قراءات نقدية

قراءات نقدية

تشريح اللاهوت السياسي وآليات الهيمنة الشمولية

البُعد السيميائي: الرموز والإحالات الثقافية للعنوان

يُعتبر العنوان عند النقاد العالميين المعاصرين "العتبة الأولى للتأويل" والمدخل الاستراتيجي الذي يُحدد مسار القراءة ويُوجه الأفق التفسيري للنص، حيث يرى جيرار جينيت أن عنوان المنجز الأدبي يشكل "عقداً ضمنياً" بين المؤلف والقارئ حول طبيعة التجربة الجمالية المُنتظرة، بينما يُؤكد رولان بارت أن العنوان يعمل كـ"رمز مُكثف" يحمل الشفرة الأيديولوجية والفلسفية للمنجز برمته.

عنوان "سباق الخُبز" شكل تركيباً إضافياً مكثفاً وحمل تناقضاً دلالياً جوهرياً كشف عن البنية الفكرية للنص وقدم فلسفة درندش للواقع المعيش. الكلمة الأولى "سباق" تنتمي للحقل الدلالي للحركة والتنافس والديناميكية والرياضة، بينما "الخُبز" ينتمي لحقل الحاجات الأساسية والسكون والضرورات الوجودية، مما خلق توتراً دلالياً بين المتحرك والثابت، بين الكماليات والضروريات.

البنية النحوية للمركب الإضافي تُظهر هيمنة المضاف إليه "الخُبز" على المضاف "سباق"، فالسباق يُعرّف بالخبز في اتجاه واحد، مما يكشف أن الحاجة الأساسية هي التي تُحدد طبيعة التنافس وشروطه. التعريف بـ"الـ" في "الخُبز" يُضفي عمومية وشمولية، إذ يتجاوز كونه خبزاً محدداً إلى الخبز كمفهوم وجودي مطلق.

الثنائية الضدية بين "السباق" كنشاط طوعي ممتع و"الخُبز" كضرورة إجبارية مؤلمة تكشف التناقض المأساوي: تحويل البقاء إلى لعبة، والحاجة إلى متعة، والضرورة إلى اختيار. بالنهاية جسد العنوان آلية الرأسمالية في تحويل الحاجات الإنسانية الأساسية إلى سلع تخضع لمنطق التنافس والمضاربة.

البنية الدرامية: تحليل مسار الأحداث وتطورها

يقول الناقد الألماني ثيودور أدورنو: "المسرح الحقيقي هو الذي يُحطم الوهم الجمالي ليكشف عن التناقضات الاجتماعية الخفية، ويجعل المتفرج يواجه حقيقته المؤلمة بدلاً من الهروب منها إلى عالم من الجمال المُصطنع". هذه الرؤية النقدية نجد تجسيدها الأمثل في النص المسرحي "سباق الخبز" للكاتب ماجد درندش، هذا النص الذي يُمثل عملاً فنياً أدبياً عميقاً يتجاوز الكتابة التقليدية، محولاً الفضاء المسرحي إلى نص فلسفي حي يستكشف تعقيدات الوعي الإنساني في سياق سياسي مُلغم بالمفاجآت، مُظهراً تشكل الهوية في ظل القهر حيث تتشابك الهزيمة الروحية مع التعقيدات الوجودية بأسلوب يستلهم التقنيات البريختية ويتجاوزها.

يفتتح درندش نصه المسرحي بصورة بصرية محملة بالرمزية العميقة: الرياح والصحراء، ثم طائرة تهبط، وثلاث شخصيات تنزل ببدلات أنيقة لكنهم حفاة الأقدام. هذا الافتتاح تأسيس لعالم رمزي يحمل جوهر الصراع، حيث كل عنصر يحمل شفرات نقدية متعددة، مُحققاً رؤية أدورنو في تحويل الفن إلى نقد اجتماعي يكشف التناقضات الخفية في البنية السلطوية.

الرياح والصحراء تستدعي المناخ العربي، وتتجاوز الجغرافيا لتصبح استعارة للخراب الحضاري والروحي وللتصحر الفكري كحالة وجودية تعبر عن الفراغ الثقافي، والرياح تحمل صدى التغيير المدمر، هذا التغيير الدائري المغلق. هذا المشهد الجيوسياسي يضعنا في قلب المأساة العربية، حيث الأرض جرداء مترعة بالثروات والمستقبل غامض والتغيير يأتي من الخارج عبر آلات الحرب.

صوت الطائرة عنصر محوري متعدد الدلالات كرمز للوعي الجمعي المأزوم. الطائرة قوة خارجية تأتي من السماء لِتُغير مجرى الأحداث، وفي السياق العراقي تجسد التدخل الأمريكي. هبوطها في الصحراء بدلاً من المطار يشير لطبيعة التدخل كغزو مباشر.

هنا يتجلى اللاهوت السياسي بمعناه الشمولي حيث يتحول الفضاء المسرحي لمختبر معرفي يفكك آليات إنتاج السلطة. الطائرة النازلة من السماء استعارة فلسفية تجسد تحويل السلطة إلى طقس مقدس يستمد وجوده من الادعاء بالارتباط بالمطلق العلوي.

نزول الشخصيات الثلاث ببدلات أنيقة وهم حفاة تَشَكَّلَ بدلالات عميقة. البدلات ترمز للحداثة والقوة الاقتصادية، بينما أقدامهم العارية تكشف الهشاشة والاغتراب عن الأرض. هذا التناقض يجسد الانفصال بين المظهر والجوهر، مُذكراً بالاغتراب البريختي ومتجاوزاً إياه ليصبح استعارة للانفصام السلطوي.

طاولة اللعب تظهر كعنصر مركزي غارق في الرمزية المحركة للوعي الراكد حاملاً أبعاداً أنثروبولوجية عميقة. القمار يتحول من لعبة ترفيهية إلى طقس مُقدس لتوزيع القوة والموارد يحاكي الآليات الكونية. هذا الطقس يكشف أن السلطة تعتمد على آليات سحرية لإضفاء الشرعية على قراراتها التعسفية.

في السياق العراقي العربي، طاولة القمار مركز السلطة العالمية، والشعب مجرد أطراف يُقامَر على مصيرها. الغزو الأمريكي لم يكن قراراً مدروساً وإنما مقامرة استراتيجية، فشل الرهان والثمن دفعته الشعوب فيما نجا المُقامرون.

على مستوى أعمق، تُجسد طاولة القمار ما أسماه جاك لاكان بـ"الوهم النرجسي" كل لاعب يعتقد أنه يستطيع "قراءة" اللعبة والتحكم بنتائجها، رغم أن القمار قائم على العشوائية. هذا الوهم ضرورة نفسية تُمكن اللاعب من تحمل القلق الوجودي الذي تثيره مواجهة العشوائية الكاملة.

لعبة "21" تحمل دلالة خاصة، الرقم يرمز للكمال المُفترض والرشد القانوني، رغم أنها لعبة تتطلب حساب المخاطر بدقة، مُشبهة باللعبة السياسية. هناك خط أحمر غير مرئي، تجاوزه يعني السقوط، وموقعه الدقيق يبقى مجهولاً للجميع.

الخادم يعتقد أن "الألم يُعلم" وأن قربه من الأرض كطبقة مسحوقة يجعله أكثر حكمة من الآخرين، لكنه يجهل أن المعاناة قد تُعمي بدلاً من أن تُنير.

المعتمد واهم أن "الوسطية" تعني الذكاء السياسي، لكن موقعه هذا يجعله أول ضحايا التغيير - عندما تنقلب المعادلة، الوسطيون أول من يسقط.

الواعظ الأخطر، يدّعي احتكار الحقيقة الإلهية، محولاً آراءه الشخصية لأوامر سماوية. وهمه الأكبر: أنه "وسيط الله" وليس مجرد إنسان يستغل الدين للسلطة.

الجميع "حفاة" لأنهم مجردون من الحقيقة رغم ادعاءاتهم المختلفة. هذا يُذكرنا بالمثل العراقي: "كلٌ يغني على ليلاه" كل واحد مقتنع بصحة وهمه، والواقع يسخر منهم جميعاً.

درندش يُظهر أن أخطر الأوهام هي التي تحمل بذور الحقيقة، المعاناة قد تُعلم فعلاً، والوسطية قد تكون حكيمة، والدين قد يحمل هداية، لكن تحويل هذه الإمكانيات لحقائق مطلقة هو الوهم المُدمر.

المونولوج الوجودي للواعظ يستدعي في وعينا وذاكرتنا جدلية السيد والعبد عند هيغل. عبارة "أنا تعبت كوني مطاع، أريد أن أتحرر" تجسد المفارقة الهيغلية، السيد يكتشف أن سيادته قيد، وأن طاعة الآخرين له أصبحت سجناً وجودياً.

مشهد رمي الطائرة للمؤونة المتمثلة بالأزياء والخبز يُطور مفهوم هايدغر للقذف في العالم بشكل جذري. عند هايدغر، الإنسان "مرمي" في وجود لم يختره، مع إمكانية للوجود الأصيل عبر مواجهة الوضع بوعي والاختيار الحر.

درندش يُحطم الأمل الهايدغري تماماً، مُقدماً رؤية أكثر قتامة وعمقاً. الشخصيات تتعرض للقذف المتكرر في الوجود، فضلاً عن رميها عند الولادة نراها وقد أعيد قذفها بأدوار اجتماعية بشكل متكرر وقسري. الطائرة التي ترمي المؤونة تُجسد "القذف المُتكرر القسري"، الإنسان يُعاد قذفه في أدوار جديدة كلما قررت القوى العليا ذلك.

القذف الأصلي عند هايدغر طبيعي وكوني، أما القذف المُعاد في نص درندش فاصطناعي وسياسي. الطائرة ترمي الأزياء بقرار خارجي مُتعمد، مُحولة القذف من حقيقة وجودية للتعامل معها إلى أداة سيطرة مُستمرة.

شخصيات درندش تواجه نوعاً مختلفاً من القلق، القلق من اللامعنى المُتعمد بدلاً من القلق الوجودي من العدم. العدم الذي يواجهونه عدم المعنى المُصطنع الذي تفرضه القوى الخارجية وليس عدم الموت الطبيعي. حتى الذوبان في "الناس" مُستحيل لأن الأدوار الاجتماعية نفسها عشوائية ومؤقتة ومفروضة قسراً.

الأزياء المُلقاة من السماء تُمثل "الهوية" كقطعة قماش خارجية. درندش يُظهر أن حتى العري في هذا العالم مستحيل، الطائرة سترمي عليك قناعاً جديداً حتى لو رفضت القديم.

العاصفة التي حطمت طاولة القمار دمرت المشاريع الوجودية الهايدغرية، كل بناءِ معنىً يُقلب بقرار خارجي. هذه العاصفة رياح التغيير التي اجتاحت العراق 2003، دمرت النظام السياسي العفلقي وأزاحت صدام إلى حفرة من حفر جهنم، وتجاوزت ذلك إلى تدمير البُنية الوجودية للمجتمع برمته.

يقول فرانتز فانون في كتابه "معذبو الأرض": العنف الذي تمارسه القوى الاستعمارية ليس عنفاً جسدياً فحسب، بل تدمير منهجي لكل ما يُشكل هوية الشعب المقهور، لغته وذاكرته وطرق عيشه وأحلامه. وهذا بالضبط ما شهدته بغداد وكل المدن العراقية بعد نيسان 2003، حيث تحولت العاصمة من مركز حضاري يضج بالحياة إلى مسرح دموي مفتوح على كل الاحتمالات المرعبة.

العراقيون الذين استيقظوا صباح التاسع من نيسان على أصوات وهتافات مختلفة الألوان والنبرات، كانوا مقسمين بين فرح قلق لنهاية الطاغية وحزن وجودي لوطن لاح الخراب على محياه. هم لم يفقدوا مؤسسات الدولة وحدها، بل فقدوا أيضاً "اليقين الوجودي" الذي كان يُنظم حياتهم اليومية. المواطن الذي كان يستيقظ ويذهب لعمله في وزارة التعليم أو المستشفى الحكومي، وجد نفسه فجأة بلا هوية مهنية واضحة، بلا مستقبل يُخطط له، بلا حتى شوارع آمنة يسير فيها. الأم التي كانت تُرسل ابنها للمدرسة كل صباح، باتت تُودعه كأنها تُرسله لجبهة حرب. المعلم الذي كان يُدرس التاريخ العراقي، أصبح يتساءل: أي تاريخ سيُدرس الآن؟ وأي عراق سيبقى؟

الطفل العراقي الذي كان يحفظ خريطة بلده عن ظهر قلب، استيقظ ليجد البلد مُقسماً إلى مناطق نفوذ طائفية وعرقية لا يفهمها. الجار السني الذي كان صديقاً حميماً، أصبح "الآخر" المُشكوك في ولائه، والجار الشيعي تحول من مواطن عادي إلى "حليف إيراني محتمل" في نظر البعض طبعاً!. هكذا تفتت النسيج الاجتماعي ليس تحت ضربات القنابل فقط، بل تحت ضربات الشك والخوف من الآخر المُختلف.

الأخطر من كل ذلك، أن العراقيين فقدوا "لغة مشتركة" للحديث عن المستقبل. الكلمات التي كانت تحمل معاني واضحة، الوطن، المواطنة، العدالة، التقدم - أصبحت ألفاظاً فضفاضة تحتمل تأويلات متناقضة بحسب الطائفة والحزب والمنطقة الجغرافية. وهذا تماماً ما تُجسده مسرحية درندش "سباق الخبز": عندما تتحطم طاولة القمار، لا تتحطم اللعبة السياسية فحسب، بل تتحطم أيضاً اللغة المشتركة التي كان الناس يستخدمونها لفهم عالمهم والتخطيط لمستقبلهم.

التحول من القمار للسباق انتقال من وهم السيطرة إلى يأس الهروب، من الوجود الجماعي حول طاولة الوطن الواحد للصراع الطائفي في مضمار البقاء. العراقيون الذين كانوا يجلسون حول طاولة هوية مشتركة وجدوا أنفسهم في سباق محموم على فُتات الدولة المُتهالكة.

السباق يُحطم الكينونة مع الآخرين، الآخرون يصبحون عوائق طائفية يُتجاوزون بدلاً من كونهم مواطنين يُتعايش معهم. التشكيلة البصرية الجديدة تُلغي الحوار الوطني: كل طائفة تُركز على حصتها والآخرون يختفون من مجالها البصري أو يُصبحون أعداء يُقاتلون.

توزيع البدلات والرموز التقنية كشف عن نظام سيطرة محكم الوظائف: المسبحة كأداة سيطرة روحية تُضفي شرعية دينية على القهر، والسوط كذراع تنفيذية تُحول الخطاب الأيديولوجي لواقع مؤلم، والخبز كأداة تحكم نهائية وأكثر من كونه منحة.

الخبز في يد الخادم أخطر الأدوات الثلاث. يُوهمه بأنه يملك شيئاً، ويُذكره في الوقت ذاته باستمرار، بحاجته وتبعيته. كل قضمة تُؤكد أنه يعيش على فُتات ما يُسمح له. الخبز جزرة وعصا معاً.

هذا الثالوث، الإقناع والإكراه والحاجة، يُشكل أسس كل نظام سيطرة فعال. في السياق العراقي، واضح في الأحزاب الحاكمة: الخطاب الديني أو القومي (المسبحة) يُبرر الممارسات، القوة المسلحة (السوط) تُنفذ الإرادة، والتحكم في الموارد (الخبز) يُبقي الناس ظلالاً بتبعية مهينة خلف السيد والقائد والمؤتمن والمسؤول.

الحوار بين الواعظ والمعتمد جسد انهيار الكينونة مع الآخرين. خلقَ السباق هرمية قسوة متصاعدة، والتحالف بينهما مؤقت مبني على الخوف المتبادل بدلاً من أساس وجودي أصيل.

التهديد بالغدر يُظهر الغدر كأفق وجودي دائم، حيث تنعدم الثقة والأمان، كل علاقة مبنية على توقع الخيانة. السباق يقتضي أن كل تحالف مؤقت سيُكسر عاجلاً أم آجلاً.

هذا الحوار المؤسس للأسئلة بين الواعظ والمعتمد يُجسد واقع العراق ما بعد 2003: التحالفات الطائفية المؤقتة، العنف كلغة وحيدة، والغدر كأفق دائم. العاصفة دمرت الطاولة وحولت العراقيين إلى واعظين ومعتمدين وخدم في سباق مدمر يحمل درجات متفاوتة من الخسارة الوجودية دون فائز حقيقي.

تنكشف المأساة الحقيقية للخادم في لحظة إدراك مُدمرة تقلب كل ما كان يعتقده. الخادم الذي كان يُدافع عن المعتمد "أريد حمايتك من الضرر بسببي" وهو يُلح عليه بالطلب بأن يستجيب لأوامر الواعظ بالقسوة عليه كي يجري بسرعة للحاق بالمتسابقين، يكتشف فجأة أن حتى الشفقة الضئيلة لم تكن سوى مسرحية رخيصة، وأن التظاهر بالرحمة نفسه جريمة في نظر الواعظ الذي ينتفض من أي بادرة إنسانية.

هنا تتجلى حقيقة مُرعبة أن النظام الشمولي لا يكتفي بقهر الأجساد، بل يسعى لتدمير قدرة الإنسان على التعاطف والرحمة، لأن هذه المشاعر تُهدد منطق السيطرة المطلقة. الواعظ في نص درندش يُجسد هذا المنطق الشمولي بدقة مذهلة، حيث يعتبر شفقة الخادم على المعتمد خيانة للنظام، وكأن الرحمة جريمة تستوجب العقاب.

منع الخادم من الكلام، "اخرس واصمت تحرك دون كلام"، يُحطم الشرط الأساسي للوجود الإنساني: اللغة كبيت الكينونة. يقول هايدغر في كتابه "الكينونة والزمن": "الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسكن في اللغة، وعندما تُنتزع منه لغته، يُنتزع منه جوهر إنسانيته."  عندما تُسلب اللغة، يُسلب الوجود الإنساني، الخادم يُطلب منه التحرك كآلة صامتة، كروبوت مُبرمج على الطاعة العمياء.

هذا الصمت القسري يُشبه عملية جراحية بدائية: تبدأ باستئصال اللسان وتنتهي باستئصال الروح. في اللحظة التي يُحرم فيها الإنسان من حقه في التعبير، يتحول من "ذات" إلى "موضوع"، من إنسان يملك إرادة وأحلام إلى أداة تُحرك بالأوامر. الخادم الصامت يُصبح رمزاً للشعوب المُكممة التي تُجبر على التحرك وفق إرادة الطغاة، محرومة من حق السؤال والاعتراض والحلم.

المفارقة الأكثر إيلاماً في تبرير إصرار الخادم على دعم المعتمد: "خبز عيالي من خيرك" و"أنا من خبز حلال"، يُحول استغلاله الوحشي إلى منّة يشكر عليها جلاديه. هذا "حب الخضوع" كآلية دفاع نفسية، حيث الفرد الذي فقد ذاته يجد معنى للحياة فقط من خلال خدمة من يُدمره. الخادم يتجاوز قبول قهره إلى تقديسه ويُحوله إلى شرف أخلاقي.

الخبز الحلال يُصبح مُبرراً أخلاقياً ودينياً لقبول الذل، والعبودية تتحول إلى فضيلة والقهر إلى بركة. هذا الاكتشاف المُدمر يُواجه الخادم بأنه محاط بالكذب والاستغلال ومشارك فعال في استغلال نفسه من خلال تقديس مصدر قهره وتحويل جلاديه إلى منعمين.

عبارة "خبز عيالي من خيرك" تكشف آلية السيطرة الاقتصادية، الحاجة الاقتصادية كافية لضمان خضوع المُستغَل دون الحاجة للعنف المباشر. التشويه اللغوي واضح: "خيرك" بدلاً من "استغلالك"، "خادم مطيع" بدلاً من "ضحية مُستغَلّة"، "خبز حلال" بدلاً من "عمل مُستغَل".

انهيار التحالف بين الواعظ والمعتمد يحدث بسرعة البرق. اتهام التآمر وطرد المعتمد المفاجئ يُظهر كيف يلتهم النظام أبناءه عند الشك في ولائهم المطلق. إنقاذ المعتمد بالطائرة المروحية نهاية رمزية عبقرية خلقها الدرندشي الساحر، النخب لديها دائماً خطط هروب وإنقاذ خارجية، بينما يُترك الخادم وحيداً في الصحراء.

شرب الخادم للنفط كطاقة رمزية مُدمرة، الشعوب المقهورة مُجبرة على "شرب" النفط الذي يُفترض أن يكون نعمة ويتحول للعنة تُدمر من الداخل. التحول الجذري في فلسفة الخادم من "الحلال والحرام" إلى "الضعيف يسقط والقوي يصمد" انهيار كامل للقيم الأخلاقية تحت ضغط الحاجة والقهر.

الحوار الفلسفي حول "خبز الوهم وخبز السلطة" كشف جوهر الصراع المعاصر. الواعظ يُقسم العالم لخبز مادي للفقراء ورمزي للحكام، والخادم يرد بحكمة عميقة عن "خبز برائحة النفط وخبز برائحة الجوع" مُجرداً الصراع من أقنعته الأيديولوجية.

لحظة وضع المسدس في ظهر الخادم تُمثل سقوط آخر أقنعة الحضارة والعودة للعنف الخالص. عبارة الواعظ "هكذا ينتصر الإنسان على الإنسان" تكشف الحقيقة العارية للعلاقات السياسية المبنية على القوة المحضة.

وفي ومضة عبقرية عميقة تجلى درندش من خلال طقس "إخراج الشيطان" من الخادم بقدرة سلطوية استمكانية للواعظ كان مشهداً ساخراً ومُريعاً في آن واحد، حيث يُحول الواعظ أي تساؤل أو اعتراض إلى "وسوسة شيطانية" يجب طردها. السؤال الساخر "شيطان من أي ولاية أنت وإلى أي كتلة تنتمي" يُحول الطقس الديني لمهزلة سياسية تكشف كيف أصبح كل شيء مُسيساً ومُحزباً حتى الشياطين.

اللحظة الفاصلة في النص هي عندما يتقمص المعتمد دور القاضي ويبتكر طقساً جديداً يجمع بين القمع والمسرحة والمقامرة. يأمر بتبديل ملابس الواعظ والخادم، وهو أمر يحمل دلالات عميقة تتجاوز مجرد تغيير الثياب، إنه إعادة ترتيب شاملة للأدوار والهويات في دورة أبدية من القهر المُتبادل.

هذا التبديل القسري يكشف طبيعة السلطة كلعبة، حيث الهويات والوظائف مجرد أقنعة قابلة للتبديل بأمر من السلطة العليا. عندما يصبح الخادم واعظاً بحكم تبديل الملابس، نشهد تحولاً مذهلاً في شخصيته. الخادم الذي كان يستجدي "خُبز عيالي من خيرك" يتحول فجأة لواعظ يمارس نفس آليات القمع الفكري التي كان ضحية لها.

هذا التحول يكشف حقيقة مرعبة: المُضطهَد عندما يحصل على السلطة يُعيد إنتاج أنماط القهر ذاتها التي عانى منها بدلاً من تحرير نفسه والآخرين، وأحياناً بقسوة أكبر.

الخادم الواعظ الجديد يبدأ في ممارسة نفس الخطاب الأيديولوجي والتلاعب النفسي الذي كان يُمارس عليه. ما فعله الخادم عند تقمصه للسلطة يُجسد ظاهرة نفسية عميقة أسماها علماء النفس الاجتماعي بـ"متلازمة الضحية-الجلاد" الشخص الذي يُعاني من القهر لفترة طويلة قد يُعيد إنتاج نفس آليات القهر عندما يحصل على القوة. هذا يُجسد ما أسماه فرانتز فانون "استبطان المُضطهَد لقيم المُضطهِد"، حيث الضحية تتجاوز تقليد جلادها إلى التفوق عليه في القسوة والنفاق. البدلة التي لبسها حولت كامل بنيته النفسية والفكرية، كأن الثياب قد كانت تحمل معها روح الدور وآلياته القمعية. فقد كانت أعمق أحلام الخادم تتجسد في فانتازيا انقلاب المواقع. إنه لا يحلم بالحرية، بل بأن يصبح هو المُهيمن. هذا ليس حلم تحرر، بل حلم انتقام. ألفرد أدلر في نظريته عن "عقدة النقص" يُوضح كيف أن الشخص المُهان يُطور "إرادة قوة مُضاعفة" تهدف لا لتحقيق العدالة، بل للانتقام من الذل المُتراكم.

هكذا يُقدم درندش تشريحاً دقيقاً لآليات الهيمنة المعاصرة، كاشفاً كيف تتلاعب القوى الخارجية بمصائر الشعوب عبر ألعاب معقدة من الخداع والتحولات المؤقتة التي تزيد الجوهر مرارة بدلاً من تغييره. النص نبوءة مُرعبة عن مستقبل الشعوب التي تُراهن على التغيير الخارجي بدلاً من السعي للتحرر الداخلي الحقيقي.

المقطع الختامي كان ذروة في العبقرية، فقد كشف عن الطبيعة الدورية الأبدية للقهر. عودة المعتمد كقاضي تُجسد حقيقة مُرة: النخب نفسها تعود بأقنعة جديدة. المعتمد الذي كان أداة قمع يُصبح قاضياً يحكم بالعدل المزعوم، والطائرة التي أنقذته تُصبح أداة إنزال "العدالة" من السماء.

تبديل الملابس رمزية عميقة لسياسة التدوير، نفس الوجوه تتناوب على الأدوار، الضحية تُصبح جلاداً والجلاد ضحية، أما النظام الأساسي المبني على القهر فيبقى دون تغيير. القاضي الذي يُحاكمهما على "جريمة ستحدث" يُمثل العدالة الاستباقية المُشوهة التي تُدين على النوايا المُفترضة بدلاً من الأفعال الفعلية.

الحوار الفلسفي، "بعد الجريمة يأتي دور المحكمة، وعندما يسقط البريء ملطخاً بدمائه يلتف القضاة حول جثته ليحاكموه"، يكشف فهماً عميقاً لطبيعة العدالة المقلوبة، حيث الضحية تُحاكم بعد موتها والجلاد يُبرأ قبل محاكمته.

التحول المُدمر في شخصية الخادم يكشف الطبيعة الفاسدة للسلطة نفسها. الخادم الذي كان يتوسل الرحمة يصبح أقسى، يُجبر الواعظ على الضحك والبكاء والرقص حتى الإعياء. هذا التحول يتجاوز كونه انتقاماً شخصياً إلى إظهار كيف يُحول النظام حتى ضحاياه لوحوش عند فرصة الانتقام.

مشهد إجبار الواعظ على التوسل، "سأمسح غائطك، سأتبول بدلاً عنك"، انهيار كامل للكرامة الإنسانية، تدمير منهجي للذات وتحويل الإنسان لكائن عديم الكرامة مُستعد لأي شيء مقابل لحظة راحة.

طلب ارتداء "ثوب أنثوي مغر ماجن" حيث الفستان الأحمر مع آلية موسيقية من الزغاريد كان ذروة الإذلال الجنسي والنفسي للواعظ السابق الخادم الحالي. هذا يُجسد استخدام الإذلال الجنسي كأداة قهر سياسي، وكيف تسعى السلطة لتدمير الهوية الجنسية والاجتماعية كوسيلة نهائية للسيطرة. الفستان الأحمر يُصبح رمزاً للعار المُقدس المفروض باسم العدالة.

أصوات الزغاريد وموسيقى العرس تُحول الإذلال لاحتفال، والعذاب لعيد، والقهر لطقس اجتماعي مُبارك. هذا التناقض المُريع يُظهر كيف تُحول الأنظمة الاستبدادية أسوأ جرائمها لمناسبات فرح، وكيف يُجبر الشعب على التصفيق لجلاديه والرقص على أنغام عذابه.

النهاية المفتوحة: دورة التحولات الأبدية من الجلاد إلى الضحية

العبارة الأخيرة للقاضي "استعدوا لتغيير ملابسكم، جميعكم دون استثناء" مع الظلام التدريجي نهاية مفتوحة مُرعبة. إنها تُشير إلى أن الدورة ستستمر بشكل أبدي، وأن كل من في المسرحية، بما في ذلك القاضي، سيُصبح ضحية في دورة قادمة. جميع الأطراف معرضة للتدوير، وكل الموجودين مُهددون بأن يُصبح الجلاد ضحية والضحية جلاداً، حتى من كان يشغل مقاعد الفرجة في صالة العرض مدان، ومعرض لنفس التحولات، فثمة لعنة هناك تطارد وجودنا.

هذه النهاية تُلخص جوهر المأساة العراقية والعربية: مجتمعات محكومة بدورات أبدية من العنف والانتقام، حيث الجميع يفشل في التعلم من التجربة وكسر الحلقة المُفرغة. السلطة تُفسد الجميع، والضحايا يُصبحون جلادين، والجلادين ضحايا، والنظام يُعيد إنتاج نفسه مع كل تغيير شكلي. الملابس تتغير والوجوه تتبدل، أما جوهر القهر والاستبداد فيبقى، والشعب يبقى الضحية الدائمة في كل الدورات.

حقيقة أرى أن البطولة الحقيقية والشخصية الرئيسية هي الطائرة المروحية التي تأتي وتذهب والتي تُمثل القوى الخارجية التي تُدير اللعبة عن بُعد، تُنزل العدالة المُشوهة من السماء وتُغادر تاركة الضحايا يتقاتلون فيما بينهم. والظلام التدريجي يتجاوز كونه مجرد نهاية مسرحية إلى رمز للعتمة الروحية والحضارية التي تُخيم على مجتمعات فقدت بوصلتها الأخلاقية وأصبحت تدور في فلك مُظلم من العنف والانتقام المتبادل.

درندش يُقدم رؤية تشاؤمية لكنها واقعية بشكل مؤلم، حيث ينعدم الخلاص في الأفق، ويغيب التطهير الحقيقي، ويستحيل التحرر الجذري. يبقى فقط الدوران الأبدي في حلقة مُفرغة من القهر المُتبادل، حيث الجميع ضحايا وجلادون في آن واحد، والوحوش الحقيقية هي النظام نفسه الذي يُحول البشر إلى وحوش وليست الأفراد. العبرة المُرة أن التغيير الحقيقي يتطلب تفكيك النظام برمته والبحث عن نموذج جديد يقوم على العدالة والكرامة الإنسانية، بدلاً من تبديل الأشخاص أو الملابس، وبعيداً عن دورات الانتقام الأزلية.

رد على اتهامات التقليد المباشر

أدلج البعض فرضياته غير الدقيقة بالتشويش على قيمة النص وجماله بادعاء كون درندش قد قلّد "سباق الخبز" تقليداً محضاً من مسرحية بريشت "القاعدة والاستثناء"، وهذا يكشف سوء فهم جوهري لطبيعة الإبداع الأدبي وآليات التناص الحديث، ويتجاهل الفروق الهائلة بين التناص الإبداعي الواعي والمحاكاة الأدبية الحرفية.

إن درندش، الذي يبدأ نصه بعبارة صريحة "شكراً بريشت"، يعلن تأثره بالمدرسة البريشتية بوضوح تام، ويؤكد منذ البداية أنه يمارس "ولادة نص جديد ومغاير ومختلف عن الأصل." هذا الإقرار الصريح بحد ذاته يدحض اتهام التقليد المحض لأن المقلد الحرفي يخفي مصادره ويدّعي الأصالة المطلقة، بينما المتناص الواعي يحاور التراث علناً ويطوره نقدياً.

المقارنة الدقيقة بين النصين تكشف أن التشابه السطحي في الإطار العام يُخفي اختلافات جوهرية عميقة تؤكد استقلالية رؤية درندش. بينما يقدم بريشت صراعاً خطياً كلاسيكياً ينتهي بموت الكولي كنتيجة حتمية للاستغلال الرأسمالي، فإن درندش يطور بنية دائرية معقدة تقوم على تبديل الأدوار، في دورة مستمرة تنتهي بعبارة "استعدوا لتغيير ملابسكم، جميعكم دون استثناء"، مما يكشف رؤية فلسفية مختلفة تقوم على عبثية التحول مع غياب التغيير الجوهري.

والأهم أن درندش يضيف ابتكارات تقنية ورمزية غير موجودة في نص بريشت: الطائرة المروحية كرمز للسلطة الخفية الحديثة، وتقنية التحول الليلي أثناء النوم، والمحاكمة على الجريمة المستقبلية التي تضيف بعداً كافكاوياً غائباً تماماً في نص بريشت. هذه الإضافات تتجاوز كونها مجرد تنويعات شكلية إلى تطويرات جوهرية تخدم رؤية فلسفية مختلفة تتجاوز الماركسية الكلاسيكية إلى نقد وجودي أعمق.

كما ينقل درندش المنهج البريشتي إلى سياق ثقافي عربي معاصر مختلف، فيدمج الخطاب الديني المتواطئ عبر شخصية الواعظ غير الموجودة في نص بريشت، ويوظف المرجعية الدينية والاجتماعية العربية، ويطور لغة مسرحية تجمع بين الفصحى المعاصرة والإيقاع الشعري العربي في صور أصيلة.

رمزية الخبز في نص درندش تتطور إلى منظومة دلالية مركبة تشمل خبز الحاجة وخبز السلطة وخبز الوهم، في تطوير أصيل لمفهوم الصراع الطبقي يتجاوز البعد المادي المباشر إلى أبعاد وجودية وروحية أعمق. والصراع يتوسع بدلاً من الاقتصار على العلاقة بين رأس المال والعمل، ليشمل الصراع بين السلطة الدينية والسياسية والشعب.

بينما قدم بريشت رسالة واضحة عن ضرورة الوعي الطبقي والتغيير الثوري، فإن درندش يقدم رؤية عبثية تشاؤمية تكشف استحالة التغيير الحقيقي داخل النظام. هذا التحول من التفاؤل الماركسي الثوري إلى التشاؤم الوجودي العبثي يمثل إضافة فكرية أصيلة تتجاوز المرجعية البريشتية إلى رؤية فلسفية مستقلة.

إن التناص مع بريشت في الأدب المسرحي العربي ممارسة واسعة عند ونوس وقاسم محمد وعبد الصبور وغيرهم، والتقنيات البريشتية أصبحت تراثاً مسرحياً عاماً، تماماً كما استفاد شكسبير من الكلاسيكيات وجوته من الأساطير وبريشت نفسه من شكسبير.

إن "سباق الخبز" عمل أصيل يضيف للمسرح العربي والعالمي الشيء الكثير، ويحق لدرندش أن يفخر به كإنجاز إبداعي مستقل. اتهامه بالتقليد المباشر ظلم نقدي وسوء فهم لطبيعة الإبداع الأدبي الذي يحدث في حوار مستمر مع التراث الإنساني، والعدالة تقتضي الاعتراف بأن هذا النص إضافة حقيقية للمكتبة المسرحية العربية تستحق التقدير والاحترام بدلاً من الاتهام غير المبرر.

***

بقلم: كاظم أبو جويدة

للشاعر الفلسطيني فواز طوقان

تقوم قصيدة الشاعر الفلسطيني/ الأردني فواز طوقان (ثلاثية البقاء أو الدموع أو السفر) على مجموعة من الثنائيات المهمة التي يمكن عَدُّها عتباتٍ مضيئةً أغوارَ النّص، تقودنا إلى الوقوف على عمق القضية التي تشغل الشاعر وموقفه منها.

تحضر الثنائيات Dichotomies، وهي مجموعة من المسائل المتعارضة، بشكل مكثف في القصيدة بدءا من العنوان: البقاء/ السفر، الأشواق/ ملتقى، الشرود/ الرجوع، الأصول/ الفروع، الرحيل/ اللقاء، سرية/ معلنة، مضى/ سيأتي، أتى/ مضى، الحزين/ السعيد، نبدأ/ سينتهي.. ويمكن اعتبار هذه الثنائيات ناتجة عن ثنائية بارزة ورئيسَة في متن القصيدة هي: موطني/ المنفى ؛ وقبلها ثنائية مضيئة  للقصيدة هي (الوصل/ القطيعة) في بيتين استفتح بهما الشاعر فواز طوقان قصيدته للشاعر العباسي ابن زريق البغدادي، الذي عاش حزينا وانتهى به ترحاله الطويل إلى خيبة كبيرة، وكأن الشاعر يُسقط شخصية ابن زريق  على الإنسان الفلسطيني الذي قُدِّرَ له أن يعيش مرتحلا من منفى إلى منفى ومن خيبة إلى خيبة؛ فالوطن محتلٌّ والشاعر/الإنسان الفلسطيني، مُخيَّـرٌ بين البقاء ذليلا في موطنه، لأن الوصل بوطنه المحتل يكلفه الضجر، و"طحن الرجال والعمر"، والدموع والنحيب والنشيج، والبؤس واليأس... لكن المنفى الذي يختاره الفلسطيني أو يُفْرَض عليه ليس أفضل حالا من البقاء في الوطن فهما متساويان لديه وهذا ما يجعله مقيدا بتَكرار التساؤل المحير: ما الفرق بين البقاء والسفر؟:

أتساءل...

"ترى هو الرحيل؟"

أتساءل:

"ترى هو اللقاءْ؟"

في غمرة العناق للرحيل واللقاءْ،

وهجمة الدموع والنحيب والنشيجْ

يخطر لي سؤال:

"ما الفرق بين بين لحظة الرحيلْ ..

... وبين لحظة اللقاءْ؟"

" ما الفرق... عندما تلوح في الآفاقْ

علائم الفراقْ؟

إن جدلية الوطن والمنفى هي القضية الأساس في القصيدة، وهي جدلية أوقعت الإنسان الفلسطيني في حيرة بين الصمود على أرضه وإقامة مشروع وطنيٍّ تحرُّري يسعى إلى مقاومة الاحتلال، وتقديم التضحيات الجِسام، وبين العيش في منفى ببلدان لها خصوصياتُ لجوءٍ ترْهِق الإنسان الفلسطيني الذي يعاني فيها مشكلاتٍ اجتماعية، وسياسية واقتصادية، تجعله يحمل وزرا مضاعفا يُشعره أن "القمح مُرّ في حقول الآخرين" كما قال محمود درويش.

والإنسان الفلسطيني فاقدُ الأرضِ، أضحى التّشردُ موطنَه، تتقاذفه "هوجُ الرياح" فلا استقرار له وهو "دائمُ الأشواق والضجـر" وأقسى ما يؤلمه أن يعاني في منفاه العربي الذي يُفترض فيه أن يكون الملجأ الآمن، إنه محاصر ومراقب، فهل ضاق المنفى العربي بِلاجئيه وكاد يلفظهم؟ وهل حُكِمَ على اللاجئ الفلسطيني أن يكون دائمَ السّفر بسبب (ظلم ذوي القربي)، فالوطن محتل والمنفى العربي لا يستوعبه، (فعلى أي الجانبين يميل؟).

هذا هو المنفى العربي حيث الجلاوزة يحيطون بالفرد الفلسطيني، يحاصرونه ويراقبونه ويدبِّجون عنه تقاريرَهم، فهو مصدر قلق، وهو عبء يتحيّنون فرصة الخلاص منه. لذا كان البقاء في هذا المنفى ذلا لا يطيقه الفلسطيني وعليه أن يركب "الرياح الهوج" من جديد ويختارَ له وجهة أخرى ليظل محكوما بالرحيل والخيبة باستمرار.

" أنا بائس من جند هذي الدرب... أو تلك الطريقْ

أنا يائس مستضعفٌ..

أنا فيكمُ الجسد الغريقْ

أنا من ضحايا خطة التلفيقِ

والمنفى السحيقْ

ومن جلاوزةِ السلاطينِ الذينَ تحجّروا: خشبا مسندةً

وأحلاما مفندةً

وأياما تضيقْ.

حتى مَ أنتابُ المدائنَ والسفارْ؟

هكذا يصبح اللاجئ الفلسطيني مخيرا بين ثلاثٍ: ذل البقاء، أو الدموع أو السفر، وهي (أمورٌ أحلاها مـرٌ)، لأنه يَشعر بالصَّغار والخذلان وانعدام النصير وتجاهل القضية:

ما أنتَ إلا نادلٌ في حانهمْ

متهادنٌ

متهاونٌ

متشاغلٌ بالشغلِ.. تقذفكَ القفارُ إلى القفارْ !

يا بؤس ما غنى المغني، لا استمالَ ولا استثارْ !

وكان محمود درويش قد قبض، بحدسه الشعري، على تلك الجدلية، جدلية الوطن والمنفى، حين قال بُعَيد رحيل قوات الثورة الفلسطينية عن لبنان في ثمانينيات القرن الماضي، إحدى محطات رحلة اللجوء الفلسطيني المتعثر باستمرار: "ليس لي منفى، لأقول لي وطنُ..الله يا زمنُ".

والحديث عن المنفى يستدعي بالضرورة الحديث عن الوطن، بحسب قانون التداعي، ومقولة أن النقيض يستدعي نقيضَه، ففي غمرة الإحساس بالتيه والضياع في المنفى العربي يحضر الوطن "الراحل البعيد الذي مضى ولن يعود" وليس من باب التشاؤم والانهزامية أن يُقِــرَّ الشاعر بأن الوطن لن يعود، لكن قراءته للواقع العربي المتآمر على الإنسان الفلسطيني تجعله يرى ذلك الرأي، كما يرى أن قضاءَ وقدرَ الفلسطينيين أن يعيشوا في الشتات "صدى لوطنهــم":

فكلنا صدى

للراحل البعيدْ

ذاك الذي مضى ولن يعود من غدي..

خلاصة القول إن الإنسان الفلسطيني ضحية خطة وصفها الشاعر بـــ (خطة التلفيق) ويعني بذلك أن هناك إعلاما خادعا مورس على  اللاجئين الفلسطينيين من قِبل الخطاب الرسمي العربي حين وصفهم بالمهاجرين والنازحين؛ حتى لا يقال إنهم يعيشون في منافٍ، لأن النظام الرسمي يُشيعُ أن بلاده تمثل الوطن الثاني للفلسطينيين، وأنها أرض الضيافة تحتضنهم إلى أن تنتهي حالة العدوان وتتحقق العودة؛ لكن الواقع أنها ليست كذلك إنما هي - كما وصفها الشاعر-  (المنفى السحيق)،  لأن النفي دال على القهر والحرمان من المكان والمواطنة والحرية وهـو في بعض القوانين الوضعية عقوبة؛ لذلك تبنى الشاعر فواز طوقان مصطلح المنفى بوصفه الأنسب في تشخيص الحالة الفلسطينية، وأصر على هذا الاختيار، وانحاز إلى وصف الواقع فجاء خطابه مسكونا بالألم والحنين والخيبة والغضب ونقد الأنظمة ومشحونا بحب الوطن "الراحل البعيد".

***

بقلم: ميلود لقاح

الغرائبية العارية وانقطاع الأواصر السببية

توطئة: من الممكن للقاص أن يخوض تجربة صناعة الموضوعة القصصية دون الذهاب بها إلى خوارزميات مغلفة وعارية، خصوصا إذ ا ما كان الأمر متعلقا بحكاية قصصية ذا حبكة جدلية تتوزع بين حالات فنتازية وأخرى أشبه بالغرائبية المقطوعة في الوسائل والواصلات الدلالية المبرهنة في الظاهر الموضوعي والباطن لبفني. عبر هذا الصدد سوف نتناول نموذجا من القصة القصيرة التي جاءت تحت عنوان (الغاب) للقاص موسى كريدي، حيث سنعاين من خلال مفاصلها البنائية وأطوارها الأسلوبية كيفية إخراج حكاية قصصية ذا مكونات ممزوجة بين (الخفاء = التجلي) أو أحيانا دون شك تتحول إلى مستوى متصدرا توريات وتغطيات لا تمت للرمزية بصلة ما ولا من جهة كونها إحدى عروض المسرح الإيمائي نوعا ما. موسى كريدي يرى النص القصصي عبر قصته (الغاب) ثمة مجموعة دلالات متكونة من الظلال والتشظيات الحديثة المسكوبة في مقادير من الغرائبية والفتنازيا التي لا تقدم للقارىء أية كشوفات حقيقية من أثار ومشخصات (الحكاية = الخطاب) أي إننا وجدنا قصة (الغاب) عبارة عن حدوثات تفتقر إلى الوسائل والأواصر السببية في حصيلة انتقالات وتعشيقات المكونات النصية.

ـــ دهاليز المستهل السردي وفجوات التحقق الوصلي

منذ بداية المستهل الوظائفي للنص القصصي، ومجالات الوصف تمنحنا تلك الرقعة اللاممنوحة في التحديد الجهاتي (الزمن ــ المكان ــ منظور الرؤية) أي أن الممنوع التمثيلي في عملية  التأشير النسقي، حلت في حوليات مندغمة وعلامات اللحظة المشروطة في شكها القضوي، ولدرجة أن القارىء يشعر بأن السارد المتمثل بالشخصية وكأنه في حالة حلمية ــ كابوسية ليس إلا ؟ لذا فإن الشكل المطروح بالأحوال يعكس مستويين: الأول، هو المتعلق بتلاحق الصور التي يبلورها الشكل السردي في مخيلة القارىء، وهذه الصور بدورها تترجم فيما تترجمه من فضاءات غير مكتملة دلاليا. أما المستوى الثاني: فهو المتعلق بالرؤية الغرائبية الموحدة ونقصد بها تلك البنية الاشعورية من لدن الحدوث النصي، إذ إنها بدت شديدة الإلتباس في وحدات محكومة بعابرية الرؤى الصورية الخارجة من الوعي التصويري وتمثيل المعنى، لنأخذ عدة أسطر من جمل ودوال البداية النصية للقصة ذاتها (في الفجر. بدءا من الخيط الأول للنور.. أمروني أن أقود عربة محملة بأشياء أريدها أن تكون خفية عن الأنظار. ضحكت ضحكة سوداء لفرط خوفي، وقالوا قبل أن أتحرك: ـ إياك والكشف عما في داخل العربة، فهنالك من سيطوح برأسك إن أعلنت عن حملك أو نكثن الموعد أو اتخذت سبيلا للهرب ما عليك إلا أن تصل إلى النقطة المعلومة، وتفرغ الحمولة وتعود. / 40 النص القصصي) من هنا يحق لنا القول بأن الانخراط في عملية مجهولة في محددات رؤوس المعرفات الخيوطية بدت وكأنها بالأساس ضمن عملية إنتاجية منزوعة النواة الانتمائي، وصولا إلى أن سلوك الأفراد مع الشخصية بدا وكأنه عدة خطوات في العلاقة باللازمن الوقائعي. فهي عملية محض قيودات تتعلق بخواص مخفيات غائية بصيغة الترتيب المتخيل: وإل لو عاينا دوافع الواقعة السردية جيدا، هل من الممكن أن يكون الشخصية جنديا مطمسا بأغلال تنفيذ الواجب أم هو رهينة وقعت ضمن ظروف قسرية بين أيدي عصابة مثلا ؟ الجواب أن سيان ما بين الأمرين فهناك وحدات سردية تكشف لنا كونه ذلك الأب الذي جاء باحثا عن ولده الجندي في أرض المعركة وأخرى تظهر للقارىء بأن الرجل هو من ضحايا العصابات المختصة بتهريب السلاح وأخرى تظهر إلا وكأنه محض متواليات حلمية قد جرت على أرض الوهم الكابوسي؟

1ــ الغابة ودوائر التحريفات الكابوسية:

لعل العلاقة بين زمن القصة وزمن الخطاب في دلالات قصة (الغاب) ما هي إلا جملة من العلاقات المتشابكة بين حركية متعددة لأزمنة الفعل السردي فضاءاته المتداخلة. بلا شك أن زمن العرض الأحوالي ذي ثلاث أزمنة (زمن المغامرة ــ زمن الخوف ــ زمن التلاشي الحلمي) فزمن الخطاب في النص هو الأداة التي تتخطى بها زمن المغامرة، في حين يبقى زمن الخوف ملازمة ظرفية لإنجاز تحقق ما، إنطلاقا من زمن الكشف ذاته الذي يوشك أن يكون وهما ساحقا فيما يظل زمن الحلم الحلقة الواصلة بين كل أطراف الزمن: (توقفت عند التواءة لا ستعيد تنفسي، ثم سرت.. لم أزل هكذا، حين توقفت ثانية بعد أن أهتز قرص الشمس أعلى العربة على صوت الصهيل.. وحدست لحظتئذ لأني أحمل أعتدة./ص40 النص القصصي) أن عملية (المغامرة ـ الكشف) كلاهما خاضعا لمتواليات علاقة الصيغة الترتيبية على أن القصد من ورأهما هو استجلاء خواصية الشكل الخطابي وصولا إلى النظر في مكون الاسترسال السردي الذي هو استجابة لروابط التحقق في حدود الخصوصية الاخبارية في وحدة (وحدست لحظتئذ أني أحمل أعتدة ؟).

2 ـــ الإحالات السردية وفاعلية الوصف التشكيلي:

ينعطف بنا الراوي ــ الشخصية، نحو خاصية الوصف المضغوط بجملة إيحاءات وإيماءات دالة تبين لنا حضور الصورة الظلية للشخصية ومدى تنوعها الكيفي في صور حلمية وكأنها قادمة من (إحالات السرد) الذي يستعين بغواية الاندماج بين (السياق ــ الحضور الفعلي) وصولا إلى حركيات مراوية في رقع الطين: (تجمد ظلي في الطين ثم دنا من هيكلي رأس في خوذة  وصاح بي: قف؟ كنت واقفا، تلك اللحظة بحذاء العربة، وعلى يميني يقف الحصان بلونه البني، وعرفه الأسود، أمرني المسلح أن أبرك فبركت.. سحبني من عنقي فانتصبت دون حراك.) وإذا ما استعنا بالدلالة الوصفية، يتوازى لدينا المجال بين حركية الظل وشبه مجموعة أشياء ترقد ببعثرة فوق قطع الطين للجندي. فالأرضية الفضائية المستوعبة في حدوثات المشهد هي الحوارية المتجسد ضمن إيقاعي (الظل ـ الجسد ـ خوذة ـ رأس  ـ حصان) لذا الأمر بدا أكثر تلويحا نحو منطقة تزاوج (الخيال ـ الحقيقة) أي سرعان ما بدا مستوى الملامح إمكانية تتضح إلى مستوى يتجاوز المشهد ليقوم المحكي وصفا بالكشف عن زمن الرجل الظل الذي غدا جنديا في الواقع وبعد تطورات الشخصية في كونها مجرد حالات محكومة بحوليات الظل والضوء والظلام. تنزاح البنية السردية في حوادث الشخصية إلى خيارات أحادية في دخول الغابة بعد تفتيشه من قبل الجندي ورجمه بصياح المغادرة، ولكننا بعد دخول الشخصية إلى أجواء الغابة لا نعلم مدى حدوث تلك المحكيات التي راحت تتشاكل بمسيرة كابوسية أخذت تتفرغ منها وتتوالد غرائبية لا تصلها الأسباب والروابط والوسائل بل وحتى الدلائل أيضا: (في منتصف الليل لمحت كوخا مضاء من الداخل أحيط بماء وشجرة بلوط تقف في مدخلة مثل الحارس، أومأ لي فتى وسيم في الثالثة عشر من عمره. حار نظري، هل يعني هذا أن البني محجوز هنا وأن الكوخ هذا على ما يحيط به من اخضرار وماء وزاد ليس سوى معتقل ! شككت في الأمر كله، حتى زلت بي قدماي، لم أجد ما يمنع وقوفي بإزاء الباب، لمحته، كان فتى جميل الطلعة بهيا قريب الشبه بولدي، دنا مني، انفتح الباب دنوت أكثر، أن الفتى لا يعرف أباه. / ص42 النص القصصي) بهذه الطريقة من الشد الحدثي تتصاعد سمات التوتر بين لوحات المكان الفنتازي، ولكنها فنتازيا محفوفة بزمن منظور غرائبي مدعم بروح الضيق والإشكالية المحيرة. لذا يتبين لنا بأن الجندي ما زال يجثم على وجود ذلك الأب، من ناحية كونه يحمل الأعتدة في عربته. لا شك أن الفضاء القصصي في وسط أحداث الغاب تحولت بماهية موحشة إلى إرهاصات غرائبية وكابوسية متحكمان في زوايا نظر الشخصية التي غدت رصينة حوارية بين ذلك الجندي وثمة شخصية عملاقة تظهر من وسط ظلام الغابة: (دع هذا فهو ضال في غابة ترك وراءه زوجة وثلاث بنات ودكانا لصناعة الخشب، وراح يبحث عن ولده، لم استطع كتمان بهجتي فتحت كفي فسقطت العصا بقوة عليها وتركت خطا أحمر صرخ بي: ـ أفرغ حمولتك هنا يا أبله وأترك العربة والحصان وأعبر هذا الدغل. / ص43 النص القصصي).

ـ تعليق القراءة:

انطلافا من قراءتنا لقصة (الغاب) تتبين لنا مستويات الرسم التشكيلي في مجمل ممكنات السرد في النص، تاركين آليات وتأويل النص يشقان طريقهما نحو (الممكن ـ المحتمل) خصوصا وأن مواقف القصة ضاجة بالعديد من المؤشرات الأسلوبية النوعية، وخصوصا فاعليتها على تجسيد الفنتازيا ضمن المعنى المفتوح على الغرائبي المدعوم بفكرة المعادل الموضوعي الذي راح ينتج في سياق القصة ثمة حالات قصوى من غرائبية عارية تنقصها الكثير من الملامح الواقعية لكي تكون موضوعتها أكثر وصولا إلى جوهرية القراءة النقدية التي وجدت فيها مجرد غرائبية عارية بعد انقطاع الأسباب والوسائل الأكثر تكثيفا وإيحاءا ورمزا معادلا في حدود واقعية متخيلة بطريقة أكثر استعدادا لإثبات الواقع المؤول، لا أن يهرب القاص ونصه بوسائط وتراكيب تخلو من دلالات السبب والمسبب بصورة بنائية تعكس واقعها الحي وتثري مخيالها الرصين.

***

حيدر عبد الرضا

(ألا لا ألا الا لآليء لابــــــث

ولا لا ألا الا لآليء من رحل)

- أمروء القيس-

لا يخفى على أصحاب الضمائر الحية في الوسط الثقافي الجهود الحثيثة لأحياء التراث الشعري التقليدي (العمودي) العربي، وهذا عمل جميل يشکر عليها دعاتها، لکن احيانا ونتيجة للحرص الشديد فلربما يقع البعض في غلو وافراط، فكما انه سيء ومنهي عنه في الدين والسياسة والاقتصاد... فانه منبوذ ومؤذي في صنعة الأدب كذلك، كما ورد: هلك المتنطعون. ويأتي التنطع بمعاني التعمق والغلو والتكلف.

لا داع ان نكتب عن دعمنا وحبنا لهذه المحاولات والجهود الفذة وخاصة اذا كان من قبل ناقد حريص ومتخصص و     حتى ولو كان هذا الاهتمام خارج نطاق تخصص تحصيله الدراسي، لكننا في الجهة الاخرى تحرق قلوبنا عندما نرى من عند البعض المتحمسين، تبخس الآخرين أشياءهم، فهذا يضر كثيرا بالسمعة الثقافية ومستوى الأدبي والعلمي، ومع هذا علي أن أؤكد وأقول: ياليت كل الشغفوين في ميادينهم كافحوا وأجادوا مثلما هؤلاء المجيدين عليه في دربهم .

لو أردنا أن نكون منصفين علينا وضع الأمور في أماكنها واعطاء حقها ولاننكر الجميل لأحد، سعيا في سبيل نيل الحكمة والتزين بها، ومن الطبيعي ان السب والاستهانة والتوهين لا يزيد من الطين الا بلة، والسب بغير علم ينتهي بنتائج عكسية قد لا تحمد عقباها، كما انه ليس من شيمة الأصلاء وأناس أكاديميون.

لا ينكر أحد منا فضل الشعر التقليدي وفنون بلاغته وجزالة لغته وقوة تصوره ورصانة تركيبه، بحيث لا يفهمه احيانا حتى النخبة الشعرية في عصرنا، كمعان لبعض الالفاظ المستخدمة فيها بدون الرجوع الى المعاجم، بل هنالك مفردات لا توجد حتی في المعاجم اللغة العربية قاطبة، مثل ألفاظ الصلندد وعشنصل والخ... ولو ان الجرجاني في (اعجاز البيان) يری ان الالفاظ خدم للمعاني والاعتبار في معرفة المدلول لا العبارات، لكن لعل تلك الجودة والبلاغة للقصائد الكلاسكية ترجع الى اختزال الأدب والفن في الشعر فقط والتركيز الابداعي عليه وانشغال أصحاب المواهب به بعينه وتوظيف كل طاقات الفحول له في حين كان رأس مال الشاعر اللسان لاغيره، وهكذا خلدت صفحات التأريخ أصواتا لشعراء معينين (من بين ربما مئات بل ألوف) من شعراء بحور الشعر الخليلي لم نسمع بهم أبدا، هذا الكلام ينطبق على آداب الشعوب الاخرى كذلك، اذ ان الانفتاح التدريجي للعقل والعلم أثر بشكل ايجابي على ميادين عدة، من بينها الأدب والفن واللغة بعينها، اذ انها في حركة مستمرة نحو الانفتاح والتبسيط بدلا من التعقيد، ثم الأدب في عصرنا الحديث يتوسع أفقيا وعموديا  تزامنا مع  تنوع وتوزيع الاهتمامات بين القصة والرواية والشعر والسينما والنثر والفنون السمعية والبصرية والمسرح والفنون التشكيلية....والخ، وهكذا تغيرت لغة الشعر من الاكتراث باستعمال ندرة الالفاظ وغريبها الى مصطلحات جديدة أكثر وضوحا وبمغزى أعمق وأفكار قوية ومعبرة، بالرغم من ان هنالك كلمات عفا عليها الزمن سواء في الكلام أو اللغة، فلم تعد تستخدم في سياق معين أو في العصر الحالي. مضيفا على ذلك ان لكل عصر أسلوبه اللغوي والتشكيلي، ولا عيب في هذا، كما يمكن طرح أفكار معمقة بكلمات غير معقدة أو   مألوفة. مع كل هذا وذاك ان الابداع الشعري يضيء الدروب على مر العصور ويستقطب أحاسيس العشاق وينجذب اليه قلوب المتهوسين بهذا السحر، مع عدم انكار لوجود كثير من الشعر الرديء في الضفة الاخرى، ولكل جمهوره ومتابعيه حسب مستواهم الأدبي وذائقتهم الشعرية.

ان أسلوب الشعر الحر في زماننا قد احتل حيزا واسعا على خريطة الميدان الابداعي في الجنس الشعري عالميا، له فنونه وأركانه وبنيته وهو في انفتاح مستمر مع آفاق المستقبل وله أنواع عدة، فالخروج من البحور الشعرية أو الوزن والقافية لا يعني عدم الالتزام بقواعد فنون شعرية أخرى والخروج على مسار الابداع رأسا على العقب، اذ ان التأملات الفكرية والفلسفية مع تعدد التلميح والمعان وخصوبة التخيل ورمزية اللغة والتنوع الاسلوبي وابتكار صور شعرية متجددة تعتبر من سماتها البارزة. أما من حيث المضمون فهي تتناول قضايا العصر بدلا من الاكتفاء بالبكاء على الاطلال والغزل أو وصف السفر والترحال والهجو، مع وجود الوحدة العضوية في النصوص وتوظيف الأسطورة وطرح النزعة البشرية مع تكثيف الايقاع والموسيقى واستخدام تقنيات متنوعة كالكولاج والتركيب واللعب على اللغة احيانا والغوص في عوالم الذات واللاشعور...الخ

فلا يمكن لأحد أن يجبر الآخرين على الالتزام بنمط معين من الشعر قراءة وكتابة، الا ان انتقاء هذا الصنف من الاصناف دون غيره من عند المتلقي يرجع الى عوامل عدة من بينها القريحة الشعرية عنده والتذوق الفني والثيمة الشعرية، فلا ضير ان نسبة أكثر من ٩٠% من قراء اليوم يميلون الى هذا الجنس من الشعر على الصعيد العربي والعالمي، ولايعني هذا عدم وجود قصائد رديئة جنبا الى جنب كما قد تحصل في كل حقبة تأرخية للأدب، لكنني أؤمن (ربما تتفق معي أو لاء) بأن الحداثة ليست كفرا ولا تعني رفضا للموروث، فكان من الأجدر بدلا من أن نطعن في أصحاب الاقلام الحداثوية أن نناهض ونقبح ونستنكر على الذين يمسكون بسياط الايذآء بدلا من الاقلام  لضرب أصحاب الأصوات الحرة وتكميم أفواههم وزجهم في زنازين دون وجه الحق. وبالتالي اذا لايعجبكم نص ما فلا مانع من أن تنقده بشكل أكاديمي وموضوعي كما لصاحب النص الحق في الرد والتبيان ان أراد ذلك، لكنني مطمأن بأن ألاسلوب الجارح يحتاج الى اعادة نظر جذرية وشاملة، كما ان الاعتراف بنتاجات وأبتكار الآخرين يعتبر فضيلة وليس نقصا وهو من صفات العلماء من العدل والورع، حتى ولو ان الآخرين لا يوافقونك في الفهم والتذوق الشعري والاسلوب الصياغي. كما لا استبعد ان يؤسر مشاعر المتزمت -عندما تكتشف أبعاد الاعمال الابتكارية- سحر هذه النصوص الحداثوية يوما ما، ولا عجب-.

فلأنهي كلامي بمثل رجل  يقول جدلا للآخر: لم تستخدم الجوال الذكي والحاسوب والدراجة...فانها من ثمار الحداثة وأنت تلعن الحداثة؟ فاذا به يرد: فان فكرة الدراجة مأخوذة من عربات الفراعنة وأما الأمور الاخرى ليست الا سفها وشطحات وخزعبلات لطمس أوجه حضارتنا العريقة! ومن بين تلك الأمور الاخرى أجناس الأدب الحديث والتي هي مرآة الحس الابداعي عند انسان العصر مع تعدد آفاق العلوم والاختراعات وتكاثر منصات وسائل النشر. وحري بأن الانسان بطبعه كامن فيه غريزة البحث عن الجديد والتغيير والتطور منذ الأزل.. لكنه من البديهي ان هذا الجواب للمتشدق بالحداثة لا يقنع أحدا!

ختاما لا يسعني الا ان أشكر المخلصين على سعة صدرهم لقراءة هذه الرؤوس الأقلام التي كتبتها فقط حرصا على الابداع وحبا في خدمة الكلمة الصادقة البناءة مواكبة ركب العصر.. متمنيا للجميع دوام الصحة والعافية، منتظرا المزيد من العطاء المتميز الثري في ميدان الشعر والنقد والادب، دون الازدراء والمساس بالآخرين..

***

سوران محمد

 

يُعْتَبَرُ الكاتبُ الرُّوسِيُّ أنطون تشيخوف (1860 - 1904) أعظمَ كاتب قِصَّة قصيرة في التاريخ. كَتَبَ المِئات مِنَ القصص القصيرة التي اعْتُبِرَ الكثير منها إبداعات فَنِّية كلاسيكيَّة، كَمَا أنَّ مَسْرحياته كانَ لها تأثير عظيم على دراما القَرْنِ العِشرين، وَتَعَلَّمَ مِنها الكثيرُ مِنْ كُتَّابِ المَسْرحيات المُعاصِرين.

قامَ بابتكاراتٍ إبداعيَّة أثَّرَتْ بِدَوْرِها على تطوير القِصَّة القصيرة الحديثة، وَتَتَمَثَّل أصالتُها بالاستخدامِ المُبَكِّرِ لِتِقنية تَيَّار الشُّعُورِ الإنسانيِّ الدَّاخِلِيِّ، وتَوظيفِ التفاصيلِ الدقيقة الظاهرة، وَتَجميدِ الأحداثِ الخارجيَّة في القِصَّة، لإبرازِ النَّفْسِيَّة الداخليَّة للشَّخْصِيَّات.

تَتَجَلَّى الرَّمزيةُ في أدبِهِ وقِصَصِهِ مِنْ خِلالِ استخدام عناصر حِسِّية لتمثيلِ مفاهيم مُجَرَّدَة، والتركيزِ عَلى تَعقيدِ الطبيعةِ البَشرية، وتناقضاتِ المُجتمعِ الإنسانيِّ. وتشيخوف يَسْتخدم الرُّمُوزَ للتَّعبيرِ عَن الهَشَاشَةِ الوُجوديةِ، والفَراغِ الداخليِّ للشَّخصيات في إطارٍ واقعي، وإظهارِ جَوهرِ المَشاعرِ الإنسانيةِ والأفكارِ العَميقةِ، واستكشافِ مَواضيع التَّغْيير والنِّضَالِ مِنْ أجْلِ التَّكَيُّفِ معَ المَشْهَدِ الاجتماعيِّ الجديد.

حَوَّلَ تشيخوف صُوَرَ الطبيعةِ إلى رُمُوز تَعْكِسُ مَشاعرَ الشَّخصياتِ وتَجَارِبَها، وَتَنْقُل حَالَتَهَا العاطفيَّة. وغالبًا مَا يُظْهِرُ التناقضَ بَيْنَ جَمالِ الطبيعةِ وَقَسْوَةِ المُجتمعِ الإنسانيِّ. كَمَا أنَّه حَوَّلَ السُّخريةَ إلى رَمزية أدبية لنقدِ الأعرافِ والتقاليدِ المُجتمعية.

إنَّ أدبَ تشيخوف قائم عَلى فِكرةِ البَحْثِ عَنْ مَعْنى في عَالَمٍ قاسٍ وَخَشِنٍ وَغَيْرِ مُبَالٍ، مِمَّا يَعْكِسُ ضَعْفَ الإنسانِ وَضَيَاعَه في مَتاهةِ الحَياة. واعتمدَ في أعمالِه عَلى صِدْقِ الوَصْفِ، والإيجازِ، والمَوضوعيَّة، وَتَصويرِ الأشخاصِ والأشياء بِدِقَّةٍ، وَتَجَنُّبِ الأحكامِ المُباشِرةِ أو المُبَالَغَات، مَعَ قُدرة عَلى طَرْحِ أسئلةٍ فلسفية عميقة، وَالمَزْجِ بَيْنَ الحِسِّ الكُوميديِّ والأحاسيسِ المُوجعة والساخرة، خاصَّة في تناول الأحداثِ اليوميةِ والطَّبَقَاتِ الاجتماعية، والحِرْصِ عَلى التَّأمُّلِ في المَصِيرِ البَشَرِيِّ، حَيْثُ تَنَاوَلَ تَساؤلاتٍ حَوْلَ قَدَرِ الإنسانِ، والعَدالةِ، وَقِيمةِ العَمَلِ، مِنْ خِلال قِصَص تُسَلِّط الضَّوْءَ عَلى تفاصيلِ الحَياةِ العاديَّة.

تتناولُ أعمالُ تشيخوف مواضيع عالميَّة كالحُبِّ، والمَوْتِ، والبَحْثِ عَنْ جَدوى الحَياةِ وَحَقيقةِ الوُجودِ، وَتُقَدِّمُ فهمًا عميقًا للحالةِ الإنسانيةِ، وتَعقيداتِ العلاقاتِ بَيْنَ الناسِ.

وفي قِصَصِه القصيرةِ، يَتَّخِذُ الحُبُّ أشكالًا مُتعددة، فَيَظْهَر الحُبُّ العاطفيُّ الشَّهْوَانِيُّ الذي يَسْتحوذ عَلى كُلِّ شَيْء، كَمَا يَظْهَر الحُبُّ بِمَعْناه العائليِّ الاجتماعيِّ. وَيُصَوِّرُ تشيخوف بشكلٍ مُتكرِّر التَّوَتُّرَاتِ وَالصِّرَاعَاتِ التي تَنْشَأ في العَلاقاتِ الرُّومانسيَّة، مُشَدِّدًا في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ عَلى المَشاعرِ المُعقَّدة التي قَدْ تَنْشَأ عِندَما يَكُون الشَّخْصَان عَلى صِلَةٍ وثيقة.

تَعَمَّقَ تشيخوف في مَواضيعِ الوُجودِ الإنسانيِّ، والبَحْثِ عَنْ مَعْنى للحَيَاة. واستكشفَ - مِنْ خِلالِ شَخصياتِ قِصَصِه - تَعقيداتِ الحالةِ الإنسانية، وَكِفَاحَ الإنسانِ لإيجاد مَكانِه في العَالَمِ، وَشُعُورَه بالمَلَلِ والقَلَقِ أثناءَ البَحْثِ عَنْ مَعْنى أعمق في الحَياة، والانشغالِ بالأسئلة الوُجودية عَن المَعْنى والغايةِ.

وَيَتكرَّر مَوضوعُ المَوْتِ في قِصَصِه باعتبارِه مُحَفِّزًا لِصِرَاعِ الشَّخْصياتِ الوُجوديِّ. وَمِنْ خِلالِ المَوْتِ تَظْهَرُ هَشَاشَةُ الحَياةِ، وَحتميةُ الفَنَاءِ. وَتَختلفُ نَظرةُ الشَّخصياتِ إلى المَوْتِ، فالبعضُ يَعْتبره تَحَرُّرًا مِنَ مُعاناةِ الحَياةِ وَفَرَاغِها، والبعضُ الآخَرُ يَعْتبره تَذكيرًا بِقِيمةِ الحَياةِ وَضَرورةِ عَيْشِها.

تَتَجَلَّى فلسفةُ تشيخوف الرَّمزيةُ في بَساطةِ أفكارِه، وَنَماذجِه القِصَصِيَّة، وَشُمولِه لِكُلِّ الأفرادِ في المُجتمعِ مِنْ عِلْيَةِ القَوْمِ حَتَّى قاعِ المُجتمع، كَمَا تَتَجَلَّى في المَوضوعيَّةِ الصارمة التي قَدْ تَبْدُو نَوْعًا مِنْ البُرودِ تُجَاه مَصائرِ الأبطالِ.

وَأَدَبُهُ يُعْتَبَرُ طريقًا لِمَعرفةِ الإنسانِ والمُجتمعِ والعَالَمِ والحَيَاةِ، وَطَريقةً لِقِراءةِ تاريخِ المُجتمعِ الإنسانيِّ، بِكُلِّ طَبَقَاتِهِ وَتَناقضاتِه وَصِرَاعاتِه وَمَخَاوفِه وَهَوَاجسِه. وَأَدَبُهُ لَيْسَ خَاتِمَةً مأساويةً للحَيَاةِ، وإنَّما هُوَ جُزْءٌ مِنْ التَّجْرِبَةِ الوُجودية، التي تَعْكِسُ هَشَاشَةَ الإنسانِ، وَقُوَّةَ حَيَاتِه، وَتَدْفعه إلى العَيْشِ بِعُمْقٍ معَ استغلال كُلِّ لَحْظَة، وبناءِ وَعْيٍ مَعرفيٍّ بأهميةِ الحَيَاةِ وحَتميةِ المَوْتِ.

والجَديرُ بالذِّكْرِ أنَّ تشيخوف - بِوَصْفِهِ طبيبًا - كانَ يُوَاجِهُ المَوْتَ يَوْمِيًّا، حَيْثُ اعتادَ التعاملَ معَ المَرضى الذينَ يعيشون على هَامِشِ المُجتمع، وَهَذا الاحتكاكُ المُبَاشِرُ جَعَلَه يَرى المَوْتَ حَقيقةً واقعيةً، وَفُرصةً للتأمُّلِ ومُراجعةِ الذات، وَتَذكيرًا دائمًا بِضَرورةِ العَيْشِ بِصِدْقٍ. وهَكذا، صارَ المَوْتُ في أَدَبِهِ تَجْرِبَةً وُجوديَّةً يَوْمِيَّة. وَلَمْ يُحَاوِلْ تَحويلَ المَوْتِ إلى مَأساةٍ، أوْ كارثةٍ، أوْ حَدَثٍ دِرَاميٍّ عاطفيٍّ مُفْرِط، أوْ جُزْءٍ مِنْ مَعركةٍ رُوحيَّة، أوْ جُزْءٍ مِنْ صِراعٍ داخليٍّ وُجوديٍّ. بَلْ كانَ المَوْتُ جُزْءًا مِنَ التَّدَفُّقِ الطبيعيِّ للحَياة.

واعتبرَ تشيخوف الطبيعةَ رَمزيةً أساسيَّة لِفَهْمِ المَوْتِ. ففي قِصَصِه، تَرتبط الطبيعةُ بالتَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَّة والتَّحَوُّلاتِ الداخليَّة للشَّخصياتِ، وَتَتَّضِحُ الحَيَاةُ بِوَصْفِهَا وِلادةً للحُلْمِ والأمَلِ، وَيَتَّضِحُ المَوْتُ بِوَصْفِهِ تَكريسًا للعَدَمِ والفَنَاءِ.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

قدمت فرقة "لمسة فن" المغربية مؤخرا عرضا مسرحيا بعنوان «عرس القمر» ضمن جولة فنية شملت عددا من المدن المغربية، بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل – قطاع الثقافة – برسم الموسم المسرحي 2025/2026. ويأتي هذا العرض كتجربة فنية معاصرة تقوم على الاشتغال الدراماتورجي لنص الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا بعنوان «عرس الدم»، وهي تراجيديا مستوحاة من حادثة واقعية. يتناول النص زواجا تقليديا تنهار أركانه حين تهرب العروس مع حبيبها القديم ليوناردو، ما يؤدي إلى مواجهة دموية تنتهي بالموت. ويجمع النص بين شخصيات واقعية ورموز أسطورية، مثل القمر والموت، في لغة شعرية مشبعة بالصور والاستعارات، لتسليط الضوء على صراع الحب والتقاليد، مع حضور القدر والموت كقوى حتمية، ما يمنح العمل طابعا كونيا يتجاوز أبعاده المحلية، ويجعله علامة بارزة في المسرح الإسباني والانساني.1933 salam

انطلق المؤلف والمخرج الدكتور محمد زيطان من أرضية درامية ثرية تتجسد في ثيمتي الحب والثأر، مستفيدا من السياق الأندلسي الموشّى بالعادات والتقاليد المتوارثة، ليقدم رؤية مسرحية تعكس آثار الحرب والقمع على القيم الإنسانية والحضارية. وقد اعتمد النص على شخصيات متعددة الطباع والرغبات تدخل في صراع متنام على امتداد العرض، يتجاوز الإطار الاجتماعي ليغوص في الأبعاد النفسية والوجودية. ويبرز العمل المآسي الناتجة عن العادات المتجذرة في الوعي الجمعي، حيث تتحول المرأة إلى محور التوتر، محرومة من الاستقرار والحب، تحت وطأة قدر محتوم يلاحقها بصمت.

تميز العرض بجمالية فرجوية تراعي الطابع التراجيدي للنص، إذ صاغ المخرج رؤية بصرية وشاعرية تتقاطع فيها عناصر السينما والرقص والشعر، مع اعتماد تقنية المشاهد القصيرة والسريعة، التي تجعل الشخصيات مندفعة منذ البداية نحو مصير محتوم. وقد دعم هذا النهج سينوغرافيا اقتصادية، تمثلت في خلفية ترابية وكراس خشبية صالحة لطقوس العزاء والعرس، مصحوبة بإضاءة قاتمة وموسيقى مستوحاة من الفلامينكو، مما أضفى على المشهد أبعادا جمالية وعاطفية متكاملة.1934 salam

واتسم الأداء التمثيلي بالانسجام مع طبيعة النص الشاعرية، إذ حرص المخرج على اعتماد اللغة العربية كوسيط قادر على حمل البعد الدرامي والجمالي للعمل، مع الانفتاح على الوسائط البصرية من خلال توظيف تقنية المابينغ، لتصبح لغة الجسد والخطاب المشهدي موازية للغة النص، مضفية على العرض بعدا معاصرا يجمع بين التراثي والحداثي في آن واحد.

شارك في العرض مجموعة من الفنانين الشباب، منهم: سلمى المختاري، نهيلة نايت الحيان، ثرية بوهالي، أسامة العروسي، رضى لمنادي، أحمد بارودي، وأنس بوزكرين. وتولت صفاء علالي تصميم السينوغرافيا والملابس، وسارة السفياني مساعدة الإخراج، فيما أشرف معاد بياري على الجوانب التقنية والإضاءة، وتركت إدارة الفرقة والمحافظة العامة لخالد الخطبي. أما الدراماتورجيا والإخراج، فقد تكفل بهما محمد زيطان، الذي قدم رؤية فنية متكاملة تستند إلى خبرته وحسه الجمالي، لتجعل من «عرس القمر» تجربة مسرحية مغربية واعدة تعكس حيوية المشهد المسرحي الراهن، وتؤكد قدرة المسرح المغربي على استيعاب النصوص العالمية وتقديمها في سياق محلي متجدد.1935 salam

د. عبد السلام دخان

تجليات الروح والجسد في خارطة الإبداع العربي

مقدمة: لم تكن المرأة العربية يوماً هامشاً في سجل الإبداع، بل كانت ولا تزال نبضاً حقيقياً يضخ الجمال، والرؤية، والانفعال الصادق في قلب الحياة الثقافية والفنية. لقد استطاعت المبدعة العربية أن تفرض حضورها على ساحة الإبداع، في الشعر والرواية والفن التشكيلي والسينما والمسرح، بل وحتى في المساحات الفلسفية والفكرية التي طالما وُصفت بأنها "ذكورية".

هذه الدراسة تسعى إلى الوقوف عند التقنيات والأساليب التي اعتمدتها المرأة العربية في إنتاجها الفني والإبداعي، والكشف عن العطاء الخصب الذي يضيف إلى خارطة الإبداع العربي المزيد من التعدد والجمال والتوتر الخلاق، مع تأمل عميق في تجليات الروح والجسد في تجربتها الفنية، والاستشهاد بآراء كبار النقاد والشعراء العرب.

أولاً: ملامح الأسلوب والتقنية في إبداع المرأة العربية:

1. تفكيك السائد وبناء الذات:

المرأة العربية المبدعة كثيراً ما واجهت نماذج الكتابة الذكورية السائدة بتقنيات تعتمد على تفكيك المفاهيم الاجتماعية الثابتة، وإعادة بناء الهوية الذاتية من خلال اللغة. فالشاعرة سعاد الصباح، على سبيل المثال، استخدمت لغة شعرية ناعمة ظاهرياً لكنها مشبعة بروح احتجاجية، تقول في إحدى قصائدها:

"أنا أنثى... لا يشغلني جسدي

بقدر ما يشغلني أن أكون حرة..."

بهذا الخطاب الشعري، تمزج الصباح بين الذاتي والاجتماعي، وتكشف عن وعي أنثوي عميق يحاول كسر القوالب الجاهزة، وهو ما يتطلب براعة أسلوبية وتقنية تتحدى الأطر التقليدية.

2. تقنيات السرد النسوي

في الرواية، تميزت المبدعات مثل هدى بركات (لبنان)، ورجاء عالم (السعودية)، وأحلام مستغانمي (الجزائر) بتقنيات سردية فريدة تجمع بين التداعي الحر، وتعدد الأصوات، واستحضار الذاكرة الفردية والجمعية كفضاء للمقاومة والنجاة.

أحلام مستغانمي، في روايتها ذاكرة الجسد، تكتب الجسد كأرض حنين وفقد ومقاومة، وتعيد من خلاله بناء روح المرأة العربية في مواجهة الخراب العام:

"كيف يمكن لجسد أن يكتب ذاكرته بلغة الروح؟"

هذه الجملة المفتاحية تلخص جوهر الكتابة النسوية العربية: البحث عن مساحة حرة بين الجسد والروح، بين المرئي والغامض، بين الواقع والممكن.

ثانياً: الروح والجسد في الفن النسوي العربي:

1. جسد المرأة: من الرمز إلى الذات:

لطالما استُخدم جسد المرأة في الثقافة العربية كرمز، ولكن المبدعة العربية سعت في إبداعها إلى استعادة الجسد كذات، ككيان له لغة، وذاكرة، وتجربة. في لوحات جُمانة الحايك التشكيلية (لبنان)، نجد الجسد الأنثوي مفككاً ومركباً من جديد بألوان متفجرة ورموز روحانية، تعيد له بعده الصوفي والإنساني، لا فقط الغرائزي.

2. الروح كأداة للارتقاء:

الشاعرة فدوى طوقان (فلسطين)، على سبيل المثال، جسّدت في قصائدها النضالية الروح الأنثوية المقاومة، لا فقط عبر السياسة، بل من خلال الألم الشخصي والعزلة، وتحوّلهما إلى أدوات للرؤية. تقول:

"جسدي قبر

وروحي طائر يحلّق من رماده..."

في هذه الصورة، نرى كيف توظف طوقان العلاقة بين الجسد والروح لتجسيد التجربة الأنثوية بكل تناقضاتها.

ثالثاً: المرأة العربية في فضاء الاشتباك الإبداعي:

1. التفاعل مع القضايا الكبرى؛

المرأة المبدعة لم تنعزل عن القضايا العامة، بل اشتبكت معها بإبداعها. روايات لينا هويدي (سورية) وأماني فؤاد (مصر) تتحدث عن الحرب، واللجوء، والقمع، لكنها تكتب ذلك من منظور أنثوي، يعيد الاعتبار للتجربة الشخصية كجزء لا يتجزأ من التجربة الجماعية.

2. الفن كأداة للمقاومة والتعبير

المرأة الفنانة – في السينما مثلاً – مثل آن ماري جاسر (فلسطين)، استطاعت أن تخلق سينما ناعمة ظاهرياً لكنها حادة في عمقها، تشتبك مع الاحتلال والهوية والمرأة، ليس من خلال شعارات مباشرة، بل من خلال الحكاية البسيطة التي تكشف الواقع بأبعاده المختلفة.

رابعاً: آراء النقاد في إبداع المرأة العربية:

يقول الناقد صبري حافظ إن "الكتابة النسوية العربية قدمت أفقاً مغايراً، ليس فقط لأنها تمثل المرأة، بل لأنها تعيد صياغة الوعي الجمالي في الثقافة."

أما أدونيس، في مقدمة إحدى الدواوين النسوية، فيشير إلى أن "المرأة الشاعرة هي أكثر من صوت؛ إنها جسد اللغة، وروحها."

ويرى الناقد جابر عصفور أن "الإبداع النسوي ليس طارئاً، بل هو امتداد لروح التحديث التي بدأت منذ النهضة، لكنه اليوم أكثر وعياً بذاته وبمشروعه الجمالي."

خاتمة: نحو استعادة الاعتبار الفني والاجتماعي:

الإبداع النسوي العربي ليس مجرد استثناء، بل هو ضرورة وجودية وجمالية. إن العطاء الخصب للمبدعة العربية في شتى أقطار الوطن العربي يعيد رسم خارطة الإبداع العربي بألوان جديدة، لا تنفي القديم لكنها تُعيد تأويله.

من خلال تقنياتها المتنوعة، وجرأتها في الطرح، وعلاقتها المعقدة بالروح والجسد، تقدم المبدعة العربية رؤية مغايرة، وتمد يدها – عبر الفن – نحو الحرية، والتجدد، والإنسانية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

للشاعرة د. بشرى البستاني

العتبة الكبرى: (لعبة العنوان)

العنوان هنا ليس مجرد عتبة شكلية في مثل هذه القصائد، بل بنية ميتا-نصية تحمل مفاتيح القراءة كما يتفق كبار النقاد والكتاب في العالم.

أنثى الرمّان:

تتجاوز الرمانة رمزيتها التقليدية لتصير جسدًا مجروحًا،وخصبًا حيًّا في آن واحد.كائن هش يمكن فرطه ليتوزع على امتداد المكان ويكون من المستحيل اعادته إلى حاله السابق. إن حضورها كأنثى يضع القارئ مباشرة أمام ثنائية الجسد/المعنى. وكما يرى عز الدين إسماعيل": الرمز الشعري حين ينفتح على طاقته الأسطورية، يغدو قادرًا على تمثيل نقيضين في وقت واحد: الموت والولادة، الفناء والبقاء1.

آلهة الطوفان:

استدعاء الطوفان بصفته فعلاً كونيًّا غامرًا يربط النص بموروث أسطوري متشعّب (السومري، التوراتي، القرآني...). لكن جمع آلهة يُفكك السلطة الأحادية. صلاح فضل" يوضح أن "التفكيك يشتغل على تفتيت الأحادية وإظهار التناقض الكامن في البنى، بحيث يُردّ المطلق إلى نسبي، والمفرد إلى تعدّد2.

التوتر التفكيكي: مقابلة أنثى الرمّان/ آلهة الطوفان

تعلن مفارقة: الهشاشة أمام المتانة، الجسد أمام الروح الأسطورة أمام الواقع. غير أنّ النص يخلخل هذه الثنائية؛ فالأنثى، رغم جراحها، قادرة على تحويل الخيانة إلى وعي، والخراب إلى ولادة جديدة والصمت إلى ضجيج والغياب إلى حضور والخيال الى حقيقة. رولان بارت "يذكّرنا أن "العنوان هو العلامة الأولى لانفتاح النص على تعددية الدلالات3.

الدلالة الثقافية: الجمع بين المحلي (الرمانة، دجلة) والكوني (الطوفان) يشي بوعي ما بعد استعماري / كونوليالي :

الهُوية العراقية الممزقة تصارع قوى الطمس الكونية عبر أحتلال غاشم طوفاني. وكما يرى إدوارد سعيد": "الهُوية ليست جوهرًا ثابتًا، بل بناء مقاوم يتجدد مع كل مواجهة للآخر المهيمن4.

أولًا/ ترجيعات التفكيك:

تفجير الثنائيات وتشظيتها فالمنهج التفكيكي يجد على هدم الثنائيات التقليدية وكشف التناقضات الداخلية *. في القصيدة لتنهار ثنائيات: الوجود/العدم، الذكر/الأنثى، الحرب/السلام. الأنثى/ المرأة و هنا ليست ضحية، بل كيان مشتعل بوعي ذاتي ("أنا مريم السر")، بينما يُصوَّر الذكر معتديًا لكنه ضعيف ("بلا ساعدين"). التشظي اللغوي يظهر في تحويل دجلة "من نهر إلى /خيمة، قنديل، جمرة، نخيل ثم /هاوية، ما يُفكك أي معنى ثابت للهوية أو المكان فتشيؤ النهر وبث الروح فيه لأنسنته ينقله من مجرى مائي الى كائن أسطوري ومن جسد ملموس إلى صورة حسية.

ثانيًا / قراءة ثقافية: التاريخ والهوية والاستعمار:

الرمزية العراقية:

دجلة سجلّ دم وهوية؛ زِنّار بغدادي وربيع الموصل تربطان النص بالتراث، ربطًا عضويًا أواصره الأيقونية لا مناص من تبين شخوصها القائم بينما "الطيار الأ.مريكي" يرمز للغزو والجبروت والمعتدي الطاغوتي.

الأسئلة الوجودية:

هل بقي للعرب شطٌّ؟ تُعبّر عن قلق الهوية الممزقة.الهوية التي جرى تهشيم مقوماتها وتشظيتها وضياع ملامحها بل تهديم أركان وجودها الكيانية والماهوية لتمسي وهمًا هيولي.. إدوارد سعيد" يرى أن "الخطاب الثقافي يصبح ساحة لاستعادة الذات حين يُمارَس ضد السرديات الاستعمارية4.

التناص الفني والفكري:

دمج ابن الفارض" وماتيس" ودريدا" يُظهر صراع الأصالة والحداثة، مع سخرية من الإقصاء الغربي (حوار مقطوع يكسره دريدا). كمال أبو ديب" يبين أن "التناص جدلٌ يُحوّل النصوص إلى فضاء صراع بين ثقافات متجاورة5.

الأنثى كمقاومة:

الرمانة/المرأة جرح وخصب، خيانة ووعي؛ الخيانة تمنحنا الوعي فالألم معرفة. والألم محاض والألم ولادة..

ثالثًا/ الانزياحات الجمالية والفلسفية:

الزمن ليس خطيًا بل دائري من العذاب:

لا زمنٌ يحتوي / عري الجوع. الكلمة تصير "شجرة الكينونة أو تُقتل بالاختلاف، والجسد الأنثوي يُختزل إلى جراح تُوشِّه الذاكرة، بينما الطبيعة مسرح عنف دائم: يقتلع شجر الحلم ويحول السكينة إلى فوبيا. بول ريكور "يقول: "الانزياح يمنح اللغة طاقتها على إعادة تشكيل الواقع في صور رمزية جديدة6.

رابعًا/ التناقض كاستراتيجية شعرية:

(الخلاص لا يخلص)

الخلاص يُسقط الوعود الدينية والسياسية.

الكلمة "شجرة" و"جثة" معًا، فهي إنشاء ودمار. خلق وفناء بلسم وداء..

"الخيانة تمنحنا الوعي" فالندوب هوية جديدة يحملها المجروح وجديًا بين حناياه أيقونة شخصية وبصيص نور يقود في العتمة للخلاص. ميخائيل باختين يرى أن "تعدد الأصوات في النص يكشف الصراع الداخلي الذي يتقاسمه الفرد والجماعة7.

خامسًا/ شعرية الانهيار والانبعاث:

النص ينتهي برمانة تنبت من حطام دجلة، تأكيدًا أن الفن وحده يخلّص الهوية: "حيث لا إخلاص إلا بالشعر". فالشعر قرآن الطارق درب الوجود متحديًا كائنات الظلام بآيات الجمال وبكائنات اللغة الفردية. أدونيس يؤكد: "الشعر هو مقاومة الموت بخلق زمن آخر للكينونة8 القيامية الجديدة بعد بعث عنقاوي من الرماد.

وقفة نقدية ثقافية:

سنقرأ القصيدة بوصفها وثيقة ثقافية تُنتج وتُعيد إنتاج قيم الهوية والصراع والتحدي الجندري المتأصل اجتماعيًا وثقافيًا.

أولًا / تمثيلات الهوية:

الأنثى-الوطن تجسد الهوية المجروحة؛ الطيار-الغازي يمثل الآخر المُدمّر. العلاقة بينهما ليست ثنائية بسيطة، بل شبكة قوى متداخلة معقدة.

ثانيًا / ديناميات القوة:

القصيدة تُعرّي العنف الاستعماري وتكشف قوى داخلية خائنة ("رسل تخون")، ما يُعقّد صورة الجلاد والضحية. الشاعر والسياف شهرزداد ومسرور..

ثالثًا / الأيديولوجيا والقيم:

تُفكك الوعود الدينية والسياسية، وتُعيد للشعر قدرة الخلق والمقاومة.فالشعر طريق الخلاص حيث لا هيمنة لسلطان عليه غير اللغة والخيال..

رابعًا / التاريخ والذاكرة:

دجلة و"زِنّار بغدادي" يستدعيان تاريخًا مكتوبًا بالدم، في حين تُطفئ الأسماء الغربية (ماتيس، كاندينسكي) وهج الحداثة الذي لم يمنع الدمار،وهو تضارب صارخ بوجه الهمجية التي تطلقها الحضارة، والأبق بوجه العبودية، والحرية بوجه النير.

خامسًا / الجندر والجسد:

الجسد الأنثوي مسرح حروب؛ الجراح وشوم تُثبت الذاكرة، و"عري الجوع" يُفضح سياسات الإفقار التي تمليها الهيمنات وتفضحها البشاعة لتقف بوجه سرديات التاريخ القاسية التي كتبها الزيف والذكورة والقيود.

سادسًا / الفضاء والمكان:

دجلة يتحول من خيمة إلى هاوية، والسؤال "هل بقي للعرب شطٌّ؟" يُعلن انكسار الجغرافيا قبل الانكسار البشري ذلك الذي حدث بفعل قوى الظلام. العرب هنا ليست هوية لشطّ ولا كناية عن علامة مميزة في هوية وطنية وحسب بل كيان يتعرض للتأكل والتأمر والخيانة، والشطّ هنا ليس شق في الأرض ولا مجرى مائي بل جرح تاريخي مستلب ومتنفس مكتوم..

مع الثقافة:

تأثير البعد الثقافي والفني:

تداخل المحلي والعالمي: إشارات "تشايكوفسكي" و"دريدا" إلى جانب "دجلة" و"الرمان" تفتح النص على حوار ثقافي عابر للحدود في طباق فكري وتزاحم الاطروحات والمقدمات.

تمازج الفنون:

الموسيقى والتشكيل تُستعاد كإيقاع بصري داخل اللغة يخرج الفونيم من سلمه الصوتي الى طيفه اللوني بتراسل يتناسل داخل النص.

التراث الفلسفي:

دريدا وباختين يُذكّران بأن المعنى انزياحي، بينما السهروردي وابن الفارض يُعيدان الروح إلى المكان وهو امتداد لصراع الزمان والمكان في وحدتهما الكرونتوبية Chronotope¹.

الأسطورة وسؤال الوجود: الطوفان وعشبة الخلود يُحوّلان الكارثة العراقية إلى مسألة كونية ليكون كلكامش وطنًا يبحث عن خلوده متحديًا الصعاب.

الشعر كجسر:

الكلمة تصير موطنًا أخيرًا يُجمّع بين الشرق والغرب دون إلغاء أحدهما الأخر وهو قنطرة الحاضر التي تربط الأمس بالغد.

العلاقة بين الرمز والأسطورة

الطوفان:

يُستدعى كحدث كوني يُعيد ترتيب العالم وبناءه بعد لملمة شظايا بعثرها القدر واخذ سيل التيار الكثير منها إلى حيث لا ضفاف، فيُصبح الدمار العراقي جزءًا من دورة أزلية من الكارثة والتجدد،تلك الصورة القدرية ترسم سردية وجود العراق التاريخي وقرون طويلة من تعاقب الغزاة عليه.

دجلة:

ينتقل من نهر إلى حضارة ثم إلى هاوية، فيُجسّد انهيار المكان الذي كان مصدر الحياة. النهر الشيء والكائن الرحيم والقاسي جالب الخير وموجد الدمار..

أنثى الرمان:

تحمل ثنائية الخصب والدم، فتكون تموزًا وعشتار معًا: تموت لتُعيد الحياة بعد رحلة في العالم الأخر والتعرض لأوجاع والخيبات بين شتاء العتمة وربيع النور.بين الأفراح والاتراح.

اللغة:

"كُن" و"شجرة الكينونة" تُعيد للكلمة طابعها الإلهي القرآني والإنجيلي، فالشعر يُنشئ عالمًا جديدًا من رماد القديم.

إحياء الأساطير في شعر ما بعد الحداثة:

نصوص ما بعد الحداثة لا تُعيد سرد الملحمة، بل تستخرج رموزها وتُغرقها في السياق المعاصر:

جلجامش يُطرح كإنسان يواجه حتمية الفناء، فتصبح رحلته مرآة للبحث عن معنى وسط الخراب.

موت إنكيدو" يُختصر في لحظة انكسار: فقدان الصديق يُفجّر السؤال الوجودي ويُطلق رحلة البحث عن الخلود وبلوغ الحكمة من الخلق والمصاعب ومحنة الوجود.

سيدوري ":صاحبة الحانة" تلوح من بعيد بنصيحة الواقعية: تقبّل حياتك واستمتع بالحاضر، فالخلود الحقيقي في اللحظة الحية وليس العيش بالماضي ولا القلق من الغد المعبأ بالغيب.

العشبة المسروقة غيابها يُعلن أن الخلود مستحيل وهو قدر الإنسان وعليه تقبله، وأن ما يبقى هو الأثر الذي نتركه لا تجاوزنا للموت عبر تناسلنا وما يخلفه من عاديات تبقى ماكثة تشير إلينا رغم ما سيحدث حتما من اندثار واندراس للوجود المادي.

خاتمة سيموثقافية

القصيدة، باستدعاء جلجامش وإنكيدو وسيدوري دون تسميتهم ولكن حضورهم السيمو ثقافي تشربته العلامات وحملته الدلالات، تُشغل الذاكرة الأسطورية كطبقة مضمرة ( وربما مسكوت عنها) تُفسّر الحاضر ليس من خارجه بل من داخله. أنثى الرمان هي العراق الجريح وما اعتراه إبان واعقاب الاحتلال، وهي أيضًا الإنسان الذي يُعيد اكتشاف محدوديته بعد كل طوفان هادر وقدري وحتمي. فلا خلود في العشبة طالما هناك غفوة وثمة أفعى تتربص، ولا نجاة من الطوفان مادم هناك نهر وفصول وغضب سماوي وأدران تلفظها ارتكابات الإنسان، لكنّ الشعر يبقى شطًّا" يُمكن للعرب أن يلتفّوا حوله ليعيدوا اختراع هويتهم، مرة تلو أخرى ويمكن أن يكون سرابًا مخادعًا يقود للضياع. الشعر هو روح الجمال والأمر الذي لا تصيبه عوامل القدر والتعرية.

***

د. سعد محمد مهدي غلام

.......................

المراجع

1. عز الدين إسماعيل، الأسس الجمالية في النقد الأدبي، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992.

2. صلاح فضل، بلاغة الخطاب وعلم النص، القاهرة: دار الشروق، 1992.

3. رولان بارت، لذة النص، ترجمة: منذر عياشي، دمشق: وزارة الثقافة، 1996.

4. إدوارد سعيد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة: كمال أبو ديب، بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1997.

5. كمال أبو ديب، جدلية الخفاء والتجلي، بيروت: دار العلم للملايين، 1981.

6. بول ريكور، الاستعارة الحيّة، ترجمة: جورج زيناتي، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2006.

7. ميخائيل باختين، خطاب الرواية، ترجمة: محمد برادة، الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 1987.

8. أدونيس، الزمن الشعري، بيروت: دار العودة، 1981.

الهوامش

1. الكرونتوب (Chronotope): مصطلح باختيني يشير إلى وحدة الزمان/المكان في النصوص الأدبية، حيث يتقاطع الحدث مع الإطار الزمكاني ليُنتج دلالة مركّبة.

2. الاستعارة الحيّة: عند بول ريكور هي الاستعارة التي تحتفظ بطاقة إبداعية وتأويلية، بخلاف الاستعارة الميتة المستهلكة.

3. التناص: في رؤية كمال أبو ديب هو جدل وصراع بين النصوص، وليس مجرد حضور شكلي، يخلق فضاءً دلاليًّا جديدًا [5].

4. التفكيك (Deconstruction): مفهوم أسسه جاك دريدا، يهدف إلى تقويض الثنائيات الميتافيزيقية وكشف تناقضاتها الداخلية، ليُظهر أن المعنى غير مستقر، وأن النص فضاء مفتوح لاحتمالات متعددة.

5. المهيمنات (Hegemony): مفهوم عند أنطونيو غرامشي، يشير إلى أشكال السيطرة التي تمارسها الطبقة المهيمنة عبر الثقافة والمعرفة، وليس فقط عبر العنف المباشر. ميشيل فوكو أعاد صياغة الفكرة عبر مفهوم "خطابات السلطة"، مبينًا أن المعرفة نفسها أداة للهيمنة والانضباط الاجتماعي.

6. النقد الثقافي: مقاربة حديثة في الدراسات الأدبية، ترى النصوص بوصفها خطابات أيديولوجية تُنتج وتعيد إنتاج قيم السلطة والمجتمع. أسسه منظّرون مثل ريموند ويليامز، ستيوارت هول، وفينسنت ليتش، وامتد في السياق العربي مع دراسات عبد الله الغذامي وآخرين.

7. التفكيك والنقد الثقافي: يلتقيان في كشف البنى المضمرة للخطاب، غير أن التفكيك (دريدا) يركز على اللغة وانفلات الدلالة، بينما النقد الثقافي يركز على تفاعل النصوص مع أنساق السلطة والهوية والمجتمع.

لكل فنٍّ من الفنون الجميلة وسيلة يَبْلغُ مبدعها من خلالها غايته، ولها دورها في التأثير على المتلقين ومنهم محبي الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص.

بداية ماذا نقصد بالصورة هنا، هل هي الصورة الكاريكاتوريّة، التي أداتها القلم.؟، أم الصورة التشكيليّة التي أداتها الريشة واللون.؟. في طبيعة الحال إن ما نقصده لا هذا ولا ذاك، إن ما نقصده هنا هو التصوير المتعلق بمجال أخر، أداته اللغة، إنه التصوير الأدبي بما فيه من شعر ونثر. والشعر من هذه الفنون الجميلة، وكغيره من هذه الفنون، له غاية جماليّة وفكريّة هي التأثير على المتلقي. والشاعر يصل لهذه الغاية في جعل اللغة التي يستخدمها أكثر تأثيراً، وذلك من خلال استخدامه المفردات اللغويّة بطريقة خاصة، تختلف عن الاستخدام العادي أو المعياري لها في حالة التداول بين الأفراد والجماعات. فالشعر إذن فن ينتهي إلى غايته الجماليّة والفكريّة عن طريق اللغة التي يشكل منها عالمه الشعري، وتأتي الصورة أحد الأدوات الهامة في تشكيل هذا العالم الشعري. يقول الكاتب والشاعر والناقد والمترجم الألماني. "أوجست ولهم شليجل" في هذا الصدد: "إن الشعر تفكير بالصور ».(1). أي إن الصورة هي أساس بناء الشعر.

إن الصورة في سياقها العام، هي تركيب لغوي يمكّن الشاعر من تصوير معنى واقعي/طبيعي أو عقلي/فكري وعاطفي/وجداني حيث تعرف الصورة الشعرية بأنها انعكاس للواقع من جهة، ومتخيل من جهة ثانية، ليكون المعنى متجليا أمام المتلقي حتى يتمثله بوضوح ويتمتع بجماليّة الصورة التي تعتمد التجسيد والتشخيص والتجريد والمشابهة. ويعود الاهتمام بالصورة بوصفها أداة الشاعر التي تحكم شخصيته الفنيّة في أداء التعبير من جهة،ومن جهة أخرى تعد الصورة مقياسا فنيّا وشخصيّا للمبدع الذي أنتجها. فهي المادة التي تتركب من اللغة بدلالاتها اللغويّة والموسيقيّة، ومن الخيال الذي يجمع بين عناصر التشبيه والاستعارة والكناية والتمثيل وحسن التعليل.

الدلالات الفكريّة والفلسفيّة للصورة:

تُعًرًفُ الصورة الأدبيّة أيضاً بأنها (تركيب فني يجمع بين ما هو مطلوب وما يتم تحقيقه في العمل الأدبي. وهي نقطة التقاء بين الظاهر والباطن في النص الأدبي. والصورة الشعريّة تتميز بكثافتها الحسيّة، مقارنةً بالرمزيّة التي تعتمد على التجريد والذاتية.). (2).

إن الصورة في الشعر الأصيل بشكل خاص، لا يؤتى بها للتزيين والزخرفة اللفظيّة، وإنما هي شيءٌ أصيل تمليه الحالة النفسيّة والوجدانيّة والفكريّة للشاعر، فالصورة الفنيّة هي الحامل الأمين لمشاعر الشاعر وتُرجمان نفسه الشاعرة، فالشاعر يترجم أحاسيسه وعواطفه، وينقل كوامن نفسه من خلال الصورة الفنيّة التي يبدعها في نصه الشعري، والشعر ذو طبيعة حسيّة ومنطقيّة يخضع لنوعٍ من التنظيم أو التشكيل، ويُبين عن شعور بلغ درجة الانفعال وتحريك الخيال لدى المبدع لإنتاج سلسلة من الصور. (3).

إن الشاعر وبوساطة التصوير الشعري، يقوم بعملية التخطي والتجاوز للمعني الإدراكي المباشر، أي هو يقوم بإلغاء العلاقة الأصليّة الحقيقيّة الموجودة بين الدال والمدلول، محاولاً خلق علاقة جديدة.

إذاً تُعدّ الصورة الأدبيّة بشكل عام والشعريّة منها بشكل خاص، من المفاهيم الأساسيّة في الأدب، بل هي تُشكل العمود الفقري للتعبير الأدبي. والصورة كما تبين معنا أعلاه تشكل في أهم تجلياتها وسيلة لتحويل المعاني الذهنيّة لدى الأديب إلى صور مرئية معبّرة. ومن أهم الأدوات الشعريّة الرئيسة لإنشاء الصورة الشعريّة هي التشبيه والاستعارة والكناية، وأن جميع النظرات المجازيّة/ المتخيلة المتجلية في الصورة الشعريّة يقع خلفها بالضرورة بواعث اجتماعيّة ونفسيّة وأخلاقيّة وسياسيّة وغير ذلك، هذا إضافة إلى الحس الابداعي الذي يمتلكه الشاعر بكل أدواته والذي أغنته تجربته الذاتيّة التي تجعله يحرص على أن يقدم من خلالها صوراً إبداعيّة تدهش المتلقي وتخدم تطلعاته. وبالتالي نفهم من هذا أن الصورة أساس بناء الشعر، كما بينا في موقع سابق. إنها عالم حي، منفتح، متعدد الألوان، مفاجئ وسحري، يصلنا بحقيقة حياتنا وجماليتها بواسطة الاستعارة والتشبيه والكناية والتراكيب الجميلة وتجربة الشاعر الغنيّة الابداعيّة، كما يولد فينا نتيجة هذا الاتصال نشوة غير عادية. نعم إن الصورة عالم الكلمة الساحر.

مفهوم الصورة في النقد القديم :

يعتبر كتاب أرسطو في " فن الشعر " من الكتب الهامة التي لم يزل تأثيرها قائماً إلى يومنا هذا، أو هي المرجع الذي يتعرف منه الباحثون على أهمية الصورة في الشعر، ويثرون به دراساتهم. لذا لا بد من القول بأن مصطلح الصورة عرفه القدماء، وإن اختلفوا في الدلالة مع المحدثين والمعاصرين.

لقد تسرب مفهوم الصورة إلى القاموس العربي مع الفلسفة اليونانية، وبالتحديد الفلسفة الأرسطيّة. فأرسطو قام بالفصل بين المادة وشكلها، ونتيجة التداخل بين المعارف، انتقل مصطلح الصورة بمفهومه الفلسفي إلى حقل الأدب، شعره ونثره، ليتم الفصل بين اللفظ والمعنى، باعتبار اللفظ صورة والمعنى مادة الصورة. (4).

ومن القدماء العرب الذين أشاروا إلى الصورة في الأدب هناك "الجاحظ" الذي أثار مسألة التصوير في الشعر بقوله: (إنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير.).(5). إنه ينسب صفة التصوير للشعر، وهذا يعد خطوة نحو تحديد مفهوم الصورة.

نقول: من هنا بدأت إشكاليّة الصورة، مصطلحاً ومفهوماً تعرف طريقها نحو التوسع. لقد ترك الفكر الأرسطي، تأثيرا واسعا في فكر الباحثين العرب، وبخاصة البلاغيين، حيث تبنوا المصطلحات الواردة في " فن الشعر " ليحددوا مفهوما للصورة الحسيّة في الأدب بشكل خاص، على اعتبار أن الصور المتخيلة أو الناتجة عن الخيال كما سيمر معا بعد قليل، والذي أطلقوا عليه مصطلح المغالطة، لأنه يخلق نوعا من عدم التناسب المنطقي بين الواقع والصورة المنتجة من التخيل، ففضلوا أن يحصروا مفهوم الصورة في التشبيه والاستعارة والكناية، لكونه يجمع بين حقيقتين حسيّتين على الأغلب، (المشبه والمشبه به – كمثال)، وتحقق التناسب المنطقي بين عناصر الصورة.

هنا نلاحظ مدى سيطرة الفكر الأرسطي، على فكر البلاغيين العرب، إلى درجة أنهم نبذوا كل ما هو بعيد عن المنطق. هكذا تبنوا مصطلح الصورة البلاغيّة، التي تنبني في مفهومها على قاعدة فلسفيّة أرسطيّة، تتبنى كما بينا التشبيه، والاستعارة وتهمل المجاز. أي تهمل دور الخيال المنتج للصورة. عكس المتصوفة بنظرتهم المتميزة إلى الصورة، وكأنهم يردون على البلاغيين، الذين لم يدركوا بوعي كامل، مدى أهميّة الخيال في تشكيل صورة جديدة (6). وهذا التبني للمجاز اشتغل عليه أدونيس الذي تأثر في الشعر الصوفي من جهة، وبشعر ما بعد الحداثة من جهة أخرى.

فمن خلال اهتمام المتصوفة الكبار بالخيال، استطاعوا تحديد مفهوم جديد للصورة. بالرغم من أنهم ينطلقون هنا من العالم الأرضي، عالم المحسوسات، ولكنهم يسعون لتشكيل صور جديدة ذات علائق جديدة بين عناصرها بواسطة الخيال والتجريد، وذلك ليعبروا عن أحاسيسهم غير الملموسة في الواقع الدنيوي.

إن البلاغيين العرب القدماء، حاولوا التملص من الخيال، باعتباره يخادع المتلقي، لكنهم من جهة أخرى، حاولوا الاعتراف بوجود الصورة البلاغيّة التي تكونها الاستعارة والتشبيه، كونهما البنية الحسيّة والمنطقيّة التي تقوم عليها الصورة.(7).

مفهوم الصورة الشعرية عند المحدثين :

لقد صاحب عصر النهضة الأدبيّة، ظهور المذاهب الأدبيّة، التي كان لها انعكاس على مفهوم الصورة، ذلك أن كل مذهب أو مدرسة أدبيّة تقوم على فلسفة معينة، فتعدد المدارس الأدبيّة، نتج عنه تعدد في مفهوم الصورة، الذي أسهم في تطويرها. ومن أهم هذه المدارس التي درست الصورة الفنيّة هناك":

1- المدرسة البرناسيّة: التي ترى أن الصورة تتشكل بالمحاكاة، أي باستخدام حاسة ( البصر). فروادها يعترفون فقط بالصور المرئيّة المجسمة أو ما يسمى بالبلاستيكية. فالبرناسيّة تنطلق من الوجود الحسي الواقعي وتعود إليه في تشكيل الصورة، فلا دخل لأي عالم أخر في تشكيلها.

2- المدرسة الرمزيّة: فإنها ترى أن المبدع في تشكيله الصورة، ينطلق من الموجود الحسي، ثم النظر في أثر هذا الوجود في أعماق اللاوعي، لينتج لنا في النهاية، صورةً هي مزيج من المحيط الواقعي والذات الفرديّة المبدعة. لقد ابتدعوا وسائلهم الخاصة في التعبير، كتصوير المسموعات بالمبصرات والمبصرات. بالمسموعات وهو ما يسمى بتراسل الحواس.

وتراسل الحواس في الأدب هو ظاهرة بلاغية يقوم فيها الأديب بنقل مدركات حاسة إلى حاسة أخرى، مثل وصف صوت بأنه ذو لون أو رائحة، أو وصف نغمة بأنها حلوة. ويهدف هذا التبادل إلى خلق صور شعريّة مميزة ومؤثرة، وتوسيع في الخيال، وإثارة الدهشة لدى القارئ أو المتلقي، وإضفاء عمق على المشاعر والأفكار

3- المدرسة السرياليّة: فقد أسهم السرياليون في توسيع مفهوم الصورة برؤيتهم المتميزة في كيفيّة تكوين الصورة، إذ نجدهم يهملون إسهام الوعي في تشكيل الصورة ويجعلون اللاوعي يقوم بتشكيلها، إذ جعلوا اللاوعي منبعا تتولد منه الصوّر باستمرار. هكذا حصر السرياليون مفهوم الصورة في اللاوعي، فالصورة عندهم لا واعية، إلى درجة أن المتلقي يحس أن الصور التي يشكلها المبدع السريالي، تنبعث من حلم عميق أو خيال مجنح لا يقيده ضابط. (8). وقد تجلت معطيات هذه المدرسة في أدب ما سمي بأدب ما بعد الحداثة.

4- المذهب الاتباعي: الذي اعتمد على العقل أساساً له، أي إخضاع الأديب لسلطان العقل القائم على أسس وقواعد. فالصورة الفنيّة الاتباعيّة كانت أنموذجاً عقليّاً وقالباً جاهزاً يصب الشاعر فيه مادته ويصوغها في ألفاظ توافق غرضه، وليس للشاعر الحق في توليد المعاني وخلق علاقات جديدة بين الأشياء، لأن المعاني قائمة قبل أن يصوغها الشاعر في صوره الفنيّة، وما على الشاعر إلاّ أن يكسو المعنى بألفاظ التي توافق غرضه. (9).

أو بتعبير آخر: المذهب الاتباعي في الأدب، ويعرف أيضاً بـ "الكلاسيكي"، هو اتجاه يهدف إلى محاكاة القدماء في الأدب والفن، مع التركيز على جزالة الألفاظ ورصانة الأسلوب، وتقدير العقل فوق العاطفة، بالإضافة إلى الالتزام بقواعد العروض والنحو في الشعر. في الأدب العربي، يمثل هذا المذهب حركة البعث والإحياء التي سعت إلى تقليد الشعر العربي القديم، وخاصة الشعر العباسي.

5- المذهب الابتداعي: في الأدب – وقد قام كردَّة فعل على المذهب الاتباعي – حيث تغيرت النظرة إلى الأدب عامة، وتغيرت المعايير التي ينظر من خلالها إلى الأدب، ففي مجال الشعر ضاق الابتداعيون بسيطرة العقل وتقييد الخيال بقواعده، لذلك نادوا بتحرير الخيال تحريراً مطلقاً، وقد انعكس ذلك على بناء الصورة الفنيّة التي أخذت تتحرر من ربقة العقل وتخضع لخيال الشاعر، وأصبحت وظيفتها نقل الشعور وتصوير العواطف والأحاسيس، ولم تعد تلقي بالاً للواقع، وإنما تعتمد على ما يمليه الخيال، (وقد كان الخيال الابتداعي خيالاً طموحاً وجموحاً، يتطلب له مثالاً أينما وجده في غير زمانه ومكانه لا يستوحيه أولاً وأخيراً إلاّ من ذات نفسه ولا يتاح له فهم ما تجيش به عواطفه وآماله إلاّ بالصور والأخيلة التي يضفيها على الحقائق ... إذ إن الأحاسيس لا تفصح عن نفسها إلا في صور، وكل كنوز المعرفة والسعادة الإنسانيّة مقصورة على الصورة.). (10).

خصائص الصورة الشعريّة:

تمتاز الصورة الشعريّة بالعديد من السمات والخصائص من أهمها:

1- التطابق بین الصورة والتجربة: لابد أن تكون الصورة مطابقهً تماما للتجربة التي مر بها الشاعر لإظهار فكرة أو حدث أو مشهد أو حاله نفسيّه أو غير ذلك.

فعندما تكون الصورة متطابقة مع تجربة الشاعر، ستشكل بالضرورة بنيه حيّه منسجمة بين الأفكار، وتلازم متصل بين المشاعر، وبالتالي تجانس محكم بين هذا كله وبين مصادر الصورة جميعاً.

2- الشعور: الصورة الشعريّة في حقيقتها حالة وجدانيّة يقدمها الشاعر للمتلقي بعد عناء تجربته ورهافة إحساسه في عكس قضايا الحياة الإنسانيّة، وهذا ما يمنحها القدرة على تحريك مشاعر المتلقي ومشاركته مشاعر وأحاسيس الشاعر ذاته.

3- الحیویّة : ويرى جابر عصفور في كتابه الصورة الفنيّة: "إن الصورة الجيدة هي الصورة الحيويّة، وحيويّة الصورة تنبع من قدرة المبدع على تحريكها، وقدرته على التقاط أجزائها وصهرها في بوتقة المشاع".

4- الایحاء: إن الصوره الجيده هي التي لا تصح بالمضمون مباشره ولا تكشف عنه، بل توحي إليه لكي يحمل المتلقي فكرة، فهي كما قال جابر عصفور " في كتابه "الصورة الفنيّة" إن الصورة موحية، وقد يكون الايحاء بكلمه تستدعي معاني متعددة، وقد تكون أصوات كلمة تستدعي معاني متعددة.

وظائف الصورة الشعريّة:

هناك وظائف كثيرة تؤديها الصورة الشعريّة، ويمكننا تحديد العديد من هذه الوظائف، كالوظيفة الجماليّة ولانفعاليّة والتعبيريّة والايحائيّة، كما تستطيع الصورة أن تؤدي دورًا مهمًا في نقل تجربة الأديب أو الشاعر والتعبير عنها كما أشرنا في موقع سابق. ومن أهم هذه الوظائف للصورة الشعريّة هي:

أولاً – إن الصورة تساهم كثيراً في إعادة إنتاج المخزون العاطفي والوجداني لذكرى أو تجربة عاطفيّة وإدراكيّة غابرة، ليست بالضرورة أن تكون بصريّة.

ثانياً – إن الأصوات أي الألفاظ المنبثقة من اللغة، قادرة أن تخلق صوراً تستعمل لخلق ارتباط بين نفوسنا والوجود الخارجي وتخيلاتنا.

ثالثاً – تحطيم الواقع والذهاب إلى عالم إبداعي جديد يجسده الأدب عبر الصورة بشكل خاص. لقد ذهب الشاعر والمسرحي والناقد الأدبي الانكيزي "إليوت" في رؤيته الما بعد حداثيّة إلى تحديد مهمة الشعر من خلال عمل الصورة حيث يقول: (على سبيل التخييل يجب أن يُهدم الواقع ويُمحق، لكي يختار الأدب من يمتلك القدرة الفريدة على تصويره كتجربة صافية، فالمهم أن تكون للأدب هذه القدرة في تهديم الواقع، أي تهديم العالم الرياضي لولادة عالم آخر هو عالم الأدب، باستثناء أن الصورة فقط، هي التي يمكن أن تعطي للأسلوب لوناً من الخلود”.) (11).

رابعاً - هذا وتعتبر الصورة الشعريّة من الناحية الوظيفيّة أيضاً من أهمّ المرتكزات والرّوافد الفكريّة الّتي تثري الدلالة، وتغني المعنى في النّصّ. ومالا شكّ فيه أنّها من أهمّ الوسائل التّعبيريّة الّتي تفوق اللّغة التّعبيريّة المباشرة، فهي مثلما تمثل الواقع، تمثل أيضاً مواقف الشّاعر الذّاتيّة المتخيلة.

خامساً- إن الصورة الشعريّة تمثل الروح التي تسري في كل عملٍ شعري وتمنحه شاعريته، وهي السر الذي يضعه الشاعر في قصيدته حتى يجعل المتلقي يتفاعل معها، ويحسُّ بما يريد أن يقول فيها.

سادساً – إن كل صورة في العمل الفني تؤدي وظيفة محددة كما تتعاون مع غيرها على إبراز الصورة الكليّة للقصيدة والإيحاء بالجوّ العامّ الذي تحاول القصيدة التعبير عنه.

سابعاً - ومن الوظائف التي تؤديها الصورة الفنية في النص الشعري (التكثيف الشعوري) (فالصورة الفنيّة وحدة تعبيريّة تجسد القصد الذي يدور في ذهن الشاعر بكثافة. أي إنها توحي بما يختلج في نفس الشاعر من مشاعر، وتقدمه في تركيبة تختزل في داخلها عدّة مشاعر وأحاسيس مختلفة، وربما كانت متباينة أحياناً. ومصدر هذا التكثيف يرجع إلى الإيحاء وإقامة علاقات جديدة بين أشياء الوجود الداخلة في بناء الصورة الفنيّة، فهي لا تقول كل شيء، وإنما تقول القليل وتترك للمتلقي إكمال الباقي بحسب ما يجد من مشاعر أوحت له بها الصورة الفنيّة). (12).

ثامناً- ومن وظائف الصورة الفنية في الشعر – أيضاً – تجسيد المجرد، فهي تقوم بنقل المشاعر والأحاسيس والعواطف إلينا بطريقة مقروءة أو مسموعة، بحيث نستطيع أن نحس المجردات إن جاز التعبير.

ولنقرأ قول مجنون ليلى :

(كأنّ القلبَ ليلةَ قِيلَ يُغدَى بِليلى العامـريةِ أو يُراحُ

قَطاةٌ عزَّها شَرَكٌ فباتتْ تُجاذِبُهُ وقد عـلِقَ الجناحُ

لها فرخانِ قد تُركا بوَكرٍ فعُشُهما تصفِّقُـهُ الرّيـاحُ

فلا بالليل نالت ما تُرجِّي ولا بالصبحِ كان لها بَراحُ.). (13).

ملاك القول: إن الصورة الفنيّة هي المفتاح الذي يستطيع الناقد أو الدارس أن يفتح بها مغاليق النص الشعري، ويلج إلى عوالمه الغامضة، فعن طريق متابعة فيض الصور الفنيّة في النص الشعري يستطيع الناقد أن يَلِمَّ بالحالة النفسيّة والشعوريّة المسيطرة على الشاعر عندما أبدع نصه الشعري، إن فهم التجربة الشعريّة للشاعر، وإدراك القيمة الفنيّة للقصيدة لا يمكن أن يتم للناقد أو الدارس إلا بعد دراسة صور القصيدة مجتمعة وتتبع العلاقة التي تنشأ بين أجزائها، وذلك لأن في الصورة الشعريّة بكل أشكالها المجازيّة وبمعناها الجزئي والكلي تكمن روح الشعر، وفيها تستقر رؤية الشاعر للموقف الذي يصوره.

إن الصورة الشعريّة تحتل أهميّه كبيره في تشكيل البناء العام للعمل الأدبي، على اعتبار أن العمل الأدبي أو النص بعمومه هو صورة يقوم الكاتب أو الأديب في تجسيدها شعراً أو نثراً. فهي تعبر أيضاً عن جماليّة البناء الفني في فضاءات الإبداع. وهي كما قال أحد النقاد تشكل عنصراً هاما من الركائز التي يقوم عليها العمل الأدبي، كالأسلوب، اللغة، والموسيقى. لذا هي لا تعبر فقط عن إحساس وعاطفة الأديب أو المبدع فحسب، بل تعبر أيضاً عن حقائق وصور من واقع الإنسان وعن تجارب الشاعر وخلجاته ومكوناته التي يكشف عنها بطريقه بالغه الدقة والروعة بعد أن رسمها بحواسه، وعبر عنها بعاطفته المشحونة بالإحساس. وهذا ما يجعل المتلقي لهذه الصورة أن يعيش التجربة مع الشاعر فيتفاعل معه ويفهم تجربته ويحس بها. وعلى هذا الأساس نستطيع القول إن الشعر ليس فقط تعبيرا بسيطا أو سطحيّا عن التجربة الفرديّة الذاتيّة للأديب، بل يتجاوز ذلك إلى تصوير الظواهر الاجتماعيّة بكل دقه مستعينا في ذلك باتساع مخيلته، وقوه لغته، لتنتج صوره شعريّة قويّه ومؤثره للكشف عن جوانب خفيّه في تجربته الشعريّة وعكس مستوى هذه التجربة وقدرات الشاعر الفنيّة والأدبيّة. ومن خلال تتبع المتلقي للصور داخل القصيدة ودراسته لها يستطيع أن يَلمّ – أو على الأقل يحسُّ- بما يريد الشاعر أن يقوله من خلال نصِّه الشعري فكل صورة في العمل الفني كما بينا عند حديثنا عن وظيفة الصورة، تؤدي وظيفة محددة كما أنها تتعاون مع غيرها على إبراز الصورة الكليّة للقصيدة والإيحاء بالجوّ العامّ الذي تحاول القصيدة التعبير عنه، وكل صورة فنيّة في القصيدة يجب أن تحمل صدق الأداء. وميزة الصورة الخصبة أنْ تُشع في كل اتجاه وأنْ تسمح لك باستكاناه مزيد من المعاني كلما أوغلت معها بحسك. إنها صورة معطاءة تكشف عن المزيد دائماً (14).

****

د. عدنان عويّد:

كاتب وباحث من سوريا.

...........................

هوامش البحث:

1- (الصورة في شعر السيّاب (أنشودة المطر أنموذجا)- مذكرة لنيل شهادة الماجيستير في إختصاص قضايا الأدب- من إعداد الطالبة : آریمة بوعامر، ز. یونس - جامعة الجزائر كلية الأدب العربي واللغات – قسم اللغة العربيّة.).

2- (مفهوم الصورة الشعرية – موقع الدكتور عبده منصور المحمودي – https://dr-almahmoodi.com/مفهوم-الصورة-الشعرية/).

3- .( الصورة الفنية وأهميتها في الشعر – مفهوم الصورة الفنيّة - مصطفى بن الحاج – موقع https://daifi.yoo7.com/ ). بتصرف.

4- (علي البطل - الصورة في الشعر العربي - دار الأندلس - بيروت ١٩٨١- ص ١٥ ).

5- (5). (أبو عثمان الجاحظ، الحيوان، ج ٣، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الكتاب العربي، بيروت – ١٩٦٩- .١٣٢، ص ١٣١).

6- (الصورة في شعر السيّاب (أنشودة المطر أنموذجا)- مذكرة لنيل شهادة الماجيستير في اختصاص قضايا الأدب- من إعداد الطالبة : آریمة بوعامر، ز. یونس - جامعة الجزائر كلية الأدب العربي واللغات – قسم اللغة العربيّة.). بتصرف.

7- (علي البطل، الصورة في الشعر العربي- دار الأندلس- بيروت 1981- ص- 17-18- .). بتصرف.

8- (يراجع لمعرفة المزيد عن هذه المذاهب المتأتى عليها دراسة - الصورة في شعر السيّاب (أنشودة المطر أنموذجا)- مذكرة لنيل شهادة الماجيستير في اختصاص قضايا الأدب- من إعداد الطالبة : آریمة بوعامر، ز. یونس - جامعة الجزائر كلية الأدب العربي واللغات – قسم اللغة العربيّة. بتصرف.).

9- (الصورة الفنية وأهميتها في الشعر – مفهوم الصورة الفنيّة - مصطفى بن الحاج – موقع https://daifi.yoo7.com/ ). بتصرف).

10- (الصورة الفنية وأهميتها في الشعر – مفهوم الصورة الفنيّة - مصطفى بن الحاج – موقع https://daifi.yoo7.com/).

11- ( في تعريف الصورة الشعرية وأهميتها – موقع - https://kmarabian.me/ .).

12- (الصورة الفنية وأهميتها في الشعر – مفهوم الصورة الفنيّة - مصطفى بن الحاج – موقع - https://daifi.yoo7.com/ ).

13- ( ينظر : الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري : دراسات في أصولها وتطورها، د.علي البطل، دار الأندلس - بيروت، الطبعة الأولى، 1980 م، ص24 . وكذلك : الصورة والبناء الشعري، د.محمد حسن عبد الله، دار المعارف، مصر- ص27.).

14- ( الصورة الفنية وأهميتها في الشعر – مفهوم الصورة الفنيّة - مصطفى بن الحاج – موقع https://daifi.yoo7.com/ ). بتصرف.

دراسة نقدية تحليلية في ضوء المناهج التأويلية والرمزية والسيميائية:

1 ـ مدخل تأويلي: تفتتح الشاعرة جهاد المثناني نصها بنداء داخلي يتخذ شكل "الصوت"، وهو المفتاح التأويلي المركزي الذي يرافق القصيدة حتى نهايتها. هذا الصوت ليس مجرد حامل للكلمات، بل هو الجوهر الوجودي الذي يفتح للذات إمكانيات البوح والإنصات. في التأويل الهيرمينوطيقي، يصبح الصوت بمثابة أفق للفهم: يُشَكِّل النص في وعي القارئ وينفتح على معنى يتجاوز اللغة نفسها. إننا بإزاء نص يعلن من البدء أنّه أكثر من قصيدة؛ إنه مشروع للإنصات إلى ما وراء الكلمات.

2 ـ البنية الرمزية:

القصيدة تزخر برموز متوالدة:

- الصوت: رمز للكينونة والهوية وللكشف الشعري.

الخريطة: ليست جغرافيا، بل جغرافيا الذاكرة والجرح والبحث عن الوطن.

- المشكاة: رمز صوفي للنور الباطني، يعيدنا إلى الآية القرآنية “الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح…”.

النخل والطين: رموز الانتماء، الأصالة، والجذور.

الضوء: رمز الخلاص، الانبثاق، والرؤيا.

تتضافر هذه الرموز لتُحيل إلى جدلية الانتماء والغربة، الجرح والأمل، الظلام والضوء.

3 ـ المنهج السيميائي:

من منظور سيميائي، يمكن النظر إلى النص بوصفه شبكة من العلامات التي تتداخل في ثلاث دوائر:

- الدائرة الذاتية: حيث تُعيد الذات كتابة أحزانها وأشواقها بلغة شعرية.

- الدائرة الكونية: الرموز الكونية (الشمس، الغيمات، النجوم) تمنح القصيدة بعدًا وجوديًا يتجاوز المحلي.

الدائرة الوطنية: العلامات المرتبطة بالبلاد، النخل، الطين، الخرائط… تشير إلى سياق وطني ـ سياسي، غير مباشر، لكنه متجذر في بنية النص.

4 ـ البنية الأسلوبية:

أسلوب القصيدة يقوم على:

- التكرار: (صوت، خرائطي، قصيدة…) الذي يولّد إيقاعًا داخليًا قريبًا من التراتيل الصوفية.

- المقابلات الثنائية: (الغربة/الانتماء، الضوء/الظلام، الجرح/الأمل) مما يضفي على النص طاقة جدلية.

- الصور الحركية: النص مشبع بالفعل (يُهدهد، يوزع، يريقني، يُعلّم…)، ما يجعل اللغة ذات طاقة دينامية، لا ساكنة.

5 ـ البعد النفسي والإيروتيكي المضمَر:

النص يكشف عن توتر نفسي عميق: الغربة التي تُرهق الذات، الحلم الذي يترنح، البحث عن الضوء الذي لا يتحقق إلا في اللغة. ثمة ملمح إيروتيكي باطني، لكنه غير مباشر: فالصوت يهدهد ويُراقص ويُناجي، ليصير الشعر نفسه بديلاً عن العناق الغائب. اللغة هنا ليست أداةً فحسب، بل حاضن عاطفي.

6 ـ البعد الديني والصوفي:

القصيدة مشبعة بإحالات صوفية: "المشكاة"، "الصلوات"، "النشيد"، "التنهيدة"، وكلها مفردات تتقاطع مع المعجم الروحي. الشعر هنا يمارس وظيفة صوفية: يكشف المستور ويعيد للحياة معناها الغائب.

7 ـ البعد الوطني:

في قلب النص يتجلى الجرح الجمعي، تقول:

 "ولتدركوا أن البلاد قصيدة أسكنتها في الروح في عبراتي"

الوطن يُختزل إلى قصيدة، لكن هذه القصيدة ليست زخرفًا، بل دمًا ودمعًا وتاريخًا. النص يربط بين الشعر والهوية الوطنية، فيتحول الحلم الفردي إلى وعي جمعي.

8 ـ الخاتمة:

يمكن اعتبار "نشيد الضوء" قصيدة تقوم على الحلم باعتباره فعل مقاومة. هي قصيدة تُزاوج بين الذاتي والوطني، بين الرمزي والواقعي، بين الصوت الفردي والنداء الجماعي. وفي ضوء المناهج التأويلية والرمزية والسيميائية، يتضح أن النص ليس محض بوح وجداني، بل مشروع شعري متكامل يعيد بناء الذات والبلاد بالكلمات.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...........................

نَــشِـــيــدُ الــضّـــوء

صَوتٌ

 يُوشوِشُ للرُّؤَى آهَاتِي

تَــنهِيدةً حَـنّت إلى

 النَّـايـــاتِ

*

ويُهدهِدُ الشَّوقَ الّذي فِي خَافِقِي

للأرضِ للأمطَارِ

 للغَيماتِ

*

كَم ضِفَّةً ألقَيْتُـها بِخَرائِطِي

فَتعَثَّـرت بِالشّمسِ

 فِي كَلمَاتِي

*

إنِّي أُشَكّـلُ في القَصائِدِ

 لَهفَتِي

لمَواسِم التَّرحَالِ

 في صَلوَاتِـي

*

وأذِيبُ فِـي وَهَجِ المَجَـاز

 تَوَقُّدِي

لأُشَـكِّـل الأطفَالَ

 مِن ضَحِكَـاتي

*

وأُعيدَ تَرتِيبَ الخَرائِطِ

 فِي دَمِي

وأصُوغَ مِن وَهَـجِ الرُّؤَى

 لَاءَاتِـي

*

صوتٌ

 يُـوزِّعُ في المَـدَائِنِ غُربُـتِـي

ويُـرِيقُـنِـي

 فِي غَفوَةِ المِشْـكــاةِ

*

إنِّي الّتِـي عَلّقتُ حُلمَ خَرائِطي

فَوقَ الضِّيَـا

 للعَابرِينَ.. لِـذاتِــي

 *

ودَعَوْتُ أسرابَ الحَمَامِ

 سَنَابِـلي

أنْــبَــتُّــهُم كَالشّمسِ

 فِي شُرفَاتِــي

*

إنٍّي وبَعض قَصَائدِي

 حُلمٌ بَدا

وَجْــهًا يُــعَـــرّي خِـــسَّــةَ الِمرآةِ

*

يا أيُّــها الماشُونَ فَوق جِرَاحِنَا

لَا تَستَبـيحُوا فِـي المدَى

أنَّــاتِــي

*

ولْتُدرِكُــوا أنَّ البِلادَ قَصِيدَة

أسكَـنْـتُـها فِـي الرُّوحِ

 فِـي عَبراتِـي

*

وكَـتبَتُـها بِالطِّيـنِ ذَاتَ تَوهّــجٍ

جَـمَّـلتُـها

 بِالنّخلِ بالسَعفاتِ

*

صوتٌ

 يُرمِّمُ فِـي المسَاءِ تَنهُّدِي

ويُعلّمُ الأسمَاءَ للطُّرقَـــــاتِ

*

هَل يُدرِكُ الدَّربُ القَديمُ مَواجِعِي

لِــيُـرتّـقَ الجُرحَ الْـ حَوَت خُطواتِـــي

*

كَم خطوَةً نَحو الضِّيَا لَاحَقتُـهَا

فَـــتَـبَـرعَمت فِـي المَـاءِ

 كُـلّ جِــهاتــي

*

وتَعَلّقَـت بِالتّــيهِ بَعضُ مَواجِدِي

عِندَ اكـتِظَاظِ الرّيـحِ

فِـي الفَـلواتِ

*

إني وهَذِي الأرض مَحضُ قَصِيدَةٍ

صَـــوتٌ

يُــنَــاجِــي اللّحنَ فِــي النّغَمَاتِ

*

أرجُوحَـةٌ للحُبِّ تَعـبُـر خَـافِـقِــي

يَصحُو نَـشِـيدُ الضَّوءِ

 فِـي نَـجـمَاتِـي

***

جهاد المثناني

 

قصيدة «الظل والقرين» لفاطمة معروفي نصّ غنيّ بالإيحاءات اللونية والرمزية، وتمرّ من صور انفعالية إلى مشاهد أسطورية وفلسفية تبدو فيها الذات المتألمة منقسمة بين قطبين: ظِلٍّ باهتٍ/مكبَّلٍ وقرينٍ ثائرٍ/نارٍ. هدف هذه الدراسة أن تقرأ النص قراءة هيرمينوطيقية-تأويلية متداخلة مع مناهج أسلوبية، رمزية، سيميائية، ونفسية ودينية، للكشف عما «تحت الجلد» من نبضٍ وتوترٍ ورمزٍ، ومن ثَمّ الوصول إلى قراءة متعددة المستويات للمعنى والوظيفة الشعرية.

1. مستوى القراءة الحرفية والهرمينوطيقية: الفهم الأولي والتأويل.

على مستوى السطح، القصيدة تطوى صورة ذاتٍ تواجه حالة صمت ضوضائيّ، وشدّة داخلية تُترجَم بتناوب ألوانٍ وعناصر (زرق، أحمر، نار، زمهرير، غمام أحمر). هرمنوطيقياً، النص يستدعي سؤال القراءة: من يتكلّم؟ ما مرجعية «القرين»؟ هل هو جزءٌ من الذات أم كائن خارجيّ؟ التأويل الأولي يميل إلى قراءة ثنائية: «الظل» رمز للامتلاك/الجمود/الصمت، و«القرين» رمز لقوى الانفعال والغضب والأثر الماضوي الذي يختزن جرحاُ، الحركة داخل القصيدة تبدو رحلة انصهارٍ ومحاولة تحويل الألم إلى فعل (حمل الكأس، الإبحار، الزراعة)، وهو تحويلٍ رمزي يعني رغبة في معالجة الجوع الأخلاقي والروحي بالعطاء/التغذية.

2. البنية اللغوية والنحوية: من اللغة إلى النحو.

التراكيب والأسلوب: تتوالى الجمل بين الجملة الاسمية والمقاطع الجملة الخبرية المختزلة: «ضوضاء الصمت...... / من حولي تكبل نقطي» — استخدام الفعل «تكبل» (نحو مفعولي) يوحّي بالقيْد الجسدي للنَّقطة الصغيرة (النفس). التقطيع النحوي، بالتناوب بين مقاطع قصيرة وطويلة، يخلق إيقاعًا ينفخ في النص توتّراً.

-المفردات والموسيقى الداخلية: المفردات مركّبة بين شفافة ومجازية: «نقطي»، «القدر الموشومة»، «قزح»، «الزرقاء»، «إعصار أحمر»، «زقوم». ثنائية الصوت (الحروف الحلقية والوقفات) تُنتج توقّفًا دراميًا في أماكن محورية (مثلاً بعد «تؤرقني غفوة........تؤرقني ذكريات...»).

-الضمائر والمرجع: المتكلم «أنا» يصبح مرجعًا مركزيًا لكن النص يحتفظ بغموض «القرين» و«الظل»؛ هذا الغموض المنظور يفتح المجال للتأويل النفسي والاجتماعي.

3. الإيقاع، الوزن، والقافية:

القصيدة لا تلتزم بنظام بحري كلاسيكي واضح؛ هي أقرب إلى الشعر الحرّ/التفعيلة المعاصرة حيث يُستغل التقطيع والوقفات لإنشاء إيقاعات داخلية:

- التكرار الصوتي (مثل تتابع حروف «ت-ق-ل» في «تَكْبِل/تَتَمَسَّح/تَتَخَلّل») يعطي إيقاعًا انسداديًا يوازي محنة السارد.

- التكرار الدلالي («تؤرقني...تؤرقني») يعمل كوسيلة عراقية لزيادة شدة الانفعال.

- غياب قافية موحَّدة يُركّز الانتباه على التوحيد اللوني والدلالي بدلاً من الإيقاع القافي.

4. البنية الرمزية واللونية (الألوان والأنماط الرمزية)

- الألوان في النص ليست تلوينًا تجميليًا بل رموز وظيفية:

١- الأزرق (الروح الزرقاء، جوف الروح الزرقاء): أقرب إلى الكآبة، الحزن، الروحانية، أو حالة الامتلاء الداخلي التي تخترقها غيومٌ من غضب.

٢- الأحمر/النار/الإعصار الأحمر/الغمام الأحمر/زقوم: لون العنف، الغضب، الشغف، وربما العنف السياسي/الاجتماعي. استخدام «زقوم» حَمَلَ دلالةً دينية/قرآنية—وهو نبات العذاب في القرآن—وبالتالي يُدخل بعدًا عقائديًا عن العقاب والجوع والعدمية.

٣- الأخضر (كف البساط الأخضر/دروب اليقظة): دلالةُ أملٍ أو حياة أو أرض، لكن هنا يبدو الأخضر كمرجعية للتوازن بعد انفجار الغضب.

- الظل والقرين: الظل كموازة أو قيد، والقرين كمرافقة لا مفر منها — مفهوم القِرِين في التراث يمكن قراءته كالنفس الثانية أو الشيطان المرادي أو النديم — وهذا يثري تعددية الدلالة.

5. البُعد النفسي: صراع الذات والذاكرة والجروح

النص يحتوي على توترات نفسية واضحة: «ذكريات ماض وحاضرسقيم / لا زال حنقه يغزو وشم غائرا» — هذا يشير إلى جرح قديم مستمرّ التفاعل مع الحاضر.

«القرين» هنا يمكن أن يُقرأ من منظور فرويدي/يونغي: كظل يونغي (Shadow) يحمل الاندفاعات المكبوتة، أو كقرينٍ يرمز إلى الجزء اللاواعي/المحرَّم في الذات. الصراع بين الظل والقرين قد يصبح صراعًا داخليًا بين قِيم/ذاكرة مضطربة ورغبة في التطهير/التحرك.

- الفعل الرمزي «أحمل كأسي...وأنطلق لأبحر بسفينة» قد يمثل محاولة للشفاء عبر الفعل أو التضحية أو الرحلة العلاجية.

6. البعد الديني والتراتبي: إشارات قرآنية وأساطير أخلاقية

استخدام «زقوم» مباشرة يفتح النص إلى شبكة من الإشارات الدينية: النبات المعذِّب في الآخرة، مرتبط بالعقاب والجوع الأخلاقي. إدماج هذا المصطلح لدى الشاعرة ليس مصادفة بل استدعاء منظومة قضائية/أخلاقية كبرى تُدِين أو تُحاكم الفعل الاجتماعي.

«موطنها دم يسيل»: هذه العبارة تُحيل إلى مظالم تاريخية أو نكبات تحدث في عالم الحياة، وتربط البُعد الديني بالمأساة الوطنية أو الجماعية.

- التزاوج بين رمزية دينية ولونية (أحمر/نار/زقوم) يجعل النص يتحوّل إلى نص نبوئي/تأملي يحاكم واقعًا أخلاقيًا.

7. البُعد السيميائي: العلامات والرموز كأنظمة دلالة

نستخدم هنا ثلاثة مستويات سيميائية:

1. العلامة الدلالية (المعنى المباشر): كلمات مثل «نقطي»، «كأس»، «سفينة»، «غضب»، «زمهرير» تشير مباشرة إلى عناصر ملموسة ومجازية.

2. الرمز كنظام ثقافي: «زقوم» كرمز ديني، «قرين» كرمز تراثي/أسطوري، و«الظل» كرمز فلسفي (الوجود واللاوجود).

3. الإيقاعات البصرية والصوتية كرموز تصميمية: التقطيعات والوقفات والفواصل (........) تعمل كإشارات للتوقُّف والاختناق والبحث عن نبرة صوت داخلية.

اللغة هنا تعمل كنظام سيميائي متعدد الطبقات؛ لا تُشير إلى حالة واحدة بل تکوّن حقلًا دلاليًا يطال المتلقي لإعادة بناء معنى مركب.

8. البُعد الوطني/الاجتماعي: قراءة سياسية ممكنة.

على الرغم من أن النص لا يذكر أسماءاً سياسية، فإن ثنائية «موطنها دم يسيل / كيسول متدفقة / نحو صراخ السماء» تفتح الباب لقراءةٍ وطنية أو اجتماعية:

يمكن أن تُقرأ الصور الأخيرة كاستنطاق للواقع السياسي/الاجتماعي: شعب جائع/مُدَمَّر، أرض ممتلئة بالدم، و«صراخ السماء» كدعاء أو نداء أخلاقي.

«أطعم بها أفواها وبطون جائعة» يضع السارد في موقع منقذ أو مُعالج، أو على الأقل رؤيا ترتبط بمسؤولية إنسانية/وطنية تجاه الجوع والظلم.

9. الأسلوبية والاشتغال البلاغي: استعارات، تكرارات، وتناصّ

- الاستعارة المركبة: «تنهيدة فضية الحمم» — جمع بين سِلمين متناقضين (الفِضي النقي والحَمَم الملتهبة) لخلق صورة متنافرة تؤكد ازدواجية المشاعر.

- التناصّ: استحضار «زقوم» يخلق تداخلاً مع نصوص دينية/أدبية سابقة، مما يُكسب النص ثقلًا ثقافيًا ودينيًا.

-التكرار: يُستخدم لتعميق الانفعال «تؤرقني...تؤرقني»، ويعمل كرؤية إيقاعية داخلية.

10. الصوت: المتكَلِّم والصوت الشعري والمرجعيات

الصوت الشعري هنا صوت متأمّل ولو أنثوي في شكله الدلالي؛ لكنه لا يغلق الطريق أمام قراءات متعددة، إذ إن «القرين» و«الظل» يمكن أن يكونا شخصين خارجيين أو جوانب من الذات. التناوب بين النبرة الشكوكية والنبرة الفاعلة (حمل الكأس والزرع) يكشف عن وعي شعري يسعى للتغيير عبر الفعل.

11. التوترات الجمالية: بين التجريد والتركّز الاجتماعي

النص يتأرجح بين:

- التجريد الرمزي والفلسفي (الظل، القرين، الروح الزرقاء)،

- والحمولة الاجتماعية/الوجودية (الجوع، الدم، الزقوم). هذا التراكب يجعل النص غنيًا لكنه أيضًا يطرح تحديًا للقراءة: فهل التركيز على القبض النفسي أم على الحكم الاجتماعي؟ الجواب: كلاهما، بطريقة تكاملية تجعل القصيدة عملًا متعدد المعاني.

12. قراءاتٍ بديلة وأسئلة بحثية:

- قراءة يونغية مفصّلة: هل يمثل «القرين» الظلّ الجمعيّ؟ وما علاقة ذلك بالذاكرة الجماعية (الحنق/الوشم الغائر)؟

- قراءة تاريخلية/سياسية: هل «موطنها دم» إشارة إلى حدث تاريخي معيّن؟ كيف يتحول الفرد المؤلم إلى مرآة لوجع الأمة؟

- بحثٌ في الدلالة الدينية: استخدام «زقوم» و«الكأس» والـ«سفينة» — هل هناك استعارات فاضلة من النصوص المقدسة أو التراثية يمكن ربطها بالسرد الشعري الحديث؟

13. الخلاصة: قراءة مُركّبة:

«الظل والقرين» قصيدة تعدُّ فضاءً تأمليًّا مركبًا: هي نصّ صراع داخلي، لكنها في الوقت نفسه مرآة لألم جماعيّ/وطني. الشاعرة توظف مجموعة من الرموز اللونية والدينية واللغوية لبناء سردٍ شعري يحوّل الصراعات النفسية إلى مشاهد أخلاقية وسياسية. فناً، تُظهر القصيدة قدرة على المزج بين العمق العاطفي واستدعاء التراث والرموز، مما يجعلها قابلة لقراءات متعددة وغنية لمختلف المناهج النقدية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

الظل والقرين

ضوضاء الصمت......

من حولي تكبل نقطي

تمسح من على الجبين قطرات

القدر الموشومة

بين الظل والقرين

*

تنهيدة فضية الحمم

تشد وثاق الروح

تتملك سلاطين قزح

صلبة الصلب المائي تعبر بالمسير نحو الأسير

تؤرقني غفوة........تؤرقني ذكريات ماض وحاضرسقيم

لازال حنقه يغزو وشم غائرا

بجوف الروح الزرقاء

يتخللها إعصار أحمر

يسقي مارجا من نار

*

لينطفئ الغضب ....

الساطع بكف البساط الاخضر

ودروب اليقظة والحلم

حروفا وأرقام ........

تهوى من الأعالي

مكسورة المشكاة

تصارع قيود الذات الزائلة

تبقى معلقة

بين الشهيق والزفير

بين النار والزمهرير

*

لأحمل كأسي .......

الممتلئ حروفا نارية

وأنطلق لأبحر بسفينة

من الغمام الأحمر

أزرع فيها روضة شجر من زقوم

أطعم بها أفواها وبطون جائعة

*

لا تكتفي بتراب الأرض

بصرها ثاقب جشعها كاسر

موطنها دم يسيل

كيسول متدفقة

نحو صراخ السماء ........

***

فاطمة معروفي

 

حين يحمل الفضاء هم الانسان

«من يجرؤ على كتابة زقاق كأبو الرؤوس غيري أنا، أبو الرؤوس نفسه، برؤوسه المتعددة. أنا الزقاق الصغير ...»[2]

بعد القراءة..

رواية «طوق الحمام»، رغم عدد صفحاتها التي تجاوزت 560 صفحة، ورغم التعب والإرهاق والتيه الذي خلفته قراءة هذه الصفحات، إلا أنها وضعت الأصبع على حالة هي تيمة الرواية، تمر علينا نعتبرها تغييراً أو توسيعاً أو إضفاء جمال على مكان، وهي في حقيقتها زجُّ بالفضاءات إلى النهاية والمحو.

«طوق الحمام»، علامة تجرأت لتقف فوق أرض بدأ يزحف إلى فضاءاتها الهدم والتيه والنسيان، وهي التي عرفت خطوات من القداسة ما يجعلها محجا ومزارا.

«طوق الحمام»، أتعبتني وأنا أجوب فضاءاتها وأتتبع سيرها وأفك أسرارها، وعلامة إكس الحمراء لا تفارق خطوي، بل تجعل السؤال وخزا يعيدني إلى حقيقة الحكي، الهدم والمحو والنسيان.

العلامة..

علامة إكس حمراء، بداية لمحو فضاءٍ تهدده كاسحات وآلات ضخمة تجوب عوالمه لتحيله عدم، هباء، في حين يسعى آخرون في الجهة الأخرى من البحر المتوسط حيث ينام الفردوس المفقود هادئا مطمئنا يحكي تاريخا يجر أسرارا وأحلاما، إلى إحياء فضاءات ـ لا تحمل ذواتهم حين يضعون علامات غير التي تُغرق أجواء مكة، ليضفوا عليها ـ من الجمال كما يزعمون ـ ما يطمس عبقها العربي والإسلامي لتُصبح فردوسا آخر غير الذي كان.

علامة إكس حمراء، نهاية لتاريخ كان بالأمس حاملا لعلامات تشع نورا وإيمانا، حين كان الحجيج يأتون تدفعهم اللهفة إلى احتضان فضاءات تحمل من القداسة ما يقربهم إلى الله، ومن الحب ما يدفعهم إلى التبرك حد التمسح بالدور والأبواب والستائر والحجر، وتجعلهم ينظرون بقلوبهم إلى أرض تحمل من الأثر ما يدفعهم إلى الاعتقاد والإيمان.

علامة إكس حمراء، بداية لنهاية تاريخ بالأمس كان يحمل أكثر من معنى وأكثر من علامة داخل نفس الإنسان الذي ينشد النور، تُضيئ بين جوانحه طلبا للراحة والتقرب واللقاء، ومدى يمتدُّ بلا انتهاء، تسرح فيه الروح صاعدة إلى الملكوت الأعلى وتعود وقد لفَّها العشق والسكون، لكنها الآن، حين تجوب دروب مكة وأزقتها تصدمها علامات إكس الحمراء التي توالدت كالفطر المسموم لتقف بها إجباريا، متحسِّرة على ماضٍ اتَّكأ على علامة تحمل في طياتها خرابا ودمارا وتشويها.

حين يُصبح الفضاء بطلا..

الفضاء في «طوق الحمام»، ينسلخ من جموده، من أزقته، من شوارعه ودُوره، ليُصبح واحدا من شخوص الرواية، بل أهم شخوصها فيتأنسن ويزرع فيه السارد الروح فيحيا، يحب ويكره، يبكي ويفرح، يحاور ويهمس، «أنا ابو الرؤوس أتبرأ من كل هذا.»[3]

تكثر العلامات الحمراء لون الدم، إيذانا بموته، فيثور ويغضب ضد عدم الصلاحية «شد على الكيس بيده وصعد، عينه تذهب للقطات لأبواب بيوت معلَّمة ب (X) حمراء، علامة عدم الصلاحية للسكنى..»[4]

الفضاء يحاول أن يتشبث بالحياة حين طاف على حوافيه وبداخله طائف الهدم والاجتثاث تحت طائلة التوسيع والتحديث، وهو الفضاء الذي لا يبحث من التحديث إلا ما يُزهر قلب المؤمنين الزائرين، في حين هناك، بعيدا، فضاءٌ آخر ميت يسعى إلى النهوض من الرماد وبعث الروح في أركانه، وفي الخطوات التي عبرته قديما واسمةً جوانبه بمسوح مسيحية تصل حد العداء ضدّاً على الثقافة العربية والإسلامية بدعوى النهوض بالسياحة.

تستشعر الموت وأنت تجوب فضاءات الرواية وعوالم الحكي، موت بصيغة الجمع، «الأرض تتشبع بالموت»[5]، «الموت في مكة وصول ونهاية»[6]

الموت عباءات سود تُخفي معالم الجمال، وتوقف نبض الحياة المتعطش للبياض والنور والانطلاق، الموت علامة إكس حمراء، وقفٌ لحياة وتشويهٌ لخطى لا زالت تبحث عن موقع قدم تؤكد صلاحية المكان، بل نورانيته وقدسيته، الموت أوراق تحبل بالأسرار، ودفائن مكنونة في غياهب الذات، ونوافذ مشرعة من جريدة «أم القرى»، تحكي أسرارا رقاقا تختزن تاريخا قديما يبوح ببعض السر ويخفي الكثير، بل تختفي الرقاق ومعها الحقيقة.

الموت مرض عضال، سرطان يجوب جسد «خليل» يأكله من الداخل ويسير به وئيدا نحو النهاية رغم إعلان الحرب عليه، الموت انتحار، وقفٌ للحياة عبر الارتماء من علٍ ساحباً معه السر، تاركاً المحقق «ناصر» وآخرون يبحثون عنه بين النوافذ والرسائل والرقاق والأسئلة، بين الاتهام والنفي، بين الرسوم والوصايا.

بهذا المعنى الكبير والعميق، يسير الموت فاردا جناحية من بداية الحكي إلى منتهاه، من علامة إكس الحمراء إلى حدود المحو والتشويه الذي يستعر معه لهيب النار فتحصد الأوراق والذكريات وينهمر الدمع غزيرا يُنبئُ بالنهاية.

أليست النهاية موتا؟

«طوق الحمام»، حكيٌ يتلو أسراره من نوافذ وأوراق، وأبواب بلا مفاتيح مشرعة على الآتي الذي يحمل الموت علامات، كما يحمل الدمار تشويها لمعالم وفضاءات وسمت وتسم الزائرين والعاشقين باليقين الذي ينفتح له المدى ليعم النور، أو ما تبقى منه.

كيف للأبواب أن تنفتح والمفاتيح تسافر قاطعة المسافات رسما وتجسيدا وحكايات؟ كيف للنوافذ أن تُطل على الحقيقة والكلمات المُلغزة تطمس ضوء الحروف تغلفها العتمة والتيه؟ كيف للرسائل أن تبوح بأسرارها وهي تستعصي لحد رفض تسليم عوالمها إلا لمن ملك السر؟ كيف يملك السر من تهدده علامة (X) حمراء؟

كيف لمدينة أن تصمد أمام العلامات الحمراء المؤذنة بالخراب والدمار والتشويه وعدم الصلاحية؟

تلك أسئلة اخترقت جبروتها الكاتبة بقوة لتعرّي حالة/حالات تحتلها علامات الموت، وتهددها بالمسخ حين يسعى الآخر إلى بعث الروح في فضاءات كانت علامة على تواجد قديم، عامر بالعشق والحب.

«طوق الحمام»، علامة بارزة، قوية تنذر بالكارثة قبل وقوع الكارثة، صوتٌ ـ عبر الحكي ـ يسير مُشعّاً ليفضح الظلام والعتمة التي تزحف ببطء لتغيير فضاءات تحارب التيه والمحو بالإيمان والبحث والصراع والسؤال، ولذيذ الحكي.

***

الدار البيضاء

عبد الهادي عبد المطلب

.........................

[1] . رجاء عالم. طوق الحمام. الطبعة الثالثة 2011. المركز الثقافي العربي.

[2]. ص 7

[3] . ص 8.

[4] . ص 414 و415.

[5] . ص 439.

[6] . ص 439.

دراسة نقدية في شعر الشاعرة د. مرشدة جاويش

*  المقدمة وإشكالية البحث: بشكل الشعر النسوي العربي المعاصر فضاء إبداعياً خصباً لتفجير اللغة واستعادة الجسد وتوليد أنماط جديدة من القول الشعري، حيث تتجاوز المرأة فيه حدود التعبير التقليدي نحو تأسيس كتابة أنثوية حداثية. وفي هذا السياق تنفتح قصيدة مرشدة جاويش «حين يتهجّى الجسد مجازه» على شبكة من الثنائيات المتوترة:  الصمت/الكلام، الجسد/اللغة، الرغبة/الغياب، لتعيد صياغة علاقة الذات بالعالم عبر استراتيجية جمالية ترى في الصمت ليس انطفاء بل احتراقاً داخلياً يفرز المعنى. ومن هنا تبرز إشكالية البحث: كيف يتحول الصمت في هذا النص إلى احتراق خلاق ينتج كتابة نسوية تتجاوز الفردي نحو الكوني؟ وانطلاقاً من هذه الإشكالية، تبنى فرضية الدراسة على أن القصيدة لا تعكس تجربة وجدانية معزولة، بل تؤسس لمشروع شعري حداثي / نسوي يوظف الصمت كأداة جمالية معرفيةو صوفية.

*  الإطار النظري

ينفتح النص على جملة من المرجعيات النظرية التي تسهم في تفسير بنيته العميقة: فالحداثة الشعرية عند رولان بارت ترى أن ولادة النص تتحقق عبر تصدع اللغة المألوفة، حيث يغدو الصمت مادة للقول. أما التحليل النفسي عند لاكان  فيبرز أن الرغبة تسكن الدال وتتحرك بين العلامات، فيما يؤكد فرويد أن المكبوت يعود متنكراً في صور رمزية. ومن منظور النقد النسوي، طورت  Hélène Cixous  مفهوم( écriture féminine)  أو كتابة الجسد، التي لا تسجل تجربة المرأة من الخارج بل تعيد كتابة الذات من الداخل. وتلتقي هذه المرجعيات مع البعد الصوفي في نصوص الحلاج وابن عربي، حيث يمثل الاحتراق فعلاً وجودياً يذيب الحدود بين الأنا والآخر.

* اللغة كاحتراق دلالي

انطلاقاً من ذلك، تتبدى اللغة في نص د.مرشدة  جاويش بوصفها مجالاً للاحتراق، إذ تقوم على جمالية الانفجار الدلالي عبر صور مثل: «اشتعال السكوت» و«تفور بي نيران» و«كأنّي وُلدتُ من احتراق الرغبة». هذه التراكيب لا تحيل النار إلى معناها الفيزيائي، بل تحولها إلى ميتافور وجودي–إنشائي يعيد تشكيل اللغة ذاتها. وهكذا يتحقق ما يسميه بارت «تصدع الخطاب المألوف»، حيث تضيق اللغة التقليدية لكنها تنتج من خلال وحداتها الصغرى (النقطة، الرعشة، الشهقة) طاقة دلالية جديدة. ومن هنا ينتقل النص من المحاكاة (mimesis) إلى الإنشاء (poiesis)، أي من تمثيل الواقع إلى توليد واقع لغوي مغاير.

* الجسد والرغبة في النص

كما يعيد النص تموضع الجسد ليغدو جهازاً دلالياً، لا موضوعاً خارجياً. فالقصيدة تقول: «أتحسّسني نبضاً ينسلّ من مسامّ الرعشة / كأنّ الجلد يُزهر بالشّهقة».

هنا تتماهى العلامة الشعرية مع الرغبة اللاواعية ، في تجسيد لما يسميه لاكان «تموضع الرغبة في الدال».

  اي تصبح العلامة الشعرية (النبض، الرعشة، الزهرة) وسيطاً للرغبة اللاواعية. إن «انزياح اللغة» (déviation du langage) يعكس في جوهره انزياح الرغبة، أي انتقالها من المكبوت إلى التعبير الرمزي.

أما عودة المكبوت الفرويدي  فتتجلى في قولها: «ألف أنثى تنبثق من ظلي»، حيث يتحول الغياب الاجتماعي والثقافي إلى فائض رمزي يضاعف حضور الأنا الأنثوية. إن الصمت هنا لا يمثل كبتاً  سلبياً، بل يحتضن الرغبة ويحولها إلى احتراق داخلي يولد اللغة.

إذن، النص يظهر علاقة جدلية بين الهو (id) و الأنا (ego)، حيث يترجم «الصمت» كبنية كابتة، لكنه يتفجر في شكل «احتراق» هو في جوهره عودة للرغبة المقموعة...

* كتابة الجسد واستراتيجية النسوية المضادة

وعلى مستوى الكتابة النسوية، تتجلى écriture féminine في تمحور النص حول الجسد، فقولها: «عرّيتُ صبري من كبرياء الحذر / أزحتُ ستائر الخفر عن نفسي وارتجفت»

 يظهر أن الكتابة فعل تعرٍّ رمزي، أي رفع للأقنعة المفروضة اجتماعياً على الأنثى. إن النص لا يكتب الجسد كموضوع للنظرة الذكورية، بل يقدم الجسد كفاعل كتابة يترجم رعشته إلى نص. فالجسد هنا ليس غائباً يكتب عنه، بل هو الحاضر الكاتب الذي يترجم رعشته إلى نص. ويؤكد ذلك قول الشاعرة: «كأنّ الجلد يُزهر بالشّهقة»، حيث تتحول التجربة الحسية إلى بلاغة جسدية، أي بلاغة تتأسس على الإيقاع الحيوي للأنثى.

كما أن حضور الغياب ذاته (في قولها: «فسيفساء الغياب») يمثل استراتيجياً نسوياً مضاداً: تحويل ما فرض على المرأة كغياب إلى حضور شعري يتمظهر في فسيفساء لغوية.

وبذلك تتحقق استراتيجية نسوية مضادة تفكك البنية البطرياركية، عبر ما يسميه أوستن وباتلر بـ «الأفعال الإنجازية» (performative acts)، حيث يتحول القول إلى فعل تحرري داخل النص.

* البعد الصوفي والاحتراق كقربان

ولا يقف النص عند حدود الرغبة الجسدية، بل يتجاوزها إلى أفق صوفي حيث يتجلى الاحتراق كقربان معرفي. فالقصيدة تقول:

 «أطلّ منّي عليّ / فأصير مرآةً لجرحي المتورّد في ندى الذكرى».

إن هذه الحركة تمثل حواراً داخلياً يفضي إلى ذوبان الحدود بين الأنا والآخر، في استعادة واضحة لرموز الحلول والاتحاد عند الحلاج وابن عربي. وهنا يصبح الاحتراق فعل ذوبان يتخطى الفردي إلى الكوني، ويحول الصمت إلى تجربة رؤيوية.

 إذاً ،  النص الشعري عند الشاعرة مرشدة جاويش يشتغل كـ مختبر لغوي/ نفسي / جسدي/صوفي، حيث تتقاطع الاستعارة مع اللاوعي، ويتحول الجسد إلى نص، والصمت إلى أداة مقاومة. وهو ما يجعل من النص نموذجاً لما يمكن تسميته: الكتابة الأنثوية الحداثية ذات الأفق الصوفي.

* مقارنة مع تجارب نسوية عربية أخرى

يكتسب نص مرشدة جاويش قيمته الإبداعية من كونه ينخرط في مشروع أوسع للكتابة النسوية العربية المعاصرة، حيث يتجاور مع تجارب لشاعرات مثل نازك الملائكة التي دشنت مسار تحرر الشكل الشعري، كما في قولها «سكن الليل / أصغِ إلى وقع صدى الأنات»، حيث يتحول الصمت إلى خلفية تولد منها الأصوات المكبوتة. وكذلك مع فدوى طوقان التي كتبت عن الجسد والغياب بوصفهما قيداً ودافعاً للكتابة: «وأفكر: هل هذا الجسد الأنثوي / سوى قفص يضيق بروحي؟». أما سعاد الصباح فقد أعادت إنتاج خطاب الجسد والرغبة بشكل تحرري–رومانسي: «أريد أن أكتب عن جسدي / عن حضارة تبدأ من شفتيك».

ما يميز الشاعرة مرشدة جاويش أنها تمزج بين هذه المسارات: فهي من جهة تلتقي مع هيلين سيكسو في فكرة «كتابة الجسد»، حيث يتحول الجسد من موضوع إلى فاعل نصي، ومن جهة أخرى تحاكي خطاب الصوفية في بلورة الاحتراق كقربان وجودي، كما تستثمر الصمت كبنية إنتاجية كما عند بعض الأصوات النسوية المغاربية التي كتبت عن الغياب بوصفه حضوراً كثيفاً. وبهذا المعنى، فإن نص الشاعرة مرشدة جاويش لا يقف عند حدود التجربة الفردية، بل يقدم بوصفه حلقة في سلسلة إبداعية نسوية عربية تسعى إلى تفكيك الخطاب الذكوري المهيمن، وتأسيس بلاغة جديدة للصمت والرغبة والجسد.

* الخاتمة والنتائج

 وبالتالي، وتكشف قصيدة مرشدة جاويش عن مشروع كتابة أنثوية حداثية تستثمر التوتر بين الصمت واللغة لتؤسس خطاباً شعرياً يتقاطع فيه النفسي مع النسوي، والجسدي مع الصوفي. إنها كتابة تقوم على الاحتراق الخلاق الذي يذيب الحدود بين الرغبة واللغة، وبين الغياب والحضور، لتقدم الذات الأنثوية نصاً يتوهج بالحرية و الكونية. وبهذا يغدو النص نموذجاً دالاً على قدرة الشعر النسوي العربي المعاصر على إنتاج بلاغة جديدة للصمت، حيث يستعاد الصوت عبر اشتعال السكوت، ويتحول الاحتراق إلى ولادة لغوية وجمالية ومعرفية متجددة ...

***  

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله

..............................

حِينَ يَتَهَجَّى الجَسَدُ مَجَازَهُ

وَيَغْدُو الصَّمْتُ مِرْآةً لِلاِحْتِرَاقِ:

اشْتِعالُ السُّكُوتِ

أُلامِسُ ما لا يُرى

نُقْطَةَ الضَّوْءِ الَّتي تَخْتَبِئُ

تَحْتَ سَطْرِ الغَوايَةِ

تَنْبِضُ بي كَأَنِّي أَتَهَجَّى

أَلْفَ أُنْثى تَنْبَثِقُ مِن ظِلِّي

أَتَحَسَّسُنِي

نَبْضاً يَنْسَلُّ مِن مَسَامِّ الرَّعْشَةِ

كَأَنَّ الجِلْدَ يُزْهِرُ بِالشَّهْقَةِ

حينَ تَهْبِطُ الحَوَاسُّ بِلا إِذْنٍ

عَلى فُسَيْفِسَاءِ الغِيابِ

يا جُوعَ المَدَى

يا عُرْيَ المَجازِ

يا رَغْبَةً تَتَقَمَّصُ نُبُوءَةَ السُّكُوتِ

أُطِلُّ مِنِّي عَلَيَّ

فَأَصِيرُ مِرْآةً

لِجُرْحِي المُتَوَرِّدِ في نَدَى الذِّكْرَى

عَرَّيْتُ صَبْرِي مِن كِبْرِياءِ الحَذَرِ

أَزَحْتُ سَتَائِرَ الخَفَرِ عَنْ نَفْسِي

وَارْتَجَفْتُ

لا خَوْفاً

بَلْ لِأَنَّنِي أَصْغَيْتُ أَخِيراً

لِجُنُونِي المُبَجَّلِ

تَفُورُ بي نِيرَانٌ لَمْ أُسَمِّهَا

تَضِيقُ اللُّغَةُ

تَتَّسِعُ النُّقْطَةُ

أَسْتَحِيلُ ضَوْءاً يَغْرَقُ في ضَوْءٍ

كَأَنِّي وُلِدْتُ مِنِ احْتِرَاقِ الرَّغْبَةِ

بِوَجْهِهَا الغَامِضِ

هاتِي الغِيَابَ

لِأَكْتُبَهُ عَلى جِلْدِي

هاتِي التَّنْهِيدَةَ

أُعَلِّقُهَا قُرْبَ نُقْطَةِ انْفِجَارِي

سَأَجْمَعُنِي مِنِّي

كَأَنِّي أَخْلُقُنِي مِن جُمْرِ ما لَمْ أُقَلْ

* * *

مرشدة جاويش

وصور المجاز وعناصره في مجموعة "هسيس الصمت"

يطغى على ديوان " هسيس الصمت " للشاعر المغربي عبد الله هجام الطابع المجازي، وما يتولد عنه من صور تحفل بها أغلب نصوصه، بالإضافة إلى جوانب وموضوعات أخرى تثري المتن الشعري وتشرعه على آفاق موسومة بالعمق الدلالي، والبعد الجمالي. وهو ما يطالعنا منذ النص الأول " هسيس الصمت " حيث نقرأ: " في آخر الليل/ الذي يحملني إلى عوالم /أدخل في دهشتها / كشاعر يحترق/ بفاكهة الثلج... " ص 3، فالهزيع الأخير من الليل يحمل الشاعر إلى عوالم مدهشة بصفة تشبيهية تحرقه بها فاكهة الثلج، فتغدو للثلج فاكهة يصعب تحديد طبيعتها وماهيتها. وفي نص " زهرة الأوركيد " نقرأ: " وأنت تضحك / في السر/ على جرح العالم / الذي يأسرنا / بسكر كلمات..." ص 10، فيضحك المخاطَب سرا على عالم معطوب يتحكم في محيطه بسكر كلمات، مما يفرز معاني ودلالات ذات حمولة رمزية منفتحة على تأويلات وتفسيرات شتى، وقوله: " وتلك النظرة الشاعرة/ التي تلقينها / من ثقب / نافذة الليل " ص 19، حيث تتطلع رؤية شاعرة عبر كوة نافذة الليل في استعارة النافذة لليل ومن ثمة إرسال نظرة حالمة لامتدادات فضاء يجلله بهاء ليلي  ساحر وأخاذ، وعبارة: " لحظة الاحتراق / بجذوة الثلج... " ص 24، في توليفة متناقضة الأطراف بين الجذوة في توهجها والثلج في شدة برودته حيث الاحتراق بجذوة الثلج وهو أمر غير شائع وغير مستساغ. وفي نص " عزلة الليل ": " أحيانا تعبرني / رعشة الكلمات " ص 28، في استعارة الرعشة والعبور للكلمات مع ما تتضمنه كلمة رعشة، وهي تَعْبُر ذات الشاعر، من دلالات متعددة المرامي والمقصديات، وقوله: " كلما/ اقترب مني / حزن المساء/ الذي يكسر / مرآة ذاكرتي" ص 3، فيصبح المساء حزينا، ويدنو من الشاعر، بل يقترف فعل تكسير مرآة ذاكرته، بأسلوب يتضمن تكثيفا مجازيا يخص الليل كزمن يجترح حركات ناشزة عن طبيعته وماهيته ؛من فعل اقتراب وتكسير، وتوظيف المرآة وما توحي به من صفات الشفافية والانعكاس. وفي نص " لوحة القصيدة " نقرأ: " وكنت آنذاك / وحيدا أمشي / داخل رأسي " ص 40، وهو تعبير مجازي يخلق أفقا مختلفا يخطو فيه الشاعر ويتحرك داخل رأسه في مشهد يشذ عما هو شائع ومعروف. هذا الزخم المجازي الغني بإيحاءاته وإشاراته أفرز صورا شعرية بمثابة امتداد لأشكال وتشكلات سابقة في تجسير العبور نحو نسق تقاطع وتواصل لتعبير متواصل الدلالات، مترابط الحلقات والدوائر كما ورد في عبارات من قبيل: " وأنت ما زلت /تسافرعبر/ألق الأشياء / التي تشدنا / بغواية دهشتها. " ص 11، بتصوير سفر عبر توهج الأشياء التي تأسر النفوس، وتطوق الأذهان  بما تعج به من دهشة وإبهار. وفي نص " سر البهاء " حيث يقول الشاعر: " وأنا أترجم / وجع الكلمات/ إلى أجمل / قصيدة تنبثق / من جذوة الثلج." ص 15، حيث تتم ترجمة الألم الذي يستشري في أوصال الكلمات إلى قصيدة تخرج من أتون ثلج مشتعل، وفي نفس السياق، وإشاعة لنفس المعنى نقرأ: " طعم قصائد / تنبثق من/حرقة الثلج " ص 17، وهي قصائد تنبثق من أوار الثلج ولهيبه، وما تختزله الصورتان من مفارقة يجسدها تَوَحُّد الثلج شديد البرودة والنار الملتهبة.و تصويره أيضا لمفعول سكر الكلمات التي تغوص في بواطن النفس لاستجلاء خفاياها، وكشف ما تضمره من مكنونات قصيدة يجللها الصمت: " بسكر كلمات / تستنطق بداخلنا / ما يبوح لنا به / صمت القصيدة " ص 23، والانتقال من ثمة إلى تصوير مقترن بالتشبيه لطيف فراشة يجذبها سحر الضوء الذي يشكل سبب احتراقها وهلاكها من خلال تحديد طَرَفَيْ مفارقة يستغرقها الإغراء والاحتراق: " كطيف فراشة / تحترق بجمال الضوء  " ص30، صورة تمتد عبر مساحات نأي وتيه مُؤلِّفَة بين الأنا والآخر ( ببعضنا ) اللذين يكتملان ويتكاملان لخوض غمار مخلفات جذوة على شكل رماد يحتفظ ببقايا أسرار: " الذي يجذبنا / أثناء الليل / وذلك كما / نتيه آنذاك / ببعضنا في / سر الرماد "ص"30. فيبزغ الثلج وينتأ متجددا ومتجليا من خلال تصوير نابع من رؤية بمسوحا ت جمالية وبعد دلالي: " وأنا أنظر / ندف الثلج / ترقص في الفضاء / كملائكة النهار" ص 47، في تشبيه لندف الثلج التي تملأ وتغطي الفضاء بملائكة النهار، وهو تشبيه مثقل بدلالات رمزية وعقدية تستدعي وقوفا متأنيا لاستشراف أبعادها، ونظرة متفحصة للغور في أعماق معانيها المختزلة في توصيف أكثر غنى وانفتاحا. وارتباطا بما هو مجازي فقد استخدم الشاعر عنصر التشبيه في أشكاله المعروفة: " أدخل في دهشتها / كشاعر يحترق / بفاكهة الثلج " ص 3، مقترنا بأداة الكاف، والذي تكرر في قوله: " كعشق امرأة /تنهش قلبي " ص 8، وفي الكثير من نصوص المجموعة ومقاطعها. مما يضفي على المتن الشعري جمالية في التعبير، وتنويعا في الأسلوب. ووظف أيضا الجانب الرومانسي كما ورد في نص " مساء الخريف: " وكانت آنذاك / شمس المغيب / تضفي على الأشجار / ألوانا زاهية / أكثر من /حمرة  أزهار/ شقائق النعمان... " ص 44، حيث متح من معجم طبيعي ُمَشكَّل من (شمس، وأشجار، ونبات )، وهو ما أسهم في إغناء نسيج المجموعة وتنويعها. فضلا عن موضوع الثلج الذي تكرر في العديد من النصوص معبرا عن حس وجداني رهيف وشفاف، وعمق دلالي يتضمن  عنصر المفارقة بمختلف أبعادها وتجلياتها: " كشاعر يحترق / بفاكهة الثلج " ص 3، على مستوى المعنى، وجماليته التعبيرية: " وأنا أنظر / ندف الثلج / ترقص في الفضاء / كملائكة النهار " ص 47، وهناك عناصر أخرى وردت في ثنايا الأضمومة، َوسَّعَتْ أفقها الرمزي، ورفعت من منسوب معانيه ودلالاته كالمكان الذي ربطته بالشاعر أواصر حميمية شكلت هوية وجودية تميزت بعمق كينونة تغذت وتشبعت بنسغ عشق ينهل من معين ِوجْد هادر، ومن فيض مشاعر لا تجف منابعها ولا تنضب فشكلت قصائد مستلهمة من دفء المكان ومحيطه: " كما كان يضفي / على قرية عين اللوح / سحر ذلك / الجمال الأطلسي " ص 17، قرية عين اللوح بأشجارها، ونباتاتها، ونصاعة ثلوجها، وعبق أجوائها اكتسحت كيان الشاعر، واستحوذت على لبه وذهنه ملهمة وموحية، عبر فضاءات خلوة تتربص بانخطافات الشعر وتتحايل للقبض على  بريقه والتماعاته لتشكيل قصائد تمعن في الانسلال و الانفلات، حيث يحضر مقهى الشلال الذي يعاين من خلال شرفته الشاعر روعة طبيعة الخريف وتجلياته: " وأنا بشرفة / مقهى الشلال / أرى أوراقا يابسة / تطفو فوق /سطح الماء" ص 43، كما استحضر أسماء ذات دلالات رمزية كالشاعرة المغربية فاطمة مسلاك: " كان صوت / فاطمة مسلاك / يأتيني خاشعا " ص 38،وباتريشيا عازفة الكمان: " وهي تلقي / عنا بدفء / قصيدة باتريشيا/ عازفة الكمان " ص 38، وفي مجال الموسيقى دائما تم ذكر الموسيقي البولندي شوبان: " لا يزال همس /أنامل شوبان / تعزف في ذاكرتي / على آلة البيانو " ص 47، وهو يداعب، بمهارة وفن، آلة البيانو بأنامله المبدعة الخلاقة، وأشار أيضا لرواية  الكاتب الجزائري واسيني الأعرج " أصابع لوليتا ": " تغمرنا أصابع لوليتا / بعزفها الباذخ / على آلة البيانو " ص 38، وارتباطا بما هو فني إبداعي عرج الشاعر على أهازيج التراث المحلي في قصيدة " سمفونية الخريف " يقول: "يأتيني صدى/  أصوات نساء / يرقصن على وقع / أهازيج أمازيغية / تشد البال / من جرح / ألم الكمان. " ص18،في تصوير لرقص النساء داخل جوقة أمازيغية، وغنائهن الذي يتردد صداه، وما يصدره الكمان من أنغام شجية مؤثرة.

ف " هسيس الصمت " شعر يصدر عن هوية إبداعية يمتزج فيها زخم الشعر بإيحاءات  المكان  " عين اللوح "، وما يضمه من مكونات طبيعية، وما يحيط به من  فضاءات متنوعة، وما ينبض به من إيقاعات تختزل الفني بالجمالي من خلال تشكيل ونحت لوحات تتماهى فيها عذوبة الصوت وطربه بأنغام الآلة، بإيحاء العبارة وإشاراتها لتحديد ملامح صورة موسومة بالشموخ والروعة والبهاء.

****

عبد النبي بزاز

.........................

* هسيس الصمت (شعر) عبد الله هجام، مطبعة  بلال / فاس 2025.

 

التجريب حالة ديناميكية متحركة، دائمة، مفتوحة النهايات، ولا تقبل الإستكانة أو الاستقرار، فالتجريب يبدأ بالرفض، رفض ماهو قائم، وماهوشائع ومؤسس له. والتجريب هو السؤال الشاخص والباحث عن أجوبة لا تقبل الاّ التأويل. أسئلة منبثقة عن وعيّ نقدي واسع وعميق، مهمتها ان تفتح آفاق جديدة، ومعاندة، تفضي في غالبها، الى أجوبة مستعصية على سبر تشعبات السؤال. إسئلة تتلوى بين جوانب متعددة من الجواب. فالتجريب حالة متميزة من التمرد على الحاضر الساكن المستقر، إنما الساعي لإعادة تشكيل ذلك الحاضر، وتجديد بناءه ليكون قاعدة لمستقبلِ حاضرٍ آخر يزخر بما يبوح به المخيال الإنساني.

والتجريب في المسرح، بإعتباره تمرد وثورة على تراكيب الحاضر، يستوجب ان يتناغم مفاهيميا مع التمرد المجتمعي، لأنه بغياب هذا التناغم يصبح التجريب في المسرح غرائبياً ولا يمتّ الى مجتمعه بصلات حقيقية. أي ان لا يسلك التجريب سلوكاً شكلانيآً، فهذا السلوك بذاته لن يفضي الى محاولة تجديد بناء الحاضر الفني والمجتمعي، إنما لكي يكون التجريب دافعا ومبررا للتغيير المجتمعي، عليه أن يكون عاملا حاسماً في كشف وتعرية الحاضر المعاش، وقادرا على تسليح المجتمع بأدوات واعية ومحرّضة، تفرز التمرد والرغبة في التغيير المجتمعي.

يَنبثق التجريبُ المسرحي والتجريب المجتمعي من رحم السؤال ذاته: تشكيكٌ جذري في المُسلَّمات الجمالية والثقافية التي تُهيكلُ الواقعَ الفني والاجتماعي. فكلاهما فعلٌ تحرُّري لا يقف عند حدود التمرد او النقد، بل يطمح إلى تفكيك الأنماط الراكدة وإعادة تشكيل الوعي الجمعي. هكذا يصبح المسرحُ مختبرًا لأسئلة المجتمع، بينما يتحوّل التمردُ إلى عرضٍ حيٍّ على أرض الواقع، فالمسرح التجريبي والتمرد يتقاسمان هدفًا واحدًا: كسرُ حاجز الصمت حول ما يُعتبر "خطاً أحمراً" أو تابو. فالتمّرد حسب البير كامو، في بحثه الفلسفي الهام "الانسان المتمرد"، هو ردّ فعل إنساني طبيعي ضد الظلم والقمع لاستعادة الكرامة والحقوق، ويكون مبنياً على أساس أخلاقي دون اللجوء الى العنف، فالتمرد عملية مستمرة من المقاومة والتحدي للأنظمة والمعتقدات التي تنتهك حقوق الانسان وكرامته.

في الفترة الممتدة من أرسطو الى القرن العشرين حدثت عدة محاولات تجريبية في المسرح، ولكنها كانت كموجات البحر تتصارع فيما بينها وتتلاشى حين تلامس الشاطئ. فالتيارات الفنية التجريبية تشكّل، عبر التاريخ، خريطةً متشعبةً لتحوُّلات الذائقة الجمالية وتفاعلاتها مع السياقات الاجتماعية.

من "السلوكية" (Mannerism) التي عبّرت عن هوس عصر النهضة بالأناقة البلاغية وإتقان التفاصيل الدقيقة، إلى "الباروك" الذي حوّل الفنون إلى فضاءٍ درامي تتصارع فيه الحركةُ الجامحة مع الألوان الصاخبة في التشكيل والعمارة، مرورًا بـ"الكلاسيكية" التي رسّخت قواعدَ المسرح كفنٍّ ينزع نحو التناغم والعقلانية.  لم تكن هذه التيارات سوى حلقات في سلسلة التفاعل بين الثورة والردّة: فقد ظهر "الروكوكو" كتمردٍ على الجدية الكلاسيكية عبر زخارف طفولية وحبكات مُوسيقية هاربة من ثقل الواقع، بينما أعادت "الكلاسيكية الجديدة" إحياءَ الصرامة الفلسفية ردًا على ما رأته هشاشةً جمالية في سابقتها. أما "الرومانسية" فانحازت إلى عواصف المشاعر والفردانية المطلقة، بينما إتجه "الواقعيون" الى منحىً مضادًا عبر تسليط الضوء على تفاصيل الحياة اليومية بصراحةٍ مُربكة، قبل أن تدفع "الطبيعية" بهذا المنهج إلى أقصى مداه عبر تحويل المسرح إلى "مُختبر أنثروبولوجي حيّ" يُفكِّكُ التفاعلات الإنسانية عبر تمثيلها، ويُحوّلُ الوقائع اليومية إلى مادةٍ درامية تُسائلُ الهُويّات والطقوس والصراعات الخفية. فالمسرح هنا ليس ناقلًا سلبيًا للواقع، بل أداةٌ تشريحية تكشفُ عن التشابكات بين الفرد وثقافته، مُبتكرةً لغةً فنيّةً تُعرّي البنى الاجتماعية كما يفعل عالم الأنثروبولوجيا مع الحفريات بفضولٍ نقدي وبصيرةٍ تحوّلُ العادي إلى استعارةٍ كونية.

في الطرف النقيض، اختطّت التجريبية "الرمزية" مسارًا غامضًا، مستخدمةً إيحاءاتِ الأحلام واللاوعي كسلاحٍ ضدّ المادية الفنية. ولا تزال آثار هذه التيارات حيةً كشاهدٍ على حيوية وجرأة وإصرار المسرح المعاصر على التجريب لتغيير واقع الحال وكفاعل أساسي في حوار الأزمنة الفني الذي لا ينتهي. 

من إنطلاقة أرسطو التأسيسية لفن الشعر، إلى المنعطف الثوري الذي صنعه كونستانتين ستانيسلافسكي عبر إعادة تعريف جوهر التمثيل، يشهد التجريب المسرحي، كما المنظومة المسرحية، تحولًا جذريًا في فهم الأداء الفني. فبينما حفر أرسطو في قواعد الكتابة الدرامية، أطلق ستانيسلافسكي نظريةً مُبتكرة تُحوِّل الممثلَ من مُجرد ناقل للنص إلى خالقٍ عضوي للشخصية، عبر أبعاد ثلاثية: البعد النفسي (صراعات اللاوعي)، والبعد الحسّي (تفعيل الجسد كأداة تعبيرية)، والبعد الاجتماعي (تفاعل الشخصية مع سياقها).  لم يكتفِ ستانيسلافسكي بذلك، بل أسس منهجيةً علمية لاستنطاق ذاكرة الممثل الحياتية، حيث تتحول التجارب الشخصية إلى وقودٍ درامي يتسرب إلى الأداء عبر تقنية "الذاكرة العاطفية". هكذا صاغ نظامًا تدريبيًا يُحفّز الحدسَ، ويُشذّب الإدراكَ الحسي، ويُحوّل الانفعالات الفردية إلى لغةٍ مسرحيةٍ جامعة. لم تكن هذه الثورة عبارة عن تقنيةً فحسب، بل فلسفةً جديدة جعلت من العمل الفني كيانًا حيًا ينبض بتفاعلٍ دائم بين الممثل الذي يُعيد اكتشاف ذاته، والعرض الذي يكتسب عمقًا وجوديًا.

شكّل التجريب سلسلة من التمرّدات المسرحية ضدّ المُسلَّمات الجمالية التي إنبثقت عنها روح الحداثة الأولى، حيث أعلنت كلُّ ثورةٍ فنيةٍ ولادةَ لغةٍ بصريّةٍ جديدة. إنما انطلق التمرد الجذري في المسرح الحديث مع رائد التجديد أنتونين آرتو، الذي هدّم بجرأة المعايير الجمالية السائدة، ورفض الانصياع للاعراف الفنية التي كرستها الذائقة الاجتماعية والفلسفات التقليدية. سعى آرتو إلى استنباط جماليات مُغايرة، يمكن وصفها بـ"جماليات القبح"، مستلهمةً إياها من هوامش المكبوت: العنف، والفوضى، والصخب، وقسوة الوجود. لم تكن هذه الرؤية مجرد تحدٍ للأنماط الفنية في المسرح فحسب، بل ثورةً على مفهوم الجمال ذاته، مُعلنًا القطيعة مع كل ما هو مُهذّب ومُتفق عليه. 

هذه الثورة التجريبية كانت الشرارة التي أشعلت سلسلةً من الحركات التمردية في القرن العشرين، فانبثقت الدادائية من ركام الحرب العالمية الأولى كضحكةٍ هستيريةٍ على أنقاض الحضارة، ثم إنتقلت إلى سوريالية أندريه بريتون التي حوّلت الأحلام إلى واقعٍ مُوازٍ. وفي خضمّ هذا الزلزال الفكري، ظهر مسرح العبث (كامو، سارتر) ليُعبّر عن اغتراب الإنسان في عالمٍ فقد معانيه، بينما أسس بريخت للمسرح الملحمي كسلاحٍ ضدّ الوهم الأيديولوجي التقليدي. لم يتوقف هذا المدّ الثوري عند حدود النص، بل اجتاح التشكيلَ والموسيقى، حتى اكتملت الدائرة مع طلائعيّي المسرح، بيكيت وأونيسكو، الذين حوّلوا الصمتَ إلى شخصيةٍ رئيسية في العرض!

بهذا التجريب الحداثي، أعاد المسرحُ اختراعَ لغته البصرية والرمزية، مُستبدلًا المبادئ الكلاسيكية بأساليب استثنائية تعكس تناقضات الواقع الإنساني. ولم يتوقف هذا المشروع التجريبي عند حدود المراجعة الجمالية، بل تحوّل إلى رحلةٍ ديناميكية تستمدّ قوتها من الحركة الجدلية التي تُشكّل محرّك التطور المسرحي عبر العصور. فالتجريب، في جوهره، ليس سوى تعبير عن صيرورة الفن الدائمة في تفاعلها مع تحولات الزمن وأسئلته الوجودية.

فيما يُمثِّل "التجريب المجتمعي" مبادرةً نخبوية تهدف إلى تحفيز الوعي النقدي وتحريض المجتمع على رفض السُّلوكيات والأعراف القديمة، والتحرر من الركود والروتين اليومي المغلق، سعيًا لتأسيس شروط التقدم الحضاري. أما "التمرد المجتمعي" فهو فعلٌ جماعي ينبثق من وعيٍ مُترسِّخ في ثقافة المجتمع نفسه - إلا أن هذه الثقافة تظل عاجزة عن الانفتاح على آفاق التطوّر- يُنتِج هذا الوعي رفضًا شاملًا لقِيود الحياة اليومية، مشحوناً بالقلق إزاء عجز الحاضر عن تجاوز ذاته نحو مستقبل يُلبّي الاحتياجات المجتمعية ويتكيّف مع التحوّلات الجديدة.

  تاريخيًا، لا تُشكّل حركةُ المجتمعات خطًّا مُستقيمًا، بل حلقاتٍ متداخلةً من الوعي المتصاعد بالعوائق التي تُعطّل سيرورات التطوّر. حتى في لحظات الركود الظاهري – حين تبدو الثقافةُ عاجزةً عن مُجاراة الحداثة – تظلُّ الشرايين الخفية للوعي نابضةً تحت السطح، تُعيدُ ترتيبَ ذاتها استعدادًا لزمنٍ جديد. فالتجديدُ ليس لحظةً مفاجئة، بل تراكمٌ صامتٌ لأسئلةٍ تَنْضجُ في الأعماق قبل أن تتفجّرَ على الخشبةِ أو في الشارع. 

يُتَرجَم هذا التجريب التمردي بأشكال مختلفة، فقد يظهر عبر انتفاضات عنيفة، أو حركات احتجاجية سلمية، أو مبادرات ثقافية تتحدى هياكل السلطة وتطالب بإصلاحها. وغالبًا ما ينشأ هذا الوعي التمردي نتيجةً للقمع السياسي أو اتساع الفوارق الاقتصادية، مما يُعمّق الفجوات الاجتماعية ويُرسّخ التهميش الثقافي والمجتمعي. 

تعيش المجتمعات العربية اليوم في حالة ترقبٍ بين زمنين متصارعين: زمن الموروث التاريخي بثقافته وقيمه الدينية والأخلاقية الراسخة، وزمن الحداثة العابث الذي يهيمن عليه الاستخدام السطحي للذكاء الاصطناعي، وفضاءات التواصل الاجتماعي المُفككة، وسيل الأخبار المُضللة التي حوّلتها الفضائيات إلى أدوات تسلية تستعرض الحروب والدمار كمسلسلات مروعة. في المقابل، تُساهم هذه المنصات الإعلامية في ترسيخ ثقافة استهلاكية مسطحة، عبر إختيار انتقائي لرموز التراث وتوظيفها في سرديات دينية مُسيَّسة تُكرس شرعية السلطة المهيمنة.

هنا تظهر الحاجة إلى إعادة النظر في الرؤية المجتمعية للعالم، عبر حوارٍ جريء مع عوالم أخرى عاشت تحولاتها الخاصة. فالنظرة الثقافية لا تُغيّر طبيعة العناصر المُستعارة من الحضارات الأُخرى فحسب، بل تحوّلها إلى كيانات جديدة تُثري المخيال الجمعي. ويُمكن للمسرح التجريبي أن يكون جسرًا لهذا الحوار، فالمسرح ليس نافذةً على العالم الخارجي فقط، بل عين ناقدة تعكس إرادة المجتمع في التغيير، وبناء زمنٍ جديد يُصالح بين الهُوية والانفتاح على "القرية الكونية". 

تتجلى رؤى المسرح التجريبي، في السياق العربي، كأداة تحوُّل جذرية، حيث يُوظف الموروث الثقافي كما تُوظف اللغة الرمزية لتفكيك القضايا الشائكة من التهميش السياسي إلى التحديات الثقافية مرورآً بتعقيدات العلاقات الاجتماعية، مُحوّلًا خشبة المسرح إلى ساحة حوارٍ لا تُهادن المُسلمات الفكرية. وفي ظل الاستحقاقات المؤجلة لثورات الربيع العربي، يبرز دور التجريب المسرحي كحليفٍ للحراك المجتمعي، حيث يمنح المهمشين صوتاً مضخماً، ويُحوّل أحلام العدالة إلى عروضٍ مُتجذرة في الواقع، لا مُجرد خطابٍ طوباوي. 

بدمج الجرأة الفنية مع الانغماس في القضايا الحية، يؤكد المسرح التجريبي حضوره كفنٍّ مقاومٍ للجمود، لا كظاهرة عابرة. إنه يُنشئ جسورًا بين الإبداع والنضال اليومي، ويصنع من التفاصيل المحلية نافذةً على الأسئلة الكونية. هكذا يظلّ رافدًا أساسيًا في المشهد الثقافي، يحمل شعلة التحدي للأجيال القادمة: فكل عرضٍ هو دعوةٌ لإعادة تخيّل العالم، وكل خشبةٍ مسرحٍ هي أرضٌ لزراعة بذور التغيير.  

وأخيراً، ليس التجريبُ والتمردُ مجرد ثورة على القيود، سواء كان في المسرح ام في المجتمع، بل احتفاءٌ بالحياة في تناقضاتها كافة. هكذا تحوّل التجريبُ المسرحي إلى محرّك لا يتوقف، يَستمدّ قوّته من الجدلية التاريخية بين الثبات والتحوّل. فكلّ حركةٍ تمرديةٍ كانت تُعيد تعريف المسرح ليس كمرآةٍ للواقع، بل كمطرقةٍ تُحطّم الواقعَ نفسه. واليوم، ما تزال أصداء هذه الثورات تُردّد صداها في أعماق الفنون البصرية والأدبية، كشاهدٍ على أنّ المسرح لم يكن يومًا مجرد خشبةٍ، بل فضاءً لصناعة الزلازل الثقافية.

***

علي ماجد شبو

...........................

المراجع العامة:

* فلسفات عصرنا -الفلسفة الغربية المعاصرة- جان فرنسوا دوريتي، ترجمة إبراهيم صحراوي. الدار العربية للعلوم ناشرون. بيروت 2009

* الفلسفة كلها في أربعة أسئلة. جان فرنسوا دوروتييه، ترجمة محمد احمد طجو. الناشر: المنظمة العربية للترجمة. بيروت 2024

* الحداثة ومابعد الحداثة – د. عبد الوهاب المسيري ود. فتحي التريكي. الناشر: دار الفكر. دمشق. 2003

* الوضع ما بعد الحداثي، جان فرنسوا ليوتار، ترجمة أحمد حسان. الناشر: دار شرقيات للنشر والتوزيع. القاهرة 1994

* Experimental theater from Stanislavsky to Peter Brook, James Roose-Evans, Edition: Kindle

* Theater. Vol: 1,2,3 and 4. Edition: Kindle 2011

* Le Postmodernisme, Fredric Jameson, Edition: Kindle

* L’Homme Révolté, Albert Camus, Edition Kindle

 

ودراسة تحليلية هيرمينوطيقية وأسلوبيّة وسيميائية للبنية النفسية والإيروتيكية في شعر سونيا الفرجاني؛

1. مقدمة: القصيدة "كبسولة الزمن" للشاعرة التونسية سونيا الفرجاني تعد نموذجاً شعرياً معاصراً غنياً بالصور النفسية والإيروتيكية والرمزية. عبر هذا النص، تستحضر الشاعرة الزمن كحاوية للحياة، الرغبة، والذاكرة، وتفتح للقارئ فضاءً تأويلياَ متعدد المستويات. من منظور النقد المعاصر، يتحول النص إلى مجال تجريبي للتأمل الوجودي والإبداعي، حيث يلتقي الحلم الشخصي بالبعد الجمعي للإنسانية، مما يجعله قابلاً للتحليل عبر مناهج هيرمينوطيقية، أسلوبية، سيميائية، وطنية، ونفسية-إيروتيكية.

2. تحليل الصور الشعرية والرمزية (جدول تحليلي):

الصورة/الرمز التحليل المرجع النفسي/الإيروتيكي/الفلسفي

"يهبط الحب في بدايته مثل قطيع غيوم جائعة" تصوير الحب كقوة طبيعية جياشة تلتهم الروح الرمزية: الحب كقوة غريزية، فرويد: الغريزة الجنسية

"يغرس أسنانه في عشب الروح" إيحاء بالصراع الداخلي بين الرغبة والذات النفسي: الصراع بين الأنا والهو، يونغ: الظل

"أطفال بلا أسماء أطلقتهم في البراري" رمز للحرية الداخلية والخلق الفني الرمزية: الاستمرارية والولادة الجديدة، فلسفة الوجودية: سارتر

"تمتم تمتم تمتم" إيقاع التكرار يعكس القلق النفسي والتوتر الأسلوبية: الإيقاع النفسي، الإيروتيكية: الدفق الداخلي للرغبة

3. التحليل الأسلوبي:

1. اللغة والإيقاع: النص يتسم بأسلوب مفتوح، استخدام الفعل المتتابع، التكرار الإيقاعي، والتراكيب المتداخلة، مما يخلق إحساسًا بالحركة الدائمة والصراع الداخلي.

2. الاستعارات والتشبيهات: مثل "رياح تدحرج الجبال" و"جلد جديد للهواء"، تستخدم لتصوير الحب والرغبة كقوى كونية.

3. الانزياح الدلالي: المزج بين الملموس والخيالي، مثل الأطفال بلا أسماء، يخلق مساحة لإعادة إنتاج المعنى عند القارئ.

4. البعد النفسي والإيروتيكي:

الصراع النفسي الداخلي: يظهر في الرغبة، الانتظار، والتوتر الناتج عن الزمن والعلاقة بالآخر.

- الإيحاء الإيروتيكي: "أحبك كوخز الدبابيس على الظهر" يمثل المزج بين اللذة والألم، بما يتوافق مع نظرية فرويد عن النزعات الجنسية والصراع النفسي.

- اللاوعي الجمعي: الأطفال بلا أسماء يمثلون الرغبة الجماعية للحرية والإبداع، وفق يونغ، حيث يتداخل الفرد مع الرموز الأولية.

5. البعد الرمزي والديني:

- الأبدية والزمن: يمثلان التحدي الإنساني أمام الماضي والحاضر والمستقبل، بما يعكس فكر أوغسطينوس في الزمن والروح.

- الشموس والأقمار: رمز القوة العليا والسيطرة، وتفسير العلاقة بين الفعل الإنساني والمطلق الروحي.

- الغرفة الواقعية: فضاء رمزي للوجود الإنساني والانتظار، يحاكي العلاقة بين الواقع والخيال، الحلم واليقظة.

6. البعد الوطني والاجتماعي

النص يعكس تجربة شاعرية تونسية معاصرة، حيث تتداخل الحرية الفردية مع السياق الثقافي والاجتماعي.

الأطفال بلا أسماء يمثلون التمرد على القيود الاجتماعية والتاريخية، مما يجعل النص نصًا وطنيًا وإنسانيًا في الوقت نفسه.

7. الخاتمة:

قصيدة "كبسولة الزمن" تتجلى فيها الحداثة الشعرية في أقصى أبعادها، عبر البنية النفسية والإيروتيكية، الرمزية، الدينية، والأسلوبية. إنها دعوة للقارئ بالغوص في طبقات النص، اكتشاف المعاني المخفية، وإعادة إنتاج المعنى من خلال التفاعل التأويلي.

القصيدة ليست مجرد سرد شعري، بل ممارسة تأملية في الزمن، الرغبة، والوجود الإنساني، وتجربة فنية متكاملة تستحق التحليل متعدد المناهج

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين.

............................

الشاعرة سونيا: كبسولة الزمن

لو أنّ الزمن جامعني،

لأنجبت منه وقتا لي،

يحمل جيناتي، وصفات الكمنجات في ذاكرتي، وقياس العصر على خصري.

سأسمّي الزّمن سيلفيو

وأكون سيلفيا،

دون أن أقتبس النّهاية اليائسة.

*

لابدّ لهذا الزوج أن يقترب

أن يتعدّد داخلي أو يخرج من دائرة السّاعة "كيْ أنسى إساءتها"

*

لي من الزمن أطفال بلا أسماء

أطلقتهم في البراري وقتا يتكاثر، بلا هويّات ولا نسب.

*

أطفالنا بلا عدد،

لن يعبث بأحلامهم ولن يقف صوب الحكاية لينهشها.

*

قال لي: أشتهيك على قلق، فلا تكتبي أرقي.

كتبت سطرين فعاقني

استعار الأبديّة فجأة وطوّقني.

مدّ يدا، قطف شمسا وقذفها،

شدّ أقمارا، وحذفها،

التقط أرضا وخسفها،

تمتم تمتم تمتم تمتم

لماذا ترتعشين؟

قلت:أخذت شراشف الكون فبَرُدَ

*

ارتعد،

طوّقني قال:كان جلجامش ذكرا فلم يشتهيني

وكان الأنبياء ذكورا

طوقيني

وحدها الأبدية أنثى

وصلتها متأخّرا وأقمت فيك.

أيّتها الغرفة الواقعيّة التي يقتات الإنتظار منها

تكاثري منّي ولِدي بذور البقاء.

كانت طريق الرّجوع لغة

والوصيّة

كانت معنى .

تمتم تمتم تمتم تمتم

أحبّك كوخز الدّبابيس على الظّهر،

أحبّك والبقيّة في الشّعر.

*

بعد الوقت ثمّة ساحة كبيرة يرتاد الأطفال ويلعبون.

ربّما اقتضت القصيدة أن أسمّيها

لكنّي لن أسمّيها.صغاري هنا يعبثون

أطعمهم ثمّ ألاعبهم بساعة قديمة

ساعات كثيرةً ليست كبيرةً

نتقاذفها كرة بيغ بونغ

ونضحك.

*

يذهب (عمر فرُّوخ، -1987)، في كتابه «تاريخ الأدب العَرَبي»(1)، إلى رأيٍ غريبٍ في الغزَل العُذري.  فهو يتَّهم العُذريِّين بنقص الرُّجولة؛ لأنَّ الحياة الطبيعيَّة- كما يراها- في الغزَل الحِسِّي والمغامرات الجنسيَّة، ليكون «التمتُّع بالحياة الطبيعيَّة تمتُّعًا تامًّا كاملًا»!  إذ قال: «ولا ريب في أنَّ الشِّعر العُذريَّ شِعرٌ عذبٌ سهلٌ محبَّبٌ إلى النفس الإنسانيَّة لأنه في الواقع يمثِّل النزوع الموجود في كلِّ نفسٍ إلى الحياة الطبيعيَّة في البَشَر. ولكن يجب ألَّا ننسَى أنَّ المحبَّ العُذريَّ رجل ضعيف الشخصيَّة لأنه في الحقيقة رجلٌ ناقص الرُّجولة! إنَّ الحَنين الشِّعريَّ في هؤلاء العُذريِّين يجب أن يكون تعويضًا نفسانيًّا لهم عمَّا فقدوه من قُدرة الشُّعراء المغامرين على التمتُّع بالحياة الطبيعيَّة تمتُّعًا تامًّا كاملًا»! وهذا الذي أفرخ عنه فرُّوخ لم يقُل به عربٌ ولا عجم، قدماء أو محدثون!  عِلمًا بأنَّ عُذريَّة بعض الموصوفين بالعُذريَّة ليست بتامَّة، بل فيها ما يَنشده فرُّوخ من الغزَل الحِسِّي!  فها هو ذا (جميل بثينة)(2) يصِف جسد صاحبته بصورةٍ لا عُذريَّة فيها، حيث يقول:

خـليـليَّ هل في نـظـرةٍ بـعدَ تَـوبـةٍ، ٍ

أُداوي بهـا قَـلبـي، عَـلَـيَّ فُـجُـورُ

*

إلى رُجِح الأكفالِ هِيْفٍ خُصورُها

عِـذابِ الثَّـنـايـا رِيقُـهنَّ طَـهُـورُ

فالشَّاعر يتغزَّل بغير واحدة، ويصف منهنَّ ما لا يصفه الشاعر العُذري من محبوبته. وإنْ كان (القالي)- كما نقل محقِّق «ديوان جميل»- قد أنكر أنها من شِعره.  وإنكاره هو الراجح.

ولكن هل بات الشِّعر العفيف ينمُّ عن ضعف الشخصيَّة، ونقص الرُّجولة، فيما الغزَل الغريزيُّ هو لسان الرُّجولة والكمال والحياة الطبيعيَّة، كما أتحفك (فرُّوخ) برأيه؟!

الحقُّ أنَّ كتاب (فرُّوخ)، هذا الذي عنونه بـ«تاريخ الأدب العربي»، يبدو بصفةٍ عامَّةٍ مضطرب التأليف والفِكر، مهلهل الأسلوب، متسرِّع الإطلاق لخواطر الأقوال والأحكام.  انظر إلى قوله، بعد الفقرة السابقة: «والمبالغة في الحُبِّ العُذريِّ أدَّت إلى ظهور الشُّعراء المجانين، أولئك الشُّعراء الذين ذهب (عقلهم) في تلك الأوهام التي كانوا (يُشَبّحونها) لأنفسهم (في خيالهم). ومع أنَّ شِعر الشُّعراء المجانين غير ثابت على القطع لشُعرائه، فإنَّ هذه الطبقة من الشُّعراء كانت موجودة وكان لها شِعر يبدو أنَّ بعضَهُ اختلط ببعض.»

فالمبالغة في الحُبِّ العُذري هي التي أدَّت إلى ظهور الشُّعراء المجانين!  لا أنَّ جنون الشُّعراء حُبًّا هو الذي أدَّى إلى ظهور الحُبِّ العُذريِّ وشِعره!  فالسببيَّة لديه مقلوبة، والنتيجة هي المقدِّمة!  ولقد ذهب «عقلهم»- كما قال- لا عقولهم؛ لأنهم يُشَبِّحون الأوهام لأنفسهم في خيالهم!

كما يقول، في موضعٍ آخَر، مثلًا: «وقد ذكر الجاحظ سبب انتشار هذه الفاحشة بين العَرَب في «كتاب المعلّمين»، فقال حمزة الأصفهاني: «إن الشعراء قاطبةً من أيّام مولد الشعر قُبيل الإسلام في آخر بني أُمَيَّة كان تشبيبهم بالنساء لا غير».»(3) وهكذا فـ«قد ذكر الجاحظ... في «كتاب المعلمين»، فقال حمزة الأصفهاني»! فمن الذي ذكر؟ ومن الذي قال؟!  ولـمَن الكتاب؟ للجاحظ أم للأصفهاني؟  ثمَّ إنَّ مولد الشِّعر قُبيل الإسلام كان في آخِر بني أُمَيَّة.  وهو «في آخِر بني أُمَيَّة» أنفسهم، لا في آخِر دولتهم!  وكان يقتبس هنا عن مخطوط، ذكره في الحاشية: «كتاب المعلمين مفقود، ولكنني عثرت على صفحة منه منسوخة في مخطوطة لديوان أبي نواس من جمع حمزة بن حسن الأصفهاني...». أ فكانت في المخطوط هذه التخليطات؟!  وحتى لو كانت كذلك، فرضًا، فكيف ينقلها على علَّاتها، مؤرِّخًا للأدب العَرَبي بهذا العجين الفاسد؟!  الراجح أنه هو من كان ينقل خطأً؛ فهذا نهجه وأسلوبه.  فلنرَ:

1- ما ذكره، على كلِّ حال، لا نقف عليه في «كتاب المعلِّمين» للجاحظ، أو ما بقي منه.(4)

2- ستجد الكلام في «ديوان أبي نُواس الحسَن بن هانئ الحَكَمي»(5)، برواية: (حمزة بن الحسَن الأصفهاني) و(أبي بكر محمَّد بن يحيى الصولي)، مستقيمًا ليست فيه تخليطات (فرُّوخ) الصياغيَّة، بل وردَ هكذا: «...وذلك أنَّ الشُّعراء قاطبةً، من أيَّام مولد الشِّعر قُبيل الإسلام إلى آخِر دولة بني أُمَيَّة، كان تشبيبهم بالنِّساء لا غير... وكان لحدوثٍ سَبَبُ [كذا!] هذه الفاحشة في الخُراسانيِّين ما حكاه الجاحظ في كتاب المعلِّمين.»  وأمَّا جمجمة فرُّوخ فعجيبة.  فإن قيل إنه يقتبس عن مخطوط، أفما يسأل؟ أو يقوِّم؟ أو يعلِّق؟  بل يحتطب، ويسوِّد الصفحات، تحت عنوان «تاريخ الأدب العَرَبي»؟!    والأغرب أنك تجد تناقُل آخَرين عن فرُّوخ، على عُجَر أسلوبه وبُجَره ولا عِلميَّته. وهكذا، كأنَّ هذا الكتاب جاء في الأصل أحاديث مجالس مرتجلة- ولا أقول محاضرات؛ لأن المحاضرات ينبغي أن يكون لها إعدادها المحكم أيضًا- وإنَّما دُوِّنت تلك الأحاديث الركيكة بأخرة ونُشِرت في كتاب، هكذا كيفما اتفق، بغير سويَّةٍ عِلميَّةٍ أو تأليفيَّة.  فلا غرو أن تجد فيه مثل تلك الآراء المجانيَّة، والأحكام الصاروخيَّة، التي لا تستند على شيء.

وإذا كان هذا شأن كتب (تاريخ الأدب العَرَبي)، فكيف بسِواها. فلا غرابة، إذن، أن تزدهر في ذلك التاريخ الأكاذيب والأباطيل قديمًا وحديثًا.

هكذا قام فينا (ذو القُروح) محاضرًا. فسألته: مثل ماذا؟

ـ كثيرٌ جِدًّا. ويلحق ذلك بالمشاهير خاصَّة. وقد حدَّثتك من قَبل عن أنَّ بعضهم ينسب كلَّ شِعرٍ جزلٍ مجهول القائل- وإنْ لم يجهله سِوَى ناسبه- إلى (أبي الطيِّب المتنبِّي). وستجد من ذلك اليوم عشرات الأبيات على مواقع «الإنترنت» منسوبةً إلى أبي الطيِّب، ولا علاقة لها بشِعره. كالبيت المتداول:

لا تحسبوا رَقْـصِي بيـنَكمْ طَـربًـا

فالطَّيرُ يَرقصُ مذبوحًا من الألم!

ـ نعم، وقلتَ إنَّ البيت مكسور الوزن أصلًا، صوابه: «لا تحسبوا أنَّ رقصي...».  وبعضهم يضيف: «من شِدَّة الألم»، ليزيد الشِّدة بمتنبئيَّة البيت!  لكن لا يخفاك، يا (ذا القُروح)، أنَّ هذا لا يروج بين الناشئة فحسب، بل بين بعض المتأدِّبين أيضًا والمفوَّهين في كلِّ ميدان.

ـ أجل. وإنَّما أصل هذا البيت المنسوب إلى المتنبِّي أبياتٌ تُنسَب أيضًا إلى مجنون ليلى (قيس بن الملوَّح)، منها:

كَعُـصفـورَةٍ في كَـفِّ طِـفلٍ يَـزُمُّـها

تَذوقُ حِياضَ المَوتِ والطِّفلُ يَلعَبُ

*

فَـلا الطِّفلُ ذو عَـقلٍ يَـرِقُّ لِـما بِهـا

ولا الطَّـيرُ ذو رِيشٍ يَطيرُ فَيَذهَـبُ

ولقد تعاطَى البيت أو البيتين المنسوبَين إلى المجنون عددٌ من الشُّعراء على امتداد التُّراث العَرَبي، نذكر منهم: (يعقوب بن الربيع، ـ190هـ)، و(ابن الزيات، ـ233هـ)، و(أبو مدين التلمساني، ـ594هـ)، و(حسن حسني الطويراني، ـ1315هـ)، إنْ على سبيل الانتحال أو على سبيل التضمين الرديء.

ـ بل يزيد الطِّين بِلَّة على المتنبِّي شاعرٌ حديثٌ، هو (نزار قباني)، قائلًا عنه- في مقابلةٍ قديمةٍ متاحةٍ على «اليوتيوب»(6)- إنَّ المتنبِّي على إكثاره من وصف الشجاعة على الورق كان «كما يُعرف» من أجبن الناس!

ـ عجيب! من أين خرج (شاعر الفساتين) بهذه المعلومة المناقضة لحقيقة (شاعر الخَيل واللَّيل والبَيداء).  إنَّما هذا جهلٌ نزاريٌّ بالمتنبِّي «كما يُعرف»، الذي كان، كما تشهد أخباره مع (سيف الدولة) في مواجهاته الحربيَّة وغيرها، شجاع الفعل كما كان شجاع الشِّعر. كما يشهد معاصروه كـ(ابن فورجة) أنه كان شجاعًا. وقد مات حتف مواجهته، لا حتف أنفه.  وإنَّما وُصِف بأنه كان فيه بُخل، ولذلك سببٌ عزاه بنفسه إلى عُقدةٍ لازمته منذ صباه؛ من حيث كان «كما يُعرف» ابن سقَّاءٍ كوفيٍّ متواضع الحال، فنشأ كوفيًّا من فقراء الناس لا من أغنيائهم.(7)

ـ من أين جاء (نزار) بما قال عن (المتنبِّي): إنه كان، «كما يُعرف»، جبانًا؟!

ـ لعلَّ (نزارًا) اختلط عليه الأمر، «كما يُعرف»! وربما كان يقصد (حسَّان بن ثابت)، مثلًا.  والمشهور دائمًا عُرضةٌ للأقاويل، واتِّخاذه تكئةً لتحذلق المتحذلقين، وتفاصح الأعيِـياء. بل أغلب الظنِّ أنَّ نزارًا كان يُردِّد أصداء عن حبيبه- الذي «لا يرى وهو يراهُ»- (طه حسين)، في كتابه «مع المتنبِّي». وطه حسين «كما يُعرف» كاتبٌ إنشائيٌّ مبدع، ومفكِّر فَطِن، لكنَّه ليس بذلك الباحث المحقِّق، وما ينبغي له. كان يأخذ بمنهاج الشكِّ الديكارتي في كلِّ شيءٍ، باستثناء الشكِّ في (ديكارت) نفسه ومنهاجه! مع أنَّ طه حسين، وإنْ سعَى سعيه للتشكيك في نَسَب المتنبِّي، لم يشكِّك في فتوَّته.(8) على أنَّ نزارًا لو سأل (معروفًا الرصافي)(9)، لأجابه عمَّا إذا كان المتنبِّي شجاعًا؟ وذلك بتحليل أخباره وسيرته، لا من خلال أوراقه الشِّعرية فقط.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..........................

(1)  (بيروت: دار العِلم للملايين، 1969)، 1: 368.

(2)  (1979)، ديوان جميل، جمع وتحقيق وشرح: حسين نصَّار، (القاهرة: دار مِصْر للطباعة)، 93.

(3)  فرُّوخ، 2: 44.

(4)  يُنظَر: جريس، إبراهيم خليل، (1980)،  كتابان للجاحظ: كتاب المعلِّمين وكتاب في الردِّ على المشبِّهة- تحقيق ودراسة، (عكَّا: مكتبة ومطبعة السروجي).

(5)  (1972- 2006)، تحقيق: إيڤالد ڤاغنر وغرغور شولر، (بيروت: المعهد الألماني للأبحاث الشرقيَّة)، 4: 141.

(6)  على الرابط:

https://www.youtube.com/watch?v=DnRDOOroERU

(7)  يُنظَر مثلًا ما جمعه حول شمائله (عبدالرحمن البرقوقي) في مقدِّمة «شرح ديوان المتنبِّي»، (بيروت: دار الكتاب العربي، 1986)، 1: 5- 00.

(8)  يُنظَر: (1937)، حسين، طه، مع المتنبِّي، (القاهرة: دار المعارف)، 12- 00. وتُقارن ردود: شاكر، محمود محمَّد، المتنبِّي: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، (جُدَّة: مكتبة المدني، 1987)، 399- 000.

(9)  يُنظَر: (1959)، نظرة إجماليَّة في حياة المتنبِّي، (بغداد: مطبعة المعارف)، 48- 58.

دِراسةٌ نَقديةٌ فِي رِوايَةِ الحُبِّ والحَربِ (طِفلٌ ودَفترُ ذِكريَاتٍ)

تقديم: (الحبُّ والحربُ)، دَالَتَانِ مُتضادتانِ، ونقيضانٍ لَدودانِ لا يلتقيانِ على هوى المَحجَّةِ أبداً وعلى الدوام . وإنْ التقياً صُدفةً من غيرِ تخطيطٍ سابقٍ لهما، فلا يولِّدان إلَّا الموتَ المُرَّ الزُّؤامَ من ثنائية (الحياةِ والموتِ)، أي لا يمكن أن أكون قائماً في حيزِ هذا الفضاء الوجودي الإنساني؛ لذلكَ لا يمكن لِأيِّ حُبٍّ أنْ يُعمرَّ أو يدومَ بأمنٍ وسلامٍ على أعقاب فتيلِ حربٍّ تشتعل استعارَاً، فلا تَعرفُ معنىً للحبِّ ولا لأبجدياتِ لُغةِ الحياة. وفي الطرف الآخر من المُعادلة، لا يمكن لحربٍ ضروسٍ أنْ يقوم سعير لظاها المُجْمرِ اليابس على مأكلٍ من أخضر الحبِّ والخير والسلام، وهذه نتيجةٌ حتميةٌ محسومةٌ لا بدَّ من فهمها إنسانياً ومجتمعياً في ظلٍّ حكم الاستبداد ودكتاتورية العَهد الجائر المُباد.

هذه المقدِّمة التعريفية الموجزة الكلام لثنائية (الحَربِ والسَّلامِ)، أو ما يُعرف مفهوماً بلغة الحبِّ والدمار، هي الثيمة المهمَّة و الرئيسة لبؤرة هذا العمل الأدبي السردي المرير، والتي تُمثِّلُ نقطة الانطلاق الأساسيَّة والمركزية لاشتغالات نصوص رواية (طفلٌ ودفترُ ذكرياتِ)، للروائي العراقيِّ المثابر حسن الموسوي، المعروف بأسلوبيته التعددية التعبيريَّة شعراً ونثراً، (قصَّةً وروايةً ونقداً).

هذه المدوَّنة الروائية البيئية الإنسانية، يقدِّمُ فيها السيِّد الموسوي شهادةً حُرَّةً توثيقيةً مُهمَّةً، وأرخنةً عينيةً تدوينيَّةً سرديَّةً حيَّةً ومؤلمةً عن خريطة السنوات الثمانِ العجاف من عمر بدء تاريخ الحرب العراقية الإيرانية التي قامت في النصف الثاني من ثمانينيَّات القرن العشرين بين البلدين الجارينِ. ويكشف في الوقت ذاته عن سياسة التسفير والتهجير العرقي والإثني الطائفي للكورد الفيليين العراقيين من التبعية الإيرانية التي تدَّعيها سلطة النظام البعثي وتوجَّهاته العنصرية الجديدة بحقِّهم. فضلاً عن جملةٍ من ممارسات أجهزة القمع الأمني والسياسي والاستبداد السلطوي والبطش بحقٍّ الأحزاب الإسلاميَّة، وخاصةً أفراد حزب الدعوة الإسلاميَّة المُعادين لسياسية نظام الحكم القائم.

إنَّ رواية حسن الموسوي التي احتفت ثيمتها المركزية بثنائية (الحبِّ والحربِ)، تُعدُّ إحياءً للذاكرة العراقية المُتَّقدة، وترجمةً حيَّةً عن حياة شهداء الحرب المُضحِّين، وتقدِّمُ تدويناً مؤرشفاً لسيرة وحياة بعضٍ من الأسرى العراقيين المعذَّبينَ في مُخيمات وثكنات الأسر، وتُعطي صورةً حقيقيةً جمَّةً عن الكثير من المُغيَّبينَ والمُعدمينَ من عوائل المُهجَّرين والمُسفَّرينَ العراقيينَ في جمهورية إيران.

وفق بناءٍ أُسلوبي روائيٍّ سرديٍّ مَكين يَمزج بين الشخصي الذاتي والموضوعي، أي بين الذات الفردية الواحدة والانفتاح على الذات الجمعية المشتركة، وبين الواقعي اليومي الحقيقي والتَّخيُّلي الأُسطوري والغرائبي؛ وذلك من خلال استدعاء الوقائعي التاريخي لواقعة الحدث السرديَّة التي تُراوحُ في مسارها الموضوعي بين عتبات الحبِّ الذاتي الإنساني، ومصادر نسق الحرب التدميري العدواني. بدأً من ساعة الصفر الأولى وحتَّى قيام ساعة الصُّلح والسلام بين كلاالبلدين الُمتحاربين.

تُوصفُ مُدوَّنة (طفلٌ ودَفترُ ذكرياتٍ)، بأنَّها رواية بيئية توثيقية بامتيازٍ، وعلى الرغم من أنَّها تبدأ ثيمتها الموضوعيَّة المركزية الرئيسة بسرديات العَلاقة الإنسانية العاطفية (الحبِّ) من طرف بطلها الأوحد، وتنتهي بثنائية الزواج الجمعي المُشترك من هُويَّة الطرف الآخر النسوي. بيدَ أنَّها في واقع الأمر تتقفَّى بفتوحاتها السردية آثار ومُعميَات السلطة القائمة ونظام الحكم البعثي السابق، وتنبش في حِفريَّات تاريخها الأسود المُظلم القاتم، وما خلَّفه من يأسٍ ودمارٍ وخرابٍ آسرٍ للشعب.

وسرديَّاتُ وقائعِ هذهِ الرِّوايةِ التاريخيةِ والوطنيةِ والإنسانيةِ تُعيدُ بعضاً من نهج تعسفه وظلمه ودكتاتورية منهجية فعل وقائعه وممارساته الطائفية والعنصرية والاستبدادية التعسفية الجائرة. وتؤدِّي بالتالي دور الفاعل المُضاد على نفسه الأمَّارة بالفعل الجرمي الشاهد عنه، والعَيَّان الرائيّ على وقائع وجرائم عصره، وبالدليل الحقيقي الواقعي الأكيد الكاشف عن فِعليَّات جريمته الثابتة.

وذلك أجل فضح ممارساته الداخلية، وكشف مظاهر وسبل عدوانية أنساقه المضمرة والظاهرة، وغطرسة أساليب سياساته اللَّإنسانية المُتطرفة. تلك السياسة الطائفية التي أثقلت على كاهل الشعب ودمَّرت حياة السواد الأعظم من جمهور النَّاس، وزرعتْ أُسسَ الفُرقةِ والكراهية والعدوان بينهم في أقصر الطرق، وفي أبهى سُبلِ التعايش السِّلمي والمجتمعي الإنساني. فأدَّت إلى التناحر والتشتت والتِّيهِ والضياع والتشظي والتهجير من أجل البحث عن ملاجئ آمنة للطمأنينة والحبِّ والسَّلام.

عَتباتُ الخِطابِ الرِّوائيِّ السَّرديّ:

من يتطلَّع في العتبة العدوانية المركزيَّة الكُليَّة الأولى لرواية (طفلٌ ودَفترُ ذكرياتٍ)، سيظنُّ لأوَّل وهلةٍ معتقداً في نفسه، بأنها عتبة إطارٍ تقليدية سياقية مُباشرة، وليست ذا بعد لُغوي فنَّي وانزياحي مُؤثِّرٍ ومُدهشٍ للنفس وللذائقة الإمتاعيَّة الرُّوحيَّة للقارئ، غير أنَّه في واقع الأمر سيندهش قريباً ويتفاجأ بكونه عنواناً نسقيَّاً مؤثِّراً جدَّاً ودلاليَّاً اجتماعيَّاً مُوحياً، وذو معنى حقيقي وإنساني كبير لم تظهر أهميته الشكليَّة ومعناه الدلالي إلَّا في خاتمة الرواية، وعند اكتمال تسريدها البنائي النهائي.

والذي عمد فيه الكاتب الرائي حسن الموسوي قصديَّاً وفنيَّاً أنْ تكون دلالته الفجائية الصادمة مؤجَّلةً إلى حين نهاية واقعة الحدث الموضوعية السرديَّة لهذه الرواية الفجائية الضاربة في الأثر، والتي تتَّخذ من جدليَّة الحياة والموت، والحبِّ والحربِ موضوعاً فكريَّاً وفلسفيَّاً وإنسانيَّاً لها في بوصلة صراعها الأبدي الدائر مع هُوية الآخر المُستبد، النظام الديستوبي الفوضوي الفاسد الظالم.

وحين نُجيلُ النظر في المعنى الدلالي البعيد لا القريب لرمزيَّة العنوان الرئيس ونستقرئ جوانبه الإنسانية الفريدة، ونستوعب مقارباته الحَدَثية المُثيرة في البحث عن هُويَّة المجهول المفقودة التي صَرَّحَ بها الراوي الكاتب بالإنابة عن لسان شخصَّية بطله الجندي الباسل المِقدَام حسين ونظيرته في الطرف الآخر الحبيبة والزوجة زينب، فإنَّهُ يقيناً سَيُخبرنا بإمتاعٍ عن الضربة الخفيَّة المُدهشة لخواتيم واقعة الرواية التي آخرَّ الإخبارَ عنها لغايةٍ ما، بأنَّ الطفل الرضيع (سجَّاد) ما هو إلَّا نُطفةٌ طاهرة من صُلب ذلك الرماد الطافي الراكد الذي خلَّفته الزوجة الراحلة من شريك حياتها الزوجية، تلك الحياة التي طالتها يدُ الزمن الغادر وأصابها الشرخ العدائي الكبير المُفرِّق بينهما بفعله الجبان.

ذلك هو التَّنائي القسري البعيد لا التداني القريب، والذي لا تُرجى عودة منه تجمع بين الشتيتينِ الظانينِ كلَّ الظنِّ أنْ لا تلاقياً من جديدٍ. فالطفل الوليد إذاً هو بذرةٌ لحياةٍ جديدةٍ مغايرةٍ مُفارقةٍ لِمَا بعد الحبِّ والحرب تعوُّض عن عطف الأبوَّة وبِرِّها الرَّحيم، وتَسدَّ مسدَّ شفقة الأم الصبور وَحُنوُّها التي قضى عليها ألم الفراق واستبدَّ بها طعم النأي البُعاد، حتَّى فاضت روحها الطاهرة نحو السماء.

فكانت تلك هي الصدمة الأولى الفارقة التي تلقَّاها بطل الرواية في رحلته الإجرائية الطويلة القاسية في البحث عن رحلة المجهول الحياتية الناقصة، والتي نتج عنها وجود طفلٍ يتيمٍ من غير أُمٍّ ترعاه أو ينشأ بكنفها الحاني. أمَّا دفترُ الذكرياتِ فكانَ هو المُذهل الآخر والصدمة الفجائية الثانية التي ورثها حسين عن يوميات زوجته وذكريات عمرها التي عاشتها في الكرادة في بلدها العراق، وأيامها المُضمَّخة بطعم الألم الموجع في بلد آخر مثل إيران لا يمتُّ لها بصلةٍ رَحمِ قريبٍ أو بعيدٍ.

وكان على أملٍ يحدوها وتُمنِّي نفسَها بلقاء حبيبها الأول وشريك حياتها حسين الذي طال انتظاره كثيراً، فقتلها صبرها وتفاقم شعور معاناتها من فواجع الدهر، وطول الفراق المرِّ المريرالذي ورثه منها زوجها في دفتر الذكريات المتبقِّي من مخلَّفات شَآبيب أمطار سيرتها الحياتية القتيلة المُتئدة.

وعلى وفق هذا التوصيف الدلالي والنسقي الثقافي الظاهر والمُضمر تكون جمالية العنوان الرئيس أكثر موضوعيةً وأكثر أهميةً في دلالاته التعبيريَّة المباشرة وصفاته التقريريَّة المُحبَّبة للنفس؛ كونه يحمل في طيَّاته السرديَّة وجعاً وهمَّاً إنسانيَّاً جمعياً مؤلماً وعذباً لا يتوفَّر في غير مكانه الآسر.

ونقف مرَّة أخرى قليلاً عند إحدى عتبات الخطاب السردي المتتالية، تلك هي عتبة (الإهداء) التي باح بها صوت الكاتب حسن الموسوي في تماهيه بكلمات الفقد الرثائية المؤثِّرة إلى حُلُمهِ الوردي المفقود، إلى الحبيبة التي حال بينه وبينها سيف الفراق، فلم يبقَ لهذا الأثر إلَّا هذه الكلمات الآسرة:

"إلَى حُلُمِي الوَردِي/ ذَلكَ الحُلُمُ الَّذي أجهزَ عَليهِ مَعتوهٌ/ شَهَرَ فِي وَجهِي سَيفَ الفُراقِ/ إلَّى لَيالي الفَقدِ الأليمَةِ / إليهَا... أَهدِي كَلِمَاتِي". (طِفلٌ ودَفترُ ذكرياتٍ، حسَن المُوسوي، ص 5).

ولعلَّ عتبة الإهداء المشحونة بدلالات (الفَقد) الحزين تُشير موحياتها الرمزية والدلاليَّة إلى وجود عَلاقةٍ مباشرةٍ بأهمِّ حدثٍ صادمٍ من أحداث الرواية، ذلك هو موت زوجة البطل حسين وحبيبة عمره التي أفنى نصف عمره بالبحث والتقصِّي عنها في مسيرة ارتحاله نحو عالم هُويَّة المجهول.

فإذا كان الإهداء عتبةً جماليةً وفنيَّةً لموضوع ذاتي وشخصي ووجداني مؤثِّر فعله الحدثي، فإنَّ عتبة (التصدير) لرواية (طفلٌ ودفتر ذكرياتٍ) كانَ مُقدمةً مَوضوعيَّةً تسريديَّةً لِرؤيا حُلُميةٍ مُخيفةٍ حدثت لِلبطل حُسين شخصيَّة هذه الرواية الأولى، وما صاب ذلك من تأويلٍ كثيرٍ ومُرعبٍ لأثر هذه الرُّؤيا الحُلُميَّة في (اللَّاعودة) حينما كان مسار رحلته الخطيرة في البحث عن نقطة المجهول.

إنَّه البحث عن أصل الهُويَّة المفقودة والحياة البديلة الآمنة المستقرَّة بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رَحُبَتْ ففقدَ حياته ضحية لأجلها، ولأجل أنْ (يكونَ أو لا يَكونُ) بحسب التعبير الهاملتي المثير. وإلَّا ما الجدوى الموضوعية المبتغاة من سرِّ هذه المغامرة الحياتية المُهلِكة التي دفع حياته قُربَاناً من أجلها؟ ويبدو أنَّ الكاتب الموسوي يُريد في وقع تجليِّاته أنْ يُوصل رسالةً للقارئ مَفادُها بأنَّ:

"الحُلُمُ لَا يَشترطُ تَحقُّقُهُ عَلَى أرضِ الوَاقعِ أمَّا الرُّؤيا فَإنَّهَا تَتحقَّقُ بِكُلِ تَفاصيلِهَا وَكَأنَّها رِسالةٌ لِلشخصِ عَمَّا يَخفيهُ لَهُ القَدَرُ مِنْ أحداثٍ مُسجَّلةٍ فِي عِلمِ الغَيبِ. ثَمَّةَ طَاولةُ بَيضاءُ كَبيرةٌ اِنتشرتْ عَليهَا تَذاكرُ السَّفرِ، بَعضُ هَذهِ التذاكر مَكتوبٌ عَليهَا أسبوعٌ بِاللَّون الأَسودِ، وَبَعضُها مَكتوبٌ عَليهَا شَهرٌ وبِاللَّونِ الأخضرِ، وبَعضُها كُتِبَ عَليهَا اللَّا عَودة وبِاللَّونِ الأحمرِ القَانِي. لِلحَظاتٍ تَأمَّلتُ فِي تِلكَ التَّذاكرِ، حَبستُ أنفاسِي، اِزدردتُ رِيقِي، تَسارَعَتْ نَبضاتُ قَلبِي، اِرتجفتْ يَدِي مِثلَ سَعفةٍ يَابسةٍ تَتَمَايلُ بِخجلٍ عِندَ مَعانقتِهَا لِريحٍ عَاتيةِ". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص7).

بعد أنْ اتَّضحت الغايات والمقاصد ومصادر الأنساق الثقافية البعيدة والقريبة من العتبات النصيَّة الثلاث، (العنوان الكلي الرئيس والإهداء والتصدير)، يَأتي الحديث عن العتبات الداخلية الفرعيَّة الموازية لفصول الرواية ومتونها النصوصيَّة التسعة. ويتناهى إلى ظنِّي كثيراً أنَّ السيِّد المؤلِّف حسن الموسوي بوصفه كاتباً شموليَّاً متنوُّعاً، قاصَّاً وروائياً سرديَّاً مطَّلعاً على جماليَّات الميتا سرد الحداثوي؛ وذلك من خلال تنوُّع ثقافته المعرفيَّة المُكتسبة، وسعة اشتغالاته التجدديَّة المتعدِّدة.

ويمتلك من الخبرة اللُّغوية الشعريَّة ما يؤهِّلهُ أنْ يكونَ شاعراً ماهراً، فقد مكَّنته هذه الخبرات الثقافية والمعرفية الابستمولوجية المتنوُّعة أنْ يُجدِّد في اشتغلاته الروائية السردية مسايرةً لزمكانية السرد وتحوَّلاته العصرية. وقد دفعته هذه الاحترافية الفردية والتعدُّدية الإبداعيَّة إلى أنْ تكون روايته هذه متواليةً فَصليَّةً، وليست مُتواليةً عنوانيةً قصصيَّةً، وأثَّثَ صفحات مفاتيحها الأولى بأنْ وضع لكلِّ فصلٍّ من فصول الرواية التسعة مقدِّمةً تصديريةً على شكل أو هيأة مقاطع شعريةٍ تناسب زمكانياً حدث الواقعة السردية، ورموز شخصيَّاتها الروائية بهذا التشكيل الحكائي الجديد.

إنَّ هذا اللون من التعبير الأسلوبي يُعدُّ جانباً مُهمَّاً من جوانب التسريد الحداثي وما بعده الذي يناسب عصرنة السرد الروائي ويضفي عليه أهميةً فنيةً ودلاليةً تستهوي ذائقة القارئ وتدفع المتلقِّي إلى التواصل الجاد مع معطيات العمل السردي ومع مخرجاته الفنيَّة وحمولاته الفكريَّة.

ويأتي الفصل الأول من أحداث الرواية الذي وضع له الكاتب مُقدِّمةً شعريَّة تتضمَّن دلالاتٍ أربع مثل دالة (الفرحُ والحياةُ والموتُ والفَواجعُ) التي افتتح بها نصوص هذا لفصل وقارب بينها:

"الأفرَاحُ وِلاداتٌ مَيْتَةٌ/ فِي بِلادٍ تَحيَا بِالفَواجعِ فَقَطْ". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 9).

وحسم الرائي الكاتب الأمر بهذا التخصيص الإجرائي التمثيلي المقلق للنفس وللمشاعر الإنسانيَّة بأنَّ سمة هذه البلاد (العراق)، هي ديمومة الفواجع والمآسي التي لا تنتهي من خريطة حزن الوطن.

في حينَ وشم الفصل التاسع والأخير من وقائع روايته بالحديث عن بعد المسافات والحواجز وهمَّهاالأخير، تلك المُسمَّيَات التي تُحيل بينه وبين الوصول لزوجته التي افتقدها في العراق حين تمَّ تهجيرها وإبعادها عنه قسراً. فكانت تلك المُهمَّة الكبيرة التي يرجو تحقيقها في سعيه الدائب إليها عندما تمَّ أسره من قبل القوات الإيرانية حينما كان جنديَّاً في أحد قواطع الجيش العراقي بالبصرة:

"لَا مَسافةَ/ أتخيلُهَا إليكِ/ الحَواجزُ/ وَهمُّ الخَطواتِ الأخِيرَةِ". (طَفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 91).

البِنيةُ السَّرديَّةُ لِلروايةِ:

إنَّ البِنية السرديَّة لواقعة الحدث الموضوعيَّة في مُدوَّنة حسن الموسوي المتوالية الفصلية الروائية (طِفلٌ ودفترُ ذِكرياتٍ)، والصادرة بطبعتها الأولى عام (2022م) عن دَارَي العَرَّاب في دمشق بسوريا، والصحيفة العربيَّة في بغداد/ العراق، بكم عددي نِيفَ عن مائة صفحةٍ من القطع الكتابي المتوسِّط، تقوم هذه البنية على ركيزتين أساسيتين مُهمَّتين هما: تضادية (الحبُّ والحربُ).

فالحبُّ هو تلك العَلاقة الإنسانيَّة العاطفيَّة الجميلة والمتأجِّجة التي بدأها الشَّاب الجامعي حسين، والذي يعمل في الوقت نفسه مساءً موظَّفاً صحيَّاً في المستشفى الحيدري في الكرادة الشرقية مع أو بصحبة صديقه وزميله الموظَّف عبَّاس بنفس المستشفى. ومن خلال رفقته لعبَّاس ارتبط حسين بعلاقة حبٍّ مع أخته الطالبة (زينب)، وقد أدَّت هذه العَلاقة الوجدانية إلى الزواج منها وقيام حياةٍ زوجيَّةٍ سعيدةٍ، ومن ثمُّ التطلُّع إلى تأثيث مستقبل إنساني زاهرٍ واجتماعيٍّ مستقلٍ.

ولكنْ للأسف لم تدُم تلك الحياة الجديدة طويلاً؛ بسبب ما قِيلَ عن تبعيَّة زوجته الإيرانية؛ وكون أصها من الكورد الفيليين الشيعة، والَّتي على إثرها قامت سلطات نظام الحكم السابق في ثمانينيَّات القرن العشرين بتصفيتهم وطردهم وتهجيرهم إلى الجارة إيران، لا ذنبٍ اقترفوه، بل لكونهم من التبعية الإيرانية التي ادَّعاها النظام، وفي خطوةٍ مُبيَّتةٍ وعاجلةٍ رأى النظام لا بُدّ من تسفيرهم وإجلائهم عن أرض العراق التي ولِدوا وعاشوا بها ردحاً من طويلاً من الزمن.

ولهذا الحائل يكون حسين العراقي قد فقد زوجته وحبيبته زينب التي يفترض لم تُسَفر معهم، إنَّما الذي يتمُّ تسفيره أخوها عبَّاس مع أهله، لكن تعنِّت الأجهزة وعنادهم معه وبُغضهم له واتِّهامه بخيانة النظام البعثي والتآمر كان سبباً كافياً بعدم بقائها معه خلافاً للقانون. وبهذا الإجراء التعسفي الظالم انطوت صفحة الحبِّ والزواج وخاض حسين صراعاً مريراً مع نفسه ومع إجراءات الآخر. وعلى وفق ما حصل لحسين وزينب من تدمير لحياتهما الزوجية المُبكِّرة بدأت حكاية المجهول.

أمَّا الحرب فهي الركيزة الثانية المهمَّة من صميم واقعة الحدث السردية، والتي أخذت مِساحاتٍ موضوعيَّةً واسعةً من أحداث الرواية وحكايات فصولها السردية الأخرى، وما نتج عنها من تجلِّيات سياسيةٍ وعسكريةٍ ومضايقاتٍ حزبيةٍ داخليةٍ صارخةٍ احتشدت تعبئتها بنذير الحرب، وكثيراً من الممارسات القمعية والتصفيات الجسدية التي اتَّخذتها الأجهزة الأمنية لمن يُعادي مبادئ الحزب والثورة وهرم النظام الدكتاتوري . وقد رافق ذلك القيام الفعلي بعسكرة المجتمع العراقي إسبارطيَّاً.

وقد بلغت تلك الممارسات العِدائية الاستبدادية ذِروتَها القصوى واستفحالها السلطوي إثر اندلاع طلائع الحرب العراقية الإيرانية بين البلدينِ المُسلمينِ في الثمانينيَّات، وبعد أنْ انقطعت سُبلُ العّلاقة الدبلوماسية بينهما وشهدت العلاقات السياسية بينهما تدهوراً إقليمياً ومحليّاً خطيراً غير مسبوقٍ أسهم في إشعال فتيل هذه الحرب التي لا طائل من ورائها، والتي لا رابح فيها أو خاسر سوى إزهاق أرواح الأبرياء وخراب وتدمير للبنية التحتية لكلا البلدينٍ المتحاربين بأوامر وأجندة خارجية إقليمية وعالمية معروفة لكلا الشعبين.

هذا الفعل من جانب خارجي حدث ولم ينتهِ إلا بعد مضي ثماني سنواتٍ لحربٍ عِجافٍ من القتال والموت والخراب. ومن جانب داخلي آخر فقد واجه البطل حسين ذاتيا حربين متتاليتينِ، حرب على المستوى المحلي الداخلي في مواجهاتٍ مستمرَّةٍ معه واستفزاز النظام السلطوي له ولعائلته؛ كونه أُتُّهِمَ بعدائه للنظام الحاكم وانتمائه لتنظيمات حزب الدعوة الإسلامية وولائه لشخصياته القيادية الثائرة وقتذاك والتي تتواجد في إيران كمعارضةٍ حقيقيةٍ .

الأمر الذي جعل من مختار المنطقة أنْ يوجِّه اتّهامه له مباشرةً دون هوادة وترك أمر اعتقاله له لوقت آخر.؛ بسبب أنَّ المختار يرتبط بعلاقة نسبٍ باُمِّه الذي حال دون اعتقاله كما يدَّعي المختار. فخاض حسين صراعاً مريراً وكبيراً مع أجهزة النظام الأمنية والحزبية القمعية ومحاربتها لَهُ؛ بسبب اتهام هذه الأجهزة لزوجته زينب بالعمالة للنظام الإيراني، وقيامها بعمل جماعي سردي ضد نظام الحزب والثورة دون أن يكون لزوجها حسين معرفة أو عِلْمِ بذلك الأمر السري.

أمَّا الأمر الآخر الذي عاش حسين مخاضه المرير، فهو استدعاؤه لأداء خدمة العلم الإجبارية العسكرية وخوضه لسلسلة المعارك الدائرة بين البلدين الجارين العراق وإيران التي لا نجاة منها إمَّا الهروب من الخدمة أو الوقوع في مثالب الأسر. فكان الأمر الثاني (الأَسرُ) أهون الشرَّينِ على نفسه وأجدى نفعاً من الهرب. وهو ما ساقته الأقدار بقدميه إليه راغباً به، فوقع أسيراً من قبل قوات الجيش الإيراني الذي كان حسين ينتظر مثل هذه الفرصة الكبيرة بفارغ الصبر من أجل البحث عن زوجته زينب في أماكن تواجد العراقيين المهجرين في أحياء العاصمة طهران مثل منطقة آباد.

لقد عاش حسين تجربة هذا الصراع المرير الداخلي والخارجي من أجل تحقيق هدفه الأسمى ألَا وهو البحث عن زوجته وعائلتها في إيران، وقد حدث له ذلك، وتحقَّق ما كان يسعى إليه؛ ولكن برياح الفقد المفاجئة التي لم تشتهيها سفن حسين السائرة نحو ضفاف الأمان ومرافئ السلام والحياة الآمنة التي كان ينتظرها على أحرِّ من الجمر.فكانت المفاجأة كبيرة ووقعها الإنساني مُذهل خطير.

فزينب الزوجة قد تمَّ تهجيرها خلال أيامٍ قليلةٍ من زواجها، وعلى إثر ذلك ماتت كمداً بحسرتها على فراق حبيبها حسين الذي انتظرته كثيراً لكنْ دون جدوى؛ ولكنَّها خلَّفت له إرثاً جديداً فتركت له ابنها سجَّاداً ذلك الطفل الصغير الذي يُذَكِّرهُ بزوجته زينب وتركت معه له دفتر ذكرياتها الذي كتبت فيه يومياتها الكَرَّاديَّة في بلدها العراق وحياتها في مثابتها الأخيرة آباد بطهران.

لم يجنِ حسين من وقع هذا الحبِّ الذي ساقه إليه القدر إلَّا الموت الذي كلَّفه حياته؛ نتيجة الصدمة الكبيرة القاضية التي تلقاها عل إثرها والتي أقصته من الحياة إلى الموت بعد أنْ أمضى جهاداً كبيراً ومعاناةً مضنيةً في تحقيق مسعاه الأخير في اللقاء بها بعد رِحلة البحث.

وبسبب صدمة هذا الفقد الفاجعية الأخيرة التي أدَّت إلى موت كلا الاثنين الزوج والزوجة ركني واقعة الحدث السردية (الحبُّ والحربُ)، يُوجَّه الكاتب حسن الموسوي في وقائع مرويَّاته الحكائية التسريدية الفاعلة الأثر في فصول هذه المدوَّنة الروائية رسالةً توثيقيةً وتدوينيةً لقارئه ومتلقِّيه مَفادُها بأنَّه لا حبٌّ إنسانيّ يدوم ويُعمِّرُ، ولا حربٌ ضَروسٌ مُدمِّرةً تستمرُّ فلا تؤثِّر، على الرغم

من أنَّ الأمر الأول وأعني ثيمة (الحبُّ)، أهون الخيارين من الأمر الثاني في حالة المقاربة بينها.

وعلى الرغم أيضاً من كثرة شخصيَّات هذه الرواية الثانوية التي تخطَّت أسماؤها التي ذكرها الأربعَ عشرةَ شخصيَّةً، ففد اثبتتْ رواية (طفلٌ ودَفترُ ذكرياتٍ)، بأنَّها رواية البطل الأوحد الشخصيَّة المركزية المتنامية الأحداث والأفكار والوقائع، وليست روايةً (بوليفونية)متعدِّدة الأصوات والرموز الشخصيَّة برغم كثرة مثاباتها الداخلية والخارجية الزمكانية، وتعدُّد صور عُقدُ صراعاتها وكثرة حواراتها السرديَّة والموضوعيَّة الإنسانية والوطنية والاجتماعية. وأنَّ أهمَّ ما يُميِّز سرديَّات هذه الرواية وحدتها الموضوعية وانتقالاتها الحدثية السريعة وهدفها الإنساني الذاتي القريب والبعيد.

تَمثُّلاتُ سَرديَّاتِ ثُنائيةِ (الحُبُ والحَربِ):

إنَّ من يُمعنُ النظرَ جليَّاً، ويتأمَّلُ بعينٍ نقديةٍ رابعةٍ في سرديَّات رواية (طفلٌ ودَفترُ ذكرياتٍ)، ويُحاول الشروع بتفكيك شفراتها اللُّغوية والدلالية، ويستوعب أنساقها الثقافية القريبة والبعيدة تعليلاً وتأويلاً وتحليلاً هرمنيوطيقياً معرفيَّاً مُتراتِبَاً لفصولها الحكائية التسعة، سيصل من خلال قراءته النقدية المتتالية لتلك الفصول إلى نتيجةٍ استقرائية منهجية مَفادها أنَّ الرواية تعدُّ متواليةً فصليةً خالية من العتبات العنوانية الفرعية الفصلية، وأنَّ بعضَ فصولها الأربعة الأولى الَّتي تشكِّل النصف الأول من مَتِن فضائها السردي كميَّاً لا نوعياً تقريباً، تعدُّ بأنَّها فصولَ تأثيثٍ وإعدادٍ وتمهيدٍ وتقديمٍ وتحشيدٍ لتجلِّيات الواقعة الحدثية ولموضوعات فكرة (الحبِّ والحَربِ)، أو مَظاهر الحرب والسلم، وأنَّ فصولها الخمسة الأخرى تمثِّل النصف الثاني من روح الرواية وثيمتها الفكرية والجماليَّة.

وفي الوقت ذاته تُشكِّل هذه الفصول الأخيرة جُلَّ سرديَّاتها الفعلية وشخصيَّاتها الفواعليَّة ووحداتها الزمكانية والعُقدية، وتمثِّلُ القسم النوعي الأسمى والأخطر والأجدر الذي بُنيتْ عليه واقعة الحدث الموضوعية لهذه المدوَّنة، وأنَّ الأحداث الحقيقية المثيرة والمهمَّة المتساوقة لجدليَّة (الحبِّ والحربِ) تبدأ من أحداث الفصل السردي الخامس تصاعدياً حتَّى تصل إلى خاتمة الرواية أو نهايتها الكليَّة.

وعلى وفق تلك القراءة التأمُّلية لم نجد هناك أثراً أُسلوبياً لتقنيتي (الاستباقِ والتأخيرِ) عند الكاتب حسن الموسوي، وإنَّما سار وفقَ المنهج النسقي الكتابي التعبيري الموضوعي لتمظهُرات الواقعة الحدثية من أجل تنامي سير الأحداث بخطىً تسريديةٍ ثابتةٍ لا تحتمل مناورة السرد في الاستباق أو التأخير؛كون موضوعها الفنِّي يُعدُّ مُوضوعاً حدثياً تسلسليَّاً وتراتبياً في وتيرة الأحداث السردية.

وقد اعتمد الراوي العليم أو (الكاتب) في بنائه السردي على عنصري الإمتاع والتشويق الفنِّي للقارئ وتكثيفهما من خلال أُسلوبيته التعبيريَّة، وخاصةً في الفصلين الأخيرينِ والمثيرين من أحداث الرواية التي أَخَذَنَا الكاتب فيها على حين غُرةٍ من خلال التنقل عبر فصولها التسعة دون أنْ نعرفَ المعنى الحقيقي المُلَغَّز لعنوان الرواية، أو نكتشف المعنى الدلالي الخفي وراء التسمية العنوانية التقليدية للرواية.

فمثل هذه الانتقالة التواصليَّة السريعة التي أحَاَلَنَا فيها الكاتب، وحَمَلَنَا على جناح السرد إلى نقطة النهاية التوقُّعية الصادمة الضرب في مُجريات حركة الحدث السردي وخواتيمه الإدهاشية المذهلة تعدُّ من أساليب السرديَّة المعاصرة التي تُحسب لشخصية المؤلِّف الكاتب ومهارته الفنيَّة الاحترافية الباسلة في تأثيث روايته البيئية الاجتماعية جمالياً وإيقاعياً عبر مَجسَّات تعبيره الأسلوبي السردي.

تَمثُّلاتُ الفصلُ الأولُ:

تُشيرُ مقدِّمة أو مُفتتح هذا الفصل وموحياتها الدلالية إلى الشعور الذاتي المغتبط بالأفراح التي أعدَّها الكاتب أشبه بولاداتٍ مَيتةٍ في بلاد حيَّةٍ تعيش وقع الفواجع والمآسي، ولا تعرفُ معنىً للفرح والسرور؛ بسبب ضغوطٍ كبيرةٍ واجهتها. وقد حرص الكاتب الموسوي على توثيق وأرخنة مكان وزمان الحدث الذي ابتدأت به الروايَّة، ويبدو أنَّ الكاتب له صلة وثيقة بالمكان؛كونه عنصراً أساسيَّاً مهمَّاً من عناصر السرد، وأشار إلى صفة البطل الشخصية ومكان عمله وعلاقاته بالآخرين:

"بَغدادُ/ الكَرادةُ الشَّرقيةُ/20 / 6/ 1980، بِولادةِ صَباحٍ جًديدٍ تًستيقظُ الشَّوارعُ بِناسِهَا وَبِناياتِهَا لِلشروعِ بِيومٍ جَديدٍ، يَومٌ رُبَّما يَحملُ بَينَ طَيَّاتِهِ شَيئاً مِنَ الأملِ لِأولئِكَ الَّذينَ دَاستْهُم الحَياةُ ولَفظتْهُم إلَّى حَاويةِ النَّسيانِ. مِنْ بَعيدٍ لَمحتُ صَديقِي عَبَّاسَاً والَّذي يَعملُ مَعِي فِي مستشفَى الحَيدري، وَهوَ يَسيرُ عَلَى ضَفةِ نَهرِ دِجلةَ مِنْ جِهةِ الرُّصافةِ قُربَ جِسرِ الجُمهوريَّةِ". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص10).

إذنْ المكان الأول لواقعة الحدث السرديَّة تحدَّد بمثابة الكرادة الشرقية، والتي هي إحدى مناطق بغداد التي تنعم بالحياة النابضة الثراء والباذخة الرفاهية والأمان. وكان فصلاً قصيراً، وحرص فيه حسن الموسوي أنْ تكون نهايته خاتمةً موضوعيَّةً بسيطة وذات وقعٍ حكائي سردي فاعل الأثر.

تَمثُّلاتُ الفَصلِ الثَّاني:

ينفي السارد أو بطل الرواية في مقدمته النثرية المكثَّفة أنْ تكون (السعادةُ) مصدراً من مصادر صفات حياته الشخصية التي يحياها كإنسانٍ سويٍّ بالغ العقل والفكر والعمل؛ ويُعلِّلُ فقدانه لها وعدم التمسك بها؛ كون (الحزنُ) يُشكِّل فِيتو بديلاً عنها؛ لذلكَ هي ليست سِمةً من سماته الشَّخصيَّة الدائمة، بل هي ضيف أو زائر لا يلبث المكوث في ذاتيته الموجعة النكوص.

وتُشير تجلِّيات هذا الفصل ومشاهده وتمظهراته الحدثية إلى أن الشرارة الأولى لواقعة الحُبِّ الوجدانية التي انطلقت من لَدُن حسين الفاعل الأول للرواية صوب زينب الفاعل الثاني منها من أجل التعرُّف عليها، وفي بناء وتوطيد علاقةٍ عاطفيةٍ وإنسانيَّةٍ تؤدِّي في نهاية الأمر إلى الارتباط الروحي والنفسي الزوجي والمَسكنة الأُسريَّة كمصدر دائم لسعادة الإنسان واستقراره الاجتماعي:

"مَعَ مُرورِ الوَقتِ تَوطَّدتْ عَلاقتِي بِزينَبَ؛ ولِذلكَ طَرَحتُ عَليهَا فِكرةَ الزَّواجِ. لَا أعتقدُ أنَّ زَينبَ قَدْ تَفاجأتْ حِينَمَا طَرحتُ عَليهَا فِكرةَ الزَّواجِ، فَهيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَتاةٌ وَالزَّواجُ فِكرةٌ مُحبَّبةٌ لِكُلِّ فَتاةٍ، بَلْ تَكادُ تَشغلُ كُلَّ تَفكيرِهَا طُولَ الوَقتِ". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 18).

وقد رافقت هذه العلاقة الإنسانية ظهور بوادر قيام الحرب العراقية الإيرانية التي أخذت تلوح في الأفق آثارها الوخيمة. وما شهدته مدينة بغداد والكرادة الشرقية نقطة الحدث المهمَّة بالذات من أحداثٍ مأساويَّةٍ حيالَ ذلك القادم ألقت بظلالها الخطيرة على كاهل الجميع من سواد الشعب، وما رافق ذلك الحدث المثير من اعتقالاتٍ سياسيَّةٍ وتهجيرٍ قَسري وتصفياتٍ شخصيَّةٍ لأفراد الأُسَرِ من الذين وصفتهم السلطة بانتمائهم إلى التبعية الإيرانية. وهي من أكبر الحجج الواهية الخطيرة التي واجهوها مع الأجهزة الأمنية للنظام القمعي؛ الأمر الذي جعل حتَّى العشائر العراقيَّة العربيَّة تستشعر هذا الخطر الذي يمخر عباب جمهور مُعيَّن الناس المسالمين في ولائهم وحبِّهم للعراق:

"فَلَقدْ قَامتِ الأجهزةُ الأمنيةُ بِتهجيرِ عاَئلةِ الحَاجِّ عَبَّاسِ الكَرادِي، وَهوَ مِنَ الشَّخصيَّات العّربيَّةِ البَارزةِ فِي مَدينةِ الكَرادةِ، وَهوَ أيضَاً مُؤذِّنُ الحُسينيةِ وَمِنَ الرِّجالِ المُتدينينَ جِدَّاً ويَعملُ فِي تِجارَةِ الفَحمِ. ويَعودُ نَسبُهُ إلَى الإمامِ عَليٍّ بِنِ أبِي طَالبِ (عَليهِ السَّلامُ)". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 19).

تمثُّلاتُ الفَصلِ الثَّالثِ:

ما بين شخصيَّة القاتل الآثم أو المُجرم جَريمةُ قَتلٍ قُيِّدتْ ضدَّ فاعلٍ مجهول، وما بين قابيل الفاعل للقتل قصدياً، وهابيل الضحية المقتول ظلماً، دماءٌ تسيل وأثرٌ خطيرٌ ضدهُ شهود عدلٍ على وقع الجرم تؤكِّد حقيقة القاتل ولا تُبرِّئ ساحة من ثَبَتَ عليه فعل الجرم المشهود بتعضيد الحقّ.

وفي سرديَّات هذا الفصل يتماهى الكاتب السيِّد حسن الموسوي وبطله العراقي حسين الكرادي مع تناص واقعة الحدث التاريخية الدينية لقصة (قابيل وهابيل) الأخوينِ، وكيف أسقطها الكاتب تاريخياً على واقعة النص السردية لتمثُّلات هذا الفصل الذي تَعرَّض فيه بطله الشخصي حسين إلى الاعتقال والحجز في نظارة السجن؛ بسبب جريمة قتل حدثت صدفةً لشخصٍ أخر مجهول غير معروف الهَويَّة في طريق عودته من نوبة عمله في مستشفى الحيدري الذي يعمل فيه وقت الليل:

"لأولِ وَهلَةٍ أَفزعتني الشُّرطِي بِطريقةِ تَعامُلهِ مَعِي لَكنَّنِي سُرعانَ مَا سَيطرتُ عَلَى النَّفسِ وَحَافظتُ عَلَى هُدوءِ أعصابي -عَلَى الفَورِ تَوقَّفتُ لِأستعلِمَ مِنهُم عَمَّا يَجرِي مِنْ حَولِي، وَيَا لِلهولِ كَانتْ ثَمةَ جِثةٌ سَابِحةٌ فِي دَمِهَا مُلقاةٌ عَلَى قَارعةِ الطَّريقِ بِالقُربِ مِنْ مُستشفَى الحَيدري، وَسَطِ ذَلكَ المَشهدِ تَجمَّعَ رِجالُ الشُّرطةِ حَولَ جُثَّةٍ تَعودُ لِرَجُلٍ أربعينِي العُمرِ كَانَ قَدْ تَعرَّضَ لِعدَّةِ طَعَنَاتٍ فِي مَنطقةِ الصَّدرِ". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 22).

لم يصدق حسين ما حدث له من أمرٍ مُفاجئ ألمَّ به بَغتةً، وبعدَ إجراءِ تحقيقٍ مُفصَّلٍ معه والتعرُّف عَلى هَويته الشَّخصيَّة وَصفةِ عمله في المستشفى والتأكُّد من براءته وعدم ارتكابه لفعل الجريمة الآثم أمرَ الضابط المسؤول في مركز الشرطة بتبرئته وإطلاق سراحه.وقد حرص الكاتب الموسوي أن تكون خاتمة هذا الفصل تجمع بين الخاتمة الموضوعيَّة والتَّخيُّليَّة الفنيَّة المشوِّقة.

تمثُّلاتُ الفَصل ِالرابع:

تُخبِرُ مُقدِّمةَ الفصل الرابع وعتبةُ مُستهله الافتتاحي، كيف يتماهى الإنسان مع ذاته الأنويَّة؟ وكيف يتقارب مع ظلِّه وهو يسابق بخطاه الريح؛ كي يكون قريباً من هدفه المنشود ومطمئناً بتؤدةٍ على نجاح مساره الحقيقي المفقود. لقد آثر الكاتب والسارد الموسوي أنْ تكون أُولى سرديَّات هذا الفصل الإشارة الزمانية لبدء تاريخ الحرب العراقية الإيرانية، والتأكيد على توصيف مشاعر

البطل الذي كان يَكره الحَرب التي أخذ في البوح عنها لحبيبته زينب في وقت لقائه الأوَّل بها:

"بَغدادُ/ أيلولُ1980، وأخيراً اِندلعتِ الحَربُ بَينَ الجَارينِ المُسلمينِ العِراقِ وإيرانَ، بَعدَ أنْ شَهدَتْ العَلاقةُ بَينَ البَلدينِ تَدهورَاً خَطيرَاً، وَسَاعدَ تَدخلُ الأصدقاءِ والغُرباءِ عَلَى إشعالِ فَتيلِ هَذهِ الحَربِ. كُنتُ أَكرهُ الحَربَ وَلمْ أخفِ شُعورِي هَذَا لِحبيبتِي زَينبَ، وَقَدْ أخبرتُهَا بِذلكَ حِينَمَا اِصطحبتُهَا ذَاتَ صَباحٍ إلَى السُّوقِ. أنَا أكرهُ الحُروبَ، قُلتُ لَهَا، بَعدَ أنْ رَأيتُ أنَّ أغلبَ الرِّجالَ فِي السُّوقِ قَد اِرتدُوا البَدلاتِ الخَاكيةَ، وَهَذهِ إشارةٌ إلَى تَطبيقِ مَبدَأِ عَسكرةِ المُجتمعِ عَلَى أرضِ الوَاقعِ، الوَيلُ والثَّبُورَ لِكُلِّ مَنْ يُعارِضُ قَراراتِ القِيادَةِ الَّتي كَانتْ مُتمثِّلةً بِشخصٍ وَاحدٍ ألَا وَهوَ رَأس النِّظامِ". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، 28). ورأس النظام إشارة واضحة إلى شخص الرئيس صدام حسين.

وقد رافق شحن هذه المشاعر المُلتهبة بنذير الحرب مراقبة الأجهزة الأمنية الشديدة لتصرُّفاته الشخصيَّة، ورصدِ عَلاقاته مع أصدقائه المَشبوهين بولائهم لحزب الدعوة وإيران؛ الأمر الذي اُستدعي كثرة الاعتقالات والتنكيل بالشباب المؤمن بقضيته ومبادئه من الذين يمقتون نظام البعث وتصرفاته الإجرامية. فضلاً عن مضايقة هذه الأجهزة لأصحاب المَحلَّات من التُّجار بقضية العمل لصالحهم كوكلاء أو مُخبرينَ للأمنِ، وكتابة التقارير اليومية المُفصَّلة عما يجري في أقبية السوق:

"أخشَى عَليكَ مِنَ الرِّفاقِ قَالَ سَيِّدُ صَادقُ: -لَا عَليكَ أنَا لَا أهتمُّ لِمُضايقاتِهُم، لَقدْ قَلقتُ كَثيرَاً عَلَى سَيِّد صَادقٍ، اِختفاؤُهُ المُفاجئُ جَعلنِي أقلقُ عَليهِ وَبِالخصوصِ بَعدَ مَوجةِ الاِعتقالاتِ العَشوائيَّةِ الَّتي طَالتْ جَميعَ الشَّبابِ الَّذينَ يَرتادُونَ حُسينيَّةَ البُو جُمعَةَ. -أنَا أيضَاً بَدأتُ أخشَى عَلَى الشَّبابِ، لَقدْ أظهرَتِ الحُكومةُ وَجهَهَا القَبيحَ وَكَشَّرَتْ عَنْ أنيابِهَا، وَحَملةُ الاِعتقالَاتِ الأخَيرةِ دَليلٌ علَى فُقدانِهَا لِتوازِنِهَا". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 35).

ويعدُّ هذا الفصل من أكثر فصول الرواية حساسيَّةً ودقةً في مواجهة المدَّ السلطوي في محاربة الأشخاص المناوئين لأجهزة النظام الأمنية القمعيَّة والحزبية المقيتة في مطاردة الشرفاء وتعذيبهم.

تَمثُّلاتُ الفَصلِ الخامسِ:

يُعدُّ الفصل الخامس من فصول هذه الرواية الأكثر وجعاً وألماً ونكوصاً وارتكاساً نفسيَّاً مُقلقاً على روح شخصية بطلها الأوحد حسين وعلى قلبه المجهد. وهو من أكثر الفصول التي اشتدَّت فيها عُقدة الصراع الداخلي وقعاً والتحمت أبوابه بالانسداد والانغلاق الحياتي الذي سدَّ مسدَّ منافذ الطرق والآمال الموصلة لضفاف الواقع الحقيقي، وجعل الأمور تصل نفقٍ مظلمٍ حالكٍ الأرجاء له.

لذلك فإنَّ كاتب الرواية أو راويها العليم (السارد) يُقدِّمُ لنا على لسان حال بطله الباسل الهُمام حسن في الصفحة الأولى من مطالع مقدّمة هذا الفصل الذي جاء على شكل اعتراضاتٍ حكائيةٍ تقريريةٍ ذاتيةٍ تكشف عن اللَّحظات الإنسانية الهاربة التي يبحث عنها البطل المجاهد علَّه يصل إلى جزء قليل فيها لإرضاء ذاته الأمَّارة بالوجع الأليم المُدمي والاغتراب الوجودي الذي لا حدود له إلَّا بالاقتراب من المأمول القصدي الأخيرالذي يجد به بُغيته وهدوءَ وسَكينةَ حياته المُهدَّدة بالخطر.

ومن إضاءات هذا المأمول بحثه الدائم عن حُلُمه الوجودي الحياتي الضائع الذي خطفته يد الزمن في غفلةٍ من الناطور. وشعوره بألم الفقد الزوجي ومرارة الاضطهاد وظلم ذوي القُربى الإنساني له في المجتمع ومن حوله جعله يمضي حياته ومستقبله الإنساني وحيداً في عتمةٍ مظلمةٍ أطبقت على كلِّ شيءٍ، فسلبته حُلُمَ حياته وجعلته عاجزاً عن فعل أي شيءٍ، وأفقدته صدمة هذا الفقد حتَّى فرصة الدفاع عن نفسه أمام عتبات محكمة الحياة كما يصفها هو ذاته في مسروداته.

ومهما يكن من أمر ذلك الجَلل الذي سيطرَ على حياته ودمَّرها، وبدَّدَ شعوره النفسي والذاتي بفقدان بصيص الأمل ما زالت أمامَهُ فرصةٌ مؤاتيةٌ لتحقيق هذا الأمل الرفيع المنشود وامتلاكه القدرة الروحية على إطلاق صرخته الفورية المدوِّية في وجه الطغاة من العُتاة وثلة المُتسلطين.

ومن محطَّات هذا الفصل التسريديَّة الأشدُّ إيلاماً ووجعاً مريراً على نفسية حسين المأزومة حدوث ما لم يكن في الحسبان والتوقُّع، حيث حصلت واقعة الفقد الحدثية القاصية على أيدي أجهزة النظام البعثي التسلطي ومباغتتهم لبيت أهل زوجته وقرار تسفيرهم لإيران بحجَّة التبعية الإيرانية:

"فِي ذَلكَ المَساءِ الحَزينَ اَنتشرتْ سَيَّاراتٌ مَدنيَّةٌ مِنْ نَوعَ اللَّا ندكرُوز، وهَذهِ السيَّاراتُ مَعروفةٌ لَدَى العِراقيين، فَبحضورَهَا يَحضرُ الحُزنُ بِكلِّ صُورةِ، ويَحضرٌ جَبروتُ السُّلطةِالحَاكمةِ وَقَسوتُها، بِسُرعةٍ اِنتشرَ رِجالُ الأمنِ فِي كُلِّ مَكانٍ ولَمْ يَسمحُوا لأيٍّ كَانَ بِالاقترابِ مِنهُم. كَانَ البَابُ الرَّئيسُ لِمنزلَ أهلَ بَيتِ زَينبَ مُحطَّمَاً بِالكاملِ، بِخُطواتٍ ثَقيلةٍ تَقدَّمتُ نَحوَ البَيتِ، اِعترضَ طَريقِي مُختارُ المَحَلَّة قَائِلاً: - اِرجعْ إلَى بِيتِكَ وَلَا تَتقدَّمْ خُطوةً واحدةً إلَى أمامٍ. –أخْبرنِي، مَاذَا حَصلَ؟ قُلتُ بَعدَ أنْ تَملَّكتنِي الدَّهشةُ: -مَاذا حَصلَ؟ قَالَهَا المُختارُ، ألَا تَعرفُ أنَّ أهلَ زَوجتِكَ مِنَ التَّبعيَّةِ الإيرانيَّةِ، وَقَدْ جَاءَ هَؤلاءِ الرَّجالُ الأبطالُ لِكَي يَنقذُوا البِلادَ مِنْ شُرورِهُم". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 47، 48).

وعلى إثر هذه المُداهمة الأمنية أصبح حسين محلَّ شُبهةٍ عندَهم؛ كونه يلتقي بأصدقائه الذين يعتبرونهم متآمرين على سلطة النظام وأجهزة الحزب والثورة. وبعد الذي حدث لأهل زوجته التي تمَّ تهجيرها معهم صار الهمُّ والحُزنُ رَفيقاً لحياة حسين المتبقية. وراح يتأمَّل الماضي الجميل الذي عاشه في بيته وسط ذكرياته وأيام عمره الفائتات، ولم تكن وسلته المُسلِّية سوى المزيد من الدموع التي تُعوضه عن غياب زوجته زينب، وتبدَّدُ سيف الغياب القاطع الذي أجهز على شجرة حياته:

"بَعدَ ثَلاثةِ أيامٍ مِنْ تَرحيلِ زَينبَ وَعائلتِهَا، هَاجمَ رِجالُ الأمنِ بَيتنَا المَنكوبَ بَألمِ الفَقدِ. وَفِي البِدايةِ عَاثُوا فَسادَاً وَحطَّمُوا كُلَّ شَيءٍ وقَعَتْ أعينُهُم عَليهِ، حَالةُ الغَضبِ الَّتِي تَملكَتهُم لَجمَتْ لِسانِي وَجَعلتنِي أَقفُ كَالتمثَالِ بَينَهُم. وَبَأُسلوبٍ حَقيرٍ حَاولُوا قَدَرَ الإمكانِ مِنْ اِستفزازِي، مِنْ أجلِ أنْ يَبطشُوا بِي، لَكنِّي لَمْ أسمحْ لَمْ أمنحهُم هَذهِ الفُرصةُ، وحَينَمَا يَأسُوا مِنَ العُثورِ عَلَى أيِّ شَيءٍ دَاخلِ البَيتِ، تَصفَّحَ ضَابطُ الأَمنِ فِي وَجهِي مُتوعِدَاً بَأنَّه سَيعملُ جَاهدَاً عَلَى إنزالِ أقصَى عُقوبَةٍ لِمجرمٍ مِثلِي كَمَا وَصَفنِي". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 55).

لم تنتهِ سلسلة التهجير والتصفيات التي طالت الكُورد الفيليين الذين جمعوا بين ثنائية الضدين النقيضين، النقيض الأول؛ كونهم من القومية الكردية، والنقيض الثاني هم من الطائفة الشيعية، ومثل هذا الدمج العفوي والعقائدي المُوحدن بين القومية الكردية والطائفة الشيعية لا يحظى بِحُبِّ وتأييد نظام الحكم القائم لهم، بل يسعى بكراهيته لهم لاقتلاعهم من الجذر. الأمر الذي جعلهم يدفعون الثمن غالياً بالتهجير والتسفير؛ بسبب انتمائهم الطائفي والعرقي الثنائي المزدوج.

لم يكتفوا بكل هذا التنكيل، بل راحوا بتوجيه الاتِّهام المباشر لزينب زوجته وارتباطها بعلاقة سياسية مشبوهة بتنظيمات حزب الدعوة العميل كما يَدَّعون ذلك في مُداهماتهم العشوائية السريعة. وإخفاؤها لمنشوراتٍ معادية لهرم سلطة رئيس النظام الحاكم وقائد الحزب والثورة في العراق:

"أيُّها المُغفَّلُ مَاذَا فَعلتَ بِنفسكَ؟ يَا لِهذَا الزواجِ المَشؤومِ! لِماذَا وَرَّطتَ نَفسَكَ مَعهَا. فِي تِلكَ اللَّحظاتِ حَاولتُ جَاهدَاً أنْ أِسيطرِ عِلِى نِفسِي رُغَمَ حَالةِ الغَضبِ الشَّديدِ لِسماعِي أقوالَ المًختارِ الحَقيرِ. –أنتَ مُخطئٌ، قُلتُ فَي وَجههِ، وَأردفتُ، زَينبُ إنسانةٌ عَلَى هَيئةِ مَلاكِ وَالشّيءُ الصَحيحُ الوَحيدُ الَّذي عَملتهُ فِي حَياتِي هُوَ الزَّواجُ مِنهَا". (طِفلٌ ودَفتُر ذِكرياتٍ، ص 55، 56).

كلُّ هذه الممارسات اللَّا إنسانية لأجهزة النظام الأمنية ألقت بظلالها الخطيرة على حياة هذه الفئة التي تمَّ تهجيرُها من الناس المسالمين، والذين ولِدوا أباً عن جدٍ وعاشوا في أرض العراق. حتَّى وصل بهم الحال إلى بيعِ مُمتلكاتهم الشخصيَّة وأثاثهم الخاصّ بأسعارٍ زَهيدةٍ جدَّاً؛ بسبب قصر المدَّة الممنوحة لهم من قبل أجهزة النظام، والتي لم يستطيعوا حتَّى جمع أملاكهم أو عرضها وبيعها بشكل يتيح لهم فرصةَ التَّمكُّن وإتمام إجراءاتها بحال يليق بهم وبحبِّهم لبلدهم الكبير العراق. وقد كانت حصيلة ذلك الخذلان والانكسارُ والشعورُ بالحيف والظلم والاستغلال والمضايقات لحياتهم.

تَمثُّلاتُ الفَصلِ السَّادسٍ:

المقدِّمة الافتتاحية التي اختارها الكاتب حسن الموسوي بديلاً عنن العتبة العنوانية لهذا الفصل؛ لتكون نصَّاً موازياً افتتاحياً مقارباً لمعانيه الدلاليَّة والموضوعيَّة تكاد تكون صفةً قوليةً تؤكِّد فعليَّةَ الحدث السردي وتُعزِّزُ الرأي القائل بأنَّ طبيعة الإنسان تتغير بتغيُّر وحدتي المكان والزمان التي تمرُّ به دورة حياته. وعلى وفق ذلك الأمر التوصيفي جاءت سرديَّات هذا الفصل استكمالاً عما جرى لحسين من نوائب الحزن والفقد الذي توالت زيارته لعائلته، فهذه المرَّة طالت يدُ المنون والدته التي أحبتها زوجته زينب وألفت عشرتها الاجتماعية والأسرية في أيام زواجها بالعراق:

"فبالأمسِ فَقدتُ زَوجتِي زَينبَ بَعدَ أنْ تَمَّ تَهجيرُهَا إلَى بِلادِ المَنافِي وَاليومَ فَقدتُ أُمِّي الَّتِي لَفظتْ أنفاسَهَا الأخيرةَ وَهيَ عَلَى فِراشِ زَينبَ ذلكَ الفِراشُ الَّذي هَجرتُهُ مُنذُ اليَومَ المَشؤومِ. كَانتْ آخرُ كَلماتِ أُمِّي (المُلتقَى عِندَ رَبٍّ كَريمٍ مَعَ الحُسينِ، فِي جَنَّاتِ عَدنٍ، اِبنتِي زَينبُ)". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 60).

الفقد الأخير للوالدة خلَّفَ جُرحاً عميقاً آخر لن يندمل شفاؤه لدى حسين والتي صارت الهموم والأحزان ضالته الحياتية التي راح يناجيها بأبيات من الشعر العربي القديم لامرئ القيس وأخذته مشاعر الشوق والحنين لحبيبته زينب فراح يمنَّي نفسه بأنْ تصل رسالة منها عن طريق الحجَّاج العراقيين في السعودية كما فعل قبلها رجل عراقي مُهجَّر في إيصال رسالة إلى أحبته في العراق.

تَمثُّلاتُ الفَصلِ السَّابعِ:

ارتأى الرَّاوي العليم (كاتب النصِّ) على لسان تُرجُمانه أنْ تكون مقدِّمة هذا الفصل الحديث عن بغداد التي لا يعرفها إلَّا من عاش فيها واستوعب طرقها وحفظ شوارعها وأزقتها التي دمَّرتها الحَرب وخرَّبتها صروف الدهر المفتعلة. وبما أنَّ حسين كان جنديَّاً يَخدمُ في جبهات القتال العراقي ضد الجانب الإيراني، فقد انصبَّ اهتمامه هذه المرَّة في نقل مشاهد من القصف الشديد لهذا القتال الدامي بين الطرفين المُتحاربينِ، وكانت عينته المتفرِّدة منقولةً من قاطع الشَّلامجة في مدينة البصرة التي أرخن الكاتب لحدثها التاريخي هذا في الثاني والعشرين من إبريل عام1982إذ يقول:

"كَانَ المَلجَأُ عِبارةٌ عَنْ حُفرةٍ صَغيرةٍ وقَدْ تَمَّ وَضعُ السَّقائفِ الحَديديَّةِ فُوقَهَا وَمِنْ ثُمَّ تَمَّ وَضعُ التُّرابِ عَليهَا.لِذلكَ وَمَعَ تَساقطِ القَذائفِ المَدفعيَّةِ مِنْ حَولِي، كَانَ التُّرابُ يَنهالُ عَلَى وَجهِي بِصورةٍ جَعلتنِي أُفكِّرُ أكثرَ مِنْ مَرَّةٍ بِالهُروبِ مِنْ هَذَا المَكانِ وَمَهمَا كَلّفَ الأمرُ". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 65).

وإثر ذلك راح يتساءل الجندي المقاتل حسين عن رَحَى الحَربِ الدائرة، وإلى أينَ المَفرُّ منها مادام لَظاها وأوارُها مُستعِرَاً منذ سنينٍ توالت؟ وكيف يمكن أنْ تنتهيَ هذه الحرب؟ومَنْ سَيُكتبُ له النجاح من هذه المحرقة؟ ومَنْ سيكونُ حطبُها المَأكولُ؟ مشاهد كثيرة ومؤلمة من وقائع وأحداث سريَّات هذا الفصل المُعبَّأ حَربيَّاً بصفحات القتال التي أخذت أعزَّالأصدقاء والأحباب من الشُّهداء العراقيينَ وأوقعت الكثير منهم في أقفاص الأسر. ونصل في الخاتمة لنتيجةٍ مُغايرةٍ بعكس ما تتوقَّع النفوسُ:

"بَعدَ الوُقوعِ فِي الأسرِ حَزِنَ الجَميعُ إلَّا أنَا فَقَدْ كُنت فِي قِمَّةِ الفَرَحِ فَعزَائِي الوَحيدُ أنَّنِي أمتلكُ قَلبَاً لَا يشبِهُ بَقيةَ القُلُوبِ، قَلبَاً يِمتلِكُ بُوصلةً أستطيعُ مِنْ خِلالِهَا الوُصُولَ إلَى زَوجتِي زَينبَ". (طِفلٌ ودَفترُ ذَكرياتٍ، ص 72).

تَمثُّلاتُ الفَصلِ الثَّامنِ:

لم تكن مقدِّمة الفص الثامن التي جاءت سطورها السرديَّة على شكل مقطوعةٍ شعريَّةٍ مُكثفةِ الصُّور والإيحاءات والإشارات والرموز الدلالية عن اللَّحظات الإنسانية الهاربة إلَّا تعبيراً حيَّاً ونابضاً عن تلك الهواجس والتداعيات التي غمرت شخصيَّة بطل الرواية، عن تلك الأعباء والهموم التي حملها على كتفه راحلاً عبر سفينة الزمن، وهو يحمل ظنونه وشكوكه وشكواه ومقاصده المستقبلية الموقوتة، والتي هي على شفا قيد لائحة الانفجارالمفاجئ الذي يمكن أن يحدثَ لحظةٍ ما. وكل هذا الألم المُضمَّخ بالشجن الزمني مَفاده البحث عن رحلة المجهول، وهوية الفقد الزوجي:

"خِلالَ رِحلتِي إلَى المَجهولِ تَمَّ نَقلُنَا بِواسطةِ شَاحنَاتٍ عَسكريَّةٍ قَديمَةٍ، لِلَحظاتٍ شَعرتُ فِيهَا وَأنَا فِي هَذهِ الشَّاحنةِ المُتهالكَةِ بِأنَّي جَسدٌ لَا حَياةٌ فِيهَ وَأنَا مَحشورُ فِي هَذَا المَكانِ المُزدحِمِ، اَتعبنِي كَثيرَاً تَمايلُ الشَّاحنةِ وَصَريرُ عَجلاتِهَا، لَكنَّها فَقَطْ كَانتْ بِدايةَ الرِّحلةِ. رِحلةٌ جَديدةٌ مِنْ مِشوارِي المَليءِ بِالعذابِ، لكنَّنِي عَلَى يَقينٍ تَامٍ بِأنَّ تِلكَ الخُطوةَ سَوفَ تَجعلنِي قَريبَاً مِنْ زَوجتِي زَينبَ كَمَا أنَّ الأَسرَ أفضلُ أَلفَ مَرَّةٍ مِنْ نَهايةِ شَاكرِ المَأساويَّةِ". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 74). وشاكر هو رفيقه في مواضع القتال في جبهة الحرب التي استشهد إثر القصف الشديد على ملاجئ القتال وخنادقه.

والحدث المهمُّ في هذا الفصل عن سرديَّات الحرب ورحلة البحث عن الزوجة من خلال معسكر الحشمتية للأسر الذي وضع فيه بإيران بعد سنة من التحاقه بصفوف الجيش العراقي ومشاركته في معاركه عام 1983م.وقد تمَّ الحديث عن مثابة وعراقة هذا المعسكر الضخم جدَّاً في زمن شاهً إيران. ولكنَّ الأهمَّ في تداعيات هذا الفصل هو الحديث عما أُسِرَ من أجله، تلك هي فكرة الهروب من الأسر التي سيطرت عليه وهي الشغل الشاغل لنفسه وفكره وكثرة همِّه الحياتي واليومي بها:

"كَانَ ذَلكَ بِدايةِ شَهرِ أيلول ٍمِنْ عَامِ 1983، يَومَهَا وَضَعتُ الخُطَّةَ الَّتِي سَأعملُ عَليهَا لِمَرَّاتٍ عَديدةٍ، قُمتُ بِتأجيلِ التَّنفيذِ، مَرَّةً لِعدمِ تَوفِّرِ الخُطَّةِ البَديلَةِ الَّتِي سَأعملُ عَليهَا إنْ تَعذَّرَ العَملُ عَلَى الخُطَّةِ الأصليَّةِ، وَمَرَّةً لِظروفٍ خَارجةٍ عَنْ إرادتِي، وَأُخرَى لِظروفٍ خَاصَّةٍ بِالمعسكرِ. يَا لَهُ مِنْ أمرٍ مًريعٍ حِينَمَا أفقدُ القُدرةَ عَلَى التَّركيزِ وَقِراءةِ الأحداثِ لَأجدَ نَفسِي تَائِهَاً فِي دُروبِ الحَيرة! كَانَ أيُّ خَطأٍ وَلَوْ كَانَ بَسيطاً سَيُكلفنِي الكَثيرَ وَيُبعدُنِي أكثرَ عَنِ اليَومِ المُوعودِ، اليَومُ الَّذي سَأقابلُ فِيهِ زَوجتِي زِينبَ". (طِفلُ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 79).

وراح حسين المهجوس بفكرة الهروب من معسكر الأَسر يُخطِّط لها وخاصةً أنَّ معسكر أسرى الحشمتية لم يكن الهروبً سهلاً منه، وسيكلِّفه كثيراً فقدانه لو اُكتشفت خطَّته المزعومة، فضلاً عنْ أنَّ هذا المعسكر كونه يُعدُّ فُندقاً من الدرجة الأولى؛ لخدماته الكثيرة ونظامه الدقيق وسعته الكبيرة:

"كَانتْ خُطَّتِي تَقتضِي بِالحصولِ عَلَى حُقنةٍ طِبيَّةٍ مَعَ قَليلٍ مِنَ النَّفطِ كَيْ أحقِنَ نَفسِي تَحتَ الجِلدِ بِتلكَ القُطيرَاتِ مِنَ النَّفطِ، وَهُنَا وَاجهتنِي مُشكلةٌ كَبيرةٌ، فَمِنْ أينَ لِيْ أنْ أحصلَ عَلَى الحُقنَةِ الطِّبيَّةِ؟ وَمِنْ أينَ أنْ أحصلَ عَلَى قَطرَاتِ النَّفطِ؟ كُلُّ الأبوابِ قَدْ سُدَّتْ فِي وَجهِي، فِي لُجَّةِ الحُزنِ، اِنزويتُ بَعيدَاً عَنْ أعيُنِ النَّاسِ، لِذتُ إلَى فِراشِي، وَضعتُ رَأسِي بَينَ رُكبتِي، وَأطلقتُ العِنانَ لِدموعِي". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 79).

وبعد الاستعداد والتحضير لهذه المُهمَّة والتأجيل في تنفيذها مرَّاتٍ عدَيدةً خَوفاً من فشلها أو كشفها حانت ساعة الصفر بعد مضي شهر من ذلكَ على تنفيذها بمساعدة من أحد زملائه الأسرى العراقيين المتعاطفينَ مع قضيته العسيرة والتي باتت تلوح في الأفق بشائرها المرضية للنفس:

"وأخيراً حَانَ مُوعدُ تَنفيذِ خُطَّتِي، فِي البِدايةِ بَدأتُ بِالتَودُّدِ إلَى زَميلِي فِي الأسرِ جَاسمٍ وَالَّذِي كَانِ مَسؤولاً عَنْ إعدادِ الشَّايِ، وَكَانَ الوَحيدَ الَّذِي تَكونُ مَعهُ طُولَ الوَقتِ كَميَّةٌ مِنَ النَّفطِ الأبيضِ، هِدفِي الأولُ هُوَ مُكاشفةُ جَاسمٍ بِخُطتِي وَكَسبُ تَعاطفهِ مَعِي مِنْ أجلِ أنْ يُعطينِي قَليلاً مِنَ النَّفطِ الأبيضِ كَيْ أحقنَ جِسمِي بِهِ مِنْ أجلِ الوُصولِ إلَى المُستشفِى، هَذهِ خُطَّتِي، وَلَمْ أكنْ أعرفُ إنْ كَانتٍ سَتنجحُ أمْ لَا، وَهَلْ أنَّ تَخطيطِي صَحيحٌ أمْ لَا؟". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 87).

وبعد تجرُّع مرارة هذا المخاض المصيري العسير والحذر الشديد من كشف خطورته التي كانت شديدة السريَّة لِئِلَّا الوقوع في الفشل من جديد وفقدان ما كان يسعى لأجله، لقد حانت ساعة الفرج وانبجست عيونها أملاً ورديَّاً. لقد حانت ساعة البحث عن المجهول، ذلك اللِّقاء الموعود بشريكة عمره وحبيبته الغالية زينب. وقد حدث ما كان يُخطِّط له وأرادهُ وتمنَّاه بعد أنْ حقن نفسه بكميَّةٍ مضاعفةٍ من قطرات النفط التي نُقِلَ على إثرها إلى المستشفى بطهرانَ. وقد تمَّ له ذلك وضحك له القدرُ، وأُطلقَ سراحهُ بصورةٍ غريبةٍ؛ وذلك من خلال مساعدة أحد رجال الدين اللُّبنانيين من الذين زاروا مستشفى الأسروالتقى به حسين صدفةً وتعاطف معه دونَ تخطيطٍ مُسبقٍ لمجريات الأحداث:

"وَصَادفَ أنْ قَامَ أحدُ رِجالِ الدِّينِ اللُّبنانيينَ بِزيارةِ المَرضَى الرَّاقدينَ مَعِي ِفي نَفسِ المَكانِ، وَحِينَمَا عَلِمَ بِأنِّي عِراقِي طَلَبَ مِنَ المَسؤولينَ الإيرانيينَ الَّذينَ كَانُوا بِرققتِهِ أنْ يَطلقُوا سَراحِي، حَيثُ قَالَ بِالحرفِ الوَاحدِ لَنْ أُغادرَ إيرانَ مَا لَمْ تُطلقُوا سَراحَ هَذَا المَريضِ العِراقِي. وَبِالفعلِ استجابتْ الحُكومة الإيرانيَّةُ لِرغبةِ رَجُلِ الدِّينِ اللّبنانِي، وَتمَّ إطلاقُ سَراحِي وَأنَا غَيرُ مُصدِّقٍ لِكُلِّ مَا يَجرِي مِنْ حَولِي". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 89).

هذا المشهد السردي الكبير للرواية وغيره من المشاهد الأخرى يُعلِّل الكاتب العليم أسباب إطلاق سراح الأسير حسين بطريقة تأكيدية وتعضيد سردي لا تقبل الشكَّ أو عدم القبول بها من قبل القارئ النابه. وهذا يشي بأنَّ الكاتب الموسوي قد خبر ظروف وتداعيات الحرب وظروف الأَسر وطبيعة جبهات القتال وكيف تُدار فيها الأمور والسياقات العسكرية والقانونية والأمنية، ويعني أنَّه كان شاهداً عسكريَّاً عَياناً ورائياً فعليَّاً لآليات القتال من خِلال خدمته الإلزاميَّة ومعايشته الجمعيَّة.

تَمثُّلاتُ الفَصلِ التَّاسع ِوالأخيرِ:

آخر مُقدِّمةٍ استهلاليةٍ من مُقدِّمات نهاية تمثُّلات رواية الحُبِّ والحربِ (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ)، فضَّل الكاتب والسارد والرائي حسن الموسوي فيها أن تكون من ثالثة أثافٍ لا رابع لها في الوصول إلى نقطة البحث عن المجهول المرجوة. وتتلخَّص في طول أو قصر المسافة التي تخيَّلَها البطل للوصول إلى مثابة اللَّقاء المرتقب، وسلسلة كثرة الحواجز والعقبات والتحدَيات والصعاب والمخاطر التي سيواجهها في إكمال رحلته التي باتت أكيدة الأثر، وكيف تكون الخُطوات الأخيرة التي هَمَّ بها في لقاء الحبيبة الزوجة زينب، وما سيلاقيه بَغتةً من مفاجآتٍ صادمةٍ مُذهلةٍ ومُثيرة له؟

هذه المقدِّمات الافتراضية الثلاث التي وضعها البطل أمام نُصبِ عينيه بعد التحرير من الأسر وإطلاق سراحه كفيلةٌ بأنْ توصله خطوات البحث عن زوجته زينب وأهلها إلى ثكنة معسكر المُهجَّرينَ العراقيينَ في منطقة آباد التي يكثر فيها العراقيون من المُسفَّرين التبعية مكانها الذي سَيدلُّه عليها أحد العراقيين المُهجَرّين من سكنة منطقته الكرادة الشرقية ذاتها الأمرالذي ُيعول عليه:

"دَولةُ آبادَ كَانتْ مَحطَّتِي الأولَى بَعدَ التَّحرُّرِ مِنَ الأسرِ، وَدَولةُ آبادَ هِيَ حَيٌّ مِنْ أحياءِ العَاصمةِ طَهرانَ وَأغلبُ سُكَّانِهَا مِنَ العِراقيينَ الَّذينَ تَمَّ تَهجيرُهُم مِنَ العِراقِ بِحُجَّةِ التَّبعيةِ إلَى إيرانَ. كَالمجنونِ أخذتُ أسيرُ فِي طُرقاتِ هَذَا الحَيِّ الغَافِي عِندَ سَفحِ جَبلٍ عَظيمٍ، فٍي البِدايةِ لَمْ يَكُنْ لِي هَدفٌ سِوَى التَّأقلُمِ مَعَ هذَا الوَضعِ الجَديدِ، بُغيةَ تَنفيذِ مُخطَّطِي فِي الوُصولِ إلَى زَوجتِي زَينبَ". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 92).

لقد بات الطريق سالكاً أمام حسين للِّقاء بزوجته زينب بعد أن تعرَّف على أحد العراقيين المسفَّرين لإيران من الذين يعرفون أخ زوجته عبَّاس الذي لم يَدُر بِخُلدِه أو يتوقَّع يوماً بأنّهَ سيلتقي بصديقه ونسيبه وزوج أخته حسين في رحلةٍ غريبةٍ ظروف مفاجئة لا يصدقها العقل. ثّمَّ أخذ في الحديث عن مشاهد اللقاء الأخير وتصويره إذ يقول عن هذه اللَّحظات الحميميَّة الهاربة من الزمن:

"فِي لَحظةٍ يَتيمةٍ جَالَ عَبَّاسُ بِبَصرهِ نَحوِي حِينَ رُؤيتهُ لِيْ، أُصيبَ عَبَّاسُ بِالصَدمةِ، اِغرورقَتْ عَيناهُ بِالدموعِ وَهَرولَ نَحوِي لِيستقرَّ بَينَ أحضانِي. -حُسينُ آهٍ يَا صَديقِي، آهٍ مِنْ هَذهِ الدُّنيَا الغَدَّارةِ. كَمْ اِشتقتُ إليكَ يَا صَديقِي، ثُمَّ دَلَفَ إلَى البَيتِ وَهوَ يَصيحُ –أُمِّي، أُمِّي لَقدْ جَاءَ حُسينُ. لَمْ أتمالكْ نِفسي وَأنَا أستمعُ لِصياحِ صَديقِي عَبَّاس الهِستيرِي...". (طِفلٌ ودَفترَ ذِكرياتٍ، ص 96، 97).

وحينّ استقرَّ المَقام الأخير لرحلة البحث عن هوية المجهول بحسين في بيت نسيبه وأخ زوجته المُهجَّر عبَّاس ساوره الشكُّ والريبة لعدم حضور زوجته زينب، فراح يُفكِّرُ مُليَّاً بها وتساءل قائلاً:

"لِمَاذَا وَجَّهَ عَبَّاسُ كَلامَهُ لِأُمِّه، وَلَمْ يَقُلْ زَينبُ لَقدْ جَاءَ زَوجُكِ؟ بَعدَ أنْ اِستقرَ بِيَ الحَالُ داخلَ البَيتِ، جَاءتْ أُّمُّ عَبَّاسٍ وَهيَ غَيرُ مُصدِّقةٌ بَأنَّي أقفُ أمَامَهَا، وَمَا هِيَ إلَّا لَحَظَاتٌ حَتَّى سَقطتْ مَغشيَّاً عَليهَا. اِنشغلَ عَبَّاسُ بِأُمِّه وَانشغلتُ أنَا بِزينبَ الَّتِي لَمْ تَكنْ مُوجودةً فِي البَيتِ. -عَبَّاسُ، أينَ زَينبُ؟ قُلتُ بِقلقٍ شَديدٍ. بَعدَ أنْ أفاقَتْ أُمُّ عَبَّاسٍ لَمْ تستطعْ أنْ تَتمالكَ نَفسَهَا، قَالْت وَالدموعُ تُغالبُهَا، لَقدْ اِنتظرَتْكَ طَويلاً؛ لَكِنْ قَلبهَا الضَعيفَ لَمْ يَستطعِ الصُّمودَ، لَقدْ رَحلتْ زَينبُ، رَحلتْ وفِي قَلبِهَا غُصَّةٌ ومَرارةٌ، قَالتْ ذَلكَ وَدَخلتْ فِي نَوبةٍ مِنَ البُكاءِ واَلنَّحيبِ". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 97) .

لقد عاش حسين وقع الصدمة الكبيرة المفاجئة والمذهلة التي أفقدته زوجته زينب بمرارة موجعةٍ كبيرة، ولم يكن ما ستخبئه له صروف الدهر الطارئة من مُفاجآت تعوُّضه عن فقدان زوجته التي أحبها وضَّحى من أجلها كثيراً. وأخذ عبَّاس يهدِّئه ويقلِّلُ من فعل الصدمة التي هالته كثيراً بكلمات الرحمة والعطف والإيمان فقال له:

"إنَّها مَشيئةُ اللهِ، قَالَ عَبَّاسُ وأخذنِي إلَى غُرفةِ زَينبَ، وَكَمْ هَالنِي مَا رَأيتُ، كَانَ ثَمَّةَ طِفلٌ فِي غُرفةِ زَينبَ. كَانَ هَذَا الطِّفلُ يُشبهنِي جِدَّاً، إنَّهُ يُذكِّرَنِي بِصورتِي حِينمَا كُنتُ فِي الثَّالثةَ مِنْ عُمرِي، تِلكَ الصُّورةُ المُعلَّقةُ عَلَى وَاجهةِ مُصوُّرِ الذِّكرياتِ فِي شَارعِ الكَرادةِ دَاخلِ. إنَّهُ اِبنَكَ سَجادٌ، قَالَ عَبَّاسُ وَأردفَ، لِقدْ كَانتْ زَينبُ حَاملاً فِي اليَومَ الِّذي تَمَّ تَسفيرُنَا، لَقدِ ذَهبتْ فِي ذَلكَ اليَومَ المَشؤومِ بِرفقةِ أُمِّي إلَى الطَّبيبةِ الَّتي أكَّدتْ حَالةَ الحَملِ". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 98).

إثر هذه المشاعر الإنسانية للحبِّ والحرب التي اختلطت بالحزن والفرح ومشيئة القدر المُخبَّأ له برزايا الفقد والعذاب، والذي أفقده أخيراً حتَّى حياته في هذه الرحلة القَدَرِيَّةِ غير العادلة حيال ما حصل له من أمرٍ جللٍ، تموت الزوجة ويُعذَّبُ البطل في رحلةٍ كبيرةٍ مضنيةٍ ومثيرةٍ آملاً فيها اللّقاء بزوجته فتُودي به في آخر المطاف وبحياته.

تلك الرحلة الإنسانية المذهلة التي جسَّدها مِخيال الكاتب حسن الموسوي في خاتمة هذه الرواية بلوحةِ تجريبٍ سرديٍّة فنِّيٍّة يَعكس فيها ارهاصات الواقعي العراقي الجمعي المعيش، والذي تمتزج فيه وتختلط مشاهد الإحساس التجريدي الفنِّي والجمالي للَّوحة رواية (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ) بالتَّخيُّلي الأُسطوري والعجائبي الغريب في رحلة سرديَّةٍ إنسانيةٍ شخصيَّة موجعةٍ نحو فاق السماء السابعة:

"فِي رِحلتِي نَحوَ السَّماءِ أخبرتنِي المَلائكَةُ بِأنَّ صَديقِي عبَّاساً قَدْ اِنشغلَ بِرفعِ جُثَّتِي مِنْ عَلَى قَبرِ أُختهِ زَينبَ، فِيمَا جَالَ اِبني سَجادٌ بِبصرهِ نَحوَ الغُروبِ وَهوَ يَنظرُ إلَى تِلكَ الجِهةِ بِغضبٍ عَارمِ". (طِفلٌ ودَفترُ ذِكرياتٍ، ص 125).

أراد الرائي الموسوي في تجلِّيات هذا المشهد الصوري الختامي المُذهل للرواية أنْ يبعث برسالةٍ لِمُتلقيه ترمز برغم مرارتها لديمومة لحُبٍّ وإلى ولادةٍ حياةٍ متجدِّدة، وحربٍ لا تنتهي من خلال هذه النظرة العارمة بالغضب إلى جهة الغروب التي يُوحي بها طفل المستقبل إنها نظرة الحياة والموت.

أساليبُ السَّرديَّةِ المَعاصرةُ:

إنَّ أهمَّ ما يميَّز سرديَّات هذه الرواية وحكاياتها القصصيَّة الفاعلة الفكر هو منظومة وقائعها الحَدثية وإنسانيتها الموضوعَّية التي خرجت فيها من مسار سكَّة الذاتية الفردية الضيِّقة إلى شِعاب الذاتية الجمعيَّة المُشتركة وانفتحت جامعتها الإنسانية المُتوحدنة على هُويَّة الآخر الثقافيَّة المتنوَّعة. أليس الفنِّ الروائي هو انعكاس صوري حقيقي وإنساني لاقطٌّ يرصد تداعيات الواقع الراهن ليوتوبيا المدينة الفاضلة وديستوبيا عقابيل الآخر الفوضوي المتسلِّط الفاسد الظالم وتجلِّياته الجمَّة؟

وفضلاً عن ذلك كلِّه كُتبتِ الرواية بلغةٍ سرديةٍ تكثيفيةٍ واضحة ماتعةٍ شائقةٍ التعبير غير مترهلةٍ بعيداً عن لغة الهذيان والتعقيد اللَّفظي والمعنوي، وبأسلوب لُغوي اقتصادي هادفٍ مكينٍ يمزج بين الواقعي التقريري والتخيلي الانزياحي البلاغي الجديد الذي يُضفي على عناصر السرد بعداً فنيَّاً وجماليَّاً أكثر إمتاعاً وطراوةً نفسيَّةً وتَقبُّلاً ذاتياً.

لقد تمكَّن السيِّد حسن الموسوي بموهبته الإبداعية ومُثابرته الفنيَّة الفذَّة من توظيف عناصره الفنيَّة المهمَّة، واستدعاء رموزه وأصواته الشخصيَّة الفاعلة، وإيصال رسالته النصيَّة في خطابه الروائي لقارئه العادي ومُتلقيه الحاذق النابه بهذا الكم العددي المحدود والكيف النوعي الروائي المُتجدِّد الذي يُراعي آليَّات القراءة وجماليات التلقِّي المعرفي في هذا اللَّون من التجنيس الأدبي.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ - نَاقدٌ وكَاتبٌ عراقيّ

في مهب السرد، حيث تتكسر الوقائع على صخور الخيال، وحيث تُغزل الحقائق بخيوط الوهم، تتقدم اللغة في النصوص النوبلية، لا بوصفها أداةً ناقلة، بل ككائن عضوي، حيّ، مخاتل، يملك القدرة على التلّون، والتخفي، والإيهام. ليست اللغة في أعمال نوبل الكبرى مجرد وسيلة، وإنما هي غاية جمالية قائمة بذاتها، تنقلب فيها الكلمات إلى ضوء وظلال، إلى مرايا تعكس الداخل أكثر مما ترصد الخارج، وإلى قناع يشفّ ولا يُفصح، يتمنّع ويغوي، في لعبة سردية لا تخلو من مكرٍ ودهاء.

إذا كانت الرواية فناً منفتحاً على الأزمنة والطبقات والرؤى، فإن السرد النوبلي تحديداً يفرض على اللغة أن تتجاوز البلاغة التقليدية إلى نوع من البلاغة الجديدة، التي تتسلل عبر ثغرات المعنى، وتفتعل التباساً دلالياً مقصوداً، بحيث لا يكون القارئ مستهلكاً للنص، بل شريكاً في بنائه وتأويله. هنا تغدو اللغة أشبه بمختبر كيميائي، تتفاعل فيه المفردات ليس وفق قوانين النحو، بل وفق ضرورات الشعر السردي، حيث الصوت الداخلي هو ما يوجّه البناء لا الخطابات الجاهزة.

لقد كانت نوبل الأدب عبر تأريخها جائزة لا تحتفي بالقص الكبير فحسب، بل باللغة التي تشكله، باللغة التي تفتن، تربك، وتحرّض. من غارسيا ماركيز إلى نجيب محفوظ، ومن وول سوينكا إلى هيرتا مولر، تتكرر ظاهرة الوعي باللغة، ليس بوصفها محبرة للعالم، بل بوصفها عالماً بحد ذاتها، لغة لا تكتفي بأن تحكي، بل تفكك الحكاية وتعيد تركيبها، بلغة تُجيد الإيهام بواقع أكثر حياة من الواقع نفسه.

ولعلّ أكثر ما يلفت الانتباه في كثير من هذه السرديات النوبلية هو نزوعها نحو تأزيم العلاقة بين اللغة والمُشار إليه، بحيث لا يعود النص انعكاساً للعالم، بل تأويلاً له، وربما نقيضاً له أحياناً. تتعدد مستويات اللعب اللغوي هنا، من المفارقة الساخرة، إلى التضمين الرمزي، إلى الانزياح الأسلوبي، إلى الخرق المقصود للتراتب السردي، وهي كلّها مظاهر تنبع من رغبة في تحرير اللغة من أسر التوصيل المحض إلى أفق الجمال المراوغ.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، نصوص يوسا، حيث تبدو اللغة ككائن يتكلم وحده، يستعيد سرداً مفقوداً عبر شقوق الذاكرة. فالجملة، ليست عنده أداة لتسجيل حدث، بل عملية إعادة خلق لعالم متشظٍ، تسكنه الرغبات المكبوتة، والهويات الهاربة. تتورط اللغة في صنع هذه الانكسارات، تتحول إلى مرايا متقابلة، تعكس ضياع المعنى أكثر مما تضيئه، وتجعل من القارئ باحثاً دائماً عن الحقيقة خلف كثافة الأسلوب.

أما عند الطيب صالح، فإن اللغة تنقلب إلى ماءٍ أفريقي الطعم، مشبع بالرطوبة الثقافية والتاريخ المنسي. يزرع الطيب في جسد اللغة العربية بذوراً محلية، أفريقية، صوفية، تنبت في النص كأشجار برية، غير مروّضة، تجعل من النص نفسه مكاناً غريباً مألوفاً، يُحاكي قراءتين في آن: قراءة الاستقبال العربي، وقراءة التلقي الغربي. في هذا المفصل بالذات، تتجلى اللغة كحيلة جمالية، قادرة على التمويه والازدواج، لغة مزدوجة اللسان، لكنها موحدة في نبرتها الدفينة.

اللغة في سرديات نوبل لا تأتي محايدة، بل محمّلة بأعباء التأريخ، ومشحونة بشحنات سياسية، قومية، إثنية، طبقية. غير أن السارد النوبلي لا يلجأ إلى الخطاب المباشر، بل يطوّع اللغة لتكون قناعاً للغضب، أو للحنين، أو للتمرد. النص في هذه الحالة يصبح فعلاً سياسياً عبر الجمال، وموقفاً أيديولوجياً عبر البلاغة. فحتى عندما يصمت السارد، فإن اللغة تفضح، تلمّح، تشير بإصبع خفية إلى مكامن الألم.

لذلك كان كثير من كتّاب نوبل من المنفيين، أو المعذبين، أو المهمشين، أولئك الذين حوّلوا اللغة إلى مأوى، وإلى سلاح. وفي تجارب مثل سفيتلانا أليكسييفيتش، نجد أن اللغة تتخلى عن سلطتها السردية التقليدية لتتحول إلى فضاء تعددي، حيث تنصت لكل الأصوات، الصغيرة منها قبل الكبيرة، وتعيد تركيب التاريخ من شظايا البوح الفردي. هي ليست كتابة من أجل الجمال الخالص، بل من أجل تخليص اللغة من خطاب السلطة، عبر تقنيات التوثيق العاطفي.

ثمة ما يشبه "خيانة اللغة" في هذه السرديات؛ خيانة للمفهوم المدرسي عنها، ولتصنيفاتها التقليدية، خيانة لرتابتها المتوقعة. من هنا تأتي مفاجآت الأسلوب، وفتنة المفردة غير المألوفة، والجمل التي تنتهي حيث لا ينبغي، أو تبدأ حيث لا يُنتظر. اللغة هنا لا تطيع، بل تناور، تُخاتل، تزرع في النص لحظاتٍ من التردد المقصود، والصمت المُفكّر فيه، وتحرر السارد من عبء التفسير.

تسعى اللغة في النصوص النوبلية إلى توريط القارئ، لا استرضائه، إلى خداعه أحياناً بسطحية مصطنعة، أو بانسيابية مدروسة. لكن ما إن يطمئن القارئ إلى ما يظن أنه فهم، حتى تجرّده اللغة من يقينه، وتدفعه إلى الهاوية، إلى السؤال، إلى مراجعة ما قرأه. هي كتابة لا تُرضي القارئ الكسول، بل تحرض القارئ المفكّر، تقوده في متاهات الأسلوب، لتكشف له في النهاية أن الجمال الحقيقي ليس في النهاية، بل في التيه نفسه.

يحدث أحياناً أن تتحول اللغة إلى موضوع النص ذاته. نرى ذلك بوضوح عند بعض كتّاب أمريكا اللاتينية أو أوروبا الشرقية، حيث ينقلب السرد إلى تأمل ميتاسردي في حدود اللغة، في هشاشتها، في عجزها أحياناً عن التقاط فوضى العالم. يطلّ الكاتب من بين السطور ليسأل: ما جدوى السرد؟ ما قدرة اللغة على الإمساك بما لا يُقال؟ وهنا تُصبح الكتابة فعلاً وجودياً، صراعاً مع اللغة لا بها فقط، محاولة دائمة للقبض على لحظة هاربة، على إحساسٍ يوشك أن يتلاشى.

ولعلّ في سرديات مثل تلك التي كتبها كازوو إيشيغورو ما يؤكد هذا الميل، حيث تبدو اللغة مهذبة، باردة، مغلّفة بالحياء الإنجليزي، لكن تحت هذا القناع اللغوي المهذّب، يقبع خوف وجودي هائل، ومآسٍ إنسانية لا تُقال إلا عبر الإيحاء. المفارقة أن البلاغة هنا تنبع من كبت البلاغة، من رفض الفيض، ومن اقتصاد اللغة لا من ثرائها. هنا لا تكون الحيلة الجمالية في كثافة اللغة، بل في صمتها المدروس، في الفجوات، فيما لم يُكتب.

هذه السرديات، بما تحمله من مكر لغوي، لا تقدم فقط تجربة سردية، بل تقدم درساً في أخلاقيات اللغة، في إمكاناتها وقيودها، في قدرتها على قول ما لا يُقال، أو الإحالة إلى ما لا يُحتمل. كل جملة تُكتب هناك تعني أكثر من ذاتها، تُراكم دلالةً فوق دلالة، وتدفع القارئ إلى منطقة وسطى، بين الفهم والحدس، بين الحرف والظل.

اللغة، في جوهرها، لا تُستخدم في هذه الأعمال، بل تُستثمر. يتعامل الكاتب مع مفرداته كما يتعامل النحات مع الحجر، ينحت فيها لا بها، يحفر المعنى من داخل الكلمة لا من خارجها. هذا ما يجعل النص النوبلي قابلاً لإعادة القراءة، لأنه لا يُستنفد في قراءة واحدة، بل ينفتح على احتمالات غير نهائية من الفهم، كل منها يضيء جانباً ويُغفل آخر، في علاقة جدلية لا تنتهي بين القارئ والنص.

إن الحديث عن اللغة كحيلة جمالية في سرديات نوبلية هو، في العمق، حديث عن قلق الكتابة، عن هاجس الأصالة.

***

د. عصام البرّام

 

للشاعر السوري سليمان إبراهيم

قراءة هيرمينوطيقية، أسلوبية، رمزية، وطنية، وسيميائية

***

1. مدخل إلى النص: قصيدة سليمان إبراهيم «حصرمٌ يُفسِدُ الملحَ» تنفتح منذ عتبتها الأولى على صراع داخلي متفجّر بين الألفة والغرابة، بين المقدّس والمدنّس، بين الموروث القرآني والرمزي الشعبي، وبين التجربة الذاتية التي تسعى لتفكيك قشرة الواقع الصلب وكشف لبّ الحقيقة المؤجّلة. العنوان نفسه «حصرمٌ يُفسِدُ الملحَ» يقدّم مفارقة دلالية لافتة: الحصرم بما يحمله من طعم لاذع ناقص النضج، والملح بما يمثّل من حفظٍ وقداسة ودوام. هنا يضعنا الشاعر أمام تناقض رمزي، حيث الفساد يطلّ من داخل أدوات الحفظ نفسها، وكأنّ المعنى يريد أن يقول: إنّ الداخل الموبوء أقدر على الإفساد من الخارج.

2. المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي:

الهيرمينوطيقا تقتضي الغوص في النص كدائرة بين الكل والجزء. لا يمكن فهم صورة «سلافٌ لا تنتظر الحقيقة» إلا بالعودة إلى الكل الشعري الذي ينسج ثنائية الحضور/الغياب. فـ«السلاف» رمز الخمرة المقطّرة، لكنها هنا خمرة يائسة لا تُنتج يقيناً بل تذيب الرماد في الوعي. اللغة ذاتها تُبنى على توتر وجودي: الحقيقة مؤجَّلة، السماء عارية، والاسم في عراءٍ لا يملك سوى شموخه.

هايدغر يذكّرنا بأنّ الشعر هو «بيت الكينونة»، وفي هذا النص يصبح الشعر بيتاً مؤقتاً تتجاذبه الريح، حيث يُستحضر المقدّس («يا ألله»، «وتيناً وزيتوناً») لكن يُعاد إنتاجه ضمن بنية شعرية تكسر يقينية النص الديني وتعيده إلى فضاء المجاز والشكّ.

3. التحليل الأسلوبي:

من الناحية الأسلوبية، القصيدة تنتمي إلى الشعر الحرّ، حيث كُسرت أنظمة الوزن الخليلي التقليدي لصالح إيقاع داخلي نابع من التكرار («الآنَ الآنَ»، «يا أللهُ»)، ومن التوازي التركيبي («حينَ تقتني سماءَكَ الثّامنة»، «رأسي المحشو في قدميكَ»).

النحو الشعري هنا ينزاح عن المألوف: فالأفعال تأخذ صيغة الأمر («التَحِفْ»، «تحقّقْ») وكأنّ الذات تخاطب ذاتها في مرآة مزدوجة.

الإيقاع يتولّد من الصدمة بين الصور: من قداسة السماء إلى عراء الاسم، من يأجوج ومأجوج إلى الزيتون والتين. إنّه تداخل الأصوات والأساليب الذي يمنح النصّ قوّة تفجيرية.

4. البنية الرمزية:

القصيدة مليئة بالرموز المقتبسة من المخيال الديني والأسطوري:

- الحصرم: رمز للنقصان وعدم الاكتمال، للدلالة على مشروع لم ينضج بعد.

- الملح: رمز للطهارة والحفظ، لكن فساده يعني انهيار الثبات.

- السماء الثامنة: إحالة إلى ما وراء التصوّرات التقليدية للسماء السبع، أي البحث عن مطلق جديد أو يوتوبيا ميتافيزيقية.

- يأجوج ومأجوج: رمز للفوضى والخراب، يوظَّف لتجسيد الدم الفاسد والفساد التاريخي.

- التين والزيتون: رمز قرآني للأرض المقدسة والبركة، هنا يتقاطع مع الذاكرة الوطنية السورية والفلسطينية في آن.

5. المنهج الوطني:

النص يحمل ملامح وطنية كامنة، إذ يُحيل إلى التجربة السورية المعاصرة وما يعتريها من فساد ودمار. «دمهم الفاسد» ليست مجرد صورة أسطورية، بل انعكاس مباشر للدماء المسفوكة في واقع الحرب. الزيتون والتين يشيران إلى هوية الأرض، إلى الخصوبة المقاومة رغم الخراب. القصيدة تتأرجح بين الدعاء واللعنة، بين الابتهال والتمرد، في استعادة لصوت الجماعة الذي يحاول إعادة تعريف الله والسماء من جديد.

6. المنهج السيميائي:

- من زاوية السيمياء، القصيدة شبكة من العلامات:

- العنوان يعمل كعلامة استباقية (تكشف مسبقاً طبيعة الانحراف القادم.

- الأوامر («التَحِفْ سماءَكَ»، «تحقّقْ») علامات على أزمة الهوية وضرورة إعادة امتلاك الذات.

- الرموز الدينية (الله، يأجوج ومأجوج، الزيتون والتين) تتحوّل من علامات لليقين إلى علامات للتوتر والقلق.

- التكرار السيميائي لـ«سماء» يفتح أفقاً تأويلياً: السماء لم تعد أفقاً للعلو فقط، بل أفقاً للمساءلة والاغتراب.

7. البنية النفسية والدينية:

من منظور التحليل النفسي، القصيدة تعبّر عن انقسام الذات بين الرغبة في التسامي والاغتراب عن المقدّس. هناك توتر بين الابتهال لله وبين التمرد الضمني عليه: «رأسي المحشو في قدميك» صورة صادمة تمزج بين الذلّ المقدّس والتمرد السري. هذا التناقض يكشف عن قلق ديني-وجودي، حيث يتحوّل الخطاب الإيماني إلى مساحة للصراع النفسي أكثر منه إلى ملاذ روحي.

8. ما تحت الجلد الشعري:

- القصيدة تنبض بقلق داخلي عميق:

- التوتر بين السخرية من الطهر (الحصرم الفاسد) واستدعاء القداسة (التين والزيتون).

- الرمزية التي تحوّل النص إلى صرخة وجودية ضد الفساد الروحي والسياسي.

- اللغة التي تتأرجح بين الشموخ والانكسار، بين الأمر والتوسّل، بين العلو والعراء.

إنّ ما تحت الجلد الشعري هنا ليس إلا صرخة ذات جريحة تبحث عن معنى وسط الخراب، عن سماء ثامنة خارج كل الخرائط، عن الله جديد يطهّر الدماء الفاسدة.

خلاصة:

قصيدة «حصرمٌ يُفسِدُ الملحَ» ليست نصاً شعرياً عادياً، بل هي أنطولوجيا صغيرة للقلق السوري والعربي، تُعيد إنتاج الأسطورة والدين بلغة شعرية متوترة تكشف هشاشة المعنى. من خلال المنهج الهيرمينوطيقي والأسلوبي والرمزي والسيميائي، نكتشف أنّ النص يحاور نفسه كما يحاور قارئه، ويفتح أفقاً لتأويلات متعددة. إنّه نصّ يكتب ذاته في التوتر بين الفساد والقداسة، بين الأرض والسماء، بين الإنسان والله، ويكشف في النهاية عن جرح وجودي ووطني لا يزال ينزف تحت الجلد الشعري.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

حصرمٌ يُفسِدُ الملحَ

هذي سلافٌ لا تنتظرُ الحقيقةَ

سُلانُ رمادِها يُقطّرُ نقيبَ ضلعِكَ

الآنَ الآنَ..

تحقّقْ من نوايا شموخِكَ

اِلتَحِفْ سماءَكَ

عليٌّ أنتَ في عراءِ اسمِكَ

كلُّ مايعلو الآنَ

لا يطالُ صوبَ صلاتِكَ

حينَ تقتني سماءَكَ الثّامنة:

"يا أللهُ!

رأسي المحشوُ في قدميكَ

يؤلمُه في وهادِهِ

يأجوجُ ومأجوجُ قَدُّ دمِهِم الفاسدِ

هناكَ؛

حيثُ أجني نطافَ ريحِكَ

وتيناً

خلايا تثمرُ زيتوناً وتيناً...

يا ربّيّ اللهُ!

إِنْ شئتَ تباركَ اسمُكَ فيها

وإنْ شاؤوا زنَتْ الرّيحُ بتاليها..."

 

يمتلك الاتجاه الاجتماعي الواقعي في فن القصة الحديث، امكانية مقتدرة في نقد وتعرية الواقع الاجتماعي، يملك اهمية بالغة في تسليط الضوء الكاشف على الجوانب المظلمة، التي تشوه الحياة الواقعية وتحريفها عن جادة الصواب، ومقومات الاساسية للمدينة الديستوبيا هي: الخداع والكذب والنفاق والدجل والاحتيال، لذا نجد النصوص القصصية برعت في إظهار الصورة الكاملة على هذه الجوانب في اسلوب سردي شيق وممتع، ان يقوم الكاتب في دور الناقد الاجتماعي برؤية فكرية ناضجة وملهمة في التعبير والصياغة الفنية، في اظهار وتناول هذه السلبيات وفضحها الى العلن، في طرحها وتناولها، في سبيل خلق وعي اجتماعي وثقافي، واعاً ومدركاً بمفردات هذه الملثميات وزعانفها، في دلالة المعنى والرمز الدال في مدلولاته، وتكتسب القيمة الفكرية بالطرح الشجاع والكاشف، في أهم القضايا الاجتماعية، الظاهرة على المسرح السياسي والاجتماعي والديني، بأن هناك صراع بالغ الضراوة بين قطبي هما عنوان الحياة الاجتماعية وهم: الحقيقة والخداع. والصدق والكذب. النزاهة والسرقة، والغوص في أغوارها، ربما النصوص السردية هي انعكاس لرواية (مزرعة الحيوان) التي تدين إرهاب الدولة وقمعها السياسي والاجتماعي، في اسلوب انتقادي ساخر على لسان الحيوانات، في جوانب تخنق التعبير الحر، وتجعله بضاعة استهلاكية، هنا ينبري بوضوح العمق الفكري، في مواجهة هذه المثالب، التي تضعف قيمة الانسان، كأنه بضاعة مستهلكة يمكن اللعب بها بسهولة في العقلية والثقافة، ومن هذا المنطلق نستشرف بعض النصوص، رغم ان كل نص يحمل عنوان ودلالة بالغة وعميقة

1 - النص: اختبار في مزرعة الحيوان، الجزء الثاني:

على الانسان العاقل ان لا ينخدع بالشعارات المزيفة مهما كان بريقها لانها خاوية المحتوى والمضمون، وانها متاجرة في العقول ومزايدات رخيصة، ويمكن لهذه العقول المنحرفة في خداعها، ان تدفع ثمن حياتها في شعاراتهم الكاذبة، ان يتحكم بها بوعي وعقل حكيم، لان هذه الشعارات، تحاول اغلاق العقل والوعي بشكل تام (اكتشفت ان على الانسان العاقل ان لا ينجرف وراء الشعارات الرنانة وأن لا يفني حياته من اجل ان يحقق امنيات الآخرين).

2 - نص: سرقة....

مخادعة وتضليل بأظهار نفسه ضحية، في افتعال سرقة وهمية، كما فعل الحلاق سعد، حين صرخ في اهالى محلته بأنه تعرض الى سرقة كبيرة في منزله، في مسرحية مفتعلة (- لقد تعرضنا الى سرقة ياحاج، سرق اللصوص كل ما خف وزنه وغلاء ثمنه) اظهار نفسه ضحية لكي يقوم بسرقات بيوت الاخرين، لقد فتشوا في كل شيء، المارة، كاميرات المراقبة السرية، لم يجدوا شيء غريب يدعو إلى الشك، لكنه قام بعد ذلك بالسرقة وضبط بالجرم المشهود، حين ضبطه احد صبيان الدار، بأنه في داخل المنزل رجل سارق، وعرفه من سعاله، وهذه سمة الحلاق المعروف بالسعال الشديد، ثم رآه يسرع بسيارته ويبتعد عن المكان المسروق.

3 - نص: تجارة رخيصة:

تعزف على الشخص المناسب في المكان المناسب، تؤكد قيمة المسؤولية، ليس هي نزوة أو عبث أو تطفل من اجل سرقة مكانة الآخرين، في بيع جسدها في المتعة الجنسية من أجل الصعود على اكتاف الاخرين. مقارنة بين الممثلة الكبيرة المعروفة على خشبة المسرح، وبين ممثلة خلف الكواليس، لتأخذ دورها لكي تصعد على خشبة المرح، بعد اغراء المخرج في ليلة حمراء، وقبل صعود الممثلة المتطفلة، واجهتها الممثلة الكبيرة بكلام حكيم (كان عليك أن تتطهري من اردانك قبل ان تصعدي خشبة المسرح، فدور الناسكة يتطلب امرأة تملك العفة والطهارة. وتركتها ومضت)

4 - في المجموعة القصصية تضعنا أمام حالتين متناقضتين بالنسبة الى القدر، القدر الظالم، وعدالة القدر. نعرض الاولى (القدر الظالم): ينطلق السائق باقصى سرعة، لكي يصل الى قريته، وينفذ شحن جهاز الهاتف، وحين وصل الى قريته، خفق قلبه بالصدمة، حين وجد حشد من الناس يتجمعون عند ضفة النهر، بدأ الخوف والقلق والصدمة المفاجأة هزت كيانه،، حين اخبره الناس بأن زوجته غرقت في النهر ’ سقط مغشيا عليه، وبعد ثلاثة ايام طفحت جثة زوجته فوق سطح الماء، ومن أجل التذكير بغرق زوجته، زرع نخلة في موقع الغرق، وبعد عشرة أعوام تعرضت قريته الى فيضان، غرقت البيوت وغمرت نخلته، فجلس يندب حظه العاثر ليقول (- ايها القدر، كم انت ظالم، لقد ذبحتني مرتين، انا ميت منذ ذلك اليوم الذي خطفت فيه زوجتي، والآن تخطف نخلتي، كم انت ظالم ايها القدر، ألا تعلم بأنه لا يجوز لك ان تذبح الميت مرتين).

أما نص: عدالة القدر. دأبت فتاة لعوب على المجيء بحجج واهية الى صاحب المولدة في الحي، مرة التيار الكهربائي ضعيف، ومرة انقطاع التيار الكهربائي، فكان يرطب خواطرها ويعاملها بلطف، وهو لايعلم بأنها تعد له الفخ للإيقاع فيه، وفي احدى الصباحات دخلت عليه كالعادة، ولكن دخلوا مباشرة عليه اقربائها، وعبروا عن غضبهم الشديد وبجدوها في المكان، وهذا مخل بالشرف، وتحت التهديد بالعرف العشائري، اضطر ان يتزوجها وتنجب منه طفلة، وبدأت المشاكل والخصام وطلبت الطلاق، فرضخ لمطلب الطلاق لكن طلبت تسجيل ملكية البيت بأسمها، فكان لها ذلك، وهي تخرج من مديرية التسجيل العقاري، وهي تلوح من بعيد بسند ملكية البيت بأسمها فرحة، وحين عبرت الشارع جاءت سيارة مسرعة فدهستها، وطار سند الملكية في الهواء، مما اجبر اقربائها ان ياخذ طفلته ويرجع معها الى بيته، بعدما فقد سند الملكية.

5 - نص: يا امي..... سأحفظ وديعتكِ.

وضعهما الاستاذ المؤلف في نصين، احدهما يكمل الاخر، وتدل على السلوك الارهابي للنظام الشمولي، الذي يتلاعب في مصير الناس الى المجهول، دولة الاخ الكبير، أو دولة القائد الضرورة، الام على فراش المرض تنازع لحظاتها الاخيرة، وضعت يدها في يد ابنتها الكبيرة (كوثر) متزوجة ودكتورة في الطب، قبل ان تسلم روحها للموت لتقول لها، بأن تحافظ على شقيقها الصغير أحمد، في كلية الطب في المراحل الاخيرة (- احمد وديعتي عندك، فحافظي على وديعتي، بعد ان قالت هذه العبارة أسلمت الروح وسط بكاء اولادها). وفي احدى الايام من عام 1982 وجدت ثلاث سيارات من رجال الأمن يقتحمون بيتها، يجرون شقيقها بعنف، وحاولت ان تستفسر عن سبب الاعتقال، ضربها احد رجال الامن بأخمص بندقيته فوقت مغشية فقدت الوعي ووجهها ينزف من الدماء، والنص الثاني المكمل، عرفت شقيقيها المسجون بعد البحث الطويل، بأنه مسجون في سجن (ابو غريب) وساومها ضابط الأمن بالمقايضة المالية، ان تدفع المال، او يعدم وانه محكوم بالاعدام، فوافقت على الصفقة، في إطلاق شقيقها من السجن والاعدام مقابل الدفع المالي، جمعت ما تملك وباعت أملاكها العقارية في سبيل إنقاذ شقيقها، وعند الدفع، وجدت ان رجال الامن، جلبوا إحد المجانين من مستشفى الأمراض العقلية لكي يعدم مكان شقيقها، استهجنت هذا الفعل غير الاخلاقي وقالت: ماذنب هذا الرجل المجنون يعدم، فرد عليها ضابط الامن في أسلوب خشن (- لا يوجد لدينا الوقت الكافي لتنفيذ خطة بديلة، بموعد تنفيذ حكم الإعدام سيكون بعد يومين) في حال تنفيذ الاعدام بالمجنون سيطلق سراح شقيقها، وفي اليوم المحدد، ذهبت لكي تستلم شقيقها المطلق سراحه من السجن والاعدام، اخذته في سيارتها وكان نائماً وملفوفاً بقطعة قماش كبيرة، فحين ازاحت قطعة القماش عن وجهه، اصابها الرعب، فكان مشنوقاً وقد تدلت رقبته على كتفه.

6 - نص: سارق الغنم:

هذه احدى مصائب واقعنا الاجتماعي، بيع بطولات وهمية بالمجان، في سوق التهريج بالبطولات المزيفة، وبيعها على مشجعة وأنصاره، وسط حالة من التصفيق الحاد من التشجيع، تجري هذه المهاترات في احدى المقاهي، يسرد عليهم في ابتهاج في مغامراته ومجازفاته، ضد اللصوص وحمى قريته من سرقاتهم، ويقول في احدى بطولاته المزعومة، قبض على زعيم اللصوص ولم يطلق سراحه، إلا بعد إعطائه أربع نساء ليتزوجهن دفعة واحدة،، وهو في حقيقة الأمر هو لص مطرود من قريته، وفي مشاجرة مع أحد الذين يعرفونه تمام المعرفة ’ صائحاً به بغضب (- ماذا تفعل أيها المعتوه يا راعي الغنم، هل بلغت الجرأة وتمد يدك علي، يا كاذب انك لم تتزوج ولا مرة واحدة في حياتك، هل نسيت نفسك ؟ لقد كنت راعياً لاغنام أبي في قريتنا، وقد طردك حين اكتشف سرقاتك).

7 - نص: مشروع عصري.

هي رمزية بليغة في مقولة (بأسم الدين باكونا الحرامية) والنص موجه الى سراق العمامة، وهذا مثال من الكثير من الامثلة من الظواهر البارزة على سطح الواقع، امام الجامع المعروف بـ مواعظه وإرشاداته في مواعظه الخطابية، بعد أنهى موعظته الجلجلوتية، طلب من المصلين التبرع المالي لاقامة مشروع يخدم الناس، لم يحدد نوعية المشروع، وكل واحد يفسر المشروع على طريقته الخاصة، البعض اعتقد بناء جامع حديث وعصري، بدلاً من الجامع القديم، واخرين اعتقدوا بأن المشروع هو بناء مستشفى حديث يخدم الناس ويوفر العلاج ويكون قريب منهم، بدلاً من الذهاب الى مستشفيات العاصمة وعناء التنقل ومشقة المسافة البعيدة، والبعض اعتقد بأن المشروع بناء مدرسة حديثة نموذجية، بدلاً من مدرسة الطين، وبعد سنوات جمعوا تبرعات باموال طائلة وتم تخصيص قطعة أرض واسعة، وبدأ العمل بوتيرة مسرعة، وسط ابتهاج مدير المشروع بالعمل والاسراع في الانجاز، واتضح اخيراً بأن المشروع، عبارة عن اقامة (مول) تجاري.

8 - نص: اجتماع.

وهذه ظاهرة فعلية على مسرح السياسي، في الحملات الدعاية الانتخابية للمرشحين، الذين يفتشون بكل الطرق الشيطانية، في سبيل شراء اصوات الناخبين بالاغراءات المادية والعينية، من اجل ضمان فوزهم، مثل ما يتحدث السرد في النص وهي حقيقة ماثلة لا احد ينكرها، في التنافس الانتخابي، مثل هذا المرشح الذي يقرر تقديم وجبتين من الطعام واللحم، بدلاُ ومن وجبة لحم في اليوم، وهذا يتطلب زيادة أعداد الحمير في الحضيرة، من خلال تزويجهم لزيادة عددهم، والحمير تشكو حظها العاثر، فقد جمعت اقتراب الحملات الإنتخابية مع مواسم الأعياد، وهذا يتطلب من أصحاب المطاعم الذين يقدمون الكباب المغشوش، بحاجة الى المزيد من الحمير.

***

جمعة عبد الله

 

ليس دور النقد الأدبي أن يقوم بتسليط الضوء على القامات الأدبيّة الكبيرة والمشهورة فحسب، بل دوره الأهم في نظري هو البحث أيضاً عن تلك الأصوات الابداعيّة المهملة أو المهمشة، التي لم تسنح لها الظروف أن تقدم نفسها للمتلقي بسبب محددات كثيرة ليس هنا مجال للنظر فيها .. وما الأديبة (نور إدريس محيمد) إلا صوت فراتي من هذه الأصوات التي أحببت تسليط الضوء على عمل إبداعي لها وهو قصتها(أمل).

نور. تحمل إجازة في اللغة العربية، تعمل مدرسة لمادة اللغة العربية في تربية ديرالزور - سوريا، لها بعض المساهمات الأدبيّة، لم تسنح الظروف بعد أن يخرج إبداعها إلى النور.

قصة (أمل).

مدخل: تظل الحريّة الفرديّة والجماعيّة للخلاص من الظلم والقهر والاستبداد والتشيىء والغربة الروحيّة والجسديّة بشكل عام، وحرية المرأة من القهر الذكوري بشكل خاص، الهاجس التاريخي الذي لا يفارق عقل ورح من يمارس عليه سجن الروح والجسد. بل كانت الحريّة هي الوسيلة الأكثر فاعليّة في تغيير حركة التاريخ البشري منذ أن بدأ استغلال الإنسان للإنسان واستعباده، فمعظم الثورات عبر التاريخ سببها الرغبة في نيل الحريّة للشعوب، ومعظم حالات التمرد الفردي سببها أيضاً الرغبة في الحريّة وخاصة لدى المرأة بشكل خاص. وهذه القصة موضوع دراساتنا للقاصة (نور إدريس محيمد)، هي إحدى حالات التمرد النسوي للخلاص من الظلم الذكوري التي لم تزل قائمة حتى اليوم، بل هي اليوم أكثر تعقيداً بسبب ما اكتسبه المجتمع الذكوري من سلطات متعددة على المستوى السياسي والاعلامي والتواصل الاجتماعي وفضاء الانترنيت اللامحدود من جهة، وبسبب ما حققته المرأة أيضاً من انجازات في مجال التعلم واكتساب العلم على كافة المستويات وتحقيق حضور فاعل لها في الساحة الاجتماعيّة والسياسيّة والفنيّة والأدبيّة والعلميّة بشكل عام من جهة ثانية.

البنية السرديّة أو الحكائيّة للقصة:

"أمل"، فتاة ضاقت من سجن أنوثتها التي فُرض عليها تاريخيّا بسبب قهر المجتمع الذكوري، وشدّة وقسوة العرف والعادة والتقليد الذي جعل من المرأة ضلعاً قاصرا، وناقصة عقل ودين، وكل ما فيها عورةً.

جلست وشقيقتها بين جدران بيتها السجن، ينهش القلق أعماق روحها وتفكيرها، هذا البيت السجن الذي أصبح يمثل لـ "أمل" طوق ذهب يلتف حول عنقها ولم تعد تطيقه، فراحت تتمتم كمجنونة فقدت توازنها أمام شقيقتها: (إنه يخنقني).. فترد عليها شقيقتها التي عرفت دلالات همسها، بعد أن ضربتها وهي تصرخ بها ... (هل أنت رجل حتى تكوني بلا عقد؟!.)، وهي تريد هنا أن تقول لأختها المتمرّدة والساعيّة في عقلها وتفكيرها وطموحها الأنثوي للحريّة، ليس من حقك أن تتشبهين بالرجال، فالحريّة لهم وحدهم.

نعم... الحريّة للرجال، أما المرأة فسيظل صوتها عورةً وتباع وتشرى مثل أيّة سائمة كما يقول نزار قباني في قصيدته (إلى أجيرة):

بدراهمي!

لا بالحديث الناعم

حطمت عزتك المنيعة كلها .. بدراهمي

وبما حملت من النفائس، والحرير الحالم

فأطعتني..

وتبعتني..

كالقطة العمياء مؤمنة بكل مزاعمي..

"أمل" فتاة تعلمت وراحت تحس وتشعر بذاتها كإنسانة من حقها أن تحصل على حريتها طالما أن الله خلقها والذكر (من نفس واحدة).

في الليل جلست قرب النافذة تحدّق في الجدران التي تحيط مدينة سجنها، فراحت تتساءل بحيرة:

- ترى ما خلف تلك الجدران؟.

أجابت أختها بارتباك وقد ارتعشت يدها:

- جحيم.

نعم عالم الحريّة عند (أختها) التي رضيت بالسجن والذل، واعتبرت الرجل هو السيد الذي لا يرد له أمر، هو جحيم بالنسبة لها... لكن الصوت الخفي داخل عقل "نور" المتمرد، أراد معرفة سر هذا الجحيم، ولماذا نار هذه الجحيم لا تحرق الرجال بل تحرق النساء فقط ؟.

هنا قررت أن تخرج إلى عالم الحريّة... عالم الجحيم كما وصفته شقيقتها، معتمدة في سردها على تحقيق حلمها بأسلوب تخييلي لا يخرج عن عالم الفانتازيا والرمز. متصورة نفسها تحفر جدار الغرفة الذي شكل عالم سجنها بقطعة حديد صدئة، لكن جدار السجن كان أكثر صلابة، فقررت أن تحفر نفقاً تحت الجدار.. لقد اختلط دمها بالتراب، ولكنها لم تيأس فاستمرت لشهور تخفي جهدها في الحفر حتى لامست يدها الجانب الآخر من السجن.. ارتجفت يدها وعادة مسرعة لتخبر النساء بما رأت خارج السجن، فضحكن بسخرية منها وهن يرددن: (من أين جاءت بهذه الأفكار، أهي المدرسة؟!، لكن الفضول هزم خوفهن .. وأخيراً قرّرن أن يتبعن "أمل"، وحين عبرن النفق انفتحت أمامهن جنة خضراء، انطلقن يضحكن ويرفرفن مثل عصافير تحررت من أقفاصها).

نعم هي المدرسة التي تلقت فيها "أمل" سر العلم والحياة ومعرفة ذاتها وموقها في هذه الحياة معا... هي المدرسة التي تقدم المعرفة التي تشكل جذر الحريّة.

مع خروجهن إلى عالم الجحيم كما وصفته لها أختها، صاحت "أمل":

(لم يكن هذا الخارج جحيماً.. بل  هي الحياة..) ولكن أسوار السجن لم تنته بعد، فلا زال سجن عالم الذكورة يمارس قهره وحصاره عليهنَّ... لقد هجم أحد الرجال على "أمل" وشدّ عقدها الذهبي على عنقها حتى سالت الدماء من عنقها وراحت تغطي مساحة من صدرها وهي ثابتة تودع النساء الباكيات أمامها بابتسامة قبل أن تسقط جثة هامدة بلا حركة. ولكن صوت صراخها في داخل أعماق بقيّة النسوة بقي حياً.. نعم لم يكن صوت صراخها يعبر عن فقدها للحياة.. بقدر ما كان هذا الصوت بالنسبة لهن، بعثاً لحياة أخرى ستشرق فيها شمس حريتهن لا محال.

البنية الفكريّة للقصة:

القاصة فتاة تعلمت، وبالعلم والمعرفة عرفت ذاتها، وموقع هذه الذات في عالم الذكورة الذي يحتقر المرأة رغم تعلمها ووصولها إلى مراتب عليا في كافة مجالات الحياة. إن علمها ومعرفتها شكلا بالنسبة لها سلاحا لا بد من استخدامه بالطريقة الصحيحة للخلاص من عبوديتها، مع معرفتها أن طريق نضالها من أجل حريتها طويل، وقد يؤدي بحياتها، ولكن هي طبيعة الحياة التي ترفض السكون، وتقبل المغامرة، وتشكل الحركة عندها سر استمراريتها وتجددها.

لقد شكل عامل الحريّة في البنية السرديّة جوهر القصة، فلا حريّة بدون وعي ومسؤوليّة .. نعم إن الحريّة وعي الضرورة... نكون أحراً بالقدر الذي نعي فيه حاجاتنا ونناضل من أجلها.

البنية الفنيّة والجمالّية للقصة:

أولاً: العتبة السيمائيّة للعنوان:

"أمل"...هو اسم القصة وبطلة القصة معاً، فالأمل هنا مركب في دلالاته، فلكونه اسم القصة، فهو يشير إلى أن حريّة النساء وما يحلمن به من تحقيق لذواتهنّ، والخروج من عالم قهرهنّ وظلمهنّ، يظل أملاً وحلما لن يَحُولَ دونه أية قوةٍ بالكون، فالحريّة طموح ومن أجلها ترخص الأرواح. وهذه الدلالة تدفعنا للدلالة الثانية التي يعتبر فيها اسم بطلة القصة "أمل"، بأن هناك من النسوة من يرفض الظلم والقهر وسجن الروح والجسد، وهنَّ على استعداد للتضحية بحياتهنّ من أجل الحصول على الحريّة، والفسح في المجال واسعا أمام الأخريات كي يناضلنّ من أجلها.

ثانياً: الشكل الفني في القصة:

إن القاص المتمكن من حرفته، يمهد لفكرة نصه الأدبي، ويهيئ الجو للحديث عنه بسلاسة وتنسيق، يستجيبان مع المواقف بشكل يثير الشوق ويجذب القارئ لمعرفة النهاية. وهذا ما تم في القصة منذ بدايتها فبراعة القاصة " " نور إدريس محيمد" تجلت في قدرتها على تصوير أو وصف حالة ارتباك وقلق بطلة القصة النفسيّة والجسديّة، التي تبحث عن حريتها للخروج من سجن الذكورة.

لقد امتاز تشكيل القصة بالعمق والغور في أعماق نفسيّة فتاة معذّبة في داخلها، تحلم وتبحث معاً عن نفق للخلاص من القهر الذي فرض عليها وعلى كل النساء تاريخيّاً، ورغم حالة التعقيد والتكثيف السردي في معالجة أحداث القصة التي تدخل في عالم الحلم والرغبة، إلا أننا نجد اللغة التي استخدمت في معالجة أحداث القصة، كانت واضحة وغنية في سهولتها ودلالاتها ومشحونة أيضاً بمفردات القهر والعذاب والشوق والحنين للحريّة، بحيث استطاعت إيصال الفكرة الأساسيّة للقصة إلى المتلقي.

وهذا يشير إلى أن الكاتبة تمتلك قدرات فنيّة في التخيل تجلت من خلال معالجتها لقضيّة نفسيّة على درجة عالية من التعقيد. لقد كان وصف الشخصيات وخاصة بطلة القصة في بنية القصة رائعاً، يحمل تحليلاً نفسيّاً واجتماعيّاً وأخلاقيّاً.

إن القصة بعمومها تفتقد إلى الحوار، وحتى عندما وجد الحوار في القصة بين "أمل" وشقيقتها أو بينها وبين النسوة، فقد جاءت هذه المحطات الحوارية القليلة لملء محطات أو بياضات صغيرة داخل البنية السرديّة، أو شكلت عتبات أساسيّة لدخول عالم القصة.

إن فقدان الحوار ساهم في إبراز دور القاص من الخلف، أو بصفة ضمير المتكلم، وهو دور العارف بكل خفايا القصة، وما جرى لبطلة القصة داخل سجنها الروحي والجسدي، وطموحاتها ورغباتها في التحرر، وهذا ما جعل القصة رغم استخدمها التخييل في السرد، إلا أنها امتازت بوضوح الرؤية وسلاستها وبساطة عرض أحداثها، وبالتالي غياب الحاجز بين الكاتب والمتلقي. لقد كان بناء القصة متماسكاً، وأدت وظيفتها التي رسمتها لها القاصة، حيث تجلت في تصوير أو وصف حالة الارتباك النفسيّة لبطلة القصة عندما راحت تتداول بصمت وحذر عبر حوار منولوجي داخلي مع نفسها مسألة التصميم على الخروج من سجن الذكورة.

ثالثاً: وصف وتحليل الشخصيّة في القصة:

لقد كان وصف شخصيّة بطلة القصة، يحمل تحليلاً نفسيّاً واجتماعيّاً وأخلاقيّاً صيغت كما بينا أعلاه بألفاظ سهلة، مشحونة بمفردات القهر والعذاب والشوق والحنين والرغبة في التحرر.

لقد استطاعت القاصة "نور إدريس محيمد " في الحقيقة، أن تقوم بتصوير شخصيّة البطلة تصويراً يدخل في نطاق الفانتازيا أو الخيال، فهي قاصة مبدعة تمتلك القدرة على التصوير الدقيق كفنانة قديرة تمتلك أدواتها الفنيّة والثقافيّة، مكنتها من فهم النفس الإنسانيّة داخل سجن قهر واغتراب أنوثتها.

رابعاً: الرمز في القصة:

نظراً لاعتماد القاصة التخييل والتكثيف الشديد في سرد البنية الحكائيّة أو السرديّة للقصة، لذلك اتكأت على الرمز كثيراً في سردها، فـ (الطوق)، دلالة على العبودية، و(الجحيم) دلالة على عالم الذكورة وقهره للأنثى، و(الجدار) دلالة على سجن الجسد والروح معاً، و(قطعة الحديد الصدئة) دلالة على ضعف مقاومة تحدي الأنثى لمجتمع الذكورة، و(حفر النفق) دلالة على صلابة الإرادة في التحدي من أجل الوصول إلى الهدف، و(الدم) دلالة على التضحية من أجل الحصول على الحريّة.

خامساً: ميزات القص وأسلوب القاصة:

امتازت القاصة "نور إدريس محيمد" بحسها الفني الرقيق، وذوقها المثقف، ورهافة اللفظ،، وبراعة تصوير المواقف التي تكشف عن أبعاد الشخصيّة التي رسمتها بدقة، وأبرزت أبعادها الاجتماعيّة والنفسيّة والخلقيّة، وكشفت عما تعانيه من صراع مع نفسها، ومع الآخرين، ولأن هذه الشخصيّة، مقهورة ومضطهدة، إلا أن ما تحمله من مبادئ وقيم إنسانيّة نبيلة، يجعلها رغم ما تتعرض له من عذاب قد ينال الجسد، إلا أن الروح تظل فيها جذوة الأمل بالخلاص الفردي والجماعي تسعر في نفوس طلاب الحريّة، وهذا ما يساعد على الانتصار والخروج من أزمة التمايز بين الذكورة والأنوثة، وخروج الأنثى في نهاية المطاف منتصرة على ضعفها واغترابها، وبالتالي يعتبر هذا الانتصار أقوى الانتصارات على النفس وعلى الآخرين.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا

.............................

نور إدريس محيمد

قصة (أمل)

وتابعت متمتمة بهمس:

- إنه يخنقني.

انتفضت أختها ولطمتها، وهي تصرخ:

- اخرسي هل أنت رجل حتى تكوني بلا عقد؟!.

في الليل جلست قرب النافذة تحدّق في الجدران الأربعة التي تحيط مدينتها، فتجرأت وسألت أختها:

- ما خلف تلك الجدران؟.

أجابت أختها بارتباك وقد ارتعشت يدها:

- جحيم.

لكن الصوت الخفي في نفسها أراد معرفة سرها، ولماذا لا تحرق الرجال وتسلط نارها على النساء فقط ؟.

تسللتْ بصمت بعد أن نام الجميع حتى لامستْ جدار سجنها بأصابع مرتجفة.. حاولت خدشه بقطعة حديد صدئة، لكنها لم تفلح ... فبدأت تحفر نفقاً.. اختلط دمها بالتراب، استمرت لشهور تخفيه... بينما كانت تحفر، ارتجفت يدها وهي تلامس الجانب الآخر خارج سجنها، عادت لتخبر النساء بما رأت، فضحكن بسخرية وهن يرددن:

- من أين جاءت بهذه الأفكار، أهي المدرسة؟!،.

لكن الفضول هزم خوفهن.. في الليلة الموعودة بعد أن تبعن أمل، وحين عبرن النفق انفتحت أمامهن جنة خضراء، انطلقن يضحكن ويرفرفن مثل عصافير تحررت من أقفاصها.

صاحت أمل:

- لم يكن جحيماً .. إنها الحياة..

فجأة لم تكتمل ضحكاتهنَّ.. لقد ارتطم الجميع بالجدار الأعظم من السجن .. تجمدن.. وراحت النشوة تتحول إلى صمت، عندما أخذ الرجال ينقضون عليهنَّ ... ساق أحدهم أمل كنعجة، بينما السياط أخذت تنهال على أجساد النساء الأخريات. وفي ساحة المدينة وقف الجميع حول أمل.. شدّ أحدهم العقد الذهبي حول عنقها، بينما راح بقيّة النساء يصرخن بصوت واحد:

- هذا مصير من تحاول أن تتمرد وتطالب بالحريّة...

بدأ العقد يغوص في عنقها.. الدماء تتفجر وتسيل على صدرها وبعض مواقع جسدها وهي ثابتة تودع النساء الباكيات أمامها بابتسامة قبل أن تسقط جثة هامدة بلا حركة، لكن صوت صراخها في داخل أعماق بقية النسوة بقي حياً.. نعم لم يكن صوت صراخها يعبر عن فقدها للحياة.. بل كان هذا الفقد بالنسبة لهن بعثاً لحياة أخرى ستشرق فيها شمس حريتهن لا محال.

***

لا شكَّ أنَّ القارئ الواعي والمُتلقِّي الذكي أو الناقد الألمعي النابه الذي يُطالع مدوَّنة (المَاجديَّةُ)، الرِّوايةُ التي ابتدأت خطَّ مسارها التعبيري (الأُفقي والعَمودي) الزمكاني التأثيثي الأوَّل من الماجديَّة ذاتها وانتهتْ بعَتبة مثابة المَاجديَّة الكونية نَفسَها، ثُمَّ يُحاول جاهداً الغوصَ عميقاً في مكامن لُجِّها السردي، والنبش الفكري في أغوار وحِفريَّاتِ فصولها (التسعةَ عشرَ)فصلاً، ويُمعنَ النظر والتأمُّل وئيداً في لُقى وآثار نصوص وحداتها السردية، وَدُرَرِ جَواهر مكنوناتها الموضوعية التشاكليَّة، لا يمكن لهُ أنْ يضعها تحت خانةٍ تصنيفيَّةٍ مُعيَّنةٍ، أو تحتَ توصيفٍ تجنيسي أو مُسمَّىً سرديٍّ ما.

وذلك؛ لكونها روايةً تكامليَّةً التأثيث في التجنيس والتأسيس والتكريس السردي الشُّمولي، ومن روايات الحداثة (المِيتَا سرد)، وما بعد الحداثة الجامع لكلِّ التصانيف والأفكار والرؤى والتَّطلُّعات الذاتية والموضوعيَّة التجدُّدية.

فَيُمكنُ أنَّ نطلق عليها بالدرجة الأولى رواية بنية تجلِّيات (المَكان) والتاريخ الضارب الأصل، ورواية الأرخنة السيرية والتوثيق التاريخي الشخصي الحديث والمعاصر. وهي رواية مُتعدَّدة الرؤى والأفكار ولاتجاهات الموضوعية وكثيرة الأنساق والمرجعيَّات الثقافيَّة البعيدة والقريبة.

و(المَاجديَّة) بدرجة اهتمامنا السردي والفكري الآخر، هي رواية الآيدلوجيا العقائدية في رفض الواقع الحياتي المعيش وعقابيل مواجهة تحدِّي الراهن السلطوي. وهي مِهمَاز فكري مناهض في سرديَّات ما بعدَ الواقعي السِّحري والأُسطوري المخيالي، أو البثّ القصصي الغرائبي والعجائبي الوجودي الفريد الذي يَستمدُّ مصادرة الفنيَّة واشتغالاته الثقافيَّة والفكريَّة والموضوعية من ظلال ومثابات الواقع الوارف. ومن صور وأديم التقاطات تجلَّياته الوجوديَّة الظاهرة والخفيَّة.

و (المَاجديَّة) أيضاً يُمكن أنْ نعدَها توصيفيَّاً رواية الارتحال الشَّخصي، أو أدب الرِّحلات الحكائي السَّردي، ويُمكنُ أنْ تكون تَبئِيراً نصيَّاً لافتاً لسرديَّات الحسِّ الأمني والاستخباري والبوليسي القمعي لنفوذ أجهزة الموساد الإسرائيلي والأمريكي، والمحيط الأقليمي لدول الجوار العراقي التي لا يمكنَّ الشكِّ بها خارجياً بدءاً من شمال الوطن ووسطه ومُروراًبالكويت وتركيا وفرنسا وأمريكا.

و (المَاجديَّةُ)أيضاً، هي رواية المكان والزمان والشخصيَّات والصراع والحوار والعُقدِ والتَّعقيدات التي تتجلَّى فيها سرديَّات مظاهر الأدب التأصيلي الممزوج بميلودراما الفنِّ الحركي لبَصَرِي والفنِّ المَسرحي. وهيَ رِواية الماضي القريب والحاضر الزمني الآني المَعيش الذي يُؤرخنُ لنصف قَرنٍ من الزمان من تاريخ مدينة أو حيِّ شعبيٍّ فقيرٍ يقطنه الكثير من المُتعبينَ الكادحينَ والمناضلينَ الذين يَسعَونَ لمستقبلٍ زاهرٍ حُرٍّ كريمِ العيش يُسمَّى (الماجديَّة)، إحدى مناطق أو الأحياء الشعبية المشهورة الأثر لمدينة العُمارة ذات التاريخ المَديني السَّومري الأصيل التي تتوسَّد وتنام وتغفو ضافيةً على ثلاثة أفرع من نهر دِجلة الخالد لتنعمَ بالحبِّ والخيرِ والجَمالِ والسلامِ برغم يدِ الزَّمنِ.

و (المَاجديَّة)، رِوايةُ (يُوتوبيا) مدينة السرد الإنساني الفاضلة والكاشفة (لدستوبيا) الواقع التعسُّفي المرير الفاسد، والمُضاد لتلكَ المدينة التي تقاوم سِهامَ الشرِّ وتُحاربُ كُلَّ اتجاهاته القميئة المُختلفة.

 (المَاجديَّةُ)، ليست مجردَ روايةٍ تتألَّف من مجموعةِ حكاياتٍ وأفكارٍ فاعليةٍ متناميةٍ وموضوعاتٍ سرديةٍ جريئةٍ واثبةٍ فحسب، إنّما هيَ في واقع الأمر روايةٌ بيئةُ مُحيطيةٌ جمعيةٌ، وليست روايةً شيئية وصفية، روايةُ المُثقَّف الواعي والإنسان البسيط المُكافح العادي الذي كان شاهداً على جريمة العصر، وعلى هُويَّة الآخر الآثم بين عتبات الماضي وإرهاصات الحاضر الآسر، وبين الحاكم الآمر الجائر، والمَحكوم عليه المأمور، والسائل والمُسؤول، رواية القاتل الجلَّاد والضحيَّة المقتول.

من يَتَتَبَّعْ بوعي وإدراك ثاقبين سطورَ رواية (المَاجديَّة) ويتأمَّل معاني صفحات فصولها الكليَّة، سيقرأْ بتجلٍّ أنَّها سرديَّاتٌ ومرويَّاتٌ شعبيةٌ وثائقيةٌ حقيقيةً تشي بِعَدلٍ وَإنصافٍ موضوعيَّةٍ حياديَّةٍ إلى ثُلَّةٍ طيِّبةٍ لنماذج من المناضلينَ والأحرارِ وشخصيَّاتٍ خَيِّرةٍ من المُهمشينَ والمُغيَّبينَ والمُعدمينَ والمسكوتِ عنهُم عن قصدٍ من رجالِ ونساءِ مدينةٍ لا تَعرفُ الذُّلَّ والخضوع والاستسلام والكَلل. شخصيَّات حركيَّةٌ تَنشدُ التَّحرُّرَ وترفعُ راية الوجود والأمن والأمان والسَّلام (أكونُ أو لا أكونُ).

إنَّ أغلب شخصيَّات رواية المَاجديَّة الرئيسة والثانوية، هي شخصيَّات واقعيَّة حقيقيَّة بحتة، ما زالت سِيرُهُم الذاتيةُ الوجوديَّة، وذِكراهُم الحَدثيةُ الواقعيةُ تحتفظ بها ذاكرة أجيالٍ فذةٍ من أهل العُمارة الطيبينَ، هذ المدينة الجنوبيَّة الضاربةُ جذورُها التاريخيةُ بعيداً في الأرض. ومَنْ مِنَّا لا يتذكَّر شخصيَّة الرجل (كرَيِّم شيشةُ) المُثيرة للجدل، وشخصيَّة (جَميلةُ الكحَّاحَةُ) المُتسوِّلة الشَّعبية.

أمَّا القسم الآخر من هذه الشخصيَّات الفرعيَّة الواقعية الفردية والجمعية المشتركة، فقد وضع لها المؤلِّف الكاتب أسماءَ رمزيةً افتراضيَّةً وهميةً مُستعارةً تُناسب موحياتُها الفواعليَّةُ مَشاهدَ حركةِ وفعل الواقعة السرديَّة وصورها التاريخية الجميلة التي تمنح الرواية فضاءً مِخياليَّاً مُؤثِّراً لتجلِّيات واقعة الحدث السرديَّة، وتشغل فكر المتلقِّي والقارئ بوقع ماهيتها الإنسانية والاجتماعية المتفرِّدة.

 (المَاجديَّة)، هيَ عتبةُ الرِّواية المَركزية الأولى، ومِفتاحُ بوابة الدخول إلى أُسِ مدينة السَّرد الفاضلة بكلِّ تجلياتها، والتي كُتِبَتْ مَسروداتُ نصوصها تَيمُنَاً باسم هذه المدينة الثائرة؛ وفاءً لأهلِها وأُناسِها المتأصِّلين، تعدُّ مِنَ الروايات (البُوليفونيَّة) المُتعدِّدة الأصوات والرموز والشخصيَّات المؤثِّرة.

فهذا هو النهج الأُسلوبي السِّيري والحركي الذي التزمت به مَسرودات هذه الرواية في بعض فصولها الأولى وتهادت؛ بَيدَ أنَّها بفعل حذاقة كاتبها كاظم أبو جُويدة وثقافته الفكريَّة المُتجدَّدة، وألمعية أسلوبيته التعبيريّة الفنيَّة والتَّخليقيَّة الأخَّاذة تحوَّلت لُغة فصولها الأخرى إلى رواية البطل المركزي الواحد الَّذي تَمثَّلت اسميته الشخصيَّة الأنثويةبـ (نِسرين). المَرأة العماريَّة الهَوى و النشأة، وذاتَ النَّسب اليهودي والأصول العراقية الضاربة الميلاد والأرض والتاريخ لهذه المدينة. وهذا النسق السِّيري السردي الأسلوبي الذي اِتَّبعه الرَّائي العليم (الكاتب)، سَيكتشفه القارئ بنفسه ويتلمَّس فنيَّته التواصلية والابتداعيَّة الذكيَّة بعد أن يتوغَّلَ في فضاءات فصول الرواية ويستمتع بسردياتِها.

جَميلٌ جدَّاً أنْ تكونَ بطلة هذه الرواية امرأةٌ عماريَّةٌ مَيسانيَّةٌ حقيقيةٌ أصيلةٌ اسمُها (نسرين)؛ ولكنَّ الأجمل والأبهى أنْ تتعدَّد مُسمَّيات هُوِيتِهَا الذاتية الاسمية إلى أسماء ستة أُخرى بوليفونيَّةٍ تُنسبُ لهذه البطلة الجهادية وتتقنَّع بها شخصيتها الأنويَّة والذاتية وفق ما تتطلَّبه مظاهر التسريد الحداثوي وإجراءاته الحركيَّة المتنامية.

فهيَ تَبعاً لسلسلةِ هذا التَّسريد الحدثي تأخذ أسماءَ عديدةً مثلَ، (سارةُ، ونسرينُ، وجميلةُ الكَحَّاحَةُ، وَعنَيدَةُ، وصَوفِي، ومَارِي)،أسماءٌ شرقيةٌ وأوربيةٌ غربيةٌ بحسب طبيعة الأمكنة التي تقنَّعت لأجلها. ومن ثم عودة هذه البطلة في خواتيم هذه الرواية إلى اسمها الميساني الحقيقي الذي اكتشفته من قِبَلِ ذويها متأخراً بأنَّ اسمها الذي عرفته صدفةً، هوَ (نِسرينُ) بنتُ (ميثمُ الوالي)الذي تركها أمانةً وبِيعَتْ في طفولتها اُضطراراً بُغيةَ ضغط خطِّ الفقر وطائلة الظروف الاجتماعية القاهرة والخطيرة.

والتي أرغمتها أنْ تتخذ لنفسها أكثر من اسمٍ مُزيفٍ وهَويَّةَ تَقنُّعٍ مُزورةٍ؛ بسبب كثرة ملاحقتها الأمنية السريَّة من أجل تصفيتها جسديَّاً في واقعها الحياتي والسِّيري المعيش الذي أوصلها لهذه الحال من البؤس والفقر والشقاء الاجتماعي على الرغم من أنها من عائلةٍ يهوديَّةٍ ميسورة ثَريَّةٍ.

أمَّا لُغةُ الرواية، فإنَّها كُتِبتْ بلغةٍ سرديَّةٍ جماليَّةٍ ناهضةٍ وماتعةٍ وبأُسلوبٍ فنِّي عالٍ وشائقٍ عذبٍ ومُهذبٍ يَجمع بين لغة الواقع اليومي التداولي المألوف المَعيش، وبلاغة لغة الانزياح الأُسلوبي الفنِّي الدرامي المرئي وغير المرئي ذي الأثر السردي الناهض في آليات القراءة والتلقِّي المعرفي.

وهذا التباين الثقافي منح الرواية جماليات الإبداع والابتداع والتأصيل الذي يجذب القارئ إليه ويجعله متواصلاً معها دون الفكاك عنها حتى آخر فصلٍ من فصولها. وقد سيطرت الكثير من الوقائع والمشاهد ذات الأثر المَسرحي الحركي على فصول الرواية؛ لكون كاتبها المُبدع كاظم أبو جُويدة مُختصَّاً بالفنِّ المَسرحي ومثابراً غي أدبه السَّردي الحكائي.

ومن لوافتِ فنيَّة التعبير الأُسلوبية التي دشَّنت فصول الرواية، قِيامُ الكاتب الرائي في كلِّ فصلٍّ من فصولها التسعة عشرَ بوضع ِعتبةٍ تصديريَّةٍ تكون مُقدِّمةً دلاليةً تُناسب موضوعةَ سرديَّاتِ الفصول. وهي عباراتٌ مأثورة أو أقوال ثقافيَّةٌ مُختارةٌ لجمهرة من أساطين الفكر والأدب والفنِّ والشِّعر من الذين لهم مكانتهم الفلسفية والمعرفيَّة المرموقة عالميَّاً وعربيَّاً، وهذا دليلٌ على ثقافته.

وفي جانب أسلوبي أخر عَمدَ المُؤلِّف الكاتب أبو جُويدة قصديَّاً وفنيَّاً في بناء تركيباته السرديَّة والجُمليَّة، وتأثيث حواراته الحكائيَّة إلى توظيف واستقدام بعض المُفردات العاميَّة باللَّهجة المَحليَّة العراقية الدارجة؛ كونها تُضفي على لُغة السرد وفضاءاته المكانية لوناً من التلقائية التعبيرية وتمنح البناء السردي تأثيراً سحريَّاً أخاذاً مُباشراً يُلقي بظلاله الفنيَّة والجماليَّة على نفسيَّة المتلقَّي ويُمتِّعُهُ.

بقي أنَّ تدركَ أنَّ عملاً روائيَّاً سرديَّاً بحجم رواية (المَاجديَّة)، يُعدُّ عملاً فنيَّاً أركيلوجيَّاً مهمَّاً للكشف عن آثار ومُعميَاتِ حَقيقةٍ تاريخيةٍ مُهمَّةٍ قابعةٍ خَلفَ نِقابِ اللُّغةِ زمكانياً من إرث نظام الحكم الدكتاتوري البائد، للتعرُّف على حياةِ أُناس أنقياء مُكافحينَ قدَّموا أنفسَهم الأبيَّةَ قُرباناً للوطن الكبير، ولهذه المدينة الصامدة بوجهِ تَحدِّيات عقابيل الزمن ورَزاياهٍ المُفتعلة التي طالت حياتهم ومستقبلهم.

وعلى وفق ذلك النهج التخليقي الإنتاجي الذي اعتمده الكاتب المثابر أبو جُويدة في مسار تجربة مشروعه الثقافي السردي الرِّوائي الأوَّل المَكين، وبوصفهِ شاهداً وثوقيَّاً تاريخيَّاً، ورائيّاً عَيانيَّاً شخصيَّاً صادقاً على أحداث عصره وحمولاتِ جرائمه التاريخية بحقِّ الإنسانيَّة، وتحوَّلاته الزمانية السريعة التي جال بأحداثها داخليَّاً، وانتقل بوقائعها السرديَّة المتوالية خارجيَّاً بطريقةٍ إمتاعيةٍ تنمُّ عن ثقافةٍ احترافيةٍ مُكتسبةٍ وبسالةٍ فنيَّةٍ راكزةٍ.

يمكن أنْ نَعُدَّ بأنصافٍ وحياديةٍ مهنيةٍ وموضوعيةٍ لا مجانبة فيها إلَّا للإبداع والاستحقاق روايةَ (المَاجديَّة) عَملاً مكانيَّاً توثيقياً وتأصيليَّاً إبداعيَّاً، وببليوغرافيَّاً وصفيَّاً نوعيَّاً مُهمَّاً في أدبيَّات الفنِّ الروائيّ العراقيّ المعصرن الجديد يُضافُ معرفياً إلى لائحة سرديَّات المكتبة العراقيَّة النَّوعية الحديثة التأثيث، والعربيَّة التأصيل التي تقدِّم للقارئ كشوفاتٍ معرفيَّةً وفتوحاتٍ فنيَّةً مُذهلةً التخليق.

***

تَقديمٌ: د. جبَّار ماجد البَهادليّ - ناقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

 

بداية: تُعد العملية النقدية واحدة من أعمق وأهم الوسائل لفهم وتحليل النصوص الأدبية، حيث تتيح لنا استكشاف الجماليات المعقدة التي تحملها الكلمات، والتفاعل مع الأفكار والمشاعر التي تجسدها. إن النقد الأدبي لا يقتصر على الحكم البسيط على جودة العمل أو قيمته، بل يتجاوز ذلك ليكون وسيلة لفك رموز النصوص وتحليل السياقات التي نشأت فيها. يتطلب النقد احتفاءً دقيقًا باللغة والأسلوب والبنية، مما يساعدنا على إدراك كيف تساهم هذه العناصر في نقل الرسالة المكنونة في النص.

العملية النقدية تُعتبر حوارًا بين النص والمفكر، يتضمن استكشاف المعاني والرموز، وتحليل العواطف والأفكار، وكذلك التفاعل مع الخلفيات الثقافية والاجتماعية التي تؤثر بشكل عميق على الكتابة. وعندما نتناول النصوص النثرية، فإننا نغوص في عالم من التعقيد والتنوع، حيث تتجلى الصور الشعرية وتتراقص الأفكار في تناغمٍ مدهش. إن النقد هنا يصبح جسرًا يربط القارئ بالأبعاد الخفية للنص، ويعزز من تجربة القراءة، مما يجعلها رحلة تعليمية غنية.

في هذا السياق، نبحر في ديوان "أصطفيتُك همسًا" للشاعرة إنعام كمونة، من العراق. يتميز هذا العمل بتنوع النصوص بين الهم العام والهم الوطني، بالإضافة إلى الغزل والحب، ومعاناة الألم والفراق والهجر والنكران. إنه ديوان فريد في صياغته ورمزيته العقلانية، حيث تتجلى الصور الشعرية من خلال التشبيهات والأسلوب العميق الذي تتبعه الشاعرة. تعبر كمونة بصوتها الساحر عن قضايا تمس الوجدان العربي، مستعرضةً معاناة الوطن والروح الإنسانية في سياق معاصر.

تتسم قصائد "أصطفيتك همسًا" بأسلوبها الفريد في التعبير عن الأبعاد الإنسانية والفكرية للشعور الإنساني، حيث تجسد صراعات المعاناة وصوت الوطن. كما تقدم تكثيفًا عاطفيًا آخر للتجربة الشعرية الغنية التي أبدعتها، حيث تتناول مشاعر الغربة، الفقد، الحب، والحنين بأسلوب شعري عميق ومعبر. بهذا، تجتمع عناصر الديوان لتبرز قدرة الشاعرة إنعام كمونة على تقديم رؤى شعرية تتجاوز اللحظة، وتعكس واقعًا إنسانيًا متنوعًا ومؤثرًا.

سنتناول في هذه القراءة النقدية كيف تتفاعل أشعار كمونة مع القارئ، ونتقصى الأبعاد التي تضفيها على التجربة الشعرية المعاصرة، بينما ندرك الجماليات التي تجعل من هذا الديوان مدخلاً غنيًا للتأمل والنقد الأدبي.

المحتوى والمواضيع:

يمتاز ديوان "أصطفيتك همساً" للشاعرة إنعام كمونة بمزيج من المواضيع التقليدية والحديثة، حيث تتناول قصائدها قضايا النساء والأطفال في ظل الحروب، متطرقةً إلى ما يعانونه من ضياع وهزائم. في قصيدة "غرق الأطفال في البحر أثناء الهجرة العشوائية"، تستخدم الشاعرة الصور الحسية للتعبير عن الألم والفقد.

في قصيدة "إلى سبايا القرن الواحد والعشرين في وطني"، تكشف الشاعرة عن معاناة الفئات المهمشة، مستخدمةً صورًا قوية وحساسة تحكي معاناتهم. تعكس الكلمات التوتر والألم الذي يعيشه الإنسان في ظل الأوضاع الصعبة، مما يستدعي حوارًا عميقًا مع القارئ.

يتناول الديوان مواضيع متنوعة ترتبط بمشاعر الاشتياق، الفراق، الهوية، وطبيعة العلاقات الإنسانية. تعكس الشاعرة في قصيدة "ذات اتقاد" تجاربها الشخصية وتأملاتها حول الفراق والحنين، مقدمة سردًا شعريًا يحمل في طياته الشغف والآلام. تعبر القصائد عن تمزقات الذات، وتتناول الخطوط الفاصلة بين الفرح والحزن، مما يخلق توازنًا دقيقًا بين المتناقضات.

نجد تنوع بقصائد الديوان وهذه قصيدة وطنية "صراط الشهادة" تعكس الألم الشديد والمعاناة الناتجة عن الفقد والفراق، حيث تتداخل مشاعر الحزن مع الشرف والفخر تجاه التضحيات التي قدمها الشهداء. الشاعرة تستخدم رموزًا غنية مثل "عناق أجسادكم الفتية" و"عرس مذابح" لتجسيد الفراق كحدث مؤلم ولكنه يحمل في طياته بدلاً من ذلك عراقة الصمود. تبرز الصور القاسية للواقع في العراق المستباح، مما يخلق توتراً بين الأمل واليأس، كما أن اللغة الشعرية تحمل دلالة قوية على صراع الهوية والوطن. النص يعتبر صوتاً قويًا يوثق ذاكرة الشهداء ويعبر عن شوق لا يزول، مما يجعله وثيقة شعرية تتجاوز اللحظة الراهنة لتلامس القلوب.

أما بعض التناقضات نراها في قصيدة "غنج موجة" تجسد تجربة الحب من خلال لغة شاعرية غنية بالاستعارات والصور الحسية، حيث تتداخل مشاعر الانجذاب والحنين في إطار مائي يرمز للعمق العاطفي. الشاعرة تبرز الانفعالات المتناقضة بين الاندفاع والرغبة في البقاء، مما يخلق توتراً جمالياً يستحضر صورة العلاقة كأنها بحر متلاطم بالأمواج. الاستخدام المتكرر للمفردات المائية مثل "أمواج" و"موجة" و"غيم" يعكس سلاسة العواطف وتجددها، في حين أن الصور تنقل إحساس الوجدانية المتناهية. النص ينقل طاقة الحب بشكل مرهف، محولا الشوق إلى تجربة حسية ترتبط مباشرة الشعور بالوجود.

في قصيدة "ما ملكت دماؤهم"، تُبدع الشاعرة إنعام كمونة في خلق لوحة شعرية مليئة بالأبعاد الإنسانية والرمزية العميقة. تُعبر الأبيات عن صراع الوجود والتاريخ من خلال صور بليغة، مثل "وجوه راعبة المنايا … تتوضأ العَجَل"، مما يُجسد معاني الألم والفقد بعمقٍ مؤثر.

تنسج كمونة بتشبيهاتها الثرية حكاية جماعية تعكس وحدة العراق ومعاناته، تاركةً روح النص تنبض بالحياة والأمل في ظروف شديدة القسوة.

اللغة والأسلوب:

تمتاز اللغة والأسلوب في ديوان "أصطفيتك همساً" للشاعرة إنعام كمونة بالغنى والعمق، حيث تضم نصوصها تركيبات شاعرية تتسم بالموحية والجرأة. تبرز الألفاظ والعبارات القوية التي تشحذ مشاعر الحزن والأسى، وتتحرك بإيقاع يشبه التنفس. يتجلى الشغف بالكتابة كوسيلة للتعبير عن التجارب الإنسانية في قصيدة" بلا استئذان"، تتميز هذه القطعة الأدبية بلغة شاعرية غنية بالمجازات والتشبيهات، مما يعكس عمق المشاعر الداخلية وصراع العواطف. تتجلى في النص حالة من الفراق العميق الذي يترك أثره في الروح، حيث تجسد الكلمات لوعة الاشتياق وفقدان الأمل.

تعبر الصورة الفنية المعقدة عن الاغتراب والفقدان بشكل مُؤثر، إذ تلامس تجارب إنسانية حقيقية. من ناحية أخرى، يضيف التكرار عنصر الإلحاح الشعوري، مما يثير القارئ ليغوص في تفاصيل هذا الفراق الأليم. النص، بعمق معانيه وإيقاعه، ينطق بصوت الوجدان مما يجعله عرضة للتأمل العميق.

وتتابع الشاعرة إنعام بقصيدة غزلية مدهشة بعنوان "حدائق وعود" يجسد حالة من الانغماس في الأحلام والأماني، حيث تستحضر اللغة باقة من الصور الحسية الزاهية. البنية الشعرية تعتمد على التكرار والمقابلة بين الأمل وخيبة الأمل، مما يعكس تناقضات المشاعر الإنسانية. استخدام الرموز مثل "الأخضر"، "الأزاهير"، و"حدائق" ينم عن إظهار جماليات الحب المفعم بالحياة، ولكنه يظل مرتبطًا بالحذر والفقد، كما يتجلى في عبارات الانتظار والخيبة. تعبر الشاعرة بمهارة عن عمق الشوق وحنين الفراق، ما يجعل القارئ يشعر بمزيج من الفرح والحزن. النص يتضمن أسلوبًا استعارياً غنياً، مما يعزز الانغماس في تجربة الحب المتجدد والمليء بالتحديات، مما يُظهر كيف يمكن للكلمات أن تكون أداة للتخليد والتوثيق.

وللعيد والأحزان والموت نصيب في ديوان أصطفيتكَ همساً، يتجلى ذلك في قصيدة "أحزان عيد" تُعبر عن تناقض مشاعر الفرح والحزن المرتبطين بعيد، مشبهة إياه بمزيج من الدموع والشجن. تعكس الشاعرة حالة الفقد والانكسار، حيث تُبرز كيف يمكن لذكريات الأحبة المتوفين أن تثقل قلب المحتفل، مما يجعل العيد يبدو كاحتفال مكمل للحزن. الصور البلاغية القوية، مثل "شتلات الإنتظار" و"معنى لا تغني"، تُظهر عمق الألم الوجداني، بينما تكشف التوتر بين الذكرى والأمل. يتجلى تأثير العائلة المفقودة من خلال ذكر الأم والأب، مما يعمق الحس الإنساني في النص. اللغة الغنية بالاستعارات تُضفي على القصيدة أشكالاً مختلفة من التوتر العاطفي، فاتحةً المجال لفهم أعمق للفرح الأداتي في ظل الشوق المتمكن.

كما تعكس الجمل القصيرة الضاجة بالعواطف انغماس الشاعرة التام في التجربة الشعرية.

في قصيدة "سهر" خاتمة الديوان تعكس عمق التجربة الإنسانية في مواجهة الليل، حيث تتجلى الوحدة والأمل ضمن أجواء من الحزن والذكريات. الشاعرة تستخدم لغة غنية بالصور الشعرية والمجازات، مما يمنح القارئ شعورًا بوجود تواشجٍ مثير بين الألم والهدوء الذي ينشره السهر. تعبر البنية الشعرية عن الصراع بين رغبة الاستمرارية وقسوة الفراق، في لوحة تعكس الاشتياق والحنين. تنقل الأبعاد الزمنية بطريقة تُحسّس القارئ بتقلّبات المشاعر، وتضفي على النص روحًا من الغموض والترقب. تداخل العواطف بين القهوة والأحلام يعكس القدرة على التحمل في مواطن القلق، مما يجعل النص يعبر عن تجربة تصلح لأن تكون مرآة لأحاسيس الكثيرين. الشاعرة تمكنت بدهاء وذكاء من خلق حالة من التوتر الجمالي للدهشة.

تتناول القصائد الغزلية بتعابير فنية راقية وصور شعرية مبتكرة، مما يغمر القارئ في تأملات عميقة حول مشاهد الحب وتجارب النكران والفقد, تتجلى في هذه القصائد معاني مكثفة من الصور والألم، حيث تتحول الأنا إلى أنا جمعية، قادرة على لمس قلوب شريحة واسعة من المجتمع، مما يعزز تواصل المشاعر الإنسانية في إطار فني مؤثر.

الصورة الشعرية:

تتميز بنية القصائد في ديوان "أصطفيتك همساً" للشاعرة إنعام كمونة بالتنوع، حيث تتراوح بين السرد والتخييل، وتمزج بين التعبير الشعري الحر والنظام الذي يعتمد على الأسطر والأفكار المترابطة. تتألق الصور الشعرية المستخدمة عبر التقنيات البلاغية مثل الاستعارة والتجسيد، مما يعكس عمق التجربة الإنسانية التي عايشتها الشاعرة.

تبدأ الشاعرة بهذا النص أصطفيتكِ همسًا برسم مشهد صباحي رومانسي، حيث يضفي الصباح، الذي يبدو كأنه يغفو على نجل الهمس، جواً شاعريًا هادئًا. صورة الضباب الذي يلامس وجه الصباح تنقل شعورًا ناعمًا من الرقة والعاطفة. تعبر الشاعرة عن تجربتي الفراق والشوق من خلال صور مؤثرة مثل "تناثرت أرواحنا.. أشلاء نحيب"، التي تدل على عمق الألم وتفكك الروح، وهو تصوير دقيق لمشاعر الفقد والامتزاج بين الحزن والحنين.

تستخدم الشاعرة لغة غنية بالمشاعر الحسية، موحيةً بخبرات شخصية عميقة. تعبيرات مثل "نسيج روحك" و"خفقان أحلامك" تبعث صورًا نابضة تساعد القارئ على الشعور بالوجد والعاطفة. كما أن النداء لـ"طفلتي" يعكس الحنان الممزوج بالألم، ما يضيف طبقة من الشجن العاطفي القوي للنص,وليس التعبير الشعري محصورًا في الحب فقط، بل يتجاوز ذلك ليشمل الاشتياق والأمل، كما يتضح في عبارة "نجمة أبدية سنحلق"، التي تعبّر عن الخلود والتجديد الدائم. هناك تداخل بين مشاعر الحب والغياب، تعكس كيف يمكن استشعار النور وسط ظلمة الفراق، وهو موضوع أساسي يعكس قوة الحب في مواجهة التحولات والتقلبات

تستخدم إنعام كمونة مجموعة غنية من الصور الشعرية التي تدفع القارئ إلى التفكر والتأمل. في قصيدة "غرق الأطفال في البحر أثناء الهجرة العشوائية"، تغمرنا بالتفاصيل الملموسة التي تبرز مأساة الطفولة المفقودة، حيث تخلق صورة تجمع بين القسوة والبراءة، مما يثير في النفس مشاعر القلق والحزن.

كما تعكس كمونة الحالة النفسية للذات الشاعرة من خلال تنوع الصور الشعرية. في قصيدة "سريان بريق"، تتحدث عن النضال من أجل البقاء والثبات، مستخدمةً الرمزية المتعلقة بالطبيعة والماء لتجسد الأمل والتجدد، حيث تتجاوز الصور الشعرية الوصف لتروي قصة من المقاومة والانبعاث.

في نفس السياق، تظهر في قصيدة "مهد الروح" روح الكتابة كأداة للتواصل بين الشاعرة وعواطفها وأفكارها. وتعبر الصور مثل "نشوة الريح" و"الأفق السرمدي" عن الآمال والتطلعات الإنسانية، مما يضفي عمقًا على التجربة الشعرية.

تتجسد في هذا الديوان صور شعرية مدهشة تعكس الأبعاد النفسية، حيث تعبر خلال خطوط شعرية معقدة عن الآلام والآمال. على سبيل المثال، "رحيق انتشاء تنهيدة شوق" يصور العلاقة بين الحب والحنين بطريقة بالغة البراعة.

تجمع إنعام كمونة بين البنى الشعرية التقليدية والمعاصرة، مما يثري نصوصها بالاستعارات والصور البلاغية المتميزة. تتميز الأسطر بتلاعبات لغوية تجعل القارئ يستشعر عواطف الشاعرة، حيث تتجاوز تشكيلات هذه اللغة السرد المباشر وتخترق فكر القارئ. بهذا، تبرز لغة إنعام كمونة كأداة تعبيرية غنية وذات قدرة مؤثرة على نقل الأحاسيس والأفكار العميقة، مما يعزز من جمالية تجربتها الشعرية.

التأويل:

يمكن قراءة ديوان "أصطفيتك همساً" من منظور تأويلي يبرز التعقيدات النفسية والاجتماعية التي يعيشها الأفراد في ظل الظروف القاسية. تسلط الشاعرة إنعام كمونة الضوء على التحديات اليومية، ورغم الحزن الذي يهيمن على الأجواء، تتضمن القصائد لمحات من الأمل والمقاومة، مما يعكس إرادة الحياة.

يبحث العمل في قضايا تحمل قيمًا رمزية، حيث تنتقل الشاعرة من الرمزية الشخصية إلى الواقع الجماعي المؤلم الذي يعيشه الوطن. تتجلى تأثيرات العالم الخارجي في قصائد كمونة، ما يجعل القارئ يختبر المشاعر الحادة للفقد والمعاناة. لذا، يمكن النظر إلى العمل كمسعى لتجسيد المعاناة الشخصية والاجتماعية، مستعرضةً قضايا الهوية والانتماء.

تظهر معاناة الشعب في قصائدها، حيث تتعمق في تلك المعاناة لتبرز الجانب الروحي والإنساني. يتضح ذلك بشكل جلي في قصائد مثل "صراط الشهادة"، التي تصور تأثير الشهادة والألم على الهوية والانتماء، مما يدعو القارئ إلى إعادة التفكير في معاني الانتماء والإيمان.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن تفسير الأعمال كاستكشاف للتحديات الثقافية والاجتماعية التي تواجه مجتمع الشاعرة. تضيء أغلب القصائد على النزاعات الذاتية والبحث عن الأمل في واقع مؤلم. يعكس العمل أيضًا نضال المبدع للتعبير عن الذات والمكان في زمن العنف والمآسي، كما يتجلى في قصائد مثل "وشاح الفواجع"، حيث تتبنى الشاعرة قضية ضحايا فاجعة الكرادة كقضية إنسانية مشتركة.

يمكن أن تُعتبر تعبيرًا عن الصراع الدائم بين الأمل والواقع الأليم، حيث تتناول الشاعرة الهزائم والانكسارات وبعض حالات الفقد. يُضفي ذلك شعورًا بالحنين، الذي يتضمن في جوهره مقاومة للألم والخسارة. قصيدة "ذكريات عيد" تجسد هذه الفكرة بشكل خاص، إذ تتناول موضوع الفقد في عيد يتحول إلى لحظة للذكريات الموجعة.

بهذا، يتمحور ديوان "أصطفيتك همساً" حول استكشاف المشاعر العميقة والتحديات الإنسانية، مما يجعله عملًا شعريًا بالغ التأثير والتعقيد.

الخاتمة:

يُعتبر ديوان "أصطفيتك همسًا" للشاعرة إنعام كمونة عملاً شعريًا غنيًا بالتجارب الإنسانية العميقة. تعكس إنعام من خلال نصوصها مشاعر الأنثى بأسلوب فريد، حيث تتجاوز حدود التعبير الفردي لتُنقل الألم الشخصي إلى فضاء عام يمكن للقارئ الإحساس به والتفاعل معه.

إن قوة الكلمات وعمق المعاني يجعل هذا الديوان إضافة قيمة للأدب العربي المعاصر، ويعكس تصورات معقدة عن الوطن والهوية والأنوثة. كما يمثل العمل شهادة على ألم العصر وتصويرًا دقيقًا للواقع المعاش، مُساهمًا في إغناء الأدب وإعادة النظر في المشهد الشعري.

إن النصوص تدعو القارئ ليعيش التجربة مع الشاعرة، حيث تحتفل إنعام بالألم وتجعل من الكتابة فعل مقاومة، مما يُبرز ديوانها كعمل يُستحق التحليل والدراسة. يتميز بأسلوب لغوي متقن وصور شعرية مؤثرة، مما يُعزز من تجربة القراءة ويغمر القارئ في عالم عاطفي غني.

يتناول الديوان بشكل خاص واقع الإنسان المعاصر من منظور يُعبر عن الألم والأمل والحب، مما يجعله مصدر تغذية فكرية ونفسية يُثري الأدب العربي. تظل تجربة القراءة لهذا الديوان خالدة في ذاكرة القارئ، حيث تسلط الضوء على مشاعر عميقة وصادقة في عالم متقلب.

إن إبداع إنعام كمونة في صياغة شعرها يُظهر قدرتها الفائقة على لمس القلوب وتنمية الوعي الإنساني، مما يجعلها واحدة من الأصوات الشعرية البارزة في عصرنا.

***

بقلم محمد خالد النبالي

هذا النص الشعري لدلال برّو الساحلي، بعنوان «بلاغة عينيك»، يقدم تجربة لغوية مركّبة تجمع بين الصراخ السياسي والوجد الشعري، في إطار خطاب يستدعي الذاكرة الجماعية والوجدان القومي. تهدف هذه الدراسة إلى قراءة النص قراءة متعددة المستويات اعتماداً على المنهج الرمزي، والمنهج الأسلوبي، والتحليل النفسي، والمنهج التأويلي (الهيرمينوطيقي). سأحاول استجلاء دلالات الصور البلاغية، وآليات التشكيل الأسلوبي، وحضور الصدمة واللامرئية النفسانية، إضافة إلى كشف أفق المعنى الذي يفتح عليه النص في ضوء سياقه الضمني.

1. الإحالة السياقية والقراءة الأولية:

- النص يشتغل كبيانِ صرخةٍ تجاه حدثٍ عنيفٍ - يُحيل إلى مآسي الحرب والدمار والاحتلال - لكنه لا يذكر أسماء تاريخية محددة خارج إشارات عامة (غزّة، القدس) وعبارات تفضح «جامعة الخيانة». هكذا يكون السياق محملاً بالإيحاءات السياسية والدينية والقومية، دون أن يتحول إلى تقريرٍ أو خطابٍ مباشرٍ فقط؛ بل يُحافظ على نسقٍ شعري يقوم على الاستدعاء والإيحاء.

- القراءة الأولية تكشف نصاً يتأرجح بين النبرة التنديدية والأسلوب الاستبطاني؛ إذ تحضر لغة الاتهام والاحتجاج في استهلاله (هل لوّحت قارعة الطريق...)، وتحضر أيضاً لغة التمجيد والتضحية (الأكفان الجميلة مراسينا). هذه التناصية بين الهول والبطولة تشكل جوهر التوتر الدلالي في النص.

2. المنهج الرمزي: قراءة الرموز الرئيسة.

- الماء والقدس:

جملة «فهذا الماء لنا، كما لنا القدس السماوية...» تُسقط الماء والقدس في مقامين رمزيين: الماء رمز للحياة والهوية والانتفاضة على الحرمان، والقدس رمز للقداسة والانتماء التاريخي. الربط بين الماء والقدس يشي بتعبير ذي بُعد وجودي: الماء ليس مجرد مادة، بل هو امتلاك حضاري- روحي. بهذا يصبح النزاع على الماء نزاعاً على الوجود.

- الدم والأكفان:

الدم هنا ليس مجرد مشهد مادي بل «آلة تشييد هوية»؛ فـ«سقوط دم الشهادة لنا احتراف» يحوّل الموت إلى مهارة تاريخية/رمزية. الأكفان «جميلة» وتُسمّى مراسٍ - رمزية المأساة تتحول إلى شعيرة فخرية، ما يعكس آلية تحويل الألم إلى مجد جماعي.

- الراية البيضاء والأميرة غزّة:

الراية البيضاء رمز للاستسلام، والنفي الصريح لها («لا لن نرفع خزية الراية البيضاء») هو الإعلان عن القطيعة مع الاستسلام. تسمية «الأميرة غزّة» تبني تأليهًا بطوليًا للمكان/المرأة - وهي هنا حامل رمزي لمقاومةٍ أنثوية/قومية.

- «جامِعة الخيانة»:

هذه الصورة الرمزية (جعل الخيانة جامعة) توظف السخرية والاتهام البنيوي، لتؤسس عالم نصي تحكمه أخلاقياتٌ لصيقة بالانقسام بين الخائن والوطني. استعمال كلمة «جامعة» يوحِي بأنّ الخيانة منهجية مؤسسية، وليست فعل فئة هامشية.

3. المنهج الأسلوبي: البنية اللغوية والبلاغية

- الأسلوب والتراكيب:

النص يتصف بتناوب بين الأسئلة الاستنكارية («هل لوّحت...؟») والبيان الاحتجاجي، مع ميل إلى الجمل الفعلية السريعة التي تخلق لحن نَفَسَيّ متسارع. هناك أيضاً توظيف للجمل الانفصالية والقطع (***)، وهي وسيلة لتنظيم الوحدة الدلالية وإعطاء كل مجموعة من الصور مجالها.

- الصور البلاغية:

تتضامن الاستعارة، والتشخيص، والجناس الصوتي، والتضاد لإنتاج طاقة إيقاعية وسيميائية: مثلاً «العصافير بأعلى زقزقة كصراخ العبير» هي استعارة مركبة تنتقل بالعصافير من مشهد بريء إلى مشهد مأساوي مُشترك مع الصراخ. التورية والتضليل الصوتي في عبارة «جامِعة.الخيانة» تضيف طبقة نقدية للفظ.

- الإيقاع واللحن الصوتي:

اعتماد تراكيب قصيرة/متوسطة يمنح النص خاصية الإيقاع المنفعل، وقد استعانت الشاعرة بالتكرار (غزّة، غزّة) لخلق مقامٍ غنائيّ يرسّخ الفكرة في ذهن القارئ، كما يساهم تكرار الحروف الساكنة والمتحركة في رفع حدة الصوت الشعري.

4. القراءة النفسية: آليات الصدمة والهوية الجماعية

النص يشتغل كرد فعل على حدث صادم جماعياً؛ لذلك تبدو كثير من معالمه ناتجة عن آليات نفسية متوقعة: التبرير الأسطوري للموت، تحويل الألم إلى قيمة (تحويل الشهادة إلى «احتراف»)، وتشييد سردية مقاومة تستخدم عناصر الفخر والقداسة.

- أنماط الدفاع النفسي:

- التبرير الرمزي: عندما يصبح الموت «احترافاً»، فالمجتمع يبرر الخسارة بتأصيلها ثقافياً.

- النفي والتأكيد: رفض الراية البيضاء هو نمط نفي الاستسلام، ومن ثم تأكيد الهوية القتالية.

- التأليه والرمزية المأنسة: تسمية المكان أميرة وتحويل الأكفان إلى مراسٍ يعملان كآليات لإضفاء معنى على الفقد.

- الصدأ النفسي الجماعي:

النص يكشف عن صدمة جماعية متأصلة تتجلى في اللغة المضاعفة للتنديد والاستدعاء الطقسي للمأساة. هذا النوع من النصوص يساعد الجماعة على إعادة بناء الوعي عبر الشعر: هو وسيلة للتذكّر والمصالحة مع الألم.

5. الهيرمينوطيقا: آفاق التأويل والتعدد الدلالي:

من منظور هيرمينوطيقي، يُفترض أن النص ليس مغلق الدلالة؛ بل يفتح أفقاً لتأويلات عدة تبعاً لأفق القارئ. هناك تناظر بين ما يقوله النص وما يتركه غير مقول - المساحات الصامتة، والإشارات الجزئية، والتراكيب الاستنكارية - وهذه الفراغات تحتمل إسقاطات قارئية تتراوح من قراءة قومية إلى قراءة نقدية لِلَمَحَة السلطة.

- أفق النص وأفق القارئ:

أفق النص: يتجه صوب تجييش المشاعر القومية وبيان أن المجزرة ليست مجرد حدث بل تختزل شروط الهوية.

- أفق القارئ: قارئٌ مختلف الخلفيات قد يقرأ النص كموقف إنساني ضد العنف، أو قد يقرؤه كمقطع دعائي سياسي حسب تجهيزه المعرفي والسياسي.

- التأويل السياسي والأخلاقي:

النص يمارس وظيفة أخلاقية: يدوّن موقفاً من العنف، لكنه في الوقت ذاته يشيع خطاب تكريس للشهادة والموت البطولي. هكذا يظهر سؤال أخلاقي: هل يتحول الشعر إلى تطبيع للألم عبر تمجيده؟ أم أنه يؤدي وظيفة وقائية/تذكيرية؟ الهيرمينوطيقا تتيح قراءة مزدوجة: تأييدية نقدية.

6. الخلاصة والتوصيات النقدية:

تُظهر قراءة النص باستخدام المناهج الأربعة أن «بلاغة عينيك» نص مشحون رمزياً ووظيفياً؛ إنه يضفي على الواقع المأساوي بعداً شعرياً يؤسس للذاكرة والمقاومة، وفي الوقت نفسه قد يعيد إنتاج آليات السرد البطولي التي تُمجّد الموت. قوتان رئيسيتان تكمنان في النص:

1. قوة الصورة واللغة، حيث تَبني الشاعرة مناخاً شعرياً موحياً ومؤثراً.

2. قوة الصوت الاحتجاجي الذي يحافظ على وضوح الموقف في مواجهة العدمية.

ومع ذلك، هناك ملاحظات نقدية بناءة:

- ميل إلى التأطير الخطابي: أحياناً يتحول النص إلى بيانٍ أكثر منه إلى تجربةٍ شعريةٍ محضة، مما يقلل من المساحة التأملية الداخلية.

- خطر الأسطرة: تحويل كلّ فقدٍ إلى شرف يمكن أن يؤدي إلى مقاربة تقود إلى تطبيع الاستشهاد.

- توصيات بحثية:

مقاربة مقارنة مع نصوص نسائية عربية تناولت ذات الموضوع (غزّة/القدس والمأساة) لاستجلاء خصوصية خطاب الشاعرة دلال برّو الساحلي.

- قراءة سوسيولوجية للتشييد الخطابي للشهادة والذاكرة في الشعر المعاصر.

تحليل سردي لغوي أعمق للعلاقات الصوتية والإيقاعية عبر استخدام أدوات تحليل نصي وبرمجيات معالجة اللغة.

- خاتمة:

تستدعي «بلاغة عينيك» قراءَةً متعدّدة الطبقات: فهي نص متحرّك بين الاحتجاج والتأبين، بين السجلّ السياسي والوجودي. إن المناهج الرمزية والأسلوبية والنفسية والهيرمينوطيقية مجتمعة تمنحنا وسيلة لفهم كيف يصوغ الشعر الذاكرة ويُعيد إنتاج المعنى في لحظات العنف. ولأن الشعر هنا ليس مجرد خطابٍ جماليّ، بل فعلٌ زمنيّ يُشارك الجماعة في استرجاع نفسها وصوغ وعيها، فإنّ مهمة النقد هي الحفاظ على توازٍ بين الإعجاب بالقيمة التعبيرية وطرح أسئلة نقدية أخلاقية حول مغزى تمجيد الفقد.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

.........................

بلاغة عينيك

هل لوَّحَتْ قارعة الطريق بِمنديلها

بِهاجس مدينة، قتلوا أطفالها ...

هل قَطَفتْ رحيل نذْر فَكانتْ أرْوقَة الموت جائِزتها؟

بِحرق نساء وشيوخ وأوزار محرقتها ...

وفضحتْ مَستور « جامِعة.الخيانة »

التي تسعى لِأطماع عِبْريّة وعربيّة ...

***

فهذا الماء لنا،

كما لنا القُدس السَماويّة...

ألا ترى العِزّة بين أيدينا،

فيا لِهول المَجازر الوحشيّة...

فسقوط دم الشهادة لنا احترافٌ

و الأكفان الجميلة مراسينا ..

يتسابقُ أبطالها على مَراسم الشوطئ،

يُسطّرونَ اضْطِهاد الغُزاة والوثَنيّة ...

فالأَميرةُ غزّة ثم غزّة، ثائرة الفِداء

و العصافير بأعلى زقْزقة كَصُراخ العَبير:

«لا لنْ نَرفع خِزْية الراية البيضاء »...

***

دلال برّو الساحِلي

 

قراءة هيرمينوطيقية، أسلوبية، سيميائية

1. المقدّمة: النصّ بوصفه حدثًا تأويلياً:

تقف قصيدة الشاعر خلدون رحمة عند مفترقين: مشهدٌ سياسي مؤرِّخ (الاحتلال والموت والحصار)، ومرآةٌ إنسانية فلسفية (القيامة كحالة وجودية). العنوان يضع القارئ فوراً في حالة من التوتّر التأويلي: «شطّ القيامة» ليس مكاناً جغرافياً فحسب، بل حالة زمنية/ميتافيزيقية ينعكس فيها (انهيار) منظومة العالم السياسية والإنسانية. من هنا تنطلق الحاجة إلى نهجٍ هيرمينوطيقي يفتح آفاق الانصات إلى «ما تُعطيه» القصيدة من معانٍ قبلَ أن تُقفلها مقولات مسبقة.

2. الإطار النظري والمنهجي:

الهيرمينوطيقا التأويلية حسب الفيلسوف الألماني (هانز جورج غادامير)، والفيلسوف الفرنسي (بول ريكور): قراءة القصيدة بوصفها حواراً بين أفق الشاعر وأفق القارئ، والسعي إلى «الاندماج الأفقي» بحيث تتكوّن دلالة النص في لقاء التاريخي/الذاتي.

 - الأسلوبية: تحليل السُبل اللغوية (تكرار، مرسوم، محسنات بلاغية، إيقاع) التي تنتج حضوراً صوتياً ووجدانياً.

 - الرمزية والسيمياء حسب العالم اللغوي السويسري (فردينان دو سوسور)، والفيلسوف وعالم منطق أمريكي (تشارلز ساندرز برس)

والناقد والروائي الفرنسي رولان بارت الملقب بـ "بارثيس" هو اختصار للاسم

: فهم الدال والمدلول في العلامات الشعورية (القبر، الكفن، المدافع، الديك)، وكيف تشكّل نظاماً دلاليّاً يعبّر عن استلاب الإنسان وتحويلِ القيم.

 - المنظور الوطني/التاريخي: قراءة القصيدة داخل السياق الفلسطيني، تاريخ العنف والتهجير والحصار، وتأثير ذلك على ذاكرة الشاعر الجماعية.

 - التحليل النفسي الوجودي: استدعاء مفاهيم مثل (دافع الموت)،وفكرة الوجود في ظل العنف، وربطها بتجربة الشاعر/المجتمع.

3. البنية الموضوعية: المحاور الكبرى في القصيدة

1. الانقلاب القيمي: ارتفاع «سعر القبر» وانخفاض «سعر الإنسان» - عكس القيم الإنسانية.

2. ألفة العنف وتحويله إلى مألوف: الأخبار تصبح فواصل عابرة، المذبحة تهون، والموت طريق للحياة.

3. طمس البوصلة الأخلاقية/المعرفية: «البَوْصلاتُ... بالعمى» - فقدان مرجعيات الإحساس بالإنسانية.

4. تبدّل الأدوار: الملحد يصبح شيخاً، الجلاد يصبح ضحية - تشويه الهويات والسلطة الرمزية.

5. أفق المقاومة أو الاستسلام: الخاتمة تحيل إلى خيار أخلاقي: الاستسلام أم المقاومة؟ الشاعر يعلن أن ما يحدث «ما لا يحدث» سوى استسلام واحد - أي إنّ الاستسلام هو النتيجة الخبيثة الأخيرة.

 4. قراءة أسلوبية تفصيلية:

أ. الافتتاحية والتكرار البلاغي:

افتتاح القصيدة بالتركيبة المتكرّرة «يحدثُ أن...» يعمل كأنفاس إيقاعية متتالية: هو تكرار يخلق بناءً بوتقياً حيث تتراكم الصور لتُنتج شعوراً بالخواء المتصاعد. التكرار هنا ليس مللًا بل آلية شعرية لصنع التفعيلة التصاعدية حتى بلوغ الذروة المعنوية.

ب. الاستخدام المجازي والتمثيلي:

القصيدة تشبّه البلاد بالسجون والسجون بالبلاد: استبدال مرآتي لإظهار استلاب المساحة الاجتماعية. الصورة «الكفنُ ظلاً يطاردنا» تعكس استباق الموت للحياة، وتحوّل الجسد إلى مجرد مادة للتعامل (التشيء).

ج. التضادّ والانعكاس:

«الموتُ طريقًا للحياة» و«الحياةُ مأوى لتيهِ الموت» - صيغ متقابلة تخلق تشابكاً مفهوميّاً يعكس التشظّي الوجودي.

تحويل الوظائف الحيوانية (الديك يبيض) ككسرٍ لقواعد الطبيعة، دلالة على عبثية المشهد السياسي الذي يعرقل حتى أبسط القوانين البيولوجية.

د. الصوت والإيقاع واللغة:

لغة القصيدة فصحى حالمة بل نبرةٍ شعرية جامدة أحياناً؛ الفعل المضارع «يحدثُ» يمنح النص نفَساً مستمراً، ليعبر عن حالة الراهن المتكرّر لا الخبر الاستثنائي؛ أي أن العنف قد استمرَّ حتى صار تكراره حدثاً يوميّاً بطبيعته.

5. سيميائية العلامات: قراءة لِرموزٍ منتقاة:

القبر/الكفن/الدفن

 - رموز الموت هنا تعمل كعلاماتٍ عن إفساد النظام القيمي؛ ارتفاع «سعر القبر» يشير إلى اقتصاد الموت، وهو استعارة سياسية لِـ«تجار الموت» (اقتصاد الاحتلال والحروب). الكفن الذي يصبح «ظلًا يطاردنا» يحول الحماية التقليدية إلى تهديدٍ مستديم.

 - البوصلة والعمى:

البوصلة بكونها آلية للاتجاه تصبح رمزاً للمعرفة والدلالة؛ إذا أصيبت بالعمى فقدنا القدرة على التمييز بين الخير والشر، وهو استعارة قوية لفقدان المعايير الأخلاقية والسياسية.

المدافع/طفل شاعر.

صورة المدافع التي «تبصق جحيمها على جسد طفل» تضع علاقة الموت والعنف مقابل الحلم (طفل يريد أن يصبح شاعراً وطنياً) - صراع بين الدمار والخلق. هنا الشعر كحلم وكمقاومة.

 - الديك والفجر:

الديك رمز للفجر والانبعاث؛ تحويره إلى «يبيض» يخلق خللًا سيريالياً، مؤشر على انقلاب القيم حتى في أبسط الرموز اليومية.

6. البعد النفسي والديني:

أ. البُنى النفسية:

القصيدة تنتمي إلى خطابٍ جماعي مجروح؛ ثمة ما يشبه حالة «الصدمة التاريخية» حيث تكرار المشاهد العنيفة يطبع الوعي الجماعي. التحول الوجودي—الموت كطريق للحياة—يستدعي مفاهيم الفقد والهوية الممزقة وميكانيزمات الدفاع النفسي (التعويد على العنف، التبرير).

ب. البعد الديني والميثولوجي:

العنوان «شطّ القيامة» يقيم علاقة مباشرة مع التصورات الإسلامية/إبراهيمية عن يوم القيامة والبعث والآخرة. لكن الشاعر خلدون رحمة يوظف القيامة هنا مجازاً: القيامة هي اللحظة التي تنكشف فيها الحقيقية البشعة - ولا يعود فيها للحياة معنى سوى الموت. في التقاليد الدينية القيامة عادةٌ استرداد عدالة؛ لكن في النص تتحوّل إلى مشهد قمعي بلا خلاص، ما يُظهِر تشوُّه العلاقة بين الدين والعدالة في سياق القهر.

7. البعد الوطني والسياسي:

القصيدة نصّ فلسطيني بالمعنى التمثيلي: سردٌ للمعاناة الوطنية (اغتصاب الأرض، الحصار، المذابح). لكن الشاعر لا يكتفي بالتوثيق؛ هو يستعمل اللغة الشعرية لتفكيك منظومة القيم التي أنتجت هذا العنف. بذلك تكون القصيدة فعل مقاوم يحدث على مستوى الدلالة واللغة. استدعاء صور مثل الطفل الشاعر والديك والفجر يعملان كرؤيا وطنية تدمج بين الحلم والواقع.

8. الهيرمينوطيقا: قراءة شمولية وتوليفية:

من منظور هيرمينوطيقي، القصيدة تدعونا لعملية «لاستعادة الأفق»: إعادة بناء فهمنا للحدث عبر التلاقي بين أفق الشاعر (التجربة الفلسطينية) وأفق القارئ (العالمي/الأخلاقي). المقاربة تقود إلى إظهار أن المعنى ليس محصوراً في الكلمات فقط، بل في ما تُحيله على تجربة جماعية من الإذلال والمقاومة. لحظة الانصهار هذه هي ما يجعل النص نافذاً خارج حدود الوقائع؛ يصبح شاهداً ومحرضاً على الوعي.

9. قراءة تطبيقية لمقاطع مختارة.

المقطع:

«يحدثُ أن يرتفعَ سعرُ القبرِ وتكاليفُ الدفنِ وينخفضَ سعرُ الإنسانْ.»

 - قراءة: تركيب موازٍ يقلب تسلسل القيم: ما كان مقدساً (حياة الإنسان) يتحوّل إلى سلعة رخيصة، بينما القبر يصبح «مرضاة سوقية». هذه مفارقة ذات طابع نقدي صارخ للاقتصاد السياسي للحرب.

المقطع:

«يحدثُ أن يصيرَ الكفنُ ظلاً يطاردنا، فيغدو الجسدُ الآدميُّ مجازاً لهاجسِ المقبرةِ أو خبزاً لجوعها اليوميْ.»

 - قراءة: الكفن هنا استعارة مزدوجة: وظيفته الحماية تتحوّل إلى تهديد، والجسد يتحول إلى غذاءَ للمقبرة. تحويل الجسد إلى «خبز» يشي بتهشيم إنسانيّة الإنسان إلى شيء يُستهلك.

 - الخاتمة:

«سوى أمرٍ واحدٍ: هو أنْ نستسلمْ.»

قراءة: خاتمة تقرع ناقوساً أخلاقياً؛ الاستسلام هو الخطيئة الكبرى. كما أنّ الصيغة النهائية تجعل القارئ أمام مسؤولية أخلاقية: هل سيقبل بأن تصبح القيامة عادية أم سيقاوم.

10. الخلاصة والدلالات:

القصيدة عمل مُقاوِمية يُحوّل الألم إلى خطاب؛ إنها تفضح، تؤرخ، وتدعو للمساءلة.

:من الناحية الأسلوبية، تعتمد القصيدة على التكرار والتمثيل والتضاد لصياغة شعورٍ بالرهبة الاعتيادية.

من المنظور الهيرمينوطيقي، النص يتيح اندماجاَ بين أفق الشاعر والقارئ، وهو بذلك يقوّي فعل الوعي والذاكرة الجمعية.

البعد الديني لا يمنح خلاصاً هنا بل يُوظف كمقارنة تُظهِر تحريف الوعود الأخلاقية في زمن الظلم.

الخطر الأكبر الذي تكشفه القصيدة هو الاستسلام: فقد يصبح تكرار العنف عادةً تُشرعن الجريمة.

من جهتي أرى أن قصيدة الشاعر خلدون عماد رحمة تبعنا أمام مشروع نقدي آخر. كوضع (خطة فصلية)

1. المقدمة: الإشكالية والمنهج.

2. الفصل الأول: السياق التاريخي والسياسي للنص (إطار فلسطيني).

3. الفصل الثاني: الإطار النظري - هيرمينوطيقا، سيمياء، الأسلوبية.

4. الفصل الثالث: قراءة أسلوبية لعملية التكرار والبناء الصوتي.

5. الفصل الرابع: الرموز والمحاور السيميائية (القبر، الكفن، البوصلة، الديك).

6. الفصل الخامس: البنى النفسية والدينية - قراءة تأويلية.

7. الفصل السادس: النص والمجتمع - القراءة الوطنية والذّاكرة.

8. الخاتمة: دلالات النص ومسارات البحث المستقبلية.

12. مراجع.

إدموند هوسرل - أعمال في الفينومينولوجيا (للمنهج التأويلي للخبرة).

هانز - جورج غادامر - الحقيقة والمنهج (للهيرمينوطيقا).

بول ريكور - حول التأويل والرمزية.

رولان بارت - الرمز والنص (للتحليل السيميائي).

رومان ياكوبسون - دراسات في علم اللغة والأسلوبية.

إدوارد سعيد - الثقافة والاحتلال (للبعدين الوطني والسياسي).

فرانتس فانون - الجروح الاستعمارية (للأثر النفسي للعنجهية الاستعمارية/الاحتلال).

محمود درويش، سميح القاسم، أدونيس - نصوص شعرية فلسطينية وعربية للمقارنة.

إن عمق ومدلول هذه القصيدة تدفعنا للتساؤل حول:

 - كيف يحول الشاعر الفلسطيني تجربة القهر إلى شكل شعري ذي قدرة على الاستدعاء الوجداني؟

 - ما دور التكرار البلاغي في تطويع القارئ لِـ«تطبيع» المشهد العنيف ثم تثويره ضده؟

 - كيف يشتغل مفهوم القيامة في الذاكرة الدينية والثقافية الفلسطينية، وكيف تُوظَّف في النص؟

 - ما آليات انزياح القيم في المشهد السياسي كما تقدمها القصيدة؟

تُظهر قراءة «هنا عند شطّ القيامة» أن الشعر لا يكتفي بوصفٍ استعراضي للوجع؛ بل يُنتِج معرفة نقدية وضميرية. إنّ القصيدة تدفع القارئ إلى إعادة السؤال عن الحدود بين العادي والاستثنائي، عن لحظة تتحوّل فيها القيامة إلى واقع. المسؤولية الأخلاقية التي تتركها الخاتمة لم تختم النص بل فتحت عليه: هل سنستسلم؟

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..................

هنا عند شطّ القيامة.. يحدثُ ما لا يحدثْ

يحدثُ أن تصيرَ البلادُ سجوناً ضيقةً، والسجونُ هي البلادُ الواسعةْ.

يحدثُ أن يرتفعَ سعرُ القبرِ وتكاليفُ الدفنِ وينخفضَ سعرُ الإنسانْ.

يحدثُ أن يصيرَ الكفنُ ظلاً يطاردنا، فيغدو الجسدُ الآدميُّ مجازاً لهاجسِ المقبرةِ أو خبزاً لجوعها اليوميْ.

يحدثُ أن تصابَ البَوْصَلاتُ بالعمى: كأن تبصقَ المدافعُ جحيمها على جسدِ طفلٍ يحلمُ بأن يصبحَ شاعراً وطنياً.

يحدثُ أن تتبدَّلَ وظائفُ الحيوانِ: كأن يبيضَ الديكُ إذا جاءَ وجهُ الفجرِ محمولاً على صفيرِ القذائفْ.

يحدثُ أن يصيرَ الشاعرُ روائياً شديدَ الواقعيةِ، ربما لأن الوحيَ محاصرٌ بالدباباتِ وعيونِ الجندِ الوحشيةْ.

يحدثُ أن يصيرَ الملحدُ شيخاً والسياسيُّ مهرجاً والمنافقُ رمزاً والجلادُ ضحيةً والضحيةُ شيطانْ.

يحدثُ أن تهونَ المذبحةُ: كأن يراها البعضُ خبراً عاجلاً بين فاصِلَيْنِ قصيرَيْنِ في نشرةِ الأخبارْ.

يحدثُ أن يصيرَ الرضيعُ حكيماً، بفعلِ الحصارِ المفروضِ على ثديِ أمهْ.

يحدثُ أن يصيرَ الموتُ طريقاً للحياة والحياةُ مأوى لتيهِ الموتْ.

هنا عند شطّ القيامةِ.. يحدثُ ما لا يحدثْ....

سوى أمرٍ واحدٍ: هو أنْ نستسلمْ.

وأنا أقف على عتبة ديوان " حي ابن سكران" للشاعر "شلال عنوز" أول مالفتني وأثار فضولي هو ذلك العنوان الساخر والغريب الذي يوحي بالحياة من جهة، لكنه يدخل القارئ في متاهة من جهة أخرى. ويجعله يتساءل: هل هو اسم حقيقي لحي في مدينة، أم هو رمز لواقع متأرجح ومجتمع ثمل فاقد للبصيرة. أم أنه رمز للشاعر نفسه وهو يحاول أن يكون ساخراً حينما يتسلل الألم إلى أوصاله. أم أنه وصف لشعب يعيش غفلة، أم صورة مصغرة لوطن مأزوم .

هذا العنوان ينقل مزاج الشاعر الساخر والحزين، ويكشف عبثية الواقع من خلال الصور المليئة ب"السكر، الظمأ، البكاء،  عطش الروح، غلق نوافذ الأمل، تسمم نسغ البشارات، متاريس التلوث".

معظم القصائد تندرج في أجواء متشابهة من الغربة، وتبين كيف تتواصل الإرادة بالإلهام حين تنبثق عن احتدامات داخلية يخلع فيها الشاعر الأغطية ويزيح الركام. ليكشف بصرخات حقيقية الأصوات المتكسرة والتائهة في الغربة، ويهين غباء العالم مستقطباً في قصائده الحياة كلها. وكأن ديوانه قصيدة واحدة تلاحق الحقائق. لذا سأجتزئ بعض المقاطع معظمها من قصيدة تذكرتُ أمي الآن التي سأدرجها في نهاية المقال.

هذه القصيدة_ التي تبرز حنين الشاعر لأمه رغم مأساة الوطن الذي يترنح بين البقاء والفناء - تربط بين السيرة الذاتية للشاعر والذاكرة الجمعية. فعبارة تذكرت أمي الآن. تبدو كطقس استغاثة يقاوم به الشاعر النسيان. فالحنين أمر مثير للأعصاب وخاصة الحنين للأم، لأنها ليست مجرد كلمة. بل رمزاً للخصب والعطاء يقاوم به الشاعر الجفاف والقحط، فهي النخلة والنهر والغيث.

ومن الأم ينتقل الشاعر إلى وقاحة المهرجين، وفيالق الدمى.

"المدن الموبوءة بالجهل"

هذا النص يكشف بجلاء سخط الشاعر على الأنظمة والمجتمعات التي تنتج القهر والوجع، وقد اصطدم فيها عنف الواقع ببراءة الطفولة.

النص يتمتع ببنية تشبه الدائرة تبدأ بالحنين إلى الأم ودفئها وتنتهي بالوفاء. فالأم هي العمود الفقري للنص.

وبلاغياً تشكل هذه القصيدة انعكاساً لمعظم قصائد الديوان من حيث غناه بالصور البصرية المتحركة التي تنقل شعور الحنين والفقد العميق والعطش والجفاف العاطفي. حيث "شرب الماء ماءه"

وفي عبارات أخرى نجد الشاعر يحول ألفاظه من مفهوم مجرد إلى عضو متحرك ك "وأنا أحتلب ثدي العقوق"، حيث شبَّه الشاعر العقوق المعنوي بثدي يُحلب. فهذه الاستعارة التصريحية تكثف الألم وتنتج الحقد وباستعارة مكنية أخرى "أمضغ لبان صلف التغرب" يبرز مرارة الغربة ذات الطعم العسير على الإبتلاع

أما قوله "توق طفل تجاوز غسق السنين" فيؤكدأن التوق إلى الأم لا يشيخ لأنها الملاك الوجودي والروحي

وما أكثر الاستعارات في القصيدة وما أروعها!! خصوصاً تلك التي تجعل من صدر الأم كتاب تراتيل يجمع بين الروحي والمقدس

وتستمر استعارات الشاعر بالتصاعد تدريجياً ممتزجة برموز ثقافية وتاريخية تثري النص وتؤطره ضمن حضارة تاريخية إنسانية. "هدهد سليمان وسبأ وعرش بلقيس. ولاتقتصر البلاغة على الاستعارات، بل ينجح الشاعر في المزاوجة بين بهجة الرقص والشفرة القاتلة. في صورة حركية بارعة" أرقص على شفرة سيف الحجاج " معبراً عن معاناته اليومية وإصراره على المواجهة رغم الألم و" جوع البكاء "وكأن البكاء صار غذاء يكشف عن عمق المأساة والتجربة القاسية المليئة بالخذلان.

قصائد الشاعر عموماً غنية بالاستعارات التصريحية والمكنية والتشابيه والصور والرموز والتوظيف المتكرر للمفردات الدالة على الجفاف والقحط وهذه البلاغة تشكل ذاكرة ممزوجة بالحنين الشخصي الذي يتدفق ليمتزج بالذاكرة الجمعية.

خلاصة القول: من يقرأ الشاعر شلال عنوز فإنه يقرأ الصدق في أدائه الشعري والفني الذي يوضح حقيقة هذا الشاعر الذي لم يمزق نفسه وراء منافع عملية محضة لتوفر الحماية المرتبطة بمكنوناته الأخلاقية المليئة بالنقاء والمثل العليا التي تهين غباء العالم لتحتضن الشعر في الماضي والحاضر والمستقبل

***

وفاء كمال الخشن - النجف

.....................

تَذكّرتُ أُمّي الآن

لم أدرِ لماذا

تَذكَّرتُ أُمّي الآن

بعد أن شرب

الماءُ ماءَه

وخَطب الجَدب

على مَنابر

القَحط

تذكّرتُها الآن

أنا الذي امتهن

التذكّر

ككُلّ البائسين

في بلادي

مُذ تفاقم اليباس

في شجر العمر

احتدم العقم

في رحم الأمنيات

وأنا أحتلبُ

ثديَ العقوق

أرقص...

على شفرة

سيف الحَجّاج

أَمضغُ لُبان

صَلف التغرّب

في بلاد

تَسوسُها

وَقاحَةُ المُهرِّجين

تَحرسُها

فَيالق الدمى

يَهزجُ

في نَوافلها

الضَجيج

تَذكَّرتُها ...

و تلك القرية

النائمة على

أُخدود الشقاء

ولدتُ فيها

باكياً

صباح يوم

نازفٍ بالمَطر

حينَها

قال والدي

وهو يلقي (المسحاة) جانباً

ويَضمُّني إلى

صلوات صدرهِ :

عوّضنا الله بهِ

عن أربعةٍ

أكلهم التراب

لم يبلغوا الفطام

***

من المجموعة الشعرية (حي ابن سكران)

 

كنت قد اطلعت قبل عام أو أكثر على مجموعة للشاعر عادل الحنظل عنوانها (رجاء على شفاه العدم) ثمّ بعد كلّ تلك المدّة رجعت ثانية إلى المجموعة ذاتها لا لأقرأها من باب الاستئناس بل لأقف عندها وقفة طويلة فأسبر غورها وأكشف عن بعض جمالياتها.

هذه المرّة ارتأيت أن أتناول العنوان أوّلا قبل الكتابة عن القصائد الواردة في الديوان.

العنوان يتكوّن من أربع كلمات (رجاء على شفاه العدم) والرباعيّة تتخذ في الفكر العالمي موقعا مهما في الخيال والفلسفة والعلم، والفكر الديني، ففي العلم هناك ثبات في الأرجل الأربعة للكراسي والمناضد، والعمارات والبيوت السكنية، والجهات الأربعة في علم الجغرافية، وفي الدين الإسلامي نجد الكعبة بنيت على أساس رباعي، إن المربع يكوّن الصورة المتكاملة.و تدلّ الكلمة الأولى في المربع على الأمل لكن النهاية تنتهي نهاية حزينة اغترابية .

 وما دمنا بصدد الحديث عن البدايات والنهايات فأتساءل كيف يبدأ الشاعر عادل قصيدته وكيف ينهيها؟

ولكي أوفّر على القارئ وقته أشير إلى ان الشاعر يتخذ أدوات معينة في البداية والنهاية منها :

أن يبدأ بالزمان ويختم القصيدة بالمكان: قصيدة (غريبان) تبدأ بالمطلع التالي:

ينادي عليّ الغروب المودّع دنيا الفناء

فأخلو بأرض جفاها البشر

تحتلّ اللازمة الزمانيّة (الغروب) مطلع القصيدة بكونها فاعلا ترافقها ظاهرة صوتية هي (ينادي= النداء) الغروب لون يدلّ على الشحوب وهو بداية للظلمة، إضافة إلى ذلك ندرك أنّ الغروب بطئ بلونه ودلالاته النفسية التي تبعث الحزن والشجى وتشير إلى الإحباط، أمّا الصوت فهو تجلّ سريع بخاصة النداء يندمج بالغروب فيصبح أداة له (فعل)عندئذ تخف حركة الصوت وتزداد سرعة الغروب.(دنيا) هي أيضا ظاهرة زمانيّة بملاصقتها الفناء الذي هو عنصر زمانيّ، ولكي تتعادل الحال يأتي من بعدُ المكان المتجسّد بالأرض غير أن الأرض لا تعني في هذا الموضع الأرض كلّها، أو كلّ عالمنا، ويغلب على ظنّنا أن الشاعر يشير بهذه المفردة إلى الوطن الذي هجره من باب تسمية الجزء بالكلّ.

أمّا في منتصف القصيدة فيتحوّ الغروب إلى حالة جديدة تشبه الولادة، إنّه يصبح(مساء) أي يوغل في ذاته بحركته البطيئة، والمكان نفسه يرتقي إلى حالة أعلى فيصبح سماء وغيوما بحركة من الأسفل إلى الأعلى معاكسة لحركة الغروب الهابط:

الغروب\ مساء

الأرض \ غيوم

الاغتراب المزدوج بين الحركتين يتنازع الشاعر حتّى يلتقي شجيرة كرز، أمّا التصغير فلا يدلّ على التحقير أو التدليل بل على التفحيم والتهويل، فلا يخطر على بالنا أنّ الموازي للبطل شئ صغير بقدر ماندرك أنّ الشّاعر استوعب التاريخ بشخصيّة عبد الرحمن الداخل حين نجا من الموت وفوجئ بنخلة أمامه استوعبت اغترابه في اللحظة التي أثارت استغرابه:

تبدّت لنا وسط الرصافة نخلة   تناءت بأرض الغرب ن بلد النّخل

فقلت شبيهي في التّغرّب والنوى   وطول التنائي عن بنيّ وعن أهلي

نشأت بأرضٍ أنت فيها غريبة   فمثلك في الإقصاء والمنتآى مثلي

سقتك عوادي المزن من صوبها الذي يسحّ ويستمري السماكين بالوبل

فكلتا الحالتين: عادل\ الداخل تستوحي المطر والشجر بصفتيهما الدالتين على ديمومة الحياة التي لابدّ أن تسوعب حالة الاغتراب بالتوازي مع المكان والزمان، وهي صورة ثابتة، تشبه بالضبط صورة تمثال ننصبه في مركز المدينة، إنّه يصلح للتعبير عن الزمنكان أكثر من التمثال الذي ننصبه على الخطّ السريع أو الأوتستوراد، لأنّ زمنكان الموقع يختلف:

نحن نتطلع في شجرة بالغابة. بجانب النهر ننقش عليها قلوبا..نكتب بنصل حاد أسماءنا وأسماء حبيباتنا، فهو الزمنكان، كما نجده في سياق القصيدة بعد أن تمثّل المكان فيها شجيرة تسير بتناسق زمنكانيّ إلى النهاية، في هذا الترادف المزدوج بيين الزمان والمكان يظهر صوت آخر هو صوت البوم، الصوت كما نعرف حركة، والحركة تستغرق زمانا، هناك في البدء كان النداء من الغروب، وهنا مع الشجرة الثابتة تحول الصوت إلى نعيب :

وألبسها الحزنً بوم يطيل النواح

غدت موئلا صامتا لا يشيع الخبر

لقد استيدل الشاعر الحمام بالبوم .. واستبدل النعيب الذي هو للبوم بالنواح صوت الحمام.إن المكان مثّل الطلل الذي يبكبي عليه الشعراء، فالعاشقون يأتون لكي ينقشوا أسماءهم على شجرة الكرز:

على جذعها حفر المغرمون

قلوبا كواها السَّهر

إنّ شجرة الكرز أصبحت نديم الشاعر فهو يعود إاليها وقتما يشاء حيث تمثّل الوطن البديل لتنتهي القصيدة نهاية مكانيّة بعد أن بدأت بداية زمانيّة:

رمتها سدى بذرة في العراء

وأنكرني موطن لا يصون الوفاء.

أمّا قصيدته التي جاءت بعنوان (ويمضي أوّل الفطام)، فمن العنوان ندرك أنّها بدأت بالزمان:

أجاء الفطام

وذي أنهري

فاض سبعينها

المجئ حركة والفطام سكون في سكون وانقطاع ونظنّ أنّ سنوات القطام السبعين هي عمر الشاعر _أطال الله في عمره- ليأتي بعدئذ المكان يتلاحق بمفرداته المثقلة بالوجع:المرافئ..الظلال...ثدي.. ساق..الكأس.. النخل..الذي يدوم اخضرارا كما يراه من خلال الكأس ويوازي بينه وبين الأماني أي الزممن القريب البعيد لتنتهي القصيدة بعد ذلك بزمان يقابله مكاني في النهاية:

أنا

كالغروب اعتدالا

قبلي شمس

وبعدي هلال

نلاحظ الرباعية المتجلية في النهاية:

1- الالهلال\ مكان

2- شمس \مكان

3 - قبل \ زمان كقوله تعلى لله الأمر من قبل ومن بعد أي قبل الغلبة وبعدها

4 - بعد\ زمان

عندئذ استطاع الشاعر من خلال عنوان مجموعته الرباعي أن يحقق في نهاية قصيدته التوافق بين مفردات أربع خلق منها صوره الجميلة العذبة.

***

قصي الشيخ عسكر

 

قراءة نقدية تحليلية في قصيدة "بلاغة عينيك" للشاعرة الجزائرية نادية نواصر

مقدمة: تمثّل قصيدة "بلاغة عينيك" للشاعرة الجزائرية نادية نواصر نموذجاً شعرياً غنيّاً بالرموز والانزياحات الأسلوبية والحمولات النفسية العميقة. فهي نصّ ينهل من معين الغنائية العاطفية، لكنه يتجاوزها ليؤسس لمعمار تأويلي مفتوح، تتداخل فيه الذات بالآخر، والحب بالميتافيزيقا، والعاطفة بالعرفان الصوفي.

وانطلاقاً من طبيعة النص المركّبة، تبدو مقاربته ممكنة عبر جملة من المناهج؛ الرمزي لرصد شبكة العلامات والدلالات، والأسلوبي لتحليل البنية اللغوية والإيقاعية، والنفسي للكشف عن توترات اللاشعور، إضافة إلى المنهج الهيرمينوطيقي الذي يتيح قراءات متعدّدة تنفتح على آفاق المعنى.

أولًا: مدخل تأويلي:

قصيدة "بلاغة عينيك" لا تُقرأ بوصفها بوحاً عاطفياً فحسب، بل نصّاً رمزياً يتجاوز الغنائية المباشرة إلى بناء خطاب شعري مركّب، فيه تتداخل التجربة الذاتية بالرمزية الكونية، حيث تتحوّل العينان إلى مجاز جامع للكينونة، ولغة بديلة عن اللغة. هنا الشعر ليس قولاً عن الحب، بل إقامة وجودية في مدار العشق، حيث تتلاشى الحدود بين الذات والآخر، بين الأنا والكون.

ثانياً: المنهج الرمزي:

القصيدة محمّلة برموز كبرى يمكن تأويلها:

-العينان: ليستا عضواً بيولوجياً، بل أيقونة للمعنى، مرآة للروح، ولغة بديلة "لا لغة تجمع أبجدياته سوى لغة الوله… في بلاغة عينيك". هنا تتحول العين إلى نصّ رمزي يُقرأ كخطاب روحي.

- البحر: يرمز إلى الاتساع واللانهاية، وإلى عمق التجربة العاطفية التي تتجاوز المحدود.

- البلّور: رمز الهشاشة، في مقابل القوة الكامنة في العاطفة.

- المدار/الحبل/الورد: رموز للارتباط الوجودي بين الشاعرة والمخاطَب، حيث يتحول الآخر إلى وطن وهوية وتاريخ.

- الصمت/اللغة: جدلية بين الغياب والحضور؛ فالصمت يُكسر بالحب، واللغة الحقيقية ليست في الألفاظ بل في الوله والحرائق الداخلية.

هذه الرموز تشكّل شبكة دلالية يتجاوز فيها النص العاطفة البسيطة إلى ميتافيزيقا العشق، حيث الحبيب يصبح مطلقاً، سرمدياً، يحلّ محل الوجود بأكمله.

ثالثاً: المنهج الأسلوبي:

النص يتأسس على مجموعة من السمات الأسلوبية البارزة:

1. الخطاب الندائي المكثّف، تقول الشاعرة نادية نواصر : (يا روحي… يا أنت… يا يقيني… يا كوني)، وهذا يُشيع في النص نَفَساً صوفياً، يعكس الحضور الكثيف للمخاطَب حتى يصبح محور الكون.

2. التكرار: مثل "كُن لي…" و"أنت"، مما يرسّخ إيقاع الالتصاق الروحي. التكرار هنا ليس زخرفًا بل استراتيجية أسلوبية لتثبيت معنى الاتحاد.

3. الثنائيات الضدية: (الحضور/الغياب، الثبات/الزوال، البحر/البلّور، الصمت/العشق). هذه الثنائيات تمنح النص ديناميكية دلالية وتكشف صراع الذات بين الهشاشة والقوة.

4. المعجم الصوفي والروحي: ألفاظ مثل "الصلوات، الروح، اليقين، المقام الرفيع، ميثاق غليظ" تربط النص بتجربة عرفانية تجعل من الحب طريقًا للخلاص الوجودي.

5. إيقاع الجملة الشعرية: يعتمد على التوازي (أناجيك/أسراب الرياح، الحاضرة/الغياب، البارحة/الآن/الغد…) مما يمنح النص موسيقى داخلية ويؤكد البنية الدائرية للزمن الشعري.

رابعاً: المنهج النفسي:

من منظور التحليل النفسي، تكشف القصيدة عن:

- رغبة الاتحاد: يتبدّى الحبيب كجزء من الذات، بل ككلّها: "يا كوني وكينونتي". هنا تتلاشى الحدود بين الأنا والآخر فيما يُشبه التماهي النرجسي أو الاتحاد الصوفي.

- القلق الوجودي: يظهر في صور "حافة الخفق، أشواك الشك، الصمت، الغياب". هذا يكشف عن خوف داخلي من الفقد، ومن هشاشة العاطفة.

-التوتر بين الرغبة والخوف: النص يكشف عن صراع لاشعوري بين توقٍ إلى الذوبان الكلّي، وخوف من الانكسار والهشاشة (البلور رمز واضح لذلك).

-التسامي: يتحول الحب إلى صلاة وإلى مقام رفيع، أي إلى طاقة روحية، تتجاوز الرغبة الجسدية إلى معنى كوني.

خامساً: المقاربة الهرمينوطيقية (التأويلية).

القصيدة تفتح أفقاً متعدد التأويلات، فهي نص مفتوح بالمعنى الذي قصده "أمبرتو إيكو":

- يمكن تأويلها بوصفها خطاباً غزلياً تقليدياً.

ويمكن قراءتها كرحلة صوفية حيث الحبيب رمز للمطلق.

- ويمكن اعتبارها نصاً وجودياً، فيه يُستبدل القلق الكوني بلحظة حب تعطي للحياة معناها.

إذاً، النص ليس مغلقاً على معنى واحد، بل هو "مجال تأويلي"، فيه القارئ شريك في إنتاج الدلالة.

سادساً: الخاتمة

قصيدة "بلاغة عينيك" للشاعرة نادية نواصر نصّ غني بالرموز والأساليب، يتجاوز البنية الغنائية المباشرة إلى فضاء صوفي-نفسي تتقاطع فيه ثنائية الحب والوجود. من خلال العينين – باعتبارهما مجازاً كلياً – تبني الشاعرة عالماً رمزياً تلتقي فيه الذات بالآخر، والزمن بالخلود، والحب باليقين.

إنها كتابة تجعل من العاطفة ميتافيزيقا للحياة، وتُحوّل التجربة الفردية إلى خطاب إنساني شامل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...........................

بلاغة عينيك

يا روحي...

ويا مسرى خفقي في فصول الوجد.

حين توغّلتُ فيك،

رأيتني أوسع من البحر،

وأكثر عمق من الفكرة،

وأكثر هشاشة من البلّور.

كُن لي مرافئَ السّلام،

إنّي على شفا حفرة من الخفق،

أناجيك في المقام الرّفيع بالصَّلوات.

أسراب الرّيّاح التي تحملني بعيداً عن كواكبك،

هيّ نفسها من تعيدني إليك،

مجلّلةً بوهج الشوق،

تنحت مستقرّي فيك بماء الرّوح.

كُن لي الحقيقةَ واليقين،

إنّ المدار الذي يربطني إلى حبل وريدك

هو وطني،

وجنّتي،

وهويّتي،

وتاريخي،

وفتوحاتي،

وملاذي.

كلّ متحرّك زائل،

إلاّك يا يقيني،

وثباتي.

أيّها اللابث في خفق الرّوح،

قلبي الرّاقص على إيقاع عشقك،

لا لغة تجمع أبجديّاته

سوى لغة الوله الضّارب في حمّى حرائقي،

في بلاغة عينيك،

وحديث كفيّك.

يا أنت...

اللحظة الحاضرة،

واللحظة الغيّاب،

البارحة أنت،

والآن أنت،

والغد المجهول أنت،

وما قبل عصور العشق أنت.

وحين يكسرني صمتك،

يعيد إليّ عشقك

ثباتي وترميمي.

كم أشتاق غرقي فيك

بعيداً عن قوارب النجاة !

يا إنّي…

اذبح شكّي من أشواكه الطّالعة.

إنّ المحبّة ميثاق غليظ.

يا كوني...

وكياني،

وكينونتي،

كُن لي كما كنت لك،

وكما سأكون.

***

نادية نواصر

 

قراءة سيميائية في قصيدتي "سيدة المواسم "و"لا خريف في الحب" من مجموعة" حي بن سكران "للشاعر المبدع شلال عنوز

مقدمة: نتناول في هذه القراءة السيميائية المقتضبة نصين للشاعر شلال عنوز من مجموعته الشعرية الأخيرة حي بن سكران (هي سلسلة من القراءات ستشمل كامل نصوص المجموعة) . أهدى نصه الأول من النصين قيد القراءة إلى الدكتورة بشرى البستاني، وهو سيدة المواسم والثاني لا خريف في الحب نرى ارتباطه الموضوعي مع الأول، وذلك من خلال تحليل بنية العلامات والرموز، واستكشاف التفاعل الدلالي بين الأنثى، والمكان، والزمن، والحب، ضمن مناخ شعري كثيف يقوم على الانزياح والتناص والتمثيل الرمزي في بيئة وطنية عراقية كونية. تسعى القراءة إلى إبراز كيف تُعيد القصيدتان تشكيل صورة المرأة - المثقفة أو الحبيبة - بوصفها قوة إبداعية وتجددية في مواجهة التآكل الزمني والتاريخي المشبوب بالجندرية المتغلفة والمتغلغلة في أعماق البني الفكرية والثقافية المجتمعية.

أدوات التحليل السيميائي كما طوّرها رولان بارت، وغريماس، وأمبرتو إيكو، خير معين لأي قراءة سيميائية، حيث تُدرس العلامة بوصفها وحدة دالة تتولد داخل شبكة من العلاقات السياقية حيث السياق هو عنصر الخطاب اللغوي الرئيسي. وكما يرى بارت: "العلامة لا تكتفي بكونها علاقة بين دال ومدلول، بل تتحول إلى بنية منتجة للمعنى داخل نسق ثقافي" (مبادئ في علم العلامات، ص. 22)، وهو ما يتوافق مع قولنا إن السياق هو مشكاة المقاصد التي نهتدي بها في عملية الفهم. فالإطار العام لزمكانية وحدات النص الصغرى والكبرى، عند تتبعها، يكشف الرسالة التي يقصدها الشاعر بوصفه مرسلًا، موجّهًا خطابه إلى المتلقي في إطار ثقافي وتاريخي محدد.

آخذين بنظر الاعتبار الثقافات والمرجعيات والمعتقدات التي نهل منها الشاعر وتشربت بها علامات نصه الدلالية، ندرك أن النص هو حصيلة تراكم اجتماعي وثقافي. وهو ما أشار إليه يوسف وغليسي حين أكد أن "السيميائية ليست مجرد أداة، بل هي أفق يربط النص بسياقه الثقافي والتاريخي، ويكشف عن أنساقه الدفينة" (السيميائية وتطبيقاتها على النص الأدبي، ص. 15).

أما التناصّية، فهي مكوّن آخر أساس في عملية القراءة؛ إذ يتشكل النص من نضد مقصود بوعي أو من تسرب تراكم مختزن من الصور والمشاعر في لا وعي الناص. وهنا يحضر ما ذهب إليه إيكو: "النص مفتوح على تأويلات متعددة، لكن هذه التعددية ليست فوضى، بل تخضع لقوانين التأويل" (السيميائيات والتأويل، ص. 63). وهو ما يعزز الفكرة أن التناص ليس مجرد توارد خواطر، بل نسق منظم يثري العلامة ويوسّع أفقها الدلالي.

وتُعنى القراءة السيميائية – كما نصّ عليها غريماس – بفهم الكيفية التي تُبنى بها المعاني من خلال الصور والمجازات والإشارات الثقافية واللغوية، حيث يؤكد أن "المعنى لا يُلتقط مباشرة من النص، بل من العلاقات الوظيفية بين وحداته" (البنية الدلالية للخطاب، ص. 41). ومن هنا نحدّد الوظائف الرمزية للعناصر النصية في بناء خطاب شعري كثيف الدلالة، عميق المقاصد.

إننا إذ نقوم بتفريغ الطاقة الاشتغالية في بناء النص سيميائيًا، فإننا نفصح عن أعباء الحمولة العاطفية بقياس الشحنة الشعورية المتكتلة داخل الأحواز اللفظية والتعبيرية. وهذا ما يتسق مع رؤية مرتاض حين قال إن القراءة السيميائية هي "رحلة في المقاصد واللامقاصد، حيث ما يصرّح به النص لا يقل أهمية عما يضمره" (في نظرية القراءة والتأويل، ص. 19). فالمعنى إذن ليس ثابتًا، بل يستغرقه مدّ أفق الفهم، حيث تتجدد القراءة بتجدد زوايا النظر، لتشغّل مفاتيح أقفال العلامات النصية مع مراعاة الاقتضاب الذي يسهل مهمة التلقي ولا يخل بعمق التأويل.

أولاً: قراءة في قصيدة" سيدة المواسم"

إهداء إلى/

الأستاذة العالمة، الأديبة الشاعرة القديرة

الدكتورة بشرى البستاني بمناسبة تكريمها

[قَرأتُها قصيدةً عذراءَ

تَكتبُها أصابعُ الفَجر

فَيُورق على نَسائم بَوحِها

شَجرُ الوطن

تُرَوّي ظَمأَ الاشتياق

بِلَذيذ خَمر الحَنين

مُولَعةً

بِسِفر الأصالة

يَهزج لَها الربيع

أُنشودةَ حُلم

في أُمِّ الرَبيعَين

في (حيِّ العربي)

تَلتهمُ

عَبق عِطر العروبة

تَختالُ مُهرةً أصيلةً

في أَروِقَةِ

جامعة الموصل

يَلتحفُها الإبداع

تُغنّي على

قَلعةِ (النَمرود)

بَعضاً مِن أُنوثةِ

المُدن

وتَزقُّ حُزن الفَواخت

*

في رِئة (الغابات)

تَبُثُّ نَجيَّ أَساها للعراق

على رَصيف (الدَوّاسة)

تَعزفُ سيمفونِيَّة الوَجع

في مَفاصل الوقت

تُسابقُ خُطى الزمن

وتَشربُ عَذبَ ما كَتبَ

العِظام

في شارع المَكتبات

تَرسمُ للحالمين

أَبجديَّة الجَمال

في نَهارات نَينَوى

يُهرولُ

في لُبِّ  مَساراتِها

غَبَشُ العِشق

فَتَرقصُ على  تَراتيلِها

أسراب اليَمام

رَأيتُها في (مُكابدات الشَجر)

تُضمّد (جُرح العراق

بلحنٍ (أندلُسيّ)

عِند (خُماسيَّة المِحنة)

فَتَذوب الأرواح العاشِقة

بِعَبير(زهر الحدائق)

وتَقولُ لَها

لظلّها

عِند مُفترق الفصول:

البسي شالكِ الأخضر وتعالي

**

رأيتُها في بَساتين النارنج

تُقبّل (كفَّ العراق) نازفةً

وتَمسحُ جَبين الصباح

بخُضرة المُناجاة

في (مُخاطبات حوّاء)

لتُرمِّمَ (ما تركتهُ الريح)

مُزدهيةً بجِلبابِها المَوصِليّ

الناصع البَياض

وما زال الصُبح

هائماً

يَلثم شَذا الحُبّ

يَتنفّس عِطر الإبداع

من شَفَتَي

سيدة المواسم]

العنوان:

تفخيم رمزي وتعبيري يشير إلى شخصية تتجاوز محدودية الفردية ومدارات الحراك في مداها الضيق لتكون تمثيلًا لروح المواسم جميعها، أي تُمثّل الحياة، الخصوبة، التقلب، الشعر، الجمال، الحضور الثقافي والتاريخي وهي رواق الولوج إلى النص. وكما يؤكد رولان بارت: "العنوان نفسه علامة أولية، يفتح أفق التلقي ويوجّه التأويل" (مبادئ في علم العلامات، ص. 54).

القصيدة تفح برائحة هيمنة المجاز الثقافي - الجغرافي؛ فهي تستحضر طيفًا واسعًا من الفضاءات الرمزية المرتبطة بالهوية العربي. العراقية بملامحها الوطنية والقومية المميزة: حي العربي، قلعة النمرود، الغابات، رصيف الدوّاسة، شارع المكتبات، نينوى: هذه ليست مجرد أماكن، بل خرائط للذاكرة الثقافية والتاريخية، وأيقونات لنُبل الانتماء. كما هي محطات تكتسب منها عناصر النص أنفاسها الإشارية.

وهنا يلتقي النص مع ما ذهب إليه يوسف وغليسي حين قالا: "المكان في النص علامة كبرى، إذ ينقل الأنساق الثقافية والتاريخية إلى داخل البنية الشعرية" (السيميائية وتطبيقاتها على النص الأدبي، ص. 102).

سيمياء الهوية الأنثوية

تُقدم الشاعرة المُهدى إليها بصفتها: مهرة، عاشقة، شاعرة، موصلية، مقاومة، ساردة للوطن، مضمّدة للجراح، وهذه هي ما تتركه ريشة الشاعر على خامة لوحته. إنها صورة مركبة تجعل من الأنثى حاضنة للهوية الجماعية.

ويؤكد غريماس هنا أن "الأنساق الدلالية لا تُفهم من خلال المفردة وحدها، بل من خلال الوظيفة التي تؤديها داخل النسيج النصي" (البنية الدلالية للخطاب، ص. 41). وبذلك تتحول الأنثى إلى علامة هوية جامعة تُمثل الثقافة بقدر ما تُمثل الفرد.

التناص المرجعي: التناص المرجعي:

تستحضر القصيدة أعمالًا للشاعرة د. بشرى البستاني (مثل مخاطبات حواء، ما تركته الريح، خُماسية المحنة، مُكابدات الشجر، وزهر الحدائق) مما يخلق تداخلًا بين النص التكريمي والنص المرجعي. هذا التناص هو بقدر ما هو من رصيد الشاعرة الإبداعي رصيد موفور استعان به الشاعر ليقدمها بحُلة ما تستحقه من مكانة. وبذات الوقت هو دعوة تحث المتلقي لطرق أبواب الدخول إلى عالم الشاعرة الزاخر بالعطاء الإبداعي.

ويذهب إيكو إلى أن "التناص هو الطريقة التي يكتب بها النص نصوصًا أخرى في داخله، مولّدًا طبقات إضافية من الدلالة" (السيميائيات والتأويل، ص. 63).

تداخل الربيع بالأنوثة:

الأنوثة هنا ليست جسدًا أو هيئة، بل هي قيمة تشكيلية ترسم للوطن فسيفساء جمال وحلم وخصب ووعي. إنها أنوثة تنزع عن نفسها جلابيب الجندر التاريخي المثقل بالحيف، لتعود إلى جوهرها الرمزي: خصب الأرض والماء والهواء.

الجسد الأنثوي مُستبطن في المدن، في البساتين، في الحرف والقصيدة، هو روح تسكن الأشياء وتعطيها معناها: "تُقبّل كف العراق... تَمسح جبين الصباح".

وهذا ما ينسجم مع رؤية مرتاض: "النص ليس قولًا فقط، بل هو جسد حي، ينهض في الذاكرة الجماعية بما يربطه من دلالات رمزية وجمالية" (في نظرية القراءة والتأويل، ص. 37).

خطاب الحنين والتوق:

يمتد النص كأنه مرآة حب، لكنه ليس حبًا شخصيًا، بل حبًا للوطن من خلال أنثى اختزلت رموزه. شلال عنوز يسير في مسار من سبقه من الشعراء المهمين الذين وجدت الأنثى/المرأة، دون أدران الجندر، في روح نصوصهم مهما تعددت أغراض تلك النصوص؛ فهي الملهم والمستلهم، القريب البعيد، الحاضر الغائب.

وهذا يلتقي مع ما يذكره بارت: "النصوص لا تعكس الواقع فقط، بل تصنعه من خلال بناء دلالي جديد" (مبادئ في علم العلامات، ص. 66).

لمحات من سيميائية النص:

أ. مركزية الأنثى الرمزية:

"سيدة المواسم" ليست مجرد امرأة، بل هي أيقونة جامعة للخصوبة، والمقاومة، والإبداع. الشاعر يبنيها من تضافر زمكاني فريد، فتكون المرأة والمدينة (الموصل)، والقصيدة، والوطن.

ب. العلامات المكانية والزمنية:

(حيّ العربي - أم الربيعين - شارع المكتبات - النمرود - الدوّاسة): رموز تتعالق فيها الثقافة مع التاريخ والحياة اليومية، لتؤطر المرأة ضمن فضاء حضاري.

(المواسم - الفجر - الربيع - مفترق الفصول): تدفقات زمنية تحمل أبعادًا وجودية وتاريخية، ترسّخ حضور الأنثى في الزمن بوصفها مُجدّدة وخصبة.

ج. العلاقة بالوطن واللغة:

"تكتبها أصابع الفجر" /الكتابة فعل خلق أنثوي.

الشجر، الخمر، اليَمام، الزهر، الشال الأخضر / تكثيف للخصب الأنثوي والروحي.

"تضمّد جرح العراق" / المرأة بلسم الوطن وجراحه.

د. التناصات الثقافية:

قلعة النمرود، خماسية المحنة، مخاطبات حواء /حضور الرموز التاريخية والدينية يوسّع أفق النص إلى مستويات أسطورية وتأويلية، ويربط بين التاريخي والجغرافي، الأسطوري والواقعي، الفردي والجمعي.

وكما يشير إيكو: "التأويل لا يتوقف عند المعنى الأول، بل ينفتح على طبقات لا نهائية من المعاني الممكنة" (السيميائيات والتأويل، ص. 119).

ثانيًا: قراءة في قصيدة "لا خريف في الحب"

[يَتَبارى الربيعُ

ضاحكاً

في بَساتينِكِ المُندّاة

بِعَبقِ النارنجِ

تتراقصُ الزهورُ في

مُروجِكِ الضاحكة بالخضرة

مَن قالَ إنّ

القلبَ يشيبُ؟

لا تَهرمين

مادُمتِ أدمنتِ الحُبَّ

راقصةً تَحتَفلينَ

في هُتون النَّماء

حيثُ

لا خريفَ

في الحُبّ]

العنوان ودلالته:

يحمل عنوان القصيدة دلالة سيميائية مركزية وهو نفي التحوّل والزوال؛ فهو يتضمن نفيًا للخريف، أي لنهاية الدورة الحياتية، وللانطفاء أو الذبول، مما يشي بموقفٍ وجوديٍّ جماليّ يتحدى نواميس الفناء عبر طاقة الحب.

"لا خريف" هو لا نهاية، لا موت، لا انطفاء للحيوية. ونهاية الدورة الموسمية بقدر ما تعني خاتمة مرحلة تشير أيضًا إلى أفق ينظر إلى بداية أخرى تنم عن ديمومة الفعل الوجودي.

وهذا يتسق مع قول رولان بارت: "النصوص الحقيقية لا تكتفي بالتصريح، بل تقيم علاقة مع المحظور واللامفكر فيه، فتنتج مدلولات جديدة" (مبادئ في علم العلامات، ص. 45).

السيمياء البصرية واللون:

الربيع، البساتين، النارنج، الخضرة، الزهور، النماء: كلها إشارات بصرية توحي بالحياة والتفتح والتجدد. نلاحظ أيضًا اعتماد اللون الأخضر ضمنيًا كرمز للخصب والمقاومة والذاكرة الحيّة.

الخضرة علامة زهو الطبيعة ونضارتها ولها في النفس أثر يوحي بالسكينة والتوازن المريح، وتسمح بمرور الزمن مع منح فسحة من الأمل. لذلك نجده يوظف في علاجات الإجهاد العصبي وفي مفاهيم الطاقة، إذ للأخضر قدرات هائلة على امتصاص السلبية وإثراء العوامل الإيجابية، ليشغل المكان ويبعث روح التحمل في النظر للغد. الشاعر مدرك لقيم اللون الأخضر فأعطاه مكانته في النص.

وهذا يلتقي مع ما ذهب إليه يوسف وغليسي: "الألوان في النص الأدبي علامات تنقل حالات شعورية وتؤسس لفضاءات تأويلية تُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والعالم" (السيميائية وتطبيقاتها على النص الأدبي، ص. 89).

السيمياء الزمنية:

القصيدة تُعلّق الزمن في نقطة واحدة: "ما دُمتِ أدمنتِ الحب". فالحب هنا حالة مستدامة تُبقي الزمن متوهجًا، وترفض تحوّله الطبيعي نحو الخريف. إنها تفعّل تيمة الدهر المعلّق في لحظة حب أبدية، فيتحول الزمان إلى مكان سائل لا يغيّر من قواميته بل يمنح المحب قدرة العبور من الراهن إلى السرمدي، ومن الحاضر إلى الماضي والمستقبل، مما يفقد "الآن" وجوده الصادم وينقل المحب من عالم الصدمة إلى فضاء التجوال الحر في ملكوت الأبدية.

وهذا ينسجم مع غريماس حين يقول: "الزمن في النص السردي ليس امتدادًا خطيًا، بل يُعاد تشكيله عبر الوظائف الدلالية للخطاب" (البنية الدلالية للخطاب، ص. 112).

خطاب التقديس الأنثوي:

الأنثى ليست معشوقة عادية، بل تجلٍّ لمفهوم الخصب والدهشة، واحتفال كوني بالوجود:

"راقصةً تحتفلين في هُتون النماء" / رمز الخصب الراقص، الكائن الكوني الذي يمنح إيقاعًا للحياة.

وكما يرى إيكو: "النصوص التي تستدعي رمزية المرأة تتجاوز الجسد لتؤسس علاقة تأويلية مع الكينونة" (السيميائيات والتأويل، ص. 101).

التوقيع الجمالي:

خاتمة القصيدة بتكرار العنوان تؤكد غرضها المركزي وتشير إلى أن النص بأكمله كان تفكيكًا رمزيًا لفكرة الحب الخالد.

الحب الذي كل غياب فيه حضور وكل بعيد فيه قريب؛ حيث لا زمن محدود ولا مكان آسر، كل شيء رهن التأمل وضمن ممكن التحول وتحت تصرف المحب العاشق.

مرتاض يضيء هذه النقطة بقوله: "النص يتجدد بقدر ما تتجدد زوايا النظر إليه، فهو قول لا ينغلق على معنى واحد" (في نظرية القراءة والتأويل، ص. 37).

لمحات من سيميائية النص:

أ. بناء الزمن العاطفي

"لا خريف في الحب" هو إعلان شعري عن خروج العاطفة من نواميس الطبيعة. فالأنثى لا تهرم، والحب لا يشيب، لأنهما طاقة متجددة لا تخضع للزمن. الزمن هنا يصبح أداة مطواعة بيد المحبين، بلا بداية ولا نهاية. فالألفا في الحب هي الأوميغا، والأوميغا هي الألفا.

وهذا يعيدنا إلى بارت الذي يرى أن "النص شبكة علامات، تُقرأ في دائريتها لا في خطيتها" (مبادئ في علم العلامات، ص. 30).

ب. العلامات النباتية والحسية:

النارنج، الخضرة، الزهور، المروج: تشي بجمال أنثوي مشبع بالحياة والخصب.

الأفعال (تتراقص، تحتفلين، ترقصين، تهطلين): كلها تؤكد دينامية الأنثى بوصفها فعلًا وحياة.

ج. الجسد كفضاء ربيعي:

تحضر الحبيبة بوصفها فضاءً حيويًا، تتماهى مع الطبيعة في أكثر صورها بهجة وخصوبة، مما يعيد تشكيل الحب كطقس احتفالي أبدي. هنا يحضر إيكو مرة أخرى حين يشير إلى أن "النصوص الكبرى تعيد إنتاج الحياة كطقس رمزي متكرر لا ينتهي" (السيميائيات والتأويل، ص. 119).

د. البنية الإيقاعية والدلالية:

الجمل الشعرية قصيرة، محكمة البناء، ذات نسق تصاعدي أقرب إلى الموسيقى التصويرية كسوناتا ضوء القمر لبيتهوفن.

التكرار التركيبي (لا خريف – لا تَهرمين) يؤسس لتمرد على الشيخوخة الزمنية، ويدفع نحو الانفلات من مظهرية السنين إلى جوهر الباطن المكتنز بالحيوية.

ثالثًا: المقارنة السيميائية بين القصيدتين:

أ. جدول مركّز (مكثف):1892 shalal

هذا الجدول المركّز (المكثف) يمنح القارئ نظرة سريعة، وهو يعبّر عن الوظيفة التي يذكرها غريماس: "المعنى لا يُدرك من التفاصيل منفردة، بل من العلاقات التي تنسجها البنية ككل" (البنية الدلالية للخطاب، ص. 41).

ب. جدول تفصيلي (موسَّع):1893 shalal

هذا الجدول التفصيلي(الموسع) يوضح كيف يفتح النصان فضاءات تأويلية متعددة: أحدهما يحيل إلى الرموز الثقافية والتاريخية، والآخر إلى الرموز الطبيعية والحسية. وهنا نستحضر قول بارت: "النص شبكة علامات، كل قراءة له تعني كتابة جديدة" (مبادئ في علم العلامات، ص. 30).

كما أن التداخل بين الجدولين (المكثف والموسع) يُبرز مبدأ "تعدد مستويات القراءة" الذي يؤكد عليه إيكو: "النصوص الكبرى لا تُقرأ مرة واحدة، لأنها لا تنتهي أبدًا" (السيميائيات والتأويل، ص. 119).

الخاتمة:

يتقاطع النصان في إعادة تأهيل الأنثى كقوة كونية ذات طابع رمزي وجودي، سواء كانت سيدة المواسم التي تحتضن الوطن في عباءتها البيضاء الزاهية، أو الحبيبة التي تُبقي الحب ربيعًا أخضر لا يشيخ. ومن خلال شبكة العلامات المتشابكة، ينجح الشاعر في إنتاج خطاب شعري يحمل في طيّاته بعدًا تأويليًا عميقًا، يفتح بابًا لقراءات فلسفية وثقافية متعددة، تمكن القارئ من فتح آفاق توقعاته لتستقبل أبعادًا مضمرة تكتمها العلامة الدلالية وتشير إلى معانٍ أعمق بكثير مما توحي به القراءة الأولى. وعند العودة المتكررة للنص، تتجدد المفهوميات عبر تحديث التأويلات، لينتج الفهم الجديد معنى جديدًا يفنّد السابق.

كلا النصين يحتفيان بالأنثى: الأولى شخصية تمثل الكينونة الثقافية لبلاد كاملة في ماضيها وغدها متجاوزة حاضرها الراهن المرتهن لواقع مستلب، والثانية رمز للحب الأبدي الخالد العابر للمحدودية والمتجاوز لضيق الحاضر. وفي الحالتين، يتجاوز النص المعنى الظاهري ليُقيم أنساقًا رمزية مرتبطة بالربيع، بالحب، بالهوية، وبالمقاومة الثقافية. وعلى المتلقي أن يكون حاضر الآفاق المتجددة لتلقيه، متوقعًا تجددًا مستمرًا لتولد المعاني في النصين مع كل عودة.

هنا نجد ما قاله رولان بارت: "النص شبكة علامات، كل قراءة له تعني كتابة جديدة" (مبادئ في علم العلامات، ص. 30)، وهو ما ينطبق على قصيدتي شلال عنوز إذ تفتحان بابًا لا نهائيًا لإعادة القراءة.

كما يتوافق ذلك مع أمبرتو إيكو حين أكد أن "النصوص الكبرى لا تُقرأ مرة واحدة، لأنها لا تنتهي أبدًا" (السيميائيات والتأويل، ص. 119)، أي أن النص لا يغلق نفسه بل يظل في حالة إنتاج دائم للمعنى.

ويضيء عبد الملك مرتاض هذا الأفق حين يصف القراءة السيميائية بأنها "رحلة في المقاصد واللامقاصد، حيث ما يصرّح به النص لا يقل أهمية عما يضمره" (في نظرية القراءة والتأويل، ص. 19). هذا التوازن بين المصرّح والمضمر هو ما يضمن للنص قوته وامتداده في أفق القراءة.

كذلك يؤكد غريماس أن "المعنى لا يُفهم من النصوص في معزل، بل من شبكة العلاقات التي تنسجها وحداته" (البنية الدلالية للخطاب، ص. 41)، وهو ما تجلّى في مقارنة النصين حيث يتأسس معنى كل واحد منهما على علاقة بالآخر.

ويضيف يوسف وغليسي أن "السيميائية تكشف عن الأنساق الدفينة للنصوص بما هي نتاج ثقافي وتاريخي" (السيميائية وتطبيقاتها على النص الأدبي، ص. 15). وهكذا يصبح النصان معًا فضاءين متكاملين يكشفان عن أنساق الهوية والخصوبة والحب في أبعادها الوجودية والثقافية.

وبذلك، فإن شلال عنوز قدّم في هذين النصين تمثيلين متكاملين للأنثى: المثقفة/الوطن والمحبوبة/الحب. كلاهما يفتحان أفقًا تعدديًا، حيث الشعر مجال للتأويل اللامتناهي، وللحياة نفسها بوصفها نصًا مفتوحًا.

***

سعد محمد مهدي غلام

...........................

المراجع:

1. بارت، رولان. (1994). مبادئ في علم العلامات. ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي. الدار البيضاء: دار توبقال.

2. إيكو، أمبرتو. (1998). السيميائيات والتأويل. ترجمة: هشام صالح. بيروت: دار الكتاب الجديد.

3. غريماس، أ.ج. (1991). البنية الدلالية للخطاب. ترجمة: أحمد مصطفى حجازي. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة.

4. مرتاض، عبد الملك. (2001). في نظرية القراءة والتأويل. الجزائر: دار هومة.

5. يوسف، عبد الرزاق، وغليسي، عبد المالك. (2007). السيميائية وتطبيقاتها على النص الأدبي. الجزائر: منشورات الاختلاف.

 

ثيمة العنكبوت في الرواية الرمزية الواقعية السحرية للروائي قصي الشيخ عسكر

منذ اللحظة الأولى، حين يباغتنا نص الرواية بصورة عابرة في صحيفة أجنبية عن عنكبوت يبني بيته في أذن إنسان، نكتشف أننا أمام نص لا يقنع بالحكاية الظاهرية ولا يركن إلى السرد الخطّي، بل يجترح أسطورته الخاصة من تفاصيل الحياة اليومية، ليبني عظْمة الدلالة على هشاشة المصادفة. يصبح "العنكبوت" هنا أكثر من كائن طارئ، أقرب إلى علامة عميقة تُشرع أبواب التأويل، وتفتق جراح الذات في سياق جماعي ملتهب بالحروب والهجرة والذكريات المشروخة.

العنكبوت: المقيم غير المرغوب فيه، والمُنجَدِل في صميم الذات

العنكبوت – بوصفه رمزًا – لا يظهر في النص كمجرد حشرة ضالة عرجت مصادفة إلى صيوان الأذن، بل يغدو استعارة كبرى تحبك الصراع بين الخارج والداخل، بين الحرب كواقع مُدَوٍّ، والعزلة كقدر داخلي لا ينفك يداهم النفس البشرية. فهو في آنٍ رمز للطفيلية، مثلما هو ظلّ الحماية، لعنة متجددة ورفيق حياة قسري.

يبني بيتًا في أكثر الحواس التصاقًا بالوعي: الأذن. أليست الأذن بوابة الوحي ومفتاح السمع والأنس؟ حين تقتحمها شبكة عنكبوت تكتشف الذات أن ضجيج الحرب يستطيع أن يتغلغل في الجسد، وأن الخراب الخارجي يملك القدرة على إعادة تشكيل الإنسان من أعماقه.

إن وجود العنكبوت في الأذن يتماهى مع صورة الوطن العربي المبتلى بالحروب: تلك الأصوات التي لا تنقطع في وسائل الإعلام تتحول مع الزمن إلى صمت داخلي خانق، إلى شبكة تنتزع الطمأنينة وتحيل الحياة إلى لعبة مراقبة قاسية، يصبح فيها الفرد منفاه الأصغر ودماره الداخلي.

بين الحرب والعزلة والطفولة والفصام الوجودي

ـ العنكبوت والحرب:

نسج شبكة العنكبوت في الأذن ليس حدثًا عبثيًا، بل يواكب جحيم الغارات على غزة، فيتجلى أن الحرب ليست مجرد ركام يثقل المدينة، بل هي قوة قادرة على احتلال الحواس، على تحويل السمع إلى فضاء واسع، والأذن إلى بيت للغربة والصدى.

ـ العنكبوت والاغتراب:

تلك القناة الجليلة التي تستقبل العالم تحولت في النص إلى مكبٍ لنفايات الحشرات، فالأذن - بوصفها رمز الإنصات والحوار - تغدو حفرة عزلة، تتكدس فيها فتات الذاكرة وهموم الراهن، فترمز لانقطاع الحوار مع الذات ومع الآخر معًا.

ـ العنكبوت والطفولة:

يعود النص ليطرق باب الطفولة المهجورة، حيث اللعب مع العناكب كان فضاءً للبراءة والمشاكسة، ثم تتحول تلك "اللعبة" إلى لعنة في الكبر، إذ يجد نفسه محشورًا في قفص الماضي، طفلًا معاقًا في جسد رجل.

هنا يغدو العنكبوت ذاكرة مجسدة للجرح الأولي، وكأن كل عبث الطفولة لم يكن سوى نبوءة حالكة لمحنة الذات في المستقبل.

ـ العنكبوت والفصام الوجودي:

بين رغبته في طرد العنكبوت وبين خوفه من فقده "كجزءٍ منه"، يعكس النص مأزق الإنسان أمام قدر لا يستطيع تجاوزه، مفارقة مؤلمة بين الرفض والاستسلام، بين الحاجة إلى الحماية من العنكبوت وخوف الارتحال معه، وكأن العربي محكوم بعلاقة مأزومة مع العنف والقدر والانتظار الدائم على أعتاب التغيير.

ليست الرواية نوعًا من الترف السردي أو التطريز التخيلي؛ إنها إنشاء استعارة كبرى عن الإنسان العربي المعاصر، المحاصر بزحام الحروب والتهجير والقلق الدائم، مسلوب الاختيار أمام "حرب" تتسلل إليه حتى تصبح جزءًا من تكوينه الجسدي والنفسي.

تحتشد بين شيفرة السرد رسائل حادة الدلالة:

1. الحرب ليست حدثًا يرى أو يُذكر، بل استعمار للحواس، تآكل للذّات، اجتراح حقيقي للوجود الفردي.

2. الطبيعة تنتفض وتقهر الإنسان في النهاية، فلا يعود قادرًا على الاحتماء منها ولا الإفلات من شراكها، يتحول العنكبوت من طفيلي إلى حامل رسالة الطبيعة حين يشهر ثأره ضد الإنسان الذي ظن أنه السيد والمالك.

3. الهوية واللغة تتضعضعان: حتى في المهجر وأمام الآخر، يصبح الفهم مقطوع الجذور، والتواصل مرهونًا بشبكة رقيقة بين الذات والعالم.

4. لا خلاص فردي حقيقي: يجرّب الراوي الحب، والسفر، والمنتجع، لكن العنكبوت يبقى رهين أذنه، والحرب ترزح على صدره، أي أن وهم النجاة الجسدية لا يكفي لمسح آثار الحرب عن الروح.

البنية الأسلوبية وتأثيراتها الأدبية

تسلك الرواية درب الواقعية السحرية، فلا تفتعل العجائبي بل تزرعه في اليومي دونما ارتباك أو استفسار. "العنكبوت في الأذن" حقيقة يتقبلها البطل ولا يحتاج لمن يصدقها أو يكذبها.

تنهض اللغة على حافة الشعرية المكثفة، تتداخل فيها الصور المتكررة لدهشة، صدمة، تأمل، ليحضر السرد في صورة مونولوج طويل مطرز بأنين الذات وارتقائها.

تتوالد المرايا في بنية النص: مرآة كبيرة، يدوية، زجاج الشرفة... إلخ، لتمنح الشخصية رؤية أخرى لنفسها، وتكرّس عجزها عن التقاط حقيقتها إلا عبر وسيط معكوس أو وقائع مؤجلة.

يباشر الواقع أمام شاشات يوتيوب أو في قاعة الطبيب أو بين أروقة غربته، فيبقى أسيرًا لصورته المشوّهة داخليًا وخارجيًا.

ـ تقنيات التأثر والانتساب الأدبي:

يتبدّى تأثر الكاتب جليًا بكافكا في رمزه اللاذع وتشظي الهوية عبر حدث بسيط يعصف بالوجود كله، كما يستمد من ماركيز ولويناس وجيلبرت شسترتون تقنيات الواقعية السحرية ومساءلة البديهي تحت قشرة اليومي المتآكلة.

النص معجون بروح عربية مشبعة بانكسارات السياسة، كما تسكنه عوالم الفلسفة الوجودية التي تتساءل عن ماهية الحواس والغاية والذّاكرة الإنسانية في مواجهة الطارئ والمعضلات الكبرى.

ـ بين العجائبي والمجازي في عالمين

الرواية تقع ضمن النمط الرمزي الفلسفي ذي المسرب الواقعي السحري. فهي لا تكتفي بجمع عالمين، عالم الشخص/الرّاوي ومحيطه المنكوب، بل تجعل العجائبي والمجازي حاكمين على مصير الأشياء، لتنتج نصًا يقاوم التصنيف النهائي ويتمدّد بين

 1ـ سيرة ذاتية مختلقة تتماهى مع المأساة الجمعية.

2 ـ تأمل فلسفي في الرسم التشكيلي للذاكرة والجسد.

3 ـ تعليق سياسي وانفعالي على تاريخ الامّة العربية وجراحها الكامنة.

4 ـ حكاية عجائبية تهيم بين الشهقة والذهول، لا تطلب تصديقًا بقدر ما تدعو إلى الإنصات لما سيحدث في الداخل.

أهم ما في هذا الانتماء أنّه يُرجع "التجربة العربية مع الحرب" من مساحة الحدث العام إلى جسد الشخصية، ويجعل الجسد ذاته مستودعًا تتكدس فيه مخاوف السياسة والحب والموت، ليستقر الخراب في داخل الإنسان لا في شوارع المدن فقط.

تمنح الرواية القارئ تجربة أدبية تمزج الفزع بالشعر، تزرع الخرافة في النثر، وتذكّره أن الحرب ليست صورًا على الشاشات بل أصداءً تطرق صيوان الأذن حتى تتملك الفرد.

العنكبوت هنا هاجس، تحذير من الداخل، علامة على اغتراب لا ينتهي إلا بذوبان الذات في لعنة السؤال:

من سيرحل أولًا... الحرب أم العنكبوت؟ أم يبقى الاثنان معًا حتى يلتحم الفرد بحزنه ولا يعود قابلاً للإنقاذ؟

في النهاية، تصوغ الرواية بالرمز والخبرة والجمال الفاتن مأساة إنسان عربي بات سجنه ذاته، ووطنه خرابه الداخلي، وملجأه العنكبوت.

إنها لحظة تجلي للغربة وللخوف وللحب المؤجل، حين تتحوّل الأذن من معبر للحنان الإنساني إلى شبكة مصائد للخراب. هكذا يرسخ النص وجوده رواية رمزية واقعية سحرية بامتياز، تعهد للقارئ بسفر عجيب في متاهات الذات والجسد والتاريخ، لا يخرج منه إلا أكثر يقينًا بضعف الإنسان أمام مصيره... وأمام عنكبوت يقيم أبديته في أعماق الروح.

عبر اختتام الرواية بهذه المشهدية "مشهديه التحجر"، تبرز الدلالة الأعظم للرواية كلها: الإنسان العربي المعاصر يعيش غربته القصوى، لا الموت يأتيه دفعة واحدة، ولا الحياة تمنحه يقين النجاة من الخراب. الحرب - كالعنكبوت - تسيطر وتفتك وتتركه متحجرًا، معزولًا حتى عن ذاته، في انتظار رسالة لا تصل، أو لا معنى لها إن وصلت.

إنها نهاية فاجعة ترتقي إلى مصاف الأسطورة الفلسفية: يتحول الفرد إلى تمثال صامت، يذبل فيه الصوت والحركة، حتى تغدو أضعف الخيوط - خيط تواصل إلكتروني أو خيط بيت العنكبوت - أعظم ما تبقى من رماد الإنسانية

النهاية بهذا التكوين، تلخص رسالة العمل:

مهما بلغ حضور الآخرين أو كثرت رسائل التواصل، حين تستبد الوحشة والجمود بالداخل، لا خلاص للفرد إلا بانتظار اللاشيء.

***

سعاد الراعي

2025.09.05

لعبد الله البردوني.. مقاربة رمزية، أسلوبية، نفسية، هيرمينوطيقية

1) مدخل: بيانٌ شعري في عالمٍ مقلوب:

تبدو القصيدة بيانًا أخلاقيًّا ساخرًا يصوغ رؤيةً لكونٍ انقلبتْ فيه القيمُ والمعايير: النورُ تُطفِئه الظلمة، والأمنُ خائف، والنومُ يرفض أن ينام. يفتتح البردوني بنبرة تشي بانسداد اللغة أمام فداحة الواقع («عجزُ الكلامِ عن الكلام») ثم يمضي إلى تفصيلاتٍ صُوَرية ترسم خرائط هذا الانقلاب عبر مشاهد مكثّفة، متوازية، ومشحونة بالمفارقات.

2) المنهج الرمزي: حديقة الحيوان السياسية ورموز الافتراس

تُشيّد القصيدة حقلها الرمزي على ثنائية الافتراس/البراءة:

الذئب حارسًا للأرانب والحمام: رمزٌ لسلطةٍ تضطلع بحماية ما خُلقت لافتراسه؛ صورةٌ مكثّفة لفساد الوظائف.

الكلب سيدُ قومه في كهفٍ يقتات العظام: سلطةٌ دنيا تتغذّى على الفُتات وتحكم في الظلّ.

الثعلب المكار يضحك من «غباءٍ مستدام»: ذكاءٌ انتهازي يقابله عجزٌ جمعيّ.

ومن الرموز الكبرى النفط/الجوع: «النفط يملأ أرضنا والناس تبحث عن طعام»؛ مفارقةُ الثروة المهدورة (لعنة الريع) حيث الوفرة المادية تُنتج فقرًا بنيويًا. كذلك العدل في زوايا السجن، والموت يقتل نفسه: صورٌ تبلغ حدّ المفارقة الوجودية؛ العالمُ يلتهم ذاته.

3) المنهج الأسلوبي: نحو موسيقى المفارقة والتوازي:

القافية الموحدة (…ام) تمنح النصَّ تماسكًا لحنيًا يشيع وقعًا أناشيديًا يُناسب التعداد التراكمي للصور.

التوازي التركيبي: تتكرر بنية «X أصبح ، «X يَفعلُ Y»، بما يخلق ضرباً من الإيقاع التركيي الذي يراكم الدلالات ويُصعّد التوتر.

العطف المتتابع بالواو («والأمن… والنوم… والشمس…») يشي بأسلوب السرد التراكمي الذي يُحاكي انهمار الوقائع ويفضي إلى شعور بالاختناق.

المجاز والطباق: «النور/الظلام»، «المد/الجزر»، «الطهر/الرعية والإمام»، تُجسّد اقتصادًا لفظيًا يقدّم الدلالة عبر صدماتٍ قصيرة لا عبر إسهابٍ توصيفي.

المفارقة تُعدّ المكوّن الأسلوبي الأبرز: «الموت يقتل نفسه»، «النوم يرفض أن ينام»؛ مفارقاتٌ تولّد دهشةً معرفية وتعمل كآلية نقدٍ تُعرّي لا معقولية الواقع.

4) المنهج النفسي: وجدانٌ جمعي بين السخرية السوداء وقلق العجز:

تتحرك الذات الشاعرة من إحساس بالعجز التعبيري (عنوانًا وبداية) إلى تعويضٍ تخييلي عبر سلاسل الصور؛ فالفعل النفسي المركزي هنا هو تحويل القلق إلى تهكّم. السخرية ليست نُزهة لغوية بل آلية دفاع تُحافظ على اتزان الذات في عالمٍ مختل. كما أن تكرار فجائع «الجوع يمشي عاريًا…» و«الأرض تُروى من دماء الناس…» يوحي بذاكرةٍ صادمة تتبدّى في هيئة كوابيس يقظة، تتقاسمها الجماعة. إننا أمام وجدانٍ جمعيٍّ منكسر لا يفتش عن بطولة فردية بل عن معنى وسط الخراب.

5) المقاربة الهيرمينوطيقية: من المشهد الجزئي إلى الرؤية الكلية

تعمل القصيدة بوصفها دائرة تأويل تبدأ من صورةٍ جزئية (نوم يرفض أن ينام) إلى أفقٍ كُلي: عالمٌ يُدار بقوانين ضدّية. القارئ يُتمّ المعنى عبر خبرته التاريخية:

انقلاب المواقع («الصدر في الوراء والخلف في الأمام») يُقرأ كتعطّلٍ للتراتبيات الأخلاقية والمؤسسية.

«العدل في زوايا السجن» و«الطهر يبني حاجزًا بين الرعية والإمام» تُعيدان تأويل المؤسسات باعتبارها صارت أدواتِ إقصاء لا رعاية.

النفط/الجوع يؤسّس لأفق تأويلي سياسي– اقتصادي: وفرةٌ بلا توزيع عادل، وثروةٌ بلا سيادة اجتماعية.

الهيرمينوطيقا هنا تُبرز اندماج أفق النص بأفق القارئ: ما يورده الشاعر ليس وصفًا طبيعيًا، بل تمثيلٌ رمزي لزمنٍ عربي تتهشم فيه البداهات، فيصبح الحلم الاجتماعي مستحيلًا إلا بقلب المعادلات.

6) بناء الصورة: اقتصاد لغوي وحدّة تشخيص:

تجنح الصور إلى القصيرة المقطّرة: «الشمس باردةٌ»، «الكلب سيد قومه»، «الجوع يمشي عارياً». إنّها لقطاتٌ سينمائية مكثّفة، تُراكم ألبومًا بصريًا لعالمٍ مختل. ولاحظ كيف يزاوج الشاعر بين التجسيد (الموت يقتل نفسه) والتشييء (العدل يقعد في الزوايا) ليُكسِب المعاني المجردة جسدًا حركياً يَصدم ويعلّم.

7) خطاب السخرية الأخلاقية:

السخرية هنا ليست تندّرًا، بل أخلاقيةٌ احتجاجية: إذ يتولّد المعنى من التسمية الفاضحة للأشياء وهي في مواضع معكوسة. إنّ «الخصم يزحف نحونا والجيش يبحث عن غلام» جملة تُعرّي العطب المؤسسي عبر نبرةٍ تقريرية باردة تزيد المفارقة حدّة. هكذا تتولّد السخرية السوداء: وصفٌ محايد لوقائع فادحة يجعل التناقض يفضح نفسه.

8) زمن القصيدة: حاضرٌ مستدام:

غالب الأفعال في المضارع («يخاف، يضحك، يقعد، يمشي»)، ما يصنع حاضرًا ممتدًا لا ينقضي؛ كأن الخلل ليس حادثةً عابرة بل بنية زمنية. هذا الاختيار يُنتج أثرًا نفسيًا: استمرار الأزمة، واستدامة الشعور بالعجز، ومن ثمّ تَراكُم الحاجة إلى قولٍ يتجاوز عجز الكلام.

9) خاتمة: بلاغة الانقلاب ومعنى المقاومة:

في «عجز الكلام عن الكلام» يشيّد البردوني بلاغة الانقلاب: لغةٌ بسيطة ظاهريًا، عميقةٌ رمزيًا، قائمةٌ على مفارقاتٍ وتوازياتٍ وإيقاعٍ موحّد، تُنطق الحقيقة عبر قلب العلاقات. القصيدة تُجيد تشخيص اللامعقول لتوقظ ضمير القارئ: فإذا كان الكلام عاجزًا، فإن المجاز قادرٌ على أن يقول ما لا يقوله التصريح. هكذا تتحول القصيدة إلى مقاومة جمالية: تُعرّي، وتؤوّل، وتُذكّر بأن إعادة المعنى تبدأ من استعادة ترتيب العالم؛ أن يعود النور نورًا، والعدل عدلًا، وأن يبرأ الجوع من عُريه، فلا يكون النفطُ لعنةً، ولا يكون «السلام» شهادةَ موتٍ مجازي للجميع.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

عجزُ الكلامِ عن الكلام

عجز الكلامُ عن الكلام

والنور أطفأه الظلام

*

والأمن أصبح خائفاً

والنوم يرفض أن ينام

*

والصدرُ أصبح في الورا

والخلفُ أصبح في الامام

*

والشمس باردةٌ تخاف

الحرَّ تخبأ في الغمام

*

والذئب أمسى حارساً

يحمي الأرانب والحمام

*

والكلبُ سيدُ قومه في

الكهف يقتات العظام

*

والطهر يبني حاجزاً

بين الرعية والإمام

*

والثعلبُ المكارُ يضحك

من غباءٍ مستدام

*

والعدلُ يقعد في زوايا

السجن ارهقه القيام

*

والموتُ يقتل نفسَه

والشعبُ يقتُله اللئام

*

والظبيُ إن يعدو من

الصياد تلحقْه السهام

*

والدار أضحت خيمةً

والقبر يُبنى بالرخام

*

والأرضُ تُروى من دماءِ

الناس أرهقها الصيام

*

والجوعُ يمشي عاريًا

بين الجميع ولا يُلام

*

واليوم يهدمُ ما بناهُ

الأمسُ ذو المليون عام

*

والنفطُ يملأ أرضنا

والناسُ تبحث عن طعام

*

والكلُ فينا ميّتٌ

والكلُ يدعوا للسلام

*

والخصمُ يزحف نحوَنا

والجيشُ يبحثُ عن غلام

*

والقائدُ العربيّ

كالثعبانِ غدارٌ وَ سام

*

والشيخُ مشغولٌ

بتلوين العباءةِ واللثام

*

والدارُ تطعنُ اختَها

والغمدُ يطعنهُ الحسام

*

والنارُ تأكل كل شيءٍ

مثلَ أولادِ الحرام

***

عبد الله البردوني

 

المتن الروائي يتناول قضايا صعبة وعويصة في جوانب الحياة والواقع، في أصعب مرحلة تاريخية من التسعينات الى الوقت الحاضر (1990 - 2024) بصياغة غير تقليدية، في جوانب متعددة من سرد الأحداث برؤية فكرية رصينة وموضوعية، فرضت نفسها على الواقع العراقي السياسي والاجتماعي والقانوني، بما يخص عدالة القانون، تملك ترتيب وتنسيق في الحبكة الفنية وتوالي الأحداث بشكل متألق، بدون شك يستخدم الاستاذ (شلال عنوز) خبراته المتمكنة والمتعددة، ان يمسك خيوط السرد في النص الروائي، فهو شاعر وسارد والمحامي، يطعم النص بهذه الأشياء الثلاث، في مفاصل المتن الروائي، فهو يحاول ان يبرز برؤيته الفكرية، بأن العدالة والحكمة، لا يمكن طمرها مهما بلغت قوة التسلط والجبروت، لابد ان تنتفض من رمادها، ومهما طال الزمن ان تنتصر في الأخير، وكذلك الحكمة تنتصر على العصبية والتهور والتسرع بالغضب الشديد. النص الروائي يحمل براعة صراع الأضداد في أشد أزماتها ورمزيتها الدالة: الحياة والموت. الحرب والسلم. الحب والخيانة. الوفاء والغدر. الحقيقة والزيف. الظلم والعدالة. الواقع والخداع. هذه المفردات اشتدت خلال هذه المرحلة التاريخية المحددة على بغداد والعراق عامة، والتي جرت عليه بالويلات والكوارث والحروب المستنسخة، حرب ينتج حرباً، وحرب يتناسل حروباً، من اجل تخريب المجتمع وتشويه صورته بأسوأ الحالات، والموت اصبح يسير قدماً بخطوات متسارعة، فعرفنا أشكال متعددة من الموت، الموت في جبهات القتال، أو في البيت والطرقات أو في اي مكان، الموت من بطش النظام الشمولي، سواء في زنازين الموت، أو الموت في المقابر الجماعية، أو الموت من الغدر الخيانة، ومقبرة (وادي السلام) النجف الاشرف دليل على ذلك، أي ان الموت في النص الروائي ليس قدراً، وانما من فعل انسان فاعل. نحن إزاء سرد شفاف ومنساب بتدفق في شفافية مرهفة، ومطعم في ازدواجية الشعر والسرد، في لغة مدهشة كأنها عجينة تشكل كلماتها وعباراته وجملها في الرمز والمضمون الدال، تجبر القارئ ان يتعاطف بشدة ملتهبة وبحزن يعصر القلب، اي انها تدخل في شعور القارئ ويتوجع من الأحداث الدراماتيكية المتتالية، والنص الروائي يدخل في ازمات عويصة كأنها ساحة واسعة الاتساع، يجرب فيها كل الاشياء، ويخرج منها بصيدة ثمينة، رغم ان الحدث السردي يحمل دلالات رمزية متعددة الجوانب، في المعنى والمغزى العميق والبليغ، هي اولاً: رمزية بغداد تجمع بين الحزن والوفاء، بغداد في رمزية اليمامة، شاخصة وحاضرة في أسوأ الازمان، بغداد في رمزية المرأة، لأنها اكثر وفاء من الرجل في تحملها وصبرها وتشخيص الاشياء الحياتية، ولا تخون عشاقها، بغداد التاريخ والصور والتراث والثقافة والشعر (بغداد والشعراء والصورٌ / ذهب الزمان وضوعه القمرٌ / يا الف ليلة مكملة الأعراس / يغسل وجهك القمرٌ) هذه هي رمزية يمامة بغداد. صامدة ضد الحروب، صامدة ضد الحصار الاقتصادي، الذي خنق حياتها، وورثت منه الحرمان والفاقة والجوع، وسلب حياتها ودفعها الى الفوضى، صامدة حتى لو ان المتاجرين بها ضمائرهم الميتة، ان يعرضوها للبيع في اسواق النخاسة. صامدة في وجه الغزاة المدججين بأسلحتهم الفتاكة وقوتهم العالمية. صامدة حين سلموا بغداد الى العصابات لإدارة شؤونها، وهذه العصابات دمرت بغداد أو العراق، سلبوا ممتلكات الدولة بالنهب والسرقة، نهبت خيرات العراق دون وجع ضمير، عبثوا ببغداد بالفوضى والانفلات الامني والتفجيرات اليومية، حاولوا شطب حضاراتها وتاريخها واثارها (- ما ترينه الآن أمر بسيط، ليتك تشاهدين الدمار والخراب الذي أصاب الدوائر والمؤسسات الرسمية، وما رفق ذلك من أعمال السرقة والنهب والسلب، وظهور مصلح جديد الى العلن هو الحواسم، فضلاً عن تفاقم أعمال العنف والعبث بأمن الناس وسلب ممتلكاتهم من قبل هذه العصابات، لقد سرقوا الوطن وتاريخه وآثاره). هو مخطط مدروس في تدمير البلد وتشويه سمعة ناسه، وخروجه عن جادة الصواب والحكمة، في انتزاع روحه وكرامته وعزته ودفعه إلى المجهول، شطب الشهامة العراقية المعروفة والمشهورة في أصالتها، في أطيب خصالها الحميدة، لكن مع الاسف نحن شعب لا يتعلم من الدروس والعبر، يلدغ من جحره ألف مرة وليس مرتين ولا يتعلم (أتضح لي، بما لا يقبل الشك أننا شعب لا يعرف ما يريد ولا يريد ان يعرف........ ( - نعم صدقت، العيب فينا كنا ومازلنا نكدس الأخطاء ونتخبط في المتاهات فلا نتعظ، جٌبلنا على تقبيل يد جزارنا و تقديس الماضي وإن كان فاشلاً). هذه المفاصل العامة والاساسية في النص الروائي.

×× الشخوص المحورية في النص الروائي:

1 - ما ترويه اليمامة:

تروي (حنان) بعد خروجها من موتها، أي أنها خرجت من القبر، خائرة القوى ومنهكة بالتعب، تروي سيرة حياتها وهي سيرة بغداد والعراق عامة، في المرحلة المحصورة من حرب الخليج الاولى عام 1990 الى الحرب الخليج الثانية عام 2003 فيما بعد، بأنها واظبت على زيارة قبر زوجها (ثائر) في مقبرة وادي السلام في النجف الاشرف، كل يوم جمعة، على مدى اثني عشر عاما، منذ ذلك اليوم المشؤوم. حين جاء في تابوت ملفوفاً بالعلم العراقي، تلك الصدمة لم تتحملها فسقطت مغشياً عليا، انها ارتبطت به بحب وعشق مقدس،، وعاشت معه اجمل ايام العمر، بالسعادة والانسجام الروحي والوفاء، احلى من عطر الرياحين، وكل زيارة تحمل الحزن الشديد في تذكر ايام سعادتها المغدورة، لانها فقدت سعادتها وراحتها النفسية بهذا المصاب الجلل، وحينما أنهت زيارتها للقبر، مر بقربها رجل بزي العربي (عراف) للمرة الاولى تراه في حياتها، ليقول لها بنبوءة الحدس ويختفي (سايتك زائر تقر به عينكِ، يكون له أثر البالغ في حياتك، لن يفارقك مدى الحياة، وأخر سيكون له دور في حياتكِ المستقبلية، يساعد في كشف حقيقة ما) أصابها الذهول والدهشة لم تفق منها إلا على صوت طفل عمره عامان، يجهش في البكاء، يلف كيانه الخوف والرعب، هدأت من خوفه ومسحت دموعه في اشفاق حنون، لان في تلك اللحظة قصفت طائرة من دول التحالف في حرب الخليج الثانية عام 2003، قصفت رتل عسكري على الطريق العام، وطال عسكريين ومدنيين، وساد المكان الفوضى العارمة، انتظرت مجيء اهل الطفل حتى تعود الى بغداد، وطال الانتظار ولم يحضر احداً، حاولت ان تبحث عن شرطي تسلمه الطفل لكن لم تجده، كانت سلسلة ذهبية معلقة برقبة الطفل بأسم (طاهر صبيح كريم ميران) وقررت الرجوع الى بغداد مع الطفل، وهناك تبحث عن اهله عبر الجهات الرسمية، وهي تدرك حالة البلد في فوضى، تمر بأسوأ الظروف الصعبة والقاسية، انهك الناس الحرمان والجوع وفاقة من الحصار الاقتصادي الدولي (- هذا الحصار الجائر هو الهم الذي يشغل تفكير الناس، ويقطع كل أمل في توفير حاجاتهم الاساسية، شيء مؤلم ما يعانيه الناس من الفقر والجوع ونقص في الحاجات الضرورية والدواء، نحن كما يقول المثل: نحلم بالحصاد والسنابل فارغة.....)،

2 - الطفل:

الطفل الذي وجدته (حنان) في مقبرة وادي السلام، عادت به الى بغداد، لم تجد أهله، فكانت هي بمثابة الأم الحنون، كأنه قطعة من قلبها في الحب والحنان، ترعرع في حضن دافئ بالحب والمودة، في أفضل تربية، فتعلق الطفل (طاهر) بقوة كأنها تمثل كيانه الروحي وامه الحقيقية، بل أصبح جزء أساسي من حياتها، ليعوض حزنها الشديد برحيل زوجها (ثائر) في تبادل الحب والحنان المشترك (- صدقني باسم أحس بأن هذا الطفل فلذة من قلبي، ان لم اكن أمه التي ولدته، فأني الأم التي منحته الأمان ودفء العاطفة والحنان) كأن نبوءة العراف، تحققت برجل يملي حياتها بالحب المقدس، كأنه هبة وهدية من رب العالمين، حتى وصل الى كلية الطب، وعثر على أهله، لكنه رفض بشدة ان يفارق امه (حنان) لانه يعتبرها الام الحنون، هي محطة الأمان وواحة الراحة، أصبحت جزء أساسي من حياته وكيانه، وكانت محل فخر واعتزاز، وحين داهما الموت، شعر بصدمة تهز كيانه بالحزن والوجع والحسرة والدموع (آه يا أمي.... / كيف أصف لك لوعتي وتوقي اليك / منذ رحيلك، وأنا تائه في مسارات وجعي / تأكلني الحسرة، ويجد في مساءاتي لهاث الالم / اصارع قهر الفراق / فأذعن تارة وتارة أثور / غارق في بحار وحدتي برغم وجود المواسين / فمثلك لا ينسى بالمواساة، ولا يسد مكانه جليس / أنت معي دوماً) ودفنت قرب قبر زوجها حسب رغبتها، لكي يلتقيان في الجنة سوية، واثناء عملية الدفن حطت يمامة على شجرة السدر، وشاركت المشيعين بالحزن والدموع.

3 - ثائر:

من خلال دراسته في الكلية تعرف على (حنان) وهو شاب محبوب محل تقدير واحترام من المقربين له، وارتبط بحب وعشق عاصف، اجمل من زقزقة العصافير، وطرح عليها فكرة الزواج، كانت ترى في عينيه صدق الحب ومشاعره، وكانت تشعر في أعماق احساسها كأنها ولدت من جديد، وابتهجت في شغاف هذا الحب، الذي يجلب للحياة الابتهاج والسعادة، هذا ما تقوله وعواطفها ويقر به عقلها، لكنها تساءلت لماذا هذه السرعة، فرد عليها (لابد من ذلك يا حنان، فقد احببتك بكل كياني، والأمر لا يحمل التأجيل، انها فرصة ذهبية منحنا إياها القدر، ينبغي عدم تفويتها بالتأخر غير المسوغ والنقاش الممل) فوافقت على الزواج حتى لا تحرم من سعادة العشق وبهجة الحياة، الذي فتح بابه على مصراعيه، هذ ما تقول عواطفها ويقر به عقلها، وكان الزواج وفرصة السانحة لكي يعيشان معاً، وفي حرب الخليج الاولى عام 1990، ذهب الى جبهات القتال كضابط طبيب بيطري احتياط، وفي خندق الحرب تعرض الى عملية غدر جبانة برصاصة من الخلف اخترقت رأسه وقتل في الحال. مقتله رمزية بليغة، بأن الشريف والصادق، ليس له سهم من الحياة والنجاة، في مجتمع غير عادل في معاييره.

4 - سامر:

الوطن اصبح شماعة ننشر عليه كل جرائم بالغدر والخيانة، بحجة الدفاع عن الوطن، كل المآسي والخراب والدمار، هي من اجل الوطن، الزيف والخداع والدجل، من أجل سرقة جيب الوطن المالي بحجة الجهاد المزيف والمخادع، حتى الشيطان لم يتجاسر على فعله، هي الدفاع عن الوطن، وما شخصية (سامر) هي معنى رمزي بليغ بالخداع والزيف، انه صورة طبق الأصل من هذه القاذورات العفنة، لكن خداعه وزيفه يجني منه الجاه والمنصب في العراق بعد عام 2003. فكان صديق (ثائر) في العلن، لكن في السر يشعر بالغيرة والحسد والحقد والانتقام، لأنه خسر (حنان) التي كان يطاردها في الكلية وخارج الكلية، يخدعها بحبه المزيف، لكي يخطفها بالاحتيال من حبيها (ثائر) ولكنه فشل فشلاً ذيعاً، لذلك تحين الفرص لكي ينتقم من (ثائر) وجاءت الفرصة الثمينة، في الحرب، وجد نفسه في خندق واحد معه، أثناء حرب الخليج الأولى عام 1990، ليطلق عليه رصاصة من الخلف ويموت حالاً، وادعى بأن قذيفة سقطت على الخندق، لكن بعد التحريات والتحقيقات، ثبت جرمه بالقتل واحيل الى المحكمة العسكرية لينال عقابه العادل، لكن تسارعت الأحداث، في انكسار الجيش العراقي بالهزيمة الساحقة، وقيام الانتفاضة ضد النظام، هرب من السجن الى السعودية ثم الى مخيم رفحاء، وبعدها الى امريكا، وبعد سقوط النظام عام 2003، ادعى بأنه من المجاهدين في الانتفاضة، وفي مخيم رفحاء، فكرم تكريماً رائعا في المنصب والتقاعد المحترم، مثل كل اللاجئين في مخيم رفحاء، في تكريمهم المبالغ به، في اختلاط الأخضر واليابس، في انتصار الدجل والتزييف دون تدقيق في سجلات سيرة حياة كل رفحاوي، وواظب في مطاردة (حنان) حتى وقعت في شباكه المنصوب بالزواج منها عام 2007. ولكن ناصب العداء والبغض للطفل (طاهر) فكان يستهزئ به بأن (حنان) ليس امه (- والدتك ! مسكين لا يعرف الحقيقة.

هنا انصدم الطفل وقال:

- لا أسمح لك ان تقول ذلك، أنها امي ولا حقيقة غير ذلك، ليس في الكون أحب الى قلبها مني) وبعد ذلك تحين فرصة نوم الطفل وحده في الغرفة، فهم في ارتكاب جريمة قتل، مثلما فعل مع (ثائر) ولكن تداركت (حنان) في اللحظة الاخيرة وفزعت عليه مستنفرة (- ماذا تفعل في غرفة الطفل ؟ اجبني) ولكي أخذ الحيطة والحذر، قررت ان ينام الطفل في غرفتها، رغم رفضه الشديد، وفي الاخير وبعد التحري والتحقيقات، وعثر على قرار المجلس العسكري، الذي يثبت عليه جريمة القتل بشكل صريح، واحالته الى المحكمة العسكرية، وأجبر تحت التهديد على الطلاق من (حنان) وأحيل الى الجهات المختصة ليحاكم بجريمة الغدر والخيانة، لينال عقابه العادل.... يقول الامام علي (ع) بصدد الغدر والخيانة (إياك والغدر فإنه أقبح الخيانة، وان الغدور لمٌهان عند الله بغدره، فها هو مهان في الدنيا قبل ان يلقى ربه).

***

جمعة عبد الله

 

تعد الواقعية في المسرح من الأساليب المسرحية عالمياً التي لها تأثير مباشر في الحركة الفنية عامة والمسرحية خاصة على نطاق واسع، وإنّها  تعد من أهم الأساليب المسرحيّة التي كان لها دور مهم في الفن المسرحي، وجاءت هذه المدرسة المسرحية من أجل إرجاع السمات الاجتماعيّة إلى طبيعتها في المسرح بعد أن أصبح المسرح مقتصراً على الجوانب المادّية والربح التجاري الذي كان السمة البارزة للمسرح قبل الواقعيّة، لذا فإنّ الواقعيّة قد أتت بثورة في الفنّ المسرحيّ قرّبته من المجتمع أكثر من غيرها من الأعمال الفنّية المسرحيّة التي سبقتها، لذا "استحدثت هذه الحقبة في تاريخ المسرح تقسيماً جديداً لصانعي المسرح، فبينما ولد المسرح في شكل وحدة فنّية تجمع بين النصّ والعرض ...أصبح التمييز واضحاً بين رجل الأدب، ورجل المسرح، والفنّان المحترف. ولقد غرق كلّ هؤلاء في موجات النصر والثورة، ولكنّ هوة عميقة قد فصلت بين المسرح والحقيقة الاجتماعيّة، وكان من أهمّ النتائج التي أحدثتها هذه الهوّة أنّ تناقضاً واضحاً أصبح يميّز بين الإبداع المسرحيّ من ناحية، وسقوط المسرح في حمأة التجارة من ناحية أخرى، وكان طبيعيّاً أن يتحوّل هذا التناقض أصلاً: بين الرجعية والتطور أو بمعنى آخر بين التخلّف والتقدم، وكان لابدّ لذلك من ثورة في الفنّ"(1)، حتّى تردم الهوّة التي حصلت بين المسرح والحقيقة الاجتماعيّة التي تشكّل طبيعة البناء الدرامي وهو في الحقيقة يعود إلى الناحية الاجتماعيّة الذي يسمهم في الكثير من القواعد المسرحيّة سواء أكانت في النصّ المسرحيّ أو العرض المسرحيّ، وأنّ المدرسة الواقعيّة قامت على المدرسة الطبيعيّة التي ابتدأت بها مرحلة التغيير والعودة إلى الإنسان، لكنّ المدرسة الطبيعيّة عملت على النظريّة البيئيّة التي تهتمّ بطبيعة البيئة بعيداً عن عواطف الإنسان وجوانبه الاجتماعيّة، إي إنّ "المدرسة الطبيعيّة تقوم بشكل كامل على نظريّة البيئة، ومن المسلّم به أنّ الكوائن الإنسانيّة لا يمكن أن تتجرّد من الوسيط الذي ولدت فيه، والذي تمّت تربيتها فيه، والذي يقرّر في الواقع طرائق إحساسهم، وتفكيرهم، وسلوكهم، ومعنى هذا أنّه ما من حدث دراميّ يولد من صراع بين العواطف الإنسانيّة، يمكن أن يعزل البيئة الاجتماعيّة التي ولد وتطوّر فيها، واتّجه نحو نهايته. فالمدرسة الطبيعيّة إذن لا تعطي قيمة للعاطفة الإنسانيّة في ذاتها، ولكنّها تنظر إليها في أحوالها المختلفة"(2) .

إنَّ الواقعيّة عملت على خصائص أخرى تختلف عمّا ذهبت إليه الطبيعيّة في نظريّة البيئة التي تبتعد عن الإنسان بوصفه قيمة كليّة داخل المجتمع، فهي تهتمّ بالإنسان بوصفه يمثّل الجماعة وليس فرداً بعينه؛ لذلك فإنّ المشتغلين في المسرح الواقعيّ يعملون على تصوير المجتمع من غير أن يجعلوه مثاليّاً، وهنا يعرضون كلّ ما هو موضوعي على حقيقته، على الرغم من قساوة ما يقدّم، وتقديم الحياة بشكل محايد إزاء الأحداث والشخصيّات والأفعال في الدراما، لذا فإنّ الواقعيّة تقدّم التمثيل الصادق للحياة الاجتماعيّة في إطار موضوعيّ بعيد عن الفرديّة أو الإغراق في الذاتيّة، وهي بذلك ترتكز على تقديم المجتمع وقضاياه، وكلّ ما يدور في هذه القضايا بشكل جماعي حتّى تكون الواقعيّة قد خالفت ما قبلها من المدارس المسرحيّة مثل الرومانسيّة والطبيعيّة، بقربها من الجانب الاجتماعيّ بإطاره الكلّي في هذا المجال(3) .

أمّا في ما يخصّ العرض المسرحيّ الواقعيّ فقد قدّم (ستانسلافسكي) رؤياه الفنّية في تقديم المسرح الواقعي اعتماداً على الفهم والصورة الواقعيّتين في مجال العرض المسرحيّ من خلال (مسرح الفنّ)، لذلك فإنّ "ما أفضت إليه جهود المسرح الفنّي من نتائج تؤكّد ذلك الخروج على الطبيعة (...)، فلم يكن من مهمّات هذا المسرح أن ينقل الحياة نقلاً تكراريّاً يوحي بالبلادة الفوتوغرافيّة – بل ينبغي أن يكون نقلاً يعتمد المعالجة الفنّية التي تعتمد التنظيم والمراقبة والتي جعلت من هذا المسرح يعبّر عن نفسه بصفته (فنّي) ولمّا كان الأمر كذلك فإنّ توزيع الممثّلين على خشبة المسرح وتبسيط الحركات، وأنسنة الأبطال، والدقّة الوظيفيّة في عناصر المشهد والديكورات، كان ذلك يسهم في إنشاء تعريف للإنسان في المكان في منهج يعتمد على عناصر الصراع الاجتماعيّ"(4).

هذا الصراع الذي جعل المخرج الواقعي يقترب أكثر من توظيف السمات الاجتماعيّة في العرض المسرحيّ من خلال عناصره المختلفة وأهمها (الممثّل الذي عمل عليه المخرج (ستانسلافسكي) في دعم تقنيّته الداخليّة مع نفسه والخارجيّة على جسده، وكذلك على الدور، ومن أهمّ الميزات التي عمل عليها في إنتاج ممثّل واعٍ في البناء الاجتماعيّ ما يخصّ المعايشة مع الدور من خلال تبنّي العودة إلى الحياة الاجتماعيّة من أجل تقمّص الشخصيّة التي يقدّمها استناداً إلى مرجعيّاتها داخل المجتمع نفسه؛ لأنّ الممثّل في المسرح الواقعي هو "مدرك لمهامّه الإبداعيّة (الفكريّة – الاجتماعيّة)، يسعى دائماً لتقويم تلك الظواهر الحياتيّة التي يعرضها على خشبته، ويصدر عليها حكمه الاجتماعيّ، الأخلاقيّ والسياسيّ.

إنّ ممثّلي مثل هذا المسرح لابدّ لهم من ألّا يفكّروا بأفكار الشخصيّة والشعور بمشاعرها فحسب، بل لابدّ لهم من أن يفكّروا ويشعروا حيال أفكار ومشاعر الشخصيّة، أن يفكّروا حول الشخصيّة، أنّهم لا يرون مغزى فنّهم في أن يعيشوا مشاعر دورهم أمام أعين المتفرّجين، ولكنّ هذا المغزى قبل كلّ شيء في خلق الشخصيّة الفنّية التي تحمل فكرة محدّدة قادرة على كشف حقيقة موضوعيّة تهمّ الناس"(5)، هذه الحقيقة الموضوعيّة من المجتمع الذي ينتمي إليه الممثّل والشخصيّة في بناء شكل درامي قادر على حمل المشاعر الإنسانيّة التي توظّف ما يتمّ تقديمه إلى الجمهور في إطاره الواقعيّ المأخوذ من البيئة الاجتماعيّة نفسها؛ لذا فقد عمل المخرج الواقعي على إبداع في عمل الممثّل في العرض المسرحيّ الواقعيّ كون المسرح يقدّم حقيقة موضوعيّة تهمّ الناس كجمهور مسرحيّ يطّلع عمّا يدور في حياتهم الاجتماعيّة من خلال العرض المسرحيّ، والذي عمل المخرج المسرحيّ الواقعيّ إلى إرجاع العرض المسرحيّ إلى الصيغ الاجتماعيّة، ومن بين هؤلاء المخرجين الواقعيين ستانسلافسكي الذي ردّ " المسرح إلى أصوله الإنسانيّة، وأكّد ربطه بالحياة الحقيقيّة للمجتمع الإنساني، متجاوزاً الحدود النقليّة الخارجيّة للطبيعيّة عند (أندريه أنطوان)، ولم يكن (ستان) مجرّد مخرج يريد أن يقدّم للجماهير عروضاً مسرحيّة مُرضية، بل كان أستاذاً يصوغ علم المسرح من جديد"(6) .

إنّ المجتمع الذي يُعَدّ الركيزة الأساسيّة التي استهدفتها الواقعيّة في عروضها المسرحيّة من خلال تقديم أعمال لكتّابها الواقعيّين من أمثال (أنطوان تشيخوف) في (بستان الكرز) و(الشقيقات الثلاث) و(الخال فانيا)، فقد حاول المخرج الواقعيّ أن يقترب أكثر من دمج الاجتماعيّ بالمسرح حتّى يصبح المسرح الاجتماعيّ خيرَ ممثّل للواقعيّة الفنّية في نتاجاتها الدراميّة، لذلك فإنّ ما قام به ستانسلافسكي هو النزوع " إلى الواقعيّة Realism في محاولة لتصوير الحياة الاجتماعيّة من خلال منهجه المعروف بالنظام The System، فإنّه كان يؤوّلها ويفسّرها على أنّها ممثّلة للفرديّة الإنسانيّة على المستوى العالمي، أي إنّه في مقدورها دمج مداولات، وإشارات دالّة على طبقة الفرد وعلى وضعه الاجتماعيّ والتاريخي" (7)، وهذا التطبيق هو ما يجعل السمات الاجتماعيّة في الشخصيّة الدراميّة الواقعيّة وعناصر العرض الأخرى تشتغل وفق المفهوم الاجتماعيّ في المادّة الدراميّة في العرض المسرحيّ.

ومن المدارس المسرحيّة الأخرى التي كان لها اهتمام بالسمات الاجتماعيّة في العرض المسرحيّ، (الملحمية)؛ هذه المدرسة التي اهتمّت بالبعد الاجتماعيّ في كلّ من بناء العرض المسرحيّ والجمهور المتلقّي من خلال جعل المجال الاجتماعيّ فاعلاً في كسر الإيهام لدى المتلقّي في العرض المسرحيّ، لذلك فإنّ هذا المسرح قد عمل القائمون عليه على توظيف المنحى الدرامي من أجل التغيير الاجتماعيّ والوصول إلى مديات أعمق في داخل المجتمع من أجل تحفيزه وتغيير كلّ ما هو غير ملائم، إذ يرى (بريخت) في هذا المجال: "ومع ذلك فمن الضروري القول: إنّ تغلغل المسرح في الحياة الاجتماعيّة لم يكن عميقاً بالدرجة الكافية. إنّه كان، كما لاحظ النقد ذلك، بهذا القدر أو ذاك (سبتوماتولوجيا، علم الأعراض المرضيّة) معالجة سطحيّة للظواهر الاجتماعيّة، إنّه لم يتمّ الكشف عن القوانين الاجتماعيّة الحقيقيّة، بالإضافة إلى ذلك فإنّ التجارب التي أجريت في ميدان فنّ الدراما أدّت في النهاية إلى تهديم كامل تقريباً لموضوع وشخصيّة الإنسان. لقد فقد المسرح العديد من وسائل تأثيره الفنّية"(8)، فالتأثير في إيجاد سبل حقيقيّة في التغيير الاجتماعيّ، بدلاً من سلب الجمهور وعيه في مشاهدات اندماجيّة لا تدلّل على حقيقة البحث في الجانب الاجتماعيّ، وأهمّ المشكلات التي من الممكن أن يقدّمها المسرح لحلّ هذه القضايا والمشكلات، بدلاً من تغييب تفكير المتلقّي في جوانب أخرى بعيدة عن حياته اليوميّة، لذا فقد عملت الملحميّة على التوغّل في وعي المتلقّي ومحاولة كسر إيهامه واندماجه في بعض الجوانب السلبيّة التي تبعده عن واقعه الحقيقي، إنّ الملحمية لم تأتِ باهتمامها بالجانب الاجتماعيّ بصورة مفاجئة، بل هي امتداد لما قبلها من المسارح التي تبنّت وجهة النظر هذه، ومن أبرزها المسرح السياسي (لأرفين بسكاتور) الذي عمل على تحويل "قاعة العرض إلى قاعة اجتماعات، كان المسرح بالنسبة لـ(بسكاتور) برلماناً والجمهور بمثابة هيئة تشريعيّة، لقد طرحت أمام البرلمان المشكلات الاجتماعيّة الكبرى بكلّ جلاء، هذه المشكلات التي تنتظر الحلول بإلحاح، وبدلاً من خطبة النائب حول هذه المجموعة من الظروف الاجتماعيّة الصعبة أو تلك، تطرح هنا النسخة الفنّية لهذه الظروف "(9). هذه النسخة الفنّية التي عمل عليها بسكاتور في استخلاص أهمّ المشكلات التي يجب أن تحلّ في مجال التغيير الاجتماعيّ بطريقة فنّية بديلة عن الرقابة السياسيّة في طرح الموضوعات الاجتماعيّة المختلفة التي قد لا تصل إلى أذهان المشتغلين بالحقل السياسي والاجتماعيّ معاً، فقد عمل بسكاتور على توظيف المسرح بأساليبه وتقنيّاته وعناصره من خلال العرض المسرحيّ ذي البعد السياسي والطبيعة الاجتماعيّة لإيجاد فضاء فنّي قادر على حمل الهموم الاجتماعيّة للمجتمع وأفراده الذين لم يصل صوتهم إلى الفضاء السياسيّ، وكذلك تقديم وسيلة نافعة في صدم وتحريض العاملين في هذا المجال وتفاعلهم مع القضايا الاجتماعيّة؛ لذلك قدّم المسرح السياسي هذه القضايا على "مستوى مضمون العرض المسرحيّ، فإنّ بسكاتور يعتقد أنّ المسرح السياسي يجب ألّا يكتفي بعرض الأحداث الفرديّة، بل يتخطّى ذلك إلى تحليل انعكاساته الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وإلى تقرير الوقائع التاريخيّة المتّصلة بها كافّة، بشكل ينقل الصورة الدراميّة، إلى الحدود والآفاق الملحميّة، وذلك من خلال إكساب العرض المسرحيّ الطابع القصصي الوصفيّ مع اللجوء إلى الوسائل التوضيحيّة كافّةً، (كالمعلّقات، واليفط، والبيانات، والشرائح الزجاجيّة، والأفلام التسجيليّة)"(10)، وهذه الأدوات التي يستخدمها بسكاتور في إنتاج العرض المسرحيّ  يحاول فيها توظيف المجال والفضاء الدرامي في اشتباك حقيقيّ مع الظرفي السياسي والاجتماعيّ من أجل نقلها إلى ذهنيّة المتلقّي واطّلاعه بحقيقة ما يدور حوله من مشاكلات كبرى في هذه المجالات ومن أبرزها المجال الاجتماعيّ.

إنّ المسرح السياسي يعمد إلى بناء مفرداته المسرحيّة بالاستناد إلى السمات الاجتماعيّة وما تقدّمه للمسرح من فهم ونتاج كاملين للمخرج والعاملين في هذا المجال؛ من تقديم ما يتوافر لهذه العروض من إمكانيّة تواصل ثقافيّة مع الجمهور المسرحيّ الناقل والحامل للسمات الاجتماعيّة المشتركة نفسها مع العرض المسرحيّ السياسي عند بسكاتور؛ لذلك فقد عارض المسارح التي لا تهتمّ بالشأن الاجتماعيّ، وتركّز على جوانب بعيدة عن الهمّ الاجتماعيّ وموضوعاته الكبيرة التي تؤثّر في حياة المجتمع، "وتعود أسباب تغليب المضامين السياسيّة في الخطاب المسرحيّ لدى (أرفين بسكاتور)، إلى معارضته القويّة للمسرح التعبيري الذي اتّجه إلى أساليب عاطفيّة تترجم أفكار الشخصيّات وخيالاتها وأحلامها ووقع العالم الخارجيّ على ذواتها، وتنحو منحى تجريديّاً وجماليّاً في استخدام الديكور والإضاءة الملوّنة والأداء التمثيلي، وهذا ما يفسّر كون الشخصيّة المسرحيّة في مسرح بسكاتور تراجعت بالحدث إلى المكانة الثانية لفائدة المضمون السياسي الذي احتلّ المركز الأوّل بهدف تعرية الواقع وتناقضاته الاجتماعيّة والثورة عليه"(11)، وهذا التراجع في المجال الدرامي على مستوى التقديم للشخصيّة الدراميّة في جوانبها الإبداعيّة راجع لكون بسكاتور قد ركّز على آليّات النقد السياسي والاجتماعيّ، أي تقديم عرض مسرحيّ يحتوي على نقل المشكلات الاجتماعيّة والسياسيّة الكبرى من خلال العرض المسرحيّ، دون أن يركّز أوّلاً على الجانب الدرامي والفنّي وإبعاد الجانب الاجتماعيّ والسياسي، بل عمل العكس في مسرحه السياسيّ، وهذا ما دعا (بريخت) الذي تأثّر بالمسرح السياسي على مستوى التبنّي الاجتماعيّ للموضوعات لأن يولي أهميّة للمجال الفنّي بتقنيّات جديدة أكثر فاعليّة فنّية ودراميّة من المسرح السياسي، لقد "مهّد بسكاتور لتجربة برتولد بريخت الغنيّة بمراحلها الثلاث: مرحلة الشباب، مرحلة المسرح التعليمي، ومرحلة المسرح الملحميّ.

تتميّز اقتراحات بريخت - ولاسيّما في صيغها الملحميّة، بإعطاء الأهميّة الشديدة لفضاء الفرجة المسرحيّة بمكوّنيه السينوغرافي واللعبي (...) فالمستهدف الحقيقيّ في المسرح الملحميّ هو الجمهور الذي يجب تحريره من سلبيّته كي يستطيع امتلاك الجرأة على المناقشة والتفكير وتحصيل المعرفة"(12)، التي كانت غائبة في المجال الاجتماعيّ لدى الجمهور المسرحيّ، إي إنّ مسارح مثل الواقعيّة والتعبيريّة وغيرها حاول بريخت أن يقدّم بديلاً عنها، وخصوصاً في المجال الخاصّ بالفضاء المسرحيّ الموجّه للجمهور، أي مجال فضاء التلقّي الذي أصبح فيه الجمهور مغيّباً عن قضاياه كافّة عندما يأتي إلى العرض المسرحيّ في ما سبق الملحميّة، ومنها القضايا الاجتماعيّة كمواضع لابدّ أن توظّف في العرض المسرحيّ؛ لذا عمل على التوغّل في الفكر الخاصّ بالتلقّي وجعله فاعلاً متحفّزاً بدلاً من الاندماج والإيهام بالعرض المسرحيّ؛ لذا فإنّ "بريخت كان أبرز المعارضين لواقعيّة (ستانسلافسكي) وايهاميته بوصفها خداعاً للمتفرّج، وعلى اعتبار أنّ الإيهام الكامل بالواقع مستحيل إذ إنّ المتفرّج لا يمكن أن ينسى أنّه في مسرح ويشاهد عرضاً مسرحيّاً، وليس شريحة من الحياة، وإذ يندمج للحظات مع الأحداث أو يتعاطف مع البطل في موقف ما فإنّ الاندماج والتعاطف لا يستمرّان طويلاً، كان بريخت يريد فصل المتفرّج عن الأحداث التي تقع على الخشبة لكي ينظر إليها نظرة مراقب وناقد ويحكم على ما فيها من تناقضات، مع ذلك فهو يلغي الجدار الرابع ويفتح فضاء المسرح على فضاء الصالة"(13)، الخاصّة بالجمهور وهنا يأتي بريخت بفلسفة الانفتاح بين العرض المسرحيّ والجانب الاجتماعيّ، أي بين خطاب العرض المسرحيّ وفضاء التلقّي الذي من الممكن أن يكون مفكّراً وناقداً، وبالتالي مشاركاً واعياً في تشكيل صورة العرض المسرحيّ، ويُعَد المتلقّي هو مَن يحقق معنى العرض المسرحيّ فإن كان دوره سلبيّاً سيكون المعنى المتحقَّق سلبيّاً دون أيّة إضافات معرفيّة واعية من المتلقّي، وإن كان المتلقّي واعياً لما يقدَّم سيكون مشاركاً فاعلاً في تشكيل المعنى لهذا العرض المسرحيّ.

عمل بريخت على توظيف عدّة تقنيّات في الوصول إلى المبتغى الاجتماعيّ العميق الذي حاول أن يصل إليه ومن هذه التقنيّات قضيّة الشخصيّات التي ينبغي أن تكون في إطار هذا العمق الاجتماعيّ وفي كسر الإيهام، أي إنّ بريخت عمل على إيجاد شخصيّات مختلفة عن الشخصيّة التقليديّة في العرض المسرحيّ كما في الواقعيّة أو التعبيريّة أو غيرها من المدارس المسرحيّة الأخرى فهو يرى أنّ "الشخصيّات لا ينبغي لها أن تكون منهكة في الحدث، إذ إنّه يلجأ إلى التعريف بالشخصيّات وعلاقاتها ببعضها وبالأحداث تعريفاً مباشراً، ولا يتستّر في الحوار والوقائع، فالشخصيّة يمكن أن تقدّم نفسها إلى الجمهور. وغالباً ما يتنبّأ (الكورس) بالأحداث، أو ربّما يحكم عليها أو يزوّد المتفرج بحقائق غير معروفة لديه، كما أنّ الموسيقى والأغاني عناصر تستقلّ بذاتها، فهي لا تتحرّك باتّجاه الكلمات، إنّما بالاتّجاه المناقض تماماً لتخلق بذلك علاقة جدليّة معها، لافتة انتباه المتفرّج إلى الاحتمالات المختلفة التي يجب أن يفكّر فيها" (14)، من أجل الوصول إلى العمق الاجتماعيّ الذي دعا إليه بريخت في قضيّة الهدف من المسرح، ولاسيّما في بعده الاجتماعيّ والفكري الذي وجد من أجله.

وعمل بريخت على توظيف تقنيّة جديدة تسهم في كسر الإيهام الذي أصبح السمة البارزة في الأساليب المسرحيّة السابقة التي أبعدت المتفرّج عن طبيعته التي أوجدها المسرح الإغريقي من قبل، وهي المشاركة الفاعلة في الطقوس الدينيّة والاجتماعيّة أثناء العرض المسرحيّ الذي نشأ من رحم هذه الطقوس، لذا فقد عمل بريخت على إيجاد تقنيّة كسر الإيهام من خلال التغريب الذي يحمل في داخله سمة اجتماعيّة تسهم في رفد العرض المسرحيّ بذلك، وجعل هذه التقنيّة تجعل المتلقّي متسائلاً ومتنكّراً في رفض بعض الأمور الاجتماعيّة التي جعلته إنساناً غير ذي معنى بإنسانيّته؛ لذلك فإنّ التغريب هو من يؤكّد على كسر الإيهام في جانبيه الاجتماعيّ من جهة والدرامي من جهة أخرى المتمثّل بالإيهام والاندماج في العرض المسرحيّ، لذا فإنّ التغريب "هو وسيلة لتحرير الجمهور من الرواسب الاجتماعيّة، والحدّ من تأثيرها عليه لحظة مشاهدة العرض لينشغل بالتساؤلات المثيرة للنظر والتشكيك في كلّ ما يحيط به، نظرة متشكّكة ونقديّة؛ لذلك حرص بريخت على إبقاء مسافة بين الممثّل والجمهور تفادياً لاندماج هذا الأخير في الأولى، وإبقاء مسافة بين الممثّل والشخصيّة التي يمثلها حتّى لا يقع توحّد بينهما، لأنّ المسرح مسرح وليس الحياة ذاتها، ممّا يعني أنّ وظيفة العرض الملحمي لا تنتهي عند حدود ونهاية العرض"(15).

ومن التقنيّات الأخرى التي عمل بريخت على توظيفها في العرض المسرحيّ الملحميّ من أجل الوصول إلى سمات اجتماعيّة ذات بعد وعمق فكريّ يسهم في إرجاع الجانب الاجتماعيّ إلى المسرح والعرض المسرحيّ بطريقة تختلف عن المسارح الأخرى، عمل بريخت على توظيف (الجست) ووضع جسد الممثّل في مجال الحركة والإيماءة على المسرح، "إنّ مجال الأوضاع التي تتّخذها الشخصيّات مع بعضها البعض يسمّى (المجال الإيمائي)، حيث أنّ وضع جسم الممثّل، وطريقة النطق وتعبيرات الوجه، كلّها تتحدّد من خلال موقف الشخصيّات بعضها مع بعض (...)، فالمسرح الملحميّ قام بدور كبير تجاه أداء الممثّل كونه حاملَ علاقة مسرحيّة، تحدّه من ناحية علاقة رمزيّة تجعله شفّافاً، وتؤكّد من ناحية ثانية أهميّة حضوره المادّي والاجتماعيّ، فهناك عنصران يتنافسان داخل حركة المتفرّج الفاعلة، هما التفكير من جهة ومن جهة ثانية كلّ ما ينتج عن جسد الممثّل ليبثّ الإحساس عند المتفرّج"(16)، وهو هنا يتقاسم وفق هذه التقنيّة الرؤية الاجتماعيّة الخاصّة بالممثّل وجسده من جهة والمتفرّج المتلقّي المتفاعل والحسّاس بهذه التقنيّة الموظَّفة في العرض المسرحيّ من جهة أخرى، لذا فإنّ بريخت أراد من هذه التقنيّات المختلفة (البعد الثالث للشخصيّة، والتغريب، والجست) خلق مسرح ملحميّ مغاير لما سبقه، ومن هذه التقنيّات الأخرى التي حاول بريخت أن يوظّفها في عمليّة بناء النصّ والعرض المسرحيّين من مشاهد منفصلة وليست متّصلة، أي إنّه استخدم "تقنيّة البناء الملحمي من مشاهد منفصلة، وأغانٍ، قطع الحدث، والتركيز على الأرضيّة الاجتماعيّة التي يتحرّك فيها الحدث وخلافه، وفي الوقت نفسه حاول التركيز على ملامح الشخصيّة التي يعرضها على خشبة المسرح"(17)، حتّى يصل بها إلى السمة الاجتماعيّة التي يوظّفها المسرح الملحميّ في العرض المسرحيّ الذي دعا إليه بريخت من أجل تحقيق الحدود الاجتماعيّة والفكريّة للمسرح ومناقشته لقضايا الإنسان دون إغراقه في المحاكاة والاندماج والإيهام التي تذهب بإمكانيّة المتفرج الفكريّة والعقليّة لطرح التساؤلات ومناقشة القضايا وأهمّها الاجتماعيّة، كون الإنسان كائناً اجتماعيّاً والمسرح لا ينفصل عن هذه السمة للعرض المسرحيّ.

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

.................

الهوامش

1. سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، (الكويت: عالم المعرفة، 1979) ص38.  

2. المصدر نفسه: ص39، ص40.

3. جبار عودة العبيدي: د. صلاح مهدي القصب، مدخل في الدراما وتدرجها التاريخي، (صنعاء، دار الفتح للنشر والتوزيع، 1992)، ص83، ص85.

4. أ. د يوسف رشيد، الإنشاء المسرحيّ وعناصره (بغداد: من إصدارات مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربيّة، 2012) ص31.

5. بوريس زاخافا، إعداد الممثّل، ترجمة: توفيق المؤمن (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1998) ص40.

6. سعد أردش. المصدر نفسه، ص56.

7. دكتور مدحت الكاشف: المسرح والإنسان، (القاهرة، الهيئة العربيّة العامة للكتاب، 2008)،ص22.

8. برتولد بريخت، نظريّة المسرح الملحمي، ترجمة: د. جميل نصيف (بيروت: عالم المعرفة، ب، ت) ص11، ص112.

9. برتولد بريخت، المصدر السابق، ص113، ص114.

10. سعد أردش، المصدر نفسه، ص140، ص141.

11. د. عبد الرحمن بن إبراهيم، الحداثة والتجريب في المسرح  (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2014) ص149.

12. سعيد الناجي، التجريب في المسرح (الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، 2009) ص37.

13. سامي عبد الحميد، نحو مسرح حي (بغداد: دار الشؤون الثقافيّة العامة، 2006) ص41.

14. رياض موسى سكران، مسرحه المسرح (غداد: دار الشؤون الثقافيّة العامة، 2001) ص49.

15. د. عبد الرحمن بن إبراهيم، المصدر نفسه: ص151. 

16. رياض موسى سكران، المصدر نفسه، ص50، ص51.

17. الدكتور أحمد سخسوخ، اتجاهات في المسرح الأوربي المعاصر (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2007)  ص109.

قراءةٌ هيرمينوطيقية، أسلوبية، رمزية، دينية، سيميائية

هذه القصيدة تكتبُ مديحها النبوي عبر لغةٍ تقوم على استدعاء السيرة والآية والأثر، وتعقدُ صُلحاً بين التاريخ المقدّس والوجدان الحاضر. إنّها نصّ تجربةٍ إيمانية بقدر ما هو بناءٌ جمالي؛ لذلك يلزم مقاربتُه بمنهجٍ مركّبٍ يجمع: الفهم التأويلي (الهيرمينوطيقي)، والوصف الأسلوبي، والتحليل الرمزي والسيميائي، والإضاءة الدينية، مع الغوص في البنى النفسية للخطاب.

أولًا: الأفق الهيرمينوطيقي - بين النصّ وسياق القداسة:

تنطلق القصيدة من تحصينٍ تأويلي مسبق: فالقارئ والمؤلفة يتشاركان «معرفةً سابقة» بسيرة الرسول ﷺ ومروياتها؛ وهذا ما تسمّيه الهرمنيوطيقا بـالتحام الأفقين (غادامر): أفق المتلقّي المعاصر وأفق الحدث المؤسِّس.

-صيغة المطلع: «خيرُ اليقين… يقينُ قلبٍ قد صدق» تُؤسّس تبادلية بين الإيمان والصدق؛ فاليقين ليس معطى معرفيّاُ فحسب، بل تقوٍّ للباطن يُترجَم قولًا وفعلاً («ولقد نطق»). إنّها دائرة تأويلية: القلب يصدّق فينطق، والنطق يزيد التصديق.

الحضور المكثّف لمفاصل السيرة (الغار/ اقرأ/ بدر/ أحد/ الإسراء/ عام الفيل) يجعل القراءة تتأرجح بين التاريخ بوصفه ذاكرةً والرمز بوصفه معنىً حاضراً، الواقعة تُقرأ باعتبارها «نصّاً مفتوحاً» يُنتج دلالاتٍ في كلّ زمن.

---ثانياً: البنية الأسلوبية - موسيقى الحروف وصياغة الخطاب:

1. الخطاب الندائي والابتهال:

يتردّد النداء الضمني والصريح: «روحي فداك»، «يا نور وجهك»، «اشفع لنا». إنّه أسلوب مخاطبة يُزيل المسافة بين «المديح» و«المتعبَّد»، فينتقل النصّ من الوصف إلى المناجاة.

2. التوازي والترصيع والإيقاع الحرفي:

-رويٌّ يغلب عليه القاف/الكاف/الحاء/القاف (… ق/ك/ق)، يمنح صرامةً إيقاعية مناسبةً لجدّ الخطاب الديني.

-تكراراتٌ محوريّة: «قد صدق/ قد وثق/ قد خلقنا/ قد علمت» تصنع إيقاعَ يقينٍ وتوكيد.

-طباقٌ وتضاد: «الظهيرة/الغسق»، «الجهارة/العلن» يوسّعان المدى الدلالي من فيض النور إلى سكون الظلّ.

3. جملة المشهد:

مقاطع سردية مكثّفة تُبنى بصيغة الفعل الماضي: «جاء، أشرق، خفق، شرَق، برق»؛ هذا يحوّل التاريخ إلى لوحات متتابعة و«مونتاج شعائري».

4. التشبيه والتمثيل:

«كنور بدرٍ ينفلق»، «عطوراً كالعبق»- تشبيهات حسّية تضفي محسوسيةً على المجرد القدسي.

ثالثاً: الرمزية والسيمياء - معجم الضوء والماءِ والعطر

وفق رومان ياكوبسون، تتكثّف الوظيفة الشعرية حين تصير اللغة موضوعاً لذاتها. هنا تتشكّل حقلٌ سيميائي بثلاثة محاور كبرى:

1. الضوء/النور:

«الضياء يشعّ، نورٌ يشعشع، أشرق، الشفق، ينفلق». العلامة السيميائية «نور» تُحيل إلى:

الدلالة القرآنية («قد جاءكم من الله نور»)،

- الدين الجمالي (الهداية/الكشف)،

- التجربة الباطنية (السكينة/الطمأنينة).

إنّها مَفْعَلة كشف: كلّ ذكرٍ للنور يوازي انتقالًا من الحجب إلى التجلي.

2. الماء/الغيث:

«وحْيٌ همى بالغيث»، «مرّ من بين الأصابع عذب ماء» - الماء هنا علامة حياة وتطهّر وبركة؛ سيميائيّاً، هو سند الحضور النبوي الذي ينعش الجماعة.

3. العطر/العبق:

«عطورًا كالعبق»، «مسك الختام» - رائحةٌ تُدرِكُها المخيّلة بوصفها دليل القرب؛ في الأنثروبولوجيا الدينية: العطر قرينةُ قداسة (حضورٌ لا يُرى ويُشَمّ).

العناصر الطبيعية (جبل أُحد/الجذع/البدر) تتحوّل إلى شهود: «واهتزّ أُحد»، «جذعٌ… يبكي»؛ هنا تأنسن الطبيعة وتتديّن، فيتّسع الفضاء الدلالي من الإنسان إلى الكَوْن.

رابعاً: الإضاءة الدينية - من السيرة إلى العقيدة:

- المقام النبوي: القصيدة تُجري خطابها على قواعد المديح مع التزام توحيد الوجهة لله عز وجل («سبحان من أسرى…»، «ربّك»). إنّها دين (لاهوت) مديحي يوازن بين التبجيل وسلامة الاعتقاد.

-النبوة والرسالة: «أتممت كلّ مكارم» استحضارٌ لمقصدٍ نبويّ جامع: تتميم مكارم الأخلاق؛ يتحوّل البيت إلى مبدأ قيمي يربط العقيدة بالسلوك.

-الشفاعة والرجاء الأخروي: يختم النص بـ«اشفع لنا يوم الحساب»؛ البنية الدرامية تتحوّل من رواية الماضي إلى رجاء المستقبل، فتكتمل الهندسة اللاهوتية: (تجلي/اتباع/رجاء).

خامساً: القراءة النفسية - من التماهي إلى السكينة:

بنية الخطاب تكشف حركةً وجدانية تُشبه ما تصفه التحليلات النفسية للدين (فروم/يونغ):

1. تماهٍ مع المثال الأعلى: «أنت أعظم من خُلق».

2. تحرّرٌ من القيود: «حلّت قيودي مثل عبدٍ قد عتق» - صورة العتق تُحيل إلى الفكاك من القلق الوجودي.

3. تأسّي واتباع: «وعلى خطاك مشت خطى قلبي» - انتقال من الإعجاب إلى اقتداءٍ مُطهِّر.

4. سكينة وإشباع وجداني: مركزها النور/العطر/الماء بوصفها مثيراتٍ حسّية/روحية تُهدّئ جهاز النفس وتوحّد شتاتها.

الجماعة متصوّرةٌ في أكثر من موضع («أحباء»، «المؤمنين»، «أمّة»)؛ فالحبّ النبوي يتحوّل جمعيّاً يمنح الهوية تماسكاً.

سادساً: المقارن النصّي- السيرة والقرآن والتاريخ:

عام الفيل/الإسراء/الغار/اقرأ/بدر/أحد- مفاصل مؤسسة يتناصّ معها النصّ على نحوٍ وظيفي لا تزويقي؛ كلّ مفصل محطة حجّة تُعيد تذكير المتلقي بأن المحبة مؤسَّسةٌ على شاهدٍ من التاريخ والوحي.

وقوله تعالى:

«اقرأ… وربّك… خلقنا من علَق»: إعادة صياغة بلاغية للآيات الأولى؛ تلجأ إلى التقديم والتأخير لتغليب لحن القصيدة دون إخلالٍ بالمقصد.

سابعًا: اقتصاد الصورة وبناء المشهد:

-مشاهد لامعة قصيرة:

«نورًا يشعشع في الأفق» (لقطة بانورامية/كشّاف).

«جذعٌ… يبكي» ( انفعالي).

«أُحدٌ يهتزّ» (لقطة حركة/كونية).

هذا «المونتاج» يُبدّل زوايا النظر ويمنح النص ديناميةً تصويرية تُبعده عن الرتابة.

-الزمن الشعائري: يتناوب الماضي المؤسِّس والحاضر المصلّي والمستقبل الرجائي؛ فيُصاغ زمنٌ قدسيٌّ حلوليّ تتجاور فيه الأزمنة.

ثامناً: تقويمٌ نقدي وإشارات تطوير:

-نِقاط قوّة:

معجمٌ دلاليٌّ مُنسجم (نور/ماء/عطر)،

-إحكامُ الرويّ والإيقاع التوكيدي،

-توظيفٌ واعٍ لوقائع السيرة بوصفها حججًا وجدانية وعقلية،

-انتقالٌ ناجح من المديح إلى المناجاة فالشفاعة (دراميةٌ روحيةٌ صاعدة).

رؤيتي كناقد للقصيدة من الناحية الأسلوبية:

1. أحياناً تتكاثر أدوات التوكيد («قد/لقد») في سطرٍ واحد؛ يمكن اقتصاد بعضها لاستدامة الليونة الإيقاعية.

2. بعض الشواهد التاريخية القويّة (بدر/أحد) تسمح بلمسة صورةٍ إضافية تزيد الخصوصية (مثلاً: تشخيصُ «الملائكة/الرجز/أثر الغبار» بأسلوبٍ مجازيّ واحد لا يُغرق السرد).

3. يمكن توسيع حقل الأخلاق العملية (عدالة/أمانة/رحمة) ببيتٍ أو سطرٍ يهبط من المجاز إلى سلوكٍ يوميّ يُجسّد «مكارم الأخلاق».

- خاتمة:

تؤلّف قصيدة ريما خضر معماراً مديحيّاً ينسج من النور والماء والعطر سيرةً موجزةً مفعمةً بالدلالة، وتُحكم صلتها بين التاريخ المؤسِّس والوجدان المعاصر. بمنطق الهرمنيوطيقا، النصّ لا يكرّر السيرة بقدر ما يؤوّلها؛ وبمنظور الأسلوبية، يشيّد إيقاع يقينٍ قوامه التوازي والتكرار؛ ووفق الرمزية والسيمياء، يفعّل شبكة علامات تُحوّل الوقائع إلى أيقونات هداية؛ ودينياً (لاهوتياُ)، يحفظ ميزان التوحيد ومقاصده؛ ونفسياً، يُحدث ترميماً وجدانياً عبر التماهي والسكينة والرجاء.

بهذا المعنى، ينجح النصّ في جعل المديح خبرةَ حضورٍ لا «حكايةَ غياب»، وفي تحويل الذكرى إلى وعدٍ ملتوٍ بالنور: «خيرُ اليقين… يقينُ قلبٍ قد صدق».

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

خَيْرُ اليقيـنِ... يَقيــــنُ قلبٍ..

قد صَدَقْ..

كـــرسول ِ عشْقٍ في الهوى

ولقد نَــطَقْ..

*

ماذا رأى؟!

ولقد رأى...وَحْـــياً همى

بالغَيثِ من ربٍّ كريمٍ

قد وَثقْ..

*

برسولِ حُبّ ٍ وانتصارٍ لِلأُلى..

شــاؤوا المحبـــَّة َ

في الظهيرة ِوالغَـسَقْ

*

عاهدتُ حُبـــَّكَ

في الجهارة ِ والعَلَنْ..

مثلَ المُتــيّم ِ

أنتَ أعظمُ مَنْ خُلِقْ.

*

وعلى خُطاكَ مَشَتْ خُطا قلبي التي

حَلَّتْ قيودي مِثلَ عبدٍ قدْ عُتِقْ..

*

سبحان من جَعلَ الضياءَ يشعُّ من ْ

وجهٍ يُضيءُ...كَــنُورِ بدْرٍ ينْفلِقْ..

*

روحي فداكَ وكلُّ روحٍ لا تفي

بوفاءِ حُبّـِكَ يا عَـطوراً كالعَــبَقْ..

*

ماذا أرى ياربِّ ...عفــوَكَ..

في المنـام..؟!

إنّي أرى نوراً يشعشعُ في الأُفُقْ

يا نورَ وجهِــكَ حين جئتَ

(بعام ِ فيلْ)..

والكونُ أشرقَ حيْنَها..

ولقد خَفَقْ..

*

عيسى وقد أنبأ بأنّــكَ بعدَه

تأتي نبــيّاً...أنتَ أفضلُ مَنْ لَحِقْ..

*

لكَ كلُّ اسمٍ قد حُمِدْ..

ولقد زَها..

في المُصْحَفِ المحفوظِ..

كنتَ كما الأَرقْ..

*

في المَدْحِ...هــل تكفي بيوتٌ من وَرَقْ

في حُسْنِ وجهــِكَ؟! كــلّ حُسْنٍ .لا أَلَقْ..

*

في غارِكَ المهجورِ ..كنتَ المصطفى

جبريل فيه قد تجلّى..

بل شَرَقْ.

في الأربعين أتـاكَ وحيٌ قائلاً:

اِقرأ...

: وكيف لي هذا النُّطُقْ؟!

*

بلسانكَ العربيّ قد كان َ الشَّفَقْ

اقرأْ.. وربّــِكَ قد خُلِقْنــا من عَلَقْ..

*

مَنْ غَيْرُ أَحْمَدَ قد سَمِعْ..

صوتَ الأُلى هم في القبورِ ..وفي العُمُقْ؟!

*

في (بدرَ)...كانت واقِعَةْ

الكــلُّ لاقى حَتْــفَهُ..

وكفــاكَ ربــُّكَ..قد عَلِمْتَ بِمَنْ سُحِقْ..

*

قد مــرَّ من بين الأصابع ِ..

عَذْب ُ ماءْ..

للّهِ عِــزّتُهُ ...وللحِبِّ النبيّ الحقّْ...

*

جذْع ٌ إذا في الناس كنت خطيبَهم..

يبكي..إلى أن تلْمسَ الكفُّ بِرِفقْ..

واهتزَّ (أُحْدٌ) إذا مَداسُك قد وَقَعْ

فوقَ الجَبَلْ..

سبحانـَه...طَرَقَ الطُّرقْ.

*

سبحان مَنْ أسرى بِخِلٍّ  ليلة ً

من أرضهِ نحوَ السما حتى بَرَقْ.

*

"من غَشَّنا.."..هذا كلامُ ساطِعٌ

يمحو ذنوباً

أو يعاقِبُ منْ فَسَقْ.

*

أللـه قد صلّى عليك ومُلكــهُ

خير َ الصلاة ِ ,أتمَّ تسليم ٍ بِحَقْ.

*

نورُ الهدى.. والكائناتُ ضياءُ

وبُعِثت نوراً..

أمْرَ خَيْرٍ ..قد صَدَقْ.

*

قلتَ: الرسالةُ  أُنْجزَتْ في وعْدِها

أتممت َ كلَّ مكارم ٍ وبكُلِّ خُلْقْ.

*

فُقراءُ من بعد ِ الفراق ِ وكم هَفَتْ..

أرواحُنـــا لِلقاكَ..

إذْ.. قدْ كان فَرقْ

*

مِسكُ الخِتامِ إليــك َ يا خير َ الورى

عَطّرْ ثًغورَ المؤمنين َ برَأي حَقّْ.

*

هي أُمــّةٌ منْ بعد ِ ما اجتمعت به ..

صارتْ أُممْ ..من خلْفِها سارت فِــرَقْ..

*

اِشفعْ لنا يومَ الحساب إذا صدى

صورٍ سمعناه وإنْ كُلٌّ حَدَقْ..

*يومٌ لنا ..إن شاءَ رَبُّكَ هادياً

يحمي أحباءً وإن ْ شاءَ رَزَقْ.

***

ريما خضر

 

الاغتراب لغة: جاء في معجم الغني:

[غ ر ب]. (مصدره. اِغْتَرَبَ) ويُمْكِنُ أنْ يُفَسِّرَ اغْتِرَابُ الشخص: هِجْرَتَهُ البَعِيدَةَ. "قَضَى جُلَّ حَيَاتِهِ فِي اغْتِرَابٍ" وهناك اِغْتِرَابُ النَّفْسِ: أي شُعُورُهَا بِالضَّيَاعِ وَالاسْتِلابِ.

إن الاغتراب في صوره وأشكاله المختلفة ليس إلا نتاجا لعجز الإنسان أمام قوى الطبيعة وقوى المجتمع في تحقيق ذاته، كما يأتي نتيجة طبيعيّة جهل الإنسان بالقوانين التي تُسَيْرُ هذه القوى. ويعد الاغتراب ظاهرة إنسانيّة متعددة الأبعاد؛ ومن الصعوبة بمكان تحديد معناه في الاصطلاح تحديداً دقيقاً، نظرا لاختلاف استعماله في البحوث الاجتماعيّة والدينيّة والدراسات الفلسفيّة ومجالات النشاطات الثقافيّة والأدبيّة وغيرها، وبالتالي يمكننا تحديد أهم أشكال الاغتراب هنا وهي:

الغربة الجغرافيّة: أي هِجْرَة الإنسان البَعِيدَةَ عن بلده أو وطنه.

الغربة النفسِّة: شُعُورُ الإنسان بِالضَّيَاعِ وَالاسْتِلابِ والتشيء.

الغربة الذهنيّة: مرض نفسيّ يحول دون سلوك المريض اتباع سلوكً سويًّ وكأنّه غريب عن مجتمعه، ولذا يلجأ إلى العزلة عن المجتمع.

الغربة الاجتماعيّة: أو الاغتراب الاجتماعي: كثيراً ما يصاب الإنسان بالإحباط من مجتمعه الذي يعيش فيه، وربما كان السبب وراء هذا الإحباط طبيعة مخزون اللاوعي الذي استقر في نفس هذا الإنسان، ومن ثم وجد أن هذا المخزون لا يتوافق مع طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه.

الاغتراب الديني: الاغتراب الديني: وهذا النوع واحد من أبرز أنواع الاغتراب التي يعيشها الإنسان على وجه العموم، وذلك حين يحس أن المحيط الذي يعيش فيه لا يلبي رغباته الدينيّة ومثل وقيم هذا الدين، ولا يقف إلى جانبه من أجل صياغة حياته الدينيّة التي يريدها، ومن هنا فإنه يشعر بعناصر الاغتراب الديني، والتصوف أنموذجاً.

ومن التعسف توصيف كل غربة على حدة، أما تسمية الغربة بالاجتماعيّة، أو بالسياسيّة، أو بالعاطفيّة أو الدينيّة أو غيرها، فذلك راجع إلى دواعي الغربة نفسها التي أمدتها بعناصر النمو.

إذاً يمكن استخلاص مفهوم عام للاغتراب يدور حول عناصر متقاربة كشعور الفرد بالعزلة والانفصال عن الذات، والانطواء على النفس، وعدم القدرة على مسايرة الآخرين، والإخفاق في التكيّف مع الأوضاع السائدة في المجتمع، وعدم الشعور بالانتماء لأي مرجعيّة من مرجعيات الانتماء من الأسرة إلى الوطن. هذا وأن أزمة الإنسان المعاصر ومعاناته من حروب وجوع وفقر وألم وتشرد، التي رافقت تلك التحولات العميقة في البنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، يرافقها التقدم التکنولوجي المادي بكل صور تقدمه ومنها الثورة المعلوماتيّة واستخداماتها السلبيّة، فكل ذلك ساهم في تراجع القيم الإنسانيّة النبيلة من جهة، وإفقاد إنسان العصر الشعور بالأمن والأمان من جهة ثانيّة، وبالتالي راحت تجرفه الغربة وضعف الانتماء في عالم مليء بالصراعات والمشاحنات والمشكلات النفسيّة والاجتماعيّة معلنة عن تفشي المفاهيم السلبيّة والتي من أبرزها مفهوم الاغتراب موضوع بحثنا.

مع تأكيدنا بأن ظاهرة الاغتراب قديمة قدم الإنسان، فهي ليست ظاهرة عصريّة أو معاصرة، إذ يمكن للباحث أن يتتبعها في كل العصور، وفي مختلف المجتمعات؛ فكلما توافرت العوامل والأسباب المهيئة للشعور الإنساني وإحساسه بالاغتراب نفسيّاً واجتماعيّاً ووجوديّاً، ازدادت حدّته ومجال انتشاره.

لقد وجد الاغتراب تعبيره الأول في الفكر الغربي، وذلك في تصور العهد القديم للوثنيّة، كما يمكن أن نجد جذور فكرة الاغتراب في كتابات الفيلسوف اليوناني "أفلوطين"، وفي المذهب المسيحي حول فكرة الخطيئة الأصليّة وفكرة الخلاص، كذلك عند القديس "أوغسطين" و"مارتن لوثر". والاغتراب في هذه المواقف يعني الجهاد لفصل الذات الإنسانيّة عن نواقصها بجعلها في حالة تواصل مع كائن متعال هو (الإله). هذا وقد تناول مفهوم الاغتراب فلسفيّاً كل من (هيجل وماركس وأميل دوركهايم وهربرت ماركوز) وغيرهم من فلاسفة، بعد قيام الثورة الصناعيّة وظهور الطبقة البرجوازيّة وسيطرتها على الدولة والمجتمع.(1).

وإذا انعطفنا نحو الأدب العربي بشكل عام والشعر منه بشكل خاص، سنجد أن انعكاس الاغتراب على الشعراء بات طرديّاً مع تعقيدات الحياة، فقد ظهر في نتاج العديد من شعراء المخضرمين فترة الانتقال من الجاهليّة إلى الإسلام، بسبب جملة من الأسباب الحيويّة والمنطقيّة التي ساهمت في انتشار حالة الاغتراب.

إن تلك الفترة الأولى للاغتراب تشكل فترة انتقاليّة كما بينا من الجاهليّة إلى الإسلام، ولا شك أن لهذه النقلة الدينيّة العقائديّة دوراً بالغ الأهميّة في التأثير على نفسيّة هؤلاء الشعراء، واتخاذ الدين الجديد سبيلاً للفرار من حالات الاغتراب التي يعيشونها، خاصة أن المعاني الجاهليّة لم يعد لها أي أثر في عقليات الكثير من الشعراء الذين اعتنقوا الإسلام.

أما الفترة الثانية فتمثل تلك النقلة الحضاريّة التي تلت ظهور الإسلام بعقدين أو ثلاثة من العصر الإسلامي، حيث انتقل العرب من كونهم تابعين إلى أقطاب الحضارة العالميّة آنذاك، إلى كونهم مؤسسين لحضارة عربيّة إسلاميّة تلت فتح فارس وبلاد الشام، حيث توسعت رقعة الدولة الإسلاميّة، واتسع معها دور المسلمين الحضاري في خارطة العالم القديم.

أما الفترة الثالثة فتتعلق بجوانب الجغرافيا الجديدة التي وصل إليها العرب، إذ انتقل كثير من الشعراء للعيش في المدن المفتوحة، وبهذا تغربوا عن ديارهم، وابتعدوا عن أوطانهم، الأمر الذي كان له الأثر البالغ في شعرهم ونفسياتهم.(2).

لابد لنا أن نشير هنا إلى أن قضية الاغتراب في الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص عبر تاريخ الأدب، قد مثلها الأدباء في نصوصهم الأدبيّة بكل أنواعها، بل هم الأكثر قدرة على تصوير حالات الاغتراب هذه.

أمثلة على حالات الاغتراب عند الشعراء العرب:

فهذا "عنترة بن شداد" يبين لنا عمق الغربة الاجتماعيّة لديه بسبب ما ولدته الحالات العنصريّة في مجتمعه اتجاه المختلف في اللون. (3). حيث يقول:

حَسَناتي عِندَ الزَمانِ ذُنوبُ --- وَفَعالــــــــي مَذَمَّةٌ وَعُيوبُ

وَنَصيبي مِنَ الحَبيبِ بِعادٌ  --- وَلِغَيـــري الدُنُوُّ مِنهُ نَصيب

كُلُّ يَومٍ يُبري السُقامَ مُحِبٌّ  --- مِن حَبيبٍ وَما لِسُقمي طَبيبُ

وهذا قيس بن الملوح يشكو المرارة والألم، وهو يمرّ بالديار بعد هجرانها والتغرب عنها، وإن كانت غربته مقرونة بإحساس عميق من الشوق إلى الحبيبة، وهي أقسى درجات الغربة النفسيّة التي يعبّر عنها الشاعر من خلال الانتماء إلى كلّ ما يمثّل اللقاء بالحبيبة، حتّى وإن كانت جدران، أو بقايا أوتاد.(4).

أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى --- أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدار

وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي --- وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيار

غربة الشعراء العرب في العصر الحديث:

لقد استمرّ موضوع الغربة حاضرًا لدى الشعراء العرب في العصر الحديث، بسبب الظروف المأساويّة التي حصلت مع تراجع الأمّة العربيّة، حيث نشأت في مجتمعاتنا العربيّة المعاصر صراعات جديدة، كصراعات القيم بين الماضي والحاضر، وببن الريف والمدينة، وبين الاستبداد والحريّة، وبين الدكتاتوريّة والديمقراطيّة، وبين قيم الحدثة وما بعدها، هذا إضافة إلى الصراع مع قيم المجتمع الاستهلاكي والتخلف والجهل والأميّة والطائفيّة الدينيّة.. الخ. فكل هذه الصراعات والتناقضات بدأت تسود وجه الحياة اليوميّة من غرف المنازل ودواخل النفس، وصولاً إلى المدرسة والجامعة والمؤسسة الوظيفيّة والاعلام ودور الثقافة. وهذا ما أسقط الفرد في لجة الحيرة والتردد والغربة بكل أشكالها ومعانيها.

لقد كانت غُرْبة "الباروديِّ" ونَفْيُه، وكذلك "شوقي" ونفيه إلى الأندلس على سبيل المثال سببًا للكثيرٍ من قصائدهما حول الغُرْبة والاغتراب؛ ومِا يعدُّ امتداداً للحديث عن الغربة، والاغتراب في الشعر العربيِّ الحديث.

فهذا "الباروديّ" بقي في المنفى بمدينة (كولومبو) أكثر من سبعة عشر عامًا يعاني الوحشة، والسقم والبعد عن وطنه، وطيلة هذه الفترة أنشد قصائده التي يسكب فيها آلامه وشوقه إلى الوطن، ويرثي من مات من ذويه وأصحابه، ويتذكّر أيّام صباه، وشبابه وما آل إليه حاله، حيث مرّت أيّامه في المنفى ثقيلة، وأثقلها عليه كثرة العلل والأمراض التي أصابته، وفقدان الأهل والأحباب.(5). يقول:

كَفَى بِمَقَامِي فِي سَرَنْدِيبَ غُرْبَةً -- نَزَعْتُ بِهَا عَنِّي ثِيَابَ العَـلاَئِقِ

وَمَنْ رَامَ نَيْلَ العِزِّ فَلْيَصْطَبِرْ عَلَى -- لِقَاءِ الْمَنَايَا وَاقْتِحَامِ الْمَضَـايِقِ

كذلك كان نَفْي "شوقي" وإبعاده إلى إسبانيا ومعاناته الغربة المكانيّة والزمانيَّة، سببًا لِما سُمِّي بأندلسيَّات شوقي، تلك القصائد التي يَعْزف فيها على وتر الغربة والاغتراب، ويبكي حال الأندلس الذَّاهب مَجْدُها، ويتأسَّى على حاله في غربتِه؛ يقول شوقي في سينِيَّته الشهيرة.(6).

اخْتِلاَفُ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ يُنْســي  --  اذْكُرَا لِي الصِّبَا وَأَيَّامَ أُنْسِــــي

وَصِفَا لِي مُلاَوَةً مِنْ شَبــابٍ  --  صُوِّرَتْ مِــــــنْ تَصَوُّرَاتٍ وَمَسِّ

وَسَلاَ مِصْرَ: هَلْ سَلاَ القَلْبُ عَنْهَا  أَوْ أَسَا جُرْحَهُ الزَّمَانُ الْمُؤَسِّي

وحين نتناول :السيّاب" شعرًا فأنّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن غربته، وهو يحلم بحضن الأم التي لن تعود لتُقبّل دمع صغيرها. لقد بدأت حياة السيّاب بحرمان لا يردّ ألمه أيّ فرح، ويكبر السؤال معه عن تلك التي لن تعود. كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام:

بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ

فلم يجدها، ثمَّ حين لجّ في السؤال

قالوا له: “بعد غدٍ تعودْ …”

وهذا الشاعر "الشابي" يشرح لنا في مذكراته عن إحساسه الشديد بالغربة والضياع قائلا:

(أشعر الآن أني غريب في هذا الوجود..غربة من يطوف مجاهل الأرض ويجوب أقاصي المجهول.. ثم يأتي يتحدث إلى قومه عن رحلاته البعيدة، فلا يجد واحدا منهم يفهم من لغة نفسه شيئا، غربة الشاعر الذي استيقظ قلبه في أسحار الحياة حينما تضطجع قلوب البشر على أسرة النوم الناعمة، فإذا جاء الصباح وحدثهم عن مخاوف الليل وأهوال الظلام، وحدثهم في أناشيده عن خلجات النجوم ورفرفة الأحلام الراقصة بين التلال، لم يجد من يفهم لغة قلبه ولا يفقه أغاني روحه. الآن أدركت أني غريب بين أبناء بلادي). (7).

أما أهم المفردات المعبرة عن الاغتراب لدى الأدباء بشكل عام والشعراء بشكل خاص: هي المفردات المشبعة بالحزن، مثل: (الوحيد الطريد الشريد الغريب الحزين القبر الأشباح الشقاء الملال الضجيج النشيج)..

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.

..........................

الهوامش:

1- (الاغتراب – موقع الموسوعة العربية -). بتصرف.

2- (ظاهرة الاغتراب في شعر مخضرمي الجاهلية والإسلام - آمال عبد المنعم الحراسيس - جامعة مؤتة، 2016 م). بتصرف.

3- (الغربة في الشعر العربيّ - مجلة أوراق ثقافية - عبّاس حسن حاوي. ). بتصرف.

4- (الغربة في الشعر العربيّ - مجلة أوراق ثقافية - عبّاس حسن حاوي.). بتصرف.

5- (الغربة في الشعر العربيّ - مجلة أوراق ثقافية - عبّاس حسن حاوي. ). بتصرف.

6- (الغربة في الشعر العربيّ - مجلة أوراق ثقافية - عبّاس حسن حاوي. ). بتصرف.

7- (موقع نداء الهند - النزعة الإنسانية ومظاهر الاغتراب في الأدب الحديث - السيد محمد بوتانغودان -).

قراءة هرمنيوطيقية، أسلوبية، رمزية وسيميائية في بنى الخطاب والنفس:

تتأسّس قصيدة «تراتيل العشق» على توتّرٍ بنيوي بين افتتانٍ حميمي يتطلّب التحقّق الآن وهنا، وزمنٍ اجتماعي–سياسي يقسو ويؤجِّل. هذه المفارقة تُدار عبر خطابٍ مخاطِبٍ (second person) يشيّد هوية «نحن» العاشقة/العاشق بوصفها خلاصاً مؤقّتاً من «مدينة القهر». hermeneutically، نحن بإزاء نصّ يوحِّد بين الحبّ بوصفه طقسًا («تراتيل»، «آيات»، «حضرة السيد الشوق») وبين الجسد بوصفه جغرافيا («تضاريسي، مدني، قاراتي»)، ليصوغ معنى الحرية العاطفية في مواجهة اقتصاد السلطة والرتب.

- المحور الهرمنيوطيقي: أفقا المؤلِّفة والمتلقي

أفق المؤلِّفة يتبدّى في مفردات تنتمي لحقلٍ تراثي–أسطوري («شهرزاد»، «تراتيل»، «آيات»، «الحوريات») متجاورة مع مفردات حداثية حياتية («علبة سجائرك»، «مدينة قهرك»). هذا التساند يشي برغبةٍ في مصالحة الموروث مع اليومي لتوليد معنى معاصر للحبّ.

أفق المتلقّي يُستثار بعتباتٍ ثقافية: «شهرزاد» تقترح حكايةً مؤسِّسة، و«النهران» تُحيل إلى حضارةٍ وخصبٍ وأساطير؛ فيما «عقرب الوقت» يحفِّز خبرةً حديثة بالضغط والإيقاع السريع.

التأويل هنا ينتقل من نصّ العشق الفردي إلى تجربة اغتراب جماعي؛ فالحبّ لا يُقاس بالرتب والمناصب («لا يؤمن بالرتب»)، بل يُقاس بصدقٍ يشتغل كمعيار بديل للقيمة في مجتمع الرأسمال والهيمنة الرمزية.

- البنية الأسلوبية: ضمائر، أفعال، إيقاع

1. هيمنة خطاب المخاطَب: تكرار «يا» النداء («يا نبضي»، «يا شاعري») يمنح القصيدة حرارةً تداولية؛ فالمعنى يُبنى بوصفه حواراً طقوسياً لا منولوجاً.

2. أفعال الأمر الرقيقة: «اطرح أوزارك»، «رتل أشعارك»، «اعزف نشيدك»، «كن أني»؛ أوامر تُمارس سلطةً عاطفية لا قهرية، وتُعيد تركيب الحدود بين الأنا والآخر.

3. التوازي والتكرار النَّفيي: سلسلة «ما زلنا… ما قلنا… ما انصهرنا…» تؤسّس إيقاعَ توقٍ مؤجَّل؛ النفي المتكرّر ليس رفضًا، بل طاقة دفع إلى اكتمالٍ لمّا يتحقّق بعد.

4. المزاوجة بين المقدَّس والحسيّ: «تراتيل/آيات/حضرة» مقابل «صدر/شفتين/حضن»؛ هذا الازدواج الأسلوبي يرفع الجسد إلى منزلة طقسٍ، ويهب الطقس جسدًا يتجسّد فيه.

- الحقول المعجمية والعلاقات الدلالية:

- حقل الزمن: «الوقت، اللحظة، الليل، الرحيل، عقرب الوقت»؛ الزمن يُمثَّل خصمًا يُغافَل ويُسرق («غافلنا اللحظة»، «سرقنا ليلتنا»)، ما يؤكد مركزية الكايروس (الفرصة الذهبية) في بنية الرغبة.

- حقل المكان/الجغرافيا: «مسافات، مدارات، تضاريسي، مدني، قاراتي»؛ الجسد مكانٌ يُسافر فيه—تَحويلٌ سيميائي من جسد/موضوع إلى خارطة/عالم.

- حقل السلطة والقيمة: «ثراء الملوك، كراسي السياسيين، قصر، قلعة»؛ تفكيك منظومة القيم السلطوية بإحلال صدق العاطفة محلّ الرتبة، وصدر الحبيب محلّ القصر.

- حقل القداسة: «تراتيل، آيات، السيد الشوق، جنّات، الحوريات»؛ الحبّ دينٌ دنيوي، طقوسه لغوية–جسدية.

- الرموز والمجازات الكبرى:

1. «النبض» و«حبل الوريد»: علاقة عشقٍ حيوية–قدريّة؛ الحبيب ليس خارج الذات، بل ملاصق لشرط حياتها.

2. «شهرزاد»: رمز الحكاية المُنقِذة؛ كما أنقذت نفسها بالسرد، تستدعي المتكلمة السرد لنجاة اللحظة العاشقة من فناء الوقت.

3. «النهران»: وفرة وخصب وذاكرة حضارية؛ خصبٌ لغوي–جسدي يفيض «أنا» و«أنت».

4. «عقرب الوقت»: زمنٌ ذي نيّة عدوانية؛ التعيين بـ«عقرب» يحمّل الزمن سِمَة اللسع.

5. «مدينة القهر»: استعارةٌ اجتماعية للهيمنة؛ مقابلها ملاذٌ حميمي يُنشأ باللغة («صدرك قصري»).

6. «علبة السجائر»: رمز اليوميّ الهشّ؛ طلبُ الاختباء فيها يشي برغبةٍ في التصاغر الحميم بوصفه حماية من الفضاء العامّ.

7. «كن أني/وأكون أناك»: ذروة الاندماج الهويّاتي؛ اصطلاحًا هي حركة من التماهي إلى التفرّد المشترك .

- القراءة السيميائية: تحويلات المعنى وتموضعات الذات

- المحور القِيَمي (القداسة/الدنيوي): العلامات الدينية («تراتيل/آيات») تُعيد ترميز الجسد، فتحوّله من «موضوع رغبة» إلى موضوع تقديس؛ بهذا ينتقل العشق من خانة اللذة المحضة إلى قيمية الترنيم.

- المحور المكاني (خاص/عام): الأشكال السيميائية «قصر/قلعة/مدينة» تُعاد كتابتها داخل الجسد—استعادة السيادة من المجال العامّ إلى المجال الحميمي.

- المحور الزمني (تأجيل/اغتنام): التعارض بين «نرجوه رويدك» و«سرقنا ليلتنا» يشي ببرنامج سردي: من قيود الكرونوس إلى فرصة الكايروس.

- البنية النفسية: التعلّق، الغربة، وسيكولوجيا الطقس

- التعلّق والاتّكاء المتبادل: الطلب «اطرح أوزارك» يشي باستضافة العبء—آليّة تهدئةٍ تُحيل إلى ملامح تعلّقٍ آمن (secure attachment) حيث تحتوي «الأنا» هشاشة «الأنت».

الغربة والذات الرفيقة: «ليل الغربة» و«مدينة القهر» يشيران إلى توحّدٍ ضدّ العالم؛ الحبّ يُعادِل تحالفًا نفسيًا في وجه القسوة الاجتماعية.

طقس التقديس: تديين الرغبة («حضرة السيد الشوق») يعمل كآلية لترسيم حدودٍ مقدّسة تحمي العلاقة من تلوّث الخارج.

ديناميّات الرغبة المؤجَّلة: تتابع «ما زلنا…» يعكس اقتصاد التأجيل؛ المتعة تتغذّى على الوعد، واللغة تُبقي الاشتهاء في حيّز الاحتدام غير المُستنفَد.

- الموسيقى الداخلية والإيقاع

- التوازي الإيقاعي: «حضن يبكي على حضن/حضن يناشد حضنه» - جناس وتقفية داخلية تخلقان نبراً مرثوياً/نشيدياً.

- التصعيد بالتكرار: التوالي النفيي يرفع الجملة من تقريرٍ إلى هتافٍ إيقاعي؛ الإيقاع هنا معنى مضاعف لا زينة.

- النعومة الأمرية: أفعال الأمر تأتي موسومة بالحنان—مفارقة صوتية توازن بين سلطة الرغبة ورقّة الطلب.

--البنية السردية: من اقتناص اللحظة إلى كتابة الخلود

النصّ يتحرّك سردياً عبر ثلاث لقطات:

1. اللقاء/الانفلات من الزمن: «غافلنا اللحظة» - خروجٌ خاطف على قانون الساعة.

2. التشييد الطقسي: تعيين أماكن وقداسات ورموز؛ تأسيس مدينة حبّ بديلة.

3. الترانيم المؤجّلة: «ما زلنا لم نرتّل…» - تأجيلٌ يقترح استدامة القصّة؛ ما لا يُكمل يُعاد كتابته.

- الدلالة الاجتماعية– القيمية:

رفض اقتصاد السلطة («ثراء الملوك»، «كراسي السياسيين») لصالح اقتصاد الصدق يشكّل موقفًا نقديًا: العاطفة معيار قيمة في وجه هرم السطوة.

- الجسد–المدينة–السياسة تتجاور لقول: الحميمية فعل مقاومة؛ إذ يتحوّل الصدر إلى قصرٍ يُضفي على الفرد كرامةً جمالية في عالمٍ مُهمِّش.

- ملاحظات نصيّة طفيفة (لا تمسّ روح القصيدة)

إذا رغبتِ الشاعرةُ بتنقيحٍ لغويّ خفيف يحفظ النَّفَس:

«هييت لك» → «هيَّأتُ لك» (إن كان المقصود التهيئة).

«ورتل اشعارك» → «ورتِّل أشعارك» (همزة «أشعار» وتضعيف «رتّل»).

«ايايات الشوق» → «آيات الشوق».

- مراجعة همزات القطع والوصل، ومسافات علامات الترقيم، وتوحيد كتابة «ما زلنا» (منفصلة).

هذه اقتراحات تقنية اختيارية؛ جمال الجملة الشعريّة قائم حتى دونها.

- خلاصة تأويلية:

«تراتيل العشق» تُنشد لاهوت الحميميّة في مواجهة قسوة الزمن والمدينة. تتّخذ من التكرار والنِّداء والأمر الرقيق أدواتٍ لإقامة قداسٍ دنيوي حيث يُعاد توزيع القيم: الصدق ثراء، والصدر قصر، واليد قلعة. رموز «شهرزاد/النهرين/عقرب الوقت» تؤسّس سرديةً تُحوّل العشق من انفعالٍ عابر إلى مشروع معنى يتحدّى اقتصاد السلطة والزمن معًا، ويؤسّس لذاتٍ مشتركة: «كن أني… وأكون أناك».

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين.

.........................

 تراتيل العشق

يا نبضي واشتهائي

كيف هزمنا الوهن وقهر الوقت

وتحدينا المسافات والمدارات والتقينا

كطفلين كنا

حين غافلنا اللحظة

حضن يبكي على حضن

حضن يناشد حضنه

وانا شهرزادك هييت لك

ان انت.. يا نبضي المربوط الى حبل الوريد..

اطرح اوزارك علي صدري

ورتل اشعارك على دنيا النهرين

اعزف نشيدك على الشفتين

كن اني.

واكون اناك..

دعنا نرتشف في ليل الغربة كؤوس الصبابة

يغازل بعضنا كلنا...

انا التي يسحبني شهيق الروح الى عينيك

*

لا تحدثني عن ثراء الملوك

وكراسي السياسيين

فالعشق لا يؤمن بالرتب والمناصب

دع صدقك هو ثرائي

وصدرك قصري

وكفك قلعة رغبتي وحنيني

سافر في تضاريسي

ومدني.. وقاراتي

خباني في علبة سجائرك

حين تعود الى مدينة قهرك

هذه روحي ترنو اليك

دعنا نطارد همس المساء

المساء الماطر بلغة الوجد

يربكني صوتك.. همسك: اميرتي وسيدة نبضي

وحين يهم الرحيل بالرحيل نرجوه مجللين بنيران الشوق.. رويدك يا عقرب الوقت :(مازال الحال)

نهمس في اسفلت روحينا..

مازلنا... ما قلنا عشقنا الناري.. ما انصهرنا بعد.. ما توزعنا... ما تجمعنا. ما اعلنا جنونا.. هذا الزمن لنا

ما رسمنا على خدينا ارتعاشات الروح...

بالرغم من توحد كل منا في الاخر.

بالرغم من تماهينا فينا...

مازلنا لم نرتل ايايات الشوق

رغم كل ما رتلناه

في حضرة السيد الشوق

 لم نقصص بعد رغبتنا علي كف الاشتهاء

رغم صدرك الموغل في صدري

كالسيف في كبد الشهيد

يا شاعري

كيف سرقنا ليلتنا من كف الوقت ؟!

كيف منحتني جناتك.

وكيف منحتك عشق الحوريات ؟!

اغثني من ذهولي ايها الوسيم كصباحات الربيع

الوارف كصفصاف الغابات

فانا اغمض عيني

لاعتقل لحظتنا اقصد ليلة العمر

التي اهدتها لنا الهة العشق

***

نادية نواصر

 

الفرار من الطلل إلى القصر

ليست هنالك حداثة واحدة، وإنما هناك حداثات بحسب اختلاف المكان والزمان والإنسان، فحداثة باريس غير حداثة موسكو، وهناك حداثة معاصرة نعيشها، وهناك حداثات في أزمان سابقة، وفي القرنين الثاني والثالث الهجريين كانت هناك حداثة، وشعراء محدثون ونقاد كذلك، فكر ومؤسسات اجتماعية، ويعارضها اللاحداثيون.. سلطة وطبقات اجتماعية وفكر وشعراء.

ونلتقي بمرجعيتين معرفيتين في القرون الثلاثة الأولى؛ المرجعية المعرفية العقلية والمرجعية المعرفية النقلية، ولكل مرجعية أدواتها وأنصارها، ولم يكن البحتري من أهل الحداثة، ولكنه من خصومها، وجاء مع الزمن المعارض للحداثة مع مجيء جعفر المتوكل " الخليفة العباسي " الذي أحدث تغيرًا على المستوى الفكري بإقصاء لاعتزال وأهل العقل والمنطق، وإحلال أهل الأثر محلهم، وعلى المستوى الفني تبنى مصطلح " الطبع " الذي يعبر عن اللاحداثة ! في معارضة لمصطلح " الصنعة " المعبر عن الحداثة.

إن المتوكل ـــ في تصوري ـــ لا يزال يحكم العالم الإسلامي وهو في قبره؛ إذ لا تزال الرؤى والأفكار والمناهج التي أرساها سائدة في المجتمع حتى الآن!.

ولقد شغلتني حقيقة بنية القصيدة في كلا الاتجاهين، وعلى الرغم من انحيازي للحداثة في التراث وانحيازي لمنجزاتها كان لا بد لي أن أتأمل منهجيًّا، فالبنية العميقة التي تحكم بنية القصيدة عند اللاحداثيين، وهي عادة تتكون من وحدتين، أو ثلاث وحدات، يكون الغزل أو التشبيب أولها، ثم يكون المدح الهدف الذي تسعى إليه.

ولم أكن مقتنعًا بالتفسيرات الكثيرة التي قدمها النقاد، قدامى كابن قتيبة، ومعاصرون غربيون، مثل: فالتر براونه ومعاصرون عرب، مثل: عز الدين إسماعيل ـــ مثلا ــــ وكان لابد من الكشف عن البنية العميقة.

ويتبدى إمكان دراسة قصائد البحتري في ضوء محورين، أحدهما يحاول الكشف عن التجليات المتعددة التي تشتمل عليها قصيدة المدح، ويحاول الآخر إرجاع تلك التجليات المتعددة إلى بنية عميقة تحكمها، ولما كانت الأغلبية الساحقة من قصائد المدح عند البحتري تنقسم إلى مقطعين: مقطع المحبوبة، ومقطع الممدوح، فإن البحث سيركز على هذا المنحى بشكل عام، والتطبيق على بعض نماذجه.

إن البنية العميقة التي تحكم تجليات قصيدة المدح تتمثل في التعارض بين السلب والإيجاب بين مقطعي المحبوبة والممدوح، ويمثل هذا التعارض إطارًا عامًّا تقع تحت شموليته أنماط متعددة من تجليات متعارضة عديدة

إن مقطع المحبوبة يمثل الموجة السالبة في القصيدة، في حين يمثل مقطع الممدوح الموجة الموجبة، فإذا كانت المحبوبة تبعث على السقم والهزال والجدب، وأنها حسناء سيئة الصنيع، فإن الخليفة يتميز بحسن المحيا من ناحية، وحسن الفعل من ناحية أخرى، ولذلك جعل الشمس والقمر دالَيْن على جماله وبهائه،ويرتبط هذا في أغلب الأحوال بملامح دينية ترجع إلى الرسول صلى الله عليه و آله وسلم؛ لأن الممدوح ـــ الخليفة ـــ هو امتداد للنبي، كما أن أفعاله تحيي الإسلام، وتدافع عن الرعية.

وإن هنا تعارضًا من نوع آخر بين المحبوبة والممدوح؛ إذ تمثل المحبوبة مفردًا مؤنثًا تحدث عنه الشاعر بصيغة المذكر، وأن فعلها لا يتجاوزها ولا يتجاوز الشاعر، أمَا الممدوح فإنه يمثل المفرد المذكر الخارق، الذي يتميز بخصائص تقترب من الملامح القدسية بفعل الصفات الدينية التي خلعها عليه الشاعر وتقابله الجماعة، ويتجلى في فعل الممدوح تعارض من نوع آخر؛ حيث يكون الممدوح سببًا في بعث الخصب في الحياة والحيوية في الجماعة المناصرة له، والموت الدمار في الجماعة المعارضة له، فعلى مستوى الجماعة المناصرة له.

دلالات التعارض المكاني والزماني:

المحبوبة:

امرأة: أنوثة؛ ضعف ولين.

امرأة: ظاهرها جميل، وباطنها قبيح.

امرأة: محدودة الخصائص، لا علاقة لها بالمطلق.

امرأة: تتسم بالعقم.

امرأة: تبعث السقم والهزال في الشاعر.

امرأة: لا تحقق التواصل.

امرأة: عالمها تخيلي متوهم.

الممدوح " الخليفة غالبًا "

رجل: ذكورة؛ قوة وخصب.

رجل: ظاهره حسن، وباطنه حسن.

رجل: جزء من حركة المطلق، هو امتداد للنبي، ومن ثم مرتبط بالمطلق.

رجل: ولود.

رجل: يبعث الخصب والنماء في الشاعر.

عالم الممدوح: حقيقي واقعي.

مكان المحبوبة وزمانها:

المكان: مكان مجدب لا حياة فيه « طلل »

الزمن: زمن ماض وحركته بطيئة.

الحالة: التلاشي والهشاشة.

المستوى الحضاري: البداوة.

مكان الممدوح وزمانه:

المكان: مكان خصب، قصور وحدائق ومياه.

الزمن: زمن الحاضر والمستقبل، وحركته متسارعة.

الحالة: الخصب والنماء.

المستوى الحضاري: المدينة.

ويسعى البحتري إلى التنقل والتحرك من الطلل إلى القصر، والحركة هذه تعني نفيًا للمكان وخصوصيته الثبوتية، ورمزا لانعتاق الإنسان وتحرره، ولذلك فإنه يفر من الأولى إلى الثانية، فلا يعطي المقطع الأول مساحة أكبر، ثم ينتقل إلى المقطع الثاني الذي يتوقف عنده طويلًا، مساحة وحضورا، بمعنى: إلغاء للطلل، وتثبيت للقصر، وانحراف عن البداوة وانحياز إلى المدنية.

***

د. كريم الوائلي

 

في تجربة "حسونة المصباحي" الأدبيّة

** في المستهلّ: منذ انشغل الأدباء العرب مع منتصف الق 20 وحتى قبل ذلك بمسألة التّجديد والتّحديث والحداثة كلّ بطريقته الخاصّة وانطلاقا من مرجعيّاته الخاصّة؛ منذ ذلك الحين وهم ملاحَقون بهاجس إشكالين أساسيّن:

- الأوّل هو أيّةَ حداثة تناسبنا ونحن نعيش تحت وطأة حضارة متهالكة انهكتها الاعتداءات والانحدارات على جميع المستويات وفي سياق ثقافة متّهمة بالانغلاق والتّحجّر وحتّى لغتها متّهمة بالقصور عن استيعاب عصرها بعلومه ونظريّاته ومظاهر تمدّنه وسرعة تحوّلاته وتقلّباته؟

- الثّاني هو كيف نواكب حداثة الآداب العالميّة وخاصّة منها الغربيّة التي فرضت نفسها علينا بحكم تلك العوامل والتّعاملات الاستعماريّة التي حكمت ولاتزال علاقتَنا بالغرب فتستفيد منها حداثتُنا دون أن تنسلخ عن ذاتها الثّقافيّة اوتُهَجّن فتصبحَ لقيطة؟؟

هذان الإشكالان كانا وراء ارتباط ابداعات الأدباء بالموروث التّاريخيّ والثّقافيّ القوميّ والمحلّيّ على حدّ سواء وهي تختبر في الأثناء مسارات مختلفة للحداثة . تناولت هذه الإبداعات الموضوعات الوجوديّةَ والإنسانيةَ والإجتماعيّةَ والسّياسيّةَ المعاصرةَ برؤيا تواشجت فيها المدارسُ الأدبيّة والنّظريّات الفلسفيّة الأوروبية والرّوسيّة مع النّصّ القرآني والموروث الأدبي شعرا ونثرا وأسماء الشخصيّات التاريخية وحتى الأنبياء فضلا عن الأحداث خاصّة ما تعلّق منها بالثّورات والانتصارات فكانت أعلاق من القصائد في الشعر مثل: المسيح بعد الصّلب للسّيّاب ومأساة الحلّاج لصلاح عبد الصّبور... وفي النّثر وخاصّة في السّرديّات مثل أهل الكهف للحكيم ومغامرة رأس المملوك جابر لسعد الله ونّوس وصولا إلى عزازيل يوسف زيدان (2008)..

وهنا لا يمكن أن نستثني حركةَ الأدب في تونس وحرصَ روّادها على مواكبة المجرايات الأدبيّة العربيّة والعالميّة لذلك كانت مؤلفات المسعدي (مثلا من أيام عمران) وكانت (مراد الثالث) للحبيب بولعراس ثمّ (ديوان الزنج وثورة صاحب الحمار) لعزّ الدّين المدني... هذا الارتباط بالموروث وفي سياق حداثيّ يندرج ضمن ما سمّاه غالي شكري ب(حفظ الأمن الثّقافي) الذي بدأت تتغيّر رؤيا الأدباء تجاهه وتجاه مفهوم الحداثة في حدّ ذاته مع مستهلّ القرن 21 وخاصّة بعد أحداث ما سُمّي ثورة 2011 وتبعاتها..

في هذه المرحلة أصبح الاهتمام منصبّا أكثر على التّعامل مع الموروث ليس كمادّة موضوعات يتمّ توظيفها فنّيّا ودلاليّا فقط إنّما كأبجديّة ثقافيّة تمكّن من فتح أمداء لا حدّ لها من طرق تجديد الخطاب الأدبي بأنواعه فنّا ومعنى والتّصرّف فيه على قاعدة المحاورة المستمرة مع الأدب العالمي.. وعلى قاعدة التفاعل الإيجابي مع الواقع الرّاهن بقضاياه ومشاغله الانسانيّة والقوميّة والمحلّيّة وتفاصيل المَعيش اليومّي في بعدَيه الفرديّ والجماعيّ.. ولعلّ هذا ما أدركه في فترة متقدّمة بعض الرّوائيين العرب أمثال السّوري هاني الرّاهب في رواية الوباء (1983) والتّونسيّين حسنين بن عمو خاصّة في رواية " باب العلوج " (1988) وحسونة المصباحي في قصصه منها "ليلة الغرباء" وخاصّة رواية " هلوسات ترشيش" (1995) وما جاء بعدها.. واللّافت أنّ هذه الطريقة في توظيف التّاريخ والمورث في الخطاب الأدبيّ والسّرديّ خصوصا بقدر توسّعها تاريخيّا لدي ادبائنا اليوم انحسرت جغرافيّا منصبّة على ماهو محلّيّ لتشمل إلى جانب التاريخ والموروث العربي ما كان سابقا له في تونس وما لحق به من أحداث القرنين 19 و20 في إطار رؤيا أدبيّة حداثيّة قوامها الاختزال الفنّي لأكثر ما أمكن من المادّة التاريخيّة في أقلّ ما أمكن من اللّحظة الإبداعيّة المنصبّة في مجملها على الواقع التّونسي المحلّيّ وذلك لا يعني البتّة أنّ هؤلاء الأدباء يكتبون بمبادئ المدرسة الواقعيّة إنّما هي كتابة جديدة وليدة رؤيا جديدة تجاه الوجود والحياة عموما وتجاه الذّات والإبداع خصوصا وهي في سرديّات العديد من ادبائنا اليوم؛ وعلى رأسهم المرحوم حسونة المصباحي؛ كتابة اعتبرها بمواصفات تونسية ربّما نستطيع أن نعتبرها من وسائل (حفظ الأمن الثّقافي التّونسي) لذلك أمكنني أن اشرّع لنفسي تناول تجربة الكتابة لدى الأديب حسونة المصباحي من هذا المدخل .

** في تجربة حسونة المصباحي الأدبيّة من حيث مُواصفاتُها التّونسيّة:

من ضمن ما قرأته عن المرحوم حسونة المصباحي ما كتبه الأديب المصري يوسف إدريس عمّا ترشح به كتابات أديبنا من ملامح الرّوح التونسيّة والشّخصيّة التّونسيّة قوله: (يكفي أن تقرأ قصّة واحدة لحسونة المصباحي لكي تعرف كيف يعيش الإنسان التّونسيّ وكيف يفكّر وما هي حكاياته وأساطيره الخاصّة كما لو أنّك عشت في تونس عشرات السّنين)

وكذلك ما كتبه النّاقد علي قاسم في أحد أعداد صحيفة العرب عن أصداء الرّيف التّونسي التي لا تكاد تخلو منها مختلف كتابات المصباحي ليس من منظور رومنسي يحفل بما ميّز المشهد التونسي من جمال الطبيعة وتنوّع تضاريسها ولكن من منظور الوعي بعذابات الأنسان التّونسيّ الذي يكابد قسوة ظروف العيش الأجتماعيّة والمادّيّة والمناخيّة ومن بين ما كتبه علي قاسم: (حمل حسونة المصباحي هموم التّونسيين وأصواتهم خاصّة الذين يعيشون بشظف في الأرياف القصيّة وفي هامش المدن والأحياء الشّعبيّة أينما كتب وكيفما كتب قصصَه ورواياتِه وحتى مقالاتِه ناهيك عن رحلاته وترجماته. فشفّت كتاباته عن مثقّف تنويريّ وكاتب ثَوريّ آثر أن يكون ابن بيئته بكلّ طباعها وتقلّباتها بجرأة ملهمة وبروح مثقّف أخلص حتّى النّهاية للأدب ولذاته) قد يتبادر إلى الأذهان من خلال هذا الرّأي أن أديبنا كان يكتب بمبادئ المدرسة الواقعيّة وهو الذي عُرف بتمرّده على القيود والقوالب وحتّى الأنماط وبإيمانه العميق بحرّيّة الكتابة وقد أكّد ذلك بنفسه في عدّة تصريحات ومناسبات؛؛ ومن بين ما أثِر عنه قوله: (الكتابة حرّة أو لا تكون وأنا حرصتُ منذ بدايتي على ان أكون دائم التّمرّد على كلّ أشكال التّقيّد في الكتابة مهما كانت) ذلك أن الكتابة عن ملامح التّونسيّين وعن واقعهم عند أديبنا لم تكن مجرّد انعكاس لمعالم الرّيف في القيروان أو غيرها من الجهات ولا لتراثه الفلكلوري بل كانت صورة لتونس الحقيقية بزواياها المعتّمة.. تونس التي كما كتب عنها على لسان إحدى شخصيّات روايته ألأخيرة : أرصفة الشّتات (تحتاج ان يخضلّ فيها العيش الكريم وتشرق فيها شمس الحريّة.. والعبارة لأديبنا أوردها على لسان إحدى شخصيات رواية حكاية تونسيْة) صاغها أديبنا مشاهد مستفزّة تثير في ذهن القرّاء الأسئلة (لماذا نحن هكذا ولسنا على صورة مخالفة ؟؟) لذلك انصاعت له وبجودة فنّيّة عالية تلك اللغة الاحتجاجيّة الحادْة المنسجمة مع مزاجه النّافر بلا تلطيف او تخفيف هي لغة المزاج التونسي حين يسخر وحين يغضب وينقم كما انصاعت له تلك الأساليب السّرديّة المتهادية بين التدرّج والتّلولب فكتب بشاعة الواقع ومرارة العيش وانهيار القيم في تونس وبعض المدن العربية منها الدّار البيضاء (خاصّة في كتاب " التّيه " وهو وإن كان من صنف أدب الرّحلة لا يخلو من سرد روائيّ) بجمالية فنّيّة فائقة تخرج بالقارئ من مجرّد النّفور الانطباعي تجاه تلك الظواهر السلبيّة إلى تأمّلها بوعي عميق بفعل جماليّة تلك الصّياغة الفنّية المؤثّرة للممجوج من المظاهر والوقائع والسلوكات.

فجاءت الأحداث خاصّة في رواياته ومؤلّفاته السّرديّة عموما متجذّرة في سياقاتها التاريخيّة ومحيطها الجغرافي ومرجعياتها الثقافية المعرفية حتّى أنّه عمد إلى حشد المعلومات المتنوّعة حولها حشدا وأساسا ما تعلْق منها بتاريخ تونس وطبيعة الثّقافة التونسيّة ومستجدّاتها السّلبيّة قبل الإيجابيّة وأنواع المثقّفين وهنات البعض منهم (رواية: لا نسبح في النّهر مرّتين)

فحتى وهو يرسم شخصياته الرّوائية نجده يرسم ملامح الفلّاح التونسي والعامل والموظف والمثقّف (رواية: ليلة حديقة الشّتاء التي تحدّث فيها عن الشّعر والفلسفة وتجلّت في شخصياتها خاصّة ملامح الصغيّر أولاد احمد والعفيف الأخضر) والمرأة في علاقتها بالرّجل وبالعرف الاجتماعيّ السائد بين الرّيف التونسي والمدينة (كما هو الحال في رواية: حكاية تونسيّة) بل ان اغلبها نماذج استقدمها من محيطه الاجتماعي والثقافي وحتى العائلي (مثلا قصّة: حكاية ابنة عمّتي هنيّة) ونجده في الأثناء يسلّط الضّوء على تاريخ الفرد ويحيطه بالأحداث التاريخية والظواهر الاجتماعية عبر تقنية الاسترجاع حينا وعبر تقنية الاستبطان آخر ليكشف من خلاله عن تاريخ جيل وسياسة دولة وقيم مجتمع بأسره (مثلما فعل في رواية: محن تونسيّة) ليتأمّلها ويحلّلها ويبدي موقفه تجاهها دون تورية حتّى باتت قصصه ورواياته حمّالة رؤى فلسفية وإيديولوجية وأحيانا مسرحا لتصفية حساباته مع بعض القوى السّياسيّة والأطراف التقافيّة في تونس (منها رواية: الآخرون مثلا وجزء هامّ من روايته الأخيرة: على أرصفة الشّتات التي عالج فيها أوضاع المثقف التونسي في تونس وفي المهجر وكذلك حياة التونسيين في المهجر بعد أحداث 2011) ولا ينبغي أن ننسى هنا الأماكن المشهور منها والمغمور وخاصة في القيروان وريفها وفي مدن الوطن القبلي وتونس العاصمة خاصّة والتي تحضر باسمائها ومعالمها التّونسيّة وهي تحتضن سرّ هذا الكيان المجتمعي الملغز الذي يحمل فسيفساء من الجينات من حقب تاريخية تمتدّ فتتعدّد من عهود انطالاس وحنّبعل إلى عهود الكاهنة وإبراهيم بن الأغلب والعهد الحفصي والمعز الفاطمي وصولا إلى عهود الدّغباجي وبن غذاهم و" تورة 2011 " وتبعاتها .. علما وأنّ مختلف الأحداث والأسماء التي عرفتها تونس على امتداد هذه العهود حاضرة في كتابات المصباحي سواء بِسِماتها التّاريخيّة او بما التبست به روائيّا من سمات خياليّة وفنّيّة كما في رواية: (هلوسات ترشيش).

إنّ المتأمّل في كتابات المصباحي أنها جميعها بما في ذلك حتى بعض مقالاته تتقاطع فيها أنماط الكتابة شعرا ونثرا يُلقي عليها التّرحالُ بظِلالِه لتعكس ذاتا هائمة في الوجود هامية كالماء تجري وهي تجوب الأزمنة والأمكنة؛ لذلك أعتبرها النّقّاد خاصّة من أصدقائه المتابعين لتجربته الأدبيّة عن كثب (اعتبروها) سفرا متواصلا متعدّد الأبعاد نحو أعماق الذاكرة التّونسيّة في الأرياف القصيّة (خاصّة في جهة القيروان) وفي المدن وأحيائها الشّعبيّة (خاصّة تونس العاصمة) ونحو أمداء الحضارة الإنسانيّة بشكل مكّنه من بلوغ ضفاف العالميّة خاصّة نحو ضفاف ذاته المفكّرة والباحثة دون هوادة عن كتابةٍ لم تتحقّق له أو لم يَظفَر بها بعدُ .

** في المنتهى:

لقد صاغ حسونة المصباحي في كتاباته بأنواعها روحه المسكونة بتونسيّتها وان شئنا بمزاجها القيروانيّ المشاكس صياغة ادبيّة أغناها رصيد ثقافيّ ضخم ومتنوّع وصاغ في الأثناء وجدان التّونسيّين في نخوتهم وأفراحهم وانكساراتهم وأحلامهم ونضالاتهم.. وقد جعل لوحاته السّرديّة تسع الأماكن من جبال وبحر وحقول وطرق موحلة وأحياء بائسة وأزقّة ومقاه وو جعلها تسع كلّ تلك الأماكن الطّافحة بالمواجع والنّابضة بالحياة.. وتحضرني في هذا السّياق تدوينة قرأتها في " الحساب الفيسبوكي" لكمال العيّادي (الأديب المشاكس ابن القيروان بِدَوره) منذ بضع سنوات ذكر فيها أنّه لم يعرف أحدا كتب ذاته كما هي بمختلف أحوالها المتناقضة مثله غير حسونة المصباحي؛ وأذكر من بين هذه الأحوال المتناقضة التي تحدّث عنها: العَته والعقل / الحدّة واللّين / المرارة والحلاوة / قلّة الأدب وكثرة الأدب... فنخلص إلى أنّ هذا الانغماس في الذّات بالنسبة إلى المرحوم المصباحي هو في الأصل انسياق وراء كتابة ذاته بجيناتها التونسيّة كما هي إذ لم يؤثر فيها الغياب المادّي والعيش في المهجر بعيدا عن تونس التي كتبها كما كانت وكما آلت بما فيها وبمَن فيها مدفوعا بشعور الحنين وعفويّة الكتابة النّابعة من عمق التّجربة الحياتيّة والثقافيّة أكثر منه خيار فكريّ وفنّيّ بدافع (حفظ الأمن الثّقافيّ التّونسيّ) ...

***

بقلم الأدبية: كوثر البلعابي

ارتأى الأديب المغربي عبده حقي إدراج منجزه الإبداعي " شذرات بلورية " ضمن نصوص سردية. وهي عبارة عن نصوص تتميز بالانفتاح والامتداد على عوالم لا محدودة، و غير محددة بأفكارها الوجودية الأنطولوجية، وأسلوبها الموزع بين التكثيف، وصبغة الجمال البلاغي المرتهن لرؤية ذات أبعاد وقيم كونية كالحب، والخلود، والجمال والقبح، والشيطان والملائكة، والموت والحياة، والعبث.. داخل نسق من متضادات ومفارقات مثل النور والظلام، والفرح والحزن، والانتصارات والهزائم.

ورغم أن نصوص المجموعة يطبعها الانفتاح الدلالي، والكثافة التعبيرية المخترقة بِنَفَس مجازي فهي لا تخلو من تيمات وعناصر حاولنا استخلاصها من سياق موسوم بعمق المعاني، وسعة الرؤية ؛ كعنصر التحول الذي ورد في العديد من النصوص كما في الشذرة 12: " الغرفة التي كانت ذات يوم عارية، تحولت إلى ركح من الأحلام. تحولت الجدران المتشققة منحدرات بلورية شاهقة، وتحولت ألواح الأرضية البالية إلى بحر متلألئ من ضوء القمر. " ص 7، وفي الشذرة 86، حيث يتحول المشمش إلى اللون البنفسجي: " يتحول المشمش إلى اللون البنفسجي المكدوم.. " ص 18، وتحول العشاق إلى غبار بعد معاناة من صبابة العشق، ولوعة الهوى: " وتنهدات العشاق الذين تحولوا منذ فترة طويلة إلى غبار." ص 24، تحول يأخذ صفة منحى فضفاض حينا: " لم أشفى فقط، بل تحولت. " ص 58، وعميق أحيانا أخرى يتغلغل بالدواخل موقعا أنغام توق جامح، وغبطة عارمة: " تحولت الموسيقى، وتحولت إلى الاستبطان. " ص68، يرقى بالمشاعر الباطنية إلى مقامات الصفاء والنقاء: " وتحولت العواطف إلى دوامة من الإحساس النقي. " ص 77، والخرسانة كمادة صلبة مكونة من الإسمنت وركام الرمل والحصى إلى بحر من الذهب: " تحولت الخرسانة تحت قدمي إلى بحر من الذهب السائل.. " ص 80، تحول قد يصير أكثر تعقيدا واشتباكا: " خرجت من شرنقة الوجود، عابرا عالقا في شبكة التحول الدقيقة. " ص 82، في حالة العلوق في شبكة التحول المتشا بكة بشكل دقيق ومحكم، وتحول الكرسي إلى شخص منحن: " أصبح الكرسي ذو الذراعين الموجود في الزاوية شخصا منحنيا.. " ص 109، والساعة المعلقة على الحائط إلى حارس هيكلي: " تحولت ساعة الجد المعلقة على الحائط إلى حارس هيكلي.." ص110. وعنصر التداخل الموسوم بالاندغام والانصهار كما حدث للسارد مع الكون الذي تداخل معه إلى حد تعايش تم عبر انجذاب غدا حلولا في الذات وانصهارا معها: " لم أكن أعيش في الكون فحسب، بل كان الكون يعيش في داخلي." ص12، ويشمل القلوب كذلك والأرواح من خلال خيوط اندماج، وأواصر ارتباط: " لقد كان رابطا، واندماجا للقلوب، واندماجا للأرواح. " ص 22، وذوبان في نهر الوجود الغني بحمولات هادرة متدفقة دون توقف أو انقطاع: " والذوبان في الذات في نهر الوجود الذي يتمظهر عبر رقصة تضم روحين متواشجين: " لم نكن سوى روحين، متشابكين في رقصة الوجود.. " ص 73، ليشمل، أي التداخل، الألوان كذلك في تحد لحدود المنطق ونواميسه: " تداخلت الألوان الزاهية مع بعضها البعض، وازدهرت النباتات المستحيلة متحدية المنطق.. " ص 85، مع ما يميز النباتات من نضارة الألوان وجماليتها وبهائها، ليبلغ هذا الاتحاد والتوحد أرقى رتبه وأرفعها في قوله: " أصبحا واحدا، واندمجت أرواحهما قي سيمفونية من العاطفة والرغبة التي تردد صداها في أروقة الخلد. " ص 135، التي تطال حلم الخلود وتغدو جزءا من عوالمه، وطرفا من أطرافه. كما اعتمد الكاتب عناصر ذات صبغة جمالية أثرت أسلوب النصوص / الشذرات، ونوعت صيغها، وقوالبها التعبيرية ؛ كالتشبيه في مثل قوله: " مثل نجم سقط من كوكب مكسور. " ص5، وقوله: " أصبح الزمن شيئا مرنا، يتمدد وينكمش مثل لحن منسي. " ص 63، وتوظيف اللون في عدة أشكال ومستويات: " العالم ينزف لونا أبيض. لم يلتهم اللون الأحمر العنيف لغروب الشمس.." ص 5، موزع بين الأبيض، والأحمر، والأخضر: " العالم ينزف باللون الأخضر. " ص 31، بل دوامة ألوان: " واجهت دوامة من الألوان." ص 72، شكلت، وأفرزت مشهدا خاصا: " لقد تحول العالم إلى مشهد من الألوان.. " ص95، في تحديد رمزية ودلالات هذه الألوان: " الرمز الأحمر يرمز إلى العاطفة.. كان اللون البرتقالي يمثل الفرح.. يرمز اللون الأصفر إلى الصداقة.. يمثل اللون الأخضر النمو والتطور.. يرمز الأزرق إلى الثقة.. والأرجواني يرمز إلى الروحانية. " ص 119. وكلها ألوان يتشكل منها قوس قزح: " تمتزج ألوان قوس قزح معا في انسجام.." ص 119، كتمهيد لنزعة رومانسية أثثت بعض نصوص / شذرات المجموعة ضمن معجم وردت فيه مفردات وعبارات مثل (حفيف، أوراق الشجر، زقزقة العصافير، رائحة الأزهار، همس النسيم): " حفيف أوراق الشجر، وزقزقة العصافير غير المرئية.." ص5، وفي: " في أنفاس الربيع. كل وعد همس حمله النسيم، واختلط برائحة الأزهار الحلوة.." ص44. وفي الشق السردي اعتمدت الشذرات على ذكر شخصيات تعاني من فقر: " صبي صغير مستلق تحت بطانيات رثة، يحلم بالتحليق في سماء مطلية بغبار النجوم. " ص7، لا يمنعها من امتطاء صهوة الحلم. والعامل الكادح الذي يتشبث هو أيضا بخيوط الحلم: " كان العامل المرهق، الذي كانت أطرافه مثقلة بالكدح، يجد عزاءه في رؤى المروج الخضراء حيث يذوب الوقت مثل ضباب الصباح. " ص7، نفس الحالة مع عجوز تخوض غمار الحلم: " امرأة عجوز، متجعدة وهشة، تطارد الفراشات بأجنحة من الزجاج الملون في حديقة الورود المستحيلة. " ص 7، وصورة رجل أعمال يتحسس ساعة جيبه، وامرأة شابة تحت طائلة حالة عشق متوتر، وفرح طفل يتم تصريفه عبر ضحكات تغمر أصداؤها أماكن يعمها الهجر، ويغمرها السكون: " رجل أعمال يتفقد ساعة جيبه إلى الأبد، وامرأة شابة تمسك برسالة حب ممزقة، وضحكات طفل يتردد صداها في الممرات المهجورة. " ص 59. واقترانا بالجانب السردي داخل متن نصوص الأضمومة، وفي تصور مختلف ومنزاح لكتابة القصة نقرأ: " كانت قصصها عبارة عن خيوط من الذهب والفضة، تنسج قصة تجاوزت حدود المألوف، وتجرأت على استكشاف عوالم ما هو استثنائي. " ص71، فبالإضافة إلى قيمة القصص الرفيعة وتشبيهها بخيوط من الذهب والفضة فإنها زاغت عن السائد والمألوف مستشرفة آفاقا مغايرة، وأبعادا مختلفة فغدا للقارئ دورا منتجا وفعالا: " اكتشفت وجودي. ليس كمجرد متفرج ن ولكن كبطل الرواية.. " ص 9، يتجاوز حدود التلقي والاستهلاك إلى المشاركة والمساهمة في خلق المنتوج السردي، وصناعة عناصره ومكوناته : " لم أعد قارئا سلبيا، بل مشاركا نشطا، ضائعا وموجودا في نسيج الكلمات المعقد. " ص9. وتعدد صفات ومواقع " الأنا " من وجودية: " أنا مهد الحياة، الحضن الذي يحمل أسرار الكون. " ص 32، إلى خفية مضمرة يجللها الكتمان، وتطوقها حدوده وحصونه: " أنا المذكرات المنسية، بقايا الزمن، وعاء الذكريات، أنا حارس الأسرار.. " ص 49، بما تؤتمن عليه من رغبات، وأحلام، ومشاعر، وأفكار..: " أنا نافذة الروح، المرآة التي تعكس أعمق الأفكار والرغبات، أنا اللوحة التي رسمت عليها الأحلام.. " ص 49، من خلال صور وتمظهرات وتجليات شفافة ومعبرة. وما تزخر به من أبعاد رمزية متعددة المعاني والدلالات: " أنا نذير التغيير، ورمز لرقصة الخلق والدمار الأبدية التي تشكل الكون. " ص 82، تقوم على ثنائية الهدم والتشييد الصادر عن رؤية كونية شاملة. واعتمد الكاتب كذلك عنصر الاستلهام تجديدا وتنويعا لمتنه الشذري السردي، فاستحضر الأوديسة: " لأنني في هذه الأوديسة الليلية.." ص 43، وتقنيات الكتابة الحديثة بمذاهبها ومدارسها من سريالية وتجريد: " وأنسج خيوط السريالية والتجريد.. " ص 48، وأعلام بارزين في مجال المعرفة والعلوم كعالم الرياضيات اليوناني إقليدس الملقب بأبي الهندسة: " ذات الأشكال الهندسية المستحيلة التي تحدت إقليدس.. " ص 98، وأسطورة سيزيف بحمولاتها الرمزية المجسدة لمفهوم العبث: " سيزيف محكوم عليه بدحرجة صخرة إلى أعلى التل إلى الأبد.. " ص142.

ورغم ما حاولنا إبرازه وكشفه من موضوعات وعناصر نصوص / شذرات المجموعة يظل الجانب المجازي، وجانب الموضوعات طاغيا ومهيمنا عبر أشكال وألوان يصعب الإحاطة بها، وسنكتفي بالإشارة إلى بعضها في مثل: " لقد شهدت على دموع تساقطت كالمطر، فابتلت في الأرض، وغذت تربة الحزن. " ص 8، باستعارة التربة للحزن، والقفل للانتظار في قوله: " أدخلت المفتاح في قفل الانتظار.. " ص 38، والدخان للندم: " مغطى بدخان الندم.. " ص 41، والمظلة للأحلام: " تحت مظلة الأحلام المنسية.." ص 46. والموضوعات من رحلة، وحكمة، وشك، وموت، وقبح وجمال، وشِعْر التي تعددت وتوالت فاتحة أفقا غنيا بعمق معانيه، وبعد دلالاته.

***

عبد النبي بزاز

.................

* شذرات بلورية (نصوص سردية) عبده حقي، مطبعة ألو مكتبة فاس 2025.

في المثقف اليوم