروحي، مع إيقاعات داخلية مموسقة في نسق النص، لأنه رهين لحظته الشعرية .

ملاحظة: شجرة بيروت قصيدة نشرها الشاعر في مجموعته الشعرية شجر الأنبياء، ص ١١٠ والصادرة عن دار الينابيع للتوزيع والنشر، دمشق -٢٠١٢ وقد كتبها إبان الاعتداء الصهيوني الآثم على جنوب لبنان في تموز عام ٢٠٠٦.

***

أ. د. أناهيد الركابي

الجامعة المستنصرية

تعد القرية المهجورة مجموعة قصصية للقاص المغربي محمد الورداشي، صدرت عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع-مصر سنة 2020، وتقع المجموعة في مئة وعشرين صفحة من الحجم المتوسط، وجاءت مقسمة على عشر قصص، في مقدمتها القصة المعنونة ب" دموع السماء"، وفي خاتمتها القصة المعنونة ب"نحو ثورة جديدة" .

قراءة في العنوان:

يتكون العنوان من لفظتين هما القرية المهجورة، تشكلان، من الناحية التركيبية، مركبا وصفيا يضم موصوفا وصفة، أما دلاليا، فإن اللفظتين مؤشرتان على بنية دلالية كبرى تساعد القارئ على فهم دلالات المجموعة، إذ كلمة "القرية" دلالة على مكان جغرافي، وإن شئنا قلنا مكان الإنسان البدوي المعزول عن العالم الحضري، والذي له تقاليده وعاداته ونمط عيشه. أما الصفة "المهجورة"، فإنها لفظة تحيل على الترك والعزلة، لأن الهجرة أضحت السبيل الوحيد للبحث عن سبل عيش كريم، وتحقيق أهداف اجتماعية وثقافية، ورغبة في النجاة من الفقر والعوز، والسعي الحثيث إلى التحرر من ربقة التقاليد والأعراف البائدة التي تعيق حركة الإنسان البدوي في عالم ينزع نحو أساليب الحضارة وأنماط العيش الجديدة التي تفرضها، فضلا عن قيمها التي اكتسحت العالم المتمدن.

موضوعات المجموعة:

تضم المجموعة جملة موضوعات تزخر بها حياة الإنسان وجدليته مع واقعه المعيش، مثل: الفقر، البطالة، الحرمان، الجوع، الموت، الحنين، الجهل، المرض، الحب، الأحلام..إلخ، وكلها تصور لنا وقائع الذات الإنسانية الجريحة؛ إما بسبب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية (البطالة، الفقر، الحرمان، الجوع...)، أو بسبب الحنين إلى قيم وذكريات ماضية، أو التشوف نحو مستقبل مغاير لماضي وحاضر الذات الإنسانية (الحب، الأحلام...).

الشخوص:

تعد الشخوص عنصرا بنائيا ضروريا لكل بناء سردي للأثر الأدبي؛ ذلك أنها حجر الأساس الذي ينجز الأحداث والأفعال داخل عالم الحكي، كما أن هذه الأحداث والأفعال تتبلور من خلال عنصر الشخوص. هكذا، نجد أن الشخوص، في المجموعة قيد القراءة، نوعان: شخوص ثانوية ليست لها أهمية كبيرة في تحريك أحداث القصص، وفي المقابل ثمة شخوص رئيسية تلائم زمان ومكان تبلور فعل الحكي، وتشغل دورا أساسا في بناء الأحداث. من هذه الشخوص: الشيخ عبد القادر المصون، المقدم، عمر، محمد..إلخ، ومن ثم تتضح لنا دقة الكاتب في اختيار شخوصه استجابة لأحداث القصة والقيم التي تنتجها أو تعيد إنتاجها بغية ترسيخها تارة، وتفكيكها ونقدها تارة أخرى.

مسار الأحداث:

يجري مسار الأحداث بشكل مستقيم من البداية إلى النهاية، وفق رغبة السارد في سرد الأحداث. وبهذا يبدو مسار الحكي في المجموعة خطا تصاعديا؛ إذ إن كل بداية تقود القارئ تجاه العقدة-المشكلة التي بدورها تحمل بذور النهاية.

الزمن في المجموعة:

وظف الكاتب أزمنة عدة في مجموعته، بحيث تخضع لصيرورة بناء الحدث في القصة، ونجد هنا جدلية الأزمنة من قبيل: الزمن الفيزيائي (الصباح المساء الصيف الخريف الفجر...)، والزمن التاريخي (التضحية بالنفس الفشل الثورة...)، ثم الزمن النفسي (الخوف، الانتظار، الشوق، الحيرة، الألم، الحزن، الخيبة...)، إذ إن هذا الزمن النفسي هو المهيمن في المجموعة؛ فالأحداث التي تقع فيه تصور الحالة النفسية لأهل القرية المهجورة التي تبعث الشفقة في نفسية القارئ، وتحمله على التعاطف مع شخوصها وما تعانيه من مصائر متشابكة ومعقدة .

الفضاء:

تحتوي المجموعة على العديد من الأمكنة، فهي تتعدد بتعدد أفعال الشخصيات، ما يجعل هذه الأمكنة تشكل فضاءين مختلفين في الأبعاد والدلالة. فالفضاء الأول هو القرية، ويضم (الأطلال، الودي، الجبل، الحقول، بساطة العيش، التعايش). وأما الفضاء الثاني فهو المدينة التي تحتوي على (البنايات، الشوارع، الحدائق…). فمن خلال هذين الفضاءين المتقابلين، استطاع الكاتب أن ينقل للقارئ تلك الاختلافات البنيوية والاجتماعية والقيمية بين القرية والمدينة. الشيء الذي جعل المدينة حاضنة لبعض القيم والسلوكات من قبيل: انحلال القيم الإنسانية وفقدها لجدواها باعتبارها وسيلة لخلق التماسك الاجتماعي والإنساني، وتوحيد سلوك الأفراد وتوجيهه نحو قيم وأهداف مشتركة، والهوة بين الفقراء والأغنياء، كما نجد، في المقابل، الوعي الشقي الثائر على العادات والتقاليد والمعتقدات البالية (ثورة عمر على العادات الظالمة).

الحوار:

إن المجموعة تضم نوعين من الحوار: حوار داخلي نفسي، الذي يدور بين الشخصية ونفسها مثل قصة "الثائر عمر"(هنا سأبني قصرا...)، وحوار خارجي يتم بين الشخصيات. فهذان النوعان من الحوار يضيئان الحالة النفسية والاجتماعية للشخوص، علاوة على الصراع ذي التجليات المتعددة الذي يحرك العلاقات بين الشخوص في حركة جدلية مستمرة من بداية المجموعة القصصية حتى نهايتها.

الوصف:

نجد أن الكاتب قد وظف الوصف بشكل ملحوظ في مجموعته، وهذا يعرب عن كونه يعلم جيدا شخصياته، ومنها يقدم صورة متكاملة ومعرفة حول حالها الاجتماعية والنفسية، كما عمد إلى توظيف أسلوب التشويق؛ إذ جعل بواسطته القارئ يتحمس لقراءة المجموعة القصصية حتى يبلغ النهاية دون ملل أو كلل.

ختاما

لا يسعنا إلا القول إن القرية المهجورة عمل قصصي بامتياز؛ لما تضمنه من مقومات سردية قصصية مختلفة، كما أن الكاتب اعتمد في حكي قصص مجموعته لغة سردية فصيحة، باستثناء حضور خافت لبعض التعابير الدارجة المغربية، وهذا جعل الأمر يسيرا على المتلقي في فهم المضمون، كما يوضح هذا حنكة الكاتب في جذب اهتمام القارئ. فالقرية المهجورة تجعل القارئ يتصور الأحداث كأنه يعيشها من خلال سطورها.

وتظل هذه القراءة البسيطة مجرد محاولة قد لا تستوفي المجموعة حقها، كما نأمل أن نقوم بقراءة أخرى لها في قادم الأيام.

***

محسن الورداشي -  متحصل على الإجازة في اللسانيات

هذه نسائم الشعر الاصيل في هذا الصباح الربيعي. قصيدة تحمل صياغة فنية ببراعة مدهشة ورؤية ورسالة تستلهم صميم موجودات التراث الحضاري والانساني والديني، وتطعيمها من حروف الحرير، لكي تكون السند الاساسي في رحلة هذه الرسالة في الارتقاء  الى العلى، وغايتها نقل الانسان من ضفة حالة الاختناق الى حالة أو ضفة آخرى واسعة ورحبة، يتنفس فيها الصعداء في النسائم الربيعية. أما صياغتها الفنية فمقوماتها خبز اللغة والبلاغة المتألقة الى القمة في الجمال والإغراء والغواية،، لتكون هديلاً  من النغم والإيقاع الموسيقي، الذي ينساب بعذوبة وشفافية كمياه الشلال مصاحبة بصدى الهديل النغمي. عند السماوي الكبير الشعر يغسل ويعجن بالماء الكوثر من رونقة الشعر الاصيل، يرتكز على مقومات الاستلهام ما نتج من براعة التراث الحضاري والانساني والديني، وبالتالي كل مقطع شعري هو سمفونية قائمة بذاتها، أو كل هديل شعري يحمل رسالة، ومجموع هذه الرسائل تصب في مرام واحد في غاية الاهمية وفي نسق متدرج، وصولا الى وضوح الرسالة الهادفة في صورتها المتكاملة الكاملة، من البداية من العنوان المعناطيسي الجذاب: الإفطار الاخير. يستلهم عينة ومرام المرادف في العشاء الاخير للسيد المسيح، حين جمع تلاميذه وغمس بيده ارغفة الخبز غمسها بالنبيذ في مأدبة العشاء الاخير وقال لهم: انطلقوا في رسالتكم فأنتم رسل المحبة والسلام، والسماوي الكبير ينطلق برحلته العشقية / الايروتيكية صباحاً ويشد رحاله في هذا المسير الطويل أو الرحلة الطويلة، لكي يرتوي من وحشية العطش الى الارتوى من ماء الكوثر، لكي يقطف ثمار الجنة، هذا الاستلهام المدهش بين الرسالتين، بين الخبز المغمس بالنبيذ، وبين الافطار الاخير، ليسد جوعه وعطشه الوحشي من اللثم:

مُـخَـرَّزًا بـالـعـطـشِ الـوحـشـيِّ لـلـكـوثـرِ..

والـجـوعِ لأشـهـى ثَـمَـرِ الـجـنَّـةِ..

هَـيَّـأتُ

قِـرى إفـطـاريَ الأخـيـرْ

هذا التمازج بين الرسالتين، رسالة  المحبة والسلام في الاولى، وفي الثانية رحلة العشق الايروتيكي في رحلة المسار والمسير الطويل، في الانطلاق الروحي، حتى الوصول الى فردوس اوروك، وهو المبتغى والمرتجى، لكي يبدل بالغربة الوطن، أو بمملكة الهديل، حتى لو كان في نفق السبعين، فأن معجزة الحب تعيده من جديد الى مرحلة الصبا. نحو السرير الوردي لكي يغفو:

وهـا أنـا

بـعـد دخـولـي نَـفَـقَ "الـسـبـعـيـنَ"

قـد عُـدتُ الـى صِـبـايْ

في هذه الرحلة نحو مملكة العشق الايروتيكي، يقوم بها رسولان هما، الهة الحب اينانا، ورمز البطولة والجسارة انكيدو:

يـشـدُّنـي حَـبـلٌ مـن الـضـوءِ الـى سـريـركِ الـوردِيِّ..

أغـفـو مُـطـبِـقـًا فـمـي عـلـى مـبـسَـمِـكِ الـنـديِّ..

أســتـيـقـظُ "أنـكـيـدو" جـديـدًا

أنـتِ "إيـنـانـايْ"

هذه مملكة الحب المبجلة، نشيدها هديل ونغم، وليس نشيدها (لاحت رؤوس الحرابِ / تلمع بين الروابي / هاكم وقود الشبابِ......) أو نشيد (احنه مشينا للحرب) اما رايتها فهي: ناي وربابة، وليس رايات حزبية وطائفية. وشرطتها تحمل الورود، وليس الرصاص أو القنابل الدخانية التي تخترق جماجم الشباب:

مـمـمـلـكـةً نَـشِــيـدُهـا الـهـديـلُ..

والـشـرطـةُ فـيـهـا تـحـمـلُ الـورودَ لا الـرّصاصَ..

والـرَّايـةُ يـاحـبـيـبـتـي: ربـابـةٌ

ونـايْ

مثلما في بيت الله المقدس (الكعبة) يطوف الحاج حول البيت سبعاً ويصلي صلاة الشكر. في المبتغى في رحلة العشق الايروتيكي، يطوف حول السرير الحريري ويصلي صلاة الشكر على سجّادة الشَّعر الحريري:

أطـوفُ حـولَ بـدرِكِ الـتـمـامِ ســـبـعـًـا..

وأُصَـلِّـيْ رُكـعَـتَـيْ شــكـرٍ

عـلـى سـجّـادةٍ مـن شَـعـرِكِ الـحـريـرِ..

أتـلـو مـا تُـيَـسِّـريـن مـن هـديـلِـكِ الـشـجـيِّ لـيْ..

فـمـا الـذي أرجـوهُ مـن لـذائـذِ الـدنـيـا؟

ومـا عـسـايْ؟

ليقطف ما يشاء من ثمار الجنة. التين والزيتون والرمان، في هالة انهار ضوئية والنجم في هالة البدر، والشوق المرهف والمتلهف يقوده الى سريرها الخمري (ها أنا هيئت لك، فأقطف من ثماري بما تشاء):

أقـودُ:

أنـهـاري الـى حُـقـولِـكِ الـضـوئـيَّـةِ الأشـجـارِ..

والـنـجـمَ الـى بـدرِكِ..

والـدَّلـوَ الـى بـئـرِكِ..

والـشـوقَ الـى خِـدرِكِ..

والأمـسَ الـى يـومِـكِ يـا:

أنـايْ

ولكن السؤال الأهم والاصعب، كيفية الوصول الى (ايثاكا) أو الى مملكة هديل العشق في فردوس اوروك، كيفية البلوغ. هل بدبابة غربية أو شرقية؟، أم  بسطوة (سليمان) أو عصا موسى التي شقت البحر؟:

لـسـتُ "سُــلـيـمـانَ"

فـكـيـفَ جـاءنـي بـعـرشِـكِ الـعـشـقُ؟

ولا "مـوسـى"

فـكـيـفَ ابـتـلـعَـتْ كـلَّ ثـعـابـيـنِ الـضـلالِ والأسـى.

عَـصـايْ؟

ليس بهذه الطرق الملتوية:

فأنا لـسـتُ "سُــلـيـمـانَ"

فـكـيـفَ جـاءنـي بـعـرشِـكِ الـعـشـقُ؟

ولا "مـوسـى"

فـكـيـفَ ابـتـلـعَـتْ كـلَّ ثـعـابـيـنِ الـضـلالِ والأسـى

عَـصـايْ؟

ليس بهذه الطرق الملتوية والماكرة، لقد انكشف الظاهر والمخفي ولم يعد التستر على العورة، كل الاشياء فضحت نفسها بنفسها، اصبحت رسل الضلال ثعابين، وانكسرت عصا موسى، اصبحت أفاعي سامة، وانما بإرادة وقوة الحب، بالحب تنتصر الحياة على كل الاشياء، بالحب يستقيم العدل، وليس للحياة إلا الحب والعشق. فهي رسالة خالدة تتجدد على الدوام.

ليس لي إلا ان اقول ايها السماوي: الشعر يتوج بك انت ايها الكبير.

***

جمعة عبدالله

 ......................................

يحيى السماوي: إفطاريَ الأخير

مُـخَـرَّزًا بـالـعـطـشِ الـوحـشـيِّ لـلـكـوثـرِ..

والـجـوعِ لأشـهـى ثَـمَـرِ الـجـنَّـةِ..

هَـيَّـأتُ

قِـرى إفـطـاريَ الأخـيـرْ:(1)

*

رغـيـفُ خـبـزٍ مـن طـحـيـنِ الـلـثـمِ

فـي صـحـنٍ مـن الـعـنـاقِ

فـي مـائـدةِ الـسـريـرْ

*

وكـأسُ زنـجـبـيـلَ مـن قـارورةٍ

نـمـيـرُهـا:

مـا تُـطـلِـقـيـن لـحـظـةَ امـتـزاجِ مـاءَيـنـا مـن

الـزفـيـرْ

*

إفـطـارُ مَـعـمـودٍ غـريـبِ الـقـلـبِ لا الـديـارِ

أضـنـاهُ الـسُّـرى

تـكـادُ عـيـنـاهُ مـن الأجـفـانِ تـسـتـجـيـرْ

*

يُـسـمِـنُ لـيْ روحـي(2)

ويُـغـنـيـنـي عـن الـجـوعِ إذا طـالَ بـيَ

الـمـسـيـرْ

*

فـي رحـلـتـي الـمـجـهـولـةِ

الـمـصـيـرْ

*

بـحـثـًا

عـن الـفـردوس فـي "أوروكَ"

يـا مـعـنـايْ

*

ومـا أضـعـتُ مـن فـصـولِ الـعـمـرِ

فـي مـنـفـايْ

*

سـأمْـسِـكُ الانَ عـن الـبـحـثِ

فـقـد وجـدتُ فـي إفـطـاريَ الأخـيـرِ

مُـبـتـغـايْ

*

حـبُّـكِ مـن أعـادَنـي إلـيَّ بـعـدَ غـربـةٍ

كـنـتُ بـهـا سِـوايْ

*

وهـا أنـا

بـعـد دخـولـي نَـفَـقَ "الـسـبـعـيـنَ"

قـد عُـدتُ الـى صِـبـايْ

*

أجـوبُ فـي بُـسـتـانِـكِ الـمُـمـتـدِّ

مـن بـدايـةِ الـدنـيـا

الـى آخـرِ مُـنـتـهـايْ:

*

أشـمُّ مـن نـخـيـلِـكِ الـطَّـلْـعَ ..(3)

ويَـسـتـثـيـرُنـي جُـمّـارُكِ الـبَـضُّ..

ويـسـتـفـزُّ تـنُّـورُكِ مـحـراثـي ..

وزهـرُ الـكَـرَزِ الـخـبـيءُ يـسـتـحِـثُّ مـا ادَّخـرتُ مـن جـمـري

ومـن نـدايْ

*

يـشـدُّنـي حَـبـلٌ مـن الـضـوءِ الـى سـريـركِ الـوردِيِّ..(4)

أغـفـو مُـطـبِـقـًا فـمـي عـلـى مـبـسَـمِـكِ الـنـديِّ ..

أســتـيـقـظُ "أنـكـيـدو" جـديـدًا

أنـتِ "إيـنـانـايْ"

*

مـن أيـن نـمـشـي فـالـدروبُ تـقـتـفـي ظِـلَّـكِ

أو خُـطـايْ

*

نُـطـرِّزُ الـصـحـراءَ بـالـواحـاتِ ..

والـغـدرانَ بـالـظـبـاءِ والـغـزلانِ..

نـبـنـي لـلـهـوى مـمـلـكـةً

يُـحـيـطُـهــا مـن جـهـةِ الـصّـبـاحِ سـاعـداكِ..

أمّـا جـهـةِ الـلـيـلِ فـسـاعـدايْ

*

مـمـمـلـكـةً نَـشِــيـدُهـا الـهـديـلُ ..

والـشـرطـةُ فـيـهـا تـحـمـلُ الـورودَ لا الـرّصاصَ..

والـرَّايـةُ يـاحـبـيـبـتـي: ربـابـةٌ

ونـايْ

*

تُـطـبِـقُ أجـفـانَـهـمـا عـلـيـكِ كـلَّ لـيـلـةٍ

عـيـنـايْ

*

أفـتـحُ أجـفـانـي عـلـى هُـدهُـدِكِ الـبـشـيـرِ بـالـهـدى وبـالـغـفـرانِ..

أتـلـو سُــوَرَ الـتـوبـةِ والإسـراءِ والـحـجِّ

فـيـغـدو ألـقًـا دُجـايْ

*

أطـوفُ حـولَ بـدرِكِ الـتـمـامِ ســـبـعـًـا ..

وأُصَـلِّـيْ رُكـعَـتَـيْ شــكـرٍ

عـلـى سـجّـادةٍ مـن شَـعـرِكِ الـحـريـرِ ..

أتـلـو مـا تُـيَـسِّـريـن مـن هـديـلِـكِ الـشـجـيِّ لـيْ ..

فـمـا الـذي أرجـوهُ مـن لـذائـذِ الـدنـيـا؟

ومـا عـسـايْ؟

*

تـقـطـفُ مـا تـشـاءُ مـن تـيـنٍ وزيـتـونٍ ورمّـانٍ

فـتـمـلآنِ سَــلَّـةَ الـمـنـى

يَـدايْ

*

أقـودُ:

أنـهـاري الـى حُـقـولِـكِ الـضـوئـيَّـةِ الأشـجـارِ..

والـنـجـمَ الـى بـدرِكِ..

والـدَّلـوَ الـى بـئـرِكِ..

والـشـوقَ الـى خِـدرِكِ..

والأمـسَ الـى يـومِـكِ يـا:

أنـايْ

*

لـسـتُ "سُــلـيـمـانَ"

فـكـيـفَ جـاءنـي بـعـرشِـكِ الـعـشـقُ؟

ولا "مـوسـى"

فـكـيـفَ ابـتـلـعَـتْ كـلَّ ثـعـابـيـنِ الـضـلالِ والأسـى

عَـصـايْ؟

***

يحيى السماوي

السماوة فجر الأربعاء 10/4/2024

..................

(1) القِرى ـ بكسر القاف: الطعام الذي يُقدم تكريما للضيف.

(2) إشارة الى قوله تعالى في سورة الغاشية: (لا يُسمن ولا يغني من جوع)

(3) الطلع: الثمر في وعائه كما في قوله تعالى: (والنخلَ باسقاتٍ لها طلعٌ نضيدٌ). والجُمّار / بضم الجيم وتضعيف الميم، جمع، واحدته جُمّارة: هو  قلب النخلة ويقع في قمّتها، له رائحة ذكية وطعم لذيذ.

(4) أنكيدو: من الشخصيات المحورية في ملحمة كلكامش، كان شبه وحش، يعيش مع الحيوانات في الغابة، ولكن الحبّ قد جعل منه إنسانا سويّا.. و إينانا: هي إلهة الحب والجمال والجنس والخصوبة والحرب والعدالة في ملحمة كلكامش.

في المثقف اليوم