قراءات نقدية

قراءات نقدية

"الآن بدأت حياتي" للروائي السوري سومر شحادة نموذجاً

يقول إياس أحد شخصيات الرواية في نهاية المقطع التعريفي الخاص به " الآن تبدأ حياتي"، بعد أن أراح نفسه من تركة علاقته مع طليقته صفاء، المرأة الغائبة ومعها ابنهما في المهجر، حيث بدا فرحاً بلجوء لين، الحاضرة، إليه، ولن تسافر، لين التي تتحدث في المقطع التعريفي الخاصّ بها عن مقتل المحامي يوسف، كما تذكر أنه حسب ما نشر في الفيسبوك، كان مقتله على خلفية تورّطه في عددٍ من القضايا ضد أشخاصٍ فاسدين، كما قرأت تعليقات، يقول معظم أصحابها بأنه كان هارباً من انكشاف أحد ملفّات الفساد، كما قرأت عن ترجيح احتمال الانتحار، تلك الطريقة الشائعة في تصفية من يعترض طريق المافيا.

لين التي سيتّهمها المحققّون بالجريمة، كانت مقهورةً من العالم الذي شكّل علاقاتها المعقدة مع يوسف المقتول أو المنتحر، ومن ريما زوجة يوسف ومن صفاء طليقة إياس. والأخير كان هو من تريد أن تبدأ به حياتها أيضاً. ربّما كانت فرحةً لموت يوسف، إذ كانت على علاقةٍ عاطفيةٍ به، فرحها يكمن في أنّها أحسّت بالخلاص من الخديعة، خديعة حبّها ليوسف، الذي سيسافر إلى أميركا، برفقة زوجته ريما.

إياس، لين، ريما، ناديا، نهاد؛ هذه الأسماء، تشكّل المحور الرئيس لأحداث الرواية، ولذا يقدّمها الروائي سومر شحادة في مقاطع تعريفيةٍ خاصّةٍ بكلّ واحدٍ أو واحدةٍ منهم، تقدّم هذه الشخصيات رؤاها لعالم العلاقات التي تشتبك بها مع الآخرين، مع الحفر السردي لدواخل هذه الشخصيات، كلُّ ذلك في الفصل الأول من الرواية ذات الثمانية فصول.

نسائم علاقةٍ عاطفيةٍ جديدة

في مقطع التعريف الخاص به، يشرح إياس خلفية علاقته بلين، صديقة طليقته صفاء، حيث لجوئها إليه صباح اليوم التالي لموت يوسف، كان بمثابة هبوب نسائم علاقةٍ عاطفيّةٍ جديدةٍ في حياته، وكان قد حصل بينهما ودٌّ شفيفٌ في حفلة وداع يوسف وزوجته ريما للسفر إلى أميركا، على خلفية تداعيات الحرب في سوريا.

أمد الأحداث في الرواية لم يتجاوز أربعاً وعشرين ساعة، تبدأ من تجمّع الشخصيات أعلاه في منزل يوسف لأجل حفلة الوداع، فضلاً عن مدعوّين آخرين من المحامين ضمن شبكة معارف يوسف، وكذلك نذير خال زوجة يوسف، الرجل الغامض في الرواية، حيث بعد انفضاض السهرة، حدث ما يُشكُّ بأنّه انتحار. نذير الذي له علاقة قرابةٍ مع القضاء، كان مؤثراً في سير مجريات التحقيق، مطالباً المحققين بحسم موت يوسف على أنهُ قتلٌ وليس انتحاراً، كما أنَّ المحقق الرئيس ومعه مساعدان، كانا عجولين في البتّ بالقضية، وإعلان نتيجة التحقيق أمام الرأي العام، وذلك مطلب الجهات العليا.

من هذا العالم العلاقاتي المتشابك بنفوس شخصيّاته المضطربة، نفذت هذه الجريمة، التي اتُّهمت فيها لين، لأنّهُ في عالم اللاعدالة، ينبغي أن يكون هناك متَّهمٌ بريء، توجيه الاتّهام إلى لين كان مع سبق الإصرار، لأنّه حين استجوب المحقّقون ريما، أدلت بشهادة، بأنّها هي التي قتلت يوسف، بما معناه لا تتّهموا بريئةً في قتله. شهادة أربكت مسار التحقيق، وحين تشاوروا مع نذير، رفض التحريف الجديد لمسار التحقيق، حيث جهّز شهوداً آخرين، من بينهم صاحب السوبر ماركت، وحارس البناء الذي فيه شقة يوسف، اللذان أشارا بعودة لين إلى مسرح الجريمة ثانيةً، قبل وقتٍ قليلٍ من حدوثها.

العشيقة المغدورة

ومادامت الجريمة هي بؤرة الحدث، فإنّ المتهمة لين، تصبح قبلة أنظار الجميع، كما أنّ الحديث عن كلِّ شيءٍ يتعلّق بها، التهم الكثير من صفحات الرواية. لين التي تعيش وحيدةً في غرفةٍ مؤجّرة، تعيش منفصلةً عن أبويها، مثلما تخاف الارتباط الدائمي، هي المُشبعة بحكايات الانفصال بين الأزواج، لكنّها رمت نفسها في حكاياتٍ لا أمل منها، وتقصد المصير المسدود في علاقتها مع يوسف، التي انتهت بموته. قررت الانتقام من واقعها المتأزم، لا عبر قتل يوسف، كما تشير لائحة الاتّهام الرسمية، بل باللجوء إلى إياس، في صباح اليوم التالي لموت يوسف، لأنّها تعلم أن الطريقة الوحيدة لدخول حياته، هي أن تفرض نفسها عليه.

كانت لين قد هجست أنّه ربما سيوجَّه الاتّهام إليها، فهي بعد أن غادرت حفلة الوداع مبكراً، بعد أن تجاهلها يوسف أيضاً، عادت مرةً أخرى إلى مسرح الحدث، عودتها كانت الخطأ القاتل. لقد رآها زملاء يوسف في هذه العودة الثانية، وذكروا ذلك أمام المحققين، مما أرسل إلى المحققين تأكيداً على اتّهامها بقتله. كانت تتمازح مع ما أصبح خطأها الكبير: "لا أنسى مظهري في الشارع أمام زملائه، بدا أنّي مقدمةٌ على جريمة قتل. أمرّ مضحك. لا أستطيع أن أمنع نفسي من الضحك لهذا الخاطر؛ وهو أن يترك تعذّر وداع الأحبّة على الوجوه إيحاءً يشبه تعابير مرتكبي الجرائم" الرواية- ص 39 .

السيناريو المُدبّر

لم يتضّح السيناريو القاضي باتّهام لين بالقتل، إلاّ عندما استدعى المحققون نهاد والد يوسف، الذين سمّوه الشاهد الملك، وهو الممثل الأخير في مسرحية الاتّهام؛ لين كقاتلة، وإياس كمتستّرٍ عليها، ما أدلاه المحقّق الرئيسي على مسمع الشاهد الملك، ما هو إلا تقنيّةٌ سرديةٌ استخدمها الروائي، ليوضّح للقارئ تفاصيل القضية بحسب رؤية العدالة المُزيّفة، فسرد للشاهد الملك الحكاية الغامضة كي يوافق شكليّاً ولو بالإيماءة، بأنه هذا ما جرى فعلاً؛ ابنه يوسف قتلته عشيقته بمساعدة صديقه، حيث كان يوسف على علاقةٍ مع زوجة صديقه إياس، وانفصلت زوجته صفاء عنه جرّاء خيانةٍ صعبة. يوسف أهدى صديقه إياس منزلاً رخيصاً قياساً بفقد العائلة: الزوجة والابن. إهانةٌ لم يستطع إياس تقبّلها. كما أنّ يوسف وعد عشيقته بالزواج منها، ومن ثمّ قرّر أن يسافر مع زوجته، ويبدأ حياةً جديدة، وهذا استخفافٌ بمشاعر العشيقة لين، التي وجدت من يساندها كي تنتقم. المحقق الرئيسي، يقول لوالد يوسف" فعلنا ما بوسعنا لترتيب هذا السيناريو . وإبعاد أيّ تشويشٍ عن جوهر التحقيق. هل توافقنا عليه". الشاهد الملك أو الأخرس، أومأ بنعم .

أحسب أن الروائي قدحت عنده في البدء، هذه الفكرة البوليسية، وأقام عليها معمار الرواية، ومن ثم هيكلها في منحيين: العلاقات الحميمة والمريبة والمتداخلة بين شخصيات الرواية الأساسيين، ومن ثمّ الشقّ البوليسي، شقّ التحقيق مع الشخصيات ذاتها، حيث يقتحم عالم الرواية المحقق الرئيس ومساعداه ليفتحوا ملف العلاقات ثانيةً بصيغ اتّهامية متعدّدة، لتنحسر إلى صيغةٍ واحدة، وهي الضرورة الحتمية في اتّهام لين، لأنه لا بُدّ من مُتّهم، لكي لا تبقى نهايات التحقيق مفتوحة، وبالتالي لا بدّ من إحقاق العدالة الرسمية في غضون أربع وعشرين ساعة، حيث المشهد الأخير، تمثّل في مداهمة الأمن الجنائي لشقة إياس، وكان هو ولين عاريين، وقد اقتيدت لين بعنفٍ إلى سيارة الأمن، كان إياس قد أدرك أن بإمكانه التحرّر من سطوة طليقته صفاء، فكلّ شيءٍ في المنزل يذكّره بها، وتذكر الرواية في صفحتها الأخيرة بأنه أخذ يغالب شعوراً مريراً وقاهراً بالقول لنفسه: الآن بدأت حياتي..

هذه الرواية بحبكتها البوليسية المحزنة، حيث لم تتّخذ العدالة الحقيقية مجراها الصافي، تحمل في طيّات سرديّاتها الشفافة؛ ثنائية وهم الحب والانتظار، من جهة لين مع يوسف، كما ثنائية الصداقة والخديعة، من جهة لين وريما، بوصف الأولى عشيقة زوجها يوسف، وقبلاً لجهة صفاء مع ريما، بوصف الأولى أيضاً من عشيقات يوسف. إنّها روايةٌ تصوّر عالماً مضطرباً في زمن انعدام الحريات، إنّها تمثّل خير تمثيل الاحتجاج على العدالة المزيّفة.

***

باقر صاحب – أديب وناقد

.....................

* الرواية، من تأليف الروائي السوري سومر شحادة، وصدرت عن دار الكرمة – القاهرة عام 2024.

مواسم الغروب: رحلة بين الوجود والزوال

***

1- البنية واللغة:

يعد نصّ /بعيداً عن جمهورية أفلاطون/ نصًّا شعريًّا معاصرًا مليئًا بالصور الفنية المكثفة والرموز التي تتنقل بين مستويات عدة من التأمل الفلسفي والوجودي، إلى جانب التشبيهات الحسية التي تربط الذات بالعالم الطبيعي. من خلال استخدام الشاعرة للزمن والفصول الطبيعية، يطغى على النص الطابع الانفعالي والتشويش الوجودي، إذ أن الشخص الذي يتحدث في القصيدة لا يملك تصوّرًا ثابتًا لوجوده في سياق الزمان والمكان.

2- الطبيعة وعلاقتها بالذات:

إحدى السمات البارزة في النص هي تداخل المواسم والفصول مع مشاعر الشاعرة، ما يخلق نوعًا من الوحدة بين الذات الطبيعية والوجود البشري. يمكن للقارئ أن يلحظ حضور الفصول الأربعة كرموز دائمة للتغير والانتقال، الأمر الذي يعكس حالة عدم الاستقرار والاضطراب التي تعيشها الشاعرة.

الشتاء الذي يبدو /بيضاءً بيضاءً/ يرمز إلى النقاء والبرودة، لكنه في الوقت ذاته يحمل غربة الداخل والشعور بالعزلة.

الصيف الذي /يذروَ رمادَ إنتظاري/ يجسد الحنين والعذاب الناتج عن الانتظار الذي لا يفضي إلى شيء، مما يترك خلفه رمادًا غير منتج.

الخريف الذي /يمرّ من جنبيَ مرتديًا عباءةً صفراءَ/ يضفي على النص شعورًا بالشيخوخة والفقدان، حيث الخريف يرمز إلى النضوج الزائل والتحولات الحتمية.

أما الربيع، فيُحتَسَبُ كرمزٍ للأمل المتجدد، لكنه في النص لا يأتي حاملًا للبشرى المتوقعة، بل يتساقط تحت ضغط /الهسيس/ من الأطواق الخضراء للشعر.

هذه الفصول، وإن كانت تمثل دورة حياة طبيعية، إلا أنها تصبح مشهدًا للاضطراب الوجودي، وهو ما يعكس شعور الشاعرة العميق بتشتت الذات والعجز عن التكيف مع العالم المحيط.

3- الرمزية والخيال:

النص مليء بالرموز التي تحمل معانٍ فلسفية وتجريدية تعكس الصراع الداخلي. الشاعرة تستعير من العالم الطبيعي صورًا حية وساخرة لتصف تجربتها الشخصية:

الذبابة التي /تَتَيَبّسُ/ في الشاعرة تصبح صورة للحظة الموت أو التوقف، في مقابل العصفورة التي تبرز كرمز للحركة والتغيير.

النحلة التي /تخطفُ قبلةً/ من الشاعرة تظهر كرمز للرغبة والألم، حيث أن النحلة، بوصفها كائنًا طائرًا، تُجسد التوق الدائم والمستمر للحب والحرية، لكن كل قبلة تُخطف وتُسقط تُعتبر خسارة على مستوى الذات.

النملة التي /تطمسُ تاريخ الأرضِ بحبة قمحٍ ثقيلةٍ/ تمثل الموت الزاحف أو الفناء الذي لا مفر منه، في حين أن العنكبوت والدودة يرمزان إلى الموت البطيء والمجهول الذي يحاصر وجود الشاعرة.

هذا العالم المليء بالكائنات الصغيرة التي تتفاعل مع الشاعرة يشير إلى نوع من التلاعب بالأقدار، حيث يتم اختطاف لحظات الوجود والحب والتاريخ في عالم لا يبدو أنه يحتفظ بأي شيء مستمر أو ثابت.

4- الوجود والعدم:

يتحول النص إلى بحث عن معنى الوجود من خلال اللغة المكسورة والملتهبة التي تسود الأبيات. الشاعرة تتساءل عن طبيعة وجودها في هذا العالم، وتطرح تساؤلات وجودية عن جدوى الحياة والآلام التي تتراكم بمرور الزمن:

السؤال الوجودي الذي يظهر في قولها: /لِمَ غدوتُ موسماً مدمراً غيرَ مُتصالحٍ/ يعكس شعورًا بالفقدان والعزلة.

التوتر بين الفصول (الربيع والصيف والخريف والشتاء) يشير إلى محاولات عديدة لإيجاد الاستقرار، لكن الواقع يكشف عن تقلبات وصراعات لا يمكن التنبؤ بها.

القصيدة تصبح مساحة للشعور بالعجز أمام دورة الحياة التي لا تتوقف، وهذا يظهر بوضوح في التشبيهات التي تلجأ إليها الشاعرة في وصف تجربتها الوجودية.

5- التمرد على التوقعات والروتين:

تظهر الشاعرة كمتمردة على الرتابة الدنيوية والوجودية، حيث تشير إلى سعيها للخروج من النظام المنطقي والمرتب الذي تحاول الفلسفات الكبرى (مثل أفلاطون) فرضه على الوجود. ففي إشارة إلى /جمهورية أفلاطون/، يبرهن النص على رفض النظام المثالي الذي يقترحه أفلاطون، ليحل محله العالم غير المثالي، حيث الألم والفوضى والغياب سيّد الموقف.

6- الانتصار على الفوضى:

رغم كل هذا التوتر والفوضى التي تسود النص، فإن الشاعرة تصل إلى لحظة من الوعي الذاتي المتجدد، يتمثل في الختام حيث تقوم /خيالي بمَحوِ مواسمي/. هذا يشير إلى محاولة تصالح الشاعرة مع نفسها، وتحريرها من أسر المواسم والأوقات التي سلبتها قدرتها على التفاعل مع العالم.

7- خاتمة:

نص /بعيدًا عن جمهورية أفلاطون/ هو نصّ فلسفيّ بامتياز، يستحضر تداخلًا بين الواقع والفنتازيا، بين الحياة والموت، بين الوجود والعدم. الشاعرة چنور نامق تقدم من خلال هذه القصيدة رؤية كونية معقدة، تتفاعل فيها الذات مع عناصر الطبيعة والعالم المحيط بها، وتبحث عن مواضع التوازن في عالم دائم التغير والتقلب. النص يتسم بالانفتاح على أكثر من قراءة، وهو يعكس حالة من البحث المستمر عن معنى في عالم مليء بالتحولات والصراعات.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

..........................

بعيداً عن جمهورية أفلاطون

شعر: چنور نامق

ترجمة: مكرم رشيد الطالباني

***

أنا  موسمٌ آخرَ الآنَ

وموعد غروبي غير معلومٌ

تَتَيَبّسُ فيَّ ذبابةٌ

وتستَكينُ بغربةٍ على غصنِ ضفيرتي الموشحة بالهموم

عصفورةٌ

يزورني الشتاءُ

ويبدو بيضاءً بيضاءً

فيما الصيفُ يذروَ رمادَ إنتظاري

والخريفُ يمرّ من جنبيَ

مرتدياً عباءةً صفراءَ

ويحسدُني الربيع

ليقطفَ بالهسيسِ أطواقَ شَعريَ الخضراءِ

ليتساقطَ بدوره

**

الآنَ أنا جزءٌ آخرَ من جسدِ النساء الغاضبات

متقرفصةٌ أمام الجناتِ

يحدقنَ فيَّ بحسَدٍ

هن لن يكفنَ عن الماراثون وأنا من زياراتي المفاجئة

الآنَ أنا نهرٌ آخرَ

لن تسمحَ الهموم الصغيرةَ لـ(فيرمينيا) أن تتعرّفَ علي الأسماكُ

تُلَوِنُني الأمطارُ

تغترِفُني طحالبُ الحياةِ

الآنَ أنا نهرٌ آخرَ

تخطفُ نحلةٌ منيّ قبلَةً

لتسقطَ على بضعِ خطواتِ منيّ

لتطمسَ نملةٌ تاريخ الأرضِ

بحبة قمحٍ ثقيلةٍ

فيما  يهدمُ دارَ خياليَ غُرابٌ

ومن ثم تخطِفُ نحلةٌ أخرى قبلةً منيّ

لتسقطَ على بضعِ خطواتٍ منيّ

والآن تجدني ملأى بنحلاتٍ تواقاتٍ للقُبَلِ

بنملاتٍ ذي أحمالٍ ثِقالٍ

بعصافيرَ أضطربتْ نومها

**

وزعةٌ تلتهمُ البعوضَ

على مرأى من الشمسِ

فيما فراشةٌ تتلذّذُ بكلتا قدميها من قبلاتِ شفاهيَ

شبحٌ ينشرُ كفنٌ خُيّطَ حديثاً أمام مرآى ناظريّ

ملاكان يتشاجران حول الوجود

الصيفُ يرشني بالنارِ

والشتاءُ يُجَمّدُني

والخريفُ يُغَطّيني بعباءةٍ ناصعةِ البياضِ

فيما ها هو الربيعُ يسيرُ أمامَ جنازاتِ النحلاتِ

الوقتُ متأخرٌ وصخبُ موسمي هذا لا ينتهي

عنكبوتٌ

يبحثُ كيديكَ في ثنايا شعري عن القملِ

فيما تحرثُ دودةٌ أرضَ شُجَيراتي

يُبَلِغُني نورٌ بنبأ رحيلِ البرقِ

فيما الأشجارُ ترقصُ فيّ لدرجةٍ أهتزُّ

يا إلهي

لِمَ غدوتُ موسماً مدمراً غيرَ مُتصالحٍ

المزهریاتُ تملأُ نفسها من عِطريَ كلّ مساء

المسافرونَ يُعيدونَ آمالي إلى أحضانِ الحياةِ

بملء سلالهم

تَتَيبسُّ صرصورٌ بأمر النور على بضعِ خطواتٍ من إحدى شجيراتِ رغبتي

حان وقتُ غروبيَ الآن

يخطفُ عصفورٌ، نملةٌ ناظري

ونحلةٌ تخطفُ شفاهي

على إثر وقعَ أقدامهِ

يقوم خيالي بمَحوِ مواسمي

 

أبا الحسنين: شكوى فاطميّ

هذه القصيدة تُجسِّد أسمى تجليات الشعر العربي الأصيل (الذي نفتقده)، إذ تفيض بمشاعر الإعجاب والتبجيل نحو شخصية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام. حيث يعبر الشاعر السماوي عن مكانة الامام بأسلوب شعري بليغ يزخر بالصور المشرقة والمجازات البديعة، مما يجعل النص لوحة متألقة بألوان الإجلال والعظمة. القصيدة لا تقتصر على المدح، بل تتوغل في بُعدٍ إنساني عميق يعكس شكوى النفس وحلمها بالعدل. إنها أنشودة تحتفي بمناقب الإمام الخالدة وتجسدها بإبداع متدفق بالعاطفة والروح، ما يخلّد سيرته في أفق الأدب الخالد.

القصيدة ترتقي في مديح الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام إلى مستوى رفيع من التعابير الشعرية، حيث يمزج الشاعر بين التصوير الفني العميق والرمزية المدهشة، مُبرزًا أبعادًا متعددة من شخصية الإمام: الشجاعة، الطهارة، والعدل.

ففي البيت:

"فلستُ بمادحٍ شمسًا بقولي

تفيضُ سنىً فطبعُ الشمسِ رفدُ"

يرتقي الشاعر بالمديح إلى مقام الكمال، فيُشبه الإمام بالشمس التي تمنح نورها بلا مقابل، في استعارة تجمع بين الديمومة والكرم، وهو تشبيه يرمز إلى القوة والعظمة والإشراق، مؤكدًا أن الصفات السامية للإمام تُدرك بالحسّ لا بالكلمات. إذ يشبّه الإمام بالشمس التي تُشرق نورًا لا ينضب.

أما قوله:

"ومن ـ إلآكَ ـ بينَ الخلقِ شقَّتْ

جدارًا كعبةٌ ليقومَ مهدُ"

فهو تصوير يفيض بالرهبة والجلال، إذ يُبرز ولادة الإمام داخل الكعبة كحدثٍ فريد يجمع بين البعد الإلهي والرمزية التاريخية، في إشارة إلى طهارة الأصل وعلو الشأن.

وفي البيت:

"وُلِدتَ مُطهّرًا في خيرِ بيتٍ

وخيرُ الخلقِ منهُ عليكَ بردُ"

يتجلى الربط بين الإمام علي والرسول الأعظم محمد ﷺ في أسمى صور التلاحم الروحي، مما يُبرز الشاعر نقاء الإمام من خلال ارتباطه بالبيت النبوي، حيث يحتفي بطهارته وصفاء سيرته، مما يعكس صورة تكاملية تجمع بين السمو الشخصي والارتباط النبوي.

القصيدة تُثريها موسيقى بحر الكامل، بما يحمله من إيقاع متدفق يُبرز المضمون الفخم. القافية المُنتهية بـ "الدال" تُضفي ثباتًا على النص، فيما تتألق البلاغة عبر المحسنات البديعية كالجناس في:

"وأنتَ برودهُ إنْ شبَّ جمرٌ

وأنتَ لهيبهُ إنْ ضجَّ بردُ"

الذي يعكس التكامل في شخصية الإمام، بوصفه مصدر الأمان والحزم معًا.

وتمتد المعاني إلى نقد الواقع، حيث يصف الشاعر فساد الأمة في:

"أبالسةٌ ـ وإنْ صلّوا وصاموا ـ

وحفَّ بركبهمْ حرسٌ وجندُ"

ويبرز حاجتها إلى قيادة رشيدة تُجسّد قيم الإمام، كما في:

"فما نفعُ الكتائبِ دون حزمٍ

يسيرُ بها غداةَ يَحينُ جدُّ"

ليؤكد أهمية القيادة التي تتسم بالعدل والحزم في استعادة المجد.

القصيدة تقف شامخة في مديح الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، حيث استحضر الشاعر أسمى القيم والمآثر التي تجسّد مكانته السامية. تجسد الأبيات مشاهد فنية عميقة، تمزج بين الرمز والواقع، وتبني للإمام صورة مثالية تستند إلى المجد والعدل والشجاعة

كما وتتسم بجزالة لغوية وتراكيب متينة، حيث تتدفق القوافي بسلاسة، معززة إيقاعًا موسيقيًا محكمًا. الصور البلاغية تنبض بالحياة، مثل قوله:

"فأنتَ الشمسُ لكن لا غروبٌ"،

و"عيدُكَ وحدَهُ للظلمِ وعدٌ"،

ما يمنح النص قوة تعبيرية متفردة. تكرار استخدام المفارقات (الشمس بلا غروب، والحدّ بلا حدود) يعكس طبيعة الإمام الفريدة التي تتجاوز المألوف.

كما لم ينس الشاعر ان يتناول قضية العدالة من منظور إنساني عميق، مؤكدًا على استقامة الإمام ورفضه للظلم.

القصيدة تُبرز الجانب الإنساني للإمام، فهو الشجاع والرحيم، الذي يُغيث المظلوم ويرد كيد الظالم. فيقول: "وإنْ عطشَ النميرُ فأنتَ وردُ"،

وهو تصوير يضهر شخصيته كمصدر للخير والحياة.

القصيدة تُجسّد تحفة شعرية متألقة تجمع بين الجزالة الفنية والرمزية العميقة، فتُبرز شموخ الإمام علي عليه السلام في صورة مشرقة تُحيطها العظمة والجلال. يُظهر الشاعر براعته في المزج بين الوصف الحسي والمجاز، مستحضرًا فيضًا من المعاني التي تؤكد مكانة الإمام كرمز للعدل والطهر والشجاعة. الموسيقى الشعرية المنسجمة تُضيف وقارًا للنص، فيما تفتح الأبيات أفق التأمل لاستلهام قيمه النبيلة، لتكون نبراسًا لإصلاح المجتمعات والتمسك بمبادئ الحق.

***

سعاد الراعي

.................

للاطلاع على قصيدة الشاعر يحيى السماوي

https://almothaqaf.org/nesos/979049

عن نص بعنوان (الحافلة) لـ (خالد جمعة) كتابة 1994 وسينوغرافيا وإخراج ومعالجة نصية لـ (د. حيدر منعثر). بطولة لمياء بدن وزهرة بدن ولؤي أحمد وطلال هادي وأياد الطائي وآخرون والذي تم عرضه على خشبة مسرح الرشيد يوم الثلاثاء الموافق ١٧/ ١٢ / ٢٠٢٤ ضمن فعاليات مهرجان بغداد الدولي للمسرح 5/ دورة الفنان الراحل الدكتور شفيق المهدي.

حين يتحوّل سؤال بسيط كـ "وين رايحين" إلى صرخة وجودية تهز أركان المسرح العراقي، تدرك أنك أمام عمل استثنائي يتجاوز حدود التقليد ليؤسس لرؤية مسرحية معاصرة. على خشبة المسرح، تتجسد حافلة معطلة، ليست مجرد ديكور ثابت تراه وتحسه من الخارج بل حقيقة تعيشها من الداخل وتتماهى معها لأنك احد ركابها بامتياز، وهي استعارة درامية لوطن محاصر بأسئلة المصير وقلق الهوية. يقودها سائق متوهم مغتر بحنكة زائفة، بينما يجلس على مقاعدها مانيكانات جامدة تنتظر لحظة التحول، في مشهد يختزل مأساة مجتمع يترنح بين سلطات متعددة وأيديولوجيات متصارعة.

يقدم المخرج حيدر منعثر في "وين رايحين" معالجة إخراجية فريدة تمزج بين نظرية ستانسلافسكي في تحريك الكتل وأسلوب بريخت في التغريب المسرحي. فالمانيكانات الثابتة التي تولي ظهرها للجمهور ليست مجرد عناصر سينوغرافية، بل هي تجسيد لحالة الصمت والخضوع التي تسبق الثورة، في انتظار لحظة التحول الدرامي التي ستهز وعي المتلقي.

لنرتقي سلم مستويات العرض البصرية ونطأ العتبة الأولى فيه التي هي العنوان "وين رايحين؟" حيث تجلى العنوان كسؤال وجودي عميق يتجاوز حدود الاستفهام البسيط عن الوجهة، ليطرح إشكالية فلسفية وجودية واجتماعية متعددة الأبعاد.

فعلى المستوى الفلسفي، يستدعي العنوان أسئلة الكينونة الأساسية: من نحن؟ وإلى أين نمضي؟ وما معنى وجودنا في عالم يفقد بوصلته كلما مضت خطواتنا فيه بعيدا؟ إنه سؤال يستبطن القلق الوجودي الذي تحدث عنه هايدغر، حيث يجد الإنسان نفسه "مقذوفاً" في عالم يفتقد فيه اليقين ويبحث عن معنى لوجوده.

اجتماعياً، يكشف العنوان عن أزمة مجتمع يعيش حالة من التشظي والضياع. فالسؤال "وين رايحين؟" يعكس حالة جماعية من فقدان البوصلة في خضم التحولات السياسية والاجتماعية العاصفة. إنه صدى لصوت جيل كامل يجد نفسه عالقاً بين موروث ثقيل وحداثة مربكة، بين سلطات متعددة تفرض وصايتها، وبين هويات متصارعة تسعى كل منها للهيمنة.799 show

أما على المستوى الوجودي، فيتحول "وين رايحين" إلى صرخة احتجاج ضد العبثية والعدمية. إنه سؤال يحمل في طياته بذور التمرد على واقع مفروض. يتجاوز الاستفهام هنا مجرد السؤال عن الوجهة ليصبح تعبيراً عن قلق الهوية في عصر تتآكل فيه المعاني وتتشظى فيه الذوات.

الحكاية: مجموعة من الركاب تحتضنهم حافلة معطلة وسط مكان يجهلونه بتعمية قصدية ليشمل وطنا بأكمله تواجههم عقاب الوصول لوجهاتهم بألوان مختلفة لكنها واقعية عشناها كذاكرة جمعية لا تفارق وجداننا وخوفنا الدائم من عودتها. في سياق المسرحية، يكتسب العنوان بُعداً درامياً خاصاً، حيث تتحول الحافلة المعطلة إلى استعارة مكثفة لحالة الضياع الجمعي والزمن المتحجر. ولو توغلنا عميقا في مفهوم "الزمن المتحجر" لوجدناه يفجر كتعبير عن الجمود الحضاري باعتباره حالة وجودية معقدة تعكس المسار التاريخي للمجتمع العراقي، حيث تتحول الحافلة إلى رمز للوطن المعطل والمحاصر. حيث مرت تلك الحافلة بمراحل للتدهور: جعلتها تنتصب في مسار طريق العراقيين ممثلة لـ "ميتافورا" الرحلة المعطلة رمز للتيه الوطني محاكاة لحالة الجمود السياسي التناقض بين حركة السيارة وثبات الواقع . شكلت سيارة التاتا في السياق المسرحي استعارة مركبة تتجاوز بعدها المادي المباشر لتؤسس فضاءً دلالياً عميقاً يختزل أزمة حضارية شاملة. يتجلى هذا التكثيف الدلالي في تضافر المستويات المختلفة للاستعارة، حيث يمتزج المادي بالرمزي، والواقعي بالمتخيل، ليشكل نسيجاً دلالياً متكاملاً.

تكتسب الميتافورا عمقها من خلال تعدد مستويات القراءة، فعلى المستوى المادي تمثل السيارة المتهالكة البنية التحتية المتداعية للمجتمع، وقِدم طرازها يعكس التخلف التكنولوجي، بينما يتجلى على المستوى الرمزي توقف مسيرة التنمية والتقدم في صورة الرحلة المعطلة. أما على المستوى الوجودي، فيتحول التعطل إلى حالة وجودية تعكس أزمة الهوية والعجز عن التغيير.

يتعمق البعد الدلالي للاستعارة في سياق الواقع العربي المعاصر، حيث تمثل السيارة المعطلة توقف المشروع النهضوي العربي، والركاب العالقون يجسدون شرائح المجتمع المختلفة في مواجهة قصور الحلول الاجتماعية. يتجلى البعد السياسي في رمزية النظم المتهالكة وغياب الإرادة السياسية للتغيير، بينما يعكس البعد النفسي حالة الإحباط الجماعي والشعور بالعجز والضياع.

يتعزز عمق الاستعارة من خلال اختيار "التاتا" تحديداً كنموذج للتخلف التكنولوجي، وقِدم طرازها كانعكاس للتمسك بالقديم وعدم مواكبة العصر. أما التعطل المتكرر يتحول إلى رمز للأزمات المستمرة، والعجز عن إصلاحها أو العثور على حل ولو على سبيل المزحة يشير إلى تجسيد لقصور الحلول المطروحة، بينما يمثل الانتظار العبثي حالة اليأس الجماعي الغودوي.

تقدم هذه الميتافورا المسرحية صورة مكثفة لأزمة حضارية شاملة، تختزل في مشهد واحد إشكاليات التقدم والتخلف، الحداثة والتقليد، التغيير والجمود. إنها تتجاوز كونها مجرد عنصر سينوغرافي لتصبح وثيقة درامية تؤرخ لحالة التوقف الحضاري وتكشف عن عمق الأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية في مختلف مستوياتها السياسية والاجتماعية والثقافية، مؤسسة بذلك لحالة مسرحية تتجاوز التعبير المباشر إلى فضاء رمزي عميق يستفز الوعي ويحرض على التفكير في أسباب هذا التوقف وسبل تجاوزه.

يصبح السؤال "وين رايحين" بمثابة المرآة التي تعكس صورة مجتمع مأزوم، يبحث عن مخرج من متاهة التيه، ويسعى لاستعادة قدرته على تحديد مساره. وعبر تحول المانيكانات من حالة الجمود إلى الحركة، يتحول السؤال من مجرد استفهام يائس إلى إعلان عن إرادة التغيير والتحرر.

وهكذا يتجلى العنوان كنقطة التقاء بين الفلسفي والاجتماعي والوجودي، حيث يختزل في كلمتين بسيطتين عمق المأساة الإنسانية المعاصرة، ويفتح الباب أمام تأملات عميقة في معنى الوجود والهوية والحرية. إنه ليس مجرد سؤال عابر، بل هو صرخة جيل كامل يبحث عن ذاته في خضم عالم يفقد معناه، ويسعى لاستعادة حقه في رسم مصيره والإجابة عن سؤال: إلى أين نحن ذاهبون حقاً؟

يتجلى في العنوان نفسه جوهر الأزمة الوجودية التي يعيشها الإنسان المعاصر عموماً، والعراقي خصوصاً. المسرحية تختزل تاريخ العراق المعاصر. من حروب صدام إلى داعش، مروراً بالاحتلال وتمزق النسيج الاجتماعي الى قادة الديمقراطية المزعومة. كل مشهد يحاكم زمناً أطاح بالإنسانية. "وين رايحين" تتجاوز كونها عرضاً مسرحياً لتصبح وثيقة فنية تؤرخ لحالة التشظي والضياع، مستخدمة أدوات المسرح الحديث لتقديم رؤية نقدية عميقة للواقع. المسرحية تمثل صرخة وجودية في وجه منظومات القمع، محاولة استعادة الإنسانية المسلوبة عبر الفن والإبداع، عبر مسرح يشهق بألف لغة، ويروي مرثية وطن يحتضر على خشبة التاريخ. يتجاوز العرض المفهوم التقليدي للدراما. الحبكة تتفكك لصالح لحظات بصرية كثيفة، حيث يصبح المشهد البصري هو البطل الحقيقي للعرض. عبر أسلوب مسرحي حديث يزاوج بين التغريب البريختي والاحتجاج المجتمعي، نرى أنّ الحافلة المعطلة التي تقل ركّاباً مهمشين منكوبين تائهين هي استعارة لوطن معلّق على حافة الهاوية، يتقاذفه ضجيج أيديولوجيات متناحرة وسلطات تُحكم قبضتها باسم الدين أو السياسة أو العرف وهذا التأرجح القلق نتيجة تجاذب هذه القوى فيمن يحكم قبضته على هذه الحافلة المعطلة وامتهان ركابها. يتوهّم السائق قدرته على القيادة بينما هو مفتقر للبوصلة الحقيقية في الاستدلال، لتتعاقب بعدها على الركاب نتيجة هذا الركود المتمثل بعطل السيارة شخصيات سلطوية تمارس قمعها بذرائع متنوعة، وسط غيابٍ تامّ لحريّة المرأة والفكر والثقافة وتمييع الانتماء لنقع في مستنقع حقيقي مفاده "حيثما كان العراقي وبأي مسمى له كانت التهمة حاضرة لتغييبه" ربما يكون هذا المسمى هو الدين، ربما نوع المهنة، الثقافة العامة، الشكل، كلها اتهامات نتيجتها قطعة حديد ساخنة في الجبهة (طا ، طا) وإعلان خاتمة لبنيان الله الذي اسمه الإنسان. وكل ذلك إشارة لحقبة مريرة عاشها العراقيون وهم يخوضون غمار الوجع وسط مركبة وطنهم المحتجز عن الشمس.

إنّ الأسئلة المضمَنة في "وين رايحين" ليست مجرّد تمتمات على خشبة مسرح، بل هي احتجاج حيّ على واقع مأزوم، واستنطاق لرغبة جامحة في بناء رؤية أكثر رحابة للإنسانية ولا تمثل نقمة واعتراض على عهد بائد دون غير فالامتداد الزمني ما زال يحمل معه كل حرائق العالم المدمرة. يصير الزمن عبئاً يقمع الحاضر، فيرتفع العرض إلى مستوى الأطروحة الفلسفية: هل نحن رهائن لقوى تهمّشنا وتقتات على خوفنا؟ وهل من خلاص سوى باكتشاف الذات ونفض غبار الاستلاب؟

هكذا تسطع المسرحية كشرارة تهزّ وعينا وتهشّم المقولات الجاهزة. فبين ظلال الحافلة وأضواء التقنيات الحديثة، يبرز جوهر الصراع: حريّة تخبو تحت أثقال الماضي، وإنسان يقاوم لاعناً قيود السلطة والتابوهات، متأهّباً لعبور بوابة الرجاء. وفي هذه الرحلة الصاخبة، يظل العنوان "وين رايحين" صرخةً مفتوحة على احتمالات التغيير، واحتمالات التيه في آن واحد، كتنبيه أخير يحدّث كلّ من يجرؤ على الإنصات لنداء الحرية، ويمهِّد الطريق أمام وعيٍ جديد قد ينهض من رماد الصمت. السؤال "وين رايحين" يتردد صداه في كل مشهد، ليس فقط كسؤال عن الوجهة المادية، بل كاستفهام وجودي عميق عن مصير الإنسان ومعنى رحلته في الحياة نجهل من أين أتينا؟ وبجهل أعمق والى أين هي وجهتنا؟.

الحوار في المسرحية وعلى لسان شخصياتها يستفيد من تقنيات مسرح العبث في تفكيك اللغة، لكنه يوظف اللهجة المحلية بطريقة تجعل العبث أكثر قرباً من الواقع المعاش. هذا المزج بين العبثي والواقعي يخلق أسلوباً مسرحياً متفرداً. لذلك تتجلى براعة البناء الدرامي في توظيف الشخصيات كرموز سوسيولوجية: حيث المرأة الكبيرة (لمياء بدن) بسؤالها النابع من رحم عنوان العرض وين رايحين؟ "بعد شكد ونوصل؟" ممثلا صرخة للخلاص من حصار الزمكان الخانق الممل لتجيبها الفتاة الأيزيدية (زهرة بدن) مترددة "والله يمه ما أدري"، ليمعن الشاب "لؤي أحمد" بتأجيله المستمر في تيه وجودنا في غيابت جب الحياة بقوله "بعد وكت يمه"، وحينما توجه كل هذه الأسئلة وغيرها للسائق نجده أي نجد القائد والدليل على الخلاص والذي يجسد السلطة العاجزة تائه هو الآخر. إذن أي خراب ضياع تعيشه هذه المجموعة التي تمثل شعبا عمره 7000 سنة في حافلة بل قل في خربة معتمة تخرج يدك فيها لم تكد تراها. هذا التوظيف يؤسس لما يمكن تسميته بـ"المسرح السياسي التشخيصي" الذي يتجاوز التناول المباشر للقضايا السياسية نحو فضاء رمزي أكثر عمقاً وتأثيراً والذي استقيناه من إشارة للسائق في معرض وصفه الدعائي لعمر سيارته في مشهد ساخر جمعه مع أحد قطاع الطرق الطائفيين هذه السيارة التي تمثل الوطن كما قلنا نزولا عند ميكانزمات الميتافورا.

يشكل مشهد طلب السائق من لمياء بدن الرقص بدلاً من الحكي تحولاً درامياً عميقاً في بنية العرض المسرحي. فحين يقول السائق النعسان الذي يريد الاحتيال على نعاسه من خلال "ما أريد أسمع... أريد أشوف"، يتحول المشهد من سرد شفهي لمعاناة المرأة إلى تجسيد حركي مُفعم بالدلالات.

يتجلى في هذا التحول مستويان من القهر: الأول يتمثل في سلطة السائق الذي يمارس هيمنته على الراكبة، والثاني في تحويل المأساة من نص مسموع إلى عرض مرئي، وكأن معاناة المرأة تتحول إلى مادة للفرجة. لكن لمياء بدن تحول هذا القهر المزدوج إلى فعل مقاومة عبر الرقص، مستخدمة جسدها كأداة تعبيرية تتجاوز حدود الكلمات.

تأتي حركات الرقص متناغمة مع الموسيقى الحزينة، حيث يتحول الحجاب من قيد اجتماعي إلى عنصر درامي يشارك في تشكيل لوحة راقصة تعبر عن الألم والقهر. فالجسد المتحرك في فضاء الحافلة المعطلة يروي قصة صامتة عن العنف والظلم، ويتحول كل دوران أو انحناء إلى جملة احتجاجية صامتة.

يكتسب المشهد عمقاً إضافياً حين نفهم أن تفضيل السائق للرقص على الحكي يعكس رغبة السلطة في تحويل المعاناة إلى مشهد استعراضي يُفرغها من محتواها السياسي. لكن لمياء بدن تقلب المعادلة، فتحول الرقص إلى خطاب جسدي مقاوم، يقول ما لا تستطيع الكلمات قوله. يمثل هذا المشهد ذروة في توظيف الجسد كأداة للتعبير السياسي، حيث يتحول صمت المرأة المحجبة إلى صرخة حركية، وينقلب طلب السائق المتسلط إلى فرصة لفضح العنف المجتمعي. وحين تنتهي الرقصة، لا يكون المشهد مجرد استجابة لطلب السائق النعسان، بل يصبح شهادة حية على قدرة الفن على تحويل القهر إلى جمال، والصمت إلى احتجاج.

هكذا يقدم المخرج حيدر منعثر معالجة بصرية وحركية عميقة تتجاوز السرد التقليدي، مؤكداً أن الجسد المتحرك في الفضاء المسرحي يمكن أن يكون أبلغ من آلاف الكلمات في التعبير عن المأساة الإنسانية. ويبقى مشهد الرقص علامة فارقة في العرض، يؤكد أن الصمت المفروض يمكن أن يتحول إلى لغة احتجاجية بليغة حين يقترن بالحركة الواعية والتعبير الجسدي المدروس.

تتجلى السبورة في مسرحية "وين رايحين" كفضاء رمزي يتجاوز كونه مجرد أداة للكتابة، ليتحول إلى مختبر فكري يوثق تاريخاً من الوجع. وعند محاولة زهرة بدن كتابة حرف الدال، الذي يفتتح كلمتي "دار" و"دور"، تنفتح بوابة الذاكرة على مأساة شخصية تختزل مأساة جماعية.

تتصاعد المأساة حتى تتفجر في صرخة "بيتنااااا"، التي تتجاوز حدود الصوت الفردي لتصبح علامة سيميائية مركبة. يمتد المد الصوتي في الصرخة ليوثق عمق الجرح وفداحة الخسارة، محولاً البيت من مجرد مكان مادي إلى فضاء وجودي يحمل معاني الهوية والانتماء.

تتحول "بيتنا" إلى قصيدة مسرحية مكثفة، تختزل في لحظتها العابرة تاريخاً من الألم والفقد. إنها جسر يربط بين زمنين: ماضٍ مفقود وحاضر مشوه، لتصبح وثيقة إنسانية تؤرخ للحظة انكسار جماعي، محولة الصوت الفردي إلى ملحمة تحكي قصة شعب بأكمله.

وهكذا يتحول مشهد السبورة من مجرد لحظة درامية إلى فضاء للمقاومة، حيث تتداخل الذكريات الشخصية مع الهم الجماعي، مطلقة سؤالاً وجودياً عن إمكانية استعادة الحرية المسلوبة في ظل واقع قمعي.

 كذلك من المثابات الإخراجية المهمة التي اعتنى بها كثيرا المخرج الفذ "د.حيدر منعثر" هو مشهد التصويت على اختيار ما يذاع من راديو السيارة الغناء أو القرآن والذي شكل ذروة درامية تؤسس لنقد لاذع للديمقراطية الشكلية التي صرح وبخطاب مباشر الشاب لؤي احمد بأنها مؤامرة اخترعها السياسيون للضحك على الذقون . هنا يتجلى "التناقض الدرامي المقصود" بين أهمية القرار المطروح للتصويت (غناء أم قرآن) وحجم المأزق الوجودي الذي تعيشه الشخصيات (الضياع والتيه). هذا التناقض يؤسس لما يمكن تسميته بـ"المفارقة السياسية المسرحية" لعامة شعب مستلب حيث الاهتمام بالقشور وإهمال اللب والحقيقة الكبرى بإيجاد حل جذري للمشكلة. وهذا من خصائص "المسرح السياسي المركب" الذي يمزج بين النقد الاجتماعي والتجريب التقني والعمق الفلسفي.

أبدع المخرج حيدر منعثر في صناعة مشهد مسرحي يؤسس لخطاب درامي يتجاوز البنية السطحية للحدث المسرحي إلى البنى العميقة المؤسسة للصراع القيمي في المجتمع العراقي المعاصر. يتمحور المشهد حول ثنائيات ضدية تؤسس لجدلية درامية عمقة: النور/الظلام، الإنسانية/التوحش، التسامح/التعصب، مجسدة في الصراع بين شخصية الداعشي "اياد الطائي" (الأنا المتطرفة) وشخصيتي الأم والزوج برفقة الفتاة الايزيدية(الأنا الإنسانية). يتجلى من خلال هذا المشهد المستوى الأيديولوجي في تفكيك الخطاب المتطرف وإعادة بناء خطاب إنساني مضاد، يتأسس على قيم التسامح والتعايش. يتحول ادعاء الأمومة والزوجية من قبل لمياء بدن ولؤي أحمد إلى استراتيجية درامية تؤسس لخطاب المقاومة السلمية، متجاوزة حدود المواجهة المباشرة إلى تأسيس فضاء إنساني بديل.

تجاوز الدكتور "حيدر منعثر" الأطر التقليدية للنظريات المسرحية، مقدماً نموذجاً هجيناً يستجيب لتعقيدات الوعي المعاصر وتعدد مستويات الإدراك لدى المتلقي المعاصر. حيث تجلت هنا براعة السينوغرافيا المسرحية في توظيف المايكروفونات الثلاث المعلقة في سقف الخشبة والمحصورة في كادر الداتا شو وهي تستعرض مشاهدا مؤلمة من أرشيف حياتنا الضاجّة بالعويل كعنصر سيميولوجي مزدوج الوظيفة. فمن الناحية التقنية، تمثل المايكرفونات أداة صوتية تنحصر وظيفتها في وصول مديات الصوت لكافة الجمهور بوضوح تام ، بينما تتحول في المستوى الدلالي الأيقوني إلى تجسيد مادي لجثث الشخصيات الثلاث (زهرة بدن، لؤي أحمد، لمياء بدن) وهم يمثلون ثلاثة أجيال متفاوتة الحصار الزمني والمكاني (الجد والابن والحفيد) قد حكم عليهم بالاغتراب بالنفي بالمرض بالتجاهل بالإعدام.

من خلال هذه الجزئية الميزانسينية وظف المخرج تقنية التغريب البريختي، حيث جعل من العنصر التقني (المايكروفونات) أداة درامية تحمل دلالات سياسية واجتماعية عميقة. حتى تجاوز الميزانسين وظيفته الجمالية التقليدية ليؤسس فضاءً مسرحياً يحمل خطاباً احتجاجياً ضد الظلم الاجتماعي من خلال تداخل الصور التجريدية بالواقعية.

تتحقق جدلية التلقي الجمالي عبر صدمة المشاهد أولاً بالشكل البصري "غير الجمالي" للمايكروفونات المتدلية، ثم تحويل هذه الصدمة إلى وعي نقدي بالدلالة السياسية للمشهد. وفق نظرية المسرح السياسي، يتحول المتلقي من مجرد مشاهد سلبي إلى عنصر فاعل في العملية المسرحية، مدعو للتفكير النقدي والفعل الاجتماعي خارج إطار العرض.

هكذا تتكامل العناصر السينوغرافية والسيميولوجية في بناء خطاب مسرحي يتجاوز الوظيفة الجمالية إلى التحريض على الفعل الاجتماعي، محققاً غايات المسرح السياسي في إثارة الوعي النقدي وتحفيز التغيير الاجتماعي.

أسس المخرج حيدر منعثر لتقنية "التراكم السيميائي" في بناء مشهديته المسرحية، مستثمراً ثنائية السؤال/اللاإجابة كمحرك درامي رئيسي. تتجلى هذه التقنية عبر "السينوغرافيا الدلالية المتحولة" التي تتشكل من خلال معالجة إخراجية متقنة للإضاءة والبقع الضوئية. تتحول الإضاءة في العرض من عنصر تقني بسيط إلى مكون درامي مركب، حيث تؤسس "الإضاءة الفيضية" لما يمكن تسميته بـ"خداع البصيرة المسرحية". هذا التوظيف يتجاوز البعد الجمالي ليخلق "تشكيلاً بصرياً دالاً" يعمق المعنى الدرامي للعرض.

وذلك من خلال هذا التبسيط الدلالي حيث تتصاعد حدة التوتر الدرامي مع انتشار البقع الضوئية وتلاشيها، مجسدةً حالة القلق المتنامي للشخصيات وهي تواجه أزمة الخزان المثقوب والطريق الطويل. تبلغ المفارقة ذروتها حين يأتي الجواب ساخراً من قبل السائق مقابل اقتراحات الركاب المختلفة والقابلة للتحقيق في مواصلة الرحلة "بس آني نعسان" مصحوباً بإضاءة فيضية، كعنصر درامي يؤسس لما يمكن تسميته بـ"خداع ساخر للبصيرة المسرحية". لتتحول الإضاءة من أداة كشف إلى عنصر تضليلي يعمق حالة التيه والضياع.

يتجلى التقاطع العميق بين نظرية ستانسلافسكي حول الكتل وتوظيف المانيكانات في مسرحية "وين رايحين" عبر مستويات متعددة من المعالجة الدرامية. فبينما يؤكد ستانسلافسكي على ضرورة التحفيز الداخلي والتبرير المنطقي لتحريك الكتل الثابتة، نجد أن المخرج د.حيدر منعثر قد وظف هذا المبدأ بشكل معاصر وعميق، حيث جاء تحول المانيكانات من حالة الثبات التي ظن المتلقي بدوامها حتى ختام العرض إلى الحركة مدفوعاً بضرورة درامية واجتماعية ملحة مثلت خطاب العرض.

يتجسد "الفعل المنطقي" الذي نادى به ستانسلافسكي في العرض من خلال التحول التدريجي للمانيكانات، حيث لم يكن تحولها مفاجئاً أو اعتباطياً، بل جاء كنتيجة طبيعية لتراكم الضغط الاجتماعي والسياسي. فالمانيكانات المولية ظهرها للجدار الرابع لم تتحرك منذ بدء العرض إلا حين بلغ الوعي بالمأساة ذروته، محققة ما يسميه ستانسلافسكي "الخط المتصل للحركة". حيث تجلى التوظيف الفينومينولوجي لهذه المانيكانات المزروعة على مقاعد المسافرين في مسرحية "وين رايحين" من خلال المفهوم الفلسفي السياسي"الميتاثياتر السياسي" كتجسيد عميق للتحول من "الوجود بذاته" إلى "الوجود لذاته" بمفهوم سارتر الوجودي، فــ "الوجود بذاته" كما هو معروف يمثل حالة الأشياء الجامدة التي لا تملك وعياً أو إرادة للتغيير، وهو ما جسدته المانيكانات الثابتة في المسرحية في إطلالتها الأولى، بينما يمثل "الوجود لذاته" حالة الإنسان الواعي القادر على الاختيار وتحمل المسؤولية، وهو ما جسده ظهور كادر الممثلين جميعا كشخصيات متحولة في نهاية العرض.. فثبات المانيكانات في الكراسي مع توجيه ظهورها للجدار الرابع كان يشكل استعارة بصرية صارخة لحالتنا كمتفرجين سلبيين على جحيم جروحنا، غير قادرين على المشاركة في تغيير واقعنا. يتعمق هذا المعنى مع تحول هذه المانيكانات الجامدة إلى شخصيات واقعية بريختية ترفض العبودية وتعلن بوضوح "احنا نحدد مصيرنا ولازم نوصل" في سعي حثيث لمعرفة "وين رايحين" حيث زامن ظهور الكادر التمثيلي برمته وهم يصرخون بحرقة مواطن حقيقي مجروح يتحدث بلغة الـ "آه" والـ "ونّة" (لازم نوصل). اختفاء جميع مانيكيانات مقاعد المسافرين في مشهد التحول وهو ما أراد إيصاله الدكتور حيدر منعثر في ثمرة التحول بأننا سننهض ونعلم صرختنا بوجه الذل والعبودية والاستسلام وكل صورها.

هذا التحول الدرامي كشف عن قدرتنا الآن على نجدة من كنا نستمع لقصص معاناتهم كالسكران المكسور المهمش، والمرأة الإيزيدية المعتدى عليها التي تحوّل بيتها المربع إلى مستطيل بعد بيع نصفه، والأم التي زفت أبناءها واحداً تلو الآخر لمحارق الحروب المتتالية - من موت الملك إلى موت الزعيم، ومن صعد لحم نزل فحم الى حرب الشمال إلى حرب الكويت والخاتمة في المفخخات وتشرين. كل هذه المآسي تتكشف مع تحول المانيكانات من مجرد دمى جامدة إلى ذوات واعية تطالب بحقها في تقرير المصير.

وهكذا يتحول الجمود الأولي للمانيكانات إلى حركة درامية فاعلة، والصمت المطبق لها إلى صرخة احتجاج جماعية، والعزلة الفردية للكراسي المتفرقة إلى وحدة بآصرة متينة تسعى للخلاص، في تجسيد عميق لقدرة المسرح على تحويل الألم إلى أمل، والعجز إلى فعل، والصمت إلى صوت. كما يمثل مشهد الختام برفع الكراسي بالمقلوب في مسرحية "وين رايحين" لحظة فارقة في الوعي الجمعي للمجتمع العراقي، حيث يتحول الممثلون من حالة الصمت والاستسلام إلى حالة الرفض والتمرد. التمرد على القوى المتحجرة من خلال الطيران في فضاءات نقية والرفض لكل عمليات التجزئة والتهميش والقتل وتحجيم معنى الوطن وأثره الكمالي في ذات المواطن

الدلالات الرمزية للمشهد الأخير:

1. قلب الكراسي يعني: رفض الواقع المفروض قسرا والذي لا تستحقه هذه الجموع الغفيرة التي تبحث عن نفسها في المكان ووجهتها في الزمان وكسر منظومة الخضوع التي أصبحت مؤسساتية تحتكم الى تخطيط ممنهج مبرمج للعالمية يد طولى فيه وفي تحقيق نتائجه. وكذلك دلالة أخرى بإعلان التمرد على السلطات الظالمة وأبجديات سلوكياتها الغبية.

2. الصراخ الجماعي (لازم نوصل) للكادر يحمل معاني: استعادة الإرادة الجماعية ورفض منطق الضحية والتأكيد على حق تقرير المصير. أما الإصرار على الوصول فهو يمثل: الأمل والرغبة الصادقة في التغيير مع تفعيل لحقيقة رفض حتمية الهزيمة والإيمان بإمكانية التحول كنوع من الإجابة على التساؤل العقائدي والوجودي والإنساني (وين رايحين؟) هذا التحول بنزع جلد قد بلى وضخ دماء جديدة وبناء روح تكتمل بزرع مفاهيم التعايش السلمي وتحمل المسؤولية في رسم خطوط عبور آمنة. المغزى النهائي يتجلى في رسالة واضحة: نحن قادرون على قيادة أنفسنا، وسنتجاوز كل محاولات التركيع والإذلال، مهما كانت التحديات. فالمشهد ليس مجرد حركة مسرحية، بل بيان سياسي واجتماعي عميق يعلن ميلاد وعي جديد يرفض الاستسلام ويؤمن بقدرة الإنسان على التغيير. قلب الكراسي هو حقيقة كبرى بأن الإنسان ليس مجرد كائن يُدجن، بل هو مشروع حرية مستمر. التحرر الحقيقي يكمن في استعادة القدرة على التفكير النقدي، ورفض منطق التبعية. وكل كرسي مقلوب هو صرخة في وجه منظومات القهر. المسرح هنا ليس مساحة للتمثيل، بل مختبر تفاعلي للذاكرة المنسية. الكراسي المقلوبة في النهاية ليست استعارة، بل حفل تشييع للواقع المقلوب. كل كرسي يحمل جغرافيا روحية مهشمة تعكس شظايا الذات العراقية في لحظة استثنائية من التجلي المسرحي.

لمياء بدن ليست ممثلة، بل شاهدة عصر. رقصتها المكسورة تروي قصص نساء سلبت إراداتهن. كل حركة جسدها تختزل مقاومة، وكل إيماءة تتحدى منظومات القهر. الجسد هنا يتحول إلى نصب تذكاري للمنفى. كل حركة تختزن طبولاً صامتة، وكل إيماءة تحمل أرشيف المدن المهجورة. لمياء بدن لا ترقص، بل تُعيد اختراع الحركة كلغة مقاومة. في "وين رايحين" تتجلى الشخصيات كأيقونات لذاكرة وطن:

لمياء بدن ليست مجرد جسد راقص، بل هي أرشيف متحرك لصرخات النساء المقهورات. جسدها يتحول إلى نصب تذكاري يختزل في كل حركة مكسورة تاريخاً من المقاومة الصامتة، وكل إيماءة تحمل في طياتها أنين المدن المهجورة. زهرة بدن تتجاوز دور الضحية الإيزيدية لتصبح رمزاً للوطن النقي الممتد طويلا وعميقا كثوب ابيض من زاخو للفاو، لكنه يئن من ظمأ الإهمال وقسوة النسيان. لؤي أحمد ليس مجرد صاحب لعب ودمى وتماثيل فهو يتجسد ككيان شفاف نُحِتَ من وجع الحروب، جسده صفحة تاريخية كُتبت بمداد الدم، وتماثيله شواهد على زمن الفجيعة. طلال هادي، ليس مجرد سائق مأزوم بين دفة القيادة وبوصلة التيه، فهو يتجسد كاستعارة صارخة للسلطة الضائعة في متاهاتها. قائدٌ يقود بلا وجهة، يختزل في حيرته تاريخاً من الخراب المنظم، وفي عجزه عن تحديد المسار تتجلى مأساة قيادة أضاعت البوصلة في زحمة المصالح.

أما إياد الطائي، فيتخطى دور الداعشي المتطرف ليجسد كل لحظات الظلام التي عشناها، كل أيامنا السوداء التي أنفقناها في يومنا الأبيض الوحيد الذي كنا ننتظره خمسا وثلاثين سنة عجاف من الانكسار. هكذا يتحول المسرح إلى فضاء للذاكرة الجمعية، حيث تتحول الأجساد إلى نصوص حية تروي حكاية وطن.

الديكور يتحول من مجرد خلفية إلى شاهد عيان. السبورة ليست سطحاً للكتابة، بل سجل تاريخي يسطر مراثي الهزيمة. سيارة التاتا المعطوبة تحمل أرواح مدن كاملة، متوقفة عند محطات الموت والخراب. حيث تتحول الكراسي وهي جامدة إلى خرائط جغرافية للألم، وكل فراغ يحكي حكايات لم تُروَ. الكراسي هنا ليست أدوات جلوس، بل شواهد قبور. كل كرسي يحمل روح مدينة، وكل حركة تختزن مأساة جيل. حيدر منعثر يمسرح الألم بتلك البراعة التي يذبح بها الجلاد الضحية، متقناً فن التشريح المسرحي. شكرا من الأعماق لجميع من شارك برسم خارطة وجعنا على خشبة المسرح وحرض فينا ماردا يقلب الصفحات من سوداء الى بيضاء ناصعة. محبتي الكبيرة.

***

كاظم أبو جويدة

 

استفهامات الروح: رحلة بين الخذلان والصمت

المقدمة: تعد قصيدة /جبُلت عفوية/ للشاعرة العراقية حميدة جاسم علي رحلة نفسية وعاطفية تعكس التوترات الداخلية، والتساؤلات الوجودية، والصراع مع الذات. تكشف القصيدة عن حالة من العفوية المتمردة التي تصطدم بالواقع المرير والتخطيط المستقبلي المبتور. من خلال البنية اللغوية المكثفة والمشحونة بالعواطف، تعكس الشاعرة في هذه القصيدة صراعًا داخليًا بين أمل قديم وألم مستمر، وبين محاولة للمضي قدمًا في عالم من التساؤلات التي لا إجابة لها.

البنية والمضمون:

القصيدة تتسم بالتكرار الذي يعزز فكرة الاستفهام والشكوى المستمرة. يتجسد التكرار في عبارة /جبُلت عفوية/ التي تظهر مرتين، وكأنها إشارة إلى حالة ثابتة، أو /جبلة/ لا يمكن التغيير فيها. العفوية هنا ليست مجرد تصرفات غير مخطط لها، بل هي ملامح للشخصية التي تم تشكيلها بشكل طبيعي دون تدبير مسبق، لتصبح جزءًا من الذات التي لا يمكن تخليصها منها.

الاستفهام والعلاقة مع الآخر:

القصيدة مشبعة بالاستفهامات التي تشير إلى حالة من العزلة والضياع العاطفي. الشاعرة تتساءل عن حالتها وحالة الآخر، وتضع علامة استفهام على علاقاتها مع الناس، بما في ذلك علاقة مع /أنت/ الذي يشير إلى شخص آخر غامض. هذا الآخر لا يجيب على الاستفهام الذي تطرحه الشاعرة، مما يبرز حالة من الفقدان والخذلان الذي تعيشه الذات. الفكرة الرئيسية التي تعبر عنها الشاعرة هي أن كل الذين كانوا في حياتها، وكل الذين منحهم /الأوراق ليكتبوا سيرتهم/، كانوا في الحقيقة /صنيعتي/. وهذا يوضح كيف يشعر الشخص بالخيبة عندما يكتشف أن كل من أعطاهم جزءًا من نفسه قد خذلوه أو لم يكونوا قادرين على الوفاء بتوقعاته.

الخذلان والعلاقة مع الذات:

الشاعرة تعبر عن ألمها الداخلي الذي يتسبب به الخذلان من الآخر، مشيرة إلى أن الآخر -الذي كانت تحلم بالتوجه نحوه- هو نفسه من /أودعها خلف ظهري/، أي أنه أصبح ماضيًا لا أهمية له. كما تصف الآخر بـ/النكرات/ التي لا تعني شيئًا بالنسبة لها، فبذلك تصبح العلاقات العاطفية والاجتماعية في نظرها مجرد /نكرات/ فاقدة للعمق والصدق. في هذه الجملة تكشف الشاعرة عن احتقارها لهذا الشخص الذي كانت تهتم لأمره، في حين أن هذا الشخص لا يكترث بها.

التأمل والرفض:

يبدو أن الشاعرة كانت تخطط في البداية لأن تكون /خطوة إليك/، وهذا يشير إلى محاولة الاقتراب من الآخر أو السعي إلى علاقة معينة، ولكن الحيرة والخذلان يطغيان على هذه المحاولة. إذ تصبح التساؤلات أكثر من إجابات، وتحلّ /علامة استفهام/ محل الفعل. هذه الرمزية تشير إلى تمزق في التواصل الإنساني، وتصورٌ لعلاقة لم تتحقق أو فشلت في الوصول إلى تلبية احتياجات الشاعرة العاطفية والنفسية.

اللغة والأسلوب:

القصيدة مكتوبة بلغة شعرية مكثفة، تنضح بالتوتر الداخلي. استخدمت الشاعرة بعض الصور البلاغية البسيطة التي تجسد حالة الشكوى والتساؤلات المستمرة، مثل /ارتماءاتي التي حنطتها لعمر كامل/، وهي تعبير قوي عن تلاشي الحلم والقرار الذي اتخذته منذ فترة طويلة، والذي لم يتحقق. /صراطي الذي يستقيم وأنا أعد المسافات/ يحمل في طياته إحساسًا بالضياع، إذ يضع الشاعرة في مواجهة مع واقع يعيق سيرها نحو هدفها المنشود.

الرمزية:

تتعدد الرموز في القصيدة، بدءًا من /الأوراق/ التي تشير إلى المحاولات السابقة لتوثيق أو فهم الذات والعلاقات، إلى /الاستفهامات/ التي تصبح بمثابة حجر عثرة في محاولة الوصول إلى معنى حقيقي في هذه العلاقات. كما أن /النكرات/ تمثل الأشخاص الذين يدخلون حياة الشاعرة ويغادرون دون ترك أثر حقيقي، مما يعزز فكرة الخذلان الداخلي.

الخاتمة:

هذه القصيدة انعكاس صادق لمشاعر الشاعرة وحالة داخلية غنية بالاستفهام والرفض. من خلال التركيز على العفوية والخذلان، تنتقل القصيدة من حالة أمل متأمل إلى حالة من الانفصال العاطفي والفكري. يختتم النص بدعوة إلى التفكر في الذات وفي الآخرين من خلال تلك الاستفهامات التي تكشف عن هشاشة العلاقات الإنسانية، وكيف أن الإجابات غائبة دائمًا في العالم الذي تحياه الشاعرة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

.......................

جبُلت عفوية / بقلم: حميدة جاسم علي

ارتماءاتي التي حنطتها لعمر كامل

او صراطي الذي يستقيم وانا اعد

المسافات

جبُلت عفوية

رغم اني كنت اخطط لأكون خطوة إليك

هكذا اكو علامة استفهام

لن تجيب عليها

فكل الذين اعطيتهم الأوراق ليكتبوا

سيرتهم

كانوا صنيعتي

وما زلت افكر ان اضعك في استفهاماتي

حتى تجيب

على كل المرات التي تخذل فيها نفسك قبلي

انت من أودعها خلف ظهري

وصرت ككل النكرات

تصيح

ولا التفت .

حميد العادلي شاعر عراقي، ولد في بغداد عام 1972. درس الإعلام والصيدلة. ونشر مجموعتين ورقية في الهايكو هما: ارتعاش الثلج عام 2019 ورقصة الفالس وأزهار النرجس عام2021

 ومجموعة من الإصدارات الإلكترونية والمشاركة في الأنطولوجيات العربية. السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو لماذا نكتب الهايكو؟ لماذا نكتب الهايكو في ظل وجود القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة والنثر والومضة وغيرها من الأجناس الشعرية.  العالم يتغير، أحداث 11 من سبتمبر واحتلال العراق2003 وظهور مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت وتحول العالم الى الرقمنة والتواصل الحضاري بين الشعوب وعدم تطور الأشكال الشعرية القديمة وغيرها من المسببات والمستجدات ساهمت في الانفتاح العربي على الهايكو وفي هذا المجال تقول الدكتورة بشرى البستاني: "إن الذين ينتقدون الشباب العربي على اهتمامهم اليوم بفن الهايكو عربيا، وليس يابانيا، ينظرون للقضية على أنها مجرد لعب، على أهمية اللعب الفني الذي يمتلك قوانين اللعبة ويحافظ عليها من الانفراط، لكن المتدبر للأمر يجدها أبعد من ذلك وأهم، إنها ليست عملية ممهدة ولا يسيرة، بل هي طريق محاط بالمكابدة والمعاناة من أجل خلاص الروح والعقل والجسد، لأنها ليست مسألة تغيير بنية أو تجديد شكل كما يتصور بعضهم، بل هي تغيير رؤيا أولا، وبدون هذا التغيير لن يكون لتغيير البنية كثيرُ أهمية". (د. بشرى البستاني - الهايكو العراقي والعربي بين البنية والرؤى 1- موقع الحوار المتمدن 2015).

من الأسباب الشائعة لرفض الهايكو في بداية نشأته هو عدم توفر النصوص الجيدة والمعلومات الخاطئة ومحاولة مقارنته بالقصائد العمودية وعدم وجود نقاد متخصصين في قصيدة الهايكو. ومن طرائف ما اذكر أن أحد النقاد كان يلاحق ندوات ومهرجانات الهايكو التي تعقد في أماكن مختلفة من بغداد بالحجج الجدلية والعقل الدوغماتي الرافض للهايكو. نعود إلى الهايكو وكيف نعرفه وهل له تعريف جامع وشامل. التعريف الاشتقاقي للهايكو (طفل الرماد، الكلمة المضحكة)

لا أهمية له إلا من الناحية التاريخية فقط. يختلف تعريف الهايكو اصطلاحا ولا يوجد تعريف ثابت أو محدد. كل التعريفات تشير إلى بعض الخصائص الضرورية وهذه التعريفات قابلة للإضافة والحذف من بعض الخصائص بسبب تطور الهايكو واختلاف البيئات ووجهات نظر الشعراء في التأكيد على جوانب معينة. ومن هذه التعريفات تعريف جمعية الهايكو الأمريكية عام 2004 : "الهايكو قصيدة قصيرة تستخدم لغة تصويرية لنقل جوهر تجربة الطبيعة أو الموسم المرتبط بشكل حدسي بالحالة الإنسانية". تعريف آخر للشاعر والناقد الأمريكي مايكل ديلان ويلش:الهايكو قصيدة من ثلاثة اسطر تستخدم الصور الحسية لنقل الظواهر والتجارب الخاصة بالطبيعة والطبيعة البشرية أو الإشارة اليهما باستخدام تقنية أو بنية التجاور التي تتشكل من جزئين (صورتين) بلغة بسيطة وموضوعية "المصدر:GRACEGUTS.

بعض التعريفات تشير إلى أهمية القطع (kiru’ or ‘kire’ ) الذي يربط أو يفصل بين صورتين؛صورة ثابتة وصورة متحركة كما تشير اليه الشاعرة الهندية كالاراميش في نص باشو الشهير عن الضفدع. يمكن مقارنة مصطلح الهايكو بمصطلح الفلسفة philosophy من حيث النشأ والثبات ومفارقة الأصل اليوناني والتعريفات المختلفة حسب أراء واتجاهات الفلاسفة. تاثير الهايكو الحديث على تجربة العادلي نجده واضحا في نصوصه وهذا يعود إلى اطلاعه المبكر على الهايكو الغربي من خلال الترجمات العربية في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية كما ساهمت في بلورة وتشكيل ملامح الهايكو عنده مبكرا ومفارقة بعض التنظيرات العربية للنقاد والمترجمين التي لا تعترف بامكانية كتابة الهايكو باللغة العربية. حيث أشار في حواري معه عام 2021 إلى تعرفه على الهايكو من خلال اطلاعه على ترجمات مجلة الأقلام للشعر الإسكندنافي عام 2009 وترجمات جاك كيرواك وتوماس ترانستومر. يشار إلى أن لينا شدود قد ترجمت "كتاب جاك كيرواك " عام 2014. اما الأعمال الشعرية لتوماس ترانسترومر ترجمها عن السودية قاسم حمادي /الطبعة الأولى 2005. أثر كيرواك في نصوص العادلي واضحة جدا في تناوله ذات الموضوعات كالقطط والعصافير والقهوة وأسلوب تناوله للمشاهدات اليومية بطريقة واقعية. من ناحية أخرى اعتقد أن ترجمة مقالة عزرا باوند في محطة المترو -نشرت باللغة الإنجليزية عام 1913 -إلى اللغة العربية قد عززت الثقة بالنفس عند شعراء الهايكو العرب ومنهم العادلي لتجريب كتابة الهايكو. أشير هنا إلى ترجمة عبد القادر الجنابي في موقع ايلاف الإلكترونية عام 2014 ثم أعاد بكاي كطباش نشر مقالة عبد القادر الجنابي المترجمة في نادي الهايكو-سوريا في 23 نيسان 2014. استطاع عزرا باوند لفت الانتباه إلى أهمية الصور المستخدمة في الشعر وبالتالي أهمية الهايكو الياباني وتأثيره العميق بغض النظر عن الجدل النقدي الغربي الذي دار حول اهمية عزرا باوند واهمية قصيدته "في المترو " هايكو أم لا إلا أنه يشكل المرحلة الأولى-مرحلة المراهقة والبداية في تاريخ الهايكو باللغة الإنجليزية حسب مايراه الناقد الأمريكي الكندي بروس روس.

في محطة مترو

اطياف هذه الوجوه في الزحام

بتلات على غصن ندي، اسود

ويشير بروس روس في ذات المقالة نشرت 2012 إلى أهمية الشاعرة إيمي لويل في الهايكو اكثر من عزرا باوند كونها التقطت الخصائص المتأصلة في الهايكو خارج الموضات الحالية للفن والشعر الصيني والياباني بينما بقي باوند اسير المدرسة الانطباعية في معالجته للصور الشعرية. بغداد كلمة سحرية توحي بالكثير من المعاني والخيالات والدلالات إلى الماضي إلى عظمة مدينة بغداد كأحد مراكز العالم تاريخيا.

ارتبط الهايكو عند العادلي بالمكان المتمثل بصورة واضحة في مدينة بغداد، موطن الشاعر حيث تشكل الاماكن والمشاهدات اليومية هاجسه الأكبر في الكتابة عن بيئة بغداد الاجتماعية. لعبت بغداد دورا مهما في تشكيل أو توجيه احاسيس وافكار العادلي لملاحظة ما يجري على أرض الواقع. هذا الارتباط العاطفي بالوطن انتج الكثير من نصوص الهايكو والسينريو التي امتازت بنقد الواقع والشجن العراقي. طبيعة الواقع العراقي فرضت على الشاعر أن يوثق اللحظات المريرة والمؤلمة بالرغم من أنها عابرة إلا انها تتكرر يوميا :

نصب الحرية

المتسول الاعمى

ينشد موطني موطني!

**

وحدها

لافتة بغداد المتهرئة

تكسر الريح

**

مع كوب قهوتي

اذرع شارع الرشيد

ابحث عن بغداد

**

ضباب

جدارية فائق حسن

مغمورة بالهديل

**

يا للوجع

بألف دينار اهب الحرية

لأربعة عصافير

**

زقاق بغدادي…

رائحة الوشوشات البريئة

تسكن الشناشيل!

***

في هذه النصوص أعلاه نلاحظ حركة العادلي بين أزقة بغداد القديمة (جانب الرصافة من بغداد) الممتدة بين ساحة التحرير، نصب جواد سليم وجدارية فائق حسن في حديقة الأمة مرورا بشارع الرشيد، حيث بائع القهوة القريب من بناية وزارة المالية القديمة وصولا إلى جسر الشهداء والمقاهي وشارع المتنبي ومن الجهة الثانية سوق الغزل ومنطقة الشورجة، هي رحلة أو جولة جمالية. الجمال يتجسد في الشناشيل ونصب الحرية والازقة والمقاهي ومشاهدة العصافير والطيور في سوق الغزل ورائحة القهوة في شارع الرشيد. العادلي يكتب نصوصه من مشاهدته العيانية. هذه النصوص ترتبط بالواقع وبالأرض وبرغبته بالتغيير نحو الأفضل. اما نصوصه عن الطبيعة في بغداد هي من جملة ملاحظاته للطبيعة الحضرية المدنية:

فوق الجسر

مع النقر اللذيذ

النوارس تلتقط الخبز!

**

مويجات النهر

أرجوحة بغدادية

استراحة النوارس

**

غيمة…

أطاردها بعين

وأخرى للطريق!

***

احيانا يربط الطبيعة بمعاناة الإنسان الحياتية وهذا النص من النصوص الكلاسيكية التي تذكرنا بنصوص شعراء الهايكو اليابانيين:

مساء خريفي

الجدة المريضة بإصبعها

تكور شكل القمر!

جمالية الامكنة البغدادية نجدها في الأشياء البسيطة:لون الحافلة، شكل الجسر، رؤية نهر دجلة، المقاهي، الشناشيل، النوارس كل هذه الامكنة وغيرها تصنع مناخا رائعا وتحقق الاستقرار النفسي عند العادلي ولربما بعد تناول قدح من عصير "ابن زبالة " في شارع الرشيد والقريب من ساحة الميدان:

ساحة الميدان

بقايا بغداد

عصير زبيب أحمر

**

حميد العادلي استطاع الخروج من عنق زجاجة الهايكو الياباني ومطبات الهايكو العربي، إذ امتازت نصوص العادلي بالايجاز (القصر)والواقعية التصويرية في تناوله للبيئة البغدادية في حركتها اليومية عبر بصيرة نافذة تلتقط كل ماهو هامشي ويومي عبر محورين المحور الأفقي الذي يمثل الحاضر الزائل الذي يلتقطه عبر مشاهدته والمحور العمودي الذي يرتبط ببغداد وما تمثله الأمكنة فيها من أبعاد ثقافية وتاريخية واجتماعية وجمالية وشعبية. لا نعرف إلى أين سيقودنا حميد العادلي في قصائده القادمة وما هي الإضافات والتطورات التي ستطرأ على تجربته الشعرية لكنها بالتأكيد تجربة تضيف الكثير إلى تجربة الهايكو العراقي بعدما اتضح مسار الرؤية عنده بشكل اكثر وضوحا واتساقا.

***

الشاعر والناقد عباس محمد عمارة

............................

المراجع:

1- كتاب الهايكو جاك كيرواك، ترجمة لينا شدود -الرباط-منشورات ضفاف …الطبعة الأولى-2014

2- الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر السويدي توماس ترانسترومر-ترجمة قاسم حمادي، سوريا-بدايات للطباعة والنشر والتوزيع-الطبعة الأولى 2005

3- د. بشرى البستاني - الهايكو العراقي والعربي بين البنية والرؤى موقع الحوار المتمدن /2015

4- عزرا باوند في مترو-ترجمة عبد القادر الجنابي-موقع إيلاف الإلكتروني /2014

5-حميد العادلي، ارتعاش الثلج (هايكو) سوريا-دار دلمون الجديدة 2019

6-حميد العادلي، رقصة الفالس وأزهار النرجس(هايكو)بغداد-دار الرفاه 2021

7-Academy of American poets

8-Haiku Mainstream:The path of Traditional Haiku America by Bruce Ross-modern HAIKU- volume 43. 2/Summer 2012.

9-GRACEGUTS  / Website.

 

بين الحلم والموت:

قسوة الواقع وظلال الذكريات

***

ظلال الأمل / بقلم: شهلاء فيض الله

كان المارة يمشون بخطوات سريعة على الشوارع والأرصفة من شدة الحر في ذلك الظهيرة دون أن يرى أحدا نظرات تلك الفتاة البائسة الصغيرة ذات الشعر ألأسود المبعثر والفستان الاحمر الممزق وهي جالسة على الرصيف بمحاذات الجدار المنخفض للحديقة المطلة على الشارع المزدحم. تقوم من مكانها وبيدها علبة صغيرة، تريد أن تعبر الشارع لكن نعلاها الشبه الممزقتان لا تساعدها على المشي، بعد ثلاث خطوات لم تكمل الرابعة يتمزق فردا وتصبح عديم الفائدة ولا تستطيع الاستمرار في المشي، تضع قدماها على الأسفلت، يكاد أن يحترقا من شدة الحر، سرعان ما تضعهما على النعال، ما بين عبور الشارع والرجوع الى مكانها تفز من صوت منبه أحدى السيارات! فتعود مسرعة الى الرصيف تاركة ورائها نعلاها في منتصف الشارع، ثم تراقب السيارات وتنتظر ان تنتهز فرصة لتعود وترجعهما..

حرارة الشمس الساحقة أتعبتني كثيرا وكنت على عجلة من أمري للعودة الى البيت، وأنا أسير بخطوات سريعة متجهة الى محطة الحافلات بمحاذات الجدار المنخفض للحديقة وعيناي على الفتاة والمشهد بأكمله، اتجهت صوبها، حين اقتربت منها نظرت لها مبتسمة وأبعدتها قليلا من طريق المارة، فكانت تنظر لي بتعجب! وأرى في عيناها سؤالا: هل هناك من يهتم بي؟ كانت في الثامنة أو التاسعة من عمرها، تمسك بيديها علبة علكة يبدو أنها لم تبع منها قطعة واحدة حتى ذلك الوقت من الظهيرة والسوق بدأ يخلو من الناس، وجهها المسمر من كثرة تعرضها للشمس الحارقة وشعرها المجعد المبعثر وملابسها الممزقة لم تستطيع إخفاء جمال ملامحها! جمال لا يستطيع رسام بارع أن يرسمها، لمعان عينيها السوداوين المليئتين بالأمل والبراءة جعلتني غير قادرة على تركها ومواصلة سيري.

كم سريع يمر الأزمان؟ لا يتغير البؤس بل ينتقل من زمن الى أخر، أعاد هذا المشهد قصة بائعة الكبريت ل(هانس كريستيان أندرسون) الى ذاكرتي، تلك الفتاة الصغيرة الشقراء التي خرجت من البيت في يوم بارد يتساقط الثلج بغزارة لبيع الكبريت وبعد أن فقدت حذائها في الثلج أصبحت تمشي حافية القدمين تطرق الأبواب لبيع الكبريت ولم يفتح لها أحدا فالكل كان مشغولا بعيد رأس السنة الميلادي، عندما حل الظلام كانت ترتجف من البرد والجوع وقد أهلكتها التعب فجلست في زاوية بين منزلين وبدأت بإشعال عود الثقاب واحدة تلو أخرى ولم تتدفأ. قلت في سري: أوليس روح هذه الفتاة الصغيرة بائعة العلكة هي نفس روح الفتاة بائعة الكبريت وأرادت أن تعيش مرة أخرى؟ لو كان كذلك، فها هي الحياة تعذبها مرة أخرى! عدتُ اليها من وسط بردٍ قارسٍ الى حر الشمس الحارقة فلم أجدها التقيت الى يميني ثم يساري رأيتها جالسة مع فتاة في عمرها أتعس منها حالاً، بيدها كتاب القراءة للصف الاول الابتدائي نصف ممزق تقلب صفحاتها بشغف وكأنها عثرت على كنز ثمين ولا تصدق أنها ملكته! حينها سألتها بائعة العلكة: من أين حصلت على هذا الكتاب؟ أجابتها الفتاة دون أن ترفع رأسها: وجدته في حاوية المدرسة القريبة من هنا. فجأة وضعت الفتاة بائعة العلكة يدها الصغيرة المسمرة على صفحة ما وفيها صورة فتاة جميلة بعمرها ترتدي فستان أحمر قصير ذات ياقة وحاشية صفراء وحذاءٍ أحمر، مزينة شعرها بقراط أصفر ذهبي وهي تلعب مع أخيها لعبة الطائرة الورقية، حدقت للصورة قليلا ثم نهضت بسرعة أرادت أن تقول أنها تشبهني حين نظرت الى فستانها الاحمرِ الممزق وقدماها الخشنتين حافيتين، لم تقول شيئا حملت علبة العلكة بهدوء من على الارض وفجأة ألتفت الى الجهة المقابل للشارع وكأن أحدا يناديها! نظرت لي وقالت بصوت خافت: كل يوم وأنا أقف هنا يناديني أخي من الجانب الاخر، عندما أعبر الشارع لم أجده! ابتسمت وقلت لها: أنه يريد أن يلعب معكٍ، أذا أعطيني يدكٍ لنعبر الشارع ونبحث عنه ثم أشتري لكٍ زوج نعا..... قاطعتني بصوت حزين: لا قبل عدة أشهر دهسه سيارة ومات!

كاد قلبي يتمزق حزنا عندما سمعتها! شهقت حسرتاً على حالها حينها تذكرت مرة أخرى بائعة الكبريت وهي تشعل آخر عود كبريت لترى جدتها مرة أخرى وسط الضوء تناديها لتضعها في حضنها الدافئ، فها هي أيضا تبحث عن أخيها كي تجد حظنا لها وسط الزحام التي لا تعني لها شيئا. فجأة ركضت صوب الشارع وعبرتها.. حينها أكملت سيري الى موقف الحافلات، بعد خطوتين فقط فجأة سمعتُ صوت بوق مع توقف سيارة تملئ الشارعً وكأنها صاعقة ضربة المكان! وأنا ألتف بسرعة أرى الناس واقفين في مكانهم كالتماثيل ينظرون الى الجانب الآخر للشارع..

***

القراءة:

في قصتها /ظلال الأمل/ تلتقط القاصة شهلا فيض الله تفاصيل حياة طفلة بائسة تبحث عن بصيص أمل وسط قسوة الواقع. تنبض القصة بحس إنساني عميق يعكس معاناة الطفولة في مجتمع يعاني من اللامبالاة والظلم الاجتماعي، حيث تكشف عن التناقضات بين البراءة والألم، وبين الحلم والموت. يبحر النص في عالم الطفولة الضائع، وينبش في زوايا الحياة الصعبة، ويكشف عن العزلة الداخلية التي يعيشها الإنسان في عالم مليء بالصراعات. في هذه القراءة النقدية، سنحاول استكشاف أبعاد النص، وتحليل الشخصيات، والرموز، والموضوعات التي يعالجها هذا العمل الأدبي، وصولاً إلى فهم أعمق لمغزى القصة وأساليب السرد. 

الزمان والمكان: تتسم القصة باستخدام زمان ومكان لهما دلالة قوية في تشكيل الوعي القرائي. يبدأ السرد في ظهيرة حارة، وهي دلالة على الشدة والضغط النفسي، حيث تعكس الحرارة القاسية معاناة الفتاة، وتصبح الخلفية المناخية أحد الرموز الدالة على بؤس الوضع الاجتماعي الذي تعيشه. الزمان في القصة لا يُحدد فقط على أنه وقت الظهيرة، بل يتم ربطه بالشعور الدائم بالحرمان والفقدان، ما يضيف بعدًا وجوديًا للأحداث. 

أما المكان، فيأخذ طابعًا مزدحمًا في شوارع المدينة الحارة، لكنه في ذات الوقت لا يوفر أي أمل أو تواصل إنساني. المدينة تمثل بؤرة العزلة المجتمعية، حيث يمر الناس بسرعة من دون أن يلتفتوا إلى تلك الطفلة الجالسة على الرصيف. الكاتبة تركز على تفاصيل المكان بشكل يعكس التباين بين عالم الإنسان المزدحم، وأخرى يملؤها الصمت والخوف والانتظار. رغم أن الشارع يُوصف بأنه مزدحم، إلا أن الفتاة تبدو وحيدة تمامًا، في حالٍ من العزلة الموحشة التي تتسع في عيونها.

 الشخصيات: تدور القصة حول شخصية الطفلة بائعة العلكة التي تعتبر العنصر المحوري في النص، والتي تُجسد البراءة المفقودة وسط قسوة الحياة. تخلق شهلا فيض الله هذه الشخصية بعمق نفسي لا يُمكن تجاهله، حيث تنبثق ملامح الطفلة من خلال أوصاف دقيقة تظهر تباينًا بين جمالها الداخلي، الذي لا تستطيع ظروف الحياة أن تطمس معالمه، وبين المظهر الخارجي الذي يعكس الفقر والتهميش. الفتاة التي تحمل علبة العلكة بين يديها، رغم وضعها البائس، تُظهر إرادة الحياة والتمسك بالبقاء. 

الراوي في القصة، والذي يبدو وكأنه شاهد على العالم، يسهم في خلق تأثير عاطفي هائل عبر التأملات الدقيقة التي ينقلها. يتبنى الراوي موقفًا إنسانيًا من الطفلة، ولكن في ذات الوقت، يعكس فشله في تقديم أي نوع من الحلول لمشكلاتها العميقة. هذه النظرة المركبة تساهم في خلق التوتر العاطفي الذي يميز السرد، وتكشف عن مأزق الإنسان المعاصر الذي يسعى لمساعدة الآخرين دون القدرة على تغيير واقعهم بشكل جذري.

الرمزية والتيمات:

رمزية /الحرارة/ و/الأسفلت/: يمكن النظر إلى حرارة الشمس والأسفلت المحترق كرمزين للظروف القاسية التي تعيشها الطفلة. فالحرارة الحارقة تشير إلى ضغوط الحياة والواقع المادي القاسي الذي يعيشه الفرد في مجتمع فقير. الأسفلت، الذي يكاد يحرق قدمي الفتاة، يمكن أن يُفهم كرمز للطريق المسدود والمليء بالأشواك الذي تسلكه الطفلة، ولا يمكنها الخروج منه بسهولة. هذا التوصيف يرفع من قيمة القصة في تصوير معاناة البشر في بيئات قاسية. 

الكتاب الممزق: تمثل الكتاب الممزق الذي تحمله الطفلة مع أحد الأطفال الآخرين رمزية عميقة للعلم والمعرفة التي تصطدم بالفقر والموت. إن الكتاب، الذي كان في يومٍ ما رمزًا للثقافة والنور، أصبح الآن مجرد مكتشفات جزئية وسط النفايات، ما يعكس الطريقة التي يُنظر بها إلى التعليم في مجتمعات فقيرة. الكتاب يُصوَّر كقيمة محطمة يتوق الأطفال للتمسك بها، لكنه لا يمكن أن يعوض عن فقدان الحب أو الأمان. 

بائعة الكبريت: يظهر تشبيه بين الطفلة في القصة وبائعة الكبريت الشهيرة في قصة هانس كريستيان أندرسون، حيث تموت الطفلة في كلا القصتين ببطء. في هذه اللحظة، تُعيد القاصة طرح نفس التساؤلات التي طرحتها قصة بائعة الكبريت: ماذا يحدث عندما تترك البراءة تُهدم تحت وقع الفقر والحرمان؟ هل تُقتلع الأحلام كالأشجار في الزمان؟ هذا التشابه مع قصة بائعة الكبريت يخلق صدى مؤثرًا في النص، ويعمق من إحساس القارئ بالمرارة. 

الموت والفقدان: موضوع الموت يعبر عن الانقطاع المفاجئ بين الحياة والأمل. موت أخي الطفلة، الذي دهسته سيارة، ليس مجرد حادث عابر، بل هو بمثابة /نهاية العالم/ بالنسبة للطفلة، وهي تظل تبحث عنه عبر الشارع، في سعي مستمر لملاقاته. هذا الفقد يعكس قسوة الواقع الذي لا يرحم الطفولة ولا يسمح لها بعيش لحظات البهجة. تكرار الموت في السرد يسلط الضوء على مصير الطفل في عالم يُديره الكبار، دون أن يكون هناك مكان للأحلام أو الأمل. 

أسلوب السرد: الأسلوب السردي في القصة يتميز بتركيز كبير على التفاصيل الصغيرة التي تؤثر في القارئ بشكل عميق. تفرد شهلا فيض الله الكثير من المساحة للوصف التفصيلي لحالة الطفلة، بدءًا من شكل ملابسها الممزقة وصولاً إلى انطباعات عيونها المليئة بالأمل، ما يعكس محاولات الراوي لفهم الحالة النفسية للطفلة. هذا الأسلوب التفصيلي يخلق نوعًا من التعاطف مع الشخصية، ويجعل القارئ يعيش التجربة نفسها، فيصبح أكثر انغماسًا في معاناة الطفلة.

 كذلك، أسلوب التذكر والاسترجاع الذي يستخدمه الراوي - حيث يعيد إلى ذهنه صورة /بائعة الكبريت/ - يعزز من عمق القصة ويوظف الأبعاد الرمزية بذكاء. فالراوي لا يقدم الأحداث بشكل خطي، بل يسترجع الذكريات التي تشبه ما يعيشه الآن، مما يضيف للقصة بُعدًا وجوديًا يتنقل بين الماضي والحاضر.

الختام: قصة /ظلال الأمل/ ليست مجرد قصة عن فتاة فقيرة تُحاول البقاء على قيد الحياة في عالم قاسٍ، بل هي تأمل في الإنسانية والبراءة التي تتعرض للتحطيم على يد الزمان والمجتمع. الكاتبة باستخدام أسلوب سردي عميق ومؤثر، تناولت قضايا مثل الفقر والموت والفقدان من خلال تقديم صورة معقدة عن الطفولة. القصة، بذلك، تفتح المجال للتأمل في العلاقات الاجتماعية والإنسانية في عالم مليء بالظلم والحرمان. ومن خلال الرمزية الحافلة بالمعاني العميقة، تساهم القصة في كشف الوجه القاسي للمجتمع في سعيه للإجابة عن الأسئلة الكبرى المتعلقة بالحياة والموت، والفقدان والأمل.

***

بقلم: كريم عبدالله – العراق

يُعَرَّفُ النقدُ الثقافيُّ على أنّه عمليةُ تقييمٍ فنيٍّ للنصِّ المكتوبِ والمسموعِ والمرئيّ.. يتعاملُ معها ناقدٌ متخصّصٌ أريبٌ يمتلكُ أدواتِهِ الفنّيّةِ، ولديه رؤيةٌ ثقافيةٌ موضوعية، تمكنُهُ من سبرِ أغوار النصِّ بغيةِ التنقيبِ عن الجَيِّدِ والرديء، وبواطنِ القوةِ والضعف.

ويعتبرُ الناقدُ أحدَ عناصرِ النقدِ الثقافيِّ إلى جانبِ المحتوى الإبداعي (النص، اللوحة الفنية، الفلم السينمائي، القطعة الموسيقية، المسرحية).. أيضاً اللغةِ بأنواعِها اللسانيةِ والبصريةِ والتعبيرية، يلي ذلك المؤلف، والملحن، والفنان التشكيلي.. وقد يشارك الناقدَ في الرؤية كلٌّ من المخرجِ المتمكنِ، والموزعِ الموسيقيِّ.. وأخيراً يأتي دورُ المتلقي الحصيفِ الواعي.

فالعمليةُ النقديةُ الناجحةُ تحتاجُ إلى أدواتٍ فنيةٍ، وناقدٍ مقتدرٍ يمتلكُها، ويستخدمها بمسؤوليةٍ وأخلاق.. فهو ليس القاضي الذي يُصْدِرُ أحكاماً مطلقةً؛ بل أنه ذلك النطاسيُّ الذي يشخّص النصَّ (أو أيّ عملِ إبداعيٍّ نوعيٍّ آخر) ويختبرُ الرموزَ والإشاراتِ الكامنةَ فيه، ثم يقترحُ حلولاً غيرَ ملزمة، وقابلة للتغيير.. ويتعامل مع النص (أو أيّ إبداعٍ ثقافيٍّ آخر) ككائن حيٍّ.. فالناقد حتى وهو يحلل أي عملٍ كتابي أو مرئي أو سمعي سيحوله إلى نصٍّ مكتوبٍ لترجمة رموزه السيميائية.

فالنصُّ الذي يذوبُ في تفاصيلِهِ الكاتبُ المبدعُ بكلِّ ما لديهِ من وعيٍّ خاص، تحوّلُهُ أنظمةُ الرموزِ والإشاراتِ التي تنبعث منه، لتشكيلِ رؤيةِ المبدع التي تتلخَّصُ بالمعنى، وذلك وفقَ علاقةِ الدّالِّ بالمدلولِ في وضع الإنغلاق والأحادية (بوجود المؤلف) كما هو الحال لدى البنيويية والسيميائية، أو انفتاح الدلالاتِ على كلِّ الاحتمالات مع استقلالية النتائج (وخروج المؤلف من النص) كما هو لدى التفكيكيين.

والناقدُ الموضوعيُّ يجمع بين القراءةِ الواعيةِ والقدرةِ على التقييم الفنيِّ في مشهدٍ نقديٍّ ثقافيٍّ مُتْخَمٌ بما هو جيد ورديء، لذلك لا بدّ من طرحِ أهمِ المعوقاتِ التي قد تؤثر سلبياً على العملية النقدية الجادة خلافاً للنصوصِ المنتخبة من قبل الناقدِ نفسِهِ أو الأكاديميينَ المشرفينَ على برامجِ الدراساتِ العليا في الجامعات، والأعمال التي تفرض نفسها في المنتديات الثقافية أو الحاصلة على جوائز مرموقة.. وأهم هذه العوائق:

- الاختيار بناءً على شهرة الكتاب عبر الفضاء الرقمي دون تمحيص.

- المناسبات المحرجة للناقد.. حيث أن اهتمام الناقد بالنص يأتي استجابة لمناسبة توقيع وإشهار كتاب ما دون إخضاعه لموجبات النقد الجاد من حيث الأهمية أو الخطورة على المتلقي.. لذلك تكثر المجاملات.. وهذه مُشْكِلٌةٌ يعاني منها المشهدُ الثقافيُّ العربيّ برمته.

- التعاملُ مع الكتابِ من خلال قيمةِ صاحبِهِ الذي سيفرضُ هيبَتَهُ على العمليةِ النقدية.. مع أنَّ بعضَ أهمِّ الأعمالِ قيمةً لكبار الكتابِ قد تتمثلُ بباكورةِ أعمالهم.. إذ لا علاقةَ للنضوجِ بعمرِ المبدعِ ومكانتِه..

وتذكروا بأن الكاتبتين الشقيقتين شارلوت وإيميل برونتلي، كتبتا أهمَّ روايتينِ في الأدبِ الإنجليزي، "جين إير" و"مرتفعات وذرنج"، وهما دون العشرين.. فيما كتبت الكاتبةُ الأمريكية ميريغريت ميتشيل روايتَهَا الوحيدَة، "ذهب مع الريح" لتتبوأ مكانَةً متميزةً في الأدبِ الأمريكي.

وقد تكون باكورةُ أعمالِ نجيب محفوظ أو يوسف إدريس أفضلَ قيمةً من بعض أعمالهما المتأخرة.. فالوعي والنضوج لا يرتبطان بعمر الكاتب.

- المبالغة في الاهتمامُ بالعنوانِ والعتبةِ على حساب النصِّ.

- بعضُ النقادِ يهتمون بتحليل الغلاف الذي يصممه فنانٌ غير المؤلف نفسِهِ، فيأتي ذلك على حساب المساحة المخصصة للنص، كون الغلاف يرتبطُ بالمصممِ الذي يُخْضِعَهُ لمعايير الفن التشكيلي أو التصميم الفني والتي تعتمد على علاقة التكويناتٍ الفنيةٍ للكتلِ والألوانِ الجاذبةِ ببعضها، وما تحتويه من إشارات ورموز سيميائة، خاصةً بالفنانِ نفسِه.

- بعض النقادِ يعانون من "متلازمة التحذلق الأدبي" أو الثقافي.

فيتعاملون مع النصِّ (أو الأعمال الفنية المختلفة) بروحِ انتقاميةٍ جارحة، فيحصرُ الناقدُ عَمَلَهُ في التنقيبِ عن الأخطاءِ بدونِ توازناتٍ فنية.. وفق رؤية موضوعية متكاملة.. فيبدوا عملُ الناقدِ غيرَ أخلاقيّ، وكأنه شعورٌ بالنقص.. وكنت شاهداً على مواقفَ كهذه.

وقد تخضعُ العمليةُ النقديةُ لمعاييرَ مدارسٍ نقديةٍ مختلفة، على قاعدةِ احترامِ النصِّ أو الأعمال الفنية المختلفة من خلالِ التعاملِ معها ككائناتٍ حية..

ومن أهم هذه المدارس:

أولاً: المدرسة الواقعية: إن الواقعَ موجودٌ داخلَ أفكارنِا وفي الطبيعة، فهو ليس واقعاً فردياً ولا جماعياً ثابتاً وواحداً.. والواقعُ صورٌ كثيرةٌ قد تكونُ متشابهةً أو مختلفةً كلياً.

وحسب نظريةِ الانعكاسِ فأنَّ ما ينعكسُ في الدّماغِ هو صورةٌ من الواقعِ؛ ولكنّ هذه الصورةَ المنعكسةَ تختلفُ من شخصٍ إلى آخر، ومن أديبٍ مبدعٍ إلى آخر، حسب الأسلوبِ وزاويةِ الرؤيةِ وثقافة الناقد فيما لو كانت اشتراكية، ماركسية إلحادية، وجودية، دينيةً.. طبقيةَ إجتماعية قبلية.

وأكد أرسطو على أنَّ الحواسَّ والتجرُبَةَ والواقعَ هي طريقُ الوصولِ إلى الحقيقة، وأنَّ ما يترسّخُ في العقلِ يتم عن طريقِ التجربةِ الحسيّة.

ثانياً: المدرسة الرومنسية: التي تستحوذ فيها العاطفةُ على النصِّ بما فيه من معطياتٍ نفسيةٍ مبسطةٍ أو مركبة.

ثالثاً: مدرسةُ التحليلِ النفسي: وهو مِنْهَجٌ اعتمدهُ كثيرٌ من النقادِ المقتدرين معرفياً بنظرياتِ سيغموند فرويد الذي يُعْتَبَرُ أبو هذه المدرسة، فطبقوا – نتيجة لذلك – كثيراً من نظرياتِه، من أجل مقاربَةِ النصوصِ الأدبية، كنظريةِ اللاشعور، وعقدةِ أوْديب التي استوحاها فرويد من أسطورةِ أوْديب الإغريقية، وهي عقدةٌ نفسيةٌ تُطْلَقُ على الذَكَرِ الذي يُحِبُ والِدَتَه.

وعقدةُ إلكترا المستوحاةُ من قِبَلِ فرويد والتي تقومُ على أسطورة إليكترا، وتشيرُ إلى التعلقِ اللاواعي للفتاةِ بأبيها وغيرتِها من أمِّها وكرهِها لها.

رابعاً: المدرسةُ التاريخية: وهي محاولةُ فَهْمِ ما يقولُهُ النصُّ نفسُهُ في سياق وقتِهِ ومكانِه، وكما كان مقصودًا لجمهورِهِ الأصلي، بمعنى الحس التاريخي الحرفي، أو "المعنى المقصود". فيسعى الناقدُ المؤرخُ إلى التحقق من المصادروحمايتها من التضليل الذي تربطه بطول الزمن علاقة طردية .

خامساً: المدرسة السيميائية: التي وضع أسسَها رائدُ اللسانيات، دي سويسر، الذي اجتهد في وضعِ النظريةِ السيميائيةِ وقدَّمَها على اللسانيات.

وهي مِنهجٌ وصفيٌّ يرى في العملِ الأدبيِّ نصاً مُغْلَقاً له نظامُهُ الداخليُّ الذي يمنحُهُ وِحْدَتَه، وهو نظامٌ يكمنُ في تلك الشبكةِ من العلاقاتِ التي تنشأ بين كلماته.

استندتِ السيميائيةِ على مجموعةٍ من المبادئِ أهمُّها:

- التركيزُ على البنيةِ الداخليةِ للنص.

- الاهتمامُ بدراسةِ اللغةِ بوصْفِها جهازاً منغلقاً مكتفياً بذاته.

- رفضُ جميعِ المؤثراتِ الواقعةِ خارجِ النصِّ نفسِهِ الذي يخضعُ لتشريحِ الناقدِ المتمكِّنِ القادر على تأويلِ الإشارات لبناءِ المعنى الفردي المغلق، وذلك وفقَ معطياتٍ رمزيةٍ فرديةٍ نابعةٍ من وعيِ المؤلفِ الموجود في النّص.

خامساً: المدرسةُ البنيوية: وهي نفسُ المِنهج السيميائي الوصفيِّ النابعِ من رؤيةِ المؤلف المرتبطة بعقله الباطنيّ، ناهيك عن كونها منغلقة على الدّوال الخاصة بالمؤلف، بعيداً عن المؤثرات الخارجية، لكنهما يختلفان في عدد المدلولاتِ حيث أنّ السيميائية أحادية بينما البنيوية فهي منفتحةٌ على أقصى ما تُتِيحَهُ الاحتمالات.

سادساً: المدرسةُ التفكيكية: ظهرت المدرسةُ التفكيكيةُ كحركةٍ ناقدةٍ للبنيوية، فهي تُفَكِّكُ النصَّ المتماسكَ الذي يعتمدُ على دلالةٍ واحدة، وتعيدُ بنائِهِ وفقاً للأسُسِ التالية:

- الاختلافُ: بمعنى أنّ النصَّ مُنْفَتِحٌ على مجموعةٍ لا نهائيةٍ من الاحتمالات، التي تعتمد على المتلقي فتختلف الرؤى من قارئ لآخر.. أي أن القارئ هو صاحب السلطة على النص فيتقدم بذلك على المؤلف. حيث يقوم بتفكيك النص ومن ثم يعيد تجميعه وفق دوال القارئ.. وتزداد المدلولات المحتملة كلما زاد عدد القراء.

- علمُ الكتابة: أي التعامل مع الكتابةِ إنطلاقاً من كونِها مستقلةً عن اللغةِ وسابقةً لها، كونها صيغةً لإنتاجِ الوحداتِ وابتكارِها، وذاتُ آليةٍ مستمرة، فلا تتوقف بموت المؤلف وخروجهِ من النص.

وهذا يفسرُ ما جاء في مقالِ الفيلسوف الفرنسي رولان رايت بعنوان "موتُ المؤلف" المنشور عام 1961 والذي يدعو إلى تحرير الدوال والمدلولات من العلاقة المنغلقة بصاحب النص (المؤلف).

وقد تفاعل نخبةُ النقادِ الأردنيين من خلال المنجز النقدي المحلي مع هذه المدارس باقتدار سواء كانوا أكاديميين أو غير ذلك.. أنا أتحدث هنا عن المالكيْن لأدواتِهِم الفنية.. فيما تنوَّعت اتجاهاتُهًمِ النقديةِ ما بين النقدِ الكلاسيكي التقليدي والحداثة، وذلك في مجالاتِ البيئةِ المحليةِ والتراثِ والقضيةِ الفلسطينيةِ (ضمن الاهتمامِ بالقضايا القومية)، والأدبِ العربيِّ التراثيِّ والمعاصر، والعالمي.. لإلى جانب الاهتمام بمجالاتِ الفنونِ الأخرى.

ونذكر من النقادِ الروّاد، الدكاترة: ناصر الدين الأسد، ركس بن زيد العزيزي، عيسى الناعوري، محمود السمرة، إحسان عباس، هاشم ياغي، عبد الرحمن ياغي وغيرهم من النقاد الذين ساهموا في ارتقاء النقد الأردني باقتدار إلى جانب نخب النقاد المعاصرين ممن ينضوون في جمعيّةِ النقادِ الأردنيين التي تضمُّ أساتذةً كبارَ لا مجالَ لذكْرِ أسمائِهِم في هذا السياق.

***

بقلم: بكر السباتين

23 سبتمبر 2024

 

للأديب الروائي قصي الشيخ عسكر

هناك أحداث ومواقف ترسم تاريخ الشعوب، وتبقى ملامحها حية وخالدة في سماتها التاريخية والاجتماعية والدينية، لذا فأن هذه الرواية ليس أنها وثيقة تسجيلية وتاريخية في أحلك فترة في تاريخ العراق السياسي الحديث فحسب، ولكن سجلت في عدستها اليومية أحداثها عبر تسجيل واقعي بالواقع الفعلي، كيف انطلقت شرارة الانتفاضة من البصرة وامتدت الى المدن الجنوبية وعموم المدن العراقية، التي شهدت سقوط سلطة النظام الطاغي وانهزام افراده كالفئران المذعورة، تترك مواقعها الحكومية والحزبية والامنية، لتنجو بحياتها من انتقام وبطش الثوار، عقب الاحداث الدراماتيكية، والفصول المتسارعة بعد احتلال الكويت، التي اعتبرها النظام نزهة سهلة، خلال سويعات قليلة تم الاحتلال، وبدأ نهب وسرقة الممتلكات والاموال، من الفرهود الواسع كغنائم حربية، ولكن بعد ذلك انقلب السحر على الساحر، في الهزيمة الشنيعة، جعلت الجنود يهربون من مواقعهم من حمم النيران بالطائرات والمدافع، أصبحوا في حالة رعب وخوف، وفي حالة مأساوية من الجوع والعطش، فكانوا في حالة يرثى لها، ممزقي الثياب يغطيهم الغبار، كأنهم أشباح بشر، ووصلت حالة التردي، بأن اصبح الجندي العراقي يقبل بسطال الجندي الأمريكي لينجو من الموت، أمام هذه الحالة التعيسة، نزعوا ثيابهم العسكرية وتركوا ثكناتهم العسكرية، ووجهوا بنادقهم الى صور الطاغية بالتمزيق، وتحطيم النصب والتماثيل، مما اجج الغضب الى التمرد والثورة على النظام، الذي جعلهم خرفان جاهزة للذبح، فكانت انطلاق شرارة الانتفاضة وانطلقت بنيرانها في التمدد والاتساع من الغضب الشعبي العارم. نتيجة القهر والإرهاب وجنون العظمة عند رأس الطاغية بشن الحروب المتوالية والهزائم المتوالية، والتي انتهت في حرب الخليج الثانية،، ولكن تبقى مسألة الكويت في النزاع التاريخي المتواصل في العراق، من الملكية، ملك غازي وبعده الحكم الجمهوري عبدالكريم قاسم، يطالبون بالكويت بأنها ارض عراقية، فقط من اعترف بها، هو انقلاب البعث عام 1963. والمسألة الفكرية الاخرى هي مسألة العنف المفرط بين النظام، ورد الفعل الثوار بالانتقام والبطش، سيكولوجية العنف والعنف المضاد، بين الطرفين النظام والمعارضة. ولكن تبقى الانتفاضة الوجه المشرق لتاريخ العراق السياسي، كادت ان تحقق الحلم الجميل بإسقاط النظام، ولكن إضاعته أمريكا غيرت بوصلتها في الوقت الضائع، عندما ادركت بأن العراق سيقع غنيمة في الفم الايراني، أعطت اكسير الحياة والبقاء للنظام، ليجهض الانتفاضة بالقبضة الدموية، وبدأ النظام يخوض حرب ابادة وحشية ضد الشعب الثائر بالانتفاضة، لكي يحرمه من حق الحياة. احداث المتن الروائي ينقسم الى قسمين. السفر الأول: الانتفاضة، والسفر الثاني: السجن، يسردها أحد ثوار الانتفاضة (عبدالله عبدالرحيم) الموظف في دائرة العدل في البصرة، ومن اهالي منطقة التنومة البصراوية.

1- الانتفاضة: حيث تلتبس الحياة بالموت.

تؤرخ الرواية مركز انطلاق شرارة الانتفاضة في البصرة، مباشرة بعد اندحار الجيش وانهزامه وترك الوحدات العسكرية، دلالة احتجاج وتمرد على السلطة الحاكمة، و اغتنمت الجماهير المنتفضة سلاح الجيش، لكي تطارد فلول النظام وحزبه بالانتقام الدموي، سقطت السلطة في عموم المدن، وقعت في قبضة الثوار، ويعلن الثوار عبر الميكروفونات وكذلك اذاعة الثوار (شط العرب) لتزف البشرى الكبرى بسقوط النظام والدعوة الى المشاركة الشعبية في دعم وإسناد ثوار الانتفاضة (الله اكبر / يا اهالي البصرة الله اكبر / الطاغية سقط/ بشرى الطاغية يسقط !! / لقد انهار الجلاد والثورة تشتعل في كل المحافظات) ص46، ويسرد الشخصية المحورية (عبد الله عبد الرحيم) البطل الايجابي واحد ابطال الانتفاضة المشاركين بشكل فعال في منطقة التنومة / البصرة، ويسجل احداثيات اليومية بكل وقائعها، في المقاومة والتحدي، برفع السلاح بوجه أركان النظام، التي باتت غير موجودة. لم يبق اية اثر لوجود سلطة النظام في المدن. كما هو الحال في عموم المحافظات. وكل المعطيات كانت تدل على النظام يتهالك بالسقوط، حتى رأس النظام كان يستعد للهروب. لكن امريكا غيرت موقفها، عندما ادركت الامور تتجه لصالح ايران، وكانت خيمة صفوان، خيمة استسلام النظام، وقبوله بكل الشروط الامريكية ليبقى حياً، لهذه الهزيمة في خيمة صفوان، ويقف الجنرال شوارسكوف منتشياً بالنصر وهو يصافح جنرالات النظام منكسي الرؤوس بالإحباط والخيبة (ومن حق الرئيس بوش وحده يبتسم، وهو يرى العراق كله مغطى بشعارات وصور، تبعث في نفسه الريبة والخوف، سوف يسقط العراق بيد ايران، امريكا تقدم بلداً كاملاً بملايينه وشعبه وخيراته لقم) ص62. وبدأت المعادلة على الارض تتغير كل يوم لصالح النظام، وبدأ العد التنازلي في إجهاض وقمع الانتفاضة بالعنف الدموي يتوسع في ارتكاب مجازر بشرية مروعة في الشوارع والسجون والزنزانات التي اكتظت بالالاف، ينتظرون دورهم للموت، فقد وجدوا الثوار انفسهم امام جدار مسدود، اما الموت أو الفرار مع عوائلهم الى ايران (أين ذهب بقية الرجال؟ هل حقاً فرت معظم العوائل الى ايران؟ ومن نحن حتى نقف بوجه تيار جارف من الموت والجنون، الجميع غادر من شارك في الانتفاضة، وحتى من وقف متفرجاً. مكبرات الصوت صاحت: ايها الناس فروا من الطاعون في الجو طائرات الهليكوبتر، وعند الضفة شرق النهر دبابات باتت تتأهب للانقضاض الحابل اختلط بالنابل) ص65. ولكن (عبدالله عبدالرحيم) اصر على البقاء مع عائلته، مع التحذير بأنه سيواجه الموت بلا محالة.

2 - السفر الثاني: السجن (حيث يتلبس الموت بالحياة).

يزج (عبدالله عبدالرحيم) في السجن، في زنازين الموت المكتظة بالكثير، فكانت وسائل التعذيب وحشية لا تتحمل، سقط الكثير ميتاً نتيجة التعذيب بالأسلاك الكهربائية والتعليق والضرب المتواصل حتى يغمى على الضحية وحين يفيق من إغمائه يعاد التعذيب من جديد، من أجل انتزاع اعتراف بكل الوسائل الهجينة وهذا الاعتراف يقر بحكم الاعدام والموت. وكانت حفلات الإعدام في السجون تجري بوتيرة متسارعة. وتوجه تهم خطيرة الى (عبدالله عبدالرحيم) كفيلة بأية تهمة تقوده الى الموت المحقق، تهمة المشاركة مع الغوغائين وحمل السلاح. مسؤول اذعة الثوار (شط العرب) شارك في التخريب والقتل المتعمد، ويتردد على الجامع. والمحققون بملامحهم العدوانية، يتطاير منها الشر والحقد والعدوانية، وتتهالك عليه الضربات من كل جانب، تمزق ثيابه وجسمه (هنا أيها الخائن: يا اعرج الشؤم، هنا مكانك مع الخونة) ص90. لكنه بدد كل التهم بالإنكار الكلي، كوسيلة للدفاع عن نفسه ويدرك ان أي اعتراف يعني الموت، ووجد خير وسيلة مع عقدة النقص أو العاهة (العرج) متذكراً نصيحة أستاذه في المدرسة (ليس بالضرورة ان يشعر كل ذي عاهة بعقدة. تيمورلنك الأعرج احتل العالم. موشي ديان اغتصب اخوات مائة وخمسين مليون عربي في ستة أيام حسوماً، فما بالك بي وقد جعلت لواء مدرعاً يفر. الآن جمعت الاثنين!) ص93، لذلك يبرر عقدة العاهة بالعرج بعدم قدرته على المشي ولا حمل السلاح، وانه منذ طفولته في المدرسة معفياً من درس الرياضة، وأنه لم يكمل الدراسة الثانوية فمن اين اتت موهبة الخطابة، حتى يكون مشرفاً على اذاعة الغوغائيين (شط العرب) أنه يتردد على الجامع من اجل جلب الطعام الى عائلته وأطفاله ليبعد عنهم شبح الجوع. وكان كل تعذيب يغمى عليه، يعاد عليه التحقيق مجدداً، ويتنقل في عدة سجون امنية، وظل متماسكاً يردد نفس اقواله دون تغيير، ويعاند في تحمل اهوال التعذيب، واخيراً ينقل الى سجن أمني يشرف عليه (ابا درع) البدوي يجمع العنف تارة والطيبة تارة آخرى، لذلك ركز على وتر الطيبة ويضخمها بالمدح المبالغ به، بأنه رجل كريم يحب العدل ولا يظلم احداً(- سيدي انت رجل حقاني كما هو الشائع والمعروف عنك، الكل يتحدث عن طيبة قلبك وخلقك وكرهك للظلم، كلنا نعرف انك لا تظلم احداً، أرجوك ان تطلق سراحي) ص151. يلتفت الى مرافقه ويطلب: ان يسجل اسمه، لكن حذره بأنه سيقرأ ملفه، اما الموت أو البراءة. وتمر الايام احر من الجمر تنتابه هواجس شتئ، ويطلب مقابلة الجنرال البدوي، يتعجب هذا من عدم إطلاق سراحه، يبرر المرافق بعدم وجود سيارة. فيقول بحزم:

- أطلقوا سراحه، ودعوه يذهب في السيارة المغادرة عصراً.

هكذا كتب عليه النجاة والحياة بعد الموت المحقق.

×× الرواية من اصدارات مؤسسة المثقف / سدني

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد

 

بقلم: كيفن يونج

ترجمة: د. محمد غنيم

***

توفيت نيكي جيوفاني هذا الشهر (7 يونيو 1943 – 9 ديسمبر 2024) عن عمر يناهز الواحد والثمانين عامًا، لتكون واحدة من أندر الأشياء: شاعرة حققت مبيعات ضخمة. انطلقت أعمالها إلى الساحة في الستينيات وقد اكتملت بالفعل - كانت مهتمة، كما كان الحال مع شعر فنون السود في تلك الفترة، بالظلم والتحرر، ولكنها أيضًا عرضت روح الفكاهة الأصيلة والحس الجنوبي. استلهمت من مسقط رأسها في نوكسفيل، تينيسي، ومن سنواتها الأولى في سينسيناتي، متحدية السرديات النمطية حول "الأوقات الصعبة" التي غالبًا ما تُفرض على تجارب السود، خاصة تلك التي تتعلق بالنشأة. "ذكريات الطفولة دائمًا مزعجة / إذا كنت أسود"، كما لاحظت بسخرية في قصيدتها "نيكي-روزا"، لكنها فضلت أن تذكر القراء بأن "الحب الأسود هو ثروة السود".

استكشفت كتبها العديدة هذا المجال الغني من الفكر الأسود، الذي يميزها الغضب والجمال والتعليقات الاجتماعية الساخرة. كانت خطوطها التي غالبًا ما تكون بحروف صغيرة، وقليلة الترقيم، لا تخشى التفاخر، كما في قصيدتها الشهيرة "ego trippin" — التي تستند إلى تقليد التفاخر الأسود الذي يمتد من بو ديدلي إلى كيندريك لامار— أو التحدث عن عدم اليقين الثوري، الذي جعلته مضحكًا وقويًا كما لم يفعل غيرها. تظهر الجوانب التي تمثلها في أنثولوجيا شعر الأمريكيين الأفارقة التي قمت بتحريرها، والتي تضعها بين مجموعة من الكتاب العميقين، العديد منهم — مثل جون جوردان، ولوسيلا كليفتون، وجين كورتيز— لم يعودوا معنا. كما قال أحد الأشخاص الذين أعرفهم عندما سمع خبر وفاة جيوفاني: "الأشجار تتساقط".

تدور أسئلة الطبيعة، سواء في ذاتها أو كموضوع أدبي، بين هؤلاء الشعراء، سواء في الإيكوبويتيكا في مجموعة كليفتون "أخبار جيدة عن الأرض" أو في قصيدة جيوفاني الكلاسيكية "من أجل ساوندرا"

...جاري الذي يظن أنني أكره

سألني—هل تكتب أبدًا

قصائد عن الأشجار—أنا أحب الأشجار

ففكرت

سأكتب قصيدة جميلة عن شجرة خضراء

نظرت من نافذتي

لأتحقق من الصورة

فلاحظت أن ساحة المدرسة كانت مغطاة

بالأسفلت

لا خضرة—لا تنمو الأشجار

في مانهاتن.

إن الحياة الريفية الإنجليزية لا تجد مثيلاً لها في المدينة، بل في الخيال الذي يقرر عدم ملاحقة الأشجار من أجل الغابة في اللحظة الراهنة. كما تقول كليفتون في قصيدة أخرى محبوبة:

كلما بدأتُ

"الأشجار تلوح بأفرعها المعقدة

و..." لماذا

يوجد تحت تلك القصيدة دائماً

قصيدة أخرى؟

هذه "القصيدة الأخرى" هي ما تخصصت فيه جيوفاني عبر العقود، كتابة عن العائلة، وليس عن شعبها فحسب بل عن أمة تحتاج إلى كل الأصوات التي عاشت فيها.

كان نشاط جيوفاني جزءاً من سخائها، الذي تجلى في تفانيها في التعليم وبناء المجتمع. بعد وفاة كليفتون في 2010، ساعدت جيوفاني في تنظيم قراءة تأبينية بعنوان "73 قصيدة ل73 سنة"، احتفالاً بكليفتون، حيث كان لي الشرف في القراءة. (حتى بعض من الشعراء الأصغر سناً الذين كانوا في ذلك الحدث قد رحلوا الآن.) في النهاية، قادتنا جيوفاني من القراء والشعراء في أداء جماعي لقصيدة لوكسييل الشهيرة "ألن تحتفل معي"، بكل كاريزما وحرفية مديرة الكورال الجنوبية. لم أتعلم فقط من بيننا من كان قادراً على "الغناء"، بل بدا الأمر أيضاً كاستعارة ملائمة لقدرتها على التجمع، والأمر، والحفاظ على الأمور في كمالها.

كانت جيوفاني مؤدية ساحرة، تسيطر على المسرح أثناء قراءاتها التي كانت تقدمها حتى وقت قريب، رغم تشخيصها بالسرطان. مع مرور الوقت، أصبحت ظهوراتها العامة أكثر من مجرد مناسبات للقراءة؛ حيث تحولت إلى فرص لإلقاء المحاضرات والتحدث بأسلوب عفوي. في مثل هذه الفعاليات، سواء من خلف الميكروفون أو في الجمهور، كثيرًا ما كنت أسمعها تتحدث عن السياسة أكثر من الشعر، وتناقش الفضاء الخارجي أكثر من تقسيم الأسطر. كانت تعظ وتستفز. وتحدثت خصوصًا عن قوة كوكب المريخ وكيف يجب علينا أن نذهب إليه. ظهر مقتطف مؤثر من عملها بين الكواكب في معرض ألڤين آيلي الأخير في متحف ويتني؛ وربما كان التعبير الكامل عن رسالتها الأفروفيتورية في الوثائقي "الذهاب إلى المريخ" الصادر في 2023، الذي تتبع رسالة جيوفاني عبر النجوم إلى عالم أحيانًا يبدو أكثر صعوبة في الوصول إليه، هنا على الأرض.

كانت معارضة لكن أصيلة تمامًا، دافئة لكنها لم تتحمل الحماقات، كتبت كتب للأطفال ولكنها كانت قادرة على السباب بكثرة—قد يقول البعض إنها كانت تتناسب مع برجها الفلكي، الذي منح كتاب مذكراتها عنوانه: "جمني: بيان سيرة ذاتية ممتد عن أول خمسة وعشرين عامًا من كوني شاعرة سوداء." كان نيويوركر محظوظًا بنشر أعمالها—وإن كان متأخراً عن المفترض، أول مرة في 1997 ثم مرة أخرى الأسبوع الماضي. تبدأ "المرآة الفضية اللامعة" بـ:

بغض النظر عن كيف حمل الرياح والنجوم الأخبار

كان العبيد يعلمون

أن شيرمان قادم

كل ما كان عليهم فعله هو الانتظار:

بينما كانوا يغنون الترانيم "لماذا لا أستطيع الانتظار على الرب؟"

كان لديهم الصبر ليعلموا أنه قد لا يأتي

عندما تناديه

لكنه دائمًا يأتي في الوقت المناسب.

كانت  تميل دائماً إلى المزاح، بما في ذلك المزاح عن نفسها، ولذلك اختارت أن تسمي المجلد القادم الذي سيضم هذه القصيدة—والذي كانت تدرك أنه سيكون على الأرجح آخر أعمالها—ببساطة "الكتاب الجديد". كل ما يمكنني أن آمله هو أنها شاهدت عودتها إلى صفحات المجلة، وأثق أن الأجيال القادمة من القراء ستظل تحملها في قلوبها كـ "جديدة" دائمًا، وفي الموعد دائمًا.

***

.................

الكاتب: كيفن يونج/  Kevin Young محرر الشعر في نيويوركر، هو أيضًا مدير متحف سميثسونيان الوطني لتاريخ وثقافة الأمريكيين من أصل إفريقي. وهو شاعر له عدد من المجموعات الشعرية .

 

دِراسةٌ فِي مُدوَّنةِ عَبدِ اللهِ المَيَّالي القَصيرةِ جِدَّاً (أرانِي أعصرُ حِبرَاً)

مِهادُ تَوطئةٍ:

 لِكلِّ خطابٍ نصيٍّ سواء أكان خطاباً شعرياً أم نثرياً جانبان مهمَّانِ في نظريات القراءة وآليات التلقِّي المعرفي الفكري، الجانب الأوَّل ما يقوله الكاتب ويبثُّه من أفكارٍ مُنتخبةٍ مُعيَّنةٍ، وهو الخطاب النصِّي الموجَّه للقارئ بعينه، والثاني ما يتلقَّاهُ المُتلقِّي الواعي أو القارئ النابه لهذا الخطاب، وهوَ التأويل النصِّي لفكرة الخطاب ووحدته. والخطاب والتأويل النصِّي هما ركنا آلية التلقِّي المعرفي للإبداع الفكري. وعندما يتوَحدن هذانِ الجانبانِ المُهمَّانِ الفكري الخطابي(المُرسل)، والتأويلي المعرفي(المُرسل إليه) معاً في بوتقةٍ نصيَّةٍ واحدةٍ تتحقَّق الغاية المنشودة لأهمية الخطاب، وتكتمل مَقصديات الهدف السامي من متن الرسالة الإبداعية التي جوهر العمل ونواته الحقيقية عند القارئ.

 ومثل هذا التوصيف التنظيري لجماليات الخطاب النصِّي، ولا سيَّما خطاب السرد، يُحيلنا قصدياً إلى تجلِّيات المجموعة القصصية القصيرة جداً(أراني أعصرُ حِبرَاً) للقاصِّ والروائي والأديب الباحث المثابر عبد الله الميَّاليّ.المجموعة التي احتوت على مائةِ قصَّةٍ من النصوص القصيرة جدَّاً، والتي أدَّت مهمَّتها الرسالية الجمالية والفكرية المتوثبة، وبلغت منتهاها المعرفي والإنساني والفنِّي في ذهنية القارئ ووصلت ضميره الوجداني على طبق فاعل من أنَّها حكاية سابقة لفكرة أو لاحقة.

العَتبةُ العِنوانيَّةُ للمُدوَّنةِ (ثُريَّا النَّصٍّ)

 يعدُّ العنوان الرئيس -في كلِّ عملٍ إنتاجي إبداعي تخليقي- بوابةَ الدخول المركزية الأولى الموازية للنصِّ المُرسل وعالمه الخطابي القارِّ. وهوَ تلكَ اللَّافتة الإغرائية التعيينيَّة والتوصيفية الضوئية، أو العلامة السيميائيَّة التأويلية التي يُواجهها القارئ مرئيَّاً وفكريَّاً وسمعيَّاً وجهاً لوجهٍ لأول وهلةٍ، والتي من خلال صور لوحتها الغلافية الفنيَّة والجماليَّة والموضوعية الأولى ينطلق فكر القارئ إلى فضاءات مدينة السرد أو الشعر الفاضلة عبر حلقة كبرى من الصراع الدائر بين يوتوبيا الخير وديستوبيا فوضى الشرِّ الناتج عن فعل أحداثها وفواعل شخصياتها الواثبة الخُطى.

 وإنَّ عنواناً فنيَّاً نسقياً ثقافيَّاً وانزياحيَّاً تناصيَّاً مُتفرِّداً مثل عنوان مدوَّنة(أراني أعصرُ حِبْرَاً) للكاتب عبد الله الميَّاليّ ما هو إلَّا انزياح مخيالي فكري تناصِّي تحوِّلي تُراثي ديني مع السياق البنائي الظاهر أو المضمر للآية(36) من سورة(الكافرون) القرآنية:(ودخَلَ مَعهُ السِّجنَ فَتيانِ قَالَ أحدُهَمَا إنِّي أَرَانِي أعْصِرُ خَمْرَاً).المعروفة بقصِّة يُوسفَ مع الغُلامينِ اللَّذينِ كانا معه في السجن.

 فإذا كان أحد أبطال هذه القصة الدينية المأثورة حكايتها التسريدية تاريخياً، هو الساقي لربِّه خمراً أو صاحب الشراب العاصر لسيِّده عِنباً بحسب ما يَذهب إليه التأويل الرؤيوي اليُوسُفي لذلك التفسير الحُلُمي، فإنَّ الكاتب القصصي عبد الله الميَّالي المُنشئ المُبدع والمنتج لمحتوى هذه المدوَّنة وفق تجلِّيات هذا التأويل، هو العاصر حِبْرَاً من مداد خمره القصصي السحري السردي القصير جداً والواثب فعلاً وعملاً في عدسة التقاطاته العينية ومشاهداته الموضوعية لحركة الواقع الثقافي والاجتماعي والسياسي والأدبي بمختلف صوره وأشكاله الواقعية والمخياليَّة الأُسطورية الماتعة.

 وذلك خلال مناطق تعدُّدية وأنساق ثقافية وأدبية لصور السخرية والفنتازيا الغرائبية والعجائبية الكاسرة لأفق توقُّع جدار المألوف اليومي الراهن بِجدتِها المُوضوعية وتجديدها الفنِّي والبلاغي والنقدي الساخر لِهُويةِ صوتِ الآخر، فلا حِبْرٌ سائلٌ يُعصَرُ مِدادُهُ الخَمري لِيُعطيَ مردوداً مُسكِّراً كما تُعصرُ الأعنابُ وتُخمَّرُ لتنتجَ خمراً يُذهِبُ العقل الإنساني سُكْرَاًوَيُغيِّبهُ في انتشائه غِيابَاً رُوحيَّاً.

 ولكنَّ المعادل الموضوعي المهمَّ للفعل الحالي(أعصرُ) التناصِّي القديم والجديد بين الدالتين النصيتين(حِبْرَاً وخَمْرَاً)، هو النشوة الروحية الساحرة التي يُضفيها فعل دالة(العَصْر)المؤثَّرة في التحكُّم بالعقل والروح والجسد في أبهى تجلياته النفسية وحمولاته ومقصدياته الذاتية الإنسانية. والعتبة العنوانية(أراني أعصرُ حِبْرَاً)،هي تركيبٌ نَحويٌّ منتظمٌ لجملة فعليةٍ بَصَرِيَّةٍ،والجملة الفعلية أكثر تأثيراً من الجملة الاسميَّة؛ لأنَّ الفعلية تبداً بحدث فعلي وتنتهي بحدث فاعل لذلك الفعل القائم.

 وعلى الرغم من اختلاف حركة البناء الشكلي لدالة فاء الفعل المكسورة الحاء في كلمة(حِبْرَاً)، ودالته المفتوحة الخاء في مفردة(خَمْرَاً)، فإنَّ الميزان الصرفي لوزن كلتا المفردتين واحدٌ هو الوزن(فعْلَاً) بفتح وكسر فاء الفعل. ويكاد يكون متشابهاً في إيقاعه الصوتي الموسيقي سجعاً قصيرَ الفقرة النصيَّة آيةً وعنواناً، وبالتالي فإنَّ حصيلة العطاء التخليقي الإنتاجي لهما الارتواء السحري والانتشاء المذهل للعقل. وسواء أكان ذلك المؤثِّر خمراً مُسَكِّرَاً أو سرداً فنيَّاً قصصيَّاً قصيراً جدِّاً ساحراً في توظيف واقعة الحدث الموضوعية وتشكيلها وبنائها وفعل ضربتها الإدهاشية الصادمة.

 وعلى وفق ذلك المُثير العنواني الاشتراطي، فإنَّ الوقع الدلالي للعتبة العنوانية لجِيرار جِينيت يكون صادماً ومُذهلاً مثلما كان فعل تأثير الخمر ضياعاً وخلخلةً للاتزان العقلي في تصور الأشياء والموجودات الفكرية والمادية البحتة، وشتانَ ما بينَ دالتي(حِبْرَاً وخَمْرَاً).بيدّ أنَّ السحر كان مِهمازاً مسمارياً قويَّاً فاعلاً ومؤثِّراً بين مُخرجات الدالتين. فلا حبرَ من غير سردٍ ولا خمرَ من غيرِ نشوةٍ للعقل. فالعطاء الروحي والفنِّي الناتج واحد؛لكن الفعل الوجودي لهما والتأثير الروحي مُختلف جداً.

 إنَّ َفِعلَ العَصْرِ والتحضير للخَمرِ يتمُّ عمليَّاً باليدِ، في حين أنَّ العَصرَ بالحِبر يأتي فعله حركياً وذهنياً وفكريَّاً وعقليَّاً. وهذا يشي بأنَّ عقل عاصر الخمر ليس كعقل عاصرِ الحبرِ أو(الفكرة)، فالأول سهل المنال ممتنع، بينما الثاني ليس بالسهل الممكن المستطاع في الحصول عليه ببساطةٍ، وإنما يحصل بشق الأنفس؛ لذلك كان العصر بالحبر فكراً خِلَافاً للعصر بينما العصر بالخمر سُكراً وغياباً، وهذه هي نقطة التلاقي المؤتلف والتقاطع والتفاوت المُختلف بين التناصين القديم والجديد.

 أمَّا العتبات النصيَّة الفرعية الداخلية الأخرى للمدوَّنة القصصية القصيرة جدَّاً، والتي بلغت نحو مائة عنوانٍ قصيرٍ جدَّاً، فإنَّ تركيبها النحوي والبنائي الجُمَلي الذي يُحسنُ السكوت عليه في إتمام المعنى الدلالي القريب في غالبيته العظمى أو بنحو(95) عنواناً منها جاءَ مُكوَّنَاً من كلمةٍ مفردةٍ واحدةٍ، في حين العتبات الخمس الأخرى المتبقية للمدوَّنة جاءت في كلمتين اثنتين متحدتين، فكان تركيبها إمَّا صفةً وموصفاً، أو جارَّاً ومجروراً، أو كان مضافاً ومضافاً إليه؛ وذلك بحسب ما اقتضته ضرورة توظيف الوصف الحكائي العنواني لماهية المحتوى السردي الذي اختاره الكاتب.

 ولعلَّ المُلاحظ واللَّافت على البناء المعماري لهندسة هذه العتبات النصيَّة المفردة في نَظمِ تركيبها النسقي التنظيمي والسياقي الجُملي أنَّها جاءت نكراتٍ لمبتدآتٍ أو معارفَ محذوفةً مُقدَّرةً، وتقديرها الجُملي إمَّا كلمة(العنوانُ)، أو(القِصةُ) في إتمام معناها ومبناها الكلي التام المُفيد. بيدَ أنَّ المهمَّ في قصدية هذه العتبات النصيَّة ذات الكلمة الواحدة الانفرادية التي التزم بها الكاتب في أكثر نصوصه القصصية القصيرة جدَّاً على الرغم من كونها نكراتٍ لمبتدآتٍ مُقدَّرةٍ محذوفة، فإنَّها جاءت أخباراً لمسروداتٍ متواليةٍ مُتمِّمَةٍ لمعاني تلك المعارف الابتدائية المحذوفة التي يتمُّ بها المبنى العنواني.

 هذه هي البلاغة العنوانية والفنيَّة لتلك المسرودات القصصية الموجزة. وكلَّما كان المعنى اللُّغوي النصِّي العنواني موجزاً ومقتضباً كان المبنى القصصي السردي مُكثَّفاً مكتنزاً وبليغاً مُدهشاً لذائقة القارئ في رسم صياغته التعبيرية، وَجَودته الموضوعية الفنيَّة المتراتبة الشكل والمضمون معاً.

 وقد حرص جِدَّاً الرائي والكاتب الميَّالي عبد الله على أنْ تكون جلُّ اختياراته العنوانية ثريةً ومتنوِّعةً في وحداتها الموضوعية وروافدها المعرفية وقيمة أفكارها الفلسفية والدلالية ، فكانَ موفَّقاً جدَّاً في ثنائية الجمع بين الموضوعات ذات المحتوى الدلالي الحسِّي المادي الواقعي وورؤية المخيالي الأسطوري المعنوي الذي لا يخلو من غرائبية الواقع وفنتازية العجائبي المُدهش الساخر.

 وقد ارتأى القاصُّ الميَّالي اختيارَ إحدى قصصه الفرعية الموسومة(أراني أعصرُ حِبْرَاً) أنْ تكونَ عنواناً نصيَّاً رئيساً قائماً بذاته الكليَّة، وهالةً ضوئيةً لافتةً لمُدوَّنته الخطابية القصصية القصيرة جداً. وهذا الاختيار القصدي للعنونة ناتج من باب إطلاق الاسم الفرعي الجزئي على الكلي. إذْ كان هذا الجزء الثانوي لافتاً في محتواه الفكري والمعرفي الهادف، ومضيئاً في سعة شموليته السرديَّة ومِساحته الفنيَّة الوظيفية والتي أكدها الناقد الفرنسي جيرار جينيت كعتبةٍ نصيَّةٍ مُتفرِّدةٍ في عتباته.

تَأثيثُ المُدوَّنةِ القِصصيَّةِ وهَندستِها المِعماريَّةِ السَّرديَّةِ

 المُدوَّنة السرديَّة (أراني أعصرُ حِبْرَاً) للقاصِّ والروائيّ والأديبِ العراقي عبد الله الميَّالي، هي المجموعة القصصية الثالثة من نتاجات الكاتب السردية والفائزة بالمرتبة الثالثة في جائزة دمشق للقِصَّة القصيرة جدِّاً بدورتها الثالثة في عام 2023م، والصادرة بطبعتها الأولى في العام ذاته 2023م عن دار أمارجي للطباعة والنشر في العراق، وبِكمٍّ كيفي حجمي ونوعي من فئة القطع الكتابي المتوسِّط بلغ نحو(132)صفحةً ضمَّت مائةَ قِصَّةٍ في محتواها الأدبي السردي القصير جدَّاً.

 ومن حيث التجنيس الأدبي تعدُّ القِصَّة القصيرة جدَّاً من أصعب الأجناس والأشكال القصصية كتابةً وإنتاجاً؛ لاشتراطاتها الفنيَّة المُحكمة المُعقَّدة وآلياتها البنائية المتفرِّدة،مثلما تعدُّ بالمقابل قصيدة النثر الشعريَّة من أصعب أجناس وقواعد لُغة الشعريَّة؛وذلك لكون هذا الفنِّ القصير جداً لوناً جديداً من ألوان الأدب الإشكالي الحديث الذي أخذ بالظهور اللَّافت ولانتشار المُتسارع في عالمنا الأدبي المعاصر بشكل واضحٍ. وأصبح هذا النوع من الكتابة الإبداعية الحديثة لوناً سرديَّاً قائماً بذاته على الرغم من كونه شَكلاً أدبيَّاً هجيناً وليس أصيلاً فإنَّ جنس هجنته منبثقٌ من رَحِمِ القِصَّة القصيرة أولاً، واستمدَّ أكثر خصائصه وسماته الفنيَّة الأوليَّة من بقية الألوان والأجناس الأدبية الأخرى ثانياً.

 فقد أخذ هذا اللَّون من فنُّ القصَّة القصيرة صفاتها الفنيَّة المعروفة، واقتنص من سرديات الرواية بعض عناصرها الأساسيَّة المهمَّة،ومن القصيدة الشعرية اكتسب لغتها الشاعرية وتكثيفها وإيجازها الاقتصادي واللُّغوي وتوترها النفسي، ومن المسرحية استلهم حوارها الدرامي البَصري والسَّمعي، ومن النثرية الفنيَّة استحضر جمالية إيقاعها الموسيقي الداخلي الذي يمنحها توهُّجاً وتمايزاً وتفرُّداً.

 وإنَّ ما يلفتُ النظرَ في هذا الجنس من القصة القصيرة جداً عن نظائره الأُخرى في السردية، وأعني القصة القصيرة(الطويلة)هو فنيَّة البناء الحكائي في معمارية حجمها الكمي والنوعي البنائي الهندسي الجمالي الذي لا يتجاوز تأثيثه الهيكلي أكثر من ثلاثة أسطرٍ مُكتنزةٍ، وقد تكون أكثر من سطرٍ سرديٍّ واحدٍ يؤهِّلها تأثيثيَّاً ومعماريَّاً بأنْ تكون جنساً سرديَّاً مُعبِّراً عن كينونة ذاته الوجودية.

 وإنَّ من أهم ما يُميِّز مدوَّنة(أراني أعصر حِبْرَاً)المُعبِّرة عن بلاغة دلالتها الانزياحيَّة والجماليَّة هو التزامها بالعناصر الأساسية للقصة القصيرة جدَّاً واهتمامها بأركانها الفنيَّة وقيم شرائطها وآلياتها الأسلوبية الزمكانية المتطوِّرة، والمُتمثِّلة بقصر وضيق حيز ماهية الوحدة الموضوعية المُعبِّرة عن اللَّحظة الشعورية الهاربة وما تنتجه من رؤيا وأحلامٍ وفنتازيا وسعة الخيال أو قصره المناسب لها.

 وفي هذا السياق البنائي الفنِّي تأتي أيضاً عناصرٌ مثلُ، المُبادَأَة والإقدام والجرأة الفنيَّة، والمناورة الأسلوبية المتعلِّقة ببناء الوحدة العضوية للنصِّ السردي، وعناصر أخرى مثل، خاصية التكثيف اللُّغوي والمعنوي والدلالي، والتركيز الذهني، والإيحاء الصوري، والمفارقة الإدهاشية المُذهلة المرتبطة بفعل الضربة الضوئية الختامية الصاعقة لواقعة الحدث الموضوعية الماتعة التسريد.

 وثمَّةَ اللِّجوء الشديد إلى بلاغة الأنسنة الصورية وفنيَّة التعبير الانزياحية في الأسلوب. فضلاً عن ذلك توظيف واستخدام العناصر والإشارات الرمزية والتقانات اللُّغوية والسيميائية المُتاحة في (الإيماء والتلميح والإضمار والغموض والتعقيد والإيهام)، والتندر المعنوي والاعتماد على تحشيد الصيغ الفنيَّة في الطرافة التعبيرية التي تُجسد تأثيرات اللَّقطة الحدثية الواثبة التي تنهض بالسرد.

 وكذلك التأكيد على خاصية التَّوهج في إضاءة الجملة التقفيلية للخاتمة المِهمازيَّة الصادقة للفعل الحدثي، والتأنَّي والدقة في اختيار لوحة العتبة العنوانية(ثُريا النصِّ)الذي يحفظ لمطلع البداية أهمية مفتتحها القَصِّي وللخاتمة حُسنَ تَخَلُّصِها الموضوعي الوامض. ذلك التختيم الذي يماهي تدريجياً هدوء مطالعها الأوليَّة ومُقدِّمات مُستهلاتِها الافتتاحية الراكزة لأنَّ الضربة الختامية حياتها النابضة.

 ومثل هذه التوصيفات الفنية والعناصر الأساسية المُتبعة في كتابة وإنتاج القصة القصيرة جدَّاً تشي بأنَّ كلَّ نصٍّ قصصي قصير لا يعتمد في تخليقه الفنِّي وتكوينه التعبيري على عنصر المفارقة الحدثية والهِزَّة الإدهاشية الكاسرة لأفق توقُّع القارئ أو المتلقِّي هو بالتأكيد يعدُّ نصاً فِعْلِيَّاً بارداً، وصوتاً لغوياً باهتاً غيرَ مُؤثِّرٍ في أَثَرِ ضربته التوقعيَّة، ولا يمتُّ بأيٍّ صلةٍ وثيقةٍ من الصِّلات إلى الإبداع الفنِّي القصصي القصيرالوامض لروح النص والمُعبِّرعن ثورته البركانية المُلتهبة.ولا يعدو هكذا نصٍّ سرديٍّ خَالٍ من هِزةٍ التأثير النفسي سوى كونه نصٍّاً نثريٍّاً عادياً بأيِّ حالٍ من الأحوال.

 والقارئ النابه الفاعل الذي يتتبع بتأمُّلٍ واعٍ متنَ نصوص مدوَّنة(أراني أعصرُ حِبْراً) الدالة على محتواها الإبداعي المثير، سيجد أنَّها نصوص سرديةً قصيرةً جدَّاً تهدفُ بنائياً وسياقيَّاً إلى إرساء قواعد خطاب قصصي سردي حديث متجدِّد وفاعل الأثر في خطٍّ التجريب الحداثوي لفكر القارئ.

 وقد تمَّ ذلك الفعل السردي للكاتب من خلال لغته الأنوية الشاعرية المتساوقة، وصياغة جمله القصصية المِهمازية المكثَّفة، وإيقاعية أسلوبيته التعبيرية الهادفة، وثبات قدرته المهارية المتراتبة التي تمكِّنه فنيَّاً وأُسلوبياً من التواصل المعرفي بهذا التسريد القصصي الشائق القصير جداً في مثل هكذا نصوص توظَّف تركيبياً في بضع سطور فنية مُجتزة، وجُملٍ بنائيةٍ موجزةٍ مُختصرةٍ؛ لكنَّها في واقع الأمر تُعدُّ نصوصاً فكريةً عميقةً مُركزةً وفي غاية الأهمية السردية الموضوعية الماتعة.

 كونها تحمل في طيَّاتها الموضوعية الفنيَّة والجماليَّة أبعاداً أو قيماً إنسانيةً متعدِّدةً. وتُعطي إشاراتٍ رمزيةً وعلاماتٍ سيميائيةً مُعبِّرةً وموحياتٍ دلاليةً كبيرةً مؤثَّرةً، ويمكن أنْ تُغطِّي موضوعاتٍ وأفكاراً وهواجس خطيرةً مُلِحَّةً ذات صلةٍ بالواقع الإنساني الراهن الساخن،(السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأدبي والثقافي). فهذه النصوص القصيرة جداً اختصرت بلغتها التعبيرية الموجزة حكايا وقصص موضوعاتٍ طويلةً وصفحاتٍ كتابيةً عديدةً كثيرةً عبر أثير مجسَّات هذا التراسل النصي الفكري القصصي القصير اَللَّاذع من الحكايات والمثيرات النصوصية الإدهاشية المُلتقطة.

 والذي يَحمِلُ القارئَ الناقدَ والمتلقِّيَ العادي الواعد إلى أن يهيم بفضاء خياله الواسع وَلَهَاً ويُبحِر بذائقته الفنيَّة في عوالم النصِّ إمتاعاً ويطوف بتجلياته الفكرية والجمالية. حتى تراه تارةً مستمتعاً بقراءته وإبداعه وابتداعه القصي، وتارةً تراه مُنقِّباً نابشَاً في حفرياته عن لُقى آثاره الأركيلوجية وظلاله الفنيَّة الشاخصة، وتارةً ثالثةً كاشفاً بسوناره عن رؤاه الفكرية وخبايا حمولاته الآيدلوجية.

 يحيلنا هذا اللَّون الفنِّي من الكتابة القصصية القصيرة إلى أن القاصَّ السيِّد الميَّالي كاتب مثابر دؤوب لا شكَّ في مثابرته؛ فهو يسعى إلى الجمع بين مثلث(التقانات الفنيَّة، والحكايات القصيرة المُكتنزة، والتجريب الحداثوي). وقد يميل كثيراً إلى نوعٍ آخر من جنس القصِّ السردي يمكن أنْ نطلق عليه(القصّ التألُقي)أو الألق القصصي الثيمي المتميِّز في ماهية محتواه الفكري الموضوعي.

 إنَّ هذه التوليفة التجميعية المتوحدنة تخلق كاتباً قصصياً متفرِّداً في أسلوبيته النصيَّة المتوهجة، وفي وقع معجمه القصصي السردي القصير، وتُميِّزه عن نظرائه الكُتَّاب في فنية التخليق السردي الذي يحقق له أسس ومعايير الفنِّ الكتابي القصصي القصير جداً بألمعيةٍ واقتدارٍ في محلِّ مركزية اشتغاله القصصي الحكائي العميق الموحَّد، والبعيد عن أشكال الكتابة التقريرية والمباشرة والإملال الفكري والابتذال المعنوي الذي يقتل رُوحَ النصِّ ويُمِيتُ فاعليةَ الكتابة النثرية الإبداعية الحقَّة.

 إنَّ ما يلفت النظر في قصص هذه المجموعة (أراني أعصرُ حِبرَاً) القصيرة جداً أنها قصص ذات بنية سرديةٍ تجدُّدية متحركةٍ، وليست نصوصاً سياقيةً نمطيةً جموديةً ثابتة الإطار. بل على العكس من ذلك؛ كونها بنيةً تجريبيةً قلقة الحركة عديمة الثبات أو الاستقرار في حركة تماسكها النصِّي؛ وذلك كونها تنفتحُ حيناً على الهمِّ الإنساني الواقعي، وتكشفُ خبايا وجعه الداخلي النسقي الثقافي المضمر والظاهر في جانب، وحيناً آخر تخرج عن خطِّها المحوري إلى فنِّ الأسطرة المرتبطة إسقاطاتها التاريخية والتراثية بشيءٍ من لوازم الواقع ومهيمناته في جوانب شتَّى متعدِّدة أخرى.

 وحيناً ثالثاً تَعمدُ كثيراً إلى استخدام السُّخرية والتَّهَكُم الذي هو احتجاج لديستوبيا الشر ورفض واضح للقمعِ والتهميش والنكوص والإقصاء من خلال فنتازيا فنِّ السخرية التي تتخذ من غرائبية الموضوع وعجائبيته السحرية هدفاً لها في تصوير مشاهد الواقع الحياتي المُحتقن الذي لم تألفه أبداً قوانين الطبيعة ونواميسها الكونية وعناصرها المتحركة أو الثابتة على حدٍ سواءٍ. وذلك من خلال لغةهذا التكثيف القصصي المُكتنزمن النصوص الأدبية التي تُلامس الشغاف وتهزُّ وجدان الضمير.

 هذه هي الفرادة الخصائصية المتعدِّدة الصياغات التركيبية من حيثُ البناء القصصي المحبوك والمسبوك خطابه لغةً ودلالةً. أمَّا من حيث فرادة الاشتغال الإجرائي أو مركزية عمل المشغل القصصي السردي فإنَّ القصة القصيرة جدَّاً على الرغم من كونها تعتمد إجرائياً على تقانات الإيجاز والقصر الحدثي والاقتصاد اللغوي الشديد المكثَّف والذي لا يمكن أنْ يُلقاهُ إلَّا ذو حظٍ عظيمٍ وكبيرٍ من الأمهرية والدربة القصصية العالية التي تُشهدُ له علامةً بهذا الميدان الإجرائي الصعب.

 ولا يمكن أن يغوص في بحرها اللُّجي العميق ويكشف عن دُرَرِ حُلية أحشائها الصدفية الثمينة، ويسبر أعماقها الشديدة إلَّا من كان سارداً قصصياً مُبدعاً وغوَّاَصاً مثابراً مُحترفاً، وصَيَّاداً مَاهراً في التقاط صوره الحدثية المؤثِّرة وأنساقه الثقافية الخفيَّة المُضمرة، وخبيراً مهنياً باختيار ألفاظه ومفرداته وتركيب عباراته الجُملية المتراتبة، وتوظيفها بنائيَّاً وفنيَّاً وفق أُطر السياق النسقي الأدبي الحداثوي والثقافي المعرفي الذي يتطلَّبه منهج البناء السردي المُحكم لفنِّ القصة القصيرة جدَّاً.

 إنَّ عملاً قصصيَّاً قصيراً جدَّاً ناهضاً ومثيراً مثل هذا الأثر الأدبي(أراني أعصرُ حِبرَاً) يتطلَّب في تخليقه كاتباً مَكيناً وسارداً عَليماً مُبدعاً كمثل عبد الله الميَّالي في دقة تعامله وحرصه الشديد المُتقن بحرفيةٍ في توظيف واقعة الحدث القصصية(الزمكانية)، واختزال فكرتها الموضوعية الهادفة بأقلِّ العبارات اللَّفظية الشكليَّة وأصغر المِساحات الدلالية والمعنوية المضمونية التي تُشكِّلُ النصَّ كليَّاً.

 وفي الوقت نفسه حاشداً لها في صياغاته التسريدية أقلَّ الألفاظ عدداً وأصدق المفردات الدلالية وقعاً، وأبلغ العبارات الإدهاشية إبهاراً؛ بوصفها ذات التأثيرات النفسية الأنوية الصادمة التي تضيء النصَّ القصصي القصير وتُنير جوانبه العملية، وتُرسم أبعاد حمولاته العلمية التي ينتقل بها الكاتب الماهر في تدوينه السردي من لغة التعبير الإنشائي النثري العادي البسيط إلى جماليات لُغة التعبير السردي الخلَّاق العميقة. ومن لُغة أسلوب المباشرة التقريرية المألوفة السمع والنظر إلى لغة التواصل الإيحائية والإشارية الفنيَّة ومجاوراتها العلاماتية والأيقونية. كما وينزاح بها كُليَّاً من لغة الذات الفردية الضيِّقة إلى لغة الذوات الفردية الجمعية الكُليَّة المشتركة الآفاق، فتسمو في الأفق الأدبي مهارة الكاتب السردية المتنامية في إيقاعه التعبيري الأسلوبي ورؤيته الفلسفية المتنامية.

 والحقيقة، إنَّ هندسة هذه الخصائص والقيم البنائية السرديَّة، والمستويات الفنيَّة والجمالية في هذه المجموعة القصصية، تحقِّقُ لكاتبها الميَّالي على مستوى التجنيس أُسسَ ومعايير وشرائط الفنِّ القصصي القصير جدَّاً بشكّلٍ لافتٍ ومُبهرٍ للقارئ.هذا يعكس مدى أسلوبية الكاتب التعدُّدية ومقدرته الفنيَّة في امتلاك أدوات معجمه القصصي السردي القصير والقصير جداً التي هي من أهمِّ الشرائط الفنيَّة والتقانات الإبداعية الواجب توفرها إلزامياً في أسلوبية الكاتب الإبداعية والابتداعية الناجحة.

حُقُولُ المُدوَّنةِ القِصصيَّةِ

 تَزخرُ مُدوَّنة (أراني أعصرُ حِبْرَاً) الدالة على عتبتها العنوانية التناصيَّة التداخلية الواثبة بالحقول اللُّغوية الموضوعية العديدة، وترددات ومجاوراتها الدلالية الكثيرة التي سيطرت بقوَّةٍ على آفاق محتواها الفكري والثقافي الفنِّي الجمالي للمُدوَّنة السردية القصصية. وفي الوقت ذاته تنوَّعت أفكار وثيم هذه المجموعة القصصية القصيرة جدِّاً، فكانت فلسفتها السردية تدور حولَ موضوعاتٍ السخرية والتهكم من صوت وهُويَّةِ الآخر، وهموم الحياة وأوجاعها ومفارقاتها الحدثية اللَّاذعة.

 ويشاركها في الحدث تمظهرات الألم النفسي وصور ويلاته الداخلية والخارجية، وانزياحات الواقع الشاعرية المتوهِّجة، وديستوبيا الظلم والقسوة وشرّ الانتهاكات والويلات المُحدقة بالإنسانية، واستدعاء وقائع التاريخ الموضوعية ورموزه الخالدة، وإسقاط صورها على عقابيل الواقع الراهن المتفشية. فضلاً عن مشاهد الواقع الدرامي الكوميدي الضاحك بِملهاتهِ المفرحة، والباكي التراجيدي بمأساته وأحزانه وتجلياته الغرائبية المأساوية المتنوِّعة التي هي أٍسُ هذا الواقع وعين تمظهراته.

 واستحضر الكاتب في مجموعته موضوعاتٍ متفرقةُ خطيرةً أخرى تُشاكس الذات الأنوية الفردية وتعاكس النزعة الإنسانية الجمعية للطفل والرجل والمرأة بصورها الحياتية المختلفة التي تعكس حركة وهوية الآخر بلغة ضمير الفاعلية المتكلِّم والظاهر الحاضر والمستتر الغائب غير الظاهر التي طاف بها السارد وجسَّدها برؤاه الفكرية والفلسفية الواعدة وتشخيصاته العينية الثاقبة. والتي تحتاج إلى معالجاتٍ وحلولٍ استثنائيةٍ سريعةٍ ناجعةٍ لِرَدمِ هُوةِ المخاطر السحيقة المُحدِقة بالواقع.

 لقد قدَّم لنا القاص الكاتب الميَّالي شحنةً سرديةً فنيَّةً إمتاعيةً مائزةً وفعالةً جدِّاً في فنيَّة التعبير القصصي القصير جداً، تمكن فيها القاص ومن خلالها أنْ يكون عدسة العين السردية النقدية الثالثة المتوازنة التي تُراقب بوعي الأحداث الحياتية، وتلتقط بدقةٍ عاليةٍ مشهد التطوِّرات والتحوِّلات المجتمعية في شتَّى المجالات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والمعرفية المختلفة بلغةٍ سرديةٍ إيحائيةٍ وإضمارية استتاريةٍ إيجازية نسقيةٍ فاعلةٍ ومؤثّرة دون أنْ يُقدِّمَ لنا بياناتٍ مُفصَّلاتٍ، أو شرحَ مُطوَّلاتٍ توضيحية مباشرة لتلك التمظهرات الصورية القائمة، بل جعلنا نعيش بقلقٍ مُسيطرٍ وتوجِّسٍ لذيذٍ فعلَ اللَّحظة القصصية الشعورية الهاربة لتلك الحكايات والأنساق الثقافية الإبداعية الضاربة في العمق الأرضي التي حوَّلها الكاتب لفنٍ ينهض بتجلِّيات الواقع الآني.

 وينقلنا عبد الله الميَّالي بلغته الشاعرية الرشيقة التوهجية المتوازنة إلى ضفاف شواطئ السردية الشائقة التي أغنت نصوص الخطاب السردي القصصي بجماليات مفارقاتها الإدهاشية الصادمة. والتي جعلت من المتلقِّي القارئ أنْ ينبهر ويتفاعل مع قراءتها بتأمُّلٍ وينجذب بإمتاعٍ رغم قصر إحداثها الموضوعية إلى ضربات خواتيمها الفجائية المُبهرة التي تدلِّل على أنها نماذج أبنية رصينةٍ ومكينةٍ مُختارةٍ بعنايةٍ مُتئدةٍ من الأدب الميتا سردي لفنِّ القِصّة القصيرة جدَّاً، والِّتي يَسرُنا أنْ نخوض البحث والحفروالتنقيب إجرائياً وتطبيقياً في عرض حقولها من خلال نماذجها الموضوعية.

1-الهمُّ الإنسانيُّ وَمَفارقاتهُ الحياتيةُ:

 لِلهمِّ الإنساني ومفارقاته التحوِّلية الزمكانية مِساحةً بينيةً تعبيريةً واسعةً وكبيرةً من مركزيةً من مركزية عمل واشتغالات الكاتب عبد الله السرديَّة المُضمَّخة بِحبرِ الألم ونزيف الوجع الإنساني الكبير في بحبوحة اختزالية تكثيفية من جماليات الفنِّ القصصي القصير جدَّاً. فقدَّم لنا الميَّالي عبر أثير قلمه السردي النسقي الظاهر والمضمر دراما قصصيةً صغيرةً مُصوَّرةً لمشاهد الحياة اليومية الضاجَّة بمسرح الألم والمعاناة الارتكاسية لحياة الناس وأصواتهم وجراحهم المنكوءة بالهمِّ الثقيل.

 ولعلَّ ما يلفت النظر في هذا العرض السردي لتمظهرات الألم الإنساني وصور تجلياته أنَّها جاءت على شكل شريطٍ دراميٍّ مسرحيٍّ سريعٍ واثبِ الخُطى لا يعتمد على الحوار فقط، وإنَّما يعتمد فنيَّاً وأسلوبياً على الحوار والسرد الحدثي الفواعلي من غير تعقيداتٍ أو إضافاتٍ تحليليَّةٍ أخرى لمهيمنات الواقع الحياتي، بل قد صوَّر الميَّالي الحياة كما هي ماثلة؛ ولكن بطريقة المفارقة الإدهاشية التي تثير التأمُّل والتفكُّر بأمر واقعتها الموضوعية الحدثية، وهو ههنا موقفه تحريضي .

 وقد بلغت موضوعات وأفكار هذا الحقل الدلالي الإنساني الحياتي(26)قصةً توزَّعت موضوعاتها الفنيَّة على عنواناتٍ قصصيةٍ مختلفةٍ ومتنوعةِ الحكايات مثل،(الساعةُ الأخيرةُ، ذِكرياتٌ، صَفقةٌ، تَلصصٌ، نَدٌم، لَهفةٌ، وَباءٌ، دَينٌ، أَملٌ، مَأوى، طَبعٌ، تَنويمةٌ، غَنيمةٌ، اِستثمارٌ، فِي القَلبِ، حَصادٌ، إيثَارٌ، مُسلسلٌ، وَهمٌ، نِفاقٌ، قِناعٌ، سَرابٌ، هِوايةٌ، مُناقشةٌ، صَيدٌ، قَرصنَةٌ)، ويعدُّ هذا الحقل من أكثر الحقول اللُّغوية الدلالية والموضوعية مساحةً وتعدُّداً وتكراراً لأحداث متن مدوَّنته القصصية.

 ولنقرأ في هذا الحقل الإنساني نَصَّهُ القصير جدَّاً(تلصِّصٌ)، والذي جاء توقُّعه الحدثي المُثير مسترسلاً بلغته على لسان شابٍ مُغرمٍ بالنظر لفتاة مثيرة الشكل. وعلى الرغم من اختلاف دلالة النظرتين النظرة الروحية والنظرة الجسدية فإنَّ التقاطع بينهما أحدث إمتاعاً ومؤانسةً في المفارقة:

"فِي الحَافلةِ، جَلستْ أَمامِي بِتنورتِهَا القَصيرةِ جِدَّاً، هِيَ تُقلِّبُ صَفحاتِ مَجلةٍ، وَأنَا أُقلِّبُ نَظراتِي لِاستمتعَ بِقراءةِ مَا بَينَ السُّطورِ". (أراني أعصرُ حِبَراً، ص 35).

 وإنَّ ما يثير إمتاعنا الفكري والروحي اختلاف رغبات الشخصيتين في هذه القصة في ضربة خاتمتها التوقعية الصادمة. فهيَ تُقلِّبُ نظراتها الفكرية لتزدادَ معرفةً، وهو يُقلِّبُ نظراته الشبقية العارمة ليزداد إشباعاً وإمتاعاً مادياً،وهذا هو المعادل أو المضمر النسقي بين سطور المغايرة الذي من خلاله تمكَّن القاصُّ من التوافق بين رغبات الفكر الروحية ورغبات الجسد الحسيَّة الاشتهائية.

 في حين أنَّ النصَّ الحكائي(لَهفةٌ) القصير جدَّاً ذو السطرين المكثَّفين لغةً واختزالاً، والدال على موحياته المعرفية يعتمد بالدرجة الأولى في طياته الفكرية والسردية على المفارقة الإدهاشية الفعلية الماتعة التي أحدثها ضرب التسريد الفواعلي في المتلقِّي حيالَ طرفِه الآخر المفقود حسيَّاً ووجوديَّاً:

"عِندَمَا أنهَى المُعلِّمُ رَسمَ المَائدةِ، دَقَّ الجَرَسُ، حَتَّى عَادَ لِصَفِّهِ، اِندهَشَ لِغيابِ الطُّلَّابِ وَاختفاءِ السُّبورةِ". (أرانِي أعصرُ حِبْرَاً، ص 43).

 ومن النصوص القصصية المؤثِّرة في بنية إيحائها الرمزي والإشاري الاجتماعي والاقتصادي الساحر في رسم صورة الهمِّ الإنساني القابع تحت ظلال الجوع والعوز والظلم والاستبداد قصة (تَنويمةٌ) الدالة على موحيات معناها الفكري؛ ولأنَّ الإطعام والجوع أهمُّ من النوم وأبدى من الأمن والأمان من حيث الحاجة الإنسانية في الوقت الذي تُهدَرُ فيه موارد البلد النفطيَّة هدراً وخسارةً، وأبناؤه يتضورون جوعاً ويلتحفون السماء غطاءً وظَّف الميَّالي فكرة قصته بلغة فنيَّة استعارية:

"اَقنعَ أطفَاَلَهُ الجِياعَ بِالنومِ، فِيمَا سَقفُ الكُوخِ يَفتَحُ فَمَهُ بِشهيةٍ لِماءِ السَّماءِ. خَرجَ يَستنشِقُ هَواءً مُحترقَاً وَعيناهُ تَنعمَانِ النَظرِ لِمشاعلِ آبارِ النَّفطِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 66).

 وفي نسق ثقافي آخر من أنساق مظاهر المجتمع البشري الإنسانية الموحية الذي ينتشر فيه الفقر وتعمُّ الفاقة كانتشار النار في الهشيم، ويُسيطر صداه على حياة الناس، نصَّه الموجز قصة(مُنافسةٌ) التي تفضحُ بألمٍ كبيرٍ ممن يتباهون بالمظاهر الشكلية الخادعة ويهملون الجواهر الضمنية الصادقة على حساب صفة الفقر إرضاءً لرغباتهم وتوافقاً مع نواياهم الخفية المضمرة كظاهرة اجتماعية:

"عِندَمَا اِستقبلَهُ الفُقرُ، أَدارُوا وُجُوهَهُم عَنهُ.. بَعدَمَا دَفنوهُ، اِتَّفقُوا أنْ يُقيمُوا مَأتمَاً يُليقُ بِاسمِ القَبيلةِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 103).

 هذا النوع من التسريد النقدي اللّاذع يجسِّد حالتي الإقبال والإدبار السلبي في مواقف الرخاء والشدَّة، ويؤكِّد في الوقت ذاته اهتمام بعضُ المنافقين بالمظاهر النفعية التي تسيء للهمِّ الإنساني.

 ويأتي نصَّه القصصي(ذكرياتٌ) ليجسدَ حالاتٍ مختلفةً من صور أُمِّ الحياة الاجتماعية ووقع مفارقاتها الفجائية في التشبث بمعاني الفوزحُلُماً والحذر من الضياع والتِيه والخسارة حرباً مضادةً:

"تَوسَّدَ فِراشَهُ، أَغمَضَ عَينيهِ.. بِكُلِّ سَعادةٍ يَتقلَّدُ مِيداليةَ الفَوزِ بِسباقِ الرّكضِ قَبلَ أنْ تَسرِقَ الحَربُ.. اِستيقَظَ يَبحثُ عَنْ عُكَّازهِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 31).

2- صُورُ الألَمِ الدَّاخلِي وَالخَارجِي وَأشكالُهُ:

لم يغب عن بالِ عبد الله الميَّالي وعن رؤيته الفكرية والإنسانية المحتشدة بالهمِّ تردُّدات صور القلق النفسي الإنساني، ونوازع الألم الداخلي والخارجي وأشكاله وتحدياته النازفة التي تُلاحق وجود إنسان الواقع الحالي العادي، وتُطال بالخطر شخصيته الإنسانية التي لا حول لها ولا قوة في الأرض، إلَّا وقد جسَّدَها الكاتب في متون مدونته القصصية(أراني أعصرُ حِبرَاً) في محاولةٍ جادةٍ منه لكشف مظاهر الزيف والتهميش والتغييب والإهمال التي تعبِّر عن رؤى حقيقته القيمية المغيَّبة.

 وقد تنوَّعت تلك الصور والأشكال الداخلية والخارجية الفاضحة، وتوزَّعت آفاق أنساقها الثقافية والفكرية المُضمرة في أكثر من نصٍّ قصصي دراميٍّ، وموضوع فكري أثير موجعٍ حتَّى بلغت مفردات هذا الحقل المهمِّ(20) قصةً تجمع بين ثيم الوجع الذاتي الفردي والجمعي المشترك. مثل، (تَكتيكٌ، مُقايضةٌ، تَمُّردٌ، شُرودٌ، لَحظتانِ، اِشتياقُ، عِتابٌ، اِنتفاضةٌ، وُعودٌ، أصواتٌ، بِلادِي، المُتحوِّلُ، وَفاءٌ، أَزماتٌ، اِرتقاءٌ، مَوتُ الضميرِ، ألغامٌ، رُجولةٌ، نَذالةٌ، مُؤامرةٌ)، ونصوص غيرها.

 من النماذج الرمزية المهمَّة المعبِّرة عن صور هذا الحقل الدلالي الاجتماعي وتمظهراته النَّصيَّة، نصُّ(مقايضةٌ)الذي يُقايَضُ فيهِ الحقُّ بالباطل، والخيرُ بالشرِّ، والعلمُ بلْلَا شيء، وتُصادر فيه حقوق الإنسانية المادية بالمعنوية السطحية لتمكين الحياة بالعيش المرير في زمن قميء عزّتْ فيه عليه لقمة العيش الحلال كي يقوِّت نفسه وعياله بما تفرضه عليه فلسفة الواقع المعيش المذلِّ المُهين آنياً:

"فِي حَفلٍ بَهيجٍ أهدَتهُ الحُكومةُ شَهادةً تَقديريةً، خَرَجَ وَالدُ الشَهيدِ مِنَ القَاعةِ حَزينَاً، بَاعَهَا فِي سُوقِ الخُردَةِ، وَاشترَى عُلبَةَ حَليبٍ لِحَفيدهِ". (أراني أعصرُ حِبْرَاً، ص 61).

يا لَهُ من موقف مُخزٍ تقشعر له الأبدان!ذلك الذي تسخر منه خاتمة القصة وتقفيلها بهذاالوقع الدامي للقلوب الذي يندى له جبين الإنسانية عاراً وشناراً لمن يستخف بحقوق الناس ويستهين بوجودهم.

 وفي صورة أخرى من صور الألم الذي يعتصر الإنسان داخلياً وخارجياً، يُطالعنا نصُّ (اشتياقٌ) الذي يتحدَّث فيه القاصُّ عن غربة أحد شخصياته المُهمَّشة واشتياقه لرفيق حياته في مشهد درامي بصري مليء بالحزن والمفارقات الإنسانية الفاجعة التي تخرج توَّاً باكيةً من وسط القبور والمقابر:

"فِي أَولِ لَيلةٍ بِبيتِي الجَديدِ، أَحسستُ بِالغُربةِ، اِشتقتُ لِقَهقَهَاتِ رَفيقِي، وَأنَا أستذكرُ آخرَ لَحظةٍ فَرَّقَتنَا بِهَا قَذيفة ٌمَجنونةٌ، فَزَّزَنِي عَويلُ أطفالٍ وَنِساءٍ فِي القَبرِ المُجاورِ".(أرانِي أَعصِرُ حِبْرَاً، ص 40.)

 ما أقسى تلك الصور التي تُلاحق حقيقة الإنسان في بيته، وحتَّى في قبره أو مثواه الأخير! فيشعر بالغربة القاتلة والموت البطيء لعذاباته النفسية الداخلية والمحيطية الخارجية التي لا مفرَّ منها أبداً.

 ولأنَّ المصالح الذاتية الضيقة أهمُّ بكثير من المصالح الجمعية المشتركة، وذات جدوى في نظر الآخر الحاكم الغالب في علاقته النفعية مع المحكوم سواد الشعب، يأتي نصُّ(وعودُ) الآخر الكاذبة لتنكشف حقيقة زيفه المخادع المُؤدلَج الذي خلع جلده الحقيقي في نكث الوعود الوطنية الصادقة التي تحوَّلت بعد الفوز لوعودٍ كذبٍ انتقاميةٍ في الإقصاء من الوجود الكوني الذي نظَّفَ به الأرضَ:

"زَارَنَا قُبيلَ ثَورةِ الأَصابعِ البَنفسجيةِ، شَكونَاهُ بُيوتَ الصَّفيحِ وَالقُمامةَ والذُّبابَ، رَفعَ كَفَّهُ نَحوَ السَّماءِ وَأقسمَ. مَا أصدقَهُ! نَظَّفّ الأرضَ مِنَّا". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 48).

 ما أقبح فعل هذه الصورة الرمزية التي وظَّفها الكاتب! وما أقسى نتائجها الرمزية لهذا الصوت

الحكومي الناشز! وفي الوقت ذاته ما أصدق صدى خاتمتها الإنسانية التي تعبِّر عن حقيقة هذا الداء الذي يفتك بسياسة البلد المتهالكة! وهي تسير في اتجاهٍ خاطئ لا يمتُّ بأيِّ رحمة لأبنائه الحقيقيين.

 ومن مفردات هذا الحقل الدلالي الكبير قصَّة(بِلادي) الدالة عتبتها العنوانية على وقع رمزيتها الوطنية البعيدة حين يتحوَّل الوجود البشري إلى مَعْلَمٍ خاصٍّ من مَعالمِ الوطن ورموزه الوطنية الخالدة؛ نتيجةَ عوامل القهر والاستبداد الديستوبي القابع تحت خطى الشرِّ الذي يحيق بعامَّة النَّاس:

"سَأَلَنِي ضَيفِي القَادمُ مِنْ بِلادِ الضَّبابِ وَهوَ يَحتضنُ بَاقةً مُلونَةً: -أينَ يَقعُ ضَريحُ الشُّهداءِ فِي بَلدِكُم ؟ -أينمَا تَقفُ، اِنْحَنِ، وَضِعْ إكليلَ الوَردِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 55).

 ومن النصوص السردية ذات الإيقاع الرمزي الوطني الخالص، والتي تجمع بين مشتركات الهمِّ الخارجي والداخلي معاً والاغتراب النفسي الذي يستشعر به أبناؤه الأوفياء نصُّ قصة(ألغامٌ) الذي يتصيَّر فيه الوطن حفنةً من ترابٍ تضمَّخت بدمائه الطاهرة في إشارةٍ واضحةٍإلى أنَّه قتيلُ قَدْ مَاتَ:

"فِي بِلادِ الغُربةَ، اِستلمَ هُويَةَ صَديقِهِ. فَتَحَ الحَقيبَةَ، حَفنةٌ مِنْ تُرابِ الوَطنِ، اِمتلأتْ كَفَّهُ دَمَاً". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 91).

 وأكثر تأثيراً ووطنيةً في هذا النص الحكائي المختزل مفارقته الموضوعية المؤلمة التي تكمن في بنية خاتمته المفجعة التي استحال فيها الوطن الكبير إلى قتيل يقطر دماً من ترابه وأرضه وهوائه.

3- تَشعيرُ النُّصوصِ السَّرديَّةِ:

 من جماليات لُغةِ التسريد القصصي التي تميِّز أسلوبية الكاتب اللُّغوية وتضفي على أسلوبية معجمه السردي زينةً وإمتاعاً وجمالاً وتفنُّناً استخدامه اللُّغة الشاعرية التي لا تتفوق أو تتغلب على مستوى لغة تشكيله السردي في تقصيصه الحكائي، وإنَّما تمنحه صفةَ الجمال الأخاذ إضاءةً خياليةً ودلاليةً في فنيِّة التعبير والتأمُّل والتدبُّر من قبل المتلقِّي والقارئ الذي يُحسِنُ التعامل مع النصوص عندَآليات القراءة ونظريات التلقِّي المعرفي التي تُهيمنُ ظلالها المعصرنة على الميتا سرد الحداثي.

 وعلى الرغم من أنَّ نصوص الكاتب القصصية تحمل في ثنايا طياتها المتنية عناصرَ جماليَّةً وفنيَّةً أخرى، بيدَ أنَّ الشاعرية النصيَّة التي تنحرف فيها أسلوبية الكاتب إلى انزياحاتٍ لُغويةٍ لَفظيةٍ مِخياليةٍ خَارجةً عن المألوف المعجمي،ومنحرفةً عن سياق الواقع المباشر التنميطي المُؤطَّر وبلغةٍ. تبني معالم النصِّ الأدبي وتقوِّي موحياته الدلالية البلاغية التعبيرية والسيمائية والفنيَّة المتعدِّدة.

 وتعدُّ لغةُ الشاعرية من أهمِّ علامات جودة النصِّ الأدبي وعناصر تكامله الفنِّي. وقد أدركَ الكاتب الميَّالي أنَّ الإفراط باستخدام الشاعرية قَدْ يُفقده زمام سيطرته على نصوصه السردية في اشتغالاته القصصية القصيرة جدَّاً؛لذلك وازن بين لغة الشاعريَّة النصيَّةولغة النصيَّة السردية المناسبة للقصِّ.

 والقارئ المتتبع لنصوص هذه المجموعة سيلحظ ويتلمَّس بعنايةٍ مواضع اللُّغة السردية الشاعرية التي أخذت تنتشر وتتنوَّع في أقانيم نصوص هذه المجموعة، وتُحيطُ بتخومها الخارجية. حتَّى وصل تكرار مفردات نصوصها الحقلية المتجاورة إلى(18) قصةً تمثَّلت مظاهرها النصيَّة الدالة في مجموعة ثرَّةٍ من النصوص السردية الآتية:(عُروجٌ، هُمومٌ، ضَياعٌ، عَبقٌ، تَرفٌ، تَصحُّرٌ، دِمشقُ، فُصولٌ، اِجحافٌ، كُومبارسٌ، حَريقٌ، ضَيفٌ، أحلامٌ، صِراعٌ، لِصٌ، مَصائبٌ، الوَداعُ، تَقاليدٌ).

 ولعلَّ أولى نصوص هذه المجموعة السردية الشاعرية قصَّة(عُروجٌ) ذات التقانات اللُّغوية الفنيَّة والموحيات الدلالية المكانية الإيهامية العابرة لنص ِّالحقيقة،وجماليات الاستعارات اللَّفظية الصورية البلاغية المكثَّفة بأثر فاعليتها في تجسيد واقعة الحدث الموضوعيَّة زمكانياً ونفسياً ودرامياً محبوكاً:

"أقبَلتْ مُسرِعَةً تَبحثُ عَنْ مَأوى بَينَ جَبينِي والقَلبُ. وَأنَا أَقفُ فِي حَقلِ الرَّمادِ، رَفعتُ لَهَا كَفِّي مُرَحِّبَاً. عِندَما اِنسكَبَ الفَجرُ مِنْ نَاظرِي، ناَمَتْ مُطمئنَةً تِلكَ الرُّصاصَةُ". (أراني أعصرُ حِبْرَاً، ص13).

ما هذه التي أقبلت مُسرعةً وكأنها امرأةٌ أُنثى،ولها مكانها اليقيني المؤكَّد في القلب؟ والتي نامت قريرةً العين،إنَّها الرصاصة القاتلة التي انزاح فيها الكاتب بلغته الأسلوبية التعبيرية القصصية التي أحالَ حكايتها إلى فنٍّ، وأُوهمنا بها في نهاية القصَّة ترحيباً بِمقدَمِها الدموي الذي لا شكَّ أنَّه القاتل.

 وفي الوقت ذاته نتأمل بإمتاع نصَّه القصصي القصير(َضياعٌ)الدال على سيميائية وظيفته العنوانية المتعدة الأربع:(التعيينيَّةُ،والوصفيَّةُ، والتأويليَّةُ الإيحائيَّةُ،والإغرائيَّةُ).وقد حشدَ لها الميَّالي مجموعةً كبيرةً من الاستعارات اللُّغوية والصور الفنيَّة الجمالية التي أنسنَ فيها النصَّ القصصي، وحلَّق بهِ عَالياًفي جماليات لغة السرد القصصي القصير جدَّاً الشاعرية في مثل هذه الصور البلاغية الرائعة:

"الشَّمسُ تَبتسمُ..الأحلامُ تُحلِّقُ غرباً..الزَّورقُ يُعانقُ المَوجَ الصَّاخبَ وَيَرقصانِ(الفالس). السَّماءُ تَرتدِي الحِدادَ.. البَحرُ يَلتهمُ وَجبةَ العشَاءَ.. الزَّورقُ يَشرقُ بِالنحيبِ".(أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 17).

 لقد أسهمت الأفعال المستقبلية،( تَبتسمُ، تُحلِّقُ، يُعانقُ، يَرقصانِ، تَرتدِي، يَلتهمُ، يَشرقُ) في إظهار لغة الكاتب الشاعرية وبراعتها فنيَّاً، ولكن الصورة الفنيَّة الأكثر إمتاعاً وابتداعاً ومؤانسةً في هذا القص الحكائي تكمن في خاتمته الإدهاشية المُبهرة(الزَورقُ يَشرقُ بِالنحيبِ) التي تُذكِّرُني بصورة المُتنبِّي الشِّعرية في رثائه لخولة أخت سيف الدولة الحمداني(شَرِقتُ بِالدمعِ حَتَّى كَادَ يَشرقُ بِي).

 وحتَّى الحُلم عند الميَّالي له قصَّةٌ ذاتية لا تنتهي سلسلتها الحُلمية الشاعرية، وهذا الهجس الشاعري الصوري يطالعنا به القاص في قصته(أحلامٌ) التي اختار لها فيضاً من عناصر الطبيعة الكونية الزمكانية الثابتة. فَحَلَمَ بالربيع وزهوره العاطرة، وبالبحر وأجوائه الهادئة، وبالحرية وقيمتها الواعدة التي استحالت إلى رصاصة موتٍ في هذا التوصيف الشاعري المتراتب الإيقاع التعبيري:

"حَلمتُ بِالربيعِ فَغطَّتِ الزُّهورُ وَسادتِي، حَلمتُ بِالبحرِ فَامتَلَأ فِراشِي أصدافاً وَمحارَاً. وعندَمَا حَلمْتُ بِالحُريَّة، وَجدتُ الصَّباحَ تَحتَ البَابِ مَظروفَاً دَاخلَهُ رَصاصةٌ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 78).

 وَمَنْ يَقرأ نَصَّ(الوداعُ) سَيشعر بتدفق لُغة الميَّالي الشاعرية التي تنثال بين سطور هذه القصة، أو الأقصوصة الصغيرة في تعبيراتها الانزياحية التي تُضفي عليها جوَّاً جماليَّاً دافئاً على الرغم من وقع الفجائية المُرَّة التي تحملها خاتمتها التَّخلُّصيَّة المُثيرة للنظر في وحدة واقعتها الحدثية الكبيرة.

"طَحَنتْ سَنواتُ الغِيابِ بِصبرِ الاِنتظارِ. عَقربُ الزَّمنِ لَدغَهَا أربعينَ خَريفَاً. حِينَ عَادَ مِنَ الأسرِ مَبتورَ الأطرافِ، اِستقبلتهُ بِعُكَّازِ الرَّحيلِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 107).

 فعبارات مثل،(طحنتْ سنوات الغياب، عقربُ الزمنِ لَدغَهَا...استقبلتهُ بِعكُّازِ الرحيلِ)كفيلة بأنْ تُضفي على بناءِ القصَّة وقعاً فنيَّاً مخياليَّاً وشعرياً مُدهشاً رغم مرارة الخاتمة المؤلمة الفاصلة بينها.

4- دِيستوبيَا الشَّرِّ وَالخرابِ المُجتمعِي الظَّالمِ:

 إذا كانت اليوتوبيا هي العلامة الأفلاطونية المثالية للجمهورية، والمفهوم المميَّز لرمزية المدينة الأفلاطونية الفاضلة الَّتي يحكمها الأخيار من البشر أو الأسوياء، فإنَّ مفهوم الديستوبيا هي رمز العلامة السيئة لفوضى المدينة الفاسدة التي تُسيطر عليها ثلةٌ من المارقين والعابثين الأشرار، ولا مكان للخير فيها سوى صور من الفاقة والحرمان وتجاوزات الظالمين والقسوة وحالات الحروب والانتهاكات والويلات الدامية التي أبكت عيون الناس وأفجعت قلوب عامة فقراء البشر من أبناء المجتمع من الذين يدفعون ضريبة ذلك الظلم المفروض عليهم وبشتَّى الوسائل السلمية والحربية.

 وما انفكّوا يقاومونه بأرواحهم وأنفسهم وبأصواتهم الإنسانية المسالمة، علَّهم يرفعون عن كاهلهم شيئاً من حيف ظلاله الدامية القاسية، والتي هي في نهاية المطاف واقع ُظلالٍ خاسرةٍ حتماَ أمام حرية الشعوب وحِذاءَ مسيرتهم الإنسانية وكفاحهم الثوري القائم على المطالبة بالحقوق والواجبات.

 وإنَّ صور هذا الخراب الدامي وويلاته المتفشية مجتمعياً لم تكن خافيةً عن فكر الكاتب الميَّالي، ولم يكن غافلاً عنها أبداً. فهو ابنُ المجتمع العراقي الواحد والعربي الجامع الذي عاش معاناته وهضم تصوراته وأدرك نتائجه، وهو أيضاً مرآة الأُمَّة ومهمازها الصوري العاكس لمُتغيِّراته.

 وقد عبر القاصُّ الميَّالي عن ذلك التجاوز الَّلا إنساني خَيرَ تَعبيرٍ في مدوَّنة نصوصه القصصية وتردُّداتها الفكرية التي بلغت عنواناتها ومفرداتها الموضوعية المتعدِّدة الثِّيمِ نحو(14)نصَّاً قصصيَاً في انثيالات هذا الحقل الإنساني المهمِّ وفقَ هذا التشكيل من براعة التمثيل القصصي القصير جداً. في مثل هكذا نصوص سرديةٍ هادفةِ الرؤى، (زَيفٌ، غِيابٌ، مُساومةٌ، نَزيفٌ، قَدرٌ، لَوعةٌ، جُحودٌ، خَسائرٌ، ضَريبةٌ، شَكوَى، مَبادئ، فَرحةٌ، عَبثٌ، العَينُ بالعينِ). وربَّما هناك أكثر من نصٍّ مشترك.

 ومن بين نصوص هذا الحقل الدلالي وأولها قصة(َزيفٌ) التي تتحدَّث عن حقائق الحرب المزيَّفة الضروس ومفرداتها القاسية التي تكشف زيفها وخديعتها بلغة قصصية شائقة اعتمدت على عنصر المفارقة الصادمة للنفس من خلال تقنية الاسترجاع السردي التي بنى عليها القاص أس حكايته:

"الخُوذةُ المَثقوبَةُ بِالرُّصاصِ الَّتي حَولَّهَا الأبُّ إلى مَزهريَّةٍ، تَربَّعَتْ عَلَى طَاولةٍ وَسَطَ الحَديقةِ.. يَسترقُ السَّمعَ مَزهوَاً لِحديثِ أَولادهِ عَنْ شَجاعةِ أبيهُم فِي الحَربِ. عَادتْ ذَاكرتُهُ لِمشهدَينِ: جُندي يَسرقُ خُوذةَ رَفيقهِ الشَّهيدِ. القَائدُ يَمنحهُ وِسامَ الصُّمودِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 34).

 وهذا النص من التسريد القصصي القصير جداً يؤرخن رمزياً لحقيقة مُعيَّنةٍ من تاريخ العراق السياسي الحديث،وخاصةً الحقبة الزمكانية من تاريخ الحرب العراقية الإيرانية التي استمرَّت ثمانيَ

سنواتٍ عجاف أبرزت العديد من القصص التي تصف ويلات الحرب ومآسيهاعلى شعبنا العراقي.

 وفي جانب تعبوي أخر من مشاهد الحرب التي مرَّ بها شعب العراق عبر تاريخه نتأمل قصة (مُساومةٌ) التي وظف فيها الكاتب مشهداً حيَّاً من مشاهد معارك العراق مع أعدائه المثيرة للقلق:

"اِنتهتِ المَعركةُ. وَأنَا أُشاهدُ القَائدَ يُصافحُ العَدوَ، حَطَّمتُ سَاقِي البلاستيكيةَ".(أراني أعصرُ حِبرَاً، ص57).

 والغرابة في إيقاع هذه القصة المؤلمة التي لم تكشف عن حجم الخسائر والتضحيات التي قدَّمها أبناء الشعب جرَّاء هذه المعارك الخاسرة وكأنَّ شيئاً لم يكن واقعاً في الأمر، وهذا ما تكشفه مصافحة القائد للعدو والتي كانت سبباً بفقدانه سيقان أحد جنوده المُضحِّينَ في هذه الحرب الفاِشلة.

ونقرأ في هذا الحقل الضاجُّ بالخراب والألم أحد نصوص هذه المجموعة(قدرٌ) المعبِّر عن حقيقة ما يُخِبئه القدر من أنساقٍ خَفيةٍ ظالمةٍ يرويها القاص حكاية الصوت(المُواطنُ المُوظَّفُ)، والصوت الآخر(المَسؤولُ)؛لنستقرئ نتائجها الختامية، و يا لها مِنْ نتائجِ! و يا لهُ من قدرٍ سيِّئ وَمُرٍّ ومَريرٍ:

"لَمْ أتخلَّفْ عَنْ حُضُورِي لِلوظيفةِ إلَّا مَرَّةً وَاحدةً. عِندَما دَوَّنَ المَسؤولُ اِسمِي فِي سِجلِ الغَائبينَ، كَانتْ أشلائِي تَتسكَّعُ فِي الشَّارع". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 72).

 وتتعدَّد صور هذا الحقل المليء بالخداع والتمثيل والضحك المذل على مصائر الشعوب النائمة. ويأتي نصُّ(فرحةٌ) ليقصَّ علينا حكاية الانتخابات السياسية القائمة في البلد بصورتها الشكلية البعيدة عن الواقع الراهن الذي يُنافي تلك الصور والمهازل التي لا تنطلي على أحدٍ حتَّى من سواد الناس:

"اِنتهتِ الاِنتخاباتُ. اِستعدَّ أطفالُ مَدينتِي لِلاحتفَالِ. لَديهُم مَا يَكفِي مِنَ الوَرقِ لِصُنعِ طَائراتِهُم". (أراني أعصر حبراً، ص 98).

 فالخاتمة القصصية لهذا النصِّ تفضحُ بوضوح ما يحصل ممن أنساق خفيَّةٍ وما يُصرف على هذه الانتخابات الهزليَّة من أموال ومُعدَّات وتجهيزات ماديةٍ وبشريةٍ لا توازي حجمها المزيَّف.

 أمَّا قصَّة(خسائرٌ) الدالة على وحدة معناها الدلالي القريب والبعيد فتحكي حجم الخسارة التي تعرَّض لها الإنسان في حياته اليومية، والتي لا ناقة له فيها سوى إنَّه إنسان يعيش مطمئناً مسالماً:

"وَهيَ تَخترِقُ صَدرِي، اَحرقتْ صُورةَ أُمِّي وَزَوجتِي. تِلكَ الرَّصاصةُ المَاكرةُ قَتلَتْ ثَلاثةً مِنْ عَائلتِي". (أرانِي أعصرُ حِبرَاً، ص 80).

5- الحَقلُ الدِّلاليُّ لِفنتازيَا السُّخريةِ والتَّهكُمِ:

 ومن الجدير بالذكر في مشغل النقديات الإبداعية ونظريات الفعل القرائي وآليات التلقِّي المعرفي الابستمولوجي والانطلوجي الوجودي أن فلسفة فنِّ السخرية والتَّهكُم من الأساليب والثقافات الفنيَّة والأنساق الثقافية القليلة المعروفة التي تعتمد في اشتغالاتها النقديَّة والإبداعية على فنتازيا الواقع الغرائبي والعجائبي الساحر القريب من نفوس وحياة الناس التي يلجأ إليها مهماز المبدع الماهر في المجال الأدبي الإبداعي ويوظِّفها شعراً وسرداً، ولا سِيَّما في بنية الفنِّ القصصي القصير حصراً.

 غير أنَّ استخدامها في مجال القصص القصير جداً يعدُّ أمراً خطيراً ومحذوراً؛ لِئِلَّا يقعُ الكاتب القاصُّ في الجانب الهِزْلي الفكاهي التَّنَدُّرِي التهكمي من أجل السخرية غير الموضوعية والتي ليست بالهادفة من التي تُحيل النصّ إلى مجرد نكتةٍ ضاحكةٍ عابرةٍ لا غير، فارغةٍ من المحتوى الدلالي العميق الصادق، وقد يكون نقداً كاريكاتورياً نصيَّاً لأجل التسلية المجانية الرخيصة العائمة.

 وعلى وفق ذلك فإنَّ هذا الحقل الدلالي اللُّغوي الساخر البديع يعدُّ من الأساليب الفنيَّة واللُّغويَّة السردية النادرة والراسخة التي تميَّز بها المعجم السردي القصصي للكاتب والقاصِّ الواعد عبدالله الميَّالي الذي أجاد بمهارةٍ ودربةٍ حرفيةٍ عالية اِتقانَ هذا الفنِّ القصصي الساخر المكين للوصول إلى أهدافه النسقية المضمرة والظاهرة عبرَ نصوص مجموعته القصصية الماتعة(أراني أعصرُ حِبرَاً)، وقد بلغت تَكرارت هذا الفنِّ وعنواناته الموضوعية المتشاكلة(13) قِصَّة تمثَّلت في مجموعة من النصوص الآتية:(مُفاجأةٌ، ثَعلبٌ، عَزيمةٌ، تَحجيمٌ، فُقدانٌ، تَأديبٌ، اِزدواجيةٌ، دَرسٌ، نَرجسيةٌ، اِشتغالٌ، مُساعدةٌ، اِحتيالٌ، قَرارٌ)، وقد تتسع اشتغالاته أكثر من ذلك الحصر التمثيلي.

 لقد استطاع الميَّالي أنْ ينقل إلينا الابتسامة والفرح والسرور، ويغمر قلوبنا بهذه التقنية السردية التَّنَاقُدية التي تعدُّ احتجاجاً ورفضاً لما هو واقع، وليست مجردَ سخريةٍ وتَهكُمَاً رساليَّاً مباشراً بعيداً عن الإشارات والعلامات والإيحاءات الفنية السيميولوجية المؤثِّرة في فكر المتلقِّي (المرسل إليه).

 قصة(مفاجأةٌ) هي من بين نصوص هذه المجموعة التهكمية الساخرة في نقد الواقع الخِدْمِي الذي يُقدَّمُ إلى الإنسان من أجل استمرارية حياته، وقد اعتمد الكاتب فيها على لوحة المفارقة الساحرة في توظيف نصّه وتجميله وحبكه لُغوياً وتماسكه نصيَّاً بشكلٍ سلسٍ لِبثِّ رُوحِ الدُعابةِ النَقديَّة الساخرة:

 "وَصلتْ عَربةُ الصِّيانةِ بَعدَ أَسابيعَ، اِبتسمَ عَمودُ الكَهرباءِ، تَسلَّقَ العَاملُ لِيرميَ المُصباحَ المَعطوبَ. وَهوَ يُعلِّقُ لَوحةَ المُرشحِ الجَديدِ أَضاءتْ عُيونَ الشَّارعِ" . (أرانِي أعصرُ حِبرَاً، ص 19).

 أمَّا قصة(فُقدانُ) فهي من النصوص القصصيّة الساخرة بامتيازٍ والتي تنتقد أُس مؤسسة العدالة بطريقة لافتة لنظر القارئ في وقع خاتمتها الموضوعية الضاربةوالتي تبعث على التأمُّل والتفكُّر:

"لَمْ أستغربْ أنْ تُديننِي المَحكمَةُ بِسببِ رَغيفٍ. فَعندَمَا رُفِعَتِ الآيةُ المُعلَّقةُ فَوقَ المِيزانِ، وَجَدتُ (العَدلَ) أكلتهُ الأرضَةُ". (أرانِي أعصرُ حِبرَاً، ص 25).

وكلمة(العدلُ) التي وردت في نص القصة إشارة واضحة إلى قوله تعالى: (العدلُ أساسُ الملكِ)، وكأنَّه يقول العدالة تأكل نفسها، وهو أطرف انتقاد حادٍ إلى نسق النظام القضائي العدالي المجتمعي.

 أمَّا بخصوص حكمة أبي ذؤيب الهُذلي القائلة شعرياً: (لا تنهَ عَنْ خُلُقٍ وَتأتي مِثلَهُ...)، أي عن الذي يأمر بالصواب ويفعل نقيضه، فنجد له دالاً تمثيلياً في قصة(ازدواجيةٌ) الدالة على معناها الضمني الموضوعي التي جسَّد صورتها الميَّالي بما كان له صلة بالواقع اليومي الحياتي المعيش:

"إطاراتُ السيَّارةِ تَلتهمُ الشَّارعَ. يَشكو السَّائقُ لِصديقهِ مِنْ تَكدُّسِ النِّفاياتِ: (مَتَى يَشعرُ النَّاسُ بِالمسؤوليَّةِ؟) وَهوَ يَنفخُ بِدُخانِ آخرِ سَيجارةٍ. يَقذفُ بَالعلبةِ الفَارغةِ مِنَ النَّافذةِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 51). فالعار كلَّ العارِ لمن يأمر بمعروفٍ ويفعل خلاف واقعه بعيداً عن تطبيق آثار النظام.

 وفي مشهد آخر ساخر من مشاهد العبث والتهكم الساخر الباعث على التأمُّل والطرافة نقرأ بتجلٍ وإمتاعٍ نصَّ قصَّة(مُساعدةٌ)؛ لِنتعرفَ على مضامين محتواه الاجتماعي برغم مأساة قصته، بيدَ أنَّه ينشر الابتسامة والضحك والمفارقة الجمالية المحبَّبة في تصوير الواقعة الحدثية للقصِّة:

"فِي سَرادقِ العَزاءِ، أَحدُ المُعَزِّينَ يَسألُ الزَّوجَ:- مَا سَببُ وَفَاةِ الزَوجةِ رَحمهَا اللهُ؟ -عَضَّةُ كَلبٍ- لَا حَولَ وَلَا قَوَّةَ إلَّا بِاللهِ.. أرجوكَ بَعدَ القِراءةِ دُلَّنِي عَلِيه!" (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 99).

 ونذهب إلى المجال الأدبي الإبداعي في قصة(اِحتيالُ)؛ لِنتعرفَ على جُزءٍ من مسروداتها وشخصية بطلها وفق الصورة التهكمية الساخرة التي رسمها الكاتب في تقانته السحرية الشيقة:

"الكَاتبُ الَّذي حَاولَ قَتلِي فِي رِوايتِهِ، بَاءَتْ مَحاولتُهُ بِالفشلِ. فِي غَفلةٍ مِنهُ، مَنحتنِي البَطلةُ قُبلَةَ الحَياةِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 104).

 وفق هذا الأسلوب الأدبي الفعلي الجمالي في صنع سرديات البهجة لقارئه دون تكلُّفٍ أو تصنُّعٍ ظاهر لم تشعر معه بمظاهر الإملال النفسي أو الابتذال الروحي الساخر المباشر الممقوت نصيَّاً.

6- تَوظيفُ الدَّرامَا القَصصيَّةِ:

 من المتعارف عليه أنَّ ماهية مصطلح الدراما، تُعرفُ بأنَّها هي لون من ألوان التعبير الأدبي الذي يؤدَّى فعله الحدثي عملياً وإجرائياً على مستوى التمثيل المسرحي أو السيميائي أو التلفزيوني أو الإذاعي بصيغتيه التراجيدية والكوميدية المتناقضة. وقد تكون الدراما على شكل قصصٍ طويلةٍ منتظمةٍ تخضع لقوانين وآليات التمثيل البَصري المرئي المباشر الذي يعتمد على الحوار والسرد في وقت واحد. فالدراما إذاً هي التناقض الفعلي، غير أن َّاستخدام وتوظيف الصيغ الدرامية في كتابة الفنِّ القصصي القصير جداً أمر ليس سهلاً أو هيِّناً. وخاصةً إذا كانت الدراما خليطاً سرديَّاً من الجد والضحك المشترك، والخوف والحزن والفرح المرتبط بالواقع الحياتي الراهن المعيش.

 والحقيقة أن مثل هذه التوليفة الجمعية من الخلط بين المأساوي والفكاهي الأفراحي على مستوى السرد القصير جداً يُعدُّ من أصعب أساليب وألوان القصِّ التسريدي الذي يتطلَّب مَقدرةً فنيةً مَائزةً ومُوهبةً فًذَّةً في التَّحكُم القصصي الجامع لهذ المزج الحكائي الدرامي الفكاهي الكوميدي المُسَلِّي الَّذي يتناول جانباً مُهمَّاً من جوانب الحياة الإنسانية المتنوِّعة التي يظهرها القاص للمتلقِّي في بوتقة ثنائية موحدنة. وهو يضحك ويبكي من شدَّة الابتهاج أو الانشراح والتأمُّل أو الاستمتاع والفائدة المعرفية التجريبية والتوعوية وربَّما حماسة التجريدية التي تأخذ مساحتها الكبيرة في الفنِّ التمثيلي.

 لقد تمكن الكاتب والقاصُّ عبد الله الميَّالي من التوفيق الفعلي الرصين في هذه الخلطة السحرية الدرامية الفكاهية العجيبة أنْ يوظِّفها سرديَّاً في اشتغالات نصوصه القصصية القصيرةً جدَّاً توظيفاً جماليَّاً وفنيَّاً مُدهشاً حتَّى بلغ عديدها نحو(8) قصصٍ لعنواناتٍ حكائيةٍ مختلفةٍ يجمعها حقل دلالي دراميٍ واحدٍ بهذه الصيغ العنوانية القصيرة الهادفة التالية: (عَزيمةٌ، عُقوبةٌ، دُموعٌ، حِرمانٌ، صَفقةٌ، قرارٌ، يومُ الحسابِ، جُموحٌ)، ونصوص أخرى اشتملت على بعض اللَّمحات والمشاهد الدرامية.

 لقد استطاع الميَّالي بلغته السردية المُتقنة ومقدرته الفنيَّة المتطاولة من الإلمام بهذا اللَّون البصري الدرامي الذي يعتمدُ كثيراً على تقنية لغة الحوار بالدرجة الأولى. غير أنَّ هذه اللُّغة المحكية جعلته يقصَّ سرداً مختزلاً ومكتنزاً، ولا يحكي تمثيلاً درامياً طويلاً مُسهباً في مثل هكذا اشتغالاتٍ. وهذا الفعل هو ما تشي به نصوصه القصيرة جدَّاً المحتشدة بهذا المزج الفنِّي الدرامي الاغتباطي.

من أمثلة هذا الحقل نصُّ حكاية(دُموعٌ) التي تحكي قصَّة رجل ذاق الأمرينِ في سجل حياته الذاتية:

"أنهَى المُحقِّقُ اِستجوابِي.. أطلقُوا سَراحِي سَالمَاً بَعدَ تِلكَ اللَّيالِي الحَمراءِ. الفَرحُ لا يَسعنِي وَأنَا أمرقُ مِنْ زُقاقٍ إِلَى آخرَ. أمامَ بِيتنَا صَدمَنِي سُرَادِقُ العَزاءِ". (أراني أعصرُ حِبَرَاً، ص 26).

 وفي نصِّ(عزيمةٌ) الذي ينقل لنا فيه الكاتب الرائي جانباً اجتماعياً من جوانب الحياة الإنسانية للفرد، يأخذنا فيه بلغة الفرح والابتهاج والمسرة، وفي الوقت نفسه يستحيل هذا الفعل الدرامي إلى موقف تراجيدي يستحقُّ التأمُّل والتفاعل مع هدفه النبيل وبالأخصِّ في خاتمته الإنسانية بامتياز:

"يَفوزُ الطِّفلُ الحَافي بِسباقِ الرُّكضِ. يُكَرَّمُ بِحذاءٍ رِياضيٍّ. يُهديهِ لِشقيقِهِ وَيَستعدُّ لِسباقٍ جَديدٍ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص22).

 ويسوِّق الحال ذاته مع قصة (يَومُ الحسابِ) الدالة على وقعها الإنساني الحدثي الذي يسرد فيه الكاتب بشكلٍ تراجيديٍ لواقعٍ اجتماعيٍ يجمع فيه بينَ الجِدِ والهَزْلِ في هذه المصفوفة القصيرة جدَّاً:

"أقَامتْ جَارتِي كِرنفالَ بُكاءٍ، وَأنَا بَينهُنَّ شَاردةُ الذِّهنِ.. تَنبَّهتُ لِصوتِ النَائحةِ: (اِذكرُوا مَحاسنَ مَوتَاكُم).. تَناولتُ قَلَمَاً وَورقةً أُحصِي صِفاتِ زَوجِي".(أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 41). والملاحظ على هذا النص أنَّ الكاتب بقدر ما أخذنا بكمية الحزن في مُستهل قصته أخرجَنَا منها بسردٍ ضاحكٍ في ختامها.

 ونقرأ في هذه المجموعة قصة(صفقةٌ)، ونتأمَّلُ ما فيها من كمية الدلالاتٍ الرمزيةٍ والعلامات السيميائيةٍ والصور والكنايات البلاغية المضحكة والسارَّة، لكن سنصطدم بخاتمتها النصيَّة المؤثِّرة:

"تَقابَلَا ذَاتَ نَهرٍ. هُوَ يَحملُ فِي جَيبهِ بِئرَ نَفطٍ، هِيَ تَحملُ عَلَى رَأسِهَا بَرميلَ مَاءٍ.. أغراهَا بِعطرِهِ النَّفاثِ، أَغرتهُ بِعينَيهَا الخَضرَاوينِ.. أينعتِ الصّفقةُ وُرودَاً ذَابلةً". (أرانِي أعصرُ حِبرَاً، ص 32).

 وقد سار الكاتب على هذه الشاكلة الدراميَّة في توظيف هذه الصيغ الجامعة للفعلين النقيضين في تسريد قصصه القصيرة جدَّاً وتسويقها بهذا السمت الأسلوبي اللُّغوي المتمايز إلى المتلقِّي والقارئ.

7- الحَقلُ الاِستدعائِي لِاستحضارِ وَقائعِ التَّاريخِ:

من الحقول اللُّغوية السردية والأنساق الثقافية الحديثة والقديمة التي وظَّفها الميَّالي في مركزية وحدة اشتغالاته القصصية، والتي جاءت ضمن مجموعته القصصية القصيرة جدَّاً، (أراني أعصر حبرَاً)، هو حقل استدعاء وقائع وحوادث التاريخ التراثي الغابر الزمني وإسقاط فعلها المؤثِّر ثقافياً وفنيَّاً وجمالياً على عقابيل معيش الواقع الحياتي المرتهن. وتمَّ له ذلك عبر سلسلة من الموضوعات والأفكار والتناصات وثيم النصوص التاريخية والأدبية والثقافية التحوليَّة التي تلامس نصوصها الجديدة المنتقاة حركة الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي القائم بذاته الوجودية.

وعلى الرغم من أن الإسقاطات التاريخية واستحضار الرموز والشخصيات التراثية والحوادث التاريخية في مجمل القضايا الوطنية والسياسة والاقتصادية والأمنية والحياتية المجتمعية الكثيرة المعاصرة والمنفصلة عن سياقها النسقي لا تُعالج في الحقيقة الأوضاع والمشاكل القائمة بحدِّ ذاتها.

 غير أنها تشخِّص حركة الواقع الساخن الثائر، وتلفت الأنظار إلى المقموع والمسكوت عنه من فيض رهاناته المستقبلية التي تعكسها مرآة الكاتب السردية الكاشفة وتفضحها في فاعلية قَصِّهِ القصير جَّداً المكتنز. ودون أنْ يُحمِّلَ هذه النصوص السردية الجديدة المختزلة بآراءٍ ومقصدياتٍ كثيرةٍ، أو حمولات دلاليةٍ ثقيلةٍ تُرهِّل بنية النصِّ القصِّي وتفقده زمام السيطرة النوعية والإبداعية على وحدة اشتغالاته القصيَّة التكاملية المكثفة التي وظَّفها من أجل خلق نصٍّ قصي إبداعي مليءٍ بعناصر الإثارة والإمتاع الذهني والإدهاش النفسي الذي يجعل القارئ يتواصل معه ويرتاح إليه.

 إنَّ مثل هذا التحليق السردي الإبداعي الذي يتوخَّى قصديات الجمال الفنِّي نراه حاضراً في فقط في(4) نصوصٍ زيَّنت متن المجموعة بعنواناته،(جِلجامشُ، كَيدُهُم، الحياةُ، تَعايشٌ)، وبعض من النصوص الأخرى المشتركة مع الحقول التي تمَّ التمثيل لها آنفاً في هذه الدراسة التأملية الكاشفة.

 وإنَّ أوَّل هذه النصوص التاريخية التي أسقط وقائع حوادثها ورموزها الشخصية والأسطورية العجائبية قصة ملحمة(كلكامش) العراقية التاريخية المعروفة التي يبحث فيها كلكامش جادَّاً لصديقة البطل المُخلِّص أنكيدو عن عشبة الخلود التي تخلِّد اسمه ورسمه وفعله البطولي التاريخي وإسقاط حقيقته من خلال عتبة الواقع العياني الأني المرير الذي تعاني منه الأُمَّةُ بكلِّ أطيافها ومسمياتها:

"اِنبعَثَتْ مِنْ رَمَادِ مَكتبةِ التَّاريخِ. اِشتاقَ لِمحمَةٍ جَديدَةٍ، اِلتَهَمَ مَا تَبَقَّى مِنْ أُسطورةٍ قَديمةٍ، ذَاتَ رِبيع ٍلَمَ تَنفعهُ نَجدةُ (أنكيدُو)، غَاصَ يَبحثُ عَنْ قَبرٍ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 88).

 والنصُّ التاريخي الثاني الذي يتَّخذ استدعاءً من وقائع نصوص قصة شهرزاد مع الملك شهريار في مثيولوجيا الأدبي الشعبي العراقي قصَّة(كَيدهُم)الدالة على وقع وحدتها الموضوعية التاريخية، وكيف تمكَّنَ الكاتب الميَّالي من إسقاط إحدى الليالي التي انتهت عند حدها مدوَّنة(ألفُ لَيلةٍ وَلَيلةٍ) الشهيرة على مجريات وقع الحياة العصرية واليومي لحياة الناس في المجتمع الذي يعيشه هو ذاته:

"اِختفتْ شَهرزادُ فِي اللَّيلةِ الثَّانيةِ بَعدَ الألفِ. لِلترويحِ عَنْ سَيِّدهِ الحَزينِ، جَلَسَ (مَسرورُ) يَروِي حِكاياتِ سَيفِهِ". (أراني أعصر حِبْراً، ص 95).

 إنَّ المعادل الموضوعي بين شهرزاد بطلة العمل الأسطوري المخيالي (الألفية) وبين (مسرور) بطل قصته القصيرة الجزئية(كيدهُم)،هو عامل الرواية الشفوية الكيدية التي انطلت على فكر الآخر في كلا النصين القديم والحديث. وهذا هو خطُّ التماهي في التوافق المؤتلف وفي الاختلاف الزمني.

 أمَّا النصُّ الاستدعائي الثالث من نصوص الاستحضار التاريخي الجميل، فهو نصُّ قصة(الحياةُ) الدال على وقع عتبته العنوانية المرتبطة بصميم الواقع الحياتي للإنسان المديني الذي يحاول الهروب والخلاص من خطر تجلِّيات عقابيله والسقوط في هاويته التي ما عادت تستقرُّ زمكانياً:

"هَرَبَ مِنْ وَاقعهِ، تَجاوزَ الحُدودَ، تَاهَ فِي صَحراءِ أفكارِهِ، نَظرَ لِلنجُومِ، اِستعانَ، بِبناتِ نَعشٍ، سَمِعَ عَواءَ ابنِ آوَى، عادَ إِلَى سِجنِهِ". (أراني أعصرُ حِبرَاً، ص 97).

 والرابط الموضوعي المثير بين التوهان في صحراء الفكر التي لا حدود متناهية لها والعودة إلى مكانيته الزمانية السجن في لوحة مفارقته الخواتيمية المدهشة، ذلك هو الضياع والتِيه والتشظي الذي أوصله بعينه إلى سُلَّمِ هذه المرحلة من التفكير المُجدي والقاصر بحق نفسه الإنسانية الحالمة.

 ويأتي النصُّ الرابع من استدعاء التاريخ والشخصيات التاريخية والثقافية العالمية النصُّ الأدبي (تعايشٌ) الذي يتحدث عن قصة أو رواية السيِّد(المسيح) لفرانس كافكا الأديب الألماني ذو الأصول التشيكية، والذي عُرِفَ عنه بكتاباته الفنتازية والعبثية والكابوسية ذاتَ الأثر النفسي التأمُّلي الكبير:

"قَرأتُ قِصَّةَ(المَسخِ). وَأنَا فِي العِشرينِ، صَدَمَنِي كَافكَا عِندَمَا حَوَّلَ بَطلَهُ إِلى صُرصارٍ. أنَا الآنَ فِي السِّتينِ، سَعيدٌ جِدَّاً لِقُدرَتِي عَلَى الاِندماجِ مَعَ مُجتمعِ الصَراصيرِ... حَافظتُ عَلَى جُثتِي مِنَ التَّفَسُّخِ". (أراني أعصرٌ حِبرَاً، ص 110).

 ولعلّ التماهي بين بطل رواية(المسخ) لكافكا، وبطل الميَّالي الرائي في قصِّة(تَعايشٌ) الدالة على صفة الاندماج، هو الاتحاد والتعايش السلمي والتوحدن الجديد وإنْ كان سلبياً مع مجتمع مغاير غير مألوفٍ لهما مثل، مجتمع الصراصير الحشراتي. إنَّه نوع من العبث في التحوِّل الحياتي لكلا البطلين وهروب من ضغوطات الحياة الواقعية القاتلة وحمولاتها الثقيلة المؤثرة الفاعلة مجتمعياً.

 هذه هي الحقول الدلالية السبعة ومجاوراتها الأكثرُ تَمظهُراً وتأثيراً في محتويات هذه المدوَّنة، والتي يمكن أن نضيف لها حقولاً أخرى في الرفض والحِجاج والكفاح السياسي والفقر المجتمعي والآمال والتطلُّعات التي يمكن أنْ تشكل دوالاً حيَّةً بتمثلاتها الموضوعية ووقائعها الحَدَثِيَّة الكثيرة.

أُسلوبيةُ الكاتبِ الميَّالي القِصصيَّةُ

 ومن باب تقييم أُسلوبية الكاتب والقاصّ عبد الله الميَّالي في هذا المضمار الإبداعي من التجنيس القصصي لهذا الفنِّ الحاذق الضارب في الأعماق، والكاشف للآفاق البعيدة والقريبة، نودُّ أنْ نُشير إلى أنَّ هذا اللَّون من التجنيس السردي القصصي الإشكالي المُعَقَّد يعدُّ لوناً فنيَّاً صعباً عن سواه من الأجناس السردية الأخرى؛ كونه يعدُّ سرداً مِهمازياً فاضحاً ومُعرِّيَّاً لبنية خاصيَّة الصوت الأخر.

 وعلى وجه الخصوص يكون مثل هذا الفعل السردي الجالد لذات غيره من نتاج وفعل الكاتب الفذ الحاذق الذي يمتلك مَلكةً فكريةً وموهبةً قصصيةً سرديةً حقيقيةً متقدةً ومكينةً، والتي تُوجب عليه أنْ يكون كالقابض على جمرة النصِّ المُستعِر شرراً وتوقِّداً، فإنْ مَسَكَهَا اكتوى بِلسعتِها، واحترقَ بلظاها المُلتهبُ جَمرةً واشتعالاً، وإنْ تركها لشأنها حُرَّةً سقطَ في هوى متاعها المخيِّب للآمال، وبالتالي يقع بالفشل في إتمام مهمته الموضوعية والإبداعية التي أُنيطت له في هذا النوع من الأدب الجمالي الحداثوي المتميِّز عن غيره من الألوان السردية الأخرى في صناعته شكلاً ومضموناً.

 ومن أجلِ أنْ لَّا نقفُ خارج مديات النصِّ، ولا نُجانب إلَّا الحقيقة النقدية الموضوعية في إثبات ماهيتها الوجودية القائمة بذاتها الانطلوجية القارَّة في وضع الأمور في نصابها الحقيقي الثابت جذراً،وهي أنَّ القاصَّ الكاتب السيِّد عبد الله الميَّالي في هذه المدوَّنة القصصية(أراني أعصرُ حِبْرَاً) المائزة إيقاعاً وأسلوباً وإنتاجاً قد امتلك جمالياً أدواته الفنية التعبيرية والاحترافية المؤهِّلة في القيام بالمهارة والإبداع الفنِّي المغاير في مركزية اشتغالاته الحكائية في النصِّ القِصصي القصير جداً. والذي تحسُّ من خلال تضمينه البنائي السردي أنَّ لكلِّ قصِّةٍ من قصص المجموعة في داخلها قِصَّة أُخرى صغيرة تُماهيها شكلاً وتُفارقُها معنىً ودلالةً،هذا ما يُميِّز فنُّ القصيرةِ جدَّاً عن مثيلتها.

 كما تمكن الكاتب من تطويع لغته السردية وتوظيفها بحسب الغرض أو الحقل القصصي والدلالي الذي يتطلَّبه البناء النصُّي بشكلٍ ينسجم تماماً مع تطلعاته الفكرية والجمالية والموضوعية في تأثيث النصوص وتشكيل معمارية هندستها اللُّغوية الموائمة لتجلِّيات وعناصر السرد الأساسية التي أُقيمَ عليها هيكل البناء السردي. أي ما يتطلَّبه من اقتصاد لُغويٍّ مُكثفٍ، واختزالٍ لفظي ودلالي مكتنز السياق، وإضمار نسقي، وإيحاء رمزي وإشاري، وغموضٍ فنيٍّ لا بدَّ منه. فضلاً عن عنصر الإمتاع والبساطة اللُّغوية في التركيب الجُملي في توخي وإصابة غائيات الهدف الفعلي المقصود.

 هذا على المستوى البنائي السردي الفنَّي، أمَّا على المستوى الفكري والموضوعي القصصي، فقد جال الميَّالي في فاعلية تقصيصهِ الخوضَ والاكتسابَ والغَرفَ من أنهار وشطآن وجداول المعارف والعلوم النفسية والاجتماعية والفلسفية السوسيوثقافيةالمؤثِّرة الأخرى التي حفلت بها ثيمُ مجموعته. ولم يتغافل عن تدوين ثقافة الحرب وتأثيراتها الذاتية والجمعية، وَذكَرَالطبيعةَ وعناصرَها الزمكانية والغربة ومسبباتها الحقيقية. أمَّا المرأة في معجمه السردي القصير فتكاد تكون المُهمَّشةَ والمُعدَمةَ.

 لقد استطاع الميَّالي عبد الله الإنسان الرائي والكاتب وصاحب المشروع السردي الثقافي من إنجازَ مهمته التسريدية الإبداعية وفق هذه الكيفية السياقية المتساوقة من إنتاج وتخليق وتسويق الجماليات اللُّغوية المُبدعة في فنِّ القصة القصيرة جداً إلى المتلقِّي مُستنداً في مشغل تجريبهِ الإبداعي إلى خلاصة تجربته النثريَّةوباعه السردي الفنِّي الطويل في ممارسة فنِّ الرواية والقصَّة القصيرة قبلَها.

 والتجربة الجريئة التي خاضها الميّالي في ميدان فنِّ القصِّة القصيرة جدَّاً، ذلك الأدب الومضي الانفعالي الحديث المُفارق بهزته البَرقيةِ اللَّافتةِ، والتي تُسمِّى بأدب الصدمة الّذي ظهرت بوادره الأُولى في أواخر القرن العشرين يمكن أنْ يكون إضافةً أدبيةً نوعية إبداعيةً مُهمَّةً وارفة الظلال وحيَّةً لرفوف مكتبة السرديات العراقية والعربيَّة الورقية والألكترونية السريعة والمعصرنة على حدٍ سواءٍ. في مثل هذا الضرب الفنِّي الأدبي الحديث الهادف الكتابة في ميدان القِصَّة القَصيرة جدَّاً التي أخذت في الأونة الأخيرة من عصرنا الثقافي الرقمي المتهافت الوصول لهدفها بإيجاز شديد الكلمات وخاتمةٍ إدهاشية مروِّعةٍ مؤثرةٍ بالنفس. ومن الانتشار السريع في محافل أدبنا السردي النثري الإبداعي، وإنْ تجد لها موضع قدم راسخٍ عَلِيٍّ بين فُنُون الأدب وأجناسه الإبداعية الأخرى.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ / نَاقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

 

المولدي فروج والياس قعلول/ تونس

توضيح: جمعني لقاء بمناسبة بالأستاذ الياس قعلول تداولنا الحديث حول الادب والثقافة وانتهينا الى التركيز على قصيدة كنت نشرتها منذ وقت. قال محدّثي أنّه تناول القصيدة من الجانب النفساني و اللاواعي الذي رافق ولادتها ورغب في أن أوضّح له بعض الأشياء الخفيّة التي وردت في القصيدة. فكان لنا هذا النّص المشترك الذي سمّاه صاحبي: الصورة الباطنية.  

شكّلت الصّورة الشّعريّة منذ القديم هاجسا لدى الشّعراء والنّقاد على حدّ السّواء. وما زال أكثرهم يتدبّرون لها تعريفا دقيقا شأنها شأن الشّعر الذي لم يعثر هو الاخر على تعريف يشفي الغليل ويثبت ان الشّعر ليس كلاما بل فنّا في اللّغة ولم يكن بالضّرورة موزونا.

ولأنّ الصّورة الشّعرية ليست علما صحيحا خاضعا لقواعد فلن ينتهي الجدل حولها، وسيظل النّقّاد يختلفون فيها باختلاف اجتهاداتهم ودرجاتهم المعرفية. فالمتعارف عن الصّورة أنها تركيب لغوي يستعمله الشّاعر لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل. وهي أداة الشعر كما ان الفكرة أداة النثر. قال الجاحظ مؤكدا: الشّعر فنّ تصويري... 

ورغم الغموض الذي قد يطبع حديثنا المشترك (الشاعر الطبيب والأستاذ الناقد) عن الصّورة فانه يمكننا تحديد مجالات معينة بالاعتماد على الاصطلاح والدّلالة.

تولد الصّورة الشّعرية في مخيلة الشّاعر مع ميلاد القصيد وتفتّقه. لتفصل بين الظاهر والباطن وبين الوعي واللاوعي. فاذا ما خرج النّصّ الى عامّة النّقّاد والفقرّاء صار بإمكاننا أن نستنطقه لنبحث عن الظروف التي رافقت ميلاده بدءا من لحظة المكاشفة واختيار العبارة المناسبة حتى الاكتمال والتزويق والخروج الى الضوء والورق. ويمكن لكل ناقد ان يحفر في النّص أفقيا بتتبّع العبارات وتسلسلها وتناغمها مع الموضوع العام الذي بني عليه النّص وعموديّا بالغوص فيه لاكتشاف الدالّ فيه على المدلول.

لا نروم في ورقتنا هذه تقديم مسح كاشف للصّورة الشّعرية وما احتوت من عناصر وما شملت من أنواع ولكننا رأينا من خلال قراءتنا لقصيدة "نهدان" للشّاعر التونسي المولدي فرّوج أنّها تصلح وحدها لتكون درسا تطبيقيّا لمختلف الأنماط الصّورة الشّعرية المتداولة الظاهرة أمام (القارئ – النّاقد) والخافية وهي ما نسمّيه بالمناسبة الصّورة الشّعرية الباطنية.

فلحظة ميلاد القصيد في مخيّلة الشّاعر ينشط لاوعيه واحساسه قبل أن ينقل نصّه كاملا على الورقة أو بالإنشاد، كما ينشط وعيه عند البحث في ذاكرته عن اللّفظ المناسب وطريقة ربطه بالألفاظ الأخرى لتوليد الصّورة. ولعلّ خير دليل على اختلاط الوعي باللاوعي في ذات الشّاعر نفسه قوله: قلْبي يفكّرُ فيهما...

قمنا بقراءة إجرائية لقصيدة "نهدان" وغصنا في لاوعي الشّاعر (وقد شهد على نفسه) فأُبهِرْنا بحضور كبير ومتجسّم لصورة النّهد فيه من خلال شكل الحروف التي تشبه نهد المرأة وهي حروف النّون والقاف وبشكل أقل حرف الفاء. ألا تدل استدارة حرف النّون على استدارة النّهد على صدر المرأة ونقطة الحرف على الحلمة؟ ألا يشكل حرف القاف والفاء في لا وعي الشّاعر صورة مجسّمة للنّهد وحلمته. فليس غريبا اذا، أن يتكرّر حرف النّون 33 مرّة وحرف القاف 17 وحرف الفاء 18 مرّة من مجموع 92 لفظة شكّلت مجموع الألفاظ في القصيدة. ألم تحقّق الصّورة الشعرية التّالية قمّة المتعة أم هي متعة مزدوجة: متعة تحدثها جمالية النّصّ وأخرى يصنعها خيال القارئ حتّى لكأنّه خالقها وهذه ميزة الصّورة الباطنيّة التي نتحدّث عنها. لن أترك صورة الأعمى الذي يسعى بضوء النّهدين في النفق ليرى النمل دون أن أسال لماذا استعمل الشّاعر "بضوئهما" ولم يقل "بنورهما"؟ أعتقد أنه واع تمام الابداع بأن الضّوء ينبعث من جسم أكبر من النّهدين وقد يكون جسد المرأة بصورته الكاملة في ذهن الشّاعر.

***

نَهْدَانِ / مولدي فرّوج

نهدان يَا خَوْفِي

علَى النَّهْدَيْنِ من لَهْفِي

فلي كفٌّ حَرِيقْ

عِقْدانِ مَرَّا

فَوْقَ عُودِهما الرَّقِيقْ

نهْدان مُذْ وُلِدا

كأنَّ الأرْضَ لمْ تنْهَضْ لَها

شَمسٌ، ولا قَمَرٌ،

ولا حتَّى بَرِيقْ

*

نَهْدانِ مُذْ كَبُرَا

وشَاع الخَوْفُ

لمْ يَتَبيّنَا وَجْهَ النَّهَارِ

فَلَوْ سَعَى...

 أعْمَى... بِضَوْئِهمَا

لأبْصَرَ...في ظَلامِ الليلِ

نَمْلاً ..... في المَضِيقْ

نهْدان والحمّالة الحمقاءُ

تعتصِرُ الغَريقْ

نهدان لا يتَلامَسان

كأنّما

قد فرَّقَ الوجْدانُ بينَهما

فما حنَّ المُرَافِق للرّفِيق

*

نهدان لا يتَكاسَلان

وإنَّما قلْبي يفَكِّر فيهما

فيَهيمُ في رسْم الطَّريق

نهْدان نامَا فوق ظِلّهما

….فمنْ، من يَسْتفِيق

***

قصيدة /من أنا في لغة الانكسارات؟ / للشاعرة الفلسطينية آمال قزل تحمل في طياتها الكثير من الأسئلة الوجودية والتأملات الفلسفية. تتناول الشاعرة قضايا الهوية والانتماء، بالإضافة إلى تأثير التاريخ والظروف الاجتماعية على الذات الفردية والجماعية.

1. البحث عن الهوية

تبدأ القصيدة بسؤال صريح /من أنا/، مما يعكس حالة من الضياع والبحث عن الذات في عالم مليء بالانكسارات. هذا السؤال يُظهر الصراع الداخلي الذي يعيشه الفرد في مواجهة واقعه، والذي يبدو مُعقدًا وصعبًا.

2. الانكسار والخيال

تتطرق الشاعرة إلى فكرة الكتابة كوسيلة للهروب من الواقع، حيث تعيش الخيال أكثر من الواقع. يُبرز ذلك التوتر بين ما هو حقيقي وما هو مُتخيل، مما يُعبر عن معاناة الشاعرة ككائن شعري يسعى إلى تجاوز الألم من خلال الفن.

3. استحضار التاريخ

تستحضر الشاعرة شخصيات تاريخية مثل جان دارك، مما يُعكس تأثير التاريخ على الهوية. تطرح تساؤلات حول العدل والظلم عبر الأزمنة، وتسلط الضوء على التناقضات في القيم الإنسانية، مثل تقديس الشخصيات بعد تعذيبها.

4. العبودية والحرية

تناقش القصيدة مفهوم العبودية، سواء في سياق العلاقات الإنسانية أو في ظل الأنظمة السياسية. تتساءل عن مدى الحرية التي يمتلكها الإنسان، وتعرض صورة قاتمة عن الطبيعة البشرية ووجود الطغيان.

5. البحث عن العدالة

تختتم القصيدة بنبرة تشاؤمية حول عدم وجود عدالة على الأرض. تُظهر أن الإنسان مُحاصر بين قسوة العالم وطغيان الزمن، مما يُعكس أزمة القيم في المجتمع.

خلاصة

قصيدة آمال قزل تُعد تأملًا عميقًا في قضايا الهوية، التاريخ، والعدالة. من خلال لغتها الشاعرية العميقة، تدعو القارئ للتفكير في المعاني المتعددة للوجود، مُسلطة الضوء على انكسارات الإنسان ومعاناته.

أنّ هذه القصيدة تتجاوز السطح لتقدم دراسة فلسفية عميقة للوجود الإنساني. دعونا نستكشف بعض العناصر الفلسفية والنفسية في هذه القصيدة بشكل أكثر تفصيلًا:

1. الانكسار كحالة وجودية

تتكرر في القصيدة فكرة /الانكسارات/، والتي تمثل تجارب الفشل والإحباط. هذا المفهوم يشير إلى حالة الوجود الإنساني الذي يتسم بالتناقض، حيث يجد الفرد نفسه بين آماله وطموحاته من جهة، وواقعٍ غالبًا ما يكون قاسيًا من جهة أخرى. الشاعرة تسلط الضوء على كيفية تأثير هذه الانكسارات على الهوية الفردية والجماعية، مما يجعل القارئ يتساءل عن قيمة الذات في ظل هذه الظروف.

2. تداخل الواقع والخيال

الأسئلة التي تطرحها الشاعرة حول العيش في /الخيال أكثر من الواقع/ تدل على الصراع بين الطموحات والأحلام من جهة، والواقع المحبط من جهة أخرى. هذا التداخل يُظهر كيف أن الخيال يصبح ملاذًا للأفراد، يحاولون من خلاله تجاوز معاناتهم. يمكن أن يُفهم الخيال كأداة للتكيف، حيث يتمكن الشاعر من التعبير عن مشاعره وأفكاره بحرية أكبر مما هو متاح في الواقع الملموس.

3. التاريخ والهوية

استحضار الشاعرة لشخصيات تاريخية مثل جان دارك يُظهر كيف أن التاريخ يلعب دورًا كبيرًا في تشكيل الهوية. هذه الشخصيات تمثل الاضطهاد والبطولة، مما يعكس الصراع بين الحق والباطل عبر العصور. كما تُظهر الشاعرة كيف أن هذه الشخصيات تُقدس بعد موتها، مما يثير تساؤلات حول مفهوم العدالة والظلم.

4. أسئلة العبودية والحرية

تتناول القصيدة مفهوم العبودية بشكل موسع، حيث تطرح تساؤلات حول الحرية الفردية والجماعية. تُظهر الشاعرة أن العبودية ليست فقط في المعنى الجسدي، بل تشمل أيضًا العبودية الفكرية والنفسية. تتجلى هذه الفكرة في وصفها للعبودية كعبودية للزمن والأفكار، مما يُظهر كيف أن الأنظمة الاجتماعية والسياسية تُقيّد الأفراد.

5. التناقضات الإنسانية

تشير القصيدة إلى التناقضات في الطبيعة البشرية، حيث يُظهر الإنسان في نفس الوقت ميولًا للخير والشر. العبارات التي تتحدث عن /ملك ومملوك/ و/قاضي وسفاح/ تعكس كيف يمكن أن يتداخل الخير والشر في النفس البشرية، مما يخلق حالة من الاضطراب الأخلاقي.

6. نداء للعدالة

تنتهي القصيدة بنبرة تشاؤمية، تُعبر عن انعدام العدالة في العالم. هذا يُظهر كيف أن الشاعرة لا تكتفي بمجرد الاستغراق في الألم، بل تدعو القارئ للتفكير في السبل الممكنة للتغيير. يُعتبر هذا النداء بمثابة دعوة للوعي الاجتماعي والتفكير النقدي حول قضايا العدالة.

خلاصة أعمق

قصيدة آمال قزل ليست مجرد تعبير شعري، بل هي تأمل فلسفي عميق في طبيعة الوجود الإنساني. تُظهر الصراعات الداخلية والخارجية التي تواجه الفرد، وتطرح تساؤلات حول الهوية، التاريخ، العدالة، والحرية. من خلال استخدام الرموز والشخصيات التاريخية، تخلق الشاعرة عالمًا غنيًا بالمعاني، مما يُعزز من قيمة الشعر كوسيلة لفهم الواقع والتفاعل معه.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

......................

من أنا في لغة الانكسارات؟!

بقلم: آمال قزل

لماذا أكتب بكل هذا الكم!

ولماذا أحمل كل هم الشعوب!

لماذا أعيش الخيال أكثر

من الواقع!

لماذا تسبح روحي الملهمة في ملكوت الله

بكل هذا الشغف!!

من أنا في لغة الانكسارات!

من أنا

في لغة الانتصارات

من أنا في لغة الأنوثة!!

من أنا في سر التكوين!!

من يعاقبني على حلمي البعيد من يطوق حرفي الشريد!

من يقرأني عبر سطورٍ

تعمقت في الميدوزا

من يفك طلاسمي المعقدة!

من يكشف لغتي على جداريات الروح!

من يسير طريق الفلاسفة ويهوى وعورة الطريق يتحدى السير

وراء القطيع

من يقيم مدينة

أفلاطونية التفكير

ويسير درب الحرير!!

من يوشوش البحر

ويسأل صدفاته التي

توارت كما تتوارى السفن

عن سر الشواطئ وتسونامي الوقت!

من يسألني عن أحدب نوتردام وكيف أحرقوا كنسيته في يومٍ أغبرَ!!

من قيد جان دارك!!

ومن أحرقها!

ومن بعد هذا أقر أنها قديسة.!

يا لتلك الأضداد!!

يا لتلك الأحكام!

يا لعبوديتنا التي نفرضها

على بعضنا

يا لعقول طاغية

عَبرت قرون من الوقت

لكنها عادت بوجهٍ أخر

وانتحلت شخصية

راسبوتين وهولاكو

يا لأطرافنا الباردة

يا لرؤوسنا الجوفاء

يا لعبودية الزمنكان

لا عدالة على الأرض

لا عدالة

من يوم ولد الأنسان

ولد ليتعذب

ولم يزل

ملك ومملوك

وقاضي وسفاح

وأرض لا تعرف غير الطغيان..

وقساوة الأنسان

للإنسان..

***

آمال قزل

 

بقلم: أندرو كوليتي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

قبل وقت طويل من رواية "محكمة الأشواك والورود"، قامت المحاكم السويدية في القرن السابع عشر بالتحقيق في الحب الخارق للطبيعة.

***

في عام 1656، تم محاكمة كارين سفينسدوتير في قرية سافشيو الجنوبية في السويد بتهمة غير معتادة: الزنا مع كائنات خارقة للطبيعة. وبالتحديد، كانت المحكمة تحقق في ادعاءات الخادمة الشابة بأنها كانت على علاقة مع ملك الجنيات.

شهدت سفينسدوتير أنه قبل عدة سنوات، اقترب منها رجل وسيم يرتدي ثوبًا من الذهب وادعى أنه "ملك الجنيات" (Älvakungen، وهو مصطلح يعني "ملك الجني"). أخذها إلى الغابة، إلى قاعة كبيرة مخفية تحت جبل، حيث رقصا واحتفلا مع جنيّات أخريات يرتدين ملابس فاخرة. بعد ذلك، قالت سفينسدوتير، بدأ حبيبها الخارق للطبيعة بزيارتها بانتظام. وأسفر علاقتها عن سبعة أطفال، لكن في كل مرة تلد فيها سفينسدوتير، كان ملك الجنيات يظهر ويحمل الطفل إلى مملكته الخاصة، رغم احتجاجاتها. شهد شهود عيان أنهم رأوا سفينسدوتير تعاني من نوبات جسدية مرهقة، وصفتها بأنها آلام المخاض، وسمعوا صوتها وهي تتجول في الغابة ليلاً بحثًا عن أطفالها المسروقين. ومع ذلك، لم يكن هناك أي دليل على أن سفينسدوتير كانت قد حملت يومًا.

لم تكن قصة سفينسدوتير والمحاكمة القانونية التي تلتها غير عادية كما قد نعتقد اليوم. على الرغم من خصوصياتها الفريدة، فإنها تنتمي إلى المخاوف المنتشرة في أوروبا الحديثة المبكرة بشأن القوى الخطيرة والجذابة لأرواح الطبيعة، وهي كائنات قد نطلق عليها في مصطلحاتنا الحديثة "الجنيات". في القرن السابع عشر، كان المجتمع السويدي يعاني من توترات بين العقيدة المسيحية والمعتقدات التقليدية، وبين التخصص الناشئ في العلوم الطبيعية: خاصة بعد عام 1608، عندما أصبح الكتاب المقدس قانونًا في السويد وأصبح السحر جريمة يعاقب عليها بالإعدام. وصلت الأفكار المتناقضة إلى ذروتها في المحاكمات القانونية، بما في ذلك العديد منها التي كانت، مثل قضية سفينسدوتير، تدور حول تهمة الحب المحرّم بين إنسان وكائن خارق للطبيعة.

يقول الباحث في الفولكلور تومي كوسيلا، وهو أمين أرشيف بحثي في جامعة أوبسالا: "هناك تصادم بين وجهات النظر في تلك المحاكمات". "عندما يقول الناس، 'لقد قابلت وكان لي علاقة جنسية مع روح الغابة'، كان رجال الدين يقولون، 'لأنه لا توجد روح غابة، ما تقوله فعلاً هو أنك قابلت الشيطان الذي اتخذ هذا الشكل.' وهذا قد يؤدي إلى عقوبة الإعدام." كانت قضايا مثل قضية سفينسدوتير تؤخذ على محمل الجد لأنه لم يكن هناك مكان لملك الجنيات في النظام المسيحي للكون الذي كان يدعمه رجال الدين والحكومة. ولكن بالنسبة للكثيرين في السويد في القرن السابع عشر، كانت الأرواح ملموسة مثل الحيوانات والنباتات، وكان بالإمكان التعايش بين المسيحية والأفكار القديمة حول الماورائيات.751 Forbidden love

يشير كوسيلا إلى أنه "حتى أولئك الذين تم اتهامهم في هذه المحاكمات كانوا يرون أنفسهم مسيحيين". خاصة في الأماكن القريبة مما يسميه كوسيلا "العالم الآخر الخطير" للغابة، كان الناس لا يزالون يتمسكون بمعتقداتهم ما قبل المسيحية في الأرواح الطبيعية، ويقدمون القرابين لكسب بركتها. كانت المعتقدات الفولكلورية تعكس الحياة اليومية وتنقل الحكمة التقليدية بطرق لم يفعلها الكتاب المقدس. يقول كوسيلا: "لديهم شيء يسمعونه من رجال الدين، ولديهم أيضًا تجاربهم الخاصة في الحياة في المزرعة". " لا تستطيع الكنيسة أن تشرح كيف تحرث حقولك، وماذا تفعل عندما تكون في رحلة صيد، وأشياء من هذا القبيل. وهذه أشياء يمكن الحصول عليها من الفولكلور". حاولت بعض الحكايات الشعبية التوفيق بين النظامين المعتقديين، حيث كانت الأرواح تُعتبر ملائكة منبوذة لا تتبع لا الجنة ولا الجحيم.

كان أحد الأسماء المستخدمة لهذه الكائنات هو "رَو" (وتُنطق كما "رَو")، وهو مشتق من كلمة سويدية قديمة تعني "حاكم". يقول كوسيلا: "هذه روح طبيعية تحكم منطقة معينة"، مثل السكوجسرو، الذي كان يحكم الغابة، أو السيوراو، الذي كان يحكم البحيرة، أو بيرجراو، الذي كان يحكم الجبل. غالبًا ما كان يُوصف الرَو بأنهم مغريون، على الرغم من بعض السمات غير الإنسانية مثل ذيل حصان أو بقرة، أو ظهر مجوف عندما يُرى من الخلف. كانوا عادة إناثًا، وغالبًا ما كنّ مثيرات. يقول كوسيلا: "غالبًا ما يكون الرجال وحدهم هم الذين يقابلون هذه الفاتنة الجنسية في الغابة". قد يكون هذا الموضوع في الفولكلور السويدي متجذرًا في خيالات الصيادين وأصحاب الأشجار، الذين أبقتهم أعمالهم معزولين في البرية لفترات طويلة. يشير كوسيلا إلى أنه في الحكايات التقليدية عن الحورية المغرية في الغابة، هي التي تعرض على الرجل، على الرغم من أن المرأة كانت ستعتبر غير لائقة إذا قامت بنفس الشيء. كانت مغامرة سفينسدوتير مع ملك الجنيات مشابهة تمامًا لما هو خارج عن المألوف في سلوك القرن السابع عشر المحترم.

عند مقارنة قضية سفينسدوتير بمحاكمات سويدية أخرى تركز على العلاقات الخارقة للطبيعة، كانت قضيتها غير عادية من حيث الوصف المحدد للكائن ومن حيث جنس الأطراف المعنية. يشرح كوسيلا أنه في الحالات التاريخية القليلة التي تم فيها اتهام امرأة سويدية بعلاقة جنسية مع روح ذكر، كان عادةً روح مائي يُسمى "ناك" (Näck). لكن وصف سفينسدوتير لملكها، بما في ذلك قصره الذي يقع تحت جبل، يبدو أنه يتناسب بشكل أكبر مع حكايات "الرَو"، بما في ذلك "ملك الغابة" الذكر الموجود في الفلكلور الفنلندي وبعض الفلكلورات الأوروبية الأخرى.

ثمة أمثلة أكثر تقليدا لهذه المحاكمات المتعلقة بالحب الخارق للطبيعة تشمل قضية بيدر يونسون في عام 1640، الذي تم إعدامه في مدينة سوديرشوبينج بسبب علاقة غرامية مع روح رَو مقابل معرفة سرية وحظ حسن (شهدت زوجته أنَّه رفض ممارسة الجنس معها لأنه وعد بالوفاء للروح). قد يكون رجل آخر يُدعى سفين أندرسون قد أُعدم في عام 1691 بعد أن أغوته روح رَو من جبل في مقاطعة فاستيرجوتلاند الجنوبية، رغم أنه غير واضح ما إذا تم تنفيذ حكم الإعدام. وفي حالتين على الأقل، اتهم الجنود الذين تم اعتقالهم بتهمة التهرب من الخدمة العسكرية غيابهم بعلاقة مع "سيدة الغابة".

في تلك المناسبات النادرة عندما كانت تُحاكَم امرأة بسبب علاقة خارقة للطبيعة في السويد، كان ذلك عادة بسبب ولادتها لطفل ذو مظهر غير عادي، مما أثار الشكوك حول هوية الأب. يربط كوسيلا هذا بالمعتقدات المنتشرة في أجزاء أخرى من أوروبا التي ترى أن هذه الأطفال كانوا "مستبدلين"، أي جنيات تم استبدالهن بأطفال بشر مسروقين. كما يمكن العثور على تماثلات لقضية سفينسدوتير في محاكمات معاصرة من أجزاء أخرى من أوروبا. في صقلية في القرن السادس عشر والسابع عشر، عندما كانت الجزيرة تحت حكم إسبانيا، شهدت عشرات النساء أنهن تم زيارتهن في أحلامهن من قبل نساء الجنيات اللاتي يُطلق عليهن "دوناس دي فويرا" (Doñas de Fuera) بالاسبانية، أي "سيدات من الخارج"، اللاتي قادتهن إلى حفلات فاخرة حيث كان الجن  الذكور يدللونهن بالاهتمام.

يشير كوسيلا إلى أن محاكمات الجنيات السويدية "يمكن، إلى حد ما، مقارنتها بالجنون الذي صاحب محاكمات السحر" التي اجتاحت معظم أنحاء أوروبا في ذلك الوقت، والتي نشأت أيضاً نتيجة لصراع الأنظمة المعتقدية والخوف من تأثير الشيطان. وفقاً لجوران مالمستيدت، المؤرخ الثقافي في جامعة جوتنبرج، فإن "إحدى الأفكار الرئيسية التي تسببت في المحاكمات الكبرى في أوروبا" كانت "فكرة أن جميع الساحرات هن جزء من مؤامرة مع الشيطان". وكان هذا يتعارض مع مفهوم أقدم للسحر باعتباره معرفة سرية يمتلكها الأفراد، بما في ذلك الأرواح نفسها. وفقاً لمالمستيدت، فإن كلمة "هيكسا" السويدية التي تعني "ساحرة" تم استعارتها من الألمانية ولم تُستخدم على نطاق واسع حتى السبعينيات من القرن السابع عشر، عندما أُقيمت أكبر محاكمات السحر في السويد. قبل ذلك، كان مستخدمو السحر السويديون يُسمون "رجال السحر" أو "نساء السحر" أو ببساطة "كلوكا"، وهي كلمة تعني "حكيمة".

كانت عمليات البحث عن السحرة ومحاكماتهم قد بدأت في الانخفاض في بقية أوروبا بحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى السويد. خلال ذروة محاكمات السحر السويدية من 1668 إلى 1676، تم إعدام حوالي 300 شخص. حتى في ذلك الوقت، يقول مالمستيدت، "في الحكومة المركزية، أعتقد أنه كانت هناك بعض الشكوك حول هذه الأفكار. ولكن من ناحية أخرى، يمكنك أن ترى على المستوى المحلي أن القساوسة والقضاة المحليين كانوا يأخذون هذه الأفكار على محمل الجد". في بعض الحالات، استخدم المحققون الترهيب والتعذيب للحصول على الرواية التي يريدونها من المتهمين. "أولئك الذين لم يعترفوا، لم يكن بإمكانهم الإعدام"، يقول مالمستيدت، "لذا تم إجبار معظمهم على الاعتراف بالتعذيب". كان بيدر يونسون، الذي أُعدم بسبب علاقة مزعومة مع روح، قد وُجهت إليه في البداية تهمة استخدام السحر للعثور على الأشياء المفقودة، لكن المحكمة افترضت أنه ربما تعلم التعويذة من عاشق شيطاني. وأضاف يونسون تفاصيل على شهادته مع كل جولة من الاستجواب، حيث ذكر في البداية روح رَو ذات ذيل الحصان التقليدي، ثم وصفها لاحقاً بأنها أكثر شيطانية، مع أرجل وأظافر مثل الماعز.

على عكس يونسون والعديد من الآخرين، لم تُتهم كارين سفينسدوتير باستخدام السحر بشكل نشط. بدلاً من ذلك، تم تفسير تقلباتها الجسدية واعترافاتها المدهشة، بما في ذلك حالات الحمل الكاذب، على أنها ذات أصل خارق للطبيعة. كما كتب الباحث ريتشارد سوج في كتابه الجنيات: تاريخ خطير، أنه في القرن التاسع عشر، قد تلوم المجتمعات التي تفتقر إلى المعرفة الطبية الحديثة الجنيات بسبب الأمراض غير المفسرة، لأن "هنالك معنىً لهذا المرض الذي يبدو عشوائيًا، وهو مكان معروف ومقبول ضمن إطار تفسير مشترك". في كتاب محاكمات السحر: كرونولوجيا عالمية، وصفت الموسوعية ماري إلين سناودجراس كارين سفينسدوتير بأنها "متخيلة" اختراعت لقاءاتها "لتنشيط ملل العمل الزراعي المنزلي". لكن بناءً على محنتها في كونها مفصولة عن أطفالها المزعومين، بدا أن سفينسدوتير كانت تؤمن بتفسيرها الخاص لما حدث لها.

قد يكون جذب الخيال كوسيلة للهروب، أو تصور الأحلام أو الأوهام على أنها واقع، قد لعب دورًا في تفسير سفينسدوتير للأحداث. يصف مالمستيدت استخدام الأحلام كدليل في بعض المحاكمات السويدية، حيث "كان الناس يعتقدون أنهم كانوا على اتصال بقوى شريرة في أحلامهم." وحتى إذا تم قبول هذه الأحلام والخيالات على أنها سحرية المنشأ، كان لا يزال هناك سؤال حول ما إذا كانت قد حدثت بالفعل. يقول مالمستيدت: "كان هناك جدل بين رجال الكنيسة في القرن السابع عشر. هل كانت كل هذه القصص حقيقية حقًا؟ ... أم كانت مجرد أوهام؟" هل كان أشخاص مثل سفينسدوتير ينامون مع الشيطان؟ أم هل سحرهم الشيطان ليعتقدوا أنهم فعلوا ذلك؟

يضيف كوسيلا أن "هذه كانت أيضًا فترة كنا نستكشف فيها [ونتعلم المزيد عن] الطبيعة." أثارت محاكمات الحب الخارقة للطبيعة اهتمام العلماء وأثارت نقاشات حول ما إذا كانت الأرواح مكونة من لحم ودم، وما إذا كان البشر يستطيعون إنجاب أطفال منها، وما إذا كان الجنس مع روح ذات ذيل حصان يجب أن يُعتبر مسًا بالحيوانات (وكانت هذه "مشكلة حقيقية فعلًا" في المجتمع السويدي في ذلك الوقت، وفقًا لكوسيلا، مما أدى إلى تنفيذ المزيد من الإعدامات أكثر من السحر). تمامًا كما كانت المحاكمات المبكرة تسعى لشرح الأرواح بمصطلحات مسيحية، حاولت بعض الأمثلة اللاحقة تقديم تفسيرات علمية. في قضية من عام 1706، استنتج رئيس المحكمة أن الكائن الجميل ذي الأرجل الحصانية الذي وصفها المتهم لم يكن روحًا خالدة، بل كان هجينًا فعليًا من حصان وإنسان.

أما بالنسبة لكارين سفينسدوتير، فقد حكمت المحكمة بأن قصة حبها مع الجنية لم تحدث بالمعنى الحرفي، بل أن الشيطان عذبها بالأوهام. وهذا يعني أنها لم تكن مذنبة بالسحر، بل كانت ضحية له؛ وهو نتيجة جديرة بالذكر، بالنظر إلى أن محاكمتها حدثت في وقت لم يكن فيه توافق حول ما إذا كانت الجنيات والعفاريت خيالية أو شياطين متنكرة. قد يكون غياب الشهود على الأحداث الخارقة للطبيعة قد لعب دورًا في الحكم. يوضح مالمستيدت أن وجود عدد من الشهود الموثوقين كان أمرًا أساسيًا لإدانة شخص بتهمة السحر.

تم توجيه رعية سفينسدوتير للصلاة من أجل خلاصها، وأُرسلت إلى منزلها مع صليب فضي للحماية؛ وهو صدى لـ"صليب الجنية"، وهو صليب أو رمز نجمة كان يُستخدم في السويد لصد الأرواح الشريرة. ومن الواضح أن ملك الجنيات توقف عن زيارة سفينسدوتير بعد محاكمتها. لا يُعرف ما الذي حدث لها بعد ذلك، ولكن حالات الرجال والنساء الذين كانوا على علاقة بالأرواح ساكنة الغابة ستستمر في الوصول إلى المحكمة لعقود.

بحلول القرن الثامن عشر، بدأت وجه نظر جديدة قائمة على العلم تنتشر،  حيث بدأ الناس يبحثون عن تفسيرات عقلانية للأحداث غير العادية ولم يعد يخشون تدخل الشيطان الخبيث بنفس الدرجة. وهذا يعني أن محاكمات السحر بدأت تُعد هراء كاذب. وكانت آخر عملية إعدام بتهمة السحر في السويد قد حدثت في 1704. كانت التهم المتعلقة بالسحر الأسود التي تم تقديمها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تُرفض عادة من قبل السلطات العليا التي لم تعد تأخذها على محمل الجد. لكن، مع استمرار الناس في العيش جنبًا إلى جنب مع الطبيعة واستخراج رزقهم منها، استمر الإيمان بالأرواح الطبيعية حتى العصر الحديث. يلاحظ كوسيلا وجود روايات عن رجال ادعوا أنهم التقوا بروح غابة تم تسجيلها في أوائل القرن العشرين.

في مجتمع متغير كانت فيه الكنيسة تسعى لفرض سلطتها، كانت المحاكمات التي تتهم بعلاقات الحب مع الجنيات علامة على صراع السلطة بين فهمين مختلفين تمامًا للعالم. أجبرت قصص العلاقات العاطفية الخارقة للطبيعة الناس على فحص معتقداتهم الخاصة والتساؤل عن ما هو ممكن أو مقبول ضمن واقعهم الخاص. تقول كوسيلا إن "الحكايات الشعبية هي في الواقع قصص عن أنفسنا".

(انتهى)

***

............................

https://www.atlasobscura.com/articles/where-does-fairy-romance-come-from?utm_source=Sailthru&utm_medium=email&utm_campaign=Lit%20Hub%20Daily:%20December%2019%2C%202024&utm_term=lithub_master_list

ان الاطلاع على العلوم والثقافة يجب أن تكون ليس ملكا لصاحب التجربة في الممارسة، وإنما يجب طرحها للاخرين للاستفادة منها، واريد في مقالتي هذه ان اتحدث عن تجربتي وانا كنت طالبا في معهد للطب البشري في مدينة كرسنودار التابعة لجمهورية روسيا الاتحادية، في سبعنيات القرن الماضي، وبنصيحة من استاذي في تاريخ الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي، وهو يعرفني اني مبعوث الحزب الشيوعي العراقي وكنت مسؤول عن المنظمة الحزبية في كراسنودار، أضافة إلى نشاطي النقابي، في اتحاد الطلاب العرب كنت نائب للزميل محمد ابو مندور مصري الجنسية وهو دكتور في الاقتصاد الزراعي خريج معهد كوبان الزراعي ودرس في جامعة عدن عاصمة جمهورية اليمن الديمقراطي لفترة، ويعرف الرفاق السوفيت نشاطاتنا في المجال الحزبي وكذلك الطلابي، سجلت في المدرسة الحزبية لاعداد الكوادر التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي انذاك، بناء على نصيحه استاذي، وكانت المواضيع التي تدرس فيها: هي الفلسفة والاقتصاد السياسي والاشتراكية العلمية وكذلك تاريخ الحركة العمالية والشيوعية العالمية، كان استاذنا في تاريخ الحركة الشيوعية والعمالية العالمية يزودنا بمعلومات مهمة أهميتها تكمن في أن نقرأ روايات في الأدب الروسي والسوفيتي،" مثل الحرب والسلم لتولستوي والجريمة والعقاب لدستويفسكي ورواية الفقراء لدستويفسكي وانطوان تشيخوف الروائي والطبيب ويعرج كيف أن انطوان تشيخوف وهو من أبرز كتاب القصة القصيرة كتب عدد من القصص في رواياته كان يمازج ما تعلمه في دراسته للطب في جامعة موسكو من علوم الأحياء والفيزياء والكمياء والرياضيات أضافة للعلوم الاخرى في التشريح والفسلجة، وله قول مشهور لتشيخوف (أن الطب هو زوجتي والأدب هو عشيقتي) مستفيدا بماكتبه في قصصه ومنها الفلاحين ورسائل إلى العائلة والشقيقات الثلاث وغيرها وقد كتب تشيخوف للمسرح الروسي، وفي إحدى قصصه يقول (اذاخرج المريض من غرفة الطبيب وهو مبتسم، فهذا يعني أن الطبيب ناجح). وهنا تكمن عبقريته في القول أن المسألة هي نفسية لدى المريض. وفي إحدى قصصه القصيرة والتي كتبها عام 1953 في العهد السوفيتي وعنوانها (العروس) ينتقد فيها المجتمع السوفيتي، حيث تدور القصة حول شابة جميلة أسمها نادية تعيش مع جدتها في منزل للاثرياء، نادية تستعد للزواج من خطيبها اندريه بزواج تقليدي، ونادية كانت تعاني من شعور في الغربة، وترى في شخصية ساشا ابن عمها، الذي هو مثال للمجتمع الجامد وله رؤية نقدية للحياة، وقصة (العروس) لتشيخوف حولت إلى أعمال مسرحية وسينمائية، وقد شارك في إخراجها كتاب مخرجين مع اهتمام ناتج عن موضوعها الإنساني، لأنها تحمل في طياتها مفهوم واضح عن معنى الحرية وتحدي الأعراف الاجتماعية التي كانت سائدة انذاك.

وأريد أن انقل نص ماكتبه الكاتب الكبير صاحب قصة (الام) في تقيمه لرفيقه انطوان تشيخوف: (أن لغة وأسلوب تشيخوف قمة من المستحيل الوصول اليها) واذا تكلم المرء عن تاريخ اللغة الروسية لابد له أن فضل خلق هذه اللغة يرجع إلى بوشكين وتورجينف وتشيخوف.

وما هو موقف انطوان تشيخوف من غوركي اذكر مايلي: عندما اختير انطوان تتشيخوف في عام 1900 عضوا بالاكاديمية الروسية، لكنه بعد مرور عامين اي 1902 رفض العضوية أحتجاجا على عدم موافقة القيصر نيكولاي الثاني على قرار علماء وأدباء روسيا بأختيار مكسيم غوركي عضوا بالاكاديمية، لمعرفته في شخصية وادب مكسيم غوركي ومدى العلاقة الطيبة بينهما،

لقد عمق انطوان تشيخوف الاتجاه الواقعي في الأدب الروسي، وحتى من خلال أبطاله في قصصه ومسرحياته وهم من المجتمع الروسي أناس بسطاء، وكان يدرك في أن كل واحد منهم موضوع كامل في سرده للقصة القصيرة وكان في قصصه ومسرحياته تحمل التحليل النفسي من خلال دراسته للطب البشري.

 أما الكاتب مكسيم غوركي والذي عاصر لينين بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى فقد اشتهر في أهم واجمل رواية كتبها هي (الام) وفي هذه الرواية والتي اخذت شهرة واسعة في اوساط المثقفين الثورين والشيوعيين، وهي مترجمة إلى العربية ولغات عالمية أخرى، يتحدث فيها غوركي عن ام كادحة كانت تجلس أمام مصنع عمالي كان يعمل فيه ابنها تبيع (الشوربة) للعمال وكانت لها علاقة بالحزب الاشتراكي الديمقراطي حيث يمدها بالمناشير فكانت عندما تسكب الشوربة بالصحن بناء على طلب العامل تتطلع بوجه وتضع المنشور تحت طاسة الشوربة، وكانت حذرة من جواسيس النظام القيصري المتابع لنشاط الحركات الثورية. كان الشوربة ذات طعم لذيذ ولرخصها بالنسبة للعمال فعليها إقبال كبير منهم. ومن هنا نجد أن هذا العمل السري ودوره في الثقافة الحزبية وابتكاره في نشر الثقافة بين اواسط العمال وتوسيع القاعدة الحزبية ومن ثم الثورة على الحكم القيصري. وهذه الرواية نشرها غوركي عام 1906 وانتشرت الرواية وأصبحت كحافز للبلاشفة في الاعداد لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى، وبعد الثورة ظهر روائين كتبوا عن منجزات ثورة أكتوبر الاشتراكية كما هو كتاب الأرض البكر حرثناها ل ميخائيل شولوخوف والتي تدور احداثها في قرية اوكرانية صغيرة وتتحدث عن حياة الفلاحين والعمل الجماعي (الكلخوزات) وشلوخوف هو مؤلف ثلاثة عشر رواية ومنها الرواية المعروفه الدون الهادئ ويروي فيها بطولة الجيش الأحمر السوفيتي في الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية) وآخر ما كتبه وأنهى حياته في الكتابة به هي رواية (مصير انسان) ومن الروايات السوفيتية كذلك والفولاذ سقيناه لاستروفسكي وهذه القصص والروايات تجسد الحياة في ظل النظام الاشتراكي القائم انذاك وإنجازاته في التطور العلمي والاقتصادي وحياة المجتمع السوفيتي انذاك.

و من خلال قراءتي لرواية الفقراء لدوستويفسكي وهذه الرواية تتضمن رسائل بين أشخاص الرواية يتبادلوها بينهم وهو أسلوب ابدع فيه دستويفسكي، وأعجبني النص التالي: عزيزتي الغالية جدا، ماكار أليكسيفيش!

لو انك على الأقل، لم تيأس ! يكفي أن الأمر فيه من الحزن ما يكفي. ابعث إليك بثلاثين كوبيكا فضية! وذلك كل ما في وسعي أن ابعث إليك، أشتر ما انت بحاجة ماسة اليه، ما يسد رمقك بكيفية من الكيفيات؛ فنحن بالذات لم يتبق لنا تقريبا أي شيء، ولست ادري ما الذي نفعله غدا، ان الأمر لمحزن، يا مكار الكسيفتش! فلا تزد من عذاب نفسك، فقد حاولت ولم تفلح. فما العمل أذن ؟ تقول فيدورا أن الأمر لن يصبح بعد كارثة، اننا نستطيع البقاء هنا موقتا، وبأننا حتى إن انتقلنا من هذا المحل، فلن نفلح البتة في محو آثرنا، إذ يستطيع هؤلاء - أن هم أرادوا - أن يعثروا علينا، ولسوف يعرفون جيدا كيف وأين سيجدوننا، في اي محل استقررنا فيه، أجل، ذلك صحيح، الا اني مع ذلك لم أعد في نفسي، أي جاذبية تجرني حول هذه الشقة، للبقاء هنا، ولو لم يكن الأمر شديد الحزن لكتبت لك شيا ما. يا لغرابة طبعك، يامكار الكسيفيج ! انت تأخذ الأمور مأخذا مشرفا في الحزن، كما انك ستبقى أيضا، أنسانا شديد الحزن على الدوام.انني أقرأ بتركيز شديد كافة رسائلك، فأجد انك تعذب نفسك من أجلي، وأرى في كل واحدة من تلك الرسائل، بأنك تهتم لأجلي بدرجة لا تهتم فيها انت بالذات لنفسك، لن تكون هناك من دون شك، سوى طريقة واحدة ليقول الناس بأن لك قلبا طيبا ؟ لكني انا سأقول بأنك تفرط ياصاحبي في طيبة القلب تلك.أنا أنصحك يا مكار الكسيفتش، نصيحة الصديقة لصديقها، كما اني ممتنة لك كثيرا، لجميع ما قمت من أجلي، وإني لأحس جيدا بكل ما أقوله، فحكم هكذا بنفسك، على صدق أحاسيسي ومشاعري، اذا مازلت أرى إلى الآن، بعد كافة الأحزان والمآسي، التي تسببت لك فيها بشكل غير إرادي، بأنك لا تحيى الا بحياتي: بأفراحي واحزاني، يا سلوة قلبي ! أن العناية الشديدة بالاخر، وتجسم مثل هذه المتاعب هي بعيدة عن الذات، ليعد بحق وحقيقة ذريعة، ليجعل المرء نفسه شقيا وتعيسا للغاية، فين جئت عندي اليوم بعد عودتك من المكتب، فزعت لرؤيتك. كنت شاحب الوجه بدرجة كبيرة وفي غاية الروعة واليأس والاحباط ! كان وجهك بلا معالم معروفة - وكل هذا لأنك خشيت من أن تحكي لي حكاية فشلك، لأنك خفتي من أن تتسبب لي في عذاب وإرهاق نفسيين، لكنك لما رأيت بأن ملامح وجهي تنم بالأحرى عن الفرح، أستعدت هدوءك كله، يا مكار أليكسيفيش ؟ لا تتأسف، ولاتيأس، وإنما كن عاقلا، فإني أرجوك واتوسل إليك. هيا، سنرى بأن كل شيئ سيسير على ما يرام، وبأن الأمور ستدبر بكيفية حسنة لصالحنا، لكن وجودك سيصبح، في حالة ما إذا ظلت حياتك دوما مجرد مسار أليم ومفعم بأحزان الآخرين، مجرد ثقل ثقيل، ستظل تئن تحت وطأته. الوداع يا صديقي، وأرجوك ألا ثشغل بالك كثيرا من أجلي!

 ف. د

هكذا هم الكتاب الروس والسوفيت في كتابتهما الكلمات الجميلة في السردية والتعبير الوصفي قي رسم صورة لشخصية ما في الرواية.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

 

للشاعرة: احلام البياتي- العراق.

ظلٌّ يلاحقني: تأملات في أسرار الهوية والوجود

***

القصيدة:

خارج ظلي الممتلئ بي

في الحقيقة ذلك هو ظلي الذي يسبقني، طالما أزعجني في أوقات العتمة أبحث عنه في كل حدودي يلعب معي الغميضة، فأنادي أينك اللاهث خلفي وأمامي تمحوك غيمة عابرة ترعد وتبرق وتهز الأرجاء، فتختفي بتدوينات تخفيها حتى سطوع ساعتي المتمردة فأجدك شامخا بحروف مسطرة في قوقعتي التي تعلوني، ثم تهطل بلا هوادة وتحت أنين الروح الخافت القابع في زاوية ما من حدودي التي يجتاحها الظلام أحيانا ثم أرجعها بلملمة الفوضى ودفعها بميلٍ يتكتك بنبضي المتسارع لتسوير والحفاظ على خارطتي المتماسكة دون اجتياح.

***

احلام البياتي

.................

القراءة:

قصيدة / خارج ظلي الممتلئ بي/ هي رحلة تأملية فلسفية تبحث في العلاقة بين الذات وظلها، وتستكشف أبعاد الهوية والوجود في صراع دائم بين النور والظلام، بين الإغواء بالضياع والتمسك بالتماسك الداخلي. من خلال لغة رمزية غنية بالصور الشعرية، تقوم الشاعرة أحلام البياتي بإعادة صياغة مفهوم الظل والعلاقة الإنسانية معه، مسلطة الضوء على المدى الذي يمكن أن يصل إليه الشعور بالضياع والتشتت، ثم البحث المستمر عن تجميع الذات في ظل العواصف الداخلية.

1. الظل كرمزية للذات والتشتت

الظل في القصيدة ليس مجرد صورة مرئية تابعة للجسد، بل هو كيان مستقل يمثل الجوانب المخفية من الذات. يلاحق الشاعرة ويسبقها، ليشكل وجودها المتناقض بين الحضور والغياب. في قولها: / ذلك هو ظلي الذي يسبقني/، يظهر الظل ككائن يتواجد قبل أن تدركه الذات، مما يعكس حالة من الإحساس بالتمزق والضياع في عالم تتداخل فيه الحدود بين الحقيقية والمزيفة، بين الوجود والعدم. الشاعرة ترى في الظل شيئًا مزعجًا، لكنّه في نفس الوقت جزءٌ لا يتجزأ من كينونتها التي لا يمكنها الهروب منها.

2. الظل والتحدي الوجودي: الغموض والفوضى الداخلية

تتساءل الشاعرة عن مكان ظلها، في مشهد يتنقل فيه بين البحث عنه والقلق من عدم وجوده في لحظات معينة. / أبحث عنه في كل حدودي / و / يختفي بتدوينات تخفيها حتى سطوع ساعتي المتمردة / هما علامتان على حالة من القلق الوجودي، حيث يصبح الظل في بعض اللحظات غير قابل للرصد، مما يخلق شعورًا بالغموض الداخلي والفوضى الوجودية. وجوده الغامض يعني أن الشاعرة لا تستطيع التحكم فيه بالكامل، وبالتالي هو تعبير عن تشتت الذات وانعدام اليقين. تزاوج هذه الحالة بين الشعور بالانفصال عن الذات من جهة، والتمسك بالبحث المستمر عن التوازن الداخلي من جهة أخرى.

3. الظل كمرآة للروح: مناقشة الضوء والظلام

المقطع الذي تقول فيه الشاعرة: / تحت أنين الروح الخافت القابع في زاوية ما من حدودي/ يظهر الظل كمرآة للروح التي تبحث عن تسوية بين أضدادها، بين النور والظلام. أنين الروح يدل على التوتر النفسي الناتج عن التناقض بين الرغبة في التماسك الداخلي وبين مقاومة هذا التماسك بفعل التشويش الذي يسببه الظلام الخارجي. يمكن فهم هذا الصراع على أنه انعكاس للألم الوجودي الذي يصاحب الإنسان في سعيه المستمر لفهم ذاته في عالم مليء بالضباب والشكوك.

4. إعادة التوازن: الحفاظ على الخارطة الداخلية

على الرغم من الصراع بين الظل والنور، تنتهي القصيدة بنبرة من المقاومة والإصرار على الحفاظ على التماسك الداخلي: / ثم أرجعها بلملمة الفوضى ودفعها بميلٍ يتكتك بنبضي المتسارع لتسوير والحفاظ على خارطتي المتماسكة /. يشير هذا إلى قدرة الشاعرة على إعادة تشكيل نفسها، رغم الفوضى الداخلية. تصبح الذات القادرة على / إرجاع / الفوضى وحفظ خارطتها المتماسكة رمزًا للقدرة الإنسانية على المقاومة والترميم في ظل التحديات الوجودية المستمرة.

5. البحث عن الهوية والتحدي الوجودي

يُظهر النص بأسره التحدي الوجودي الذي يعيشه الإنسان في سعيه نحو التعرف على نفسه. الظل يمثل ذلك الجانب المظلم من الشخصية الذي لا يمكن الهروب منه، وفي ذات الوقت هو جزء أساسي من الهوية. الشاعرة تتنقل بين لحظات من الضعف والشك، لكنها في النهاية تجد طريقها إلى إعادة بناء نفسها، محتفظة بوعيها العميق عن أن الظل لا يزال حاضرًا. هذا الصراع بين الهروب والاحتضان يمثل جانبًا من رحلة الذات الإنسانية نحو تحقيق الانسجام الداخلي.

6. خاتمة: الظل كوسيلة لتأكيد الذات

في الختام، يمكن القول أن قصيدة / خارج ظلي الممتلئ بي/ ليست مجرد تأمل في العلاقة بين الذات وظلها، بل هي تمثيل حيوي للصراع الداخلي الذي يعيشه الفرد في سعيه نحو التوازن. الشاعرة تأخذنا في رحلة فلسفية إلى أعماق الروح الإنسانية، مستعرضةً خيبات الأمل، والظلام الذي قد يحيط بنا، ولكنها تنتهي بحالة من القوة الداخلية والقدرة على إعادة بناء الذات. الظل في هذه القصيدة لا يمثل العدم أو الفراغ، بل هو العنصر الذي يكشف عن وجودنا الحقيقي ويشكل جزءًا أساسيًا من صراعنا الوجودي الأبدي.

***

بقلم: كريم عبدالله – العراق

تتميز قصص القاص أحمد برحال الموسومة بـ "حراس الظلام "بغنى موضوعاتها، وتنوع أساليب الحكي فيها. وسنعمد في هذه المقاربة على تناول بعضها بغية إضاءة جوانب من مكوناتها السردية، وأبعادها الدلالية من خلال الموضوع الاجتماعي، والغرائبي المصاغ داخل قالب يتمثل ويستجيب لأدوات القص وشروطه من حوار، وشخوص، ووقائع...

ولعل الثابت القصصي الذي ترتهن له نصوص المجموعة في سيرورة ومجريات أحداثها هو رصد ما يعج به المحيط الخارجي من حالات حبلى بآفات ومفارقات تخترم منظومة المجتمع، وتفاقم من تصدعاته واختلالاته كمعضلة البطالة التي طالت حاملي الشواهد: " نادى ابنه العاطل عن العمل، بعد مسيرة دراسية موفقة. " ص 38، وتوفر الحد الأدنى من شروط العيش كالطعام: " لم يتناول طعاما منذ الأمس، عندما شارك صغاره وأمهم وجبة غذاء، على نغمات بكاء صغيره احتجاجا على مكونات الوجبة ِ... " ص43، كما لم تتوقف عين السارد على رصد مظاهر الفوضى التي تعم مكونات المحيط الذي يعيش فيه: " تزاحمه الأزبال من كل ناحية. بعضها في الحاويات، والبعض الآخر على جوانبها... " ص 53، وفي العديد من المناحي والتمظهرات: " ترى العربات المكدسة بالخضر والفواكه على الجنبات. والبعض قد افترش بسلعته الجزء المتبقي من المساحة الفاصلة بين العربة والعربة. " ص7 ،التي تنتشر في كل زاوية ومكان، مما يستدعي تدخل الجهات المسؤولة لرأب هذا الصدع، وتقويم هذا الخلل من أسرة ومدرسة: " من لم تجد التربية الأسرية ولا المدرسية تغيير شيء من سلوكه. " ص65، ليلحي عليها باللا ئمة والمؤاخذة: " فيلوم الجهات المسؤولة على تقصيرها في اتخاذ الإجراءات الضرورية والمناسبة. " ص 54، فيبلغ رصد وكشف مكامن الخلل وبؤره أقصى مستويات الفضح والتنديد في قصة "خطوات ": لعن كل اللصوص. من لصوص أغطية البالوعات، مرورا بلصوص أسواق المواشي، إلى لصوص المال العام. " ص 55، قبل أن يتورط السارد، في انتقال قسري،من قوة راصِدة ومواكِبة لقوة اقتراحية تطرح الحلول المناسبة: " لقد فرضوا علي أن أتابع تفاصيل مشكلهم. بل ووجدتني أفكر في اقتراح حلول... " ص 48، رغم ما يعترض ذلك من مثبطات وعراقيل: " تريد أن تقوم بشيء ما، فلا تتمكن لتأكلك الحسرة على العجز المركب الذي يشل إرادتك قبل حركاتك..." ص 6،وما عاشه من حيرة وارتباك بحثا عن توازن منشود يسعفه في مواجهة واقع تعتوره العديد من الهنات والآفات: " تتمسك بعض الأوقات بأعمدة الكهرباء أو الهاتف... " ص6، حيث تداهمه مظاهر الفوضى أينما حل وارتحل: " يقطع صمتك دوي سيارة لتكشف أن سائقها قد عقد العزم على تجاهل الإشارة المرورية التي تأمره بالتوقف... " ص7، أمام سيل الخروقات التي تؤسس لمنظومة فوضى تتضاعف تجلياتها، وتستفحل في شتى الأماكن والأوقات لتشكيل حالة من اختلال بنيوي ينخر هياكل المجتمع، ويستشري في جل مرافقه وواجهاته. وإلى جانب الموضوع الاجتماعي الذي ينخرط في صلب رؤية السارد برصده ومواكبته لما يصادفه من مظاهر وحالات، هناك الموضوع الغرائبي الذي يغني النسيج السردي، ويحد من هيمنة خطيته الواقعية كما في نص " خطوات " : " حك رأسه بأصابعه الأربعة. فتفجرت منه نافورة تنفث غبارا أسود غطى المكان كله... اجتهدت أسرته في إيجاد المخرج لإقامة قبر، لكن كل الوساطات لم تنجح. " ص 55، أو في شكل تحول غريب في مثل قصة " وخز ": " ينعكس وجه غير وجهه في المرآة، يراه قردا برأس كبير. " ص 101، ليتأكد ذلك: " حينها أحس أنه قرد. قرد كبير. " ص 103. فضلا عن موضوع الوجود وما يزخر به من أسئلة تغدو معها قصص الأضمومة أكثر عمقا، وتنفلت بالتالي من إهاب السطحية والبساطة: " أخذني المشهد وبدأت أفكر في ماهية الحياة، والعلاقة بينها وبين الموت، فطرحت أسئلة عن الوجود والعدم، عن الحضور والغياب، عن الوحدة والتفرق... " ص 74، إلى جانب حضور أدوات السرد الأساسية بين ثنايا نصوص المجموعة من حوار داخلي (مونولوغ): " فتسأل نفسك..." ص 8، " فيدخل في حوار داخلي... " ص 39، وخارجي ك " ـ ماحاجتك ؟ ـ أريد الحصول على وثيقة... " ص ، إلى شخوص ووقائع وأحداث، وإن كان توزيعها متفاوتا بشكل بارز في نصوص المتن القصصي حيث وظفت بشكل مكثف في قصة " من النافذة " حيث كثرة الشخوص (با العربي، وأمي فاطنة وابنتها، والمهدي نادل المقهى وزميله في الشغل، ورشيدة وابنتها الكبرى وابنها الصغير، والطفل ذو 12 ربيعا، وبا بوشتى وزوجه مي عيشة، والشاب المنحرف، ومي حادة) المنخرطين في مهام تنتظم معها خيوط أحداث ووقائع ترصدها عيون السارد من نافذة سكناه: " من النافذة تتابع مشاهد كثيرة ومتنوعة لشخصيات من العالم السفلي وهي تخرج للبحث عن لقمة العيش، لقمة تكلفها الكثير من المشقة والعناء... " ص70، وفي قصة " مي هنية " وإن بشكل أقل نسبيا. مع تنويع ضمائر الحكي بين متكلم ومخاطب وغائب، وإن كان بروز ضمير المتكلم وهيمنته في ارتباطه بعين السارد الراصدة والمصورة والناقلة لمجريات الأحداث والمشهديات في نسجه لخيوط حكي تنزع نحو وصف، وتوصيف واقعي لحالات شكلت ملامح السرد الثابتة في جل قصص الأضمومة.

وتتجلى هيمنة السارد على رسم الأحداث ، وتشكيل ملامحها القصصية كما يصرح بذلك في نص " صراع ": " قدري أن أنهك قواي مع شخصيات من ورق أصنعها لتؤدي الدور في إحدى القصص القصيرة... " ص 97، بل يتجاوز مرحلة صنع، وخلق الشخصيات إلى فرض سلطة إبداعية ترتهن لرؤية محددة: " وأنا مستبد لا أقبل المفاوضة. شخصيتي هكذا معها ومع غيرها... قد أكون دكتاتورا... ولا يمكنني أن أتنازل... " ص 93.

 فقصص " حراس الظلام " للكاتب أحمد برحال تجربة سردية تؤسس لإرهاصات لون قصصي (قصة قصيرة) بمقومات فنية وإبداعية غنية ومتنوعة في رصدها لحالات وقضايا اجتماعية وإنسانية برؤية تروم كشف مكامن الخلل عبر نمط سردي متعدد المرامي والمقصديات.

***

عبد النبي بزاز

......................

ــ الكتاب: حراس الظلام (مجموعة قصصية).

ــ الكاتب: أحمد برحال.

ــ المطبعة: سجلماسة ـ مكناس / 2022.

للشاعرة: سلوی علي / السلیمانیة ـ العراق.

مرايا الغياب: تأملات في زمن الهذيان

***

رفوف مفتوحة تراقص الغياب

أفواه جائعة ترقد في مضاجع الصمت، كي تتوسد الأحلام بشهقات الذكريات وبقايا قطار هرم ينتظر الصفير في أزقة المقابر، ليرى كيف يبعث من داخل المنطق والفلسفة، كي يوقظ شهريار على ضباب ينوح بعزف منفرد يملأ الطرقات بخيول هائجة، لجيوش من الأشواق مرصعة ببيوض الحنين فوق خارطة صماء خرساء، فيغرق الشوق، ليأكله الغياب بأنياب الوقت، يتحرك بعطر سوسنة بين ملاجئ الهذيان . شُرخت نبضاتها منذ الشهقة الأولى حين سرق الطيف من لوحة الشمس.

سلوی علي / السلیمانیة ـ العراق .

***

المقدمة:

مرايا الغياب: تأملات في زمن الهذيان

هذا العنوان يعكس عمق التوتر بين الحضور والغياب، ويستلهم من الرمزية الفلسفية في النص، حيث يمزج بين الحلم والذكريات والعزف المنفرد، متناولًا الوجود واللاوجود في سياق يتجاوز الزمن والمكان. / مرايا الغياب / يشير إلى الأبعاد المتعددة التي يتخذها الغياب في القصيدة، بينما / تأملات في زمن الهذيان / تشير إلى الحالة النفسية والتفكك الزمني الذي يعمّ القصيدة.

القراءة:

في قصيدة / رفوف مفتوحة تراقص الغياب /، تضعنا الشاعرة سلوى علي أمام مشهد شاعري غارق في الرمزية والتأملات الفلسفية التي تتراوح بين الحضور والغياب، الوجود والعدم، الحلم والذكريات. هي قصيدة تفتح أبواباً عديدة من الأسئلة الوجودية والوجدانية، حيث تلتقي فلسفة الزمن مع عبثية اللحظة، ويختلط الحلم بالواقع لتشكيل حالة من اللامنطقية التي تصوغها الشاعرة بأسلوب شعري يطغى عليه الغموض ويأخذ المتلقي إلى عوالم غنية بالأفكار المتشابكة.

1. الغياب والحضور: لعبة الوجود واللاوجود

الشاعرة تبدأ قصيدتها بصورة غريبة لكنها مشحونة بالمعنى: / رفوف مفتوحة تراقص الغياب /. في هذه الصورة، لا نرى مجرد رفوف بل إشارات إلى / الفراغ / الذي يتراقص على هامش الوجود، وهو ما يشير إلى حالة من اللاوجود، أو ربما وجود مشوه. هناك تعبير عن غياب شيء ما، شيء ثمين فقدناه أو أضعناه في زحام الحياة، لكن هذا الغياب يظل متراقصاً أمامنا، يعيش معنا وداخلنا، يضفي على النص طابعاً من المأساة المرفقة بالحركة الدائبة، وكأن الغياب هو العنصر المتحكم في هذا الكون الفوضوي.

2. الجوع والصمت: مراثي الروح والذاكرة

تتبع القصيدة وصفاً مؤثراً لصور جوع الروح وصمتها: / أفواه جائعة ترقد في مضاجع الصمت /. هذا الجوع ليس جوعاً مادياً بل هو جوع معنوي؛ جوع للمعرفة، جوع للأمل، جوع للوجود في عالم يشوبه الصمت. يتوحد هذا الجوع مع حالة السكون التي تنتاب الذات، حيث ترقد الروح في صمتها كي تستعيد توازنها أو لتتوسد الأحلام على فراش الذكريات.

وفي السياق نفسه، تبرز الشاعرة بقايا / قطار هرم ينتظر الصفير في أزقة المقابر/. هذه الصورة محملة بالرمزية العميقة، حيث يتم تصوير الزمن والذكريات كمجموعة من القطارات العتيقة التي تتنقل بين الأزقة الضيقة للمقابر، في إشارة إلى أن الحياة تتسرب بين أصابعنا بينما ننتظر الموت أو النهاية بلا أمل واضح في المستقبل.

3. الفلسفة والمنطق: بعث شهريار وعبث الزمن

في محاولة للتعبير عن العلاقة بين الفلسفة والموت والذاكرة، تطرح الشاعرة فكرة فلسفية عميقة: / كيف يبعث من داخل المنطق والفلسفة، كي يوقظ شهريار على ضباب ينوح بعزف منفرد /. إشارة شهريار (رمز الحاكم المستبد في /ألف ليلة وليلة/) تشير إلى محاولة الإنسان الخروج من دائرة الزمن المغلقة عبر الحكاية والفلسفة. لكن رغم هذه المحاولات، يبقى العالم مغموراً في الضباب، لا يحتمل سوى الحزن والعزف المنفرد. كما تبرز صورة الجيوش والأشواق المرصعة بـ/ بيوض الحنين/ التي تملأ خارطة صماء خرساء، مما يعزز فكرة التوتر بين الوجود واللاوجود، وبين الحنين والفقد.

4. شبح الزمن: الأنياب والشوق

القصيدة تتعامل مع الزمن كقوة مدمرة وشريرة: / فيغرق الشوق، ليأكله الغياب بأنياب الوقت /. الزمن في هذه الصورة لا يتصرف كعنصر محايد بل كوحش يلتهم كل مشاعر الشوق والحنين التي تراكمت عبر السنين. هذا التناول الزمني يطرح إشكالية فلسفية حول التفاعل بين الإنسان والوقت، ويمثل الزمن في القصيدة قوة قاهرة تسرق الأحلام والآمال وتغرقها في بحور النسيان.

5. الهذيان واليقظة: سوسنة الزمن المنتهك

القصيدة تنتقل من مفهوم الغياب إلى مفهوم الهذيان، حيث تتحرك الذكريات / بعطر سوسنة بين ملاجئ الهذيان /. السوسنة هنا تمثل رمزاً للجمال والهشاشة، وأينما وُجدت كانت تجسد الرقة والضعف في مواجهة تيارات الزمن والوجود المتسارعة. وفي هذه الحالة، يتداخل الهذيان مع الواقع ليخلق حالة من التشويش التي تقوض المنطق. هنا، الزمن والذاكرة معاً لا ينطويان على يقين أو حقيقة ثابتة، بل يتحركان داخل دوامة من الأفكار المجزأة التي تشكل / ملاجئ / ذاتية.

6. الوجود الأول: الشهقة المسروقة من لوحة الشمس

/ شُرخت نبضاتها منذ الشهقة الأولى حين سرق الطيف من لوحة الشمس/. في هذه الجملة الختامية، تعيد الشاعرة تعريف البداية والنهاية بشكل فلسفي عميق. الشهقة الأولى هي لحظة الوجود الأولى، لكنها مشوهة، مسروقة من / لوحة الشمس /، التي هي في حد ذاتها رمز للضياء والمعرفة. هذا الطيف المسروق يرمز إلى فقدان البراءة أو المعرفة الأولى التي كانت تكمن في اللحظة الفطرية.

الخلاصة

قصيدة / رفوف مفتوحة تراقص الغياب / هي رحلة فلسفية عبر الزمان والمكان، عبر الغياب والحضور، عبر الذكريات التي تختلط بالأحلام، وفي مواجهة مع شبح الموت أو النهاية التي تقترب كلما حاولنا الهروب منها. الشاعرة سلوى علي تستخدم في قصيدتها أدوات الشعر الرمزي لتتناول موضوعات وجودية عميقة، ولتفتح أمامنا أبواب التساؤلات حول طبيعة الزمن والوجود والعلاقة بين الذاكرة والحياة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

للقاص ميثم الخزرجي

يطل علينا من العراق الشقيق، أديب وقاص من سلالة الأدباء الكبار المتمرّسين، يدفع القاريء لمعماره السردي القصصي إلى قراءته بتمعّن وتروّ، وقد يرغمه بأسلوب الودّ والإعجاب إلى إعادة القراءة لإعادة اكتشاف أغوار منجزه السردي.

ما يلفت نظر القاريء قبل تصفّح مضمون هذه المجموعة القصصية (متنزّه الغائبين) للأديب القاص ميثم الخزرجي، غلافها المتخم بالإيحاءات والرموز والألوان الداكنة إلى حدّ السواد، الدالة على المضمون الفلسفي لمضامين القصص. لقد تبوأ الغلاف، المنمنم بريشة عين بصيرة ومدركة، رتبة العتبة المغريّة التي تدفع القاريء والناقد إلى الغوص في المعمار السردي للقاص، وتزجي فكره نحو ساحة التأمّل والحدس.

تضمنت المجموعة القصصيّة (متنزّه الغائبين) للأديب والقاص ميثم الخزرجي، في طبعتها الأولى 2024 م، عن دار ومكتبة سامراء للنشر والتوزيع، سبع قصص قصيرة (الدائرة القصيّة – الماثل في الفراغ – حجرة المرايا – رهان القادم – متنزّه الغائبين – وجهة الطير – اللائذون بالظل).

المتأمل لهذه القصص سيكتشف قاصا متمرّسا أضفى على منجزه السردي، بعدا إنسانيّا وفلسفيّا من زاوية الولوج إلى أعماق شخصيات قصصه، حيث كانت سلوكياتها خلال الوصف والحوار تدل على المستوى الفكري الذي تتمتّع به، وعلى البعد الفلسفي الذي اتّسمت به نظرتها إلى الحياة. تقول إيسلا مخاطبة الدكتور في قصة (رهان القادم): " فكرة صائبة يا دكتور، لكن علينا أن ننظر إلى المتواجدين على سطح المعمورة لنعيد ترميم ذواتهم المنكسرة " ص 98.

" وتقول أيضا: (هذا البحث الذي يعيد الإنسان واعتباريته إزاء نفسه والآخرين " ص 98.

لطالما خاض الأدباء والنقاد معارك أدبيّة ونقدية حول إشكالية علاقة الأدب بالواقع الإنساني، أيّ بالإنسان في جوهره، لا في مظهره، من بوابة المذاهب الأدبيّة المتعاقبة والمتوازية الحضور، انطلاقا من فلسفة المذهب الكلاسيكي، وصولا إلى الحداثة وما بعدها وماتلاها. فكان الصراع – ومازال قائما – بين العقل والشعور، أيهما أحقّ بالريادة والقيادة. (فقد اشتغلت إيسلا على خلايا العقل كونه المحرك الأهم في المناقشة واتّخاذ الرأي...) " رهان القادم " ص 97. بينما الطرف الآخر اشتغل على " الجنبة الشعورية " (أوكل لنفسه ثقة بأن يبث السائل المعني بالقلب) " رهان القادم " ص 97. لقد تجلّى الصراع بين العقل والقلب، بين المنطق والشعور، بين الواقع والحدس. بين جوهرالإنسان العاقل، الذي يديره العقل ويوجّهه ويصونه من شطحات الواقع العنكبوتي والإنسان الروبوتي المسلوب الإرادة والهدف والذي تحرّكه مظاهر التخلّف، من عادات وتقاليد بائدة وطابوهات معوّقة للعقل والمنطق. تقول إيسلا عن الدكتور وارشو: (فقد سعى إلى تشييد إنسان الآلة) " رهان القادم " ص 97

جاء على لسان إيسلا في قصة " رهان القادم ": (علينا أن نشتغل على الإنسان) ص 97...

كما جاء على لسان إيسلا أيضا: (أنا الدكتورة إيسلا أستاذة علم الأجنة والهندسة الوراثية، جاهدت في أن أعيد صيانة الخلايا المعطوبة في دماغ الإنسان) " رهان القادم" ص 97.

يتجلّى الحسّ المأساوي واضحا في حوار إيسلا مع الدكتور وارشو. فقد فقد الإنسان المعاصر إنسانيته، وخير دليل على ذلك حروب الإبادة التى يمارسها الأقوياء والديكتاتوريون والمستبدّون على الضعفاء والإنسانيين وطلاّب الحرية والعدالة.

هناك مأساة متعدّدة الأسباب والغايات والأوجه، تضرب أعماق الوجود الإنساني، وتهدّد الكينونة البشريّة، سببها الأول الرعونة التكنولوجية وانحراف العقل عن غايته الساميّة، المتمثّلة في العيش في كنف السلام والتعاون والتراحم، تحت مبدأ وحكم ربانييين (يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وشعوبا وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) سورة الحجرات / 13.

يبدو أن تجربة القاص ميثم الخزرجي، أثثتها فلسفته المأساوية، من خلال الغوص في واقعه العراقي المعيش ومحيطه العربي والإقليمي وآفقه الإنساني الرحب. كأنّ الكرة الأرضية أمست مدينة للأموات لا للأحياء. فالموت / الغياب / المرارة هي القواسم المشتركة بين سكانها. فـ (المدينة قد اختصتها المرارة) " متنزّه الغائبين " / ص 118.

فشخصية سباهي العظم، الذي يسكن المقبرة ترسم لنا مأساة الإنسان في بيئة مظلمة وفي مجتمع يدير دواليبه الغائبين الفاقدين للعقل والوعي، وهم في غياب ذاك لا يختلفون عن الأموات في قبورهم. (داره المنغرسة في المقبرة، والتي هي عبارة عن حجرة هرمة... فهو المتواجد الدائم الذي لا يبرح المكان كحال الموتى الذين استحصلوا سكناهم دونما مغادرة) " متنزّه الغايبين " / ص 118 / 119. ا

ولشدّة المأساة ومرارتها، حين تتحوّل المدينة إلى مقبرة، ويسعد الأموات مقابل شقاء الأحياء، حينها يحسد الأحياء الأموات على موتهم، ويشقى الأحياء بحياتهم، وتنقلب الحياة المفاهيم رأسا على عقب. إذن، أراد القاص ميثم الخزرجي، من خلال رسمه لشخصية (سباهي العظم) برموزها ودلالاتها وإشاراتها، أن يجسّد صورة المجتمع المحكوم بالأفكار الميّتة والمُمِيتة والعبثية، التي مازالت تمارسها سلطانها على العقل العربي منذ سقوط بغداد (سنة 656 هـ) وسقوط غرناطة (سنة 897 هـ).

(فمن مستحضرات هذا الطقس الروحي المؤثث بالشموع والبخور وماء الورد) " متنزّه الغائبين / ص 119.

(فهو الممتهن حكاية الظل الذي صار جسدا، والأفعى التي تلبّست الروح الواهنة، والقطة التي استحالت إلى صوت طفلة) متنزّه الغائبين / ص 121.

عمد القاص ميثم الخزرجي إلى التقاط ذلك الخيط المأساوي الذي يمتد عبر الأجيال تل الأجيال، ليؤكّد حقيقة مرّة ومتجذّرة توارثتها الأجيال، وكأنّ التخلف الذي خيّم على جوانب حياتنا كلّها ؛ لاجتماعية والدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة قدر محتوم. (فها هو بطل القصة (متنزّه الغائبين) - التي توجها القاص عنوانا لمجموعته القصصية – يرث عن أسلافه مجتمعا مترهلا، مهلهلا. تحكمه الغرائز وتديره العقول الميّتة، المنتهية الصلاحية. (ورث عن جدّه مهنة الدفن) متنزّه الغائبين / ص 119.

(فهو المشبع بالشواهد ورائحة الموت، وما اختزلته الأيام منذ أن ورث عن جده مهنة الدفن وراح يحيى من خلالها) (على الرغم من عمره الذي تخطى السابعة والخمسين) متنزّه الغائبين / 119.

(يمرّ الليل وبحوزته شعلة خجلة من الضياء) متنزّه الغائبين / ص 122.

(الغريب في الأمر أن أعداد الموتى أخذت بالتزايد) متنزّه الغائبين / ص 127.

هذا البوح السرديّ، يكشف للقاريء والناقد عن أغوار المأساة المتجذّرة في واقع لونه داكن وعنوانه غياب الحياة وطغيان مظاهر الموت والفقد، وفقد الإنسان معنى كينونته، وتحوّلت المدينة إلى مجرد مقبرة. تزايد عدد الأموات معناه غلبة الموت على الحياة، التهام المقبرة لجغرافيّة المدينة، أو بالأحرى، تجوّل الموت إلى قاعدة والحياة إلى استثناء. وسيطرة الخرافة على العقل، وانحسار مساحة المنطق والحكمة أمام طوفان الشعوذة والسحر والمجهول.

ولنتأمّل الحوار التالي الذي جرى بين حارس المقبرة (سباهي العظم) وأحد زوار المقبرة:

- من أنت؟ وما الذي تفعله في المقبرة؟

كان سباهي متوجسا حينها.

- وهل هناك ما يمنعني من الدخول؟ قالها بطمأنينة.

- هل أنت مجنون؟ ألا تشعر بالخوف من الموتى؟

- ولما (لم) الخوف؟ أنا أؤبّن الموتى بالموسيقى.

- هذا عمل قبيح وشيطاني.

- وما هو دليلك؟

- كونه شيئا غير معمول به البتّة.

- طيّب، ما الذي أحسسته حيال سماعك للعزف؟

- ولماذا تسألني هذا السؤال؟

- لأنّنا بحاجة إلى أن نكون حقيقيين ولا نكبح قوانا الروحية. (متنزّه الغائبين / ص 123 / 124.)

ولأنّ المأساة أصابت العقول الأحياء في مقتل و(هذه أرض تغص بالموتى) متنزّه الغائبين / ص 125. فلا جدوى من ممّا يفعله حارس المقبرة. وكأنّ السؤال الذي يرد في الحوار هو: ما الذي يهدّد الموتى وقد انتقلت أرواحهم إلى العالم الآخر؟ وما جدوى تأبينهم بأنغام الموسيقى وبالعويل أو النواح أو الصمت؟ المأساة التي يعكسها الحوار هي فقدان ميزان العقل والانغماس في الشعوذة والبحث عن الوجود في كنف العدم. لقد أدّى الجهل المتوارث والثقافة الزائفة والاستبداد السياسي والثيوقراطي إلى إشاعة أجواء من القلق والخوف والاستسلام للأساطير والترّهات وصناعة " أجيال القطيع ". وما زال المجتمع الشرقي (العربي والاسلامي) عرضة للتواكل والفتن العشائريّة والدينيّة والإثنيّة والنزاعات والحروب، وساحة لتسويق ما ينتجه الغرب من سلع ماديّة ولا ماديّة، وبالخصوص السلاح والمخدّرات وفلسفة التشكيك في الهويّات القطريّة والقوميّة والدينيّة.

المأساة ليس في الموتى، بل في الأحياء. يقول الرجل الزائر لحارس المقبرة " سباهي العظم ": (لو تغيّر الطرح المتعارف عليه بتوديع الموتى بالبكاء والنحيب وقلدناهم الورد والموسيقى على أنّهم ارتحلوا، أو سافروا إلى عالم آخر دون أن نغيّب أرواحهم عنّا) متنزّه الغائبين / ص 126.

هي مأساة أخرى، حين تتعطّل آليات العقل المفكّر - الذي كرّم الله به الإنسان دون غيره من المخلوقات – ويصبح عاطلا على هامش الحياة. يتغلّب الموت على الحياة، خصوصا موت العقل. حينها يفقد الإنسان بوصلة الحضور. ويغوص في متاهات الغياب ويقفز السؤال المأساوي ليصدم الأحياء: (أيهما نحن على هذه الأرض؟) متنزّه الغائبين / ص 128.

من المؤكّد أن الجواب سيكون، (نحن الموتى على هذه الأرض. لأنّ، ما أصاب من يزورون موتاهم أو يعودونهم من الدهشة والذهول، جعلهم يتساءلون عن سبب اتّساع المقبرة وزيادة الموتى (الغريب في الأمر أنّ أعداد الموتى أخذت بالتزايد) متنزّه الغائبين / ص 127.

ما يلفت الانتباه - حقا – في هذه المجموعة القصصيّة، هو هذه المساحة القاتمة، ذات الدلالات السيميائيّة، المعبّرة عن مأساة مجتمع شرقيّ، ذي ثقافة مريضة ومترهلة إلى حدّ الموت.

المتمعنّ في قصص المجموعة القصصية " متنزّه الغائبين " لميثم الخزرجي، يدرك طغيان سيميائية الموت بمفهومه الحقيقي، والذي يعني غياب الجسد عن الأنظار ورجوع النفس إلى خالقها، وهي سنّة جميع المخلوقات. (كلنا سنموت) ص 138.

لكنّ المأساة هو الموت المجازي، الموت المعنوي والروحي، حينها يصبح الجسد كتلة لا معنى لها. ويتحوّل الإنسان من فاعل حر إلى مفعول به مستعبد، فاقد للحرية والكرامة والحكمة والعقل النيّر واللاشعور. وتنسحب هذه المأساة على الأفراد والمجتمعات سواء.

من بين قصص المجموعة القصصية " متنزّه الغائبين " للقاص ميثم الخزرجي، التي تشدّ القاريء قصة " وجهة الطير ". وهي قصة تجسّد سيميائية موت إنسانية الانسان على كوكبنا ومحاولات مقاومة هذه المأساة، في ضوء غياب السلام وانحراف التكنولوجية عن مسارها السلمي. " قرب المفاعل النووي من مكان الحدث جعلها تخمد كل الطاقة المصاحبة للعيش ومقاومة الإنسان " (وجهة الطير) ص / 133

ما أصاب مدينة كامبو، مدينة الضوء والنسيم، لم يحدث مثله عبر سنين عديدة. قبل خمسين سنة حذّر الدكتور برهام بركل من الكارثة النووية، لكن دون جدوى. ومدينة كامبو الخيالية، هي - بلا شك - هيروشيما ونكازاكي اليابانيتان، الحقيقيتان. لكن بحث الدكتور برهام بركل بقي معلقا ومازال في القصة يبحر بنا القاص ميثم الخزرجي إلى منطقة الخطر الذي يتهدّد الكرة الأرضية نتيجة رعونة الإنسان وتهور وغروره التكنولوجي وتماديه في استغلال الذرة واليورانيوم المخصّب بفكر جنوني، واستنزاف قوى الطبيعة الإيجابيّة. وما حدث لمدينة كامبو، شبيه لما حدث لمدينتي هيروشيما ونكازاكي. " كانت مدينة كامبو كئيبة وموحشة، بشر بقوى خائرة " ص / 135.

"سيموتون كلّهم" ص / 136. هذا ما توصّل إليه الدكتور يشاد.

أمّا ما لاحظه الدكتور شاويس، فهو أدهي منه وأمرّ: " كل شيء ميت هنا ". ص / 136.

وقف القاص ميثم الخزرجي أمام حقيقة مأساة الموت بسبب توظيف العلم خارج دائرة الحكمة وبأساليب مرعبة ومفزعة ومجنونة. فقد تحوّل العالم اليوم إلى مضمار للحروب المدمّرة والداميّة إلى حدّ الإبادة دون رحمة أو شفقة. كما هو حادث اليوم في غزّة على أيدي الغزاة الصهاينة. إنّ السلاح النووي سيقتل الجميع الظالم والمظلوم، القويّ والضعيف، العالم والجاهل، المجرم والبريء، الغنيّ والفقير. " كلّنا سنموت " ص / 138. " ستموتون جميعكم جراء هذا الهواء المسموم إن لم تطاوعونا لإسعاف ما بقي منكم " ص / 138.

يبدو أن الإنسان المعاصر في نظر القاص ميثم الخزرجي عدوّ نفسه، أيّ أنّه يمعن في قتل نفسه، ولم يستفد من المآسي السالفة. مأساة الإنسان المعاصر في عقله الذي تمرّد على الفطرة والقيّم النبيلة. عقل تغلّبت عليه الفلسفة البراغماتية الذاتية والساديّة (النفعيّة والأنانيّة). مأساة الإنسان المعاصر لا تكمن في الجهل بقدر ما تكمن في المعرفة. مأساة الإنسان المعاصر في التسلّط والثراء الفاحش والاستبداد والكبرياء والتألّه على الله. وهو سلوك قديم حفظه لنا تاريخ البشريّة في القرآن الكريم المنزل على سيّدنا محمد صلى الله علي وسلّم. ذلك السلوك النمرودي والهاماني والفرعوني، ثم ما تبعه من سلوك نازيّ وفاشيّ واستدماري وغيره. " يجب أن نعلم جيدا بأن الأرض ستنهارعن قريب نتيجة تبدّد نسيجها " ص / 136.

إنّ مدينة كامبو، هي الكرة الأرضية، هي العالم الذي بدأت قيّمه تحتضر، وبدأ الخراب يحاصره، واليباب يغزوه من أعماقه. لقد تنبأ ت. س. إليوت في قصيدته الأرض اليباب، بخراب العالم ونزوحه نحو الزوال. لقد كانت نبوءته في القصيدة عن أن حضارة أوروبا سوف تتسبب بموت البشريّة محقّة، ذلك أنّ الحرب العالمية الثانية كانت أكثر عنفا ودموية من الأولى. ولا يعلم الناس، كيف ستكون الحرب العالمية الثالثة، إذا اندلعت، بعد نشوب هذه النزاعات والحروب الأهليّة والإثنيّة والاقتصاديّة، التي أنتجتها الحرب الباردة هنا وهناك،

(التاريخ التدميري والقاتل الذي جعل من إليوت مريضا نفسيا يحتاج إلى علاج حين كتب عن هذا التاريخ، قصيدة عظيمة سوف تظل وثيقة أبدية على الخراب الذي أنتجته الحضارة الغربية.)

وبالمجمل، فقد ساح بنا القاص ميثم الخزرجي في عوالم مأساويّة، بأسلوبه القصصي، المشبع بلغة الإيحاء والمجاز. لغة جسّدت في مضمونها حسّا مأساويا، التقطه القاص من عالم الواقع المأساوي المعيش. هذا الواقع الرمادي، الذي شيّده الإنسان من بنات أفكاره، وأرسى لبناته على أرض مليئة بالصراعات النفسيّة والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. فمنذ مقتل هابيل على يد قابيل، لم يُغمد سيف القتل لحظة. بل استمرّ الإنسان في قتل أخيه الإنسان وقتل نفسه، ولم ينجه العلم من الرعونة والهمجية والجريمة، بل زادت رعونته والتهبت غرائز القتل الفردي والجماعي لديه.

و في الختام، يمكن اعتبار المجموعة القصصيّة " متنزّه الغائبين " للقاص العراقي ميثم الخزرجي، إضافة متميّزة في معمار القصة العراقية المعاصرة وفي قاموس السرد العربي المعاصر أيضا، لما تتميّز به من تفرّد وجدّة وتشويق في معالجة الموضوعات الحيويّة في المجتمع العراقي والإنساني، بأسلوب خالٍ من التعقيد والتنميق والإسفاف.

***

بقلم: الأستاذ علي فضيل العربي - ناقد وروائي / الجزائر

الفضاء الاستعادي وأفق التناسخ الجسداني

توطئة: نستطيع دائما أن نفصل في الكثير من الدقة والعناية بين مستويين من التماثل الفضائي في عملية معايير وحوافز أستعادية من شأنها تخويل حدود المقاربة القصصية في عضوية أواصر شروط وظروف اللحظة الزمنية والمكانية والذاتية المندغمة في أهليات بلاغة المخيلة وهي تتوغل في أقصى عملياتها التمثيلية للاحوال الموضوعية والذاتية المرسومة في فضاءات خاصة من التوتر والشد البنائي والاسلوبي المؤول. تتميز عوالم القاص الروائي الكبير الأستاذ (مهدي عيسى الصقر) في مجال أسطرة النص القصصي ضمن تقانات فاعلة وحيوية في مجمل علاقتي (الاسترجاع = الاستباق) إذ أن أغلب توجهات الرؤية القصصية لدى القاص، مصدرها ممارسة ذي حساسية تقترب من مجاﻻت اللقطة الزمنية المظغوطة في ملامح داخلية خاصة من صنيع الاندماج الوظائفي المتشكل ما بين (استثارةالبؤرة - تفعيل إشكالية الذات) وهذه الثنائية الكيفية من طاقات (الفضاء المتني) تجسد لذاتها نموذجا اختزاليا يتوزع في حدود دائرة ثنائية (التماثل - التمثيل) وصوﻻ بجملة وسائلية الادوات التشكيلية إلى مرحلة صنيع موضوعة عارضة غالبا ما تبدأ وتنتهي بالتركيز والتكثيف والخيار الاستفهامي في المحصلة المدلولية الأخيرة. وتندرج نموذج قصة (العودة) بالتفاصيل التي تتمظهر من خلالها ترتيب آليات التشكيل انطلاقاً من المستهل النصي وحتى حدود دائرة الهيمنة التمثيلية للمفارقة السردية الفنية التي تتزامن مع حكاية السارد الشخوصي الموزع ما بين الاسترجاع والاستباق والاحساس الحضوري بوجود ذلك النوع من التناسخ الحلولي للروح الآدمية داخل أجساد أخرى غيرية من الحيوانات.

- سردنة الصور المكانية والاحوال الزمنية

إن المكاشفة الاستهلالية في عتبة العنوان المركزي للنص القصصي (العودة) يبرز لنا كقوة إيحائية تلتحم من خلالها العلاقة المتنية بذلك الوازع المجسد في نسيج القص. لذا بدت القيمة الدﻻلية في مؤشرات موضوعة النص كحساسية خاصة بالسارد الشخوصي، وهو يتفقد وجود وغياب زوجته المتوفاة في الأصوات والحاﻻت الأكثر تعلقا بالمكان والحضور الاسترجاعي للحوادث المتعلقة بوجودها كيانا حلميا عبر الفضاء الذاتي للشخصية الزوج: (جلس مذهوﻻ يحدق أمامه ويحدق.. غير قادر على استيعاب حقيقة غيابها المفاجىء، وصوت مقرئ القرآن، الذي يتمدد داخل مكبر الصوت ثم ينتشر في الفضاء المحيط، يضج في أذنيه، ويغطي على الهممة الخفيفة المتقطعة. الذين جاؤوا يواسونه، وجلسوا في وقار حزين في حديقة المنزل، أحذيتهم اللامعة التي كان يراها وﻻ يراها تستقر على العشب بين أرجل الكراسي المعدنية. / ص١٢ النص) تنطوي استجلاءات السرد الوصفي ضمن فواصل تنفتح على مجالية خاصة من الفضاء الصوري الذي راح يسردن قابلية جزئية وكلية من توافر مجموعة الأواصر الحافة بمجال اللغة التشخيصية المفترضة ب (الراوي - المروي - المروي له) حيث تتوازى مفردات السرد بالوصف اقترابا من السارد كلي العلم بالتصور الواقع في حدود مقاربات حسية ماثلة بمواجيد المحنة الذاتية وأزمتها المندمجة وسط جملة محايثات وجودية للأشياء وعدم التحديق بها كونها وقائع واهمة من عدم استيعاب محنة غياب ذلك الشريك.

١- العودة بهيئات التشكيل الحلولي:

ﻻ شك أن فكرة عودة أرواح الأموات في أجساد الطيور أو الكائنات الأخرى هي من الموضوعات التي اشتغلت عليها فواعل حكايا الملاحم والأساطير وبعض المعتقدات الكهنوتية في المعابد البوذية والهندوسية، كما وشغلت هذه الفكرة أغلب محفزات الحكاية الخاصة بالموروث الشعبي المتعلق بمجال الحكاية الخرافية تحديدا. ولكن الأمر مع قصة (العودة) للصقر كانت عاملا في الرغبة  للحياة بأي صورة كانت. والعامل الموضوعي في حاﻻت النص نتلمسه من خلال ذلك الحوار الذي دار بين الزوجة وزوجها قبل حادثة وفاتها: (قالت له مرة وهما يشربان الشاي: - أنا ﻻ أستطيع احتمال فكرة ان الانسان حين يرتحل عن هذه الأرض ﻻ يعود إليها أبدا ؟ فقال لها أن ﻻ أحد ولا شيء يفارق هذه الارض، ما دامت باقية، وأن الكائنات تدور وتدور، ولذلك هي تعود مرة ثانية وثالثة، إنها تبدل أشكالها فقط، فزايلها الحزن قليلا: - يعني سأعود أنا أيضا إذا ذهبت ؟ سئلته، وانتظرت بلهفة، فقال لها تعودين كلنا نعود، ولكن ربما على هيئة شجرة أو على شكل طائر يحلق سعيدا في السماء. /ص١٢ النص) ان عامل الرغبة والأمنية والتخييل والوهم لدى الشخصية الزوج هو ما بات يشكل بذات نفسه الفاعل الواهم الذي راح يجمع ما بين رغبة الفاعل وتمحوره في وهم الوهم. وعلى هذا النحو غدا فاعل الذات محركا في نفسه فاعلية خلق التصور وتوجيه فعل التوهم بالتزامن مع حديثهما: (بدت مسرورة، أخبرته أنها ستعود على هيئة عصفور، تحوم حول البيت، وتسكن أشجار الحديقة ـ لا لا دعني افكر. أنا أريد أن يقف شيء بيني وبينك، لذلك سأعود على هيئة قطة تمشي معك أينما ذهبت، وتحك جسدها بساقيك، وأنت تقرأ أو تجلس شاردا. / ص١٣ النص).

٢- شرود الذهن وجنوح المخيلة:

لربما تذهب بنا الأفكار والرؤى القصصية الى افتتاح آفاق أنشائية خاصة بها فتلامس اسلوبا مبتكرا، لغاية الوصول إلى مرادات الفكرة بأشكال مغايرة وغرائبية إلى حالة فريدة من الفعل المعادل في سياق الموضوعة للنص القصصي. ولعل حاﻻت التشديد التي يمارسها القاص على شخوصه بعدم شرودها الذهني، والتأكيد على كونها باقية ضمن حضورها الواقعي الملموس، إذ نرى أن احد أوﻻده وهو الأبن البكر للشخصية جعل يمسك بيد والده للتأكد من أن والده ما يزال ضمن أحكام الواقع المعاين خوفا     عليه من أي بادرة ما من الشطح أو حتى الصمت الأبدي: (أبي ! أبنه الكبير الجالس بجواره، مس ذراعه وأيقظه من شروده، فهب واقفا، وضغط على اليد الممدودة لواحد من المعزين، وتمتم شيئاً، ثم عاد يجلس في مكانه.. وجوه كثيرة مرت من أمامه اليوم، لم يتمعن فيها جيداً. / ص١٣ النص) فلنتأمل ما جاءت به هذه الوحدات السردية وغيرها تباعاً، إذ نلاحظ أن المسافة الكشوفية التي تحيط بالشخصية ﻻ تتعدى جملة من الهواجس التي ما لبثت أن تلتقط الأجزاء الضمنية في المخبوء السردي، كمثال الصور التي بات يسترجعها الشخصية من متواليات أحداث عملية دفن زوجته وكيفية الطريقة التي قام بها ذلك الحفار للقبور والصبي الذي كان برفقته في غضون خطواته في عملية الدفن: (فجاء صبي يحمل فانوسا أضاء الوجوه الصامتة التي أحاطت بالحفرة تنتظر. / ص١٣ النص) كما ﻻحظنا من خلال هذا السرد، كيفية أن القاص يسعى إلى بناء حاﻻت تعوزها الحبكة المسوغة، لا أن تطلق خيوط السرد وكأنها خاضعة إلى عملية تراتيبية لابد من أن تأخذ المتوفاة دورها في حادثة الدفن كخصيصة ﻻ تحدث من وراءها سوى التفاتات وحركات إيمائية ﻻ يشوبها أدنى درجة من الدﻻﻻت القيمة.

- تعليق القراءة:

أقول أن قصة (العودة) لمهدي عيسى الصقر من النصوص القصصية التي ﻻ تكتمل دون القدح المدلولي الأخير من المضمون السردي، لذا فهي قصة قصيرة ربما تتحلى بالضربة الختامية فنيا وجماليا عندما يشاهد الشخصية قدوم تلك القطة متسللة من تحت قوائم الأرائك والكراسي لتستقرقرب ساقيه: (رأها تمر من بين أرجل الكراسي وسيقان الرجال، فأضاء وجهه، راقبها تدنو، وحيث دخلت تحت كرسيه، خفق قلبه، جلست هي على العشب هادئة، بعد لحظات شعر بها تحك جسدها بساقه. / ص١٥النص) ما هو مثير للجدل والافتراض في نهاية حكاية قصة مهدي عيسى الصقر، هو ذلك الإحتمال بأن تكون روح زوجته قد حلت في جسد هذه القطة ومن المحتمل أن تكون محض قطة قد تألفت مع الرجل في ظروف مناسبة، انطلاقاً من تلك المزحة التي تحدثت عنها الزوجة لزوجها قبل موتها، في كونها تتمنى أن تعود روحها داخل جسد قطة تتشهى لذاتها دعك فراء جسدها بساقه. وما حدث في الأحداث الواقعة كان مجاﻻ توكيدا دﻻليا يعزز تقانة (الفضاء الاستعادي) الذي أختاره الزوج ليكون الاسترجاع أنيسا بصحبة ذكرى زوجته التي اختارت أن تكون أكثر مرونة وصدقية عبر أفق حلولها الروحي في مواطن أكثر تمثيلا بفروض الوهم والتوهم.

***

حيدر عبد الرضا

رؤى الذات في قلب الموج

النصّ:

إني هنا وهناك كما عهدتني

أيها الموج اللطيف

يا من اقتنيت ألمي وجعلته فرحاً

حين كان الضباب يخيمُ في وحدتي...

لتحميكَ كلماتي ويرافقك دعائي

فأنا كنتُ قد افتقدت نفسي لكن الوجل من غدي أشار إلى دُنياك

وعندما لاحت رؤاك لي وجدتني هناكَ في رِحابكَ أتجول...

استمتع بكل وقتي وأستثير الفرح كي لا يغادرني

فلم أعدْ أحتملُ الأحلام بعد أن تحققت الرؤية......

القراءة:

نص الشاعرة هناء مرشد يعكس تجربة إنسانية غنية ومتعددة الأبعاد، حيث تتداخل الذات مع العالم المحيط بها وتستحضر موضوعات العزلة، البحث عن الذات، والتحول النفسي. يظهر هذا النص على أنه شهادة حيّة عن رحلة روحية ونفسية مليئة بالتأملات الوجودية. من خلال استخدام الشاعرة لأساليب لغوية متقدمة ورمزية معقدة، يتم بناء النص كفضاء معبر عن العلاقة الملتبسة بين الذات والعالم، بين الماضي والحاضر، بين الألم والفرح.

1. البنية اللغوية والتركيب الأسلوبي:

النص يبدأ بعبارة /إني هنا وهناك كما عهدتني/، وهو مدخل أسلوبي يعكس التوتر والتداخل بين الحضور والغياب. /هنا وهناك/ ليست مجرد تعبيرات مكانية، بل تشير إلى حالة وجودية بين الحاضر والماضي، بين الاستقرار والاضطراب. الكلمة /عهدتني/ تحمل دلالة تذكّر، وتستدعي في ذهن المتلقي فكرة العلاقة المستمرة بين الذات والعالم الخارجي. هنا، الشاعرة توظف الزمن والمكان ليظهر هذا التنقل الروحي والنفسي الذي تعيشه.

التركيب اللغوي في النص بسيط ظاهريًا ولكنه مكثف في دلالاته. فالتكرار الممزوج بالأسئلة الاستفهامية والتوصيفات الرمزية يخلق طبقات من المعنى. على سبيل المثال، في الجملة /لتحميك كلماتي ويرافقك دعائي/، نجد أن الأفعال /تحمي/ و/يرافق/ تعبر عن العلاقة الحميمية بين الشاعرة والموجه إليه (أو الموضوع الشعري)، حيث تستخدم الشاعرة اللغة كوسيلة للحماية والتعبير العاطفي. هذا التوظيف الفاعل للغة يشير إلى قوة الكلمات كأدوات تأثيرية في بناء العواطف.

2. الرمزية والمجاز:

تستند القصيدة بشكل رئيسي إلى الرمزية التي تعمل على تحويل الأشياء الملموسة إلى معانٍ غير مرئية، مما يتيح للشاعرة التعبير عن مشاعر غير قابلة للتوضيح المباشر. /الموج اللطيف/ هو أول رمز يقدمه النص، إذ يعكس الأثر العاطفي الذي تتركه اللحظات الموجعة عندما تمر بحالة من الهدوء الظاهر. الموج يرمز إلى الحركة والاضطراب، بينما اللطف يضيف عنصرًا من السكينة، ما يعكس التناقض بين الهدوء الخارجي والاضطراب الداخلي.

أما /الضباب/ الذي يخيم على وحدتها، فهو يشير إلى حالة من الغموض الفكري والنفسي، وهو ليس مجرد حجب للرؤية البصرية، بل هو أيضًا حجب معنوي. الضباب يُحتَمل أن يكون مرحلة من الضياع أو البحث في الظلمات، ومن ثم يصبح الفهم وتحقق الرؤية بمثابة لحظة النور التي تطرد هذا الضباب، وهو ما نراه في قول الشاعرة /"عندما لاحت رؤاك لي/. هنا تتلاقى الرمزية البصرية مع الرمزية الوجدانية، حيث أن الضباب ليس مجرد حالة خارجية، بل يمثل حالة شعورية أيضًا، وهي حالة الارتباك والقلق التي تتصاعد في داخل الذات وتبحث عن وضوح.

3. التحولات النفسية: من الضباب إلى النور:

القصيدة تنتقل عبر تحولات نفسية معبرة عن رحلة الشاعرة بين التشتت الداخلي والوصول إلى الاستقرار. بدايةً من /الضباب/ الذي يخيم في وحدتها، إلى ظهور /الرؤى/ التي تجعل الشاعرة تجد نفسها في /رِحابك/ كما تقول. يمكن تفسير هذه النقلة بأنها تشير إلى نمو نفسي من حالة الانغلاق إلى حالة الانفتاح. الضباب يمثل العزلة والتمزق الداخلي، بينما الرؤى تمثل وضوح الفكر والنضج النفسي الذي تحققه الشاعرة.

في هذه اللحظة، تتحقق رؤية الشاعرة الذاتية في حضور الآخر أو العالم الذي تجتمع فيه الذات مع غيرها، وتكتشف بعدها أنها كانت /تبحث عن نفسها فيك/. هذا التحول النفسي يعكس عملية تكامل أو تحول داخلي يجعل الذات تلتقي مع نفسها من خلال الآخر. وعليه، فإن الشاعرة في هذه القصيدة لا تكتفي بتوصيف معاناتها أو ألمها، بل تكتب عن تحولها الشخصي والعاطفي نحو وضوح داخلي، حيث الرؤية تصبح بمثابة التحرر من الضباب.

4. العلاقة بين الذات والعالم: الحضور والغياب:

القصيدة تعكس علاقة شديدة التعقيد بين الذات والعالم، بين الحضور الذي لا يكتمل والغياب الذي لا يتلاشى. الشاعرة تبدأ بملاحظة وجودها /هنا وهناك/، وهو تناقض يعكس بُعدًا نفسيًا فلسفيًا؛ الذات لا تحدد مكانها في زمان معين، وإنما هي حالة بين الوجود والعدم، في حالة من التذبذب المستمر بين الحضور والغياب. هذا التذبذب ينعكس في الصور الرمزية، مثل الموج الذي يعبر عن الاضطراب النفسي والضباب الذي يرمز إلى التشويش الداخلي.

وفي النهاية، يظهر هذا الصراع بين الحضور والغياب بشكل عميق، حيث تقول الشاعرة في النهاية /لم أعدْ أحتملُ الأحلام بعد أن تحققت الرؤية/. هنا، يتضح أن الحلم كان يشكل عالمًا متخيلًا بينما الرؤية تمثل الوضوح الواقعي. الرؤية تأتي بعد مرحلة من الضياع والانتظار، حيث أصبحت /الأحلام/ غير قابلة للتحقق بعد أن تحقق الفهم. وبالتالي، تنتقل الذات من حالة من الحلم إلى حالة من الإدراك الكامل.

5. التقنيات الشعرية: التكثيف والإيقاع:

الشاعرة تستخدم التكثيف اللغوي بطريقة متميزة، فكل كلمة تحمل حمولة معنوية كبيرة. الكلمات التي تختارها، مثل /ألم/، /فرح/، /ضباب/، /رؤى/، /"دعاء/، تساهم في خلق عالم شعري كثيف لا يعبر عن الواقع بشكل مباشر، بل يدع القارئ يغوص في معاني متعددة.

كما أن التكرار في النصّ يأتي لخدمة البنية النفسية والتراكم العاطفي للشاعرة. على سبيل المثال، التكرار في العبارات مثل /أنا هنا وهناك/ و/رؤاك لي/ و/استمتع/" لا يقتصر على التعبير عن المعنى فحسب، بل يعزز الشعور بالعودة إلى الذات والمكان في مرحلة زمنية معينة.

6. خاتمة: النص كرحلة وجدانية:

القصيدة تمثل رحلة وجدانية شاملة، تتنقل فيها الشاعرة بين الأبعاد النفسية، الروحية، والفلسفية. إنها رحلة من التشويش إلى الوضوح، من الوحدة إلى النور، ومن الحلم إلى الحقيقة. النصّ يدمج بين الأسلوب البسيط والرمزية العميقة، مما يجعله نصًا يتطلب قراءة دقيقة وتمعنًا طويلًا. كل صورة، كل كلمة، تحمل بعدًا وجدانيًا ووجوديًا يعكس التحولات الدقيقة في مشاعر الشاعرة.

النصّ في مجمله ليس فقط تعبيرًا عن تجربة شخصية، بل هو انعكاس للتجربة الإنسانية بشكل عام، حيث يواجه الفرد التوترات النفسية ويتطلع إلى الرؤية الكاملة لفهم ذاته والعالم من حوله.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق.

بين الغربة والذكريات.. رحلة في الزمن بدون تصريح مرور

قراءة تحليلية فلسفية في قصيدة: تصريح مرور- للشاعرة: اعتماد الفراتي – العراق.

***

قصيدة /تصريح مرور/ للشاعرة اعتماد الفراتي تعكس عمقاً فلسفياً معقداً يرتكز على مواضيع الذاكرة، الزمن، والغربة، ويمزج بين الأبعاد الحسية والوجدانية للوجود الإنساني. القصيدة، التي تنبض بالحزن والتساؤل الوجودي، تستدعي فينا تأملات حول معاني الحياة والموت، الحضور والغيب، وتفتح أمامنا بابًا لقراءتها كحالة نفسية تسير في حركة دائرية لا نهائية.

1. الذاكرة والزمن:

في البداية، تذكر الشاعرة /أذكر مرة/، وهي كلمة تفتح باب الحنين والتذكر، مما يعكس حضور الماضي في الحاضر. هذا التذكر يشكل نقطة انطلاق للقصيدة حيث يتداخل الماضي مع الحاضر ويصبح الزمن غير خطي، بل حلقة متشابكة من الذكريات واللحظات التي تتداخل وتغمر الحاضر. صورة /جدل ضفائر الليل/ تلمح إلى محاولة الشاعرة نسج وترويض الزمن، لكن /غفوتي سبقتني/، أي أن الذاكرة أو الحلم أخذ منها السبق، فالغفوة تسبق الوعي وتفتح أمامها مسارًا آخر مليئًا بالتجليات.

2. الوجود الداخلي والصراع النفسي:

الشاعرة تتحدث عن /ضجيج داخلي/ و/دانان الصمت/، وهو تعبير يعكس التناقضات الداخلية التي يواجهها الإنسان في صراعه مع ذاته. الضجيج الذي يشير إلى الاضطراب الداخلي يتلاقى مع الصمت الذي يرمز إلى العزلة أو العجز عن التعبير عن هذا الاضطراب. هذه الثنائية بين الضجيج والصمت هي انعكاس للصراع النفسي الذي لا يجد طريقه إلى الخارج، مما يزيد من شعور الشاعرة بالعزلة وعدم القدرة على التواصل مع الآخر أو مع نفسها بشكل كامل.

3. الغربة والبحث عن الذات:

الغربة هي السمة المركزية في القصيدة، حيث تشير إلى /غربة تتشكل زوارقَ ورقية/ تتنقل بعيدًا، متجهة إلى /نهاية الحلم/. هذه الصورة الشعرية تعكس حالة من الانفصال، ليس فقط عن المكان أو الوطن، بل أيضًا عن الذات والآخرين. الغربة تصبح بمثابة الرحلة المستمرة التي لا تنتهي، وكأن الشاعرة تبحث عن شيء غير محدد، شيء يعجز الحلم عن الوصول إليه أو تفسيره.

كذلك، نجد في الصورة الشعرية لـ/دمعة خابية/ و/تمطر ضاحكة باكية/ إشارة إلى التمزق الداخلي بين المشاعر المتناقضة: الضحك والبكاء، الفرح والحزن، الوجود والغياب. هذه الثنائية تعكس فوضى الوجود الإنساني، حيث لا يمكن للإنسان أن يحدد تمامًا مشاعره أو كيف يتعامل معها في ظل هذا التشتت الداخلي.

4. الرمزية والتشابك بين الحلم والواقع:

القصيدة تشير بشكل دائم إلى الحلم كوسيلة لفهم الذات والوجود: /أتهاوى حولي غربة تتشكل زوارقَ ورقية/ و/حتى نهاية الحلم/. الحلم يصبح مساحة للبحث عن إجابات أو للتعبير عن رغبات داخلية لا يمكن للمجتمع أو الواقع المادي أن يمنحها تصاريح مرور. هذه الرمزية الحلمية تتداخل مع الواقع في صورة الفراق والتفكك، حيث /لمحتها أمامي ترحل.. تمضي/، وهي لحظة من الفقدان الذي لا يعود أبدًا. الرحيل هنا ليس مجرد فراق مادي، بل هو فراق معنوي بين الذات وما يمكن أن يكون /مسموحًا/ أو /ممكنًا/ في هذا العالم.

5. اللامعقول والبحث عن /تصريح مرور/:

عنوان القصيدة /تصريح مرور/ هو نفسه لغز فلسفي. ففي عالم يهيمن عليه النظام والمواصفات المقررة، تصبح فكرة /تصريح المرور/ بمثابة مبحث عن إذن أو حق للوصول إلى مرحلة ما في الحياة. الشاعرة، في سعيها للفهم أو للوجود، لا تجد /تصريح مرور/، مما يعكس فكرة اللامعقول أو العبثية التي تميز الوجود الإنساني. إنها محاولة للعبور إلى مكان غير محدد، والتجربة تتم في ظل عدم وجود قواعد واضحة أو شروط.

6. الخاتمة:

قصيدة /تصريح مرور/ هي تأمل فلسفي في الأبعاد النفسية والوجودية للإنسان. من خلال لغة رمزية غنية وصور شعرية معقدة، تعرض الشاعرة معركة الفرد الداخلية مع الزمن، الغربة، والذاكرة، وتنفتح على تساؤلات فلسفية حول الحياة والموت، الحلم والواقع. الشاعرة تتساءل عما إذا كان هناك من /تصريح مرور/ أو إذن للوصول إلى السلام الداخلي أو الفهم الحقيقي، إلا أن النهاية تظل مفتوحة، حيث ترحل الذات وتبقى الأسئلة معلقة في الفراغ.

***

بقلم: كريم عبدالله – العراق

............................

تصريح مرور

أذكر مرة. وأنا أجدل ضفائر الليل سبقتني غفوتي لنجمة يقظة منحت ذاكرتي، تصريح مرور بحجم غيمة تبحر برفقة ظلي عبر العشب الأبيض تسكبُ ضجيج داخلي بدنان الصمت تنأى عني تفتش عن طيف شارد اثقلت اهدابه دمعة خابية على وجهي تمطر ضاحكة باكية عبر أخيلتي ضللتُني كنداء بعيد تركتُني وحيدة مبتلة أتهاوى حولي غربة تتشكل زوارقَ ورقية تبعدُ. تبعدُ حتى نهاية الحُلم لمحتها أمامي ترحل.. تمضي. دون تصريح مرور.

***

اعتماد الفراتي

 

دراسة في رواية (الشبيه) لجوزيه ساراماغو، الفصل الثالث  - المبحث (3)

***

توطئة: ان بالإمكان محاولة إعطاء صورة موضوعية في رؤية مسار الأشياء والعناصر في العلاقات السردية من حدود ذلك الجانب الذي يقدم الشخصية وكأنها رؤية من عوامل رؤية تقودنا نحو مقاصد سايكولوجية معينة، وليس بالضرورة أن تكون تلك النقطة التوصيلية من التبئير إلا رؤية مفرطة في عوالمها التخييلية وهويتها الانشطارية في الأحوال الزمنية والمكانية والنفسانية. فمثلا حاول جوزيه ساراماغوا من خلال شخصية أفونسو كوضعية تؤلف مع حالها إزاء ذلك الشبيه في شريط الفيديو إذ خلق حالة من الإشكالية في العلاقة بين (المرئي - اللامرئي - الواقع -اللاواقع) وبناء على ذلك نعاين أفعال الشخصية أفونسو مع هذه القرائينية كما لو أنها مفارقة وضعية أوجه خلفية من أداة العلامة وخوض الصراع مع عاملية الفاعل في ذاته. وما أهدف إليه هنا، هو محاولة تبين زمن التلفظ وزمن الملفوظ داخل حدود (زمن السردي - زمن المروي) مع الإشارة بأن حقيقة حدود الأشياء تستغرق مساحة زمنين: الزمن الذي تستغرقه الشخصية مع حاﻻته بمدى تقارب ذلك الشبيه منه شكلا، والزمن المروى الذي هو بمثابة التقديم لإمكانية المسآلة والإفصاح من الشخصية ذاتها مع تحولات تعارض كلي بين الحكي الظاهر وطبيعة العنصر الفاعلي بوصفه حكيا في ذاته كعاملية متلفظة في مواطن الملفوظ التعادلي بمعنى أكثر دقة في كيفية تمييز (الزمن المتحول ؟)للقراءة الفعلية وسوف أحاول في المباحث الفرعية شرح ومقاربة المستويات عبر فحص موضوعي للأسباب والعلل في توزيع زمن الأفعال السردية والمروية بين الزمنين المعنيين.

- جدلية النسخ الآدمي وانقضاءات زمن الانموذج الواحد

تتضامن الفواعل والمحيلات السردية في مسار تشاكل الوحدات المحورية من الفصول الأولى من الرواية نحو مشخصات تشتغل في بنية علاقة الشخصية أفونسو حول إشكالية ذلك التقارب أو بالأحرى النسخ من صورته في هيئة ذلك الممثل في شريط الفيديو، رغم تباعد بعض الفوارق العمرية بينه وبين ذلك الموظف في شريط الفلم. وتتحكم في نوازع محور أفونسو تلك الأثباتات التالية في كون ذلك الموظف ما هو إلا ذاته قبل بضع سنوات خلت، ولكن لو حاولنا اختزال ذلك الزمن الاحتفاظي في ذاكرة أفونسو، لوجدنا أن الشخصية ﻻ تبذل أدنى مجهودا في استرجاع بعض ذكرياته القديمة ولو على مضض من قابليته الاستعادية: (هو صورته طبق الأصل، بحكم الوجه والمظهر عموما. بعد مقارنة متأنية لصورته قبل خمس سنوات مع الصورة المكبرة لموظف الاستقبال، بعد أن لم يجد أي فرق بين هاته وتلك./ص٢٩ الرواية) هكذا تخضع كل ملموسات التطابق ما بين الصورتين إلى الاحساس والميل والنزوع والمزاج بأولوية الأخرى على الثانية في هيئة تفاعلية تعطي للظرف الزمني مشروعية البحث في الذاكرة الفردية عن جدوى كل هذه الملازمة في التشابه والشبه.

١- الذاكرة وتبلور انطباعات النسيان:

مما ﻻ شك فيه أن الذاكرة ﻻ تطفو على سطح إلا في سياق اللحظة المعيشية آنيا، وإنها تختلف حسب الظرفية المناسبة التي تلفظتها داﻻ، فالذكرى في شبه حالة الشخصية أفونسو عبارة عن متعلقات ماضية يصعب عليه استذكارها في حدود ذاكرة محدودة في سمة من السمات. وما يميز حالة وقوع الشبه بين أفونسو وذلك الممثل في شريط الفلم هو الوقوع في ذاكرة مرتبطة باللاوعي، تعارضا بين الوعي وعملية التذكر في شروطها الاسبابية المثبتة في نوع من العلاقة بين الإدراك والمادة في حدود وقوعية راسخة: (ترك أفونسو نفسه يسقط على الأريكة، وليس الكرسي - كابد لينظم أفكاره. يفكها من فوضى الأحساسيس المتراكمة منذ تلك اللحظة التي قامت فيها ذاكرته - إن أكثر ما يحيرني، كان يفكر بعناء، ليس أن هذا الرجل يشبهني، أنه نسخة مني، أو لنقل نسخة ثانية مني. /ص٢٩) لعل مواقع وفرضيات الذاكرة أو اللاذاكرة تلعب دورا لافتا في سيرة أحداث الشخصية أفونسو وتجدر الاشارة بنا على مستوى ومستويات من التعالق في الانتاج الجيناتي الذي جعل من الشخصية أفونسو وذلك الشبيه في الفديو يقعان داخل امتداد مداري في الصورة والإطار والافتراض، وخاصة ما يتصل بالمقصديات الذاكراتية تحديدا، فهناك حاﻻت من تعطيل الذاكرة لدى أفونسو ومعنى لك وجود الترابط بالخلل المرتبط بالذاكرة الإجرائية للبنية الأولية للدﻻلة بعلاقة المؤول التعريفي.

٢- التناظر الإمكاني وعواقب الإلتباس الجيني:

لربما القارىء دائما هو عرضة إلى فخاخ (الارتباك المؤشري) ولربما هو أيضاً أكثر توترا في فحص اختلافات المعدﻻت الموضوعية والزمنية والنفسانية المبثوثة في حدود مقاربة مواقف النص وتراتيبية المعنى الطردي. يعد المؤشر الكمي في وحدات القيمة المشهدية في تفاصيل مسار التخييل في رواية (الشبيه) عاملا طرديا ذا إمكانية تشيع التفاصيل في روح المعالجة بوظائف زمن الحكي، لذا فأوجه الأهمية بالمظهر الطردي هو الملاءمة والبحث في خيارات وسائط السرد. لعل من المهم على أقل افتراض، هو مقارنة الشخصية أفونسو في الاختلافات المشتغلة في حدود دﻻﻻت (الزمن التمثيلي ؟) بمعنى ما راح الشخصية يحث التباينات التوقعية أو التخييلية في مسار انتقاءات تتركز بوسائط طردية تسعى إلى أن تكون محض ممارسة في المقصود الامتدادي أو الغرض اللافعلي في تكهنات متفاوتة في الدليل والمدلول: (بل هي مجرد ضرفية، أن تغييرا عرضيا في إطار جيني معين يمكن أن ينتج عنه كائن مشابه لكائن ناتج عن إطار حيني آخر من دون أن تكون له أي علاقة به، ان ما يحيرني ليس هذا الأمر بقدر ما يحيرني أن أعلم أنني قبل خمس سنوات كنت نظيره وقتئذ، بل كان لنا شارب معا، بل هناك أيضا إمكانية، ماذا أقول، احتمال إنه بعد مرور خمس  سنوات،أي اليوم، في هذه الساعة تحديدا، في هذه الساعة من الفجر، ما زال التناظر مستمرا، كما لو أن تغييرا في ذاتي كان عليه أن يحدث تغييرا في ذاته./ ص٣٠الرواية) وما يدنو زمن الشخصية أفونسو من زمن ذلك المتناظر تشبيهاو تمثيليا به، هو العامل المفترض في التصور والطبيعة التناسبية، بل والطريقة في إحصاء قيمة الزمن الصاعد ما بين الاثنين، وصوﻻ إلى معدلات النظر في الكيفية الديمومية والتكوينية اللتان يترتب عليهما إحساس الشخصية في البدء والتلازم والمنتهى. غالبا ما تكون الذاكرة شديدة المكر والخداع وتنصب للذات العاملة المزيد من الشراك والاحابيل، وهذا الحكم القيمي منا يلفت انتباهنا إلى مكامن اللحظة المشوشة في ذاكرة الشخصية وهي تمارس ضروبا شتى في كشف وتعليق تلك الخيوط الواهنة من حبك الذاكرة الزمنية، ولعلنا نعاين في الوقت نفسه بأن وظيفة السارد العليم تلتزم بمنظور الشخصية - أفونسو - ووصولها الداخلي إلى أقصى نقطة مبئرة من مكون الإنفعال والرؤية إلى الأمر بطريقة الدخول في طبيعة السرد الاستعادي الذي تميزت به الرواية، ما راح الأمر من جهة خاصة يسبغ على مواطن أحداث الشخصية ذلك النوع من وظيفة أدماج السارد العليم في رقعة الشخصيتين ومأساتهما في السبب والنتيجة المبثوثة في حركة موضوعة الرؤية الذاتية للذاكرة المبأرة بملامح الإحساس من وجهة نظر احادية الوسط والأثر والجوهر.

٣- معادلة الشبيه وشيفراتها الحوارية المبطنة:

تتضح في المتواليات الصعودية من عقدة الشخصية أفونسو بأن هناك حلقات مفقودة في سلسلة مصادقات هذا الشبيه الظهورية: فإذا كان الأمر محض ممارسة فرجة على واحد من أشد الافلام هبوطا في قيمته المدلولية، فلماذا كانت كل هذه الضرورة الملحة التي بادره بها صديقه مدرس الرياضيات بضرورة التفرج عليه ؟ فهل من الممكن أن هذا الأخير يبدو أنه لاحظ مقدار الشبه بين الممثل في شريط الفيديو وزميله مدرس التاريخ فأراد بهذه المبادرة أن ينبه صديقه في كونه هو ذاته موظف الاستقبال في شريط الفلم مثالا؟.

- تعليق القراءة:

لعل هناك الكثير من الصدف والمصادفات التي تكون مجتمعة لغرض إنشاء حالة تتعدى المافوق واقعي، بل لعلها تتوافق هذه المصادفة مع عملية من الصعب فك أذرع شيفراتها المحتدمة من قبل شخصية مثل أفونسو، هذا الرجل الذي يعتاش على تدريس مادة التاريخ فيما يبتعد بمقدار المجهول عن مشاهدة الأفلام. وتراجع عن دور السينما منذ تواريخ لا تسمح للذاكرة بالتوفيق عند أزمنتها المحالة بطبقات كثيفة من الغبار والنسيان. نجد أن (جوزيه سارماغوا) يحقق في الشبيه - مظهرا بليغا من الشكوك والوقوع في ملتبسات ذلك الشاهد - أي زميله مدرس الرياضات - الذي كان قاصدا وغير مقصودا. بالفعل هناك في مواقع السرد الكثير من المشاهد وتداخل المونولوج مع النفس من خلال البعد الشخوصي واللعب الزمني وتقاطعات الكشف واللامكشوف، حيث يتجلى لنا المتخيل الروائي زمنيا وكأنه جملة من صراعات مصدرها تأملات ووساوس الشخصية أفونسو أحول ذلك الشبيه في زمن الشريط الفلمي الذي ﻻ يتجاوز زمنه عدة دقائق تاركاً في الشخصية سمات موحشة من أزمنة التذكر والإسقاط الافتراضي حول مبررات مقصودية ذلك الشبيه الكامن بين العلاقة الإطارية والرؤية السردية ونوازع وقلق عاملية الفاعل الشخوصي المأزوم ضمنا وعلنا.

***

حيدر عبد الرضا

تفكيك آلية اختيار الروح بين الأضداد

قراءة سيميائية في قصيدة: صراع الجبارين – للشاعرة: صوفيا سعيد – المغرب.

***

توطئة:

الرمزية المزدوجة لصراع العقل والقلب: تفكيك آلية اختيار الروح بين الأضداد. هذا العنوان يعكس الصراع الدائم بين العقل والقلب الذي تتناوله القصيدة كأمر رمزي يعكس صراعًا داخليًا في الذات الإنسانية. كما يُظهر العلاقة بين العناصر الرمزية (العقل، القلب، النفس) كأطراف متناقضة تتصارع على قيادة الروح، وهو ما يفتح المجال لتفسير سيميائي يتعلق بكيفية تشكيل المعنى داخل هذا التوتر بين العواطف والأفكار.

مقدمة

القصيدة / صراع الجبارين / للشاعرة صوفيا سعيد تقدم صورة رمزية معقدة لصراع داخلي بين العقل والقلب، حيث تمثل هذه الثنائية الأبدية صراع الإنسان مع ذاته. تستخدم الشاعرة في قصيدتها صورًا بلاغية مؤثرة وأسلوبًا رمزيًا مكثفًا لتمثل هذا الصراع الذي يتجاوز مجرد التنازع بين عقل وقلب، ليشكل معركة نفسية وروحية أعمق بين القيم العقلانية والعاطفية، وبين الأمان والتضحية.

الرمزية السيميائية: العقل مقابل القلب

من خلال التفاعل بين الشخصيات الثلاثة في القصيدة (المرأة، العقل، والقلب)، يظهر الصراع كصراع بين أطراف متضادة، حيث يسعى كل من /العقل/ و/القلب/ لإقناع /الملكة/ (المرأة) باتباع طريقه. الشاعرة تصف هذا التنافس بأنه /صراع الجبارين/، مما يعكس حجم الصراع الداخلي بين العقلانية والعاطفة على عرش الروح الإنسانية.

العقل: يُصوَّر العقل في القصيدة كـ /ملك الأفكار/، أي أنه يحمل القوة المنطقية والتحليلية. يتمحور دوره حول تقديم /الحلول/ التي تُمثل الأمان والاستقرار. العقل يقدم الحقيقة الملموسة والمفاهيم المدروسة، وهو مرشد يرشد المرأة نحو /مفاتيح الأمان/.

القلب: بينما يواجه العقل، يأتي القلب ليقدم نفسه كـ /ملك المشاعر/، مروجًا للأحاسيس والعواطف التي تغمر الروح البشرية. قلب المرأة هو نبضها، سرها، وأملها في الحياة. أما شِعار القلب في القصيدة فهو الإيمان بأن /لا حياة بلا حب/. تتكشف أهمية هذه الرمزية في ربط القلب بحالة أمل وطموح يعكرها /الأوهام/ التي قد تقود إلى الارتباك في اختيار الطريق الصحيح.

الصراع الرمزي: بين الجنة والنار

الشاعرة تُظهر الصراع بين العقل والقلب كمسار بين /الجنة والنار/. هذا التوصيف يشير إلى أن كل خيار يحمل معه تبعاته: العقل، بوصفه مصدر الأمان، يضع في يد المرأة مفاتيح الحياة الواقعية والتوازن، بينما القلب يضلها إلى الأوهام ويغويها بحلم الحب والسلام، رغم أن هذا الحلم قد يتسبب في الألم أو الضياع.

يُقدم الصراع هنا كتحدٍ ميتافيزيقي؛ فالمرأة لا تختار بين شخصين أو مكانين بل بين /أفكار/ و/مشاعر/ تتداخل في روحها. وهذا يعكس الصراع الأزلي بين العقلانية التي تبحث عن الحقيقة المادية، والعاطفة التي تؤمن بالقيم غير الملموسة مثل الحب والحرية.

التناغم بين العقل والقلب: التفاعل النهائي

عند نهاية القصيدة، تترك الشاعرة جملة مفتاحية تعكس الحل السيميائي للصراع: /القيادة لا تأتي من المجادلة بين القلب والعقل، بل تأتي من التناغم بين النبضات التي تملأ الروح بأمل/. هذا التحول من التنافس إلى التناغم يعكس فلسفة الشاعرة التي تُدرك أن الحل لا يكمن في الانتصار الكامل لطرف على الآخر، بل في التوازن والتكامل بينهما. هذا التوازن هو ما يمنح المرأة (الروح) القدرة على اتخاذ القرار الصحيح والقيادة الذاتية، التي لا تعني فقط النجاح بل الإدراك الداخلي العميق لمكانتها وقيمتها.

الرمزية السيميائية للأدوات اللفظية

الشاعرة توظف أدوات لغوية تجسد هذه الصراع بفعالية:

/دموع من ذهب/: هذه العبارة تعكس التوتر بين المادي والرمزي، بين الفقدان والعاطفة التي تحمل في طياتها قيمة ثمينة رغم آلامها.

/كل ما تبحثين عنه في الخفاء/: هي دعوة للبحث الداخلي عن الحلول، وتعكس حاجة العقل إلى اكتشاف الحقائق المخبأة داخل الذات.

/طريق ضلّ/ و/فقد الأمل/: في هذه الجمل، يتم تقديم فكرة /الضلال/ على أنها جزء من تجربة الإنسان في محاولة إيجاد التوازن بين عقله وقلبه، حيث يُعبر عن حالة من الارتباك أو البحث عن المعنى.

الخاتمة

في قصيدة /صراع الجبارين/، تقدم الشاعرة صوفيا سعيد صورة سيميائية غنية لعملية الاختيار الداخلي بين العقل والقلب. من خلال الرمزية المتقنة، تضع القصيدة القارئ أمام صراع أعمق من مجرد مواجهة بين طرفين؛ إنه صراع بين العقلاني والعاطفي في الإنسان، بين الأمان والمجازفة، بين الحقيقة والوهم. لكن النهاية تفتح المجال لتفسير آخر، حيث تُظهر أن حل هذا الصراع يكمن في التناغم بين هذين الجانبين، مما يسمح للروح بالاستقرار في رحلة الحياة.

***

بقلم: كريم عبدالله – العراق.

.............................

صراع الجبارين

على عرشها، جلستْ، ملكةٌ تَحكمُ الزمانَ والمكانْ

أفواهٌ تهمسُ، والأعين تراقبُ، ليتقاسموا فكرَها في الحالْ

"أنتِ... أنتِ" يناديان، بدموعٍ من ذهب، من شَوقٍ واهتمامْ

لكنَّ كلاهما يعرفُ أنها ليستْ مجردَ امرأةٍ، بل أسرارٌ وعواطفٌ تُشعلُ العقلَ في العيون الحالمه، وتثيرُ القلبَ في الوجدانْ.

أحدُهم يلوحُ بالعقلِ، تارهً تُغمضُ عيونَها لتسمعَ الحقائق،

يقول: "أنا ملكُ الأفكارِ... فيَّ كلُّ الحُلولِ، كلُّ ما تبحثين عنهِ في الخفاء."

أما الآخرُ فيعلنُ نفسهُ ملكَ المشاعرِ، ويهمسُ: "أنا قلبُكِ، نبضُكِ، سرُّكِ المكتومُ، لا حياةَ بلا حبّ."

هكذا، يصبحُ الصراعُ أكثرَ مرارةً، كأنَّهما فتيانٍ يقدمانِ الوعودَ، في معركةٍ حولَ لحنٍ لا يُسمعُ إلا في السكون.

وفي كلِّ خطوةٍ، تتمايلُ هي بينَ الجنةِ والنارِ،

بينَ صوتِ العقلِ الذي يضعُ في يدِها مفاتيحَ الأمان،

وقلبٍ لا يعرفُ إلا أن يهيمَ في الأملِ، طارحًا أمامها الأوهامَ،

لكنَّ هذا الصراعَ... لَمْ يكن في الحقيقةِ إلا معركةً بينَ العقلِ، والقلبِ، والنفسِ.

أفواجٌ من الكلماتِ تلاطمتْ حولَ شواطئِ روحِها،

لكنَّ ما اختارهُ هو الذي يليقُ بروحٍ تبحثُ عن السلامِ،

فإلى أيٍّ يذهبُ العقلُ إذا ما ضلَّ الطريقَ؟

وإلى أيٍّ يسيرُ القلبُ إذا ما فقدَ الأملَ؟

لقد أدركتْ حينها، أنَّ القيادةَ لا تأتي من المجادلةِ بينَ القلبِ والعقلِ،

بل تأتي من التناغمِ بينَ النبضاتِ التي تملأُ الروحَ بأملٍ…

وبذلك، تتفتحُ الحياةُ، ويُبنى العرشُ على قاعدةٍ من الإيمانِ والوعي،

تلكَ هي القيادةُ... بلاءٌ لا يعصفُ إلا بمن أرادَ أن يعقلَ ويفهمَ ما في نفسهِ من إلهام.

بقلم:

صوفيا سعيد – المغرب

المنجز الشعري لمحمد بلخير بين الاستشراق النقدي وأسئلة المنفى الثقافي

عندما كان الأستاذ بوعلام بسائح بصدد جمع وتقديم بعض أشعار الهوى والوغى لشاعر الملحون الجزائري، محمد بلخير المنحدر من مدينة البيض الجزائرية. لم يغب عن ذهنه أبدا أن يستدعي رؤية المستشرق الفرنسي جاك بيرك المولود بمدينة فرندة بنواحي تيهرت خلال الحقبة الاستعمارية، لكتابة تصدير لنصوص محمد بلخير. لعلمه أن هذا المستشرق على معرفة عميقة بالسياق الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي تشكلت فيه نصوص محمد بلخير، في أفق المقاومة الراديكالية للكولونيالية الفرنسية

لقد كانت العلاقة بين كاتب التصدير وهو جاك بيرك والنصوص الشعرية التي جمعها الأستاذ يوعلام بسائح، هي علاقة سوسيولوجي فرنسي ينتمي إلى ذلك الذي كان يسميه المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي بالسوسيولوجيا الكولونيالية مع نصوص من الشعر الملحون تنأى عن الإنصياع للرؤية الاستشراقية.

بينما هي تشكل مادة للدرس السوسيو نقدي في أفقه التاريخي المشحون بذلك اللقاء التاريخي بين الشرق والغرب وبين المركز والهامش / (الهامش اليقظ ) بمفهوم عبد الكبير الخطيبي الذي أنتج هذه النصوص الشعرية الذاهبة ذهابها العميق، لمحو آثار الإقصاء أو (إقصاء اللاحق) بمفهوم إدوارد سعيد أو الحد منه على الأقل.

وهي نصوص قسمها جامع هذه النصوص الأستاذ بوعلام بسائح إلى قسمين:

القسم الأول:

هو المتعلق بنصوص الهوى

فيما القسم الثاني:

فهو نصوص الوغى

النصوص الذي وضع لها الأستاذ بوعلام بسائح استهلالين:

هما أشبه بالخطاب الموازي أو الخطاب المصاحب الذي يشكل عماد فقه العتبات النصية كما تشكلت في المجهود النقدي العتباتي، الذي كرس له جهده ناقد فرنسي من حجم جيرار جينيت ضمن مشروعه النقدي عن (جامع النص أو جامع النصوص)

الاستهلال الأول:

هو للأمام عبد الحميد بن باديس القائل أن " لغة محمد بلخير عربية وشعره صافيا وكفاحه مثاليا "

أما الاستهلال الثاني:

فهو لمستشرق آخر هو إميل دومننغهام الذي لم يتردد في القول في أنه " لا أحد من شعراء هذه المنطقة من الجنوب الوهراني لديه شهرة سيدي بلخير منشد انتفاضة أولاد سيد الشيخ "

مما يعني في النهاية أن هناك علاقة تاريخية ومفهومية بين الاستشراق الفرنسي والأدب الشعبي الجزائري خاصة الشعر الملحون، تستوجب على طلبة وأساتذة الادب الشعبي البحث في هذه العلاقة التاريخية لتفكيك أسئلة النقد الإستشراقي للأدب الشعبي الجزائري واستنباط ما أمكن استنباطه من نتائح نصية أو (إنتاجية نصية) بمفهوم الناقدة الفرنسية البلغارية الأصل جوليا كريستيفا.

وهو مبحث أعتقد أنه لا زال بكرا وغير مطروق وفي حاجة ماسة لجهود بحثية تتطلب منا الإخلاص لها والسير في دروبها بما يعيد الاعتبار لماضي وراهن الشعر الشعبي الجزائري والتعامل معه، بوصفه نصا قرأ من طرف الآخر في لحظة تاريخية مفصلية هي اللحظة الاستعمارية.

وتحتاج هذه القراءة إلى قراءة أخرى هي قراءة الأنا ضمن مشروع نقدي يجمع بين نقد الاستشراق الشعري ونقد نص الأنا مشروع هو أقرب إلى روح (النقد المزدوج) بمفهوم عبد الكبير الخطيبي.

أقول هذا وفي ذهني صورة الشاعر الشعبي أو الشاعر الملحون التي ما زالت تخضع لبعض النمطية الثقافية النمطية التي ترى في الشاعر الشعبي بوصفه شخصا أميا، لسبب بسيط وهو أن الشعر الشعبي مرتبط بالأمية وأن عددا من شعراء الشعبي وليسوا كلهم لا يحسنون الكتابة باللغة العربية الفصحى.

مع أنه هناك في الواقع وفي المشرق العربي على وجه الخصوص الكثير من الباحثين والأكاديميين الذين يجمعون بين الكتابة الشعرية بنوعيها الفصيح والملحون

وأن كتابتهم للشعر الملحون، لم تؤثر بالضرورة على قيمتهم العلمية ومكانتهم الأكاديمية والتراتبيات الاجتماعية التي يحرصون على التمسك بها.

بينما نحن في الجزائر وسائر بلدان المغرب العربي لا زال لدينا الانطباع السائد بأمية الشاعر الشعبي واعتباره قادما من البوادي والفيافي البعيدة.

ويتم في العادة التعامل معه بدونية وانتقاص أشبه ” بالحقرة ”.

والغريب في الأمر أن هذا التعامل الفوقي الاستعلاء يظهر أيضا بجلاء في علاقات بعض المثقفين النخبويين المنتمين إلى ما يسميه محمد عابد الجابري "الثقافة العالمة " مع نظرائهم من الشعراء الشعبيين على صعيد الاستعراض الأكاديمي والاستعلاء الخطابي الفوقي

لقد كان الراوي الشعبي أو الحكواتي الذي يتخذ من الحارات والأسواق الشعبية فضاء له لتمرير رسائله الرمزية لمن يهمه الأمر يمثل دور "المؤرخ الشعبي" الذي يروي التاريخ المغيب والمنسي أو " المسكوت عنه "، من خلال نص الحكاية الشعبية التي يرويها بمهارة في الأداء الفني مقابل " المؤرخ الرسمي " الذي يتبنى الخطاب السياسي الإيديولوجي الرسمي أي خطاب الدولة ويعبر عنه.

هذا ما جعل بعض الروائيين في السنوات الأخيرة يعودون للحكاية والحكاية الشعبية على وجه الخصوص كأحد المتكآت الفنية لقول ما لم تقله رواية الأطروحة الإيديولوجية التي استنزفت كل طاقتها في التعامل مع الواقع العربي وتحولاته المفصلية كمعطى إبداعي تعاملا ميكانيكيا، فوجدت في الحكاية الشعبية ملاذا لها عبر الراوي الشعبي أو "القوال" بوصفه قناعا أو مكونا من المكونات السردية أو الوظائف السردية التي يختبئ وراءها الراوي الفعلي أو يتبادل الأدوار مع عدد من الرواة والساردين بما في ذلك المؤلف نفسه وهو الروائي صاحب العمل الفني.

مثلما نجد أن بعض تجارب المسرح ومنها تجارب كاتب ياسين وعبد القادر علولة والطيب صديقي ومسرح الحلقة لا تتواني هي الأخرى في توظيف أداء الراوي الشعبي أو "القوال" لمخاطبة الشعب باللغة التي يفهمها.

فهل يمكن اعتبار هذا النوع من الرواة هم على درجة كبيرة من الأمية؟.

مع أن هذا الراوي أو "المؤرخ الشعبي" يؤسس في الواقع من خلال مروياته الشعبية بما تنطوي عليه من متعة فنية وأنماط خطابية وقيم رمزية وسياسية لوعي سياسي وثقافي يكاد يكون معدوما لدى الكثير من ممثلي " الثقافة العالمة "، حتى ولو كان لا يحسن الكتابة باللغة العربية الفصحى ولا يحسن التكلم بلغة أكاديمية ولا يحسن أيضا الاستعراض المشوه لبعض الملفوظات النقدية من دون وعي بها أو تمثل لها على صعيد القراءة والاستقبال على الأقل، واجترار المفاهيم النقدية و الاصطلاحية مفصولة عن سياقاتها التاريخية والمعرفية وعن الفضاء الابستيمي الناشئة عنه.

لقد سقت هذا المثال أيها القراء، لأقول لكم بأن تقييم النقد الاستشراقي ممثلا في ما كتبه المستشرق الفرنسي جاك بيرك لبعض نصوص محمد بلخير الشعرية واعتبار الشعر في نظر جاك بيرك هو ذاته في جوهره من امرئ القيس إلى محمد بلخير ينبني ويترابط على أشكال مختلفة ومتقاربة في آن واحد، على الرغم من بعض التحيز الثقافي المضمر الذي ينحاز فيه جاك بيرك للشعر الممثل للثقافة الرسمية أو الثقافة العالمة بمفهوم الجابري التي حملتها رياح الحداثة الغربية إلى الفضاء الثقافي العربي الفضاء الثقاقي بوصفه " سوقا للثروات الرمزية والثقافية " (01) على ما يرى عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو.

التحيز الذي لم يمنعه من التفريق بين نوعين من أنواع البداوة الشعرية كما تتجلى في المنجز الشعري لمحمد بلخير، واضعا فرقا بين البدوي وليد الاقتصاد الرعوي الذي يقتفي حسبه اثر الغيم الحامل للمطر ولكنه يعني أيضا في نظره رجل الحرب واللعب وصديق الفرس الذي يرق ويعطف على الخرفان الحديثة الولادة.

وهو يضع نصب عينيه تشكل الكثير من جماعات الحضر في إفريقيا الشمالية التي تنتشر فيها أشعار منشديهم السحرية كنماذج حية لثمرة التعددية اللغوية واللهجية التي تغذيها حركة الاستشراق الفرنسي لضرب وحدة اللغة العربية عبر ما يسميه بالانقسام اللهجي.

وهنا لا بد من القول بأن القارئ لجاك بيرك الممثل للدرس الاستشراقي في قراءته للمنجز الشعري لمحمد بلخير لا يعدم في بعض الأحيان بعض النزوع النقدي للخطاب التاريخي الكولونيالي في تعامله مع انتفاضة أولاد سيدي الشيخ التي كانت كما يرى " تثقل كواهل التصرفات الفردية والجماعية " (02).

وهذا المستشرق لا يتجاهل بالطبع أن يذكر القارئ بأن العصر الذي عاش فيه شاعرنا هو العصر نفسه الذي كان فيه الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق يضع الشروح لابن عربي في مؤلفه (المواقف).

وهو نموذج كان جاك بيرك يرى بأنه يبين لنا بوضوح كيف تتآلف وتختلف هذه النماذج في ثنايا التاريخ المضطرب للجنوب الغربي الجزائري، عندما استغل الفرنسيون نفوذ بعض النبلاء وهيبتهم لغزو الصحراء والسيطرة عليها مشيرا إلى ذلك النوع من التواطؤ الذي يثير الاستنزاف والغضب الأمر الذي اثار أحد هؤلاء الأجواد ويعني بهم محمد بلخير.

ورغم عدم تكافؤ القوة بين المستعمر والمستعمر فجاك بيرك لا يتردد في استخلاص بعض العبر من التاريخ الأليم، عندما يعمل على تجديد ذاته عبر جدلية التاريخ التي ينبثق منها بناء الإنسان العربي على أنقاض ماضي بلاده الاستعماري القريب.

في عمل هو أشبه بالنقد مابعد الكولونيالي أو النقد الديكولونيالي الذي يمارسه هذه المرة الآخر على ذاته ضمن أفق خاص هو أفق المثاقفة أو المثاقفة بالقوة بوصفها وجها من أوجه المرجعيات المستعارة المرجعيات التي خصص لها ناقدا ثقافيا هو الدكتور عبد الله إبراهيم كتابا مهما هو كتاب (الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة) ضمن لحظة خاصة هي اللحظة الاستعمارية الماثلة داخل الخطاب وخارجه.

الخطاب الذي لا يقول لنا متى ولد محمد بلخير غير أن بوعلام بسائح يعثر باعترافه الشخصي على بعض القصائد المكتوبة بعد انتفاضة سنة 1864 التي تسخر من عساكر العدو وتسخر من النقيب الفرنسي برين دوبيسون الذي كان حينها قائدا لحامية البيض.

ومن هنا جاء افتراض بوعلام بسائح بأنه في سنة 1864 كان محمد بلخير في الثلاثين من عمره.

وليست هذه المرة الأولى التي يسخر فيها محمد بلخير في نصوصه الشعرية من العدو ومن عساكر العدو وغباء العدو برأي بوعلام بسائح.

فقد سبق له أن فعل ذلك عندما تناهى إلى سمعه بأن القائد العسكري لمدينة البيض طلب من قاضي المنطقة المسمى عطالله اصدار فتوى تهدف الى ضرب مصداقية المقاتلين واعتبارهم مجرد خارجين عن القانون، وما أن علم بلخير بمضمون الفتوى كما جاء في مقدمة بوعلام بسائح حتى رد عليه بقصيدة جاء فيها:

الي بغا الجنة يضاد الكافرين

والي يبغي الهنا ابغي التبزان

قولو لعطالله واش كلفك ياحزين

لا تشمت في الي ما لداهم قران

ويستنتج بوعلام بسائح بأن بلخير رسم صورة كاريكاتورية لشخصية القاضي عطالله فقال بأنه عديم التأثير في صفوف المقاتلين وبأنه لا يساوي شيئا عندما اختار الحياة الزائلة

وينبغي أن يكون واضحا بأن هذا النوع من النقد وهو النقد الثقافي الذي نمارسه ونحن نواجه بعض النماذج من المنجز الشعري لمحمد بلخير لا يستكمل غايته ولا يثمر بعض النتائج النصية او (الإنتاجية النصية) بمفهوم الناقدة الفرنسية من أصل بلغاري جوليا كريستيفا مالم تشمل المعاينة النقدية بعض أسئلة المنفى الشعري أو المنفى الثقافي كما حاول شرح دواعيه وملابساته التاريخية والنصية جامع هذه النصوص الشعرية وهو الأستاذ بوعلام بسائح عندما خصص قسما من المقدمة التي كتبها لأشعار الهوى والوغى لمحمد بلخير.

وهذا القسم اطلق عليه اسم (شعر المنفى).

أسئلة المنفى والمنفى الثقافي في شعر محمد بلخير

لا أعتقد بأن إدوارد سعيد كان مخطئا عند ما حاول الربط بين أسئلة المنفى والنقد في الجزء الأول من كتابه (تأملات حول المنفى)، فوضع لهذا الكتاب المهم مدخلا أعطاه عنوان (النقد والمنفى).

فمن أجل تقويم الأدب لابد من الأخذ بعين الاعتبار بأن النص موضوع النقد هو "عمل فردي لكاتب فرد مشتبك في ظروف يسلم بها المجتمع مثل الإقامة والجنسية واللغة والهوية " (03).

وعلى هذا الأساس يطرح إدوارد سعيد السؤال التالي:

" كيف يقرأ النص الإبداعي في شرطه الدنيوي " (04).

والشرط الدنيوي هو الحجر الأساس الذي ينبني عليه التحليل الثقافي لنصوص محمد بلخير المكتوبة في أفق المنفى الثقافي والجغرافي الذي عاشه عندما أجبره المستعمر الفرنسي على النفي إلى قلعة كالفي بكورسيكا بعد ان أفرج عن شقيقه واستقبل من طرف القائد العسكري الفرنسي لمدينة البيض الذي أحاطه بحسب رواية بوعلام بسائح بتقدير واحترام كبير.

وفي رواية أخرى يرويها بوعلام بسائح يقول أنه استقاها من شيوخ عاصروه في الأيام الأخيرة من حياته تقول بأن الضابط الفرنسي قدم له فنجان قهوة وبادره بالقول بأن فرنسا أمه قوية تقر بشجاعة خصومها.

لقد كنت خصما شجاعا إننا نعرض عليك أن تتعاون معنا وستكون من كبار الأعيان معززا بالتشريفات.

وبالطبع رفض بلخير هذا العرض السخي وبعد قليل سأله الضابط قائلا:

لوتتوفر لك الإمكانيات غدا فهل كنت ستقاتل ضدنا..؟

فكان الرد:

نعم سأقاتل ضدكم.

وهي الجملة التي يرى بوعلام بسائح أنها هي التي أدانته فنفي على إثرها إلى قلعة كالفي بكورسيكا كرد عقابي على طبعه الحاد والعنيف في مواجهة القائد العسكري لحامية البيض ليس هذا فقط، فبوعلام بسائح يرى بأن " المنفى في تراب فرنسي على غرار ما حدث للأمير عبد القادر له فائدة البعد الذي قد يؤدي إلى النسيان بمرور الزمن " (05).

وشخصيا لا أرى بأن لأي استعمار كان أخلاقيات حتى ولو تعلق الأمر بأخلاقيات الإقصاء والمنفى على الجواب الصارم والقاسي لمحمد بلخير على سؤال قائد الحامية العسكرية لمدينة البيض.

وهذا المنفى في تصوري لا يختلف كثيرا عن المنفى الذي عرفه الفيلسوف العربي ابن رشد عندما نفي إلى الأسيانة سنة 1195 بعد حادثة تكفيره من قبل فقهاء الظلام في الأندلس والأسيانة كما يقدمها لنا المفكر التونسي فتحي المسكيني نقلا عن مؤرخ عربي كبير هو الإدريسي "مدينة اليهود أو مدينة الملة، وهو مكان به حدود قاسية بين من هو منا وبين من هو ليس منا " (06).

أسوق هذا النوع من المقايسة وفي ذهني ما يشبه الفرق بين الخطرين الخطر الذي يشكله محمد بلخير على الوجود العسكري الفرنسي ليس فقط الخطر النابع من مشاركته العسكرية في التصدي للعدو بالسلاح، وإنما ايضا الخطر الذي تشكله الكلمة والقصيدة التي يكتبها محمد بلخير كنوع من أنواع المقاومة الثقافية التي نذر لها نفسه محمد بلخير منذ أن كتب أول نص شعري في حياته.

المقاومة الثقافية التي تشكل حافزا مهما من حوافز الكتابة النقدية عند ادوارد سعيد بوصفها "الأسلوب الوحيد لتفكيك الترابطات القسرية بين التمثيلات الذهنية للغربي عن الشرقي أو بتعبير آخر تحرير معرفة الغربي من سطوة القوة الاستعمارية " (07)

ثم الخطر الذي شكله ابن رشد على العقل الأوربي بأكمله بوصفه الشارح الأكبر لأرسطو لكون شخصية ابن رشد كما يراها فتحي المسكيني " أكبر من مجرد شارح كبير لأوربا الخارجة من عصرها الوسيط نحو الأزمنة الحديثة فهو الذي تجرأ على أن يفكر في أفق دولة الملة بواسطة العقل البشري كما قرأه في نصوص أرسطو " (08).

وشخصيا لا أعلم بوجود قصائد أخرى غير ما هو مدون في النصوص التي عثر عليها الأستاذ بوعلام بسائح باستثناء قصيدة أخرى نشرها الروائي مصطفى نطور ضمن مواد الكتاب الذي نشر بعد رحيله عن الدنيا ضمن أعماله الكاملة الكتاب الحامل لعنوان (الأعمال الكاملة) وهذه القصيدة تحمل عنوان (يربح من صلاو عليه) (09) ويبدوا مما يحيل إليها العنوان الدال عليها (يربح من صلاو عليه) ومن مضمونها ايضا أنها قصيدة في مدح خير البرية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ولا صلة لها بحالة المنفى أو المنفى الثقافي.

وهي القصيدة الوحيدة التي اختارها مصطفى نطور كنموذج شعري من نماذح كثيرة لشعراء آخرين من ممثلي ما يسمى بالشعر الملحون على غرار ابن مسايب ولخظر بن خلوف وعبد الله بن كريو ومحمد بن سهلة وبن قيطون ومصطفى بن براهيم وسيدي أسعد المنداسي والشيخ عبد القادر الخالدي ومحمد بن طيبة وغيرهم من الشعراء الّذين نشر لهم مصطفى نطور بعض نصوصهم ضمن القسم الأول من كتابه تحت عنوان (نصوص من الشعر الشعبي).

خلافا لماهو منشور، من نصوص المنفى على وجه الخصوص على غرار قصيدة (ياسيدي عار الله) القصيدة التي يقول بوعلام بسائح بأنها نظمت في المنفى وهذا صحيح فهو يعبر فيها بأنه يخشى من الموت في المنفى عندما يقول:

يا سيدي خايف لا نموت في ذا الحبس النصراني

لا طلبة لا تأذين لاصلاة عندو لا تشهادي.

وقصيدة (في كالفي) وهي قصيدة كما يبدوا من عنوانها بوصف العنوان (عتبة نصية) بمفهوم جيرار جينيت أو (ضرورة كتابة) بتعبير محمد فكري الجزار، أنه كتبها في منفاه بجزيرة كورسيكا وهو الأمر الذي يؤكده أيضا بوعلام بسائح في الهامش الذي يضعه لهذه القصيدة.

بالنظر للمجهود البحثي الذي بذله الأستاذ بوعلام بسائح ليس فقط على صعيد جمع هذه القصائد بل أيضا تحقيقها التحقيق العلمي باستخدام منهجية التحقيق المعمول بها في النقد الفيللوجي في ما يعرف بمنهج مقارعة النصوص والتحقق منها، التحقيق الذي قاده صراحة إلى الاعتراف بأن النصوص التي وصلته عن طريق الرواية الشفوية تطلبت منه جمعها أولا واستغرق ذلك سنة كاملة (1951 / 1952).

ثم أربعة فصول صيف متتالية خصصها لهذا البحث.

وسيقودنا هذا المنحى في الكتابة النقدية والتحليل الثقافي النقدي إلى ضرورة الانتباه إلى ذلك المنظور النقدي الذي يدعوا له ناقد مهم هو الناقد الجزائري الدكتور أحمد يوسف عندما يعتقد بأننا سنكون في أمس الحاجة إلى عمل أنطولوجي دؤوب لرسم التضاريس المختلفة لأدب المنفى الذي كتب في المنافي وفي أقبية السجون على امتداد العالم العربي ثم القيام بتحليل حفري لمضامينه العامة وأشكاله التعبيرية المتنوعة، بعد أن تضطلع الدراسات الأنطولوجية بعمليات التوثيق العلمي.

من منطلق أن " المنفى لا يتعلق بأمزجة أفراد فقط بقدر ما يتعلق بأنساق ثقافية تهاجر من مرابعها إلى حواضر جديدة فتتفاعل معها سلبا وإيجابا، وهذا التفاعل هو إكسير أدب المنفى والأوكسجين الذي يتنفس منه الكاتب المنفي " (10).

وهو المنظور الذي كان سيقدم إضافة مهمة " للنصوص الغائبة " بمفهوم كريستيفا أو الضائعة من المتن الشعري لمحمد بلخيرولغيره من الشعراء والكتاب، فمجهود كاتب واحد على أهميته الكبرى ممثلا في شخص الاستاذ بوعلام بسائح لا يكفي.

لكن لا بأس من القول أن الأستاذ بوعلام بسائح وضع أمام القارئ الباحث اللبنة الأولى في التوثيق الثقافي لنصوص مجمد بلخير، وهو المثقف الملتزم بمهام أخرى في السلك الدبلوماسي الجزائري، وما على الباحثين من الأجيال الجديدة سوى مواصلة السير على منوال ما قدمه بوعلام بسائح وغيره من أساتذتنا الأجلاء ومضاعفة الجهد المعرفي الإستقصائي لهم والله الموفق.

***

قلولي بن ساعد - كاتب وناقد من الجزائر

..........................

مصادر

01) قواعد الفن بياربورديو ترجمة براهيم فتحي ص 200 الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 2013

02) أنطر نص التصدير الذي كتبه المستشرق جك بيرك لكتاب أشعار الهوى والوغى لمحمد بلخير ص 11 جمع وتقديم بوعلام بسائح ترجمة نور الدين خندودي منشورات الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007

03) تأملات حول المنفى الجزء الاول إدوارد سعيد ترجمة ثائر ديب ص 20 دار الآداب بيروت الطبعة الطبعة الثانية 2007

04) نفس المصدر ص 20

05) أنظر مقدمة بوعلام بسائح لكتاب أشعار الهوى والوغى لمحمد بلخير ص 44 جمع وتقديم بوعلام بسائح ترجمة نور الدين خندودي منشورات الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007

06) الهجرة إلى الإنسانية فتحي المسكيني ص 11 منشورات الاختلاف وضفاف الطبعة الاولى 2016

07) الطباقية أسلوب للتواجد والمقاومة في فكر ادوارد سعيد / سامية بن عكوش ضمن كتاب إدوارد سعيد الهجنة السرد والثقافة ص 216 إسماعيل مهنانة وآخرون منشورات القرن 21 / 2016 / الجزائر

الهجرة إلى الإنسانية مرجع مذكور ص 16 08)

09) يمكن العودة إلى هذه القصيدة (يربح من صلاو عليه) للشاعر محمد بلخير إلى كتاب الأعمال الكاملة لمصطفى نطور منشورات دار المدار الثقافية / البليدة الطبعة الأولى 2013

10) علامات فارقة في الفلسفة واللغة والأدب أحمد يوسف ص 154 / 155 منشورات الاختلاف وضفاف ودار الأمان بيروت / الجزائر / الرباط الطبعة الاولى 2013

 

لا ينتمي فيلم "حسن المسعودي" للمخرج العراقي يمام نبيل المقيم بلندن حاليًا إلى شكل الفيلم الوثائقي الكلاسيكي المُعتاد وتقنياته المعروفة وإنما يجمع بين التقنية التلفازية من جهة وبين أسلوب الفيلم الوثائقي الحديث الذي لا يرى ضيرًا في هذا التعالق الذي قد يفضي إلى شيء جديد لم نألفه من قبل أو ربما يُسفِر عن مخاطر جمّة لن يُحمد عُقباها إذا لم يُمسك المخرج بالخيط المُرهف الذي يفصل بين هذين الجنسين البصَريين اللذين يتكئان على خصائص واشتراطات فنية معينة يعرفها جيدًا المختصون بالخطابين السينمائي والتلفازي على حد سواء. جدير ذكره أنّ هذه السلسة الوثائقية تتألف من ستة أفلام تنضوي جميعها تحت عنوان "أنا مُهاجر" وتضم ستة فنانين وهم على التوالي: "عفيفة لعيبي، غني الطائي، حسن المسعودي، فيصل لعيبي، نبيل ياسين، وقتيبة الجنابي".

دعونا نتفق منذ البداية إلى أنّ هذه المادة البصرية التي بين أيدينا هي خلطة مهجنّة يتلاقح فيها الفيلم الوثائقي بالبرنامج التلفازي من دون أن نحكم عليها حُكمًا قاطعًا قبل أن نصل إلى نهايتها التي رسمها المخرج يمام نبيل بعناية فائقة لا تخلو من الدقة والبراعة والجمال.

يستهل المخرج يمام نبيل فيلمه المهجّن الذي ينضوي تحت عنوان "حسن المسعودي" بأربعة أبيات شعرية من قصيدة "يا دجلة الخير" المعروفة للشاعر محمد مهدي الجواهري التي يقول في مطلعها: "حَيّيتُ سفحَكِ عن بُعْدٍ فحَيِّيني      يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البستاتينِ" ويُنهي الاقتباس بالبيت الرابع الذي يقول فيه:"إنِّي وردتُ عُيونَ الماءِ صافيةً نَبْعًا فنبعًا فما كانت لتَرْويني". والغريب أنّ هذا الاستشهاد بالأبيات الأربعة قد جاء مُترجمًا باللغة الإنكليزية وكأنّ الفيلم موجّه للمشاهدين الأجانب وكان بالإمكان وضع النص العربي إلى جانب الترجمة لنتفادى هذا الإشكال الذي سيتكرر أيضًا في النبذة التعريفية الشاملة التي قدّمها المخرج بالإنكليزية أيضًا وكان بالإمكان تحاشيها لو أنّ المخرج استعمل تقنية التعليق الصوتي "الفويس أوفر" التي توفر للمتلقين سهولة سماع الأبيات الشعرية المقتبسة والتوطئة التي قدّمها المخرج عن الفنان حسن المسعودي وخلفيته الثقافية والفنية.

اهتمام مبكر بالرسم التشخيصي

يمكن إيجاز التوطئة الإنكليزية بأنّ حسن المسعودي من مواليد النجف سنة 1944. نشأ في بيئة تقليدية وأظهر اهتمامًا فنيًا كبيرًا في سنواته المبكرة بالرسم التشخيصي، ولأسباب سياسية لم يُقبل بمعهد الفنون الجميلة ببغداد سنة 1961. بدأ العمل كمتدرِّب لدى العديد من الخطّاطين التجاريين ببغداد ثم انتقل إلى باريس سنة 1969 ووجد عملًا كخطاط في مجلة جزائرية عربية عام 1971. سجّل في مدرسة البوزار حيث درس الرسم التشخيصي ومع ذلك بدأ يركز على الخط ومن خلال تعاونه مع العديد من الموسيقيين والراقصين والممثلين الفرنسيين والأجانب خلق أسلوبًا خاصًا به ألهمَ العديد من الفنانين الآخرين. التقى بإيزابيل التي كانت فنانة رسوم توضيحية في مدرسة البوزار وتزوجها  فأنجبت له بنتًا واستمرا بالعيش والعمل بباريس. لم يعد حسن إلى العراق حتى الآن. هذا هو الهيكل المعماري للفيلم برمته إذا جرّدناه من التفاصيل الداخلية لكن ثيمة الفيلم تتجاوز "البورتريه" أو "الصورة القلمية" التي تحصره في حدود ضيّقة لا تُوصل الفكرة الفنية إلى مبتغاها، فالفيلم الوثائقي الرصين وحتى البرنامج التلفازي الجاد يحاول الارتقاء بمادته الفنية والفكرية إلى مستوى الوثيقة التي يمكن الاعتماد عليها كمرجع نستند إليه لا أن يذهب مضمونها إلى مدارج النسيان بسرعة خاطفة.

ينطلق حسن المسعودي في رواية قصته مذ كان عمره 12 سنة حيث زار معرضهم السنوي موظفون من وزارة التربية وأشادوا برسوماته المبكرة ونصحوا بإرساله إلى باريس؛ هذه المدينة التي رغب أن يراها وهو في هذه السن المبكرة. وفي سنة 1969 سافر المسعودي تاركًا العراق إلى أجل غير مسمّى. لا يتأخر المسعودي في الإفصاح عن السبب الذي دفعه لمغادرة العراق، فقد اعتقلته السلطات الأمنية العراقية غير مرة وهو لم يرتكب خطأً أو مخالفة قانونية على حد زعمه فشعرَ أنّ هناك ظُلمًا وعسفًا واضحين، وإذا لم ينتهِ هذا الظلم فلن يعود إلى العراق، وما زال ينتظر منذ 55 عامًا وحتى الآن. فهل هناك متسع من الوقت للعودة إلى مَسقط الرأس ومرتع الطفولة؟

حينما سمع الصديق والفنان مهدي مطشّر برغبة المسعودي بزيارة باريس أخبره بإمكانية السكن في غرفته هناك لأنه يسافر في الصيف إلى الجنوب ويمكث هنالك لمدة شهرين حيث عمل في مجلة جزائرية تصدر للعمال العرب بباريس وتُباع في الجزائر أيضًا واستطاع البقاء خلال السنوات العشر الأولى من إقامته بباريس.

مُعانقة حبّات المطر في فصل الشتاء

التحق المسعودي بمدرسة الفنون الجميلة سنة 1970 التي ستكون جسرًا للعبور إلى متحف اللوفر الذي يقع في الجهة المقابلة للمدرسة وأصبح لديه "كارت" يوفر له تسهيلات كثيرة من بينها تناول وجبة طعام بمبلغ زهيد وكان يقيم في غرفة صغيرة يغطيها سقف مائل تتوسطة نافذة تنزل منها القليل من حبّات المطر في فصل الشتاء.

يقسّم المخرج يمام نبيل فيلمه إلى عشرة أجزاء تبدأ بـ "نجف، بغداد، باريس" والاختلافات الملحوظة بين هذه المدن وتنتهي بجزء أسماه "بعيدًا عن الوطن" وكأنّ هذه العقود الخمسة ونصف العقد حتى الآن غير كافية لهزّ آراء الفنان حسن المسعودي وتغيير قناعاته القديمة بالظُلم الذي تعرّض له والإهانات التي تلقّاها على أيدي أبناء جلدته في أواخر الستينات من القرن الماضي. يوجز المسعودي الفرق بين المدن الثلاث كالآتي: أنّ الناس في النجف ينتمون إلى بيئة اجتماعية واحدة لا تختلف كثيرًا. وحينما انتقل إلى بغداد لاحظ أن المرأة تعمل في العديد من المحلات، كما انتبه إلى وجود الكثير من الأجانب بعد تغيير النظام الملكي إلى جمهوري والتغيرات الكبيرة التي طرأت على الاقتصاد العراقي. فعلى الرغم من انفتاح بغداد على العالم الخارجي إلّا أن باريس أوسع منها بكثير ففيها تزدهر الثقافة والفنون لدرجة أن الإنسان البسيط يمتلك ثقافة واسعة وعميقة هي نتاج حضاري لمئات السنين فلاغرابة أن تتوفر المدارس والمعاهد والجامعات وتزدهر المسارح والمعارض الفنية والأنشطة الموسيقية بمختلف أنواعها حتى أنّ المسعودي يشكو من قلّة الوقت لارتياد هذه المنابر الثقافية والفنية التي تضطره للمفاضلة والانتقاء وقد اختار في نهاية المطاف أن يتعرّف على الموسيقى الهندية والخطّين الياباني والصيني.

التحرّر من التقاليد القديمة

يسترجع المسعودي ذكريات طفولته حينما كان يلعب في فناء مسجد الإمام علي "كرّم الله وجهه" وكان يرى الخطوط والزخارف العملاقة المدوَّنة على الجدران قياسًا بالخطوط الصغيرة المدوَّنة بالدفاتر والكتب المدرسية التي هيمنت على ذهنه في ذلك الوقت وملأت الفراغ الذي في داخله بالحروف والزخارف. يستذكر المسعودي حينما فتح في صباه، مع أخيه رسول، محلّا صغيرًا بجانب المسجد، وكانا يشتريان صورًا مطبوعة بالأسود والأبيض تتألف من خطوط فقط وكان يلونانها ويبيعناها للزوار القادمين إلى النجف، وكانت هذه الصور الملونة تلبّي حاجة الناس قبل ظهور التلفزيون على وجه الخصوص. أفاد المسعودي من عدة خطاطين من بينهم محمد صالح وكريم عبدالرؤوق وسعد الكعبي الذي نظّم لهم دوره الفن التشكيلي لرسم الموديل والحياة الصامتة، وقد منحه هذا الأخير إمكانية التحرر من التقاليد القديمة خاصة وأن قبوله في معهد الفنون الجميلة قد تعثّر وأنّ العناصر الأمنية قد اقتحمت بيتهم لأنه خطّط لافتات إحدى المظاهرات. وعلى الرغم من أنه لم يفعل شيئًا مُخالفًا للقانون إلّا أنّ هذه الدعوى ظلت قائمة لمدة ثماني سنوات يستدعونه في كل مرة ولا يجدون أي انتهاك للقانون فيؤجل الضباط في معسكر الرشيد الدعوى لبعض الوقت حتى شعر باليأس والإحباط وقرر الفرار من البلد الذي يضطهدون فيه الإنسان والإنسانية معًا.

عندما دخل المسعودي إلى بغداد أول مرة تعرّف إلى الخطاط عباس الذي يعمل بجانب الأورزدي باك في شارع الرشيد. ثم تعرّف إلى خطاطين آخرين تعلّم منهم تدريجيا الخطوط الأساسية المستعملة في القضايا التجارية كالثُلث والرقعة والديواني لكنه كان متأكدًا أنّ هذا ليس طريقه، فالخط شيء قديم، وهو يريد أن يُصبح فنانًا على الطريقة الأوروبية، ثم اكتشف بحذقه الفني أنّ هذين الطريقين غير صحيحين وعليه أن يكتشف طريقًا ثالثة. وأكثر من ذلك فقد كان يقول في سرّه أنه يجب ألّا يقلّد حسن المسعودي وعليه أن يتجه صوب المجهول ويكتشف شيئًا جديدًا.

في البداية لم تكن للمسعودي فكرة عمّا سيفعله بالخط العربي الذي كان مُقتصرًا على القضايا الدينية والتجارية من وجهة نظره حينما كان موجودًا في العراق وحينما انتقل إلى فرنسا غيّروا مسارات تفكيره حيث التقى بالممثل المسرحي جي جاكييه Guy Jacquet الذي يعمل في فرقة مسرحية مشهورة. دعاه جاكييه لأن يخطّ على ورقة شفافة وينقلها الجهاز إلى الشاشة التي يراها الجمهور. وقد منحتهُ هذه الطريقة حرية العمل الفني الذي لا تؤطره الحدود الثابتة. وهذه العملية ليست بسيطة ولا تتحقق بسهولة في كل مرة وأحيانا يكتشف عن طريق المصادفة أنّ الشيء الذي عمله يقترب ربما من شيء ما كان يتخيله الشاعر قبل ألف سنة. يمحض المسعودي بعض الشعراء محبة خاصة مثل أبو العتاهية والبحتري اللذين عاشا في القرن الثامن والتاسع على التوالي وكان التصوير ممنوعًا في ذلك الوقت وكان الشعراء هم الذين يصنعون الصور الشعرية وهذا فرق كبير بين الحضارة العربية التي تعتمد على الكلمة بينما تعوّل الحضارة الغربية على الصورة.وهكذا استمر عمل المسعودي مع الفرقة المسرحية لمدة 12 سنة زوّدته بالكثير من المُعطيات الفنية الجديدة.

حيوية الخط العربي

يتوقف المخرج يمام نبيل عند تجربة المسعودي في إدخال الخطوط اليابانية والصينية التي أعطت شيئًا آخر للخط العربي وإن بقي الجوهر متشابهًا. يسترجع المسعودي إمكانات الخط العربي وتجريبه بطريقة حديثة حيث توجّه، هو وزوجته، لمدة ست سنوات إلى مكتبات باريس التي تضم كتبًا عربية وصوّراها، ثم ذهبا إلى أسطنبول وكتبا رسالة إلى متحف "توب كابي" ملتمسين إيّاه أن يفتح لهما القاعة التي تضم خطوط ابن البوّاب الذي عاش ببغداد قبل ألف سنة، ثم ذهبا إلى القاهرة وجمعا كل هذه المواد وانتقيا منها قسمًا صغيرًا ألّفا منه كتابًا يحمل عنوان "حيوية الخط العربي" الذي نفد بسرعة ثم أعادوا طبعة لمرات عديدة.

يختصر المسعودي علاقته بإيزابيل وزواجه منها حيث أنجبت له بنتًا وسوف تُنجب هذه البنت حفيدين يساعدونه في ترسيخ جذوره العائلية في فرنسا التي تشبه إلى حدٍ كبير جذوره في العراق. وسنعرف من خلال حديثه أنّ إيزابيل فنانة تؤلف كتبًا للأطفال وقد نشرت عشرة كتب لكنها قررت أن تتوقف عن مشروعها الخاص وتكرّس وقتها وجهدها إلى عمل المسعودي في الرد على الدعوات والقيام بأعمال المحاسبة والمراسلات. وقد أفادته كثيرًا لأنها متحدرة من المجتمع الأوروبي وتعرف تاريخ الفن جيدًا حيث ساعدتهُ في تصحيح بعض الآراء عن الخط العربي. استعمل المسعودي كلمة الخطاط على موقعه في الإنترنيت لمدة 20 سنة مع أن بعض النقاد والفنانين يقولون له هذا ليس خطًا لأنكَ تقترب كثيرًا من الفن التشكيلي ويجب أن تبحث عن اسم آخر. وهذا رأي جدير بالانتباه لأنّ أعمال المسعودي الخطية هي أعمال فنية بامتياز.

يتوق لرؤية العراق قويًا ومُعافى

لا يريد المسعودي العودة إلى العراق، ويبدو أنّ القناعة التي كوّنها مذ تعثّر قبوله في معهد الفنون الجميلة سنة 1961 وحادثة اللافتات التي خطّها في أواخر الستينات، واستدعاءاته المتكررة للجهات الأمنية قد دفعته إلى إلغاء فكرة العودة إلى العراق. وهو يعتبر العراق شخصًا مثخنًا بالجراح. ويتمنى أن يزوره حينما يكون قويًا ومعافى في أحد الأيام. يتمنى المسعودي أن يتطور الخط في بلد تسوده المحبة ويتضاءل فيه العنف، وتتراجع فيه الحروب إلى أقصى درجة ممكنة. لم يصل المسعودي إلى هذه الدرجة العالية من المصالحة مع الذات إلّا بعد أن تأمل الفنون الأوروبية والعالمية، ففي البداية كان يقلّد فنانين معروفين حينما كان يدرس في البوزار مثل فرنان ليجيه، ثم بدأ يقلد رسومات ماتيس ويحذو حذوه لأنه كان يمثل العنف والجوانب الإنسانية المرهفة التي كانت تشذّبه يوميًا.

ليس هناك ما يشجع المسعودي، من وجهة نظره، على العودة إلى العراق ذلك لأنّ كل أفراد أسرته الكريمة قد هُجروا قسريًا إلى إيران، ولديه أخ تعرض إلى متاعب كثيرة، وواجه مصيره المحتوم على الحدود. فلاغرابة أن يفكر المسعودي بالمستقبل، ولا يستعيد الماضي إلّا عند الضرورة القصوى لأنه مُوقن تمامًا بأنّ هناك أناسًا كثيرين واجهوا صعوبات جمّة، وتعذبوا أكثر منه، وعليه أن يبذل قصارى جهده من أجل إشاعة الجو الإنساني في البلد الذي نشأ وترعرع فيه وغادره مضطرًا ولا يستطيع العودة إليه ما لم ينتهِ الظلم الذي شعر به وهو شاب يافع مُدجج بالأحلام الفنية الكبيرة والإصرار على العيش الكريم.

هذه المادة ليست "صورة قلمية" لأنها مادة واسعة ومتشعبة تبدأ من سن الثانية عشرة حتى مشارف الثمانين، كما أنها تمتد من النجف إلى بغداد ولا تنتهي عند باريس إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار سفرات المسعودي وزوجته إيزابيل إلى إسطنبول والقاهرة واليابان وغيرها من المدن والحواضر التي عرضت فعالياتهم وأنشطتهم الفنية. وفن "البورتريه" السينمائي المستعار من فن التصوير الفوتوغرافي هو لمحات وإيماضات لا تغوص في التفاصيل الصغيرة بينما يقدّم لنا المخرج يمام نبيل بمساعدة الباحث آبي جَيس Abe Chace مادة واسعة ومتشظية تصلح أن تكون موضوعًا لفيلم وثائقي ذي شجون لكنه يحتاج إلى بضعة تعليقات صوتية، وعدد من الوثائق المُصورة أو المكتوبة أو المسموعة، ومشاركة خمسة أو ستة فنانين ونقاد أو مؤرخين للفن التشكيلي على اعتبار أنّ منجز المسعودي ليس خطًا فحسب وإنما هو لوحات فنية بامتياز لتصبح هذه المادة المهجّنة فيلمًا وثائقيًا رصينًا لا يغادر ذاكرة الناس بسهولة.  وفي الختام لا بدّ من الإشادة ببراعة التصوير وجمالية الموسيقى التي رافقت أحداث الفيلم للمطرب وعازف العود الفنان إحسان الإمام، والجهد الذي بذله الباحث آبي جَيس وبقية الفنيين الذين تآزروا جميعًا في إنجاح هذا الفيلم الذي يعزف على وتر حسّاس ويثير الكثير من الشجون الكامنة في أعماق النفس العراقية الجريحة.

***

عدنان حسين أحمد (لندن)

قراءة نقدية تحليلية في قصيدة: أصابع ديسمبر – للشاعر: أنور غني الموسوي – العراق.

 ***

أصابع ديسمبر – للشاعر: أنور غني الموسوي

أنا من هنا؛ من الجنوب حيث كل شيء ناعم وحلو، وأصابع ديسمبر لها لمساتها المذهلة على خدودنا. هنا، تحتضن الشوارع القصة الكاملة لأصابع ديسمبر الباردة؛ حيث تنام الليالي هادئة ويهمس القمر خلف الغيوم. انت لا يمكنك رؤية أي شيء هنا في ديسمبر، غير الأغاني والقصص القديمة. نعم، أصابع ديسمبر هنا باردة، لكن أحلامنا دافئة. نعم، ديسمبر غريب ومتهور، لكننا نحبه لأننا نتمتع بابتسامات مذهلة. ديسمبر شهر حُّر وبارد يملأ رئتي بهواء برّي. إنه مجنون وله عيون شرقية جذابة للغاية. انت قد ترى روح ذلك الغصن، وتلك الورقة، وذلك الطائر الصغير جدًا؛ قد تشعر بهم، لكنك لن تعرف شيئًا عن رغباتهم البرية لأنك لست سمكة تسبح في نهر الفرات. هنا؛ في الجنوب، الأرواح مبتهجة بشكل ساحر، انها مبتسمة ودافئة، لذا فإن ديسمبر هنا لا يصدق، فهو يصنع جنّيات مذهلة من حكاياتنا القديمة.

أصابع ديسمبر: بين برودة اللمسات وحلم الجنوب الساحر

هذا العنوان يجسد التباين بين البرد الحسي والدفء الروحي في القصيدة، مع إبراز الحس الشعري للجنوب ورؤيته الخاصة لشهر ديسمبر. كما يعكس أيضًا تداخل الواقع مع الخيال في القصيدة، ويستحضر جوهر العواطف المتناقضة والمذهلة التي يمر بها الشاعر.

***

القراءة النقدية:

قصيدة (أصابع ديسمبر) للشاعر (العراقي أنور غني الموسوي) ليست مجرد تأمل في شهر ديسمبر أو في الأجواء الشتوية الباردة، بل هي رحلة إلى الذات والروح، حيث تتداخل عناصر الطبيعة مع المشاعر الإنسانية العميقة. القصيدة تتميز بأسلوب سردي تعبيري شعري يعكس رؤية شخصية معبرة عن علاقة الإنسان بالزمان والمكان، كما تتسم بالرمزية العميقة التي تخلق ارتباطًا بين الطقس والمشاعر الداخلية للشاعر.

سنتناول القصيدة بشكل تفصيلي وفقًا للأبعاد اللغوية، الرمزية، والعاطفية التي تحتويها.

1. الجنوب كمكان: رابط بين الذات والطبيعة

القصيدة تبدأ بتأكيد هوية الشاعر الجغرافية والثقافية من خلال قوله:

(أنا من هنا؛ من الجنوب حيث كل شيء ناعم وحلو).

هذا المقطع ليس مجرد تقديم جغرافي، بل هو مدخل إلى عالم الشاعر الداخلي، حيث يصبح الجنوب أكثر من مجرد موقع مادي. الجنوب هنا يتحول إلى حالة شعورية تمزج بين الصفاء والنعومة، فكل شيء فيه (ناعم وحلو). الصورة التي يخلقها الشاعر عن الجنوب ليست فقط طبيعية بل ذات طابع وجداني، فهو يربط المكان بالراحة النفسية والعاطفية، ما يعكس تأثره الشديد بجمال هذه البيئة.

الجنوب في القصيدة يمثل الفضاء الذي يعكس شخصية الشاعر وتجاربه الحياتية، وهو أيضًا المكان الذي يحيا فيه الشاعر بمعزل عن القسوة التي قد تعصف بالمكان. (هنا) في هذه الجملة تكرارٌ يعكس ارتباط الشاعر بالمكان، حيث يشعر أن هذا هو مكانه الأمثل، هذا هو وطنه الروحي. من خلال هذه الصورة الشاعرية البسيطة، يوحي الموسوي بأن الجنوب هو مصدر إلهام شعري، فيه تكمن الحكايات القديمة، والأغاني، والقصص التي تندمج مع الطبيعة لتخلق واقعًا مميزًا.

2. أصابع ديسمبر: بين البرودة واللمسات العاطفية

تتجسد الصورة المركزية في القصيدة في عبارة (أصابع ديسمبر). هذه العبارة تستحضر صورة ليدٍ تمتد لتلامس وجوهنا، ولكن بدلاً من لمسة إنسانية دافئة، تكون هذه الأصابع باردة. الفعل (تلامس) يعكس اتصالًا حسيًا مع الواقع، ولكن هذه اللمسات الباردة تحمل في طياتها معاني أعمق، إذ أن الشاعر يربط بين (البرودة) و(الأحلام الدافئة) في تباين بليغ بين القسوة والعاطفة. في هذا التناقض، يُظهر الشاعر قوة المشاعر الإنسانية في مقاومة الظروف الباردة.

الجملة:

(وأصابع ديسمبر لها لمساتها المذهلة على خدودنا)

هي تعبير مجازي عن تأثير فصل الشتاء على حياة الإنسان، حيث لا يقتصر التأثير على الجسد فقط، بل يتسلل إلى الروح. البرودة التي تحملها أصابع ديسمبر هي مجرد إطار خارجي لما يمكن أن يكون بمثابة استحضار للذكريات والعواطف الدافئة. بهذه الصورة، يخلق الموسوي من فصل الشتاء حالة من الغموض والدهشة التي تتناغم مع حالته النفسية. البرودة تمثل في هذا السياق تحديات الحياة، بينما (الأحلام الدافئة) تشير إلى الأمل والطموحات التي تبقى حية رغم الظروف القاسية.

3. الليل والقمر: صور طبيعية تعكس الحالة النفسية

في جزء آخر من القصيدة، يقول الشاعر:

(هنا، تحتضن الشوارع القصة الكاملة لأصابع ديسمبر الباردة؛ حيث تنام الليالي هادئة ويهمس القمر خلف الغيوم).

الليل في هذه الصورة يعكس حالة من السكون والهدوء، والليالي (الهادئة) التي تتبع (الأصابع الباردة) تنشئ تناقضًا بين الهدوء الظاهر والاضطراب الداخلي. هذه الهدوء الظاهري قد يكون رمزية للشعور بالعزلة أو الوحدة التي يشعر بها الشاعر في مواجهة العالم. القمر، في هذه الحالة، لا يظهر بمفرده بل خلف الغيوم، مما يضيف عنصر الغموض إلى المشهد.

يهمس القمر، وكأن الشاعر يطلب منه أن يكشف أسرار الليل الذي يحيط به، ولكن في نفس الوقت يبقي هذا السر خفيًا خلف الغيوم. غياب وضوح القمر يُعتبر استعارة للضبابية التي قد تحيط بالأفكار والمشاعر الداخلية في حياة الشاعر. الغيوم هنا قد تكون رمزًا للمتاعب أو الغموض الذي يحيط بمواقف الحياة، بينما الهمسات تشير إلى أن هناك دائمًا شيئًا ما غير مرئي، يظل خارج نطاق الفهم الكامل.

4. ديسمبر: شهرٌ غريب ومجنون

في السطور التالية، يصف الشاعر شهر ديسمبر بأنه (غريب ومتهور)، وهو وصف يبدو متناقضًا، حيث أنه يضيف صفات إنسانية لشهر غير حي. هذا التوصيف يعكس حالة من الاضطراب واللااستقرار، وهو ما يتماشى مع تقلبات الحياة، مثل التغيرات التي يجلبها الشتاء. من خلال هذه الصفات المجازية، يربط الشاعر بين (الجنون) و(الحرية)، كما لو أن ديسمبر يعكس كيانًا يحمل في طياته كل الملامح المعقدة التي تجعل منه رمزًا للحياة ذاتها، بتناقضاتها وتقلباتها.

الشاعر يعترف بحبّه لهذا الشهر:

(لكننا نحبه لأننا نتمتع بابتسامات مذهلة).

هذا الاعتراف يوحي بأن الشاعر يتقبل المجنون والمتهور، وأنه يجد الجمال في التحديات التي تجلبها الحياة، حتى لو كانت تلبس ثوبًا من البرودة والاضطراب. الحب في القصيدة ليس ناتجًا عن التكيف مع الظروف فحسب، بل هو أيضًا تقبّل لها، والاعتراف بها كجزء من الكينونة.

5. الرمزية العميقة للطبيعة: الغصن، الورقة، الطائر

في القسم الأخير من القصيدة، يضيف الشاعر بعدًا رمزيًا عبر ذكر (الغصن) و(الورقة) و(الطائر الصغير جدًا). هذه الرموز الطبيعية تعكس بشكل مباشر معانٍ تتجاوز مجرد المظاهر المادية. (الغصن) و(الورقة) يمثلان الحياة في حالتها الهشة والضعيفة، في حين أن (الطائر الصغير) يمثل تلك الكائنات التي تسعى إلى الهروب أو التحرر في عالم صعب.

هذه الرموز لا تمثل فقط الطبيعة المادية، بل هي أيضًا تمثيل لرغبات الحياة (البرية) التي لا يمكن للبشر أن يدركوها بالكامل، مما يخلق حاجزًا بين ما هو مرئي وما هو غامض. وعندما يقول الشاعر:

(قد تشعر بهم، لكنك لن تعرف شيئًا عن رغباتهم البرية لأنك لست سمكة تسبح في نهر الفرات)

فإن هذا يدل على أن الشاعر يرفض أن يظل أسيرًا للتفسيرات السطحية. الشاعر يقدم رؤية حية للطبيعة، حيث لا تكون الرغبات واضحة أو مفهومة إلا لمن هو غارق في (نهر الفرات)، أي لمن يعرف الحياة من منظور عميق.

6. الختام: الجنوب كمرجعية روحية ومكان للأمل

ختام القصيدة يعيد التأكيد على طبيعة الجنوب التي تحتفل بالحياة، حيث يقول:

(هنا؛ في الجنوب، الأرواح مبتهجة بشكل ساحر، انها مبتسمة ودافئة).

هذه العبارة تعيد التأكيد على ما بدأ به الشاعر في البداية: الجنوب ليس فقط مكانًا ماديًا، بل هو فضاء روحي يحمل الأمل والدفء في قلب قساوة الظروف. فبينما تبقى الحياة مليئة بالبرودة والتحديات، يظل الجنوب يمثل ملاذًا نفسيًا حيث الأرواح تحتفل وتبتسم.

القصيدة تنتهي بنظرة شاعرة إلى عالم من السحر والخيال: (ديسمبر هنا لا يصدق، فهو يصنع جنّيات مذهلة من حكاياتنا القديمة).

في هذه النهاية، يُبرز الشاعر قدرة الحكايات والقصص القديمة على تحويل الواقع إلى عالم من الخيال المدهش، حيث يصير ديسمبر أكثر من مجرد فصل، بل هو شعور، وذكرى، ورغبة في التمسك بالأمل.

الخلاصة:

هذه القصيدة السردية التعبيرية النموذجية هي رحلة تأملية معقدة وجميلة في العالم الداخلي للإنسان في مواجهته للطبيعة والمشاعر المتناقضة. من خلال الرمزية الدقيقة والصور الشعرية، يُعبّر الشاعر عن تقبل الحياة بكل تفاصيلها، من البرودة إلى الدفء، من الجنون إلى الجمال. هذه القصيدة هي مزيج من الواقع والخيال، حيث يتداخل الجنوب العراقي مع الزمان والمكان لخلق عالم داخلي لا ينسى.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

في قصائد الشاعر حميد قاسم

يعتبر صديقي الشاعر حميد قاسم أحد الوجوه التي لمعت في الساحة الشعرية العراقية في الثمانينات، ولأن رهافة الحس كان لديه يتقد دوما منذ مجموعته الاولى (قداس الطفولة الهرمة – بغداد 1984، لذا فرض على مسيرته هذا التماهي مع التأزمات فانحازت قصائده إلى ما يشبه الهاجس اليومي والسيرذاتي معبّرة عن ذاته المتلازمة بقلقه وأوجاعه وأسئلته الملحّة لاسيّما على المستوى الوجودي الإنساني.. حيث تحضر الأنا الآخر  (الوطن / الحكومة) في قصائده بوصفها رمزاً وتحضر أنا الشاعر بوصفها إنعكاساً لتصرّفات ذلك الآخر عبر سيل من الصور الشعريّة الجميلة المتحرّكة والمشحونة بالشجن والألم الإنسانيّ.

في مجاميعه الشعرية (ألعب في الحديقة وأفكر - من اصدارات دار الشؤون الثقافية العامة / وزارة الثقافة – 2015 بغداد)،  (ليس ثمة هواء   – دائرة الثقافة والاعلام – الشارقة 2003، (وهذا صحيح ايضا - الصادر من دار الساقي 2008 )

زج الشاعر عدد هائل من الصور الشعرية الجميلة والمتتشظية ما بين لهيب الحلم وصقيعِ الاغتراب من اجل خلق مشهدية شعرية دراماتيكية تجعلك تشتاق وتنزلق الى حيث جدلية العلاقة بين الحلم الانوي والبحث عن مهد الطفولة لتحلق أنت الآخر في فضاءاتهِ المُحلقة في سماء الأنا الجمعية المتكاملة، كي تتواصل مع رحلته سائرا على حبله السري منطلقاً من سرته أو مهده  الى حيث متاهات الازقة في الداخل وكما في الخارج.

ففي قصيدته (يا ماخذلت الولف - من مجموعته وهذا صحيح ايضا) يستلهم الشاعر ارهاصاته وانثيالاته ليكشف من خلالهما الواقع المؤلم الذي عاشه كبقية ابناء شعبه ؛ ليخلق موازنة بين ما قدمه وطنه العراق بدءً من سقوط الملكية من قرابين في الماضي والحاضر، الى درجة أصبح وطنه كله قرباناً؛ يقدم على طبق من ذهب إلى الغرباء فيصف الشاعر حالة شعبه ووطنه وصفا جميلاَ متكئاً على التناص التأريخي (مقتل الملك) من أجل اكساب تجربته الشعرية دلالة تاريخية فجاء نصه هذا مشابهاً لنص الشاعر الامريكي ت س اليوت في قصيدته (الارض اليباب – دفن الموتى) الذي  وصف الجمهور المتدفق على جسر لندن سائرا الى حيث شارع الملك وليم...) ذلك الشعب الذي تدفق من شارع الملك القتيل في بغداد وهم يتدفقون كالقطيع ولا يعرفون ما يخبأه لهم المستقبل. يقول الشاعر حميد:

في هذه المدينة التي تشبه سيارة أجرة قديمة وعاطلة..

خرج الصبية من أبوابها مرة واحدة

واندفعوا في الازقة مغبّري الوجوه..

وميتين من التعب..!

يا لسخرية القدر الذي جمعني بك تحت سقف واحد،

وللسبب ذاته...!

....

لماذا الهروب من الاغاني الجارحة؟

بعد أن أقتيد (شعبي) الى المذبحة

فبقدر ما كانت قصائده الشعريّة مسكونة بالهاجس اليومي الناتج من تصرّفات الآخر تجاه الوطن والإنسان، جاءت مسايرته لمعاناة الغربة السبب في جعل الأنا الحالمة لديه تقفز الى السطح لتجسد لنا ظلم الآخر، فكانت القصيدة لديه بمثابة الوعاء الذي يستجمع فيه شظايا الألم والحنين، ويرسل عبر صوره المتباينة آهات الشجون وغصص الرزايا لذا ففي أحيان كثيرة جعلت من قلمه يترشح بنصوص مفعمة بالترنيمات الأليمة وكما يصفها في قصيدته (حياتي حتى ترتطم بالارض  -  من مجموعته ليس ثمة هواء ):

ان حياتي هي كمنجتي الوحيدة التي تبعث عويلا

طويلا، يفزع أبنائي النائمين على بعد الف كيلو متر...

فوق خارطة الوطن

وهكذا في قصيدته (كما لو) من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر:

لا أحد سواه

يستطيع أن يمسك أمسه الساحر

أمس الحروب والسجون والاغتصاب

أمس الجنون الذي أسس للكراهية

ومشاهدة المسرحيات على حافة النهر

واقفاً يتأرجح بين عكازين

يفكر بأغنية... ويشتم السلطة

ولعل هذه الانفعالية الواضحة، حملت الشاعر على اختيار مفرداته القادرة على استيعاب طاقاته الانفعالية، بما يثير المتلقي لما تحمله من شحنة توترية، يقوم اساسها على محورين: محور الذات الشاعرة، المتأثرة، ومحور الموضوع، والعلاقة القائمة بينهما.

وفي الأخرى يفوح منها رائحة الحنين الممزوج بعطر الطفولة وكما يقول في قصيدته (كلما اراك - من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر):

كلما أراك

أدخل في الزقاق القديم

متواريا خلف البيوت المتهالكة

لأجدني في غرفة النوم..!

وأنت نائمة، تسدلين شعرك المبلل

فأمط شفتي... وأصفر

إن ما يحفز النسق الجمالي في نصوصه هو تحوير الواقع المرير الذي عاشه ليحكي على لسانه واقع تجربته الماضوية ؛ لخلق المفاعلة النصية ضمن النسق الشعري فكان النص لديه بمثابة الشريان الذي يتدفق من خلاله ما يخزنه من شظايا الألم والحنين والحب، ويرسل عبر خيوطه المتباينة والمتشابكة رؤياه بكلمات موحية يعلو وينخفض الإيقاع معها بحسب الحاجة السيكولوجية لكبت الذات وحجم العواطف فتنصهر الفكرة والخيال والكلمة محدثة أشبه ما يكون بسمفونية تترافد فيها آلات كثيرة، فتارة تكون محملة بالآهات والشجون وفي الاخرى برائحة الحلم الجميل.

مجاميعه هذه تحمل بين طياتها كماً هائلاً من الاحلام التي يداهمها الصقيع منذ خطوتها الاولى فمنها ما تعود الى مهدها وتتقمط منتهاها واخرى تتأرجح وتتمرد بقوة وصخب، لتحاكي رحلته وأبناء وطنه  والتي تشبه رحلة جدهم الاول كلكامش، ظانا انه سيجد ما يجعله خالداً في بلدان المهاجر إلا أنه يعود بخفة يديه فيبدأ توتره الانفعالي وهو في أوج التصاعد التراجيدي حين يرى حلمه بالخلود يتكسر فتمتد ايقاعاته لتبلغ ذروتها، كل هذا جعله يبحث دوما عن حلمه المفقود منذ الطفولة بسبب ما آل اليه وطنه جراء الحروب والتبعية لذا نراه يقول في قصيدته (الغريب - من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر:

الغريب الذي مر بنا ذات يوم

ليتنا لم نره

ليتنا لم نصغ اليه، ولم نقع في بئر غوايته..!

ليتنا  لم نغادر خرائبنا التي أولعنا بجمالها الوحشي المريع

نصوصه هذه قادرة على التمدد والتّشظي كونها تستمد حيويتها ووجودها من خلال التّقاطع والتّوازى ما بين حلمه الانوي المفقود والبحث المستمر عن السعادة التي لا يجدها إلا في مهد الطفولة مما يؤهله الاتّصال مع الماضي والحنين إليه والتّشابك مع لحظاته.

ففي قصيدته (طبيعة حقيقية - من مجموعته ليس ثمة هواء) يقول:

كلما أغمضت عيني

رأيت حياتي..

تُعمد

فوق نار قديمة!

تكمن قيمة جمالية قصائد الشاعر حميد قاسم بمقدار انفساح الأفق التأملي وتحفيز إيقاعاتها الجمالية في انتقاء التشكيلات الصورية المثيرة والتحليق بها عبر فضائه الشعوري العميق المتخيل والذي يمثل قيمة عليا في الوظيفة الشعرية، حيث تتحول القصيدة في بنيتها الى طاقة خلاقة يتمثل فيها التراث الشعبي، والعقل الجمعي بصورة عضوية تؤطر موقف وقيم الإنسان تجاه الكون وتجاه تساؤلاته المتعددة.

ولأن العلاقة مع الآخر(إن كان شخصاً أو حكومة أو وطناً)، ناتجة عن رد فعل دفاعي تجاه سطوة واندفاع الآخر، لذا كان من الطبيعي أن تجده يقول في قصيدته (أغنية عزرائيل - من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر):

لست مسؤولاً...

عن أي فِراش بارد لأرملة

لست مسؤولاً ايضا

عن أي مهد يتأرجح فارغاً

ولست مسؤولاً

عن أي شخص يتدلى من حبل في رقبته.

لست سوى أجير

يعمل ليسد رمقه

إن ما يدفع شاعرنا للكتابة هو ذلك الحلم المفقود بسبب ما يتعرض إليه الإنسان في وطنه من هزات مستمرة حفزته كي ينهض ليتمرد على الواقع المرير الذي يعيشه وأبناء وطنه ليقول الحقيقة من أجل الإصلاح ومواجهة الفوضى الناتجة من جراء سيطرة وتجذر الاضطراب والفوضوية على واقعه، فيقول في قصيدته (كمن ينزل جبلا الى داليا الرياض - من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر):

.. أيها الوطن،

.. كلما بعثرتنا المفخخات

في الهواء...

وأمضي،

كمن ينزل جبلا

أقطع الحديقة العامة

محدقا في النساء اللواتي

يخلعن ثيابهن تحت وطأة الرطوبة الهائلة

انه بحاجة للبحث عن طريق يعود به إلى نفسه ليلازم أناه لرؤية الآخر (الوطن).

 ولأن العودة إلى الوراء صعبة التحقق ومحاولة كبت الأنا الداخلي هي فشل.. لذا راحت حيويته تبحث عن مخرج آخر يجعلها تفجر مكبوتاتها كحل لتحقيق اِنتصاراتها، وتفريغ دواخلها نحو العالم الخارجي فيقول في قصيدته (كآبة بغداد - من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر):

أيتها المدينة...

أنا الآن أطل عليك من النافذة

أنا لا أفعل شيئا سوى أن أطل عليك من النافذة

وأنا نكايةً بالاصابع – سأضع جمرة سيجارتي

أدنى من سرتك، أعني بيت عنكبوتك الدؤوب

بيت أثامنا وعقوقنا الأبدي

القصيدة لدى الشاعر هي علاقة الشاعر بذاته وبالعالم من حوله، فهي مخاض رؤيته للماضي والحاضر واستشراف المستقبل من خلال ما يزخر به شعره من إمكانات تخييلية تمكنه من التنبؤ واستكشاف المستقبل.. أن الشعرية لديه عبارة عن كتلة فواعل تحفزية ؛ تبث ألقها الجمالي من خلال حساسية الرؤيا الشعرية في اختيار الصورة، وشاعرية الجملة، وإيقاعاتها المتناغمة إيحاءً، ورؤية، ودلالة؛ واستثارة جمالية خلاقة بمراجعها النصية، وانفساح الرؤية الجمالية كما في قصيدته (روائح - من مجموعته وهذا صحيح أيضا):

قبل أن أعبر الزقاق

متسائلا عن جدوى الانشغال بفكرة الوجود

.....

الرجولة...

أو الندم!

كل شئ مريض هنا

لذا سأضعه أمام الباب لتكنسه الريح

فكما أن النص الشعري المثير هو كتلة مؤثرات جمالية فإن ما يغني النص الشعري جمالياً ليس فقط الصور الشعرية المبتكرة، وإنما المخيلة الإبداعية المتوهجة، وحساسية الشاعر الجمالية في انتقاء التشكيلات المثيرة، وتحفيز إيقاعاتها الجمالية. ففي قصيدته (هذا سيمر ايضا- من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر) يقول:

رائحة المطر مفعمة بالتراب هذه المرة !..

هل كتبت على نفسي أن أحبسها في عمق الظلام

بعد أن بللت حياتي بالكحول

منصتاً لاصوات الرعد

ووقع المطر على النافذة؟

رغم هذا المطر كله

رائحة الهواء مفعمة بالتراب..!

الشاعر حميد في قصائده هذه تراه يبحث في مضمونه الروحي من خلال تصوير ذاتيته أي عالمه الداخلي فجاءت قصائده وكأنها مرآة الذات الفردية فمثلت أناه بوصفها فاعلا شعريا لتنوب عنه في ميدان (الأنا) ليأخذ من التمركز الأنوي وسيلة تفاعل وتواصل مع أنا الآخر الذي لا ينفصل على واقعية الحدث تشكيلات جمالية تسكن وميض العاطفة، وإشراقاتها التشكيلية فالمخيلة الإبداعية لديه تتوهج من شدة حساسيته الجمالية في انتقاء التشكيلات المثيرة، وتحفيز إيقاعاتها الجمالية لذا تراه بين حين وآخر يعيد الماضي ليسأله او لنقل ليحاكمه وكما في قصيدته (لماذا فعلت بنا هذا كله - من مجموعته ألعب في الحديقة وافكر):

أيعقل، أنك لم تحبنا؟

أو أن قلبك الذي عجناه من الغيم

أصبح أسود لفرط الدخان؟

أنت الذي غسلت رؤوسنا السود بالمطر

كيف أرتضيت لنا أن نسبح بالدم

كل نهار ومساء؟

نتلمّس في مجاميعه هذه ميله الى الاتّكاء على البنية السّرديّة في نصوصه الشّعريّة من خلال استخدامه للصّور ذات العلاقة الوطيدة بسيرته الذّاتيّة، خصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالحضور المكانيّ للماضي والحاضر الذي لا يزال يلازمه بمفرداته وواقعه وكما في قصيدته (شجرة - من مجموعته ليس ثمة هواء):

طوال ست سنوات

الشجرة التي أجلس تحتها كل مساء

تصدر أنينا جارحاً..

وهي تتمايل بأغصانها الثقيلة

هذا الصباح

فلكون النص الشعري لدى الشاعر حميد قاسم هو كتلة مؤثرات جمالية تستمد قوتها من واقع الطفولة وكتل أخرى من مؤثرات الواقع المؤلم، فمن مزيجها تنسج مخيلته المتوهجة صوراً رقراقة تستفز احساسك حيالها بالألفة، والتناغم، والانسجام، ومن خلال فيضه الشعري يستنفر كل خزّاناته الذهنية والفكرية لتأويل منجزه الشعري وحيث لا يزال يعيش حلم الطفولة وازقته وتتنفس رئته الشعرية جمالها لتنتج لنا نصاً مفعم بالجمال وكما في قصيدته (ادغال - من مجموعته ليس ثمة هواء ):

لماذا يا إلهي

نشتري الغيوم

وندفنها في الحديقة..

فتمتلئ الحشائش بالدموع ؟

يعتمد الحراك التساؤلي ميداناً خصباً لتفعيل الحدث وتحفيزه للبحث والتأمل والاكتشاف لذا تترك قصيدته في ذهن المتلقي تساؤلاً مفتوحاً على تساؤلات لا متناهية، وإجابات لا نهائية. فالسؤال – عند الشاعر- يمثل بؤرة الحراك الشعري، ومكمن تفجير الدلالات؛ وحراكها وتوالدها المستمر والمحمل بشتى أشكال الهزائم والانكسارات والتصدعات الوجودية القلقة إزاء واقعنا المنهار لما تحدثه بنية التساؤل من إضاءات ومدلولات نصية.

لقد سعى الشاعر حميد قاسم إلى تشكيل رؤاه الخاصة، في ظل المستجدات والقضايا التي مر بها وطنه، بآليات فنية وتعبيرية وتساؤلات مشروعة تتناسب وإحساسه الشامل بحضوره في الحدث، كاشفا عن قلقه وصراعه العميق مع الذات والواقع المؤلم على ضوء العلائق الداخلة لبناء عالم جديد متجاوزا على الرؤية، فمن المحسوس يتكون النفسي والفكري، اللذان تنعكسان على الرؤية الحسية، فالعلاقة بينهما ارتباطية وانعكاسية على الإنسان، وعلى لغة الشعر وإيقاعه. لذا تراه يتساءل  في قصيدته (دم - من مجموعته ليس ثمة هواء ):

ماذا سأفعل بكل هذه الأسئلة وحدي؟

ماذا سأفعل بهذه الدماء التي تملأ السهل؟

ماذا سأفعل بهذه الدموع التي تملأ المناديل ؟

....

دائما...هناك دم..

وان لم يكن

فثمة رائحة تدل عليه

وفي الختام نتساءل:

ما الذي دعا الشاعر حميد قاسم ان يضخ كماً هائلاً من صور متشظية لتكون بمثابة مرايا عكست لنا شعريّة عميقة متأتية من المأساة، وهي تشير إلى مدى تعلّقها، باشتغالات إشكاليّة الصّراع اليوميّ حول الوجود الإنسانيّ فهي تحمل دلالة ما أو تضطلع بوظيفة من الوظائف فثمة موازنات سرديّة/ حكائيّة يقيمها الشّاعر داخل نصوصه كي تنفتح على العالم الخارجي فيجيب الشاعر ويقول في قصيدته (قيلولة الشتائم - من مجموعته ليس ثمة هواء):

الوحوش تتناسل وتتقافر في الغرف، نمور، أسود

ذئاب، ضباع، قطط، وخشية، زوجات بليدات

وحاقدات، سوقيون وكلاب سائبة

الضحية الأخيرة، الخطأ الأخير الذي يبدو

كأنه سيتكرر – تستيقظ من نومها،

تهذي بين النوم واليقظة:

كل هذا جعله في علاقة تنافر وخصام مع الآخر، مما جعل الشحنات النفسية التي يحملها، تستخدم في سياق المواجهة، فقد ارتأى أن يقبض بيد الجمال والاستلهام حتى يتساءل ويجيب ولو بسؤال عما يجوب بخاطره والقارئ العربي.

***

نزار حنا الديراني

(محاولة في استجلاء جانب من ملامح الكتابة في رواية الهادي الرقيق)

***

تصدير: (تعال نقيّد قيدنا) هادي الرقيق (أيام زمان ص18)

***

تمهيد: يمثّل تعدد أنماط الكتابة السّردية اليوم ظاهرة لافتة أبرز ما يُحمَد فيها هذا الثراء اللّامتناهي في تحويل التّجارب الحياتيّة الفرديّة والجماعيّة والمكوّنات الثّقافيّة والمعرفيّة إلى تجارب أدبيّة متعدّدة ومتنوّعة ممّا أدّى إلى تناسل أنماط سردية جديدة كلّ حين حتّى باتت أشكال تقاطع أنماط الكتابة في خطاب أدبيّ واحد إبداعات قد تفلت من قبضة الأجناسيّة الأدبية ونجد صعوبة في تصنيفها مثلما سُمّي بالسّرد التّعبيري في الشّعر والجُمل الشّعرية في الخاطرة والرّواية ومثله التقاطع بين الرواية والسّيرة الذي ولّد ما اصطلح على تسميته بالسّيرة الروائيّة وكذلك الرّواية السّيرذاتية التي نسب إليها المؤلّف هادي الرقيق مُنجَزَه " أيّام زمان" .. وحتى نستطيع النّفاذ نحو جانب على الاقل من سمات فنّ الكتابة السّردية في هذا المنجز نحاول تحديد أبرز مقوّمات الكتابة في هذا الصّنف الأدبي.. فإذا كانت السّيرة الذاتيّة حسب ما يستنتج من أديبات " شكري المبخوت " مثلا في " سيرة الغائب سيرة الآتي" تقوم على (سرد الشّخص الذي له قيمة اعتباريّة لوقائع حياته او لجزء منها على سبيل التّثمين والتّرميز أو ربّما على سبيل التّرشيد نمذجة للقدوة والمثل الأعلى..) فإنّ الرّواية هي بشكل عامّ واستنادا إلي ما يمكن استخلاصه من "مقدّمات توفيق بكّار والمساءلات النقديّة لبوراوي عجينة" (سرد لحياة بأسرها سردا فنّيّا يقوم على توظيف الوقائع والشخصيات قياسا إلى رؤيا معيّنة وخلفية ذهنية محورها جملة من الصّراعات والتناقضات متعدّدة الأبعاد تتشكّل حولها تلك الرّؤيا.. لذلك لا مجال في الرواية للوقوف عند نسخ التجربة الحياتية او محاكاتها..)

ومن هنا يجوز التساؤل عن مدى وجاهة هذا الإدغام الذي حصل حديثا بين ما هو روائي وما هو سيرذاتي؟ كما يجوز التساؤل عن ممكنات التّمييز بين السّيرة الرّوائية والرّواية السّيرذاتية؟

فكيف صاغ هادي الرقيق ممكنات التّعالق بين الروائي والسّيرذاتي في" أيّام زمان"؟

التعريف الأوّلي بالرّواية السيرذاتية وصاحبها:

هادي الرقيق: أديب وناقد في مجال السّرديات تونسي من صفاقس أستأذ تعليم ثانوي متحصل على الاستاذية في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب القيروان (1989) والكفاءة في البحث من نفس الكليّة (1991) ثمّ الماجستير من كلية الآداب بصفاقس (2007) وبعدها الدكتوراه حول تطوّر فنّ الأقصوصة في الأدب التونسي (2017).. كأديب يبدو مغرما بالأقصوصة في إبداعه ونقده إذ أصدر مجموعات قصصيّة منها: الوردة التي لا تذبل (2005) وأطبّاء أصحّاء (2011).. وأصدر في نقد الأقصوصة: الأقصوصة: هذا الفنّ المراوغ (2009) وكذلك: صلة الأقصوصة التونسية بالأقصوصة الأوروبية ومسألة النشأة (2019)

أمّا " أيام زمان " فقد أصدرها في 2020 عن دار الاتحاد للنشر والتوزيع.. وهي (كما ذكر المؤلّف على واجهة الغلاف) عبارة عن (رواية سيرذاتيّة) بمعنى ذاك التقاطع بين محوريّة حضور الذات في مقوّمات السّرد داخل منظومة الأحداث مسيّجة بأطرها متداخلة في شبكة العلاقات مع شخصياتها وبين التّوظيف لكلّ ذلك وفق رؤيا فنّية جمالية وذهنيّة في ذات الآن..

حدّد لها المؤلّف منذ واجهة الغلاف وجهة هي التّذكّر عبر العودة إلى الماضي وهو ما أحال عليه العنوان الوارد مركبا إضافيّا يفيد تخصيص محتوى الكتابة بفترة زمنيّة انقضت عبر السّرد المعتمِد على تقنية الاسترجاع أو الاستحضار التي لا ترتّب الأحداث في الكتابة الرّوائيّة عادة ترتيبا تعاقبيّا وإنما تفاضليّا تبعا لرؤيا الكتابة وخلفيّتها.. كما حدّد لها أيضا أديما تونسيّ الجذور والأصالة في علاقة ببطل السيرة وحنينه إلى مرحلة راسخة في حياته هي مرحلة الشباب وبدايات المشوار مع مهنة الشّقاء اللذيذ في بعض القرى وفي علاقة بتونس الوطن وما شهدته القرى والمدن من أحداث ساخنة خاصة في أواخر تسعينيات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي ولعلّ مشهد سور القيروان التي زاول فيها المؤلّف مرحلة التعليم العالي وبعض أبوابه العتيقة يوحي بذلك فجاءت مكوّنات واجهة الغلاف في تناغم يتكامل مع محتوى الكتاب الذي صدّره صاحبه بمقدّمة موجزة وضّح خلالها دواعي التأليف (الكتابة نفيا للمسافات في ديار الغربة تصبح ضرورة ملحّة) في علاقة بخوضه تجربة التدريس بسلطنة عُمان في إطار التعاون الفنّي بينها وبين تونس.. وكذلك دواعي الإصدار بعد تردّده (قررت عدم نشره لاعتقادي أنّه تقليديّ رهن نفسه للقواعد الأجناسية الكلاسيكية) ثمّ قراره لاحقا النّشر بعد اقتناعه بكون نصّه يقوم على عودة الحكاية حاملة جوانب حديثة في توظيف أدوات الكتابة السرديّة فضلا عن كون (الشروط الموضوعية التي ألهمته المادّة الأوّليّة لمحتوى الرّواية مازالت نتائجها وتداعياتها قائمة).. وبعد التّصدير يمتدّ نصّ هذه الرّواية السّيرذاتية على عشرين فصلا محكومة بما يسمّيه الدكتور مصطفى الكيلاني بالسّرد الرّوائي الشذري الذي (يقوم على تعدّد مسارات حكاية تلتقي في مسار واحد) لذلك جاءت هذه الفصول غير معنونة وغير مسايرة للأحداث في تسلسلها الخطّي كل فصل منها يبدو وكأنّه مشهد حكائيّ مستقلّ بذاته لولا هذا الحضور الشامل لبطل السّيرة بأناه المتّماهية مع الرّاوي الأوّل والمباشر والعليم الذي هو المؤلّف في الأصل.. ولو لا محورية القرية الجنوبية إطارا مكانيا للأحداث بملامحه ورمزيّته فضلا عن ورودها بين عاصفتين: عاصفة في الفصل الأول مثّلت قادحا للأحداث وعاصفة انغلق عليها الفصل العشرون فاتحةً بذلك الاسترجاعَ على الاستشرافِ كذلك .. وبين العاصفتين سيرة الذّات في سياقها العام الثقافي والاجتماعي والسياسيّ الوطنيّ وحتى الحضاريّ .. فكيف صاغ المؤلّف فصول هذه السيرة كخطاب فنّيّ؟ وماذا حمّلها من محتوى وأبعاد ؟؟

أبرز سمات الخطاب:

خطاب سرديّ متنوّع متعدّد المشارب والمرجعيات يدلّ على سعة اطلاع صاحبه الذي أجاد توظيف التّقاطع بين الرّوائي والسّيرذاتي في منجَزه فجاء مستوعبا كما ينبغي لرؤياه الثقافية الإبداعية في تفاعلها مع رؤياه الوجودية الإجتماعية..

قوام هذا الخطاب أساسا لغة منتقاة بعناية كي تلائم بين طرائق السّرد ومحتوياته: فهي تقسو معجما وتراكيب وصورا في الإنشاء الفنّي للمشاهد العنيفة والدامية وتصوير تداعياتها المأساوية (...مجموعة اندسّت في عرش القتيل وهاجمت مقرّ الشرطة وعاثت في الأوراق تمزيقا وفي الزجاج تهشيما والكراسي والمكاتب تحطيما. وبعد أن استلّ رجال الإسعاف العونين من مقرّ الشرطة أغرقت أشلاء الأشياء بالبنزين وأشعلت النّار فتسلّلت ألسنة اللّهب من الأبواب والشّبابيك محتجّة على أنّ أكل الحطام في الوليمة يفتقد إلى دسامة اللّحم البشريّ _ الفصل 2 ص 13) فتكثيف معجم الموت والنّار والتّشظّي وما جاورهما هو الذي أثث المشهد بغلالة مكثفة من القسوة الضامنة لبلوغ بشاعة الأحداث إلى خلجات القارئ بما يلزم من الإثارة ولاستدراج تفاعله معها.. كما أنّ هذه اللغة راوحت بين الواقعية في نقل تفاصيل بعض الأقوال والأفعال والأحوال باللهجة العامّيّة المهذّبة غير المبتذلة (_ يا جماعة توحّشت الخدمة في الحانوت.. والله كأنّي فارقته لسنوات... _ أ ليس الأجدر أن تقول له انت ذلك في بيتكم _ نشوفك انت أكثر منّو... نهايتو.. السّلام _ الفصل 10 ص 70)

و بين الأدبية الفاخرة الممعنة في البلاغة الى حدّ الاكتساء بنزعة شاعرية رائقة تستلهم في كثير من الأحيان من مآثر موروثنا الأدبيّ: (أزورها خائفا وأودّعها خائفا رغم أنّ سواد اللّيل يشفع لي وضوء الصّبحِ لا يغري بي لأنّي أودّعها قبل الفجر _ الفصل 3 ص 21) وكذلك ما ورد في حوار وجوديّ بينه وبين شخصية المنصف: (اليوم خمر وغدا أمر.. لا يهم.. ستعرفني بمرور الأيّام _ الفصل 11 ص 90).. هذا التوظيف الرشيق لعبارات المتنبي وامرئ القيس ومحمود المسعدي أيضا (إنّي منها كالمقرور يلتمس نارا عليه أن يحافظ على مسافة مناسبة منها لأنّه إن اقترب أكثر احترق وإن ابتعد أكثر لا يلحقه لا يلحقه دفؤها ولا يشمله حدبها _ الفصل 16 ص 114) نجد اشباهه مبثوثة في مختلف فصول الرواية إلى جانب الاقتباس في أحيان أخرى من مَعين النّصّ القرآني وابجدياته (في هذه القرية اللّعينة يلبسون أمام النّاس لباس التّقوى على حسابنا ويريدون أن نصوم على كلّ شيء _ الفصل 10 ص 72..... فتخلّوا عن أفكارهم الهدّامة ليمنّ الله عليهم بالوفاق ويهديهم الى الصّراط المستقيم _ الفصل 11 ص 84)

بهذه السّمات ساهمت اللغة الفاخرة في صياغة كتابة روائيّة تحفظ للعربيّة الفصيحة هيبتها وتضيف إلى البعد الفنّي بعدا معرفيّا ثقافيا يثري زاد القارئ ويغنيه بالمعلومات والمفردات والاستعمالات الكثيرة لهذه اللغة التي أصبحت في عصرنا مستهدفة والبعض يشكّك حتى في قدرتها على مواكبة مُجرَيات ما يشهده من تقدّم حضاري وتكنولوجي وتحمّل تمظهرات الحداثة وهذا من قبيل اندغام الرّسالة الإبداعيّة بالرّسالة التّربويّة في تجربة الهادي الرقيق شأنه في ذلك شأن العديد من الأدباء العاملين في قطاع التّعليم وتحديدا في تدريس اللغة العربية وآدابها .. فالجانب السّيرذاتي في روايته يظهر في بُنَى الخطاب فضلا عن توظيف الأحداث وتكوين الشخصيات والعلاقات بينها وفق تنويعة يتكامل فيها العجائبيّ. مع الواقعيّ التّسجيليّ حتّ يتناسل منه في مواضع عديدة مشحونة بالأبعاد الرّمزيّة منها مثلا: (جسم طائر كأجسام البشر يفرقع بعيدا فوق رؤوسهم فرقعة متقطّعة متدرّجة في القوّة. تبدأ ضعيفة ثمّ تقوى الفرقعة إلى أن ينفجر الجسم من الجنبين.. مع كلّ فرقعة يُضاء الفضاء جزئيّا ويُظلم من جديد بين الفرقعة والفرقعة..... أبهج المشهد أهل القرية وانساهم الأحداث الأخيرة ومخلّفاتها.... سارعت تلك الدّول المتحضّرة جدّا إلى تغطية إعلامية ضخمة تليق بهذا الأسلوب النّبيل في الموت ووعدت بمكافأة القرية مكافأة سخيّة على هذا الاكتشاف.. قالت إنها ترجّح ان تنال قريتنا الجائزة.. - الفصل 14 ص 107) وذلك في إحاطة بوقائع حضور مساعدات منظّمات الإغاثة الدّولية للّاجئين الأفارقة المخيّمين على تخوم القرية التونسيّة في الجنوب وما يخبّئه ذلك من محاذير قادمة وعدم فهم سكانها لحقيقة ما يجري وانشغالهم عنه بالأضواء والفرقعات اللّيلية الآتية من الطائرات وهي تلقى بالمؤن والأغطية على اللّاجئين.. تلك الوقائع التي صاغها المؤلف في مشهد عجائبيّ للانتهاك الخارجي لسيادتنا الوطنيّة المغلّف بالإغاثة الدّوليّة فصوّره في السّماء مشتقّا من مشهد واقعي للقرية وأهلها في الأرض .. و تتكامل في هذه التّنويعة أيضا المعالجة الدّراميّة مع طابع السّخرية المرّة في الإحاطة بمشاكل الواقع وقضاياه من خلال معاناة أهل القرية المنفتحة على معاناة الوطن ..

و إذا أقررنا لـ"أيّام زمان" بمواصفات السيرة فإننا لا يمكن أن نجرّدها من مواصفات الرّواية ليس فقط من خلال ما تبيّنّا من مظاهر التقاطع الفنّي بينهما في مستوى البنية السّرديّة وتوظيف أدوات الكتابة الرّوائيّة إنّما أساسا في مستوى التقاطع بين حضور الذات / الأنا الطّاغي وبين انغماس هذه الذات في مشاكل الواقع وقضاياه حتى ذابت فيها من خلال ما عاشه بطل السيرة في سياق ذاته وواقعه المهني والاجتماعي ليس كنموذج مثاليّ وُظّفت المشاهد والوقائع والمواقف في تلميع صورته بتحيّز إنّما ككائن اجتماعي متحرّك في هذا الواقع متأثّر به سلبيّا وإيجابيّا يعيش نزوات الشباب شأن جيله بشكل مخالف للعرف الاجتماعي ويشرب الخمرة المهرّبة في الأماكن غير المرخّصة قانونيّا واضعا ذاته في غمرة مجتمعه يقاسمه ما استشرى من المظاهر السلبيّة الناجمة عن الجهل والفقر والحيف السياسي وهو ينقل الوقائع المجسّدة لذلك بطريقة السّخرية اللّاذعة في أغلب الأحيان مثل: (تفشّت بفضل ذلك هواية جديدة قديمة لا أحد ينكر أنّها تجمع بين المتعة والفائدة تسلّي وتنشّط الاقتصاد وهي شرب الخمرة في الحوانيت.. ولو سِرتَ في أنهُجِ القريةِ بعد العاشرة شتاء ومنتصف الليل صيفا للمست أنّ الحانوت الذي يبيع صاحبه ويشتري أو يصلح أو يصنع نهارا يستحيل إلى مبغى أو حانة او محلّ قمار ليلا وقد يجمع بين الوظائف الثلاث لتعدّد مواهب مديره وتفانيه في العمل غرضه الأسمى والحقِّ يُقال التّرويح عمّن كلّت نفوسهم .. الفصل 15 ص 111) وبطريقة الدراما المؤثّرة في بعض الأحيان حتى يتهيّأ للقارئ وهو يتابع اعتناء الرّاوي بما يحدث في الواقع المحيط ببطل السيرة أكثر من اعتنائه بشخصه وإنجازاته أنّه إزاء رواية واقعية خاصّة وقد ارتكزت طريقة المؤلّف في إنشاء الشخصيات والعلاقات بينها وبين بطل السّيرة على فتح المجال السّردي على مشاكل الواقع وقضاياه في البلاد التونسيّة لا على حركته في الواقع وفعله فيه ممّا اتاح للمؤلّف تسريب مواقفه تجاه واقعه وتقييمه بطريقة أدبيّة فنّية تستفزّ دون أن توجّه.. فعلاقته مثلا بكلّ من رجاء ونجاة كانت نافذة على واقع المرأة في تونس سواء في تحرّرها المُسقط والمنسوخ عن الغرب (رجاء) أو في وقوعها ضحيّة النظرة الدّونيّة للمرأة الناجمة عن سيطرة العقلية الذكورية في القرى والأرياف.. كما كانت علاقته بكلّ من العلويني والمنصف نافذة على المؤسّسة الأمنية وحقيقة علاقتها بالمواطن والسّجن وما فيهما من مشاكل وتجاوزات (بدأت الأحداث بحرق مركز الأمن في القرية إبّان العاصفة) .. فجاءت المشاهد والأحداث وأفعال الشخصيات وأقوالهم متداخلة مع تأمّلات المؤلف لمعايب واقعه وقضاياه بما فيها العداء بين المواطنين والسّلطة التي تجلّت خاصّة في الإحالات على تحرّكات الطّلّاب والنقابيين وتعامل السلطة معها (قبل تغيّر نظام الحكم بتونس في 2011) بل وكذلك تأملاته الوجوديّة: إذ كتب مثلا (هل الحبّ والرّعب غريمان يتعايشان أم يقوى الحبّ بالإيمان... أم هل القلب خؤون متقلّب لا يثبت على حال؟؟ الفصل 3 ص 22) وأيضا (العواصف لا تهاجم الأشجار والنّباتات في الحقول والغابات ولا تحرّك الكثبان في الصّحاري وحسب.. إنّما تترصّد البشر أيضا هناك في الأركان والمنعطفات تنتظر اللحظة الملائمة للانقضاض على سعادتهم).. وقد كان المؤلف / خلال كلّ ذلك حاضرا بذاته حضورا مباشرا كبطل سيرة ذاتيّة بامتياز على صعيد لغويّ أدّاه ضمير المتكلم المحرّك الأساسي لعمليّة السّرد وعلى صعيد بناء شخصيته في تماه مع الرّاوي (الاستاذ الذي تخرج من الكلية وانتُدِب ليباشر مهنة التّدريس في قرية بالجنوب التونسي) وكبطل روائيّ أيضا بامتياز فينفعل ويتفاعل مع جزء من الحياة في البلاد التونسية بدرجة من الوعي والثقافة سمحت له أن يكون من الناحية الفنّية بمثابة الشّخصية النافذة والنّاقدة المثيرة للاشكاليات دون أن يكون الشخصّية الفذّة التي تصلح ان تكون قدوة إيمانا منه بأنّ المرحلة التاريخيّة الرّاهنة تحتاج إلى مواطن يحسن قيادة نفسه دون الاقتداد أو الانقياد لغيره..

خلاصة القول:

هذه الرّواية السّيرذاتية رغم محوريّة حضور المتكلّم في جميع أطوارها وفي مقومات الخطاب السّردي.. فإنّ الهادي الرقيق لم ينتهج فيها نهج التّعاطف الكلّي ولا حتّى النّسبي مع الذّات كما فعل طه حسين في أيامه أو تمييزها كما فعل جبرا ابراهيم جبرا في شارع الأميرات ولا تبييضها كما فعلت بعض الشخصيات السياسيّة والثقافيّة في عصرنا ممّن بلغ إعجابهم بتجاربهم في الحياة إلى درجة اقتناعهم بضرورة تخليدها .. واكتفى بإبراز سمات ذاته كما هي على علّاتها.. لذلك هي تتقاطع كثيرا مع الرواية الحديثة في منحاها الذي يتشابك فيه التسجيلي مع الإشكالي.. ولعل هذه السّمات هي التي جعلت المؤلف ينسبها إلى الرّواية السيرذاتيّة (و لم ينسبها إلى السّيرة الرّوائيّة التي يمكن اعتبارها بإيجاز سيرة الفرد بفنّيّات الرّواية) بما هي سيرة جيل بأسره يشعر بالغربة عن زمانه لمّا تجاوزته وسائل النقل الحديثة وتكنولوجيات التّواصل مع تجاوزها لمعضلة المسافات المكانية مكرّسة لمعضلة أعمق هي المسافات الزمانية والحضاريّة خاصّة في عصر العولمة التي كتب فيها ذات حوار (_ عمّا تنوين القراءة ؟ _عن كل شيء ولنبدأ بالعولمة.. اريد أن أعرف المثالب والمحاسن من الإنجازات على حدّ سواء...

_ليس فيها غير المثالب.. إنها تحيا من لدغ الآخرين وتشيّد مجدها المزعوم على أنقاضهم.. _ الفصل ص 134)

و بما هي سيرة وطن أنهكه جحود أبنائه وعلى رأسهم المتداولون على المناصب والمسؤوليات مُمعنِين في تلويث أجواء الحياة فيه وتهميش أرجائه النّائية (خاصّة الجنوب)..

و هي سيرة جيل من المربّين تجشّم اوجاح الزلزلات الأولى التي أدّت الى انهيار منظومة التعليم العمومي في تونس بعد مرحلة تعتبر مثمرة من مكاسب المدرسة العموميّة العصريّة التي كانت تتسم بمستوى محترم من الجودة علميّا وبيداغوجيّا على مستوى العالم ..

هي أيضا سيرة المواقف أكثر من كونها سيرة الواقع والوقائع في مرحلة من حياة المؤلف ومن تاريخ تونس التي حضرت مُختزَلة في القرية بمن فيها من نسيج اجتماعي ومن مشاغل ومشاكل.. صاغها المؤلف روائيّا وهو يُوكل إلى نفسه الانخراط فيها ليكون شاهد عيان وجزءً من المشكل وركنًا من القضيّة لا يستثنى نفسه من المسؤوليّة مُحاوِلا المحافظة على موقعه الذي حدّده لنفسه كمؤلّف تونسي في مجال السّرد العربي خلال مرحلة التّجريب من أجل التّحديث متّزنا ومتوازنا ودون أن يرتمي تماما في حضن المدارس الغربية بحثا عن الفخامة او العالمية لذلك جاءت روايته متماهية مع تربتها متجذّرة في أصولها التاريخية والثقافيّة باحثة عن ممكن استباقيّ يستمدّ رؤاه من الماضي ويقيسها على الراهن وينقلها تجاه الآتي وتجاه الكتابة السّردية في علاقتها بالتجربة الحياتيّة وبما جاورها وما حاورها من اوساع الوجود وأنماط الإبداع..

 ***  

كوثر بلعابي – أديبة وناقدة /  تونس

.......................

المراجع:

- الهادي الرقيق (أيام زمان)

- د. مصطفى الكيلاني (الأدب التونسي هذه الأعوام)

- أ. جاسم الموسوي (تحوّلات الرّواية العربيّة الحديثة: مجلّة الدراسات العربيّة)

 

صدرت عن دار "الرافدين" ببغداد رواية "زارع الرَيحان" للقاصة والروائية العراقية المٌقيمة بلندن هاجر القحطاني وهي باكورة أعمالها الروائية التي ستحفر اسمها جيدًا في ذاكرة المشهد الروائي العراقي الذي يتعزّز كل عام بأسماء إبداعية نسوية مهمة أمثال حوراء النداوي، شهد الراوي، غادة صدّيق رسول وغيرهنّ الكثير.. ومَنْ يقرأ هذه الرواية بإمعانٍ كبير وحسٍّ نقدي عالٍ سيكتشف من دون عناء أنه يقف في مواجهة نصٍ سردي متين من حيث هيكله المعماري، وبناء شخصياته، وعمق ثيماته الرئيسة والفرعية، بل وذهبت أبعد من ذلك حينما أتقنت الجملتين الاستهلالية والختامية وإن تأخرت الأولى قليلًا لكنها ظهرت في نهاية التمهيد الذي قدّمه الراوية صفاء حينما قال: "كتبتُ هذا فحسب لأنني لم أكن لأنجو إلّا بالكتابة".

تتمحور الثيمة الرئيسة لهذه الرواية على تجربة علمية يقوم بها الدكتور حمزة؛ وهو طبيب نفسي عراقي مُغترب في النمسا بدعم من ابنيّ عمه حامد وواثق اللذين يعيشان في العراق ويوفران له المال وإدارة المشروع.. "يحاول الدكتور حمزة بمساعدة فريق مصغّر من الأطباء والمختصين خلق بيئة قياسية لمعالجة آثار اضطراب ما بعد الصدمات العاطفية الحادة التي تسببها الحروب والعيش في ظل القهر المزمن".. وما أكثر هذه الحالات أو الأمراض القابلة للعلاج خاصة بعد الاحتلال الأنغلو- أمريكي للعراق في 2003 وحتى الوقت الحاضر.. وعلى الرغم من أنّ العدد الإجمالي للأشخاص الموجودين في هذا المنتجع يقارب الخمسين شخصًا إلّا أنّ عدد المرضى أو المشاركين هو 13 شخصًا؛ عشرة ذكور وثلاث إناث تتراوح حالاتهم بين الاكتئاب والقلق المزمن إلى الانفصام.714 hajar alkhahtani

تتألف رواية "زارع الرَيحان" من أربعة فصول مرّقمة عدديًا.. تدور أحداثها زمنيًا خلال ستة أشهر تقريبًا في أثناء الحرب على داعش إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أنّ مدة التجربة العلمية ثلاثة أشهر لم يكملوا منها سوى خمسة أسابيع تنضاف إليها مدة العلاج ببغداد، والنقاهة في إسطنبول، وتليها العودة إلى العراق، واللقاء الأخير الذي دبّرته ضُحى بين الراوية صفاء وريحان التي يحبها وتوهّم أنها تبادله الحُب بحبٍ أعنف.. أمّا المكان فهو ينحصر بين محافظة واسط ومدينة الصويرة التي تحمل طابعًا ريفيًا فيما يتعلق بالعادات والتقاليد الاجتماعية في الأقل.. لا تقتصر الأبعاد المكانية على واسط وبغداد وإسطنبول وإنما تتعداها إلى النمسا التي قدِم منها الدكتور حمزة وترك ابنه وطليقته النمساوية هناك، وتصل إلى مصر أيضًا على اعتبار أنّ الدكتور محمد ماهر قد قَدِم من القاهرة وسبق له أن درّس في إحدى الجامعات العراقية ببغداد.

ثنائية الشرق والغرب من جديد

يتبنّى صفاء عملية السرد بضمير المتكلم ويلعب دور الشخصية الرئيسة منذ مستهل الرواية حتى نهايتها، كما يتناصف دور البطولة مع شخصية "ريحان" أو "هي" كما أطلقت عليها الروائية هاجر القحطاني، وسوف تُطلق تسمية "هو" على الدكتور حمزة، الطبيب النفسي المرموق القادم من النمسا لتضعنا من جديد أمام ثنائية الشرق والغرب حتى وإن كان هذا الطبيب عراقي الأصل لكنه أمضى 35 سنة في الغرب تشرّب فيها بالثقافة النمساوية وامتحّ فيها من عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية الشيء الكثير.

لا بدّ من الاعتراف أولًا بأنّ هاجر القحطاني قد نجحت في تشيّيد الهيكل المعماري للرواية، وبرعت في بناء الشخصيات الكثيرة التي قاربت الخمسين شخصية متنوعة تجمع بين الأطباء والمختصين والمرضى والموظفين والحرّاس والطباخين وما إلى ذلك.. وربما تكون شخصية الراوي صفاء هي الأكثر إغراءً لأنه لم يحضر لكي يخضع للتجربة العلمية وإنما ليدوّنها.. لعل من المفيد الإشارة إلى أنّ مدير المشروع حامد آل عايد هو الذي يستهل السرد في الصفحات الأولى من الرواية وحجتهُ في ذلك هو تعريف صفاء بمرافق المنتجع وأجنحته المتعددة التي يسعى طاقمها جميعًا لإنجاح هذه التجربة العلمية التي تبدو غريبة وغير مألوفًة في بلد مثل العراق خرج لتوّه من حربٍ كونية وما يزال يقاتل داعش على قسم كبير من جغرافية بلده.

نتعرّف في الفصل الأول على طبيعة المنتجع المُؤلَف من ثلاث طبقات تضم غرفًا متعددة للمقيمين والمقيمات.. وثمة جناح مخصص للدكتور حمزة ومساعديه الخمسة وهم على التوالي: الدكتور أحمد، المختص بالعلاج النفسي السريري، والدكتور رائد، طبيب نفسي عراقي من النمسا، واستيفان الموصلّي، زميله في الكلية، طبيب عام من بغداد قرّر أن يدرس العلاج الإدراكي السلوكي في ألمانيا، والدكتور محمد ماهر من مصر.. يعتقد الدكتور حمزة بأهمية هذه التجربة العلمية وضرورتها المُلحّة للبلد الذي عانى سنواتٍ طوالًا من العنف والخوف والاضطراب.. وبما أنّ الراوي هو الشخصية الرئيسة فلا غرابة أن نراه يدوّن دائمًا الملحوظات السريعة والكلمات المفتاحية في النهار لكي لا تفوته شاردة أو واردة.. فهو يحب المُراقبة الدقيقة عن بُعد ويهوى التفرّج على العالم وحياة الآخرين.. يمكن ملاحظة أولى أوهام الراوية حينما يتحدث عن "ريحان" ويقول: "ظننتُ أنها ابتسمت لي".. ثم يُضيف بأنه التقط كل إشارة ونأمة صدرت عنها.. وحينما اقترحت عليه أن يطلبا شايًا قرب حوض السباحة اعتبر هذا الطلب "تصريحًا كاملًا بالحُب" مع أنّ وثيقة عقد العمل فيها اشتراطات صعبة تمنع إقامة العلاقات الخاصة أو الحميمة وتحظر إفشاء الأسرار.. على الرغم من التصاريح والأذونات التي حصل عليها حامد من مجلس المحافظة ووزارة الداخلية إلّا أن شيوخ العشائر كانوا مستائين جدًا من هذا المنتجع الذي يبدو بالنسبة لهم مكانًا مشبوهًا لا علاقة له بالأبحاث والتجارب العلمية التي تُطبق على المرضى النفسيين الذين هرست الحروب والمخاوف أعصابهم.. الأمر الذي أحبط البعض منهم وجعلهم يشعرون باليأس لأننا لا نتغيّر ونصبح مثل بقية بلدان العالم المتحضرة.. لا يجد الراوية غضاضة في القول بأنه كان مُراقبًا فاشلًا لأنه سرعان ما صار يتوق لسرد قصته الشخصية بينما يتمحور جوهر عمله على رصد قصص الآخرين وتدوينها بدقة شديدة تقتضيها الأمانة العلمية.

التشبّث بالقوانين المدنية الحديثة

تبلغ الأحداث ذروتها في الفصل الثاني من الرواية، فالمقيمون الثلاثة عشر هم مرضى بشكل من الأشكال كما أشرنا سلفًا وأنّ انفلاتهم أمر متوقع في أية لحظة.. وهذا ما حدث مع عبّاس الذي عرفناه كرسّام ماهر طوّر علاقته العاطفية مع ضُحى التي تُعاني هي الأخرى من قلقٍ عصبيٍ مُزمن.. وبينما كان عبّاس متوترًا كانت الشرطية مها تمشي خلفه وتصرخ بهاتفها النقّال فطلب منها أن تبتعد عنه وتسلك طريقًا آخرَ غير أنها استمرت في الصراخ المُستفز فشتمها وغيّر طريقه لكنها ظلّت تمشي بمحاذاته وتتكلم بصوت حاد، وحينما ضايقتهُ ليفسح لها الطريق دفعها فسقطت على الصخرة ثم سالت الدماء من تحتها وحينما تأخرت سيارة الإسعاف أجهضت الشرطية جنينها ذا الشهور الأربعة.. وبما أنّ عبّاسًا لا عشيرة له فلا بدّ لأصحاب المشروع والقائمين عليه أن يتحملوا مسؤولية الحادث.. لم يقبل حامد بفكرة الفصل العشائري التي اقترحها الشيخ ثابت وأكّد له بأنهم يفضّلون الذهاب إلى المحكمة.. فمن غير المعقول أن يلجأ أصحاب المنتجع العلمي والقائمين عليه إلى الأعراف العشائرية وهم الذين يؤمنون بالعلم والمعرفة ويحملون الشهادات العليا من خيرة الجامعات الأوروبية أن يفكروا بـ "العطوة" أو "الدّكة العشائرية" ويبتعدوا عن القوانين المدنية الحديثة.. الأمر الذي سيعرّضهم إلى إطلاق النار من قِبل عشيرة الشرطية مها ويدفعهم إلى التفكير بإغلاق المنتجع ومغادرته خلال مدة قصيرة.

تتكشف العديد من الشخصيات في هذا الفصل حيث تسلّط الروائية هاجر القحطاني الضوء على شخصية الراوية صفاء الذي عرف خلفية والده الشيوعية، ومحنة خاله الذي سُجن لأسباب سياسية ثم أعدمه رفاقه عندما اشتدت قبضتهم على كرسي الحُكم فانشغلت أمه بعائلة شقيقها القتيل فوضعت أولاده الثلاثة في المتن وتركته في الهامش لا يلوي على شيء.. كما نتعرّف أيضًا على أسرة "ريحان" التي اختفى والدها في سنتها الأولى حيث سُجن لأسباب سياسية مع أمها التي سوف يُفرج عنها بينما يتوارى الأب في مدارج النسيان ولا يعرفون له أثرًا حيث تتطلّق أمها الحسناء غيابيًا وتتزوج من ضابط أمن ظل يلاحقها منذ خروجها من السجن لكن سوف يموت بعد عامين بسبب مرض غريب ألمّ به فتنتقل للعيش، هي وأختها الكبرى، مع جدتها بعد هجرة خالهما الوحيد.. وبعد مدة قصيرة تموت الأم منتحرة بالسُمّ لتترك لنا هذه الضحية مُدججة بالأمراض النفسية التي لا تتحملها صبية صغيرة لم تجتز عامها السادس.

التعالق مع السمفونيات والأغاني واللوحات الفنية

تتكثف المعلومات الطبية فتُطلعنا الروائية بواسطة الدكتور حمزة على "منهجية الخيط الأبيض" وعمل الدماغ البشري الذي يُشبه كأس سوائل ملونة تُحدّد الحالة المزاجية للشخص.. لا يترك الراوية أي إنسان له علاقة حتى وإن كانت عابرة مع "ريحان" فقد نقل هواجسه إلى الدكتور حمزة لأنه لاحظَ أنّ هذا الأخير يقضي وقتًا لافتًا في الحديقة مع ريحان.. ما يميز هذا الفصل أيضًا هو تعالق الروائية هاجر القحطاني مع بعض الأغاني العراقية والعربية مثل أغنية "يا لجمالك سومري ونظرات عينك بابلية" التي غناها فاضل عوّاد، وأغنية "القلب يعشق كل جميل" لأم كلثوم، وأكثر من ذلك فهي تتواشج مع لوحات فنية مشهورة مثل "الصرخة" لأدوارد مونغ التي تحفّز المرضى أو المشاركين على البوح أو الاعتراف ربما.. بينما لا يحتاج المدير حامد إلى أكثر من صوت المطرب العراقي سعدي الحلي لكي يبوح بكل شيء.

يقرّر حامد خروج الدكتور ماهر أولًا فـ "للأغراب الحق في أن يكونوا أول المُغادرين عند الخطر المُحدق".. حيث وصل إلى بغداد من دون أن تعترضه سيطرة رجال الشيخ ثابت.. تتفاقم أزمة عبّاس النفسية حيث أغلق الباب عليه ولم يفتحه حتى كسروه فوجدوه فاقد الوعي لكنه سمع أحدهم يقول بأنّ عباس مات فتكفل الدكتور حمزة بنقله وتشييعه ودفنه بعد إخبار عائلته بما حدث.. أمّا الدكتور ماهر فقد شرح للراوية بأنّ "الناس الذين يعانون من متلازمة القلق الناتج عن الصدمة يصعب عليهم الاندماج في علاقات قريبة".

تستمر الروائية هاجر القحطاني بتقنيتها الميتاسردية حيث تتعالق مع السمفونية الخامسة لغوستاف مالر، ثم تشتبك مع فيلم "موت في البندقية" للمخرج الإيطالي لوتشينو فيسكونتي.. وضمن هذه التنقلات الميتاسردية سنعرف أن عبّاسًا قد نُقل إلى الطب العدلي الذي يُحيطنا علمًا بأن سبب الوفاة هي "جرعات زائدة من حبوب المنوّم مع كحول" علمًا بأنّ الحارس "طاهر" هو الذي أوصلَ له قنينة الشراب.. تتعمّق هواجس الراوية وتساؤلاته الغامضة التي لا يجد لها أجوبة مُقنعة بشأن تعلّق "ريحان" بالدكتور حمزة، ولم يفهم سرّ انشدادها له، وإعجابها الشديد به.. وهو يرى بأنّ "ريحان" قد وهبتهُ الحياة، وها هي تميتهُ مرة أخرى.. ويؤمن بأن العبث بالحياة والموت جريمة.. لا يصدّق العديد من زملائه في العمل بقصة الحُب التي توهمها وحتى الفلاح سعد وصف حالته بأنها "ليست حُبًا، أو هو حُب من النوع الضار " وطالبهُ أن يحمي نفسه منه لا أن يُغرقها فيه.. الغريب أنّ الراوية صفاء يطلب من الدكتور رائد الدخول إلى غرفة الاعتراف أو المشاركة وعلى صوت باخ المُهدّئ والمُحفِّز على الكلام يبوح بما يعتمل في داخله، فنفهم بأنه من مواليد سنة 1980، وكان والده سجينًا سياسيًا في ذلك الوقت.. ثم يُعرّج على ابنة خالته التي ظلت كما هي عليه قبل الزواج وبعده، ولعل هذه الزيجة توهجت لمدة شهر قبل أن تخبو نهائيًا فلاغرابة أن يبحث عن امرأة بديلة يحبها ويتعلّق بها على الدوام.. لقد أحبّ الراوية الدكتور رائد وأدخلهُ إلى أعماقه بسهولة ويسر..

تتفاقم مشكلة المنتجع أكثر حينما يلتقط الراوية خلافًا لمواثيق العمل صورًا للدكتور حمزة وريحان ويبعثها إلى الشيخ ثابت فيجن جنون هذا الأخير ويقرر مع حامد إخلاء المنتجع الذي أصبح مصدرًا للإشاعات والنزاع بين الأهالي بينما أرادوه واحة طمأنينة وشفاء.. أرادت ريحان أن تشتكي على الراوية لكن العم سعد سوف يخبره بأنها كانت تعامله كأخ أو كصديق ليس أكثر ولهذا السبب فهي لم تقدّم الشكوى وفاء للصداقة التي جمعتهما ذات يوم عندها هذا الرجل الطيب.. يبدو أن التجربة العلمية قد فشلت لكنها نجحت مع الراوية فقط لأنه أفاق من سبات طويل وأوهام كثيرة لا حدود لها.. ولمناسبة ختام المشروع قرر حامد أن يدعو زوجته وابنتيه لحفل الغداء الذي أعدّوه لهذه المناسبة.. وعلى الرغم من كل الصعوبات التي سببها الراوية لريحان إلّا أنّ هذه الأخيرة اعتذرت له بكل جوارحها إن كانت قد أوحت له بشيء لا أساس له وختمت اعتذارها بالقول: "نحن جميعًا متعبون ومرتبكون.. يجب ألّا نعوّل على ما فعلناه وقُلناه هنا".

جملة ختامية شديدة الدقة والتعبير

يمكن إيجاز أحداث الفصل الرابع والأخير من الرواية بحادث الاصطدام الذي تسببت فيه عدة سيارات حيث أُصيب صفاء بكسر في أعلى الذراع وعدد من أضلعه، بينما بُترت ساقيّ حسنين، وفقد حامد زوجته، ومات الدكتور حمزة.. يدخل صفاء إلى المستشفى ويخرج منه بعد عدة أسابيع، ويسافر إلى تركيا للعلاج والنقاهة.. وفي إسطنبول تكتشف زوجته أنه على علاقة بامرأة أخرى وأنه يريد الانفصال عنها لكنها تقاتل من أجل زوجها وبيتها ولا تريده أن يتهور من أجل نزوة عابرة.. وعلى الرغم من توتراته الأسرية ينكبّ على مدوناته لمدة عشر ساعات في اليوم وينجزها خلال مدة أسبوعين ويتهيأ لتسليمها إلى حامد الذي أعطاه رواتب سنة كاملة.. يعثر الراوية على صفحة فيسبوك ضحى ويتواصل معها حيث ترتب له لقاءً مع ريحان في مقهىً بالجادرية ويتبادلان أحاديثًا شتى فبعد أن مات غريمه الدكتور حمزة اعتقد أن طريقه قد بات سالكًا إلى قلب ريحان لكنها تفاجئه برغبتها في الزواج من حامد الذي فقد زوجته إلهام في الحادث، وأنها لم توهمه طوال مدة تعارفهما فقد كانا مجرد أصدقاء لا غير حتى أنّ العم سعد قد عرف بهذا الصداقة التي لم تتطور إلى الحُب والتعلّق العاطفي.. وأنّ مشاعره الملتهبة قد تأثرت بأجواء المنتجع.. تنهي الروائية هاجر القحطاني نصها السردي الناجح بجملة ختامية شديدة الدقة والتعبير تأتي على لسان صفاء الذي يريد أن ينام بعد جولة طويلة جدًا حيث يقول: "تسرّب خدرٌ موجع إلى روحي واشتهيت النوم إلى الأبد".

وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هاجر القحطاني هي روائية متمكنة من فنها وقادرة على العطاء السردي المتقن في رواياتها القادمة طالما أنها تتوفر على لغة سردية ناصعة، وقدرة واضحة على اجتراح الثيمات الرئيسة والثانوية، وبناء الشخصيات التي تنتمي إلى خلفيات ثقافية واجتماعية متنوعة.. إنها روائية وساردة تعد بالكثير وأنّ نجاح هذه الرواية سيضعها في الصف الأول من خارطة الروائيين العراقيين الكبار الذين لن يغادروا ذاكرة القرّاء بسهولة..

يا زارع الريحان حول خيامنا

لا تـزرع الريحان لست مقيمُ

نظري الى وجه الحبيب نعيمُ

وفراق من اهـوى عليّ عظيمُ

ما كل من ذاق الهوى عرف الهوى

ولا كل من شرب المُدام نديمُ

ولا كل من طلب السعادة نالها

ولا كـل مـن قــرأ الكتاب فهيمُ

مالي لسان ان اقول ظلمتني

والله يشهد انـــك المـظـلـومُ

انا الذي ما كنت ارحم عاشقاً

حتى عشقت وها انا المرحومُ

***

ابو فراس الحمداني

.................................

بقلم: عدنان حسين أحمد (لندن)

 

ألترسيمات والإيقاعات البصرية للبياض والسواد في قصائد جواد الشلال

من غرائب الكتابة عن ظاهرتي البياض والسواد في شعر شاعر ما هو أن تتماهى مدونات سيرتيه الحياتية والإبداعية مع اللون الأول، بينما تتماهى مدونات منجزه الإبداعي مع اللون الثاني. وهذا التباين اللوني ما بين الأبيض المجهول، والأسود الكثيف والمعلوم يكاد أن يكون المظهر الغريب من سيرتي الشاعر جواد الشلال وكذلك من منجزه، فقد بحثت في ملفات الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الإجتماعي عن ومضة ولو خاطفة أو باهتة للتعريف به إنساناً أو شاعراً فلم أفلح، وكأن الشاعر قد تعمّد غمر السيرتين بطبقة كثيفة من بياض الإبهام. وفي المقابل فأن صفحات منجزه الإبداعي على فضاءات ومواقع التواصل الإجتماعي مغمورة بطبقات كثيفة من النصوص بما يسمح لي أن أستعير لها توصيف السواد.

وقريباً من تلك المقاربة اللونية الإستعارية بنصفيها السيري الخارجي، والإبداعي الداخلي فقد لفت انتباهي انغمار الشاعر بلعبة الإيقاعات البصرية للونين إنغماراً كفل له أن يجمع ما بين صفتي الشاعر والرسام، بالرغم من أنه على خلاف الرسامين يستعين على الصفتين بذات المواد، أي الكلمات، وبذات الأداة، أي الكتابة، مع انزياح جمالي طفيف تتحول لديه الكتابة والكلمات من نصوص إلى لوحات تشكيلية، وذلك بتطويعه اللعب على الورقة بالبياض، وهو الفراغ الكتابي أو الطباعي، وبالسواد الذي يرى البعض أنه الكتابة بحروف غامقة، ومنمازة عن سواها. بينما نراه هنا الإمتلاء الكتابي بسد الفراغات والفجوات بجمل طويلة، أو متصلة ببعضها تملأ فضاء الورقة.

وأن كان البعض قد ارتأى في البياض مقابلاً للصمت، ألا أننا نرى أن ثمة فارق ما بين المفهومين، فأن كان الصمت هو اللاشيء، أو العدم، فأن البياض هو الصمت الدال، أو هو الشيء الموجود، ولكنه محتجب وراء ستارة الفراغ التي تحول دون رؤيته، والدليل على وجوده هو في علاقات المجاورة بما قبله وما بعده والتي تُخفي في طياتها آثار ذلك البياض ودلالاته. وبذلك فأن الفراغ الكتابي هو وجود محتجب من دوال غير لسانية، وأن موقعه المختار بقصدية وعناية ضمن النص يضمن له القدرة على التأثير وإنتاج التأويلات، فهو إذن لم يعد مجرّد دال على الصمت بقدر ما أصبح لصمت البياض معنى تكتبه أبجدية الفراغ. وفي المقابل صار الإمتلاء الكتابي يفترض المعنى في تكدس الدوال وتعاقبها، وبذلك لم يعد السواد دالاً فقط على الضجيج الصامت، بقدر ما أصبح لسواد الضجيج معنى تكتبه أبجدية الإمتلاء. وبمعنى آخر أصبح البياض والسواد موجّهات إيحائية تشير إلى داخل النص للبحث فيه عن الحمولات المتوارية.

أن التواشج الهندسي للحروف الطباعية مع التشكيلات اللونية للبياض والسواد في مفهوم الحداثة الشعرية قد أخرج القصائد من سجنها التقليدي كونها مجرّد نصوص مكتوبة للعين فقط، لتصبح لوحات تشكيلية معدّة للتأمل أيضاً، كما أزال حاجز التعالي التاريخي ما بين الشاعر والقاريء عندما سمح للثاني بالمشاركة في كتابة القصائد من خلال تعديل اتجاهاتها القصدية وترك بصمة التأويل عليها. وليس من التندّر القول بأن كل تلك القفزات الجمالية الثورية لم تكن لتُنجز لولا انتقال الشعر من مرحلة الإلقاء إلى مرحلة الكتابة، ذلك الإنتقال الذي مهد للنص الشعري التحول من صيغته الأولى كونه مجرّد صوت يُتلى للأذن إلى صورة تُستقبل بالعين، وبالنتيجة ساهم هذا الإنتقال في تطويع النص ليكون قابلاً للعرض، كما هو معدّ أصلاً للقراءة. وما هذه القراءة إلا محاولة لاستنطاق جانب من ذلك التحول من خلال الانزياحات الفضائية للبياض والسواد ودلالاتها داخل بعض نصوص جواد الشلال على موقع التواصل الإجتماعي أل Facebook.

إحدى آليات رسم البياض الأثيرة لدى جواد الشلال هي آلية القطع، حيث يُفتت الجمل المتكاملة إلى نثار يخلّف فضاءات بيض، كما في المقطع التالي ألذي يتوفر على أربعة قطوعات خلفت خمسة فراغات بيض:

(ألقاكِ

يا ابنة الحب

الجليل

المتقد على نار

الحرب)

ألقطع الأول:

يعقب جملة الإستهلال الفعلية المتكاملة نحوياً، إلا أنها افتقرت إلى توصيف أكثر تفصيلاً لضمير المخاطب الأنثى. وبالرغم من اكتفاء الحاجة النحوية بالضميرين الفاعل والمفعول به، إلا أن مقاصد الشاعر التي لم تتضح عند هذا القطع تتعدى نحويتها إلى تفصيل يستجيب لمضمون الرسالة التي يريد إبلاغها لمحبوبته. وفي غياب ملامح المحبوبة يبقى البياض مهيئاً لاستقبال تأويلات مرجأة للسطر التالي.

ألقطع الثاني:

تمثل في فصل الموصوف (السطر الثاني) عن صفته (السطر الثالث) فأنتج هذا القطع بياضاً مؤقتاً، تأجّلَ ملؤه إلى السطر الثالث المكون من مفردة الصفة (الجليل) وهي الأولى، وستعقبها الصفة الأخرى في السطر التالي. كما أن تأجيل ملء البياض في مستوى هذا القطع لما بعده وضع القاريء أمام تساؤلات عن أسباب فصل الصفة عن موصوفها داخل الجملة الواحدة، وقد تبيّن أن القصد من ذلك هو التمهيد للصدمة الناجمة عن العلاقة القلقة ما بين المتباعدين (ألحب والحرب).

ألقطع الثالث:

أستُهلّت ألجملة التي أعقبت الصفة الأولى لمفردة الحب بالصفة الثانية لها، أي (المتّقد)، ولكن هذا الإستهلال لم يكد يتصل بشبه الجملة (على نار) حتى انقطع تاركاً فضاء بياض رابع من دون الإجابة عن طبيعة العلاقة بين ما رشح من دلالات الأسطر السابقة، تاركاً للقطع التالي وما يليه إضاءة الإحتمالات التأويلية الممكنة.

ألقطع الرابع:

هو القطع الفاصل ما بين القرينين (النار) و(الحرب) والذي يُفترض أن تُختم به سلسلة البياض، بيد أنه ترك بقعة بياض خامسة لا يمكن تأويل ملئِها إلا بما تُخلفه الحروب من قطع للتواصل ما بين ضمير المتكلم في فعل الإستهلال (ألقاكِ)، وما بين المخاطبة التي أوجب عليها قهر الحروب الصمتَ المطبق لتعقب هذا القطع في السطر الأخير مفردة الختام، وكل ختام (الحرب).

والآن:

- أليس من المعقول أن نبحث في البياض الذي خلفته مفردات (الحب + الجليل + نار + الحرب) عن علاقات التشابك والتفاصل ما بينها وأثر تلك العلاقات على العلاقة ما بين المتكلم والمخاطبة؟

- أليس الحب قرين النار؟

- أليس الحب نقيض الحرب؟

- أليس (جلال الحب) في عبارة (الحب الجليل) نقيض (همجية الحرب) التي تحيل إليها عبارة (المتقد على نار الحرب)؟

- أليس الفاصل ما بين جملة الإستهلال (ألقاكِ) وبين (أبنة الحب) أقرب، بما يوحي للإمكان، من الفاصل ما بين جملة الإستهلال (ألقاكِ) وبين مفردة (الحرب) بما يوحي للاستحالة؟

- أليست الفضاءات الأربعة التي سبقت مفردة الختام (الحرب) هي تمظهرات بصرية للدلالات النوعية التي يحفل بها قاموسي الحب والحرب.

- وأخيراً، وليس آخراً، ألم يُساهم هذا النمط من الإيقاع البصري في تحفيز العين على نقل صورة البياض إلى المخيلة لتترجمها إلى معان ودلالات محتملة؟

في مقابل تساؤلات البياض تلك يتولد التساؤل النقيض، تساؤل السواد الذي يدفع إليه ضمّ أشتات الصورة الواحدة في جملة واحدة طويلة، أو ضم الصور العديدة في أسطر متراصة من السواد التعبيري المكثف، والحالتان تدفعان القراءة للبحث عن مسوغات ذلك السواد، وواحدة من مسوغات ذلك السواد أو الإمتلاء الكتابي سنجدها في الإمتلاء الدلالي الذي تمثله السلسلة المتراصة من الجموع، كما في المقتطعات التالية:

(أنا الشعب الممتليء بالعطش وأخبار الملائكة الصالحين وتقنيات الطائرات صغيرة الحجم جداً)

أو:

(أزداد عدد منشدي المراثي، واختفت كؤوس النبيذ، تغيرت الأصوات وتشابكت الألحان، والموت متعدد الأطراف)

أو:

(نعم وأنت تطحنين وحدتك وتصبغين قلبك بالحناء، وتقرأين أناشيد على عظامك المسكونة بتحية الوجع..

لا بأس بكل هذا الحزن الرحيم وأنت تشرين ثيابك المملوءة ببقايا حزن الأمس)

هذا، وتدعم صيغ الجموع تلك ما تضفيه الجمل التالية من هيمنة صيغ الإمتلاء والكلية والعددية والتشابك على النصوص لتسدّ فراغاتها بسواد دلالي يتماهى مع سوادها الكتابي أو الطباعي:

- ألشعب الممتليء بالعطش: دلالة السواد = الإمتلاء

- أزدياد عدد منشدي المراثي: دلالة السواد = ألزيادة + العدد

- أشتباك اللحان: دلالة السواد = التشابك

- ألموت متعدد الأطراف: دلالة السواد = العدد

- كل هذا الحزن الرحيم: دلالة السواد = الكلية

- ألثياب المملوءة ببقايا حزن الأمس: دلالة السواد = الإمتلاء 

 وكما أوجد الشاعر مساحة البياض بتقطيع الجمل المكتملة، فقد عمد في قصيدة (ألملم بقايا الورد وأنتظر زخة مطر) لذات الآلية ليوسّع حجم البياض الذي أوشك أن يلتهم مقاطعها الثلاثة ممهداً لأسئلة بيض مفتوحة على إجابات بيض أيضاً، وتتمحور تلك الأسئلة في الغالب، والتي يُنهي بها القصيدة في مقطعها الثالث حول دلالة الإنتظار، وعدا ذلك فكل ما تراءى في المقطعين الأول والثاني على أنها تساؤلات فليست سوى وهم نحوي كما سنبين ذلك في:

ألمقطع الأول: يضع الشاعر معاناة الأطفال الجادون في انتظارهم للخبز والحرب معاً، في مقابلة مع تحسّر الكبار على ما آلت إليه مصائر الأطفال وما يقاسونه جراء انتظاراتهم، لأن مهمة الكبار كما يرى هي التحسّر، ولذلك يُراكم الشاعر عبء انتظارات الفريقين فيجده عبئاً ثقيلاً، أو بحسب الإنزياح التوصيفي الذي يرتأي الشاعر أنه أقرب إلى مخيلته المنفلته من المحددات التوصيفية المنطقية، فهو عبءٌ سميكٌ. أو بالأحرى أنه يرى (الإنتظار) سميكاً، واصفاً المجرّد بالملموس:

- كم سَميك كلّ هذا الإنتظار

وما بين الطبيعتين المفارقتين يظل الإخبار عن سمك الإنتظار غائباً، أو متسماً بالبياض، ولكنّ غيابه لا يعني انعدامه، ذلك لآن السطور الأولى من هذا المقطع ربما تعين في البحث عن مخرج للمعنى الغائب أو المتواري من خلال جدية مادتي الحياة والموت، وهما (الحليب والحرب):

(ألأطفال لا يعبثون

أنهم ينتظرون

الخبز

والحرب

لا أحد يسقيهم الحقيقة مع

الحليب)

ربما يُسوّغ المنطق السليم (ألمنطق اللاشعري) أو منطق الجمل السود المكتملة إنتظار الحياة عبر مادتها / الحليب، ولكن انتظار الحد المفارق / الموت يوجب اللجوء إلى منطق الجمل البيض المقطّعة، والتي يُلزم تقطيعها على القاريء تفعيل قدراته التأويلية من أجل إكمالها افتراضياً على الأقل.

ولكن البياض دلالياً لم يتأتَ فحسب من فحوى الإخبار الذي أوهم القاريء بأنه نمط من الإستفهام، ذلك لأننا لا نستطيع افتراض الإجابة عددياً عن (السُمك) في المقطع الأول (كم سميكٍ كلّ هذا الإنتظار)، ولا عن (الصعوبة) كما في المقطع الثاني (كم صعبٍ تكرار الإنتظار) هذا من حيث المنطق على الأقل والذي من حق الشاعر تغييبه أو إنكاره، فللشاعر منطقه الخاص، لكننا في كل الأحوال نفترض أن الإجابة بالأسم (كم) الإستفهامية توجب نصب الإسم بعدها، وهذا ما لم يتوفر في الجملتين. ولعل الشاعر أيضاً قد وقع تحت طائلة هذا الوهم عندما ختك الجملة الأولى، جملة (السُمك) بعلامة الإستفهام، بينما أدرك ذلك في الجملة الثانية، جملة (الصعوبة) فحذف علامة الإستفهام، واستعاض عنها بسلسلة ثلاثية من النقاط.

أقول أن دلالة البياض لم تاتِ من فحواه الإخباري فحسب، بل من النتائج الصفرية البيض لذلك الإخبار عن ثقل أو سُمك انتظار الحليب والموت معاً، ذلك الإنتظار الذي عانى الأطفال مرارته، تضاف إليه ثمة علامة بيضاء صفرية أخرى تمثلها الحقيقة الغائبة التي لا يبسطها أحد للإطفال عن مآل انتظارهم:

(لا أحد يسقيهم الحقيقة مع

الحليب)

أما الكبار فهم لا يبحثون عن حل لإنهاء حالة الإنتظار، أو بالأحرى أنهم لا يبحثون عن حل لهذا البياض الدلالي، لأنهم يكتفون بمعالجة وقع مرارته (أو سُمكه) عليهم بالحسرات والدموع:

(فمهمة الكبار

ألحسرات

وذرف الدموع)

ألمقطع الثاني: يحضر قلق الإنتظار مجدداً، ولكن بصيغتين، الأولى صيغة النفي:

(لا أجيد

الإنتظار)

لكن نفي الإجادة أو تبييض أثرها الدلالي يدفع الشاعر إلى توسيع أثر البياض في تركيب جملتها شكلياً أو تقطيعها، وفي المقابل تأتي حالة (عدم الإجادة) مقرونة بعكسها، أو بإثبات الإجادة في حفظ الأسرار، أو تسويد الأثر الدلالي لتلك الإجادة بتعمد الشاعر توسيع أثر السواد في تركيبها شكلياً، أو عدم تقطيعها (أجيد الأسرار حتى تتجمّد). ومع ذلك فالشاعر يبدو وكأنه يخترق أعماق المفردتين (الإنتظار) و(الأسرار) فيرى فيهما ما لا يراه القاموس عندما يضعهما معاً على مستوى واحد من المقايسة الضدية:

(أنا

عادة

أجيد الأسرار حتى تتجمّد

لا أجيد

الإنتظار)

أما الصيغة الثانية، فهي صيغة موافقة للصيفة السابقة في المقطع الأول، أي صيغة الإخبار:

(كم صعب

تكاثر الإنتظار)

ومن الملاحظ أن الإخبار هنا موافق للإخبار في المقطع الأول من حيث توصيف المجرّد بالمزيد من جهة، ومن جهة أخرى فأن الصيغتين تُكمل وتدعم بعضهما معنوياً، فلولا (السُمك) في الأولى لما (صعُب التكاثر) في الثانية.

ألمقطع الثالث: تكتمل في هذا المقطع هندسة الفراغات البيض مع حضور الدلالات المفرغة للأسئلة المفتوحة على البياض، وهي الأسئلة الموجهة إلى الآخر غير الواعي، ألأرضي (الأشجار)، والسماوي (المطر) بعد أن أضفى على الأول وعي الإنتظار:

(أسأل الأشجار

ماذا تنتظر؟)

وأضفى على الثاني وعي الإرادة:

(ألمطر

ماذا يريد؟)

وكذلك السؤال الموجه للذات الواعية المتكلمة (ألأنا)، وهو سؤال الإنتظار ذاته الذي سبق أن وجهه المتكلم لقرينه في الموقع (الأشجار) وكأن الإنتظار هو ضالة المخلوقات الأرضية:

(أنا ماذا

أنتظر؟)

ومع مراوحة الأسئلة الموجهة لكل طرف من الثلاثة ما بين الإنتظار والإرادة، تظل إجاباتهم عنها مقيدة في حدود الصمت الدال، أو البياض؟

وفي مقابل هذا البياض يهيمن سواد شبه مكثف على كثير من القصائد، ولنختر منها قصيدة (رأيت نبيذاً معتقاً يُشبه أصابعكِ)، حيث تتشكل المقاطع من حزمة من الصور، تتمثل كل حزمة في عتبة تُمهّد السابقة منها للاحقة، ثم تُختتم بالصورة الحسم التي تُغلق بها الحزمة الصورية، مع ملاحظة أن جُمل العتبات والجُمل الحسم هي جميعها من الجمل الفعلية، بغض النظر عن طبيعة الأفعال.

يستهل ضمير الغائب المؤنث ألسطر الأول من المقطع الأول من القصيدة، مكتفياً بأثره هذا (لم تكن تهذي)، إذ يغيب بعد هذا الإستهلال ولا يترك له أثراً ضمن هذا المقطع، والأثر الوحيد المهيمن بعد الإفتتاحية على هذا المقطع هو لضمير المتكلم، لكن ضمير الغائب المؤنث سرعان ما يستبدل موقعه النحوي فيتحول إلى ضمير المخاطب المؤنث تاركاً أثراً طفيفاً كما هو أثر الأنثى في المطع الأول، أثراً لا يتعدى جملة (لم أعترف لك)، والأثر الأوسع منه قليلاً في المقطع الرابع:

(لكني لم أعتد أن أقول لك:

أن وجهك نبيذ فرنسي وبعض من ثمار الجنة الطرية)

وعدا ذلك فهذا الضمير يحضر بكامل سلطته التأثيرية في ثريا العنونة ليضيء له أثراً مغيباً في كامل القصيدة، ويوحي بهيمنته عليها، وعلى ضمير المتكلم أيضاً.

وبتجاوز الإفتتاحية من المقطع الأول تتوالى الجمل العتبات، وكالتالي:

1 - كانت أصوات أزيز رصاصات غاضبة

2 - ورسائل مملوءة بالشتائم

3 - وحروقاً من الدرجة الثالثة للحروف

(مع ملاحظة أن الجملتين الإسميتين الثانية والثالثة معطوفتان على الأولى الفعلية مما يُخضعهما لتاثيراتها الفعلية)

4 – أضحك قليلاً لأعي نصف الحياة

5 – أسمع نصف أغنية

6 – وارمي نصف الكأس المملوءة

ولكن أين جملة الحسم ضمن هذا المقطع الذي شغلته بالكامل جمل العتبات الست والتي يُفترض أن تُختم بها سلسلة العتبات. أن افتراض الختام الموقعي لجملة الحسم قد اختل في هذا المقطع وازاح موقع جملة الحسم الفعلية من نهاية المقطع ليدغمها مع العتبة الرابعة مقرناً فعلها بلام التعليل، أي أنها جملة (لأعي نصف الحياة) التي أزيحت موقعياً فحسب، بينما بقى ثقلها الدلالي مؤثراً على كل العتبات الست.

مع المقطع الثاني تتوالى العتبات الفعلية كالتالي:

1 – اعتلي قمة السلم

2 – أتلو خطاباً مدججاً بالشتائم الخفيفة

3 – ألوّح بيدي لمن يُخالفني

أما الجملة الحسم فهي

- ألجمهور كان خفيف الظل (مع ملاحظة أن ابتداء الجملة بمفردة أسمية (الجمهور) يعقبها مباشرة الفعل الناسخ الناقص (كان) لا يلغي فعليتها إذ أنه من اليسير قراءة الجملة التالية المبدوءة بذات الفعل على أنها معطوفة عليها:

- كان يريد مني أن أبدأ بشتائم ثقيلة حتى يتسنى لهم الضحك بإفراط.

ولكن ما الدلالة المعنوية لانحسار البياض نسبياً عن القصيدة وإحلال السواد بدله؟ ربما تكون الدلالة في حالات الإمتلاء المعبّر عنها بجموع المفردات (أصوات / رصاصات / حروق / شتائم / جمهور / سلالم / ألبيوت / ثمار). وهذا النمط الدلالي للسواد سبق أن أتينا على نظيره، لكن ما يميزه عنه في هذا النص هو في المحددات المتراوحة ما بين الزيادة والنقص دون أن تبلغ العدم:

- فالحروق ليست من الدرجات الطفيفة الأولى، بل هي من الثالثة (وحروقاً من الدرجة الثالثة للحروف)

- والضحك خضع للمقايسة فهو لم يُعدم تماماً، ولم يُكثر بإفراط، بل هو في حدود القلة (أضحك قليلاً)

- والأمر كذلك بالنسبة لوعي الحياة فهو لم يُعدم تماماً، كما أنه لم يكن في أقصى مستوياته، بل اقتُصر على النصف (لأعي نصف الحياة).

- والأمر كذلك لنصف الأغنية (أسمع نصف أغنية).

- وللكأس التي خضعت هي ذاتها لمقياس الإمتلاء، بينما أفرغت محتوياتها إلى النصف (أرمي نصف الكأس المملوءة).

- وللجمهور (ألجمهور كان خفيف الظل) فهو لم يجعله بليداً ثقيل الظل، كما أنه لم يحرمه من ظله تماماً كما فعل الروائي فتحي غانم مع أحد أبطال روايته (الرجل الذي فقد ظله)، بل جعله خفيفاً، والخفة منطقة تتوسط ما بين العدم والثقل.

- والأمر كذلك للشتائم المتراوحة ما بين الخفة والثقل، فهو حيناً يتلو (شتائم خفيفة) أما الجمهور فكان يريد منه (أن يبدأ بشتائم ثقيلة) كل ذلك من أجل (الضحك بإفراط).

- والشيب بدوره لم يتحرر من الحساب (بضع شيبات)

- وكذلك الأمر للحزن (حزنت كثيراً)

- واعتلاء السلم إلى قمتها (أعتلي قمة السلّم)

- والجمهور لم يتكلم كل واحد منهم بصوته منفرداً، بل (قالوا بصوت جماعي)

- أما وجه الحبيبة المفرد فقد جاء تشبيهه بصيغة الجمع، فهو (بعض من ثمار الجنة الطرية)

أن تفعيل هندسة اللونين في تشكيل الرسمة الخارجية للنص الشعري ليس مجرّد لعب شكلي عابث بقدر ما هو محاولة للتوفيق ما بين طرفي الصورة الشعرية الداخلي / الدلالة، والخارجي / الشكل، أو من أجل تمكين الدلالة من التوسع خارجياً، وفي الحالين تتحكم مخيلة جامحة في موازين التوفيق، مخيلة سريالية غير مستقرة تهشّم الواقع لتبني من حطامه عالماً أخر ليس له قرين إلا في مخططات الأحلام والكوابيس:

(كان لي حديث ممتع مع عصفور حكيم

قال: العمر زمن سريع)

أو:

(بعد مفاوضات طويلة نجحت باستدانة نهر، أدخلته غرفتي

كنت أرغب برفع الملوحة من أقدامي، لكني لم أجده عند الصباح

كتب لي رسالة وهرب:

سأعود عندما أجد من يسحب الملوحة من رأسي)

أو:

(حائر

لازلت أعاني من صعوبة فضّ النزاع

بين غيمتين)

***

ليث الصندوق – شاعر وناقد

 

العشق في عيون النار.. رحلة إلى الخلود عبر سراديب الصمت..

قراءة تحليلية فلسفية في قصيدة: ماهية العشق- للشاعرة: سمر الديك سورية / فرنسا.

***

قصيدة ماهية العشق للشاعرة سمر الديك تمثل رحلة فلسفية في أسرار العاطفة الإنسانية، حيث تتداخل مفاهيم الوجود، الزمان والمكان، والتحرر من القيود الاجتماعية والثقافية. الشاعرة لا تقدم العشق فقط كعاطفة أو تجربة إنسانية، بل كقوة مطلقة تتجاوز الحدود المعهودة، وتعبر عن هوية الكائن وتحرره. في هذه القراءة العميقة، سنغوص في طبقات القصيدة لنسبر أغوارها الفلسفية والجمالية.

العشق: بداية الخلق ووجوده المستمر

تبدأ القصيدة بتصوير العشق كقوة خالدة تُولد من /سراديب الصمت/، حيث تتلاقى الأرواح في /حجب/ الظلام. هذه الافتتاحية تصور العشق كنور يولد من عمق العتمة، وكأن الشاعرة تشير إلى العشق كعملية خلقية مستمرة. في هذا السياق، يشير /النور/ الذي /يخترق الحجب/ إلى الحياة الجديدة التي ينبعث منها العشاق، وهو تعبير عن طاقة تتفجر من الظلام والفراغ، تمامًا كما تُنبعث الحياة من الموت أو من الركود.

الشاعرة توظف أيضًا رمز الفينكس — الطائر الأسطوري الذي ينهض من رماده — لتعبر عن قدرة العشق على التجدد والبعث. إنها لا تكتفي بتصوير العشق كمجرد انفعال، بل كـ /طاقة خالدة/ تُعيد خلق نفسها من جديد في كل لحظة، وتُظهر كيف يمكن للعشاق أن ينهضوا مجددًا بعد أي عاصفة عاطفية أو صدمة. الفينكس، الذي ينهض من الرماد، يمثل الإيمان بالقوة التحويلية للعشق، إذ يعكس في جوهره فلسفة عميقة حول العواطف البشرية وقدرتها على الاستمرار والنهوض حتى بعد تدمير الذات أو الخيبة.

التجذر والعمق: العشق كهوية وجودية

تواصل الشاعرة تصوير العشق باعتباره قوة أساسية متجذرة في /أشجار مُتجذرة العمق/. إنها لا تقتصر على تصوير العشق كحالة عاطفية فحسب، بل تضفي عليه طابع الوجود المستمر والمتعمق، حيث يصبح العشق هو المصدر الذي يمد العشاق بالحياة. هذا التصوير يعيدنا إلى الفلسفات الشرقية والغربية التي ترى في الحب والعشق أساسًا للوجود. من خلال هذه الصورة، تُظهر الشاعرة كيف أن العشق ليس مجرد مشاعر، بل هو أداة وجود، غرس ينمو بعمق في الروح.

/أشجار/ العشاق، التي /تستمد غذاءها من نشوة عشقها/، تشير إلى ذلك التفاعل العميق بين الحب والوجود؛ فالعشق في هذا النص ليس شيئًا خارجيًا يُضاف إلى الشخص، بل هو جزء من جوهره، غذاء روحي وأخلاقي. إن العشق هنا ليس مظهرا عابرا، بل هو بنية وجودية تُؤثّر في كل جزء من الكائن العاشق.

العشق في علاقته بالزمن والمكان: تجاور الخلود والمحدودية

/عشقنا هو الوجود المطلق الذي يتجاوز حدود الزمن والمكان/ — هذه العبارة تحمل أبعادًا فلسفية هامة. العشق في هذا السياق يُنظر إليه كحالة لا زمنيّة ولا مكانيّة، وتعدّ دعوة للتحرر من القيود المادية التي تفرضها الحواس والوجود اليومي. هنا نجد توجيهًا إلى الفلسفات الوجودية التي تعارض الفهم التقليدي للزمن والمكان كحقائق ثابتة. في هذا المعنى، العشق يصبح الوجود المطلق الذي لا يتأثر بالمقاييس الظرفية؛ هو عالم موازٍ، دائم وغير قابل للزوال، يحتوي في طياته على حقيقة تفوق التصور البشري.

هذه الرؤية تتلاقى مع أفكار مارتيـن هايدغر حول الوجود (Being) وجان بول سارتر الذي كان يؤكد على الوجود كفعل حر يتجاوز القيود المفروضة من البيئة والزمان. العشق في هذه القصيدة لا يعترف بالحدود المكانية أو الزمنية؛ بل هو نوع من الحقيقة المطلقة التي تعيش في لحظة الكشف.

العشق كنشوة وحالة من الحرية

تمتلئ القصيدة بالصور التي تشير إلى أن العشق ليس فقط تجربة تفاعل بين الأفراد، بل هو حالة نشوة معرفية وحسية معًا. حديث الشاعرة عن /أزهار الحلم/ التي تتفتح في /حدائق نفوسنا/ يعكس مفهوم العشق كطقس تجديدي، يعيد الحياة للجسد والعقل معًا. العشق هنا يقدم نفسه كعلاج للجروح الروحية والنفسية، فالعاشق يغسل /آثار العتمة/ و/خيباتنا/ في /ماء بحر العشق اللامتناهي/.

من هنا، يصبح العشق محررًا، يمنح العاشق القدرة على تطهير ذاته من أحزان الماضي وألم الفقدان. هذه التوصيفات تقودنا إلى التفسير الفلسفي للعشق كـ /نشوة/ أو /لحظة اكتمال/ حيث يتعالى الفرد عن نفسه المذعورة، ليمر عبر حالة من النور والتجدد. العشق في هذه الرؤية هو المنفذ الذي يكشف للمحبين إمكانياتهم غير المحدودة، ويمنحهم القوة للوجود بحرية تامة.

العشق كلغة غير قابلة للتفسير

تذكر الشاعرة أن /قصيدتي مكتوبة بالدماء الملتهبة/ وتشير إلى أن /قافيتها من نورٍ ونار/، مما يخلق تمازجًا بين التوترات العاطفية والفلسفية في سياق العشق. هذا التصوير يؤكد أن العشق ليس تجربة قابلة للفهم عبر العقل المجرد أو التفكير التقليدي. هو لغة معقدة وغير قابلة للترجمة الحرفية، لغة تتجاوز الحدود العقلية التي نستخدمها لتفسير تجاربنا.

هذه الفكرة تلتقي مع مذهب نيتشه في /اللغة المستعصية/ و/اللامعقول/ باعتبار أن الحقيقة العليا لا تُفسّر عبر المعايير المادية أو المنطقية. في قصيدتها، تصوّر الشاعرة العشق كـ /لغة لا تخضع لقوانين الكون/ مما يشير إلى استحالة فهم العشق في إطار المألوف. العشق هنا يتناغم مع الإيمان بأن هناك أبعادًا غير مرئية وغير قابلة للتفسير نعيشها فقط من خلال التجربة الذاتية.

تقرير وجودي: الحرية في العشق

في الخاتمة، نلمح أحد أعمق أبعاد القصيدة: الحرية في العشق. الشاعرة تدمج هذه الحرية في مفهوم الكينونة، حيث يُعبّر العشق عن قدرة الإنسان على أن يكون هو نفسه، في كامل حرية. في قولها /أبحثُ عن ذاتي فيكَ فأرتقي إلى عوالمَ النّور/، تُظهر العاشقة كيف أن العشق لا يقيد الفرد أو يحصره، بل يفتح أمامه آفاقًا جديدة للوجود.

خاتمة: العشق كوجود فلسفي خالٍ من القيود

قصيدة ماهية العشق هي أكثر من مجرد تعبير عن حب عاطفي؛ هي رحلة إلى جوهر الإنسان وطبيعة وجوده في العالم. من خلال رمزية غنية وصور فلسفية عميقة، تفتح الشاعرة أفقًا جديدًا لفهم العشق باعتباره قوة خالدة تتجاوز الحدود الزمنية والمكانية. في هذه القصيدة، العشق هو الفعل الذي يعيد تكوين الوجود ويمنح الإنسان القدرة على أن يتجاوز الواقع المادي والتفسيرات العقلية الجامدة، ليعيش تجربة كونية حرة ولامحدودة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

...........................

ماهية العشق

بقلم: سمر الديك

***

في سراديب الصّمتِ تتلاقى أرواحُ العشّاق يتولّدُ نورٌ يخترقُ الحجبَ على الرّغمِ من أنّ الرّياحَ تعصفُ بنا ننهضُ ونكمّلُ الطّريقَ كما ينهضُ "الفينكس "من رماده نحنُ العشّاق أشجار مُتجذرة العمق نستمدُ غذاءنا من نشوة عشقنا نرسمُ لوحاتِ الأمل على جدران الواقع تختبئ فيها سراديبُ الذكريات تروي حكايات عشقنا وتنسجُ خيوطَ اللقاء في كلّ ابتسامة.

أيّها العاشق اقتربْ أكثر لا تتردد لتشتعلَ النار المقدسة في معبدِ عشقنا وتُضيئ أرواحنا المتعطشة إلى النور تتفتحُ أزهارُ الحلم في حدائق نفوسنا نغسلُ آثارَ العتمة وخيباتنا بماء بحر العشق اللامتناهي الذي يغمرنا بأمواجه العاتية نغوصُ في أعماقه نرتوي بالعسل الممزوج بالحليب من ضرع الحياة نكتشفُ فيه ذواتنا المخفية.

يا أناي اقتربْ لا تخشى قصيدتي المكتوبة بالدماء الملتهبة قافيتها من نورٍ ونار اقترب منها كي تنبضَ بالحياة كل حرف لك يتغلغلُ في أعماقي وينسابُ نوراً يُضيئُ عتمة قلبي ويُبددُ أحزاني التي نسجتْ خيوطاً عنكبوتية على جدران قلبي أحاولُ تمشيطها بفرشاة العمر الحادة التي تزدادُ صلابةً في زمن النفاق فينبعثُ نوركَ قمراً وأتيتني نجماً أضاءَ دربي في سراديبِ الحياة الصامتة أسمعُ موسيقاكَ تعزفها ليلاً على مسامعي بصمتٍ تلامسُ أوتارَ روحي تغني للحياة تارةً وتارةً أخرى لا أستطيع تفسيرها إنّها لغةٌ مستعصيةٌ لا تخضعْ لقوانين الكون مُنبعثة من أعماق النفس عشقنا هو الوجود المطلق الذي يتجاوز حدود الزمن والمكان هو الحقيقة الخالدة في قلب كلّ حبيب أبحثُ عن ذاتي فيكَ فأرتقي إلى عوالمَ النّور ما أحوجنا إلى الحرية إلى هذا العشق كما يراه "سارتر" إلى تلك النشوة التي تمنحنا القوة لنكون مانحنُ عليه ونشعر بالكينونة

***

سمر الديك سورية/فرنسا

 

للشاعر والروائي العراقي حسب الشيخ جعفر

القسم الرابع والأخير: الأبطال

تتميز رواية "نينا بتروفنا" لحسب الشيخ جعفر بِقِلّة عدد شخصياتها، وكلها روسية باستثناء البطل، معظمها من النساء. البطل الرئيس راوي السردية و"مدير" الحوارات والنقاشات والعلاقات، شاب عراقي يعاني من العشق والوجد والولع بالأدب، يعمل مترجماً في موسكو، لم يقدم الكاتب لا اسمه ولا أي وصف خارجي أو داخلي بمونولوجات كلاسيكية إلا قليلا.

فهل الراوي صورة الكاتب، أم شخصية مركبة يمثل مواطني الدول النامية القادمين للدراسة مجانا في الاتحاد السوفييتي، على عكس بطل "موسم الهجرة إلى الشمال" للكاتب السوداني الطيب صالح، حيث إنه يدرس في الدولة الاستعمارية بريطانيا، ولا يحب البقاء فيها مفضلا العودة إلى قريته السودانية، يأخذ ولا يعطي إذا ما استثنينا الجانب "العاطفي" يأخذ من "مستعمريه العلم والجنس" ويمارس العنف مع النساء. ممكن مقارنته من حيث العنف مع بطل "قلب الظلمات" لجوزيف كونراد، أو حتى "مرتفعات وذرنج" لإميلي برونتي.

أما بطل "نينا بتروفنا" فإنه إنسانٌ "مُأنسَنٌ" بالقيم الرفيعة، مسالمٌ يعطي ولا يأخذ غير الحنين والانتماء والطمأنينة، فالحب أو "الجنس" كان متاحا بدون هذه العطايا الكثيرة، إنه شخص شغوف ومليء، مثقف، مهتم بالتراث الإنساني العربي والأدب العالمي وملم به وبالذات الروسي، وله مواقف من الترجمة مهنته التي يكسب رزقه منها، وسخي بدون مقابل، قد يكون لدرجة السذاجة، هل هو بسبب شعوره برد الجميل، أم ضعف شخصيته وسطحيته أم إحباطه الضمني غير المعلن عنه دائما؟

"كنت أترجم وأترجم طرداً للسأم" ص 59، وهو غني بكل شيء بالنسبة إلى أهل البلد الأصليين، إضافة إلى ثقافته ومشاعره وعاطفته الشرقية يغدق عليهم بالهدايا باستمرار، "اخترت في السوق الحرة ما يليق بهن من هدايا...". ص 136

حتى إن ليوسا رفضت مرةً هداياه الغالية من السوق الحرة، التي تبيع سلعها بالعملة الصعبة، قائلةً ممازحةً "لا تزدني فضائح"ص141، وهو ما يعبر عنه الكاتب في مكان آخر من الرواية، "مذ دخلت ناديا ببدلتها الأجنبية الأنيقة، وفتيات المقهى ينظرن إليها وإليّ بين الحين والآخر وهي ترى. قربت وجهها من أذني هامسةً: إنهن يتشوقن إليّ". ص 228700 Nina Petrova

وهو لا يعاني من النفور وغير مرفوض من قبل أهل البلد، بل يبحث عن الاستقرار عندهم، ويريد الزواج من نسائهن بأي ثمن وبدون استعدادات أو مقدمات كما هو واضح في علاقته مع ليزا صديقة جارته ليوسا " ليزا.. هل يمكنني أن أتزوجك؟" ص 20، وناديا، التي "أجلت" زواجها منه ثلاثة او أربعة أعوام. بيد إنه يصر على الزواج منها خوفاً من ان تكون حاملا منه " لن تجهضي. سنتزوج غداً... غداً نتزوج". ص 286

 لكن علاقته بنينا بتروفنا أمر آخر، إنها أليغوريا العذرية وحنان الأم المفقود في طفولته القاسية، فهي التي تقترح عليه الزواج من ناديا، "لماذا لا تتزوج ناديا؟ ... إنها ربيبتي ليست بنتي" ص 82، وهو في النهاية تبرير غير مقنع اجتماعيا إن أردنا التدقيق في طبيعة بناء "الحدّوته" على الطريقة الكلاسيكية، لكنها رغبة الكاتب في تجسيد هذه الأليغوريا، إضافة إلى العودة إلى الجذور.

نقرأ في الرواية مونولوج غير تقليدي "أنت لا تحب إلاها. إلا نينا بتروفنا أيها الدونجواني الشقي. لماذا اللقاء بناديا وغير ناديا؟ أهو مرض؟ مرض فينوسي؟ أهي الرغبة بتعدد الزوجات؟ ...". ص 180

وتتابع ناديا " تقول جدتي: أنا حائرة بينكما وبينه لماذا لا يتزوج إحدى المرأتين فتستقر الرياح؟ يخيل لي إنه حائر بينكما ... وتقول نينا بتروفنا: إنه في مثل عمر ابني. حرضي ناديا لتتزوجه". ص 181

وأخيرا فإن الراوي يمعن في وصف قوة نينا بتروفنا وحمايتها له كأم " كانت نينا بتروفنا أثبت مني قدماً، ونحن مسرعان إلى المخزن، في مهب من الرياح والثلوج المتسارعة المتشابكة.. فهي عذراء الثلوج الروسية وزوابعها. ولم تترك ذراعي لحظة خوفاً عليّ من أن أقع أو أزلق..." ص207، وهو ما يفسر بقاء المذكرات / مخطوطة الرواية عندها بعد وفاته مع ناديا في حادث سيارة.

ولهذا فإن الراوي يبرر إلحاحه على الزواج من ناديا عندما تماحكه الأخيرة ساخرةً منه بأنه لا يحب نينا بتروفنا "كدتَ تنساها البارحة " ص291، فيبرر "كنتُ خائفا أن تؤذي نفسَكِ" ص291، وأنظر التبريرات الأخرى. ص292

يقول الراوي لصديقته المميزة نينا بتروفنا ومنذ ليلتهما الأولى مكتشفا عذريتها "اسمعي رجاءً.. وأنا جاد. صادق فيما أقول، هل يمكنني أن أتزوجك؟ من فضلك" فتجيبه "ما بك؟ أنت في عمر ابني... أنا زوجتك. ألم تتزوجني الليلة؟ ماذا ستقول أسرتي وصواحبي؟ ... سيقولون إني أوقعت بك اثرةً واحتيالاً" ص 27، فيعلق قائلاً " ما أنا إلا فتى أجنبي لا يملك غير راتبه، فأين الإيقاع هنا؟" ص 27، وكأنه لا يعلم أن الهبات أو "المنح" كما يسميها، التي يوزعها على النساء كانت تكفي كَرِشى لمسؤولين كبار لحل مشاكل كبيرة يواجهها الناس في حياتهم اليومية آنئذ. حتى إن صديقته ناديا بدأت "تستغله"، "شاكستُ رئيسة القسم...ووعدتها بزجاجة ويسكي وسآخذ الزجاجة منك، وسمحت لي بالخروج مبكرا" ص59، على عكس نينا بتروفنا، التي تنصحه بالاقتصاد والتوفير وعدم شراء الهدايا.

زميله الصحفي أندريه، غارق في الإدمان والعشيقات وحياة اللهو دون أن نقرأ سردا عن حياته لكن هذا هو استنتاجنا، نفس الشيء يقال عن زوج جارته ليوسا.

نساء الرواية عاطفيات حنونات ينشدن الاسترخاء والاستمتاع بالحياة كرد فعل لفترة ما بعد الحرب التي عاشتها امهاتهن: ناديا وليوسا وصديقتها ليزا والجارة الجديدة، والبنت المستعربة، والنادلات الشابات الكثيرات اللاتي لم نتعرف لا على أسمائهن ولا أوصافهن الخارجية.

بطلة الرواية نينا بتروفنا، كانت في ريعان شبابها أثناء الحرب الوطنية العظمى كما كانت تسمى في الاتحاد السوفييتي، لكنها لا هي ولا والدتها لم تتحدثا عن تلك الفترة القاسية، مما يدلل على رغبة الكاتب بذلك. وهذا يطرح تساؤلات عليها.

من هو الشخص الذي يقف خلف صاحب المخطوطة او المذكرات؟ إنه الراوي، ولكن من هذا؟ إنه صورة الكاتب وليس الكاتب بحد ذاته. هذا يحتاج الى نقاش معمق آخر قد نعود إليه في مناسبة أخرى.

يقول الراوي "أوقعت نفسي حقاً أو أوقعتني المقادير على منزلق خطير! فتباً وتباً لي... قد أخادع نفسي وأقنعها، أحيانا أنني (متزوج) من امرأتين، لكن أمن السهل عليّ مخادعة امرأة حسناء محبة ووفية لي؟ أأنا مخادع؟ هل أنا غشاش؟ ...ما الحل؟ وأين راحة البال؟ هل (لمست) نينا بتروفنا شيئا ما وغضت الطرف ...". ص70

وهو أمر لم تخفه عنه ناديا عندما قالت له " ستشم نينا بتروفنا رائحتي في فراشك". ص 45، وتعبر عن حالها بشكل أوضح قبل نهاية الرواية "...لماذا لا أنام الليل كله هنا؟ أأنا فتاة شارع؟ أأنا ممن يبعن أجسادهن بقبضة روبلات؟ ... من طوّحَ بي؟ من (عهرني)؟ أين مني خجلي وعفتي؟". ص 314

ويسخر من نفسه قائلاً "التقى الأجنبي الغر سيدةً، وغادةً غضة، فاحتار بينهما، سأل المحير بين العيد والعيد". ص82

وهل يمكن إخفاء مثل هذه الأمور في الحياة السوفييتية بخاصة إذا كان الرجل أجنبيا؟ فالبطل "زير نساء" لا يترك واحدة إلا واصاب منها ما يريد، علاقاته بهن مفتوحة وواضحة في المجتمع حيث الناس يتناقلونها، لا سيما أن حبيبته طبيبة جراحة معروفة، ولهذا تحذره ناديا مبررة ممانعتها تقبيله "قد يمر أحد الجيران، إنهم يعرفون أنك فتى نينا بتروفنا". ص68 وتقول له ايضا " أنا ربيبتها المدللة ... إنها تعرف. هي ذكية جداً ...". ص78

أجل، نينا بتروفنا تجسد أليغوريا السمو والأخلاق العالية والبهاء والجلال والذكاء والجمال والحنان، إنها حبيبته وخليلته وأمه وروحه، التي لا يمكن للراوي التخلي عنها أو الانفصال عنها، إنها تنتقل في مخيلته من شقته الموسكوفيه إلى قريته في جنوب العراق حيث "الديكة تتصايح، ... تصحو (نينا بتروفنا) لتخبز العجين" ص 289، وأنه بالتأكيد سينتحر إن لم يمت في حادث سيارة، إن أجبر على الزواج من ناديا! ------

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

أستاذ جامعي عراقي مقيم في الدنمرك

......................

* حسب الشيخ جعفر. نينا بتروفنا. مَن أيقظ الحسناء النائمة؟ بغداد، دار المدى 2014

* كُتبت هذه الدراسة عن رواية "نينا بتروفنا عام 2016 ونُشر جزء قصير منها عام 2018 في إيلاف.

يقال إن الرواية البوليسية هي الرواية التي تسعى إلى إجابة قارئها عمَّن فعل الحدث الجرمي؟ مثل القتل أو السرقة أو الانتحار والاغتصاب، وغيرها من أفعالٍ جرميةٍ، وكشف أسبابها، حيث تتسارع أحداث الرواية مع تدفّق الكشوفات المتتالية للتحقيق، الذي يتبناه ضابط بوليس، أي أن الرواية البوليسية تقوم على شقّين: الجريمة وملابساتها، والتحقيق وتفاصيله.

وما زالت الصحافة الثقافية العربية تتناول موضوعة عدم وجود أدب بوليسي عربي، أحدث هذه الكتابات مقالة الشاعر والناقد اللبناني عبده وازن الذي أشار في مقالته المنشورة، مؤخراً، إلى عدم وجود رواية بوليسية عربية، ضمن خريطة الأدب البوليسي العالمي، مرجعية كلامه هذا، تعود إلى صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية التي  نشرت مؤخرا عددا خاصا عن الأدب البوليسي، وكان عنوانه الطريف "جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية"، حيث شمل العدد الأدب البوليسي في معظم القارات والبلدان؛ الولايات المتحدة الأميركية (شرق وغرب) وكندا وأميركا اللاتينية وآسيا والشرق الأدنى وأفريقيا، وبلدان أوروبا كافة الغربية والشرقية والجنوبية، وكان الاستثناء الوحيد كلّ دول العالم العربي قاطبةً. ومن التبريرات المُتداولة عن أسباب هذه الظاهرة، إن العالم الغربي تقدّم على الشرق بحدوث الثورة الصناعية فيه قبل قرنين من الزمان، وإنّ المجتمع الآلي الحديث جعل الإنسان الغربي يعيش الاغتراب عن ماضيه وحاضره.

تقاليد غربية بوليسية

تمكّن الغرب من ترسيخ النوع البوليسي في أدبهم خلال 150 عاماً، أي منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا، ويُذكر بأنه بالرغم من هذه الحقبة الزمنية الطويلة، لم يتمّ البت بمعايير ومواصفاتٍ عالميةٍ للأدب البوليسي، وأيضاً هناك من النقاد، من ينزعون صفة الأدبية عن النوع البوليسي، من منطلق أنها انعكاس مقلوب للرواية الواقعية، بداية الحدث في الرواية البوليسية وقوع الجريمة، ونهايتها تتمّ بمعرفة المسبّب للجريمة.

اختطّ الأدب الغربي تقاليد بوليسيةً عريقة، لم يتأسّس نظيرها لدى العرب، مثلاً شخصية شرلوك هولمز، تلك الشخصية البوليسية الخياليّة التي ابتكرها الكاتب الإسكتلندي آرثر كونان دويل، ليساعد رجال الشرطة والمحققين عندما لا يجدون حلولًا للجرائم التي تواجههم، هولمز أفاد من التفكير المنطقي، وامتاز بقدرته على التنكر والتمويه، واستثمار معلوماته الطبية، بوصف أنّ مبتكرها كونان دويل طبيبٌ أيضاً، في حلّ ألغاز الجرائم. وبذا عُدَّ هولمز أشهر شخصيةٍ بوليسيةٍ في العالم على الإطلاق، استثمرها دويل في تأليف أربع روايات، وستة وخمسين قصة قصيرة، جميعها تنتمي إلى الأدب البوليسي.713 ajatha

وهناك أيضاً المحقق البوليسي الشهير هيركيول بوارو، تلك الشخصية التي ابتكرتها مؤلفة الكتب البوليسية أغاثا كريستي. واشتُهر عنه بأنّهُ يُحبّ الغموض والدراما، ولا يميل إلى مشاطرة المعلومات أو كشف الشرير إلا في آخر لحظةٍ ممكنة، وهذا ما جعل كبير المفتشين جاب وآرثر هستنغز، الذي يترافق ظهوره مع هيركيول في جميع بوليسيات كريستي، يتّهمه بتعمّد إخفاء المعلومات عن الآخرين ليبدو أذكى مما هو عليه حقيقة. كريستي جعلت محققها الشهير بوارو يبدو بمواصفات من يمتلك قدراً كبيراً من الذكاء، وهو جذّابٌ جداً بما يجعل الكثيرين يبوحون له بالمعلومات الشخصية، في الوقت الذي لا يبوحون بها إلى آخرين، مما جعل كريستي تتوّجه بطل أربع وثلاثين رواية وأكثر من خمسين قصة قصيرة من تأليفها، فبات محبوباً من قبل الملايين من المعجبين، من قرّاء روايات كريستي ومشاهدي أفلامها حول العالم، وبنشر موته في قصة "الستارة" عام 1975 عُدّ الشخصية الخيالية البوليسية الوحيدة في التاريخ التي نشرت النيويورك تايمز تأبيناً له على صدر صفحاتها.

وإذا كانت هاتان الشخصيتان برزتا في قمّة الأدب البوليسي العالمي خلال القرن العشرين، تضاف إليهما شخصية المفتش غاليمار المشتهر في قصص الجريمة الفرنسية، صحبة اللص المعروف آرسين لوبين، فإن كتّاب الرواية البوليسية الغربية في العقود الأخيرة حققوا شهرةً لا نظير لها، مثل الأميركي ستيفن كنغ الذي فاقت مبيعات كتبه جميع مبيعات أنواع الكتب الأدبية الأخرى، وعدد قرائه، لا يظفر أي روائي آخر بعددٍ قليلٍ منهم.

ويقول الروائي السوداني تاج أمير السر إن المُخيّلة الثرّة للكاتب البوليسي الغربي  مردّها أنّه "نشأ في مجتمعٍ مكتنزٍ بالأدوات الفاعلة، أو التي تنشّط تلك المخيّلة، هو يرى الجرائم المعقّدة التي تُرتكب، يشاهد المتحرين وهم ينشطون من حوله، وربّما يتغلغل في علب الليل وعوالم الجريمة المتعددة، الموجودة بكثرة، من أجل أن ينشط خياله ويكتب".

افتقار عربي

قد يعزى الافتقار العربي للأدب البوليسي إلى المحافظة على الجذور التي ما زالت نزعة سائدة في المجتمعات العربية الحديثة، بالرغم من التحولات الحاصلة في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، التي ربما لا تعين في ترسيخ نزعةٍ بوليسيةٍ في الرواية العربية، فالفرق يبقى شاسعاً بين الغرب والعرب.

ويمكن القول بأنّ رغبة الكتّاب العرب في كتابة الأدب البوليسي تصطدم بالافتقار إلى المحقق البوليسي، على غرار ما أشرنا إليه عالمياً، وتحليل ذلك، ربّما يعود إلى أن المحقّق الجنائي العربي، وفي غالبية بلدان العرب، ليس لديه الصبر والوقت الطويلين في إعمال عقله، وقيادة مسارات التحقيق بهدوءٍ وروية، حيث بوساطة تلك المسارات العميقة يمكن أن تُولد قصص تحقيقٍ شيقة، ربما توفّر السبيل لكتّاب راغبين في خوض غمار السرد البوليسي، أن ينسجوا روايات وقصصاً بوليسية، وبالتراكم الكمي والتميز النوعي، وعبر سنين طوال، ربّما ينبثق لدينا أدبٌ بوليسي. القصد من ذلك أنّ المحقق الجنائي العربي عامة، ينال ما يريده من اعترافاتٍ جرمية، بأقلّ الوقت، وأقصر الطرق، بوساطة اتّباع أساليب التعذيب والتهديد، ذلك ما يقوله الروائي السوري فواز حداد "السببُ في اختفاء الأدب البوليسي في بلادنا أنَّ الجرائم مهما تبدّلت وتنوّعت، فالحل المطروح واحد، ومعرفة المجرم مُيسّرة من دون تعقيدات، فما المثير فيها؟ بينما المحقّق الجنائي في روايات الغرب يجهد في التفكير، الكثير من التفكير، فمثلًا هولمز يصرف الكثير من الأفيون، ويستعين بوارو بالخلايا الرمادية، للتغلّب على ذكاء المجرم".

وإذا أردنا أن نبحث عن سقفٍ أكبر للافتقار العربي للأدب البوليسي، فإنّ عديد الكتّاب والدارسين يرون أنه بسبب غياب الديمقراطية، في غالبية بلدان العرب، ومن ثمّ يترتّب على ذلك غياب العدالة والقانون، وقد قالها الروائي فواز حداد "أمرٌ واحد: القانون. عندئذ تدخل مملكة الرواية" لكن الروائي تاج أمير السر يرى ألاّ غرابة في افتقار الأدب العربي إلى الرواية البوليسية، لماذا؟ "باعتبار أن اختلاف المجتمعات في بنائها وحركة شعوبها وعاداتهم وتراثهم بالضرورة يؤثر على الأدب كثيراً، ولطالما وُصف الأدب بأنّه مرآةٌ للشعوب، يعكسها بألوانها التي عليها". ربّما العلةُ واحدة، لكنّ أساليب صياغتها تعدّدت، فنحن في مجتمعاتٍ عربية، بالرغم من إشهارات منصات التواصل؛ نسرُّ أكثر مما نعلن، ونُكبت أكثر ممّا نفجّر.

***

باقر صاحب - أديب وناقد 

 

تختلف الكتابة التاريخية عن الكتابة الروائية بشكل كبير جدا، الأولي تعتمد على الأحداث والوثائق والمذكرات والشهادات، والثانية وإن كانت  تعتمد على حقائق كما نراه في الروايات البوليسية، لكن يغلب عليها الطابع الخيالي، فتستقطب القارئ إليها خاصة الشباب والفتيات منهم، من خلال إعطاء للرواية طابعا رومانسيا، وقد ربطت زكية علال روايتها الرومانية بصور تاريخية عن أحداث وقعت واسماء لشخصيات ذكرتها كمرجعية، وهذا ما يدعو إلى مراجعة الأحداث ومراجعة التاريخ، تقول الروائية زكية علال في لقاء بيع بالتوقيع عن روايتها "برج شهرزاد" عشت الانكسار في حياتي الإبداعية ولم أجد من يدعمني ولذا أعمل علي دعم الكتاب الشباب لكي لا يعيشوا ما عشته.

فرواية الأديبة والإعلامية الجزائرية زكية علال بعنوان: "برج شهرزان" التي صدرت في سنة 2003 وشاركت بها في معرض الدولي للكتاب (سيلا) هي من الروايات التي تنقل القارئ من حدث لأخر، مع تنوع الأمكنة بسبب الهجرة / العودة، والحنين إلى المكان الأصل والوقوف على الأطلال، وفي هذا تقول الروائية زكية علال التي استضافتها مكتبة الإحسان بباتنة شرق الجزائر بمنتداها التي اعتادت تنظيمه كل يوم سبت تقول أن تكتب عملا روايا له طابعا تاريخيا عملية ليست سهلة وهي تحتاج إلى مراجع لتوظيف المعلومة التاريخية، فالروائية ربطت قصة (شهرزاد وسعيد) بشخصية تاريخية كانت وراء أحداث عاشتها الجزائر أيام الثورة وأسالت كثير من الحبر كونها اتسمت بالاغتيالات والتصفيات الجسدية بسبب التموقع، فالروائية زكية علال ذكرت شخصية تاريخية معروفة في تاريخ الجزائر، ألا وهو عبد الحفيظ بوصوف رئيس وزارة التسليح والاتصالات العامة ministère de largement et des liaisons générales، "المالغ" (M.A.L.G)، طبعا لا أحد يمكنه التنكر لما قام به المالغ بقيادة عبد الحفيظ بوالصوف، رغم أنه حسب (الكتابات التاريخية ومذكرات بعض المجاهدين) له علاقة بمقتل الشهيد عبان رمضان بالمغرب، فيما عرف بقضية الباءات الثلاث وهم: (عبد الحفيظ بوصوف، كريم بلقاسم والأخضر بن طوبال) ولا يسع الحديث هنا عن هذه الأحداث طالما الموضوع يتعلق بعملٍ روائيٍّ في مستوي الإبداع، استطاعت الروائية لفت انتباه القارئ حيث جعلته أسيرا لروايتها التي تروي علاقة فتاة اسمها شهرزاد بسعيد صديق الطفولة، لكن السؤال يكون كالتالي: لماذا اختارت الروائية اسم عبد الحفيظ بوالصوف بالذات ومدينة ميلة أنجبت قادة تاريخيين أيضا وهي ابنة المدينة وتعرفهم جيدا، ونذكر على سبيل المثال بلا الحصر اسم المجاهد "محمد العربي بن رجم" ؟، ففي مداخلتها تقول الروائية زكية علال أن بوالصوف اعتمدته في روايتها كمرجعية تاريخية دفعت الثمن غاليا لما قدمه من أجل الوطن لدرجة أن المعني لم يستطع رؤية أمّه وهي تحتضر، حين قدم إلى مسقط رأسه متخفيا.

قصة عشق بطعم تاريخي

و بالرجوع إلى هذا العمل الروائي تعرض الروائية في روايتها السالفة الذكر (برج شهرزاد) قصة امرأة اسمها حورية وابنتها شهرزاد التي تعلق قلبها بصديق الطفولة سعيد وكيف يموت سعيد وتنتهي الرواية بمأساة، تبدأ الرواية بخروج حورية (الأم) من برج الطهر بمحافظة جيجل (شرق الجزائر)، وتحمل بين يديها رضيعة، كانت معرضة للخطر، فتخفيها حورية في حضنها، لتهرب بها إلى ميلة القديمة، حيث لا يعرفها أحد، وهناك تجد في السور البيزنطي حاميا لها، ويقوم سعيد أحد أبطال الرواية برعاية الطفلة شهرزاد وهي رضيعة، وكان كلما يري شهرزاد تكبر وتزداد جمالا ينبض قلبه تعلقا بها حتى تحول الإعجاب إلى حب ثم إلى عشق، تأثر بها سكان ميلة القديم وسمعت صداها تلك البنايات القديمة المسقفة بالقرميد وأضحت قصة عشق سعيد لشهرزاد حديث العام والخاص من شباب المدينة، تتردد على السنتهم كلما تواجدوا بعين "بلد" وكلما وقفوا على اثار المدينة والسور البيزنطي، فمدينة ميلة العتيقة شهدت أحداثا تاريخية وتعاقبت عليها عدة حضارات، جعلت من الروائية أن تمثلها كصوت يدوي للحقيقة لم يستطع سكانها كشفها، وقد حبكتها الروائية وأعطتها صورة تاريخية لما أقحمت عبد الحفيظ بو الصوف الملقب بـ: سي مبروك في الرواية رغم وجود قادة تاريخيين ينحدرون من هذه المدينة التي لا تزال جدرانها تحكي عن أحداث علقت بأعيان المدينة وتذكر شبابها بالأحداث، وربما قصة سعيد وشهرزاد أيقظت التاريخ، وأعادت الحياة لشخصيات تاريخية تم تغييبها، رغم أن شخصية عبد الحفيظ بوالصوف لم تغيب، ولم تكن يوما مغيبة، بل فرضت نفسها في الساحة كلها وليس في مدينة ميلة وحدها، لأن هذه الشخصية لعبت أدوارا عديدة واشتهرت بالباءات الثلاث،عكس بعض أسماء شخصيات تاريخية وعسكرية التي تنحدر من نفس المدينة وهي اليوم نسيا منسيا.

في لقائنا بها بمكتبة الإحسان بباتنة تنتقد زكية علال الوضع الثقافي في الجزائر وهو من وجهة نظرها مزري جدا ومؤسفٌ، لأن الوساطات تلعب دورا كبيرا جدا، وأن حظ أدباء الداخل قليل جدا وصوتهم لا يصل بسرعة، لكنها كروائية تضيف زكية علال: أنا لا أستعجل، حتي لو طالت مدة كتاباتي ثلاثين سنة أو أكثر، فأنا أؤمن أن وصولي سوف يصل بعد رحيلي، لأن بعض الأفكار لا يستقبلها اجيال الآن لكن تستقبلها اجيال المستقبل، ولذا من الصعب أن تكتب من داخل الحرب، وهي تكتب تقول زكية علال أتمثل نفسي فاطمة داخل غزة، بين النار والحصار وانعدام المساعدات، ولا شك أن صورة فاطمة الغزاوية التصقت بها وقد عادت صورتها في 07 أكتوبر 2023، ويلاحظ أن كتابات زكية علال سواء في بعض قصصها أو في روايتها تأخذ بعدا إنسانيا، تقول: إن حب الوطن يسكننا حتي ونحن فاقدي العقل، فعندما تفقد العقل يبقي فيك الوطن، في ردها على سؤالنا عن سبب اختيارها شخصية عبد الحفيظ بوصوف بالذات بدلا من أسماء أخرى هي تعرفها، خاصة وأن كثير من الكتابات أكدت أن بالصوف هو من قتل عبان رمضان، لكنها وصفته بالإنسان، والإنسان الذي يملك الروح الإنسانية لا يمكنه أن يمارس العنف، بين بني جلدته، تقول زكية علال لو فتحنا الملفات سوف نصطدم كثيرا، وأنا أتفادي الحديث عن أمور مثل هذه، وقد أحالتنا هذه الروائية إلى مشهد من روايتها، أن سعيد بطل الرواية التقي ببوصوف وقد أوصاه هذا الأخير أمضي إلى الأمام، لأن بعض "الحماقات " ارْتُكِبَتْ قد لا يغفرها لنا التاريخ، لذا أوصيكَ بأن تمضي إلي الأمام ولا تلتفت إلي الخلف، هل هي محاولة لطي صفحة الماضي ونسيان ما حدث من أخطاء ؟ وغرس في أذهان الجيل الحالي والذي يأتي بعده ثقافة النسيان؟ الإجابة موجودة عند الروائية، حسبما جاء في الرواية، فإن سعيد كان يشبه إلى حد ما عبد الحفيظ بوصوف، وقد أدرك هذا صاحب محل اسمه عمي حمود (الصفحة 48) لما سأله سعيد من هو سي مبروك، ورد عليه عمي حمود بالقول: إنه صانع تاريخ الجزائر ومهندس ثورتها، وكان رد الطفل سعيد: كل كتبي المدرسية لم أقرأ فيها اسم عبد الحميد بوالصوف ليرد عمي عمود: يا ولدي مازلت صغيرا لتعرف من يصنع التاريخ ومن يكتبه (ص 51)، ومنذ ذلك الحين بدأ سعيد يقرأ عن سيرة بوالصوف وأصبح يقلده في لباسه وطريقة تسريحة شعره...الخ، أرادت الروائية أن ترسم لوحة للزعامة وكيف تظهر علاماتها ومن يستحقها، هذه الزعامة التي غالبا ما تنتهي بالتصفيات الجسدية مثلما حاول ابناء يعقوب قتل أخوهم يوسف (ص 53).

من وجهة نظر الروائية فهي - كما أضافت- تعالج القضية بغض النظر إلى الشخصيات، لأن الشخصيات تموت والقضية لا تموت، طبعا هذه وجهة نظر المتحدثة وقد تكون وجهات نظر مختلفة بين قارئ وأخر، لأن القضية إن ارتدت ثوب الجريمة (الاغتيال) وجب تحديد شخصية صاحبها هل هو إنساني؟ أم مجرد من الإنسانية؟، لأن الأمر يتعلق بالخيانة للرفاق، تستطرد زكية علال بالقول: كل ثورة لها أخطاؤها وأولوياتها، و الرواية هي حياة والكاتب يحتاج إلى أن يعيش حياة الأبطال، وكل شخصية روائية تحتاج إلى دراسة نفسية ومرافقة، وبما أن الكتابة في حد ذاتها قضية، لابد على الكاتب ان يناضل من أجلها، حتي يُخرج عمله الإبداعي في حلّة فنيّة وأن يستخدم أدوات الكتابة بطريقة ذكية يستقطب بها القارئ وبالتالي فكتابة الرواية ليست سهلة، ومن باب الإعتراف تقول زكية علام أن الروائي في الحقيقة لا يكتب التاريخ غير الباحث وغير الأكاديمي وغير المؤرخ، إلا أن الباحث والأكاديمي قد يغفل في كتابته الشخصية التاريخية وهنا يأتي دور الروائي، لأن الرواية عالم مدهش رهيب لا يمكن دخوله بدون سلاح، للإشارة فقط أن اللقاء أخد بعدا كبيرا من خلال تدخلات المشاركين فيه من مثقفين واستاذة جامعيين وأئمة الذي كان لهم تساؤلات وتدخلات مهمة بحضور مسؤول المكتبة الأستاذ محمد بن عبد الله فراح وهو صاحب دار نشر الإحسان بالجزائر، والروائية زكية علال معروفة في الوسط الإبداعي داخل وخارج الجزائر وهي كاتبة مخضرمة وإعلامية بإذاعة ميلة الجهوية، كتاباتها كما قال الدكتور عاشور ترقي إلى من يحمل همّ القضية وهي أيضا كاتبة قصص ولها رسائل، حيث عرجت بالحديث عن تقنيات كتابة الرواية العربية .

***

قراءة علجية عيش بتصرف

 

لا أدري كيف قفزت إلى ذهني رواية "طيران فوق عش الوقواق" لمؤلفها الكاتب الأمريكي كين كيسي، المولود في كولورادو العام 1935، وهي جزء من صيحة الستينيات التي رفعت موجة النقد ضدّ الحرب في الفيتنام، ناهيك عن كونها شهادة حيّة على حركة الرفض للحرب وعلى انطلاق حملة تضامن دولي غير مسبوق، وقد ترجم الرواية إلى العربية الكاتب السوري صبحي حديدي، وكنت قد شاهدتها فيلمًا في النصف الثاني من السبعينيات من إخراج المخرج التشيكي ميلوش فورمان، الذي كان يتحسّس أولى خطواته كلاجئ إلى الولايات المتحدة.

كانت استعادتي للفيلم حوار صحفي أجرته معي إعلامية لبنانية عن أن الكثير من الأبرياء يكونون خلف القضبان، في حين أن المرتكبين والمذنبين ما زالوا يسرحون ويمرحون، لعلّ تلك المقاربة قادتني إلى استحضار ما كان يجري في تلك المصحة العقلية التي جسّدها فيلم " طيران فوق عش الوقواق"، فربما هؤلاء الذين احتجزوا باعتبارهم مرضى عقليين قد يكونوا أكثر عقلًا ممن خارجها. حقًا يشعر القارئ والمشاهد بشكل خاص بالقلق والحيرة على المصير الإنساني، بل بالخوف أيضًا حين يشعر أن حياته تبقى معلقةً كجزء من هذا المجتمع مربوطة بخيط بمستشفى الأمراض العقلية في علاقة مرموزة ومتداخلة بين السلطة والناس، حيث تتحكّم الأولى بالثانية.

***

الفيلم يدور داخل مصحة للأمراض العقلية بالقرب من الحدود الكندية، تُدعى مستشفى أوريغون للأمراض النفسية، وقد اختار المؤلف المكان كجزء من العالم الداخلي الذي يعيش فيه هؤلاء المرضى النفسيين لوصف مأساة العالم الخارجي، والمقصود بذلك المجتمع الأمريكي، خصوصًا في فترة الحرب الأمريكية ضد الفيتنام، وتغوّل السلطة ضدّ مناهضي الحرب ورافضي التجنيد، وبالطبع فالمسألة لا تقتصر على المجتمع الأمريكي وحسب، بل تشمل عددًا من المجتمعات التي تعاني من الاستلاب والقهر.

وتزودنا الرواية بحبكة درامية بدراسة للسلوك السلطوي والعقل الإنساني، بما فيها نقد الطب النفسي، خصوصًا بعض تجريباته. وبقدر فرادة الرواية، ولاسيّما تصويرها لعالم القمع والمقاومة في آن، فإنها تنطلق من سؤال فلسفي هو: كيف تسيطر الحكومات على الشعوب وتصادر أحلامها وتسعى لتدجينها؟ ويتفرّع عنه سؤال آخر: كيف يمكن للشعوب مقاومة الطغيان ومحاولات الاستتباع والإذلال؟

وهكذا يبدأ الفيلم بالحيرة أو ضياع البوصلة ثم بالضجر لكي يعكس عبر الموسيقى طبيعة المجتمع الأمريكي، حيث الصراع بين الرغبة في التغيير وبين محاولة الكبح التي تقوم بها السلطات، وفي هذه اللحظة يمكن التعرّف على من يحاول الطيران فوق عش الوقواق.

***

أتوقّف عند حوار يدور في داخل المصحّة العقلية بين نزلائها، فيخاطب راندل ماكميرفي زملاءه داعيًا إياهم للتمرّد بقوله: إنكم لا تطيقون هذا المكان، لكنكم لا تمتلكون الجرأة للخروج منه، فماذا تحسبون أنفسكم مجانين أو ما شابه ذلك؟ تلك محاكاة لرفض الاستسلام والخنوع للأنظمة التي تحاول تطويع الناس وإخضاعهم بشتّى الأساليب لقبول نهجها.

ولعلّ دعوته إلى التمرّد دائمًا هي تحريض للناس على الاحتجاج والرفض وعدم الخضوع واليأس، علمًا بأن بعض من يقيم في المصحة العقلية مقتنع بذلك، بل أنه قابل بذلك بكامل رغبته لأنه يخشى لدرجة الرعب من الحياة خارجها. وعبر عملية منظمة تحاول السلطة ترويضه لقبول ما تقدمه له، في عملية أقرب إلى غسل الأدمغة تقوم بها لفترة طويلة وبالتراكم والتدرّج، وهذا ما شاهدناه من انقياد الناس في ظلّ الأنظمة الديكتاتورية إلى حكامها.

وحسب قراءاتي المتواضعة ومعلوماتي الشحيحة عن الفن السابع، عرفت أن فيلم "طيران فوق عش الوقواق"، هو أحد أروع الأفلام عبر التاريخ، ويبدو أن العنوان مستوحى من أغنية شعبية للأطفال "أحدهم طار إلى اليسار.. أحدهم طار إلى اليمين.. أحدهم طار فوق عش الوقواق" حسب أيوب واوجا.

أما طير الوقواق فهو فصيل من 26 نوعًا من الطيور الوقواقية، وحسب المنجد أنه طائر غريب الأطوار انتهازي وعدواني، فهو يغزو أعشاش الطيور الأخرى ويُبعثر بيضها، كما يقتل فراخها عبر رميها من الأعشاش مع إيهامها بطريقة مخادعة أنه قريب منها، وهو ما يعكس تلك  العلاقة المركّبة والمعقدة والفوقية بين السلطة التي تحاول استلاب حقوق الناس وسرقة قوتهم، وفي الوقت نفسه تسعى إلى إيهامهم بأنها تعمل لمصلحتهم، ولذلك تدعوهم لدعمها، ويبدو أن بعض المغفلين، وهم كثرة كاثرة يقتنع بذلك عبر الشحن الأيديولوجي وأساليب الدعاية والحرب النفسية والعديد من وسائل القوة الناعمة فيصدق ذلك عن طيب خاطر، في حين تٌمعن السلطة في إذلالهم برضا كامل من طرفهم.

هكذا يدخلون حروبًا ليست في مصلحتهم ولا ناقة لهم فيها ولا جمل، ويتصارعون ويختصمون لحساب أمراء الطوائف وقادة الكتل السياسية، دون إرادتهم أحيانًا فيجدون أنفسهم حطبًا لتلك الصراعات.

وقد لعب جاك نيكلسون (راندل ماكميرفي)، الممثل القدير الذي حصل على 5 جوائز أوسكار وجائزة أفضل ممثّل، دور البطولة وجسّد شخصية المتمرّد المليء بالعقد والجنون والعزلة، حيث يبدأ الصراع بينه وبين الممرضة الأساسية راتشد (لويز فليتشر)، وهي التي تمثّل وجه السلطة القاسي وقلبها الغليظ الذي لا يعرف الرحمة أو الشفقة، وهي تتعامل مع نزلاء المصحّة بلا رأفة أو حلم.

ويضطر راندل (نيكلسون) الذي يعبّر عن تطلّعات الناس إلى إنزال الشتائم بها، كجزء من ردّ الفعل على سلوكها، ويحاول أن يتفلّت من أنظمة المستشفى ويعترض عليها في رمزية إلى التمرّد على السلطة، فضلًا عن محاولة الزوغان عن مساءلتها، وحتى حين يبدأ بكسر النافذة ويفشل في الهروب، يقول عبارته الأثيرة "على الأقل قد جرّبت.. أليس كذلك؟".

المصحّة تمثّل المجتمع الأمريكي بجميع فئاته من عرقيات وأجناس بما فيها الهنود الحُمر (السكان الأصليون) وأصحاب البشرة السمراء، وهم الأكثر اضطهادًا في المجتمع في إشارة إلى الصراع والأحقاد والكراهية بينهم وبين البيض من جهة، وفئات أخرى من جهة ثانية، ويبرز المؤلف أن سبب الكراهية يعود إلى السلطة التي تشيع روح الثأر والانتقام، فضلًا عن عدم إقرار الحقوق المدنية كاملة على الرغم من نجاح الحركة المدنية في إقرارها قانونيًا في العام 1964 بقيادة مارتن لوثر كينغ.

ويصوّر الفيلم شخصيات أخرى مثل الزعيم الهندي الأحمر قليل الكلام لدرجة الصمت، وثمة من هو غير قادر على النقد أو التعبير وما عليه سوى تنفيذ الأوامر التي تصدرها الممرضة ذات القلب القاسي، والتي تجسّد سلطة الاستبداد، وهكذا يتعالى مشهد الصراع والتمرّد من جهة، ومحاولة فرض التسيّد والهيمنة من جهة أخرى، حيث يُظهر المؤلف قدرة هائلة على رسم ملامحها بدقة على نحو حي يتجسّد بصورة دراماتيكية في الفيلم والمقصود بذلك إفقاد الناس القدرة على التعبير، وإجبارهم على الرضوخ، بل  واستسلامهم لما تريده السلطة، خصوصًا في ظل الأنظمة الشمولية التوتاليتارية التي عرفتها دولًا عديدة منها الدولة التي جاء مخرج الفيلم منها، فالصمت هو مقياس النجاة، وحتى حين تعبّر السلطة عن تطلّعات الناس أو تفرض عليهم ذلك دون وجه حق، فإنهم لا يستطيعون أن يحتجّوا عليها.

ويعرض الفيلم مشهدًا تقوم به الممرضة الغليظة في التعبير عن رأي النزلاء في لعبة كرة السلّة دون أن يستطيعوا أن ينبسوا ببنت شفة، فقد ظلوا صامتين وهي من يجيب عنهم، والقصد من ذلك أن السلطة دائمًا ما تسعى للإنابة عن الناس حتى في التعبير عن أنفسهم وتطلعاتهم، وذلك في محاولة لخلق مجتمع يقوم على الرضوخ والتبعية ونمط التفكير السطحي الخانع، خصوصًا وأنها تضع العقبات والتحدّيات أمام الناس، بل تُبالغ فيها لإلقاء اللوم عليهم وتحميلهم مسؤولية ما يحصل.

***

حاول المؤلف، ويبدو بشكل أوضح في الفيلم، كسر شوكة السلطة وذلك بالاحتجاج والتمرّد عليها ومخالفة أنظمتها، حيث أخذ النزلاء سرًا في جولة للبحيرة دون علم المسؤولين عن المصحة العقلية، وذلك كي يُظهر إمكانية تحقق ذلك، وهو ما كان يقوم به ماكميرفي.

وتنطلق الرواية من فكرة أساسها العقاب كملازم للسلطة وداعم لها للاستمرار والتسلّط. وهي ما تقوم به بعض الأنظمة التي تعاقب المذنب والبريء. تقول بعض تجارب العالم الثالث نعدم من هو متهّم، فمن كان بريئًا سيذهب إلى الجنة وإن كان مذنبًا فهو ينال جزاءه العادل، وذلك جزء من تسويغ له طابع ديني، وثمة من يقول نعدم عشرة حتى لو كان بعضهم أبرياء فسوف نخيف الناس انطلاقًا من الزعم بادّعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة، وأن ذلك في مصلحة الثورة حتى وإن ذهب بعض الضحايا.

وهكذا يصبح العقاب غاية وليس وسيلة فحسب، والوسيلة هي التعبير الأكثر وضوحًا عن الغايات، فإذا كانت الغايات شريفة فلا بدّ من أن تكون الوسائل شريفة أيضًا، وتسعى السلطة دائمًا لدعم الاضطهاد السياسي والبوليسي بوسائل أيديولوجية بهدف السيطرة على العقول وعبر أساليب دعائية ونفسية، وحسب مفهوم السلطة، على الناس الانتظام في طوابير مثل مرضى المصحّات العقلية تعلّة أن أي خروج عن النظام يحتاج إلى تأديب وعقاب، مثله مثل التمرّد على السلطة أو الاحتجاج عليها فإنه يتطلّب علاجًا بما فيه القمع أو حتى زجّ هؤلاء بمستشفى الأمراض العقلية لإعادة التأهيل وللانتقام ولإظهار سطوة النظام، وبالتالي إشعار الجميع بالرعب، ذلك ما يعكسه جورج أرويل في روايته الإستشرافية 1984، التي كتبها في العام 1948.

***

ولمعاقبة المتمردين يعرض الفيلم عزل ماكميرفي في غرفة منفردة بعد إجرائه تداخل جراحي في المخ، لينتهي دوره ويُصبح بلا تأثير، وهو ما تسعى السلطة للقيام به دائمًا في علاقتها مع المعارضة، ومع قادة الرأي، ولاسيّما من النشطاء والمؤثرين. وحين يتحوّل المتمرّد إلى مجرّد جسم غير قابل للحركة يقرر زعيم المجموعة، الذي كان يعتبره ملهمًا، خنقه لأنه يعتقد أنه لا يريد أن يعيش مثل جثة هامدة بلا تأثير، وهو صاحب مشروع التغيير. وفي هذا الجو الدرامي المشحون بحبكات متداخلة ومعقّدة تتصاعد الموسيقى التي تتكرر من أول الفيلم إلى آخرة، فيهرب زعيم الهنود الحمر وهو أيضًا أحد المرضى "النفسيين"، ويتردد الكلام "طار فوق عش الوقواق".

الطريف أن مؤلّف الرواية لم يشاهد الفيلم الذي أنتج عنها، على الرغم من أن حلمه كان أن يرى الرواية التي كتبها للسينما في العام 1962 أن تصبح فيلمًا، ولكنه بعد عدّة أسابيع أقام دعوى ضدّ منتجي الفيلم، وبعد بضعة سنوات عثر على الفيلم في إحدى القنوات الفضائية فشاهده مستمتعًا به.

ويبقى فيلم "طيران فوق عش الوقواق" السبعيني من أكثر الأفلام التي تركت تأثيرها على المشاهد، وما يزال تأثيرها إلى اليوم.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكر

أليغوريا العذرية وحنان الأم المفقود في طفولة قاسية!

القسم الثالث: الأسلوب:

تنطبق مقولة "الأسلوب هو الرجل" على حسب الشيخ جعفر، فهو شخصية اصيلة ذات خصائص معينة تميزه عن الكتّاب الآخرين، مثل جذوره الريفية العميقة وانتقاله للدراسة في موسكو دراسة إبداعية وأكاديمية وانشغاله بالأدب وبالذات الشعر وتمعنه في اختيار المفردات، والابتعاد عن السياسة المباشرة.

يختلف هذا العمل عن الروايات العراقية السابقة من حيث التقنية والولع في تناول الفكر فهي "متحررة" من المونولوجات والتقريرية والأيديولوجيا، والبطل الإيجابي وحتى مفهوم الرواية باعتبارها "رحلة إلى العصر" مكرسة لكشف الواقع.

يقول الراوي عن مخطوطته الروائية" عندما تسأله حبيبته البطلة نينا بتروفنا "والناس؟ ألا تتحدث فيها عن الناس؟" فيجيبها "أحيانا أتحدث. ... وأحيانا لا. لا أريد لها نهاية". ص 308 

قد تكون قراءة الراوي لأعمال مثل "الصخب والعنف" لفوكنر و"أوليسيس" لجويس رغم أنه اعتبرها "أقل شأناً من (الحرب والسلم) " ص 294، ونتاجات سارتر وهمنغواي، الذي يوصي بدق الخشب خشية من الحسد وفقدان نعمة الراحة، دلالةً على رغبة الكاتب، وهو الخبير بأنواع الرواية لأوروبية، في خلق نتاجه السردي الخاص به بعيداً عن الأساليب الواقعية القديمة متجها نحو السلوك الوجودي للإنسان.

أعتقد أن الروائي حسب الشيخ جعفر "تأثر" بديالوجيا "المصروع" دوستوييفسكي وأهمل بوليفونيته، مبتعداً في لغته عن "الكونت" تولستوي كما يسميهما الراوي، إلا أنه متأثر بهما فكرياً، لكن لماذا لا تتعدد الأصوات هنا؟ هل لأنها تدور باللغة الروسية مع اناس محدودي العدد، "سوفييت" غير متنوعين في انتماءاتهم الاجتماعية، متعلمين يهتمون بالثقافة والأدب ويتواصلون بلغة روسية بلا لهجات مختلفة ومتنوعة، قد لا يتناسب مع نظيرتها العربية ذات المستويات المتعددة كالعامية والمحكية والفصيحة؟

"كان الحفل مكتملا... بدأ الرقص وكنت وأندريه في حوار (معمق) عن (السر الفني) في اختفاء الطبيعة الروسية الشيقة الحافلة من روايات دوستوييفسكي، بينما هي في المركز من اهتمام تولستوي.". ص 8

ويبدو أن حكمه هذا سيكون له أهمية في مسار الرواية ومغزاها.

يمكن ملاحظة ذلك في الحوارات الكثيرة التي تشكل أغلب صفحات الرواية، لكنها ليست ملاسنات ومناكفات بل ملاطفات ومطارحات و"مفاصحات" ومغازلات وأحاديث جميلة عن الأدب تفوق مستوى الأبطال في بعض المرات رغم تبريرات الراوي، بحيث تبدو وكأنها اصواته يوزعها عليهم على دفعات "بالأقساط".

يقول الراوي لجارته المهندسة ليوسا "لم أدر أنك متتبعة عالمة" بعد أن علقت قائلة عن الشاعر بايرون "لم يتعقل بايرون كما أعلم. بل مات بالحمى غريبا شريدا. ص147

وهو كما يبدو تبرير الكاتب لتناغم الأصوات وعدم تنافرها أو تنوعها وتعددها كما هو عند دوستويفسكي.

قد يبدو للقارئ أن أبطال الرواية لا همَّ لهم غير احتساء كوكتيل "البونش" الذي أعتبره أليغوريا خاصة من نوعها تعبر عن حالة التقاط الأنفاس والاسترخاء بعد الحرب وإعادة البناء والستالينة في الخمسينات والستينات. يقول الراوي "أوصينا على شمبانيا (ومثلجات) وهي أكلة روسية باذخة، قد لا تجد لها نظيرا في العالم كله ...". ص95

وأشير هنا إلى أن كوكتيل البونتشPunch هندي الأصل، خليط من الشمبانيا وعصير الفواكه بالمثلجات وبعض التوابل، انتشر في أوروبا عن طريق بريطانيا، التي اخذتها من مستعمرتها الهند في القرن السابع عشر.

ولا يعني أن البطل لا يعاني من الكاثارسيس Katharsis (تأنيب الضمير أو جلد الذات)، لكنها تأخذ أشكالاً مختلفةً غير شائعةٍ، وما ممارساته السلوكية الغريبة و"تضييع" وقته هنا وهناك وكأنه ينتقم من نفسه إلا تعبيرا عن حالة السأم التي يعاني منها كما أشرنا سابقا.

يعبّر هرونوتوب (زمكان) الرواية هنا عن الحالة الوجودية والنزوع نحو رغبات الإنسان كالتجوال في أماكن العاصمة: مثل سينما بروغريس قرب مترو الجامعة، فندق متروبول ص 164، شارع غوركي ص 174، مكتبة الآداب الأجنبية ص216، التي يقول عنها (ملجأي ومنزواي) ص89، مقهى البونش ص 216، وجنوب العراق نسبيا حيث ولد وترعرع وقرأ كتبه الأولى في المكتبة العامة والمدرسة وشارك في المظاهرات وتعرض للتوقيف.

أما وصف طبيعة العلاقات بين الأجنبي والروسيات في الستينات لها أيضا أهمية خاصة قد تفيد عند مقارنتها بفترة التسعينات وبعدها حيث تكونت صورة نمطية سلبية عن الشرقأوسطيين والمسلمين منهم بالذات. هل الأجنبي آنذاك مرغوب به في موسكو لأنه طالب علم وفكر وثقافة في بلد غير استعماري وليس لاجئا ولا عاملا مغتربا، أو لشكله الأسمر المغري أم بسبب إمكانياته المادية، وبالذات في هذه الحالة حيث يغدق الراوي عليهن بالهدايا الثمينة.

هل هي إدانة للنظام السوفييتي، الذي كان يعاني من ندرة السلع الكمالية؟ أم وصف لتقبل الأوروبيين الشرقيين والغربيين للأجانب في الستينات قبل أن تتكون الصورة النمطية السلبية عنهم؟

وتسلط الرواية أيضاً الضوء على أزمة شخصية الرجل الروسي في السبعينات، الغارق في الإدمان وتمزق العائلة الروسية، ناديا تطلق زوجها، ليوسا في طريقها الى ذلك، صديقتها تخون زوجها مع الراوي. أما البطلة الطبيبة الجميلة الخلوقة نينا بتروفنا فقد حافظت على عذريتها لتكون للراوي المترجم العراقي رغم أنه بعمر ربيبتها ناديا، مفضلة إياه على روسي سكّير!

هل نحن أمام أليغوريا تعبر عن مغزى الرواية؟ هل هو البحث عن رجولة البطل ونضجه، لا سيما وأنها لا تريد الزواج رسمياً منه بل تريده لربيبتها ناديا؟ لكن الرياح تجري بما لا تشتهي الطبيبة الحالمة نينا بتروفنا، فتفقد الاثنين الحبيب وابنتها الربيبة في حادث سير وبهذا تكون النهاية غير سعيدة، ليس كما تعودنا في روايات الحب التقليدية. وتبقى الطبيبة نينا بتروفنا تعيش لوحدها مع آلامها، لا شيء يدفّئ عظامها غير ذكرياتها الحلوة وحنينها إلى الماضي!

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

في القصيدة المسافرة ومحاكاة واقعها لدى الشاعر اليمني القدير (محمد ثابت السميعي)

***

بَرْقِيَّـاتْ! 

مِنْ شاعرٍ

ألقى...وزُجَّ بأبعـــدِ:

لمْ أعتدي !

*

مِنْ طالبٍ

شَهِدَ الرصيفُ تَخَرُّجي وتَرَدُّدي:

ما بالْيَدِ !

*

مِنْ مُدَّعٍ

بعمامةٍ وبلحيةٍ وبمعْبَدي:

لا تقتدي !

*

مِنْ مُقْعَدٍ

- رِجْلاهُ تحْلُمُ بالغَدِ -

هاكمْ يدي !

*

مِنْ مُعْدَمٍ

ما نام دون تأَوُّهٍ وتَنَهُّدِ:

هاكُمْ غَدِي !

*

ما شِئْتُ هذا والذي

فَطَرَ النجومَ

لِنَهْتَدي !

***

 التمهيد والرؤية العامة للنص:

يؤسس الناص بإنفراج فكري بمفارقات تقاسيم من واقع مدان. إنها القدرة وقابلية الوعي على الإستيعاب العقلاني للأحداث والوقائع وتحديد موقفه منها.

فلا يكفي أن نعي الأشياء والأحداث المتسلسلة بالوجع زمانياً والمتموضعة مكانياً بل يترتب اتخاذ موقف ما، من ذلك الشيء أو الحدث اللذين وعيناهما ونراهما ونشعرهما بعيداً عن هيمنة المؤسسة السلطوية بكل أحكامها وايدلوجيتها الثقافية على موضوعة الفهم. والذي هو الأساس الأول لنشوء وتكوّن الوعي في عقلية الإنسان.

من هنا اعتمد شاعرنا على مبدأ (قدسية اللغة) الذي أدى إلى ترسيخ خطابه التخارجي الموجه والمحدد والمحكوم تعبيرياً وفق آلية (الدال والمدلول) وقاموسية المعاني في مصرع الحاجة التعبيرية لتواجد المؤثر والمحفز الواقعي المحزن وما تفرضه حتمية الموقف.

وما أضفى أيضاً تلك القدسية على اللغة النصية هو إرتباطها التلازمي مع (الدين) وقناعته من خلاله بحكم حالة التماس والتفاعل الإنساني ومشيئة التأثر القسري، لإخضاع الفعل الكتابي من خلال كل ذلك كما أبدعه الشاعر في نصه 24/9/2024

الإضاءة الكلية:

من منصة العنونة المتنية والتي هي الدلالة الكلية لمضمون النص ومرتكزه بالإنفتاح نمعن بمفردة العنونة

 //برقيات//

فالبرقية معجمياً هي آلية

 الإرسال الشيء من مكان لآخر أو بالأحرى إرسال رسالة مهما كان نوعها من مكان إلى آخر

ولكن الناص كان مهتماً بالإرسال مخاطِباً موجهاً حروفه من خلال البرقيات

لم يقتصد بالفكرة بمفردة برقية مثلاً

بل لجأ إلى صيغة الجمع (برقيات)

وذلك للتوزع الكلي لما رغبه من خلالها

ألا وهو الإنتشار / وتنوع الرسالة أو البرقية

وركز الشاعر على المؤشر الرمزي السيميولوجي

 أو السيميائي إشاراتياً بالنص كبنية كلية حدثية

// مِنْ شاعرٍ

ألقى...وزُجَّ بأبعـــدِ:

لمْ أعتدي !

فذاك الإعتداء الباطل

كان سبباً للزج

فالزج ترميز لتقييد حراك ذاك الشاعر

الذي أنفى التهمة عنه في زمن العفن

لقطة جمالية عالية الفنية

تعطي دلالة تقييد الفكر

فالعلامات السيميائية فعلية هنا دلالة الزج

فهو فعل ماضوي

لم اعتدي يعطي الزمانية الآنية الحاضروية مما يدعنا نرى امتداد الإعتداء بين ماض وحاضر أي استمراريته

فالعلامات السيميائية

ليست متباينة بل جميعها غايتها واحدة بالإرسال برقياً

ضمن كينونة النص

نجد (الناص) رتب اللقطات النصية بمعاني أبعد ماتكون عن الحشو فالقارئ الحصيف يتكيف مع الجمل ونتاج المعنى بعناية لأن عَرْض النص مقنع ومصور بوظيفية تلمح إلى المأساة العامة للخطاب

أي (الناص) رصد شعريته على مبدأ نقاء النوع الذي اعتمده وفرادته ضمن بنائية النص

بتوظيف الشعورية الأنوية إتجاه الآخر

// مِنْ طالبٍ

شَهِدَ الرصيفُ تَخَرُّجي وتَرَدُّدي:

ما بالْيَدِ ! //

على لسان ذلك الطالب يتكلم وهذا يدع المتلقي ينتابه فضول المتابعة الكلية

أشار إلى الحالة العامة تقريباً التي تحصل في مجتمعاتنا عن الطلبة المتخرجين

فالفعلية الماضوية: شهد

ووو

أخذتنا إلى زمكنية مؤكدة للصورة المرادة بهذا التعجب لما يحصل من خلال واقع مر

إذا لاحول ولاقوة أمام كل هذا الأمر

 ماباليد!

فالنص اتسم بالموضوعية وابتعد عن الذاتية المطلقة إلا من جانب الصوت اللفظي الموجه للآخر بثيمة وصفية تحيط الفقرات الشعرية

بالإحالة والانزياح بخروج معني واضح الاشارة والمعيار بإشتغالات تصويرية بكل فقرة

وبإستهجان ونهي على لسان

 مُدَّع

بعمامةٍ وبلحيةٍ وبمعْبَدي:

لا تقتدي !

دعوة لعدم الإقتداء

إعتمد الشاعر على المفردة الدينية للإثراء الحيوي للمعنى

فالمدعي عموماً: هو من يرفع دعوى للوصول إلى حقه قانوناً

 العمامة:

لباس عربي منذ القدم يحيط بالرأس

اللحية:

فرض لا يجوز تركه وأمر الرسول على وجوبه

فمن هنا كانت إشارة الناص لعدم هدم التراث الديني بهذا المد الديني المعكر

فالإفتاء هو صادر عن أهل العلم والفقه والخير وعن أهل المعرفة لا كما نراه حالياً وغالباً من أهل الفقه والمدعين في مستنقع الهدم للدين

الناص أكد على الجانب الصوتي غالباً بعلائق المفردة بكل التقاطة شعرية هذا الصوت خفي لكنه لاذع بالإرسال

 مِنْ مُقْعَدٍ

- رِجْلاهُ تحْلُمُ بالغَدِ -

هاكمْ يدي !

فهو الحلم المؤمل لذاك المقعد إلى قادم مضيء

وكان الإيثار مستفحل بالصورة المعطاءة

// هاكم يدي// التي صورت بكل فنية

فالمقعد:

هو المعاق والقاصر عن الحراك ويشار غالباً لمن فقد أطرافه السفلية

فالمُقعد يؤثر الأمل على ما تبقى لديه

حين يهب يديه إضافة الى إعاقته غاية انفراج قادم

فالمشهدية متمازجة بين ناسج الفكرة مع الآخر برؤيةٍ بل دعم وتبيان

 وهذا ما يسمى بالرسالة الموجهة المضمنة الخفية وهو جزء من أدب الرسائل القصيرة الموجهة والمحددة:

من شاعر... من طالب

من مدعّي...من مقعد

 ...من معدم

أي (من / وإلى)

هي التبادلية فالشاعر يتكلم بلسان الآخر

// مِنْ مُعْدَمٍ

ما نام دون تأَوُّهٍ وتَنَهُّدِ:

هاكُمْ غَدِي !//

إنه الغد المذبوح لذاك المعدم الذي أنهكته التأوهات والحسرة مع كل الألم

من ثم كان ختام النص المحسوم بيقين الناص وتأكيده

ما شئت هنا نفي للرغبة

أي الناص ما أحبّ ذلك

فهو يتخذ من نفسه

القيّم على الآخر ومابه

وكأنه هو المسؤول عن كل تنابذه وعن استنكاره وعن استهجانه وعن آماله

تلك المفارقات لم يكن الناص يرغبها لكنه أوصل ما يجب

 فيقسم "والذي فطر النجوم" بالله أنه لم يكن له يد فيها أي بذاك الخراب فهو يتنحى عن صفة الهدم لكنه أوصل رسالته

ومن بعد القسم يلجأ إلى العبرة والإرشاد إلى الصوابية

// فلنهتدي//

نجد رسالة لها طعم الاستنكار المحزن المبطون

 بالفعل الحاضروي ليعطي للفكرة متسعها الزمني الممتد وأيضاً لتأكيدية الحدثية الزمنية المستمرة

// ماشِئْتُ هذا والذي

فَطَرَ النجومَ

لِنَهْتَدي !//

فالوطنية لدى الشاعر هنا إلتزام اتجاه مايحدث هي مفهوم اخلاقي

ولم تنفصل الوطنية عن الحرية بالنسبة

 //جان جاك روسو// وجادل باستحالتها في مجتمع مستعبد

 فالناص كان التزامه أمام مايراه هو الإستنكار والاشارة

لأن الفرد له حق الحرية والحياة والحق الفردي كما أشار المفكر والفيلسوف الإنجليزي  // جان لوك//

البنية التركيبية استجرها الشاعر بكل مفاصلها إلى  الإلتزام إتجاه مايحدث  بمفهوم أخلاقي

  للمواقف فلقد سلم الشاعر برقياته إلى الآخر يدونها هو لتوسيع الفكرة العامة وللإستطراد بالفضول

فلغة  الناص:

الموجهة تُطلّ على منبر الروح كي نتغامى مع الكلمات 

أقول حَيّ على الجمال

ثم أتلو الصلاة بين تهجداته القيّمة وهذا الإنتماء الشعوري المتفاعل مع محيطه ومطباته بحرية الفكر والإشارة فلم يثنه توجس ابداً بل كان قلمه حراً غنياً ذكرني ناسج الفكرة بمقولة عن #جبران خليل جبران

// التجاهل انتقام راقٍ  وصدقة جارية على فقراء الأدب//

كانت اللغة المقتصدة بتعبيرية مقطعية منحازة لتكثيف الفكرة التي تنظم المفهوم الكلي لوحدته  العضوية

لتعطي إنطباعات اللحظة الشعورية لكل مقطع

لغة ذات صوان راسخ لم تغفل عن جفن الحقيقة لشاعر مبدع له اسقاطاته ومحموله الذي اعتمد بسياقاته على نشر الدالية الذاكراتية لدى الآخر أو المرسل من واقع قابع بالقهر

*

أ. محمد شاعر قدير ملتزم بمصداقية مؤثرة

كل التحية والود

***

إضاءة:

د. مرشدة جاويش - سوريا

 

** في البدء:

الشّاعر المبدع "عمر الغرسلّي" عرفناه إنسانا طيّبا نقيّ القلب كطفل.. هادئا كمتصوّف لا همّ له من الدّنيا غير حكمة المعرفة.. خجولا كشفق الغروب على مُحيّا قمّة الشعانبي.. وعرفناه خاصّة شاعرا متمرّدا هائجا مائجا في فجاج اللغة العربيّة كرياح الشتاء في ثنايا القصرين.. قصائده نابسة به وبزمانها في حداثة مُتشبّعة بمَعينها العريق رغم تنوّع التّجربة الشاملة للشعر العمودي والشعر الحرّ والقصيد النثري وحتى الشعر الغنائي ورغم أنّ الكثيرين دأبوا على خوض غمار الحداثة بواسطة استقدام مناهج الكتابة التي روّجت لها المدارس الغربية الجديدة وفلسفاتها.. إلا أن تجربة عمر الغرسلّي الثريّ رغم أنّه مقلّ تظلّ لصيقة بذاته المنفعلة بحدّة وهو يتفاعل مع ظروفه الخاصة حينا ومع ما يدور حوله في الواقع العام حينا آخر.. هي باختصار قصائد كتبها بأقصى ما في وسعه من حبّ للحياة ومن نقمة على قسوتها معه ومع وطنه وحضارته ..

** أمّا بعدُ:

حين نتأمّل ما ورد في مجموعته ما شعور الرّمح لو طالته أحزاني ؟ نلمس لغة متضرّسة حينا ومترقرقة آخر محكومة بالمفارقات والانزياحات الطّريفة منذ العنوان.. هذا الذي صاغه على هيأة إشكال مستفزّ في تركيب قلب منطق تراتبيّة الوحدات اللغويّة رأسا على عقب ... فلم يكتفي بأن يستفزّك بمعجم السّلاح الفتّاك (الرّمح) أو يستفزك السّؤالِ المثير للفضول (ما شعور...؟) إنما يذهب ليستفزك بهذا القلب لمنطق التّركيب (فالاصل ان يكون: ما شعور أحزاني / فؤادي لو طالها الرّمح؟) فتصبح الأحزان لعمقها وكثرتها أشدّ فتكا كن الرّمح.. ليحقق الانزياح بهذا الشكل التّجسيد المطلوب لهذا الإحساس الثقيل على القلب كما رمت إليه الصّورة الشعرية..

وتمتد

ونلمس أيضا كونا شعريّا قاتما مكفهرّا غارقا في عمق الوجدان تتنازعه شكوى ذاتٍ إنسانيةٍ مستاءة ورفضُ ذاتٍ أدبيّةٍ غاضبة.. وهذا لم يبيّنه العنوان فقط إنما يشفّ عنه ايضا الإهداء والتصدير (الإهداء: إلى أمّي التي أحسنت تربية الحبّ فيّ.. إلى الذين راقصوا الجرح تحت ظلّ الشّمسِ وتفنّنوا في مغازلة الموت كي تحيا القضيّة.. إلى أصدقاء المحنة في هزل الزّمنِ الصّعب.. إلى والدتي العربية..)

(التّصدير: لا تسقني كأس الحياة بذلّة

بل فاسقتي بالعزّ كأس الحنظل

كأس الحياة بذلّة كجهنّم

وجهنّم بالعزّ أطيب منزل عنترة)

الذيْن أعلنا عن تجربة ابداعيّة تتشكّل الذات فيها مُكابِدة: من جهة أولى لأزمة قدريّة مع الظّروف القاهرة التي أجبرته على مغادرة مقاعد الدراسة بموطنه والسّفر للبحث عن فرصة أخرى تتيح له إكمال تعليمه في العراق ثم العودة ثانية إلى تونس في ظروف حرب الخليج وبين الذهاب والإياب خيبات مريرة ومطبّات عسيرة وضياع حبيبة العمر بين صفحات الأمكنة والأيام.. فكان القصيد ملاذا ومتنفّسا.. كتب في ص 69:

(عندما يأتي المساء

يكبر الحزن فأُظهِر

أوراق الآلامِ شِعرًا

حتّى لا أبكي فأُقهَر)

ومُكابِدة من جهة ثانية لأزمة حضاريّة ضربت الامّة العربية في مقتل بضرب العراق بلد مشروع البعث الحضاري وبلد الشّعر ودور النشر وشارع المتنبّي والبحث العلمي والجامعات التي فتحت أبوابها للشّباب العربي قاطبة من طلّاب العلم .. وهذا له حضور مُلحّ واقعًا ورمزا في قصائد شاعرنا الذي كتب ""عراق الأمّة "" في أزمة العراق وقد ألقت بظلالها على سائر المنطقة العربية المستهدَفة بالخيانات داخليّا وبالاعتداءات خارجيّا.. كتب مخاطبا العراق في ص 56:

(قليل من الشوق ما عاد يكفي

لإرواء ظمأى بِحوش هوايا

في سجنك القلب يبقى أسيرا

وحبّك في البال أنقى القضايا...)

وكتب أيضا في ص 75:

(لم يعد لي ما يُجيد الصّدّ

والعمر قد مرّ موجوع الفصول

لم يعد لي ما يزول

بعد أن فرّ الأمان من بلاد العُرب

في هذا الزّمان وانتهى الحلم الجميل..)

لذلك كثيرا ما تداخل في قصائده عشق الحبيبة الضائعة بعشق العراق المغدور ليبدو الشاعر بينهما بمثابة (شهيد بغزوة حبّ)

وتمثّل قصيدة: "" ما شعور الرمح لو طالته أحزاني"" (وهي القصيدة الثانية والعشرون من بين أربع وثلاثين قصيدة) مَعين التّيمات وهي التي وهبت للمجموعة عنوانها كقصيدة جامعة تقاطعت فيها مختلف مقوّمات الكون الشعرى الممتدّ على سائر محتويات القصائد.. تمثّل الشّاهد الأوفى والأجلى على ذلك إذ ورد فيها خاصّة ص 86:

(أيها الحبّ الفريد

هذا وجهي يتغذّى القهر منه

بعدما ضيّعتُ ظلّي

وغزا الظّلمُ ديارا

صار فيها الخوف ربّي...

أيها الحبّ الكبير

لا تلمني.. لا تلم شبلا غريبا

مَوسق الحزنُ خطاه

فسرى كالرّعد مجروح الجمال

يقتفي للمجد آثارا أُبيدت

ربما يحيا قليلا كي يرى

في العُرب يوما تلتقي فيه الجبال...)

وقد أقام شاعرنا هذا الكون الشّعريّ المعبّر عن غربته العميقة بمختلف مستوياتها على خطاب شعري يضجّ بالسؤال المحيّر

والمستفز في عناوين القصائد (كقصيدة: مَن علّم الدّمع سجر العيون؟ ص 23 وقصيدة: متى تأتي؟ ص 114..) كما في متونها كقوله في قصيدة: عندما يصبح الموت امتيازا ص 38 التي بُنِيت بكاملها على تواشج طريف بين السؤال الوجوديّ

والسؤال الحضاري:

(أ في كلّ حين نموت؟؟

ونشعر أنّا انتهَينا

بوجه جديد نعود

ونشعر أنّا اختفينا

لظى الشّوق فينا يزيد؟ ..

أ نمضي..؟

نزوّق وجه الزّمان

برمي الورود..

وقتل الجحود

ورفض السجود؟)

كما تميّز هذا الخطاب الشّعريّ بتنوّع مستويات التّجريب اللّغوي _سواء في مهارة المجاورة بين المعاجم المتباعدة كقوله مثلا في ص 91 ضمن تنويعة من معاجم الرّحيل والهندسة والقيم والجغرافيا والوجدان.. عبّرت أحسن تعبير عن تنوّع مظاهر غربة الذات:

(تعبت من السفر الدّائري

ومن زمن التّيه والجبناء

وصارت لديّ حدود وصارت لديّ قيود..

بعد عينيك.. وصار لديّ قفاء..)

- أو في مستوى توليد المجازات.. ومثل ذلك ما نجده في ص 112 من فنّيّة تحويل مشهد الوصال ليلا إلى وليمة لذيذة لها طعم ورائحة:

(تعالَيْ.. فطعم الليالي بقربك أشهى

وللحبّ رائحة تتهشّم

فوق رصيف البلاد

وتشتاق نوما على شرفات الأصيل..)

أو في مستوى قلب موازين التّركيب وبطرق متنوّعة كما ذكرت سابقا منه ما بدا في العنوان او في القصائد / المتن.. كتب في قصيدة: كي نعود لنا ص 94

(لغة تتجمّل صمتا .. تربك ذاكرتي

تأتي لا ترحم لي صفة.. كي تعبث بي.. كي تبعثرَني

تأتي متجمّرة.. كي تسبح نيرانها في دمي

كي يسهر عند كلينا الهوى....

لغة تتجمهر صمتا

تأتي ممرّضة

تتأمّل أوجاعا لم يقلها الهوى

كي تنهل من تيهي...)

** وفي الأخير:

هذا نزر ممّا استَوقَفني من تجربة شعريّة مميزة تضيف أثرا ذا قيمة وجَودة إلى مدوّنة الشعر التونسي في مرحلة التّحديث اختار صاحبها ان يواكب زمانه برصانة دون مكوث عند مآثر الأصيل ودون احتذاء ببهرج الدّخيل فكتب مكابدته وألمه (ليس بسيف عنترة إنّما بوهجه السّاطع.. وليس بقلب جميل إنّما برقّته وعِفّته.. وليس بقرطاس المتنبّي إنما بعنفوانه وهيبته) فواكب مسيرة كوكبة من جيله الذين لم تناسبهم مخرجات مؤتمر الحمامات الأدبي فكتبوا جراح الذات والوطن بمرارة إحساسهم بسطوة الحياة عليهم وبسطوة غيلان العالم على وطنهم أمثال محمد الهادي الجزيري والمرحوم رضا الجلالي وآخرين. ...

***

كوثر بلعابي - تونس

"نينا بتروفنا كوكب درّي لا يُلمس بل تلتهب الأصابع قبل أن تلمسه.." ص 389

القسم الثاني: اللغة:٢-٤

حسب الشيخ جعفر شاعر عَلَم معروف ومترجم قبل أن يكون روائياً، يتميز بأسلوبه الخاص وطريقته في التعامل مع اللغة واختيار المفردات بحذر مما أثر كثيرا على أسلوب روايته "نينا بتروفنا" التي نحن بصددها في هذا المقال.

واللغة هنا عامل شد مهم بالنسبة للقارئ، لأنها رصينة وغنية بالأفكار ومتقنة ومحكمة وبعيدة عن الإنشاء، والصنعة المفتعلة والانطباعات السطحية، والتقريرية، وهنا شغلتني بمحاولة ترجمة حواراتها الى اللغة الروسية لأنها بالأصل دارت مع مواطنين روس، وتحولت القراءة إلى نوع من التفاعل بيني وبين الراوي.

لغة فيها مفردات مترجمة بشكل حرفي ودقيق من الروسية قد لا تتناسب مع الحوارات العربية المتداولة بين الناس العاديين، مثل "لنمتطِ المركبة" ص 123، "لا تتساخَ يا صاح" ص 128، "لا اتصال ولا انفصال" ص 129، اعتقد بالروسية (ني أتفيتا ني بريفيتا) لا جواب ولا تحية، او لا جواب ولا خطاب، "لا تتفاصح" ص147  "لا تتفكّه" ص 155، " أنا وحيدة... متشوقة وشائقة" ص 121، "تنتظر أضيافاً" ص 223، "منحة سخية" ص 164، "قل متعالمة" ص 183، "أباق بالشذى" ص 218 ، "عكاز عزوبته" ص 188، "لا أريد منك وشلاً" ص323، "اصطراع" ص 96، "جثوم الليل" ص101، "المخدع" ص 113، "لا تكن متخاشناً" ص 123، وأمثلة أخرى كثيرة تعكس رغبة الكاتب في التجريب والبحث عن الدقة وحث القارئ على التفكير بها. ليست اللغة هنا أمراً مفتعلاً أو متكلفاً، بل لها علاقة بموقف البطل من الحياة، وتأكيد على أليغوريته في البحث والتأني.700 Nina Petrova

بل إن الراوي يشير في حواره مع نينا بتروفنا، إلى مشكلة الترجمة من الروسية الى اللغات الأخرى "روسياً أنتم لا تقولون: شيطان يأخذك. كما يترجم عنكم العالم أجمع بل تقولون حرفيا: شيطان خذ أنت..." فتنصحه "فترجمها أنت كما تقولها"، يرد عليها "سأتَّهم بالخراقة اللغوية". ص 181 أو: لتأخذ الشيطان، أو ليأخذك الشيطان، لكنها قد تعني: أيها الشيطان، خذه!

وهذا ما يؤكد اهتمام الروائي باختيار المفردة في مشغله الأدبي بشكل خاص، لاسيما وأنه درس أساليب الكتابة الإبداعية في معهد غوركي، التي يمكن ملاحظتها بسهولة في هذه الرواية. أسوق هنا كمثال على ذلك عدم وجود Taoutology اي تكرار المفردة في الجملة الواحدة إلا ما ندر، والتي تعاني منها الكثير من الروايات العربية. قد يكون هذا بسبب طبيعة اللغة العربية والفرق الشاسع بين المحكية والفصيحة.

وييدو حرصه اللغوي واضحًا في ترجمته لمفردة "سكن عام"، فيستخدم الكاتب عدة مصطلحات مثل "المنزل الطلابي الجماعي" ص 17 أو المنزل الجماعي الطلابي" ص 193، والقسم الداخلي، لكنه ينتهي باستخدام المفردة الروسية كما هي في الأصل "أوبشيجيت". ص279

أما كلمة "داتجا" تُلفظ بالتشيم العراقية (جنينة، بيت ريفي، خارج المدينة، صيفي، ز. ش) فإنه يفضل أن يستخدمها كما هي بالروسية، و"يتحايل سردياً" كي يشرح معناها في حواره مع صديقته نينا بتروفنا. ص 367، ويقول "البريوزكا" ص 173 وهي اسم محلات السوق الحرة المعروفة في الاتحاد السوفييتي السابق، ومعناها شجرة الباتولا.

يبحث البطل هنا عن تحديات لإشباع رغباته الثقافية من خلال الدايالوجيا/ الحوارية عن الأدب الإنساني، لهذا فإن الكاتب يبين أن صديقة الراوي الشابة المهندسة ناديا تتقن الإنجليزية "فقد علمتها نينا بتروفنا هذه اللغة منذ صغرها. وهي تجيدها إجادة تامةً". ص 239

وتقرأ ناديا النتاجات العربية، التي يحب الراوي أن يناقشها معها، مترجَمَةً إلى الإنجليزية إذا لم تكن متوفرة بالروسية. "سأعيرك روايته عودة الروح" تسأله: "مترجمة الى الإنجليزية؟" فيجيبها "لدي ترجمتها الروسية". ص 77 

ثم يقترح عليها قراءة (البخلاء) ص 239، بل إنها تناقشه فيما بعد في أمور أصعب "اسمع. صاحبنا.. صاحب (البخلاء) ما اسمه؟ دعني اتذكر. هو الجاحظ فيما أظن. ما الذي أقعده عن كتابة الرواية أو القصة القصيرة مثلاً؟ لماذا اكتفاؤهم بالحكاية الصغيرة المليحة أو الخبر السار... حكايات إيسوب...ليست قصصا قصيرة...". ص 293

وفي مكان آخر من الرواية فوجئ البطل بأنَ إيرينا صديقةَ لووسا (ليوسا)، التي يتعرف إليها، مُستعربةٌ، بل يمكنها أن تُعينَه في الترجمة من الروسية إلى العربية! ص 382

هل هو تعبير عن الشوق والحنين الثقافي والرغبة في التزود به، لكن ليس مع "رهطه" كما عبرت "أمّه" وخليلته نينا بتروفنا بل مع الآخر!

وقد يتعين على القارئ في بعض الأحيان، أن يبذل المزيد من التركيز لفهم الحوارات بسبب انتقالات الأحداث السريعة، يقول الراوي لجارته لووسا: "وداعا لراحة الكرى كما يقول المغربي"، فترد عليه " بل قال، فيما أظن، وداعاً للألوية والأشرعة. وكما قلتَ أنتَ: أشرعتي، الليلة مرتفعة حتى الضحى". ص 148 ويقول في مكان آخر من الرواية "– قبل أن يستيقظ (المغاربة) ... لا تعكسي الحقائق. أنت (المغربية) البليغة. ص 239 وهي اقتباسات من شكسبير. والأمر نفسه في "اسخَ بمنحة على لحية المشجب البيضاء النحيلة الآن" ص 265، و"... لامتلأت الشقة دخان شك!". ص 136

ولا أعتقد أني ابالغ إذا ما قلت إن رواية " نينا بتروفنا" من الروايات العراقية الأكثر جدية وأهمية من حيث إدارة الحوارات وحماسة أو ما يسمى (Pathos باثَس) السرد المتواصل والديناميكي المكرس لفكرة معينة أراد أن يقدمها لنا الكاتب ليس بأسلوب الروايات الواقعية كما قلت سابقاً، بل على طريقة المزج بين (دايالوجيا) حوارية دوستويفسكي وأساليب فوكنر. ولهذا فإن النقاد المولعين بالطرق البنيوية وتحليل الخطاب الروائي إلى أنواع قد يجدون ضالتهم في البحث هنا عن تداخل نصوص متنوعة أو "تناصات" وميتاسرديات. وتصبح اللغة هجيناً من الرومانسية لتعكس حالة الوجد والهيام والإحباط والانتقالات السريعة تعبيرا عن الكاثارسيس (جلد الذات) ونهاية حالات التشرد، بالذات في الصفحات الأخيرة. " لا اريد أن أتزوج إلا نينا بتروفنا. ولا أحب إلا نينا بتروفنا. ومن المعتوه، كما قلت أنا مراراً، الذي يتخلى عن امرأة مثل نينا بتروفنا؟". ص 387 "...

إلا أن نينا بتروفنا كوكب درّي لا يلمس بل تلتهب الأصابع قبل أن تلمسه..". ص 389

***

د. زهير ياسين شليبه

 

في المثقف اليوم