توطئة: أن يجترح الشعر، في غمرة انحرافاته المتمركزة أساسا في الروح العاطفية، والميولات الرومانسية، ويشقّ له توجها يتأسس في الأصل، على رؤى أكثر تحرّرا وانقلابا على واقع اضطهاد الشعوب، فهذا ليس من قبيل الصدفة، بقدر ما هو ثقافة تتماهى مع الحداثوي وتنغمس في حيثياته ومضامينه.
مثلما تعكس استشكالا بحجم تحوّل المنظومة المفاهيمية، لدى جيل تبدّل بالكامل.
وهي منظومة مرتبطة بالهوية وأولويات وجودية وحضارية أخرى.
من هنا، نجد ثورات ما يسمّى ب” الربيع العربي” وقد خصّبت إلى حدّ بعيد مثل هذه البؤر الانقلابية في مجالات عدّة، أبرزها التوجه الثقافي، ما أدّى إلى اصطباغ المشهد الإبداعي بتيارات تتبنّى البعد الثوري، وإن اختلفت وتنوّعت قوالبها،وتعدّدت تمظهراتها، لكن يبقى المضمون واحدا موحّدا: الانتصاف للكرامة العربية.
من منطلق سياسي، لم يك أحد يتوقع أن يحدث هذا، بعد التطبيع الكبير الذي عرفه تاريخ العلاقة ما بين الشعوب العربية وحكّامها.
لا أحد يستطيع إنكار التضحية التي قام بها، البوعزيزي، حتّى ولو سلّمنا أنه أراد ردّ الاعتبار لنفسه فقط، وربما قد يكون غائبا أو مغيبا عنه الحسّ الثوري، قبل وأثناء وضع حدّ لحياته، بتلك الطريقة الجنائزية التي هزّت العالم العربي، بدرجة أولى، وولّدت تعاطفا كبيرا، ونفخت في غيرة المواطن المسحوق المغلوب على أمره، ودفعت به إلى الانتفاض ضد الآلة القمعية، وشتى أشكال الاستعباد والاضطهاد والغطرسة المخزنية.
مثل البوعزيزي الشرارة الأولى، لنزيف جماهيري خانه النضج بما يكفي، لسدّ الطريق على المتاجرين وسماسرة السياسة الذي ركبوا في الأخير على ما يمكن أن نسميه ـــ تجاوزا ــ مكاسب الثورة.
أو هذه الثورات التي اندلعت في بعض الدول العربية، تونس البدء، وتمّ احتواؤها بشكل ذكي في باقي البلدان.
الموازي لذلك، هو مثل هذه التيارات الإبداعية، والتي يعنينا منها، الشعر، قبل أي شيء آخر، وله تشعّبات في ذلك، بالطبع، ما لفت انتباهي على نحو خاص، منها، هو ما أطلق عليه ” الميليشيا الثقافية ” في العراق.
العديد من الأقلام كتبت عن هذه الثورات، ولكن قلة فقط من المبدعين الذين استطاعوا فهم تلك الحقبة فهما صحيحا، واستوعبوا تداعياتها استيعابا سليما متحرّرا من هيمنة وسلطة الإيديولوجي.
ومما لاشك فيه أن الشعر الذي ركّز على جوانب رسالية نابضة بالهمّ الإنساني وانشغالاته، وأنصتت متونه إلى الأسئلة الهوياتية والوجودية، في عمقها، هو الشعر الذي يمكن القول أنه اختزل تلك المرحلة وما عقبها من تحديات، كي يعطى، أو بالأحرى، يرسم أفقا لتيار جديد يشاكس بالهاجس الإنساني، ويُشرع عوالم خفية الكائن العربي المطعون في كرامته، على المصراعين، ويعرّيها جملة وتفصيلا.
من هؤلاء، الشاعر التونسي المبدع، ونحن نطالع له ديوانه الموسوم ” سفر البوعزيزي” الذي يوقّع تجربة جديدة ومغايرة متمحورة على الابتكار في اللغة والصورة والرؤية.
إنها تيمة الحلم كنافذة لخلاص الكائن والعالم، تتوسل مثل هذا الخطاب المتشبّع بروح الثورة، محتلّة منزلة المابين، فلا هي بالفلسفية المحضة، ولا هي بالخارطة أو الجغرافية الإبداعية المرتكنة إلى إيقاعات الصوفي، ولكنها في المقابل برزخية تؤاخي ما بين الحلمية والواقعية، مراهنة على عمق المتون وطفوها على معمارية بسيطة وسلسة، تُترجمها تقنية السهل الممتنع.
إن هذه المجموعة التي بين أيدينا، قيد الدرس، تقدّم أفقا شعريا متساميا على مفهوم القضية، بل وفاضحا في الكثير من المحطات، زيف ما انطوت عليه شعريات القضية من تعتيمات وتضليل.
سخّرت لهذا التيار الشعري المفاخر برائد الثورات العربية، ذلكم الشاب التونسي الذي قدمّ نفسه قربانا لاعتبارات سالف ذكرها، وبدوافع في صلبها الإنساني الحارق، العديد من الآليات الخطابية الحجاجية القائمة على وعي متوهج بالواقع.
وقد استخدمت لهذا الغرض جملة من الدوال سوف نجردها تباعا في هذه الورقة التي نحاول من خلالها تقريب المتلقي من ملامح موجة إبداعية استثنائية استطاعت تعرية عالم السلبية والنقصان.
مفهوم الانتماء
في بناء عوالم مثل هذا التيار الشعري الذي تمخض عن هزائم نفسية قبل أن تكون مادية، وشكّل صدمة ثانية لجيل البوعزيزي وما بعده، حينما أتت خيانة الثورة وغدرها، على هذا المقاس وبهذا الاستسهال وعد النضج، الذي مكّن لتجار الإيديولوجي والساسة السماسرة، وخوّل لهم ما يعتقدونه انتصارا لجيل طعن في حريته وكرامته وحياتيه، وسائر ما هو تحت سقف الكمالية الحضارية والوجودية التي يحظى بها غير العربي في بقاع وربوع أخرى.
لأنه في الأصل خسّة ولصوصية كرّست لضرب مخزني جديد، أرخى بأبجديات خادعة بأشكالها فقط، فيما الروح باقية وضاجة بنبرة قشيبها ومتقادمها.
هوان وذل وخنوع وتبعية عربية، بلبوس جديد، راح العربي المسحوق يدفع ضرائبها أكثر فأكثر، بحيث يضرب في هويته وكرامته وحريته وثقافته ووجوده.
نقف عند حدود تفجير أسئلة الجذر، في الكثير من نصوص الديوان، على سبيل المثال لا الحصر، قصيدة ” تذكرت البداية ” التي يقول فيها:
أمد الكون في ألفي ويائي
وأبسطه وأحقنه دمائي
وأشربه بلا مزج
قراحا
شراب الضوء يشرب دون ماء
وأدعو أن يصار إلى قصيدي
فيشرب
أو يعلّق في البهاء
أدير الكأس لا أدري لماذا ؟{1}.
ونص ” البيت “، نقرأ بعضا من طقوسه الهامسة، إذ يقول نصر:
إلا الكلام.ستأتي النجوم إلى هذه الدار.سوف يعرّش نبت الصباحات فوق الصحيفة أو فوق لوح المرافع.سوف تهز الغيوم برانيسها كي تبلل جير البيوت وجلّيزها. والعصافير سوف تعد منازلها في خصاص السقوف.ونهر القصيدة سوف يعود بأمطاره وأسراره، ويعود الحمام. ” أنا هكذا “لت للأصدقاء{2}.
إنه بيت الخلود المهدى إلى الشاعر محمد النجار، وطبعا، فروح شاعر مبدع كنصر سامي،لا يمكن أن تختزل من أسرار الصداقات والعلاقات، سوى ما هو موغل في الإنساني، وأكثر من ذلك مذبوح في الهوية والانتماء.
أن تستحضر شاعرا في نصوصك وتحتفي به، على هذا النحو من المشاكسات المتاخمة لجرح في العروبة لم يزل ينز، ذلكم هو التمكن واليقظة والاستبصار الراسم لقول شعري تعرف من خلاله وعبره الذات متاهات وتعالقات الإيديولوجي والاجتماعي، في كثير من نقاط التقاطع والتوازي، حدّا يدمي كرامة العربي ويذكره ببيته المغتصب، وفوق ذلك حلمه المسروق وثورته المجهضة.
قس على ذلك العديد من النصوص التي تستنطق الهوياتي، وتحاصر بأسئلة المنبت أو الجذر، مثل نص ” لي سماء في السماء “، إلخ…
ذاكرة المكان
تبدو سلطة المكان في نصوص نصر جلية، وواضحة المعالم، متلوّنة المتون، كونها جزء لا يتجزأ من تصور عام والج في روح الانتماء والانشغال بدوائرها.
من تمّ، هذه التجليات لذاكرة الأمكنة في شعريات الثورة وما بعدها، لما لها من قدسية ورمزية، أي هذه الأماكن، ووظائف ضمنية تغذي الطرح الثوري الانقلابي في الواقع والنص وشتّى المناحي الاجتماعية والحياتية والثقافية.
ولأن الطفولة البعيدة، أيضا ذاكرة، على نحو راسم لتشاكل واسترسال في توليفة نستشف عبر الديوان كيف أنتجها هذا المزج ما بين حلمية الواقعي وواقعية الأسطوري، تأسيسا على إقحامات واستحضارات صارخة بالرموز على نطاق أوسع، وفي مضمار تاريخانية محتفية بالانساني، ومنسبة للمشترك، كما أنها مدغدغة بتقنيات تمرير الموروث بما هو ماضوية واستغراق في الذاكرة، قابل لإنتاج جديد وصياغات مغايرة، تتيح التملص من سلطة الغابر وسطوة الذاكراتي.
هناك نصوص كثيرة تعكس هذه التوجهات، نذكر منها الآتي، قصيدة ” فوضى على باب القيامة ” باعتبارها فسيفساء كلامية شفّت كثيرا عن حقول الطفولة والذاكرة وقدسية المكان، بما يشد إلى تلوينات التوأمة ما بين الطفولي والمكان على تعدداته وتناسلاته الذاكراتية، نقتطف للشاعر هذه الأبيات:
أودع في الشموس البيض عمري
وأجمعه نجوما أو رذاذا
وأفتح فكرتي وطنا
وأعطي لهذي أضلعي
ودمي لهذا
ولا أدري أتفهمني حروفي بحق
أم تبادلني لذاذتها غصبا
لتدفع في دمائي هجيرا لا يطاق ولا يحاذي
أفكّر في غدي
وأنا عليم بأن الشعر منذور لهذا
فهذي الشمس تطلع
حين ترمي حروفي في دم الأكوان{3}.
ملفت هذا الكرم الشعري الذي يفتح أوراق كثير ممن أثروا بتجاربهم الإبداعية المناهضة للسلبية والنقصان والديكتاتوريات الأيديولوجية والمدبجة بحس نضالي ومقاومة شرسة، إبداعيا، لجميع مظاهر الاحتلال والاستعمار.
أشعار تُهدى إلى اسم وارف تسلّح بشعر القضية وأبدع فيه قبل أن يُسربله بفوقية للمشترك الإنساني، بما هو آيات خالدة لن ولم تنسى، أو تعتريها عوامل التعرية والتجاوزات.
شاعر القضية الفلسطينية الأول، محمود درويش
وهنا تصهل المسافة ما بين إبداع القضية وإبداع الثورة، كما أراد لها نصر، معتمدا إيقاعات للفوضوية البانية، وكأنه يؤسس لمنطق منفلت مسعف في ترتيب أوراق الزمن العربي، من جديد، ومعاودة الحسابات، بعد كل هذه الخسائر والهزائم المتكررة.
إنها تجليات ثقافية جديدة تعصف بها ملامح شعريات انبثقت من رحم الثورة المخذولة، تماما مثلما أسلفنا.
فيما نص ” معلّقة القصبة ” والمُهدى إلى نزهاء المسؤولية السياسية الذي حافظوا على أياديهم نظيفة، دون أن يسيل لعابهم إلى البريق السلطوي المستنسخ لروح مخزنية جديدة، ولم يقع في فخّ المكاسب الناهضة على موت الضمير واختناق صوت العقل.
يقول نصر:
صنع التّاريخ
لم يقبل عطايا
حين هزّ العرش واجتثّ الزوايا
ذاك شعبي الحر
ذاك التونسيّ
من أضافت آيه إلى المجد آية
من تأذّى حين كان الليل أعمى
من رأى ضوءا فغالته المنايا
صنع التّاريخ حقّا،
لا مجازا
وأشاع الشمس في ليل البرايا
كل نجم فيه من أضوائنا.
عرق يضخّ الدّم في كل الثنايا
نحن آمال الشعوب الآن
فينا يبصرون المجد
بل نحن المرايا[4].
إضافة إلى نصوص أخرى تخط ذات المسار، وتجذب إلى سماوات السفر في الجوانب الأكثر إشراقا من ثورة انطلقت بريئة ولكن سرعان ما أفسدتها وزايدت عليها وساومت في بعض مكاسبها، التكالبات والأنانيات السياسية، نصوص من قبيل ” قبر من رماد “، ” قبضة عشب من أجل ياسمين “،”شرفة في القاع “.
إذ الجميل في المجموعة، أنها سفر في الإنساني، يزدان بسيرة بطل حقيقي أجبره جور الوطن، وشعور المغترب في بيته، على تفجير ثورة الكرامة والحرية والخبز، فكانت التضحية التي أدخلته عالم الرمزية والخلود، حدّا تكشّفت له آفاق الإبداع الشعري العاقّ بمعنى ما من المعاني المفتية بها ضرورات تاريخية معينة، يواكبه نزيف الانتقال من صور إبداع القضية خاصة بعدما اكتشفت بعض أقنعتها، واتّهمت من قبل كثيرين، كونها أوقعت كذلك، في براثن التكالب على نزر المكاسب وقمع النبض الثوري في أولى تباشيره، سارقة بذلك حلم جيل كامل، ما أن صدق مرحلة جديدة وواعدة ومنصفة، تحترم حريته وعدالته وكرامته، وتعتبر هويته وترا حساسا وخطا أحمر لا يقبل المزايدات الرخيصة.
يقول أيضا:
… أحدّثها،
اسقّي الليل في أهدابها
مطرا، وأرميها سماوات
على هذي الجحيمات الطويلة.
أما بويب،
فشرفته في القاع يعرفها دمي
في القاع، أي في القاع،
حيث أسكن يا جميلة.
حيث تولد فكرتي بيضاء
لكن السكاكين الصقيلة
تمرّ من خلل السواد
وتستبيح الضوء
أبصر فجأة عدما يطلّ،أرى رحيلا
يسلّمني إلى رحيل.
وموتا إلى موت.
عدا عينيك، إنهما يسافران
ويفتحان بأحرفي وطنا بديلا{5}.
وإذن… في معنى وصور الوطن البديل أو الموازي، الذي تبنيه الثورة الإبداعية اللائقة بتضحيات رمز اسمه البوعزيزي، كشخصية تاريخية، شهيد أولى الثورات العربية.
وما إسقاط أو إحالة المشهد إلى حضور رمزي لأبرز أقلام النيوكلاسيكية الشعرية العربية، بدر شاكر السياب إلاّ قيمة أخرى تمت إضافتها بعناية ودقة وحرص، إلى ما من شأنه أن يذكي قداسة البوعزيزي، ويزرع روحا صافية، أو يضخ دماء جديدة في الشعرية العربية الحديثة، وهذا ما قدّمته وتحاول أن تقدّمه هذه الموجة الجديدة الوافدة بأحاسيس للتجديف في الواقعي بوصفه مرايا للأسطوري، والعكس بالعكس تماما، راسمة بثقة وتمذهبات بعد حداثية، مناخات للتشكيك في القضية والثورة، ما دامتا أخضعتا واحتواهما الإيديولوجي الغارق في أقنعته وزيفه، كي تظل في الأخير سيرة استشهاد البوعزيزي، منعطفا تاريخيا خطف العبور في أفلاكه، فجرا ثوريا،سرعان ما انطفأ، لتخلد رمزيته وضمنيته وإشراقات حمولته التي تتلاقح ضمن عوالمها تعاليم العروبة ووصايا هوية الكائن الراعية للمشترك الإنساني، قبل أي شيء آخر.
بذلك يكون ” سفر البوعزيزي ” فجر ثورة، خذلتها الإيديولوجيات المزيفة، وأقبرتها الأنانيات السياسية ونفعيات الماسونية الرخيصة.
ويقول كذلك:
وطني كعادته يريد ولا يريد ويستزيد من الصلاة كي يعيد حياته.بالرفض أحيانا وبالتّحنان يملأ كوبه ذاك المقدّس بالدموع لوحده حتى يرضّع ياسمينا في حديقة بيته ويمدّ نهرا في العروق لكي يهيّئ للعروق فراشا. ويقول للنقط الصغيرة فوق حرف الشّين صيري غيمة ثم املئي بيت الشعوب بما تحب وما تريد.قطّريني فوقها لأكون عطرا.ذوّبيني في الفضاء لكي ألامس صدرها. كوّني منّي الندى ثم انثريني حولها{6}.
من هنا إعجاز الحرف الذي تنبري له أوطانا موازية مشتهاة، وليست في سوى أخيلة الشعراء، وفق شاكلة محرّضة على الفعل الإبداعي المتلاعب بالأزمنة، بحيث يرتب الذاكرة ويستغرق في تأملات الآني ويستشرف الغد.
عوالم الأسطورة والرموز والموروث
يحوي الديوان متوالية من القصائد التي تهيمن على معماريتها استعمالات الغرائبي، ودائما على نحو يخدم الغرض العام الذي تمّت كتابة المجموعة لأجله، فتح صفحات بطل عربي كبير، يمثل استشهاده انقلابا في التاريخ العربي المرير وما انطوى عليه من تقاطعات للسياسي والمجتمعي والديني، هذا السفر البرزخي الذي تقترحه المجموعة ضمن عوالم منذورة لجملة من الآليات والإمكانات الإبداعية، صانعة لتحول كبير ومهم على مستويات متعددة في القول الشعري أو البوح المتمرد الذي يقدّس الثورة كما رمى بذرتها إنسان استثنائي يدعى البوعزيزي.
ممّا أثرى إيقاعات الفعل الشعري، وصبغها بمتون عميقة تذود عن السيرة الإنسانية، وفق حدود المنطق الثوري المشروع.
بحيث يبرز الانشداد إلى لبنة جوهرية، أفصحت عن منبت الثورة، وعبّرت عن حيثياته بوضوح، وفصلت فيه، بلغة تصويرية واعية وواثقة تطور المعنى وتسخّره للمفردة، وليس العكس.
وهنا تظهر قدرة الشاعر وتمكّنه من أدواته، كما عمق وعيه بالأزمة، ما سهل عليه تفجير أسئلة الهوية والتقاطعات الإيديولوجية والاجتماعية والعقدية، في بعدين: نفسي وعقلي.
يزدهر مثل هذا التوجه في تراكمية تذكيها إغراءات هذا السفر، سفر البوعزيزي، متزملا بوجه آخر، وجه السيرة النابضة بالضمير الجمعي.
هذا السفر والذي هو بمثابة دينامو للسّيري مثلما يشدو به الهمّ الجماهيري، محققا وحدة وتجاورا في المشترك.
وهكذا انبثقت ثورة الحرية والكرامة والخبز، بفضل شاب يتحوّل إلى رمز وذاكرة حية، يعود إليها الشعر كل حين، وتؤوب إليها القصائد منفّسة عن الجرح العربي العميق، مصرّحة بأن الإيديولوجي هو المتهم، كي يبقى، بالتالي، البوعزيزي، أو بالأحرى تخلد رمزيته، فوق هذا الجرح وفوق هذه الثورة المخذولة وفوق الحلم العربي المسروق.
المهم أن وصايا نصر من خلال سفر البوعزيزي، تظل واضحة وصريحة، ومنبّهة إلى أخطاء التاريخ العربي وثغراته، ومدافعة عن حلم عربي آخر مشروع، بعيد عن المزايدات والمكاسب التي قد يصنعها التحالف السياسي والعقدي والمجتمعي.
ثمة الكثير من النصوص المفضية إلى دهاليز الأسطوري، والمدغدغة بأسراره وإسقاطاته على راهن عربي مقنّع خان ثورة الأحرار وقطف مكاسبها.
نذكر قصيدة ” سيعود يوما طائر الفينيق”، مطالعين قدرة الشعر على استنطاق الذاكرتي المثقل بأوهام الزعامة وأنانيات السلطوي، بما يفيد التاريخ الإنساني المكرور والمنتج لمختلف أشكال الاستعباد والقمع والاضطهاد، كي يظل الحلم هو الخيار أو البوابة الوحيدة لمؤانسات الاغتراب الروحي، وتضميد السيكولوجية المنهزمة أمام غطرسة الحكام وساديتهم.
يقول الشاعر التونسي نصر سامي:
لكنني أرتدّ أحمل عزلتي وقصيدتي. هو هكذا. صحراؤه خضراء والموت طير قادم من أجلها. ” ليكن صباحك رائعا يا خوف”. ولتكن أنهار حزنك جنة، لأبيع وهما للصغار وللفراش وأعدّ نهرا للغزال وللغزالة كي يناما في هدوء وأهيئ الكلمات كي تستقبل الآتي وتلقي فوقه في الليل بردتها. هو هكذا. في أرضه شجر النهايات القديمة يطرح الآن الحروف ويملأ الدنيا بماء الليل. وفي السماء، سماء وحدته التي أسرى بها الوهم القديم إلى قصيدته، رأيت باب النجم مفتوحا ورأيت أشرعة تهزّ الغيم ورأيت مدينة تنسلّ من أضلاعه وتمدّ في ليل الكلام ضياءها.’ لم يستطع أحد هنا نسيانه{7}.
إنّه النسيان المستحيل، أي الذاكرة الحية الرافلة بحضور الكائن في رمزيته، ودوما يتمّ تشبيه الشعر بالضوء الذي يسري في عالم السلبية والنقصان، كي يضيء جوانب العتمة، ويجود بالسّحر أو الجمال والمعرفة المتوقف عليهما خلاص الكائن والكون.
في ذلك انتقال من حالة الانشغال بالهم الشخصي العفوي وغير المقصود، إلى حالات الشّعبوية المستقطرة من هواجس الإنساني والمعتصرة روحها من فراديس انتساب شمولي إلى شجرة الإنسانية الخالدة.
حقا وصدقا، مثل البوعزيزي، لا ينسى وستظل تضحيته منقوشة في الذاكرة والوعي العربي،ما استفرد وشذّ وغرّد على هواه حاكم من الزعماء العرب، الذين طالما خنقوا شعوبهم بسوط المخزنية المقيتة.
لدينا حلم، على حدّ تعبير الشاعر نصر سامي، وسقف هذا الحلم هو وهم الكتابة ومقامرات السفر في متاهاتها، لحين بزوغ فجر جديد، ينتظره البوعزيزي مختزلة فيه، وهو فارس برزخيته، أحلام الشعوب العربية المقموعة، فجرا ينصف التضحية الجسيمة لذاك الفتى العربي المرعب برمزيته.
وهناك نصوص تعتمد إقحامات رمزية، وتنخرط في عوالمها، حدّ السحر وأسر الذائقة والعقل على حدّ سواء، نطالع للشاعر بعض الطقوس منها في قصائد قوية قوة رمز هذه المأدبة الشعرية، وهو يرقد هنا/ هنالك في عزّ برزخي هو مفخرة لكل عربي ممسوس في هويته وحريته وكرامته، يقول:
بردى معي. لا أفهم الآن الممات ولا أرى إلا الحياة تمرّ في جسدي وتفتح في الردى بيتا وفي بلدي. من أين يأتيك الردى وأنت يا بردى من صنعت المجد للأحياء وأنت أنت الضوء في هذا المدى المزروع بالألغام وأنت أنت الريح تزرع صوتنا شجرا وتمنح للندى في حلمنا الرواح والجسد.
وآه يا بردى. لا ماء في الأرجاء غير الدمع يا بردى. والحزن نفس الحزن يكبر في أغانينا وفي دمنا. يحتلّ كل الأبيض الممتدّ فينا{8}.
إنما يستمدّ الكائن براءته من هذا البياض الممتد والذي هو في الأصل شعر، يبارك كل الثورات عبر التاريخ الإنساني، على استرسال صفحاته وانسدال فصوله، كي يدين الجور والقمع ونعرات الشيطنة، وكلّ عقوق يقود إلى خراب العالم وتدمير نفسية الكائن واغتيال أحلامه.
سفر جلجامش وضع نهايته كشف السّر، إكسير الحياة، ليكون خلود هذا الرمز في الذاكرة الإنسانية ساطعا وقويا، ولكن ليس بسطوع وقوة الكائن العربي الذي تراكمت عليه الخيبات والهزائم والانكسارات التي لا يمكن تحمّلها أو استساغة سيناريوهات تخيّلها حتى.
لذلك كانت المعادلة هنا دامغة بعناوينها ومضامينها، وأيضا بعمقها الإنساني ومتجذّرة في هويتها العربية، وهذا هو سر البياض الممتد والقابل للعديد من التأويلات، إنه واقع ينشد مثاليته ولا يتأتى بغير النبش في سيرة البوعزيزي ومساءلة سفره السرمدي.
ذلك حين تغوص شعرية تيار إبداعي جديد في حقول تجاذبات ضدّية، كي ترعى وبشراسة الخطاب الإنساني في الروح العربية الأبية، واستقصاءات فانتازية موغلة في المفارقات، بما يضع شعر الثورة على تنوع تجلياته، فوق القداسة والحياة، ويظهره على انه موتا بمعنى الحياة، وغيابا بمعنى الحضور، وفوضوية بمعنى الترتيب وهدما بمعنى البناء.
يحاكي الخبز في ثقافة الشعوب العربية المقموعة، عشبة الخلود هناك، في عوالم جلجامش، لدى نجد أن ما منح طابع الرمزية المتفوقة فيما يتعلّق بالحالة ” البوعزيزية” نسبة إلى عريس الثورة العربية، البوعزيزي، إذا شئنا، هو صرخة من هذا النوع، وهي صرخة تحرج أساسيات أو ضرورات الحياة، بينما هناك، لدى جلجامش، وما تتوقف عليه ملحمته من تمثلات، تمت مسرحتها على مستوى كمالي صرف، وهنا يكمن عمق الحالة الإنسانية الأولى ما اقتضى هذا الإسقاط الثانوي الذي مثل في الحقيقة شرف إضافة.
إنها موسوعية عالم البوعزيزي وهو يطفو على ما عداه من مثاليات، وقد أفلح الشاعر نصر سامي، في ترجمة هذا الإحساس وتمرير الحمولة الجمالية والمعرفية والتراثية الدالة عليه.
فضلا عن نصوص الاعتناء بالموروث، هنا، وكيف أنها لم تستنسخ الذات الشاعرة، بقدر ما طبعتها بولادات ثانية، مزهوة بإيقاعات الاستحداث والخلق والابتكار في المعجم والصور.
نأخذ مثلا نص ” في ظل مرثية أبي لؤي الهذلي ” وما تثرثر به من انزياحات للجنائزية والمأساوية المتبّلة للمشهد البوعزيزي، الواخز بتفاصيل الإنساني والراشق بنثار تجليات حالاته.
نطالع له كذلك البعض من طقوس الاتكاء على الموروث والنهل من خزائنه في سياق عربي محض تتقاذفه التأثيرات الخارجية وتنغّص على أجوائه لوثة الموالاة ومعرّة التبعية.
يقول:
قالت: ” نعم، لي في الجوار مراجع. سأمر يوم الأربعاء. أحب أن ألقاك”. وسألت في سرّي: لماذا الأربعاء؟ من أجل إيقاع القصيدة ربما ؟ من أجل ثلج لم يزل معلقا في روح هذا العالم المدفون في الظلماء؟ أم من أجل محو لم يزل معلقا في مرثيات الموت يدفعه الهواء؟
يمرّ الوقت موتورا معنّى. أسمع الموتى يفرّغون ويملؤون. وأرى الدواب تئن تحت السّوط بكماء لا تدري. وأسمع في نداء الباعة المتجولين البؤس والمرض المحاط بفضة بيضاء هي الستر والخوف من غليان هذا الوقت والقبول بما تبقّى من فتات موائد الغليان. لا أريد من الرياح قصيدة. مثلي يسافر في الريح قصيدة مغموسة في العطر ينسجها الضياء. والضوء أسود لا يزال، والنجم أسود، وكل شجيرة في غاب ذاكرتي هنا سوداء. حتى السماء فإن السم مازجها حتى تسمّم في أعماقها الماء{9}.
وهذا بيت القصيد، نصر سامي من خلال حضور البوعزيزي وانثيال رمزيته لسائر مشاهد الجنائزية والمرثاة في راهن عربي دموي مضطرب ومهزوز، محض ارتقاء بالكائن إلى مستوى القصيدة الكونية المترنّمة بالمشترك الإنساني.
الشعر هو النور الذي يسري في عروق عالم مطفأ، فينير التوجه الآدمي المتعثّر، والمحاصر بإملاءات البهيمية والشيطنة، مقابل تنويم مشاتل النوراني والجمال في النفس البشرية الضعيفة أصلا، مع أنها توّاقة في الغالب، إلى الكمال، منجذبة إلى سماواته.
إنها كتابة البياض التي تكرّم البوعزيزي، وتكتب غيابه حضورا مشرقا متوهجا. وتلعن المزايدات السياسة التي أفسدت كل شيء، وجنت على تضحية البوعزيزي التاريخية.
شعرية المقدس
إن التناص مع المقدس، يمنح لأنساق هذه المجموعة إشعاعا وأفقا لجمال استغراق القاموس الديني، بما يصون روح الابتكار في اللغة والتجديد فيها، حظوظا تجعل الرسالة المفخخة بالحس الثوري، أجمل وأقوى.
يتمّ استثمار المعطى الديني، على نحو يباغت البياضات في محطات عديدة، فتحصل الخيانة التي تسمو بكتابة الغياب، إلى مستوى الرمزية التي تنسج طقوسيات جرد سيرة البوعزيزي، وتمجيد السفر في عوالمه إلى الآخر.
تلك كتابة الغياب بمعنى الحضور، لا نمتلك سوى تفعيل تفاصيلها والمناورة بفصولها، بغية مغازلة واقع الخيبة والعدم الذي خلّف فشل الثورات العربية، بعد أن راهن على شرارتها الأولى، كل عربي مطعون في كرامته وهويته.
مثلا، في قصيدة ” المدثر ” نلمس إحالات الطهارة الروحية، والتي تفيد من نواحي أخرى تيمة النبوءة، وهنا ترخي بثقلها دوال مثل هذه المفردة التي لها قواسمها المشتركة، بالطبع مع الشعر كأصل للفنون.
ينضاف إلى النبي والشاعر، الثوري كمخلّص للبشرية والعالم.
نقتطف من هذه القصيدة الجميلة، الاقتباسات التالية:
أتذكّر روحي وهي تحدّق في آيات الرحمن قرب شجيرات الزيتون تقوم بفرش مصلّى. أهمّ بتقبيل الأرض تحت الساقين العاريتين الرائعتين الحاملتين لإحدى أجمل أسطورات الأرض: أمي، تلك المخلوقة من أنوار، تلك المشغولة بالياقوت والأطيار. تلك الليل حين تمدّ يديها ألف نهار، تلك الجنات جميعا منها تغار، تلك اللغة الملأى بالأسرار. أتذكر قلبي وهو يطير إليها. حلم هذا حلم. أبكي وحدي في ظلماء الليل. جسدي حجر لكن روحي غيم، وأنا أتدفق في ساعات الشوق أمي الناي ناي الله وقد جسده في كلمات، أمي نور يتدفّق كالأنهار ويهدي كالآيات، أمي تاريخ حنان لم تعرفه لغات الأرض ولم تعرفه حياة، أترقرق أنوارا أتشظى تخرج من شفتيّ زهور الليل. وأرى حولي كتبي، متناثرة كقبور تنتظر الحفّار، وأصرخ: ” لو هذه الأرض تفاحة في فمي، لقضمت قضمت قضمت إلى أن تسيل الدماء وينهل عارض برق “. أنا هكذا، لغتي وطني{10}.
في ارتباط هذا السفر بمنظومة مفاهيمية من القداسة والسمو بمكان، الانتماء، الأم، الأرض، اللغة، وهلم جرا، تكون هذه الشعرية قد اختطت مسارا استثنائيا، يسجل حضور ا محايثا للكينونة المتمردة والثائرة، ويعطي انطباعا بجدوى الشعر في هذا الدومين الزاخر بأسلوبية إبداع الغياب الذي يعنيه الحضور الرمزي، وتلوّن تجاويفه ملامح الأنا المتسربلة بالضمير الجمعي والهامسة بصوت ” النحن”.
إن مجارات المقدس في نظير هذه الشعرية، التي استطاعت من خلالها الذات الشاعرة، تأجيج الفعل التواصلي والارتقاء به إلى أعلى نقاط إشباع الذائقة وتغذية الذهن، على حدّ سواء، تبعا لفصول رسم أحاسيس لاختزال هذا الجرح التاريخي المقيم في الذات، خارج النص والمعنى الذي يبحث عنه هذا العربي المطعون في حريته وكرامته وأبسط حقوقه.
لهي مجارات واعية وواثقة وراصدة للأزمة في عمقها وتشعّباتها وخطورتها، ذلك حين تغتصب خياناتنا البياض، حتّى ليغدو الإبداع مرادفا للوهم الذي نراوغ به وجوديتنا، ونحن نقاوم الجور الإيديولوجي، ملزمون باتخاذ الحيطة والحذر في عبورنا الآثم.
من خلال القصيدة، نتهم ذواتنا، وفي المجمل نحمّل التاريخ أخطاءنا، ولكن يأتي الشعر الحقيقي، يجيء من ينابيع الحس الثوري، وأدغال الأصوات المتمردة التي لا تهادن، محاولا التصحيح والتقويم.
خلاصة
في اعتقادي، الشعر الذي لا يختزل مرحلته ويحتويها بالتمام، لا يمكن التعويل عليه، ولعل ما كتبه هذا التيار الجديد احتفاء برواد الثورة، خير دليل على ما ذهبت إليه.
في أفق تخليق الشعري للإيديولوجي، والعكس بالعكس تماما، ولكن مع كامل التعرية والفضح.
بإمكاننا القول أن هناك ثلة حققت مصداقية وراكمت تجاربا في هذا، وما بصمه الشاعر التونسي نصر سامي المكتوي بواقع خذلان الثورة، كأي عربي حرّ قدره أن يصرخ ملء الثغر، في الظل، حالما ومستشرفا ومسلحا بنبوءاته.
وظف نصر جملة من الإمكانات، بحيث استطاع الانخراط في تيار شعري مثلت الثورية وقوده الأساس، فكان أن أمتع ضمن حدود هذا السفر الوارف بمثاليته وضمنيته ورمزيته الآسرة.
سفر البوعزيزي، كعلامة فارقة في المشهد الشعري العربي الحديث، كون الذات الشاعرة داخل مثل هذه السراديب، لم تغتر بغير خيانات البياض، وكتابة الغياب، ثأرا للإنساني في كائنية مجبولة على ثقافة التمرد، إنشادا للخلاص من قبضة التاريخ المخزني الطويل الضاغط بماسونية سدنته وساسته الحمقى.
***
أحمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي
...................
هامش:
(1) مقتطف من نص ” تذكرت البداية”، صفحة 19.
(2) مقتطف من نص ” البيت “، صفحة 26/27.
[3] مقتطف من نص “، فوضى على باب القيامة ” صفحة57.
[4]مقتطف من نص ” معلّقة القصبة “، صفحة 129/130.
[5]مقتطف من نص ” شرفة في القاع “، صفحة 221/222.
[6]مقتطف من نص ” يصير نجما خلف ثورته “، صفحة 125.
[7]مقتطف من نص ” سيعود يوما طائر الفينيق “، صفحة 80.
[8] مقتطف من نص ” جلجامش “، صفحة 113.
[9]مقتطف من نص ” في ظل مرثية أبي ذؤيب الهذلي “، صفحة 197.
[10]مقتطف من نص ” المدثر” صفحة 83/84.