قراءات نقدية

قراءات نقدية

(تجليات في روحي)

(كآخر ليلٍ

خلف آخر نجمة

تجليك في روحي التي قد تجلّت

بعيدان حدّ الضوءِ

حدّ انعكاسهِ

قريبان حدّ الظلّ

حد التفلّتِ

أتيت بلا وجهٍ

وغبتُ بلا خطاً

فطيفك دربي

وانتظارك وجهتي

ترددت حتى خلت صوتي تعثري

وخطّ يدي محوي

وخوفي هويتي

ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا

بدمعي

ورأسي

وانتباهي

وسمرتي

رأيتك في هذا الدخان

وليس ما أراه

سوى هذا الدخان المشتتِ

وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ

وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ

وعدت مراراً للخيال

ولم أزل أعيد خيالي

مرة بعد مرة

هنالك

-والإنسان يبدو أخف من خطاياهُ-

خالطنا الخطايا فخفّتِ

وأرهقت أنفاساً تدلت بأضلعي إليكِ

كما أرهفتها وتدلّتِ

ضممتك لي

لا أنت عندي ولا أنا

ولا جسدٌ إلاّ شذاك ورعشتي

همست كأن الريح شُدّتْ من المدى

وحطت على أرضٍ

من الرملِ شدّتِ

فما ذرة مني

ولا منك ذرّةٌ

سوى عانقت من بعضنا

كلّ ذرّة

بلا لغةٍ

والوقت محض قصيدةٍ

ولا شفةٍ

لكننا نصف قبلةِ

وبالحسن

شعراً طاعناً في سكوتهِ

وبالقلبِ أعمى طاعناً في التفلّت

حملنا جروح العشقِ

كنتُ الفتى الذي يصابُ

وكنت السهمَ

والمرأة التي ...)

***

تجليات في روح الشاعر السعودي إياد الحكمي

لعله أصعب الكلام ذلك الذي يقال في النهايات، لأنه قد يعني ويحدد حقيقة السلوك، ولعله يوضح الحقائق التي يمكن أن تكون قد بقيت خافية لزمن طويل، القول في النهايات غالباً ما يجيء مختصراً هادفاً دالاً، عندما ندرس في الرياضيات نهاية تابع ما عند أطراف مجالات تعريفه يثيرني القول: إن هذه الدراسة تفيد في معرفة سلوك خطه البياني عند أطراف مجالات التعريف!!، وفي الحياة أيضاً عند نهايات المجالات من الحياة يصبح القول دالاّ على حقيقة السلوك، زمن الوداع والهجرة والرحيل، زمن الفراق والمخالصة والانفصال، قد تعبر عن نهايات مجالات في حياتنا كما أن زمن اللقاء والإقامة والبقاء، وزمن الألفة والحب والارتباط قد تعبر عن بدايات مجالات في حياتنا، فأطراف المجالات تعني البدايات والنهايات وأما في الحياة نعني بالنهايات نهاية المجال وليس بدايته، وهي المقابلات المناظرة لها بالنسبة لما يفترضه نوع التناظر، أما قول الشعر في النهايات يقتضي التوقف والتأمل، وهذا ما سأحاول أن أفعله في دراستي لقصيدة الشاعر السعودي إياد الحكمي (تجليات في روحي) التي تضمنتها مجموعته الشعرية (لا أسميك أيها اليأس وقتاً) الصادرة عن أكاديمية الشعر في أبو ظبي .

الفرع الأول:

يقول الشاعر:

(كآخر ليلٍ

خلف آخر نجمة

تجليك في روحي التي قد تجلّت

بعيدان حدّ الضوءِ

حدّ انعكاسهِ

قريبان حدّ الظلّ

حد التفلّتِ

أتيت بلا وجهٍ

وغبتُ بلا خطاً

فطيفك دربي

وانتظارك وجهتي

ترددت حتى خلت صوتي تعثري

وخطّ يدي محوي

وخوفي هويتي

ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا

بدمعي

ورأسي

وانتباهي

وسمرتي

رأيتك في هذا الدخان

وليس ما أراه

سوى هذا الدخان المشتتِ

وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ

وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ

وعدت مراراً للخيال

ولم أزل أعيد خيالي

مرة بعد مرة)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة التجلي للحب وعقدته (كآخر ليلٍ) وشعابه الرئيسة هي: (كآخر ليلٍ / خلف آخر نجمة) و(تجليك في روحي التي قد تجلّت) و(أتيت بلا وجهٍ / وغبتُ بلا خطاً) و(ترددت حتى خلت صوتي تعثري / وخطّ يدي محوي / وخوفي هويتي) و(ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا / بدمعي / ورأسي / وانتباهي / وسمرتي) و(رأيتك في هذا الدخان / وليس ما أراه / سوى هذا الدخان المشتتِ) و(وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ / وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ) و(وعدت مراراً للخيال / ولم أزل أعيد خيالي / مرة بعد مرة)، أما شعابه الثانوية فهي: (بعيدان حدّ الضوءِ / حدّ انعكاسهِ) و(قريبان حدّ الظلّ / حد التفلّتِ) و(فطيفك دربي / وانتظارك وجهتي).

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع يجمع بين الخبري والإنشائي، وفيه يقدم الشاعر ملامح التجلي من حيث الزمان والمكان، فقوله: (كآخر ليلٍ / خلف آخر نجمة / تجليك في روحي التي قد تجلّت) أي في اللحظات الأخيرة من الليل، وبعد أفول آخر نجمة فيه بانت وظهرت في روحه التي أشرقت على نفسه، وقوله: (بعيدان حدّ الضوءِ / حدّ انعكاسهِ / قريبان حدّ الظلّ / حد التفلّتِ) أي فبانت في تجلي روحه كأنهما بعيدان بعد الضوء عن انعكاسه، والبعد هنا لا يعني المسافة بقدر ما يعني التفاوت، أي منفصلان لا تلتقيان من حيث تفاوت الكثافة في التجلي فالضوء المنعكس يكون أكثر شفافية ورقة من الضوء نفسه، ولكنهما يبدوان قريبين قرب ظل الشيء من الشيء ذاته، إنه قولٌ في النهايات التي تقدم الحديث عنها، نهاية ليل، ثم نهاية نور النجم، عند هذا الحد يبين الشاعر صورة التجلي، أولا للروح المحتجبة في النفس، وللمحبوبة المحتجبة في نفسه وروحه، وقوله: (أتيتِ بلا وجهٍ / وغبتِ بلا خطاً / فطيفك دربي / وانتظارك وجهتي) جاءت على غير ما تجيء العاشقات في الوقت الأخير من الليل، لأن مجيئها معنوي، أي تجلت له فرآها لا تحد بوجه آدمي وغابت من غير خطاً فكان حضورها كالطيف اللطيف يسعى إليه ويتوجه إليه حيث تبدو علائمه، وقوله: (ترددت حتى خلت صوتي تعثري / وخطّ يدي محوي / وخوفي هويتي) وهذا حال العاشق الي ينتظر من يهوى! أي في لحظة تجليها بدا في حالة من الحيرة بين الشك واليقين حتى ظن أن صوته لن يقدر على القول، فحاول أن يعبر كتابة حتى خال أن ما يكتبه قد غيب تجليه ولم يبق شيءٌ دال على حضوره سوى الخوف والرهبة في تلك اللحظات العصيبة، وقوله: (ولم أدر ما عيناي حتى استهلتا بدمعي / ورأسي / وانتباهي / وسمرتي) أي في تلك اللحظات ما كان يحس بوجوده الحسي وبعينيه لولا من الدموع التي انهمرت غزيرة من حرارة تلك اللحظات، وقوله: (رأيتك في هذا الدخان / وليس ما أراه / سوى هذا الدخان المشتتِ) أي رآها روية العين في هذا الدخان الذي يملأ الفراغ حتى ظنها معينة فيه، فإذا هي ممتدة إلى نهايات الدخان الذي بدا مشتتاً بعد الكثافة، وقوله: (وغادرني قبل انطفائي بشمعةٍ / وقبل اختناق الأغنيات بشهقةِ) أي وعندما غادره هذا الدخان المشتت قبل انطفاء شمعة تجليه وقبل زوال موسيقا الفرح لأغنيات اللقاء بشهقة واحدة، وقوله: (وعدت مراراً للخيال / ولم أزل أعيد خيالي / مرة بعد مرة) أي قبل الانطفاء وقبل زوال الأغنيات عاد إلى خياله لاستحضار صورة تجليها وما زال يعيد الخيال مرة تلو الأخرى من أجل ذلك.

الصورة والبيان:

يستغرق الشاعر في هذا الفرع  بوصف لحظة التجلي، على غير طرق الشعراء المتصوفين في الكتابة عن مثل هذه اللحظات، ثم يتحدث عن التجلي على ما ينحو نحوه المتصوفون، لكنه يحاول أن يتحرر من المحسوس ويرتقي إلى المعنوي، وهي اللحظات التي يعبر فيها الشاعر عن النهايات وهنا يكون الحديث في المعاني والحقائق، ولا يخلو هذا الفرع من المفردات الصوفية والتعابير الصوفية من دون تصوف، من هنا يكون الحديث عن الصورة البيانية المألوفة ليس ذا أهمية، بقدر ما تكون الأهمية للمعاني والأفكار، إنه أقرب إلى السهل الممتنع، فالجمل والتعابير والتراكيب الشعرية من شدة وضوحها يصعب توضيحها وشرحها لأن قبولها يكون بالحدوس وليس بإقامة الحجة أو الدليل. إنها البلاغة البلاغة !!، فكيف يمكن أن نوضح البلاغة في البلاغة؟!.

الفرع الثاني:

يقول الشاعر:

(هنالك

- والإنسان يبدو أخف من خطاياهُ -

خالطنا الخطايا فخفّتِ

وأرهفتُ أنفاساً تدلت بأضلعي إليكِ

كما أرهفتِها وتدلّتِ

ضممتك لي

لا أنت عندي ولا أنا

ولا جسدٌ إلاّ شذاك ورعشتي

همست كأن الريح شُدّتْ من المدى

وحطت على أرضٍ

من الرملِ شدّتِ

فما ذرة مني

ولا منك ذرّةٌ

سوى عانقت من بعضنا

كلّ ذرّة

بلا لغةٍ

والوقت محض قصيدةٍ

ولا شفةٍ

لكننا نصف قبلةِ

وبالحسن

شعراً طاعناً في سكوتهِ

وبالقلبِ أعمى طاعناً في التفلّت

حملنا جروح العشقِ

كنتُ الفتى الذي يصابُ

وكنت السهمَ

والمرأة التي ...)

يبين الشاعر في هذا الفرع صورة الكيفية للتجلي وعقدته (هنالك) وشعابه الرئيسة والثانويّة لا داعي لذكرها اختصاراً.

في المعنى:

الأسلوب في هذا الفرع خبري وإنشائي، وفيه يتابع الشاعر بيان كيفية التجليات في روحه، فقوله: (هنالك / -والإنسان يبدو أخف من خطاياهُ- / خالطنا الخطايا فخفّتِ) أي في ذلك المكان والزمان للتجلي حيث يكون للإنسان ما سعى، وما قدم لنفسه فيما مضى، يبدو الإنسان بوزنه الحسي أقل بما لا يقاس من ثقل الآثام التي ارتكبها في حياته، فأضاف كل منهما خطاياه إلى خطايا الآخر فبدت أخف ثقلاً عليهما، وقوله: (وأرهفتُ أنفاساً تدلّت بأضلعي إليكِ / كما أرهفتِها وتدلّتِ)، أي جعل أنفاسه التي تملأ صدره الحاني إليها أكثر رقة كأنفاسها التي التي رقّت واستجابت لأنفاسه ودنت واقتربت، وقوله: (ضممتك لي / لا أنت عندي ولا أنا / ولا جسدٌ إلاّ شذاك ورعشتي) أي ضمّها حيث لا شيء سوى أثريهما، عطرها ورعشته قائمتان في النفس من غير جسد، وقوله: (همست كأن الريح شُدّتْ من المدى / وحطت على أرضٍ / من الرملِ شدّتِ) أي كان همسه كالريح التي تهب على أرض رملية فتتخللها وتبعثر حباتها، وقوله: (فما ذرة مني / ولا منك ذرّةٌ / سوى عانقت من بعضنا / كلّ ذرّة) أي كان عناقاً شاملاً كاملاً بينهما، وقوله: (بلا لغةٍ / والوقت محض قصيدةٍ / ولا شفةٍ / لكننا نصف قبلةِ) أي الهمس كان من غير قول، والقبلة كانت من غير شفة لأن كلاً منهما كان في لحظة التجلي، فمثّلا معاً النصف المعنوي من القبلة من دون نصفهما الحسي، وهما في لحظة التجلي الشعري، وقوله: (وبالحسن / شعراً طاعناً في سكوتهِ / وبالقلبِ أعمى طاعناً في التفلّت) أي هناك حيث يكون الشعر ممعناً في الصمت فيما يكون القلب متحرراً من كل قيد، وقوله: (حملنا جروح العشقِ / كنتُ الفتى الذي يصابُ / وكنت السهمَ / والمرأة التي ...) أي تقاسما معاً في تلك اللحظات من التجلي جروح الهوى والعشق المقدس فكان الشاعر الفتى الذى أصيب بينما كانت القصيدة هي السهم والمرأة ترمي فتصيب.

زمن القصيدة:

الزمن في القصيدة يتقلص حتى يغدو برهة زمنية آنية، وهي لحظة التجلي، وهو زمن يتقاطع فيه الزمن الحسي مع الزمن النفسي الداخلي، إنها لحظة تشبه اللحظة الفاصلة بين آخر ليل مظلم، وغياب آخر نجمة فيه حيث تجلت مع تجلي روحه، وزمن القصيدة هو زمن تجلي روح الشاعر مع زمن تجليها، وقد قابل الشاعر بين المرأة المحبوبة وبين القصيدة الشعرية، ثم مازج بينهما من خلال تقاطع الصفات المشتركة، فبقي الجانب الحسي عبر زمن إحداثه ذا تأثير حسي من خلال الصور الشعرية المباشرة، أما الجانب المعنوي فقد كان زمنه مكثفاً إلى الدرجة التي بدا فيه الفعل متخيلاً عبر استخدام المعاني المجازية والصور البيانية، وهذا الزمن هو زمن قابل للتكرار والتبدل والتجدد، لأن قوله: (كآخر ليل) أي آخر أي ليلٍ، ولا أدري لماذا ذكرتني هذه القصيدة بقصة الأعرابية الشهيرة وإنشادها، (لها أنّة عند العشاء وأنة / سحيراً ولولا أنتاها لجنّتِ) على الرغم من اختلاف الموضوع لكن القافية نادرة ومؤثرة. ويبقى زمن القصيدة هو تقاطع أزمنة مكوناتها الحسية والمعنوية.

ضيق العبارة واتساع المعنى:

وهذا قول النفري المتصوف الكبير (كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة)، الذي ترك (مخاطباته) كنزاً غنيّاً فريداً في علم القول وفنه، وسأوضح هذا القول الذي ينطبق في مواقع متعددة من هذه القصيدة من خلال المثال التالي:

المثال:

(بعيدان حدّ الضوءِ / حدّ انعكاسهِ / قريبان حدّ الظلّ / حد التفلّتِ)

هذا البيت الشعري يستدعي التوقف والتأمل والتبصر من أجل فهمه من جهة ومن أجل محاولة الاستدلال على الأصول في طريقة وصول الشاعر إليه، وبذلك تتوضح الصورة القريبة للتجلي ومعناه لدى الشاعر، يقول: (بعيدان) أي المتجلي وهو الحبيبة هنا (القصيدة أو المرأة) وإن كنّا قد قدمنا في المعنى لما يظهر لا حقاً في القصيدة، والمُتجلَّى له، وهي روح الشاعر المتجلية أيضاً، فماذا عنى الشاعر بهذا البعد؟ هل عنى المسافة؟ من دون شك: إن البعد مسافة من حيث البعد المكاني، لكن البعد هنا بعد معنوي، وهذا يعني الاختلاف في التجلي على الرغم من الاتفاق في الصفة وهي هنا التجلي، وقوله: (حد الضوء) وذلك من أجل تقريب صورة المعنى إذ ليس للضوء حد،  لكن من أجل أن يبيّن ماذا يعني بالبعد هنا، وقوله: (حد انعكاسه) أي من أجل تقريب المعنى أيضاً،  إذ ليس لانعكاس الضوء حد، والمعنى: إن البعد بين تجليهما معاً كبعد الضوء عن انعكاسه، وهنا نتبين ماذا عنى الشاعر بالبعد: إنه التفاوت في الحضور، إذ من المعلوم أن الضوء المنعكس يكون أكثر شفافية ورقة وكثافة من الضوء نفسه، فهما بعيدان بعد التفاوت في شدة الحضور والتجلي، ولكن الذي يثيرنا ويدفعنا دفعاً للمساءلة هو قوله: (بعيدان) مما يجعلنا نتوهم أن الشاعر قد وقع في تناقض، إذ كيف يمكن يكون شيئان متباعدين من جهة وهما قريبان من بعضيهما من جهة أخرى؟!، حتى نستدرك أن هذا التناقض يكون في المعاني الحقيقية الحسية، أما في لغة الجاز فذلك ممكن وجائز، ولكي تتوضح الصورة فإن الشاعر يعطي صورة قريبة لتمثل الأمر فيقول: (حد الظل) إذ يكون ظل الشيء على هيئة ذلك الشيء من حيث الضوء الوارد إليه ومعلوم أن ظل الشيء ينعدم إذا كانت زاوية ورود الضوء على الشيء معدومة، وحين يميل الضوء في وروده إلى الشيء يميل ظله، وكلما كانت زاوية الورود صغيرة كلما كانت زاوية الانعكاس صغيرة أيضاً ويكون الظل صغيراً، وكلما كانت زاوية الورود كبيرة كان الظل كبيراً حتى ينفلت الظل ويصبح في اللانهاية حين تقترب زاوية الورود من التعامد على الشيء ذاته، وتبقى زاوية انكاس الضوء مساوية لزاوية وروده وعل الرغم من التجاور فيما بينهما فالظل يبتعد ابتعاداً كبيراً، أي متقاربان من حيث التجلي متباعدان من حيث شدة الحضور والتجلي.

التوازن وتمثيل القصيدة:

إن مركز توازن القصيدة الشعرية هو (التجلي)، لأنه يمثل نقطة انطلاقها وبؤرة انبثاقها، ويمكن اعتبار كل عقدة من عقدتيها نقطة توازن بالإضافة إلى النقاط التالية:

أولا: (التفلّت) هي نقطة تقاطع بين الفرعين الأول والثاني فهي نقطة توازن .

ثانياً: (الانعكاس) هي نقطة تقاطع بين الفرعين الأول والثاني فهي نقطة توازن .

فإذا مثلنا مركز توازن القصيدة بدائرة مركزية صغيرة ومثلنا عقدتي الفرعين على محيط دائرة متمركزة مع الدائرة السابقة،  ثم مثلنا نقاط التوازن على محيط دائرة أخرى متمركزة مع الدائرتين السابقتين، ثم مثلنا الفرعين بأشعة منطلقة من المركز إلى عقد الفروع، وبعد ذلك إذا مثلنا الشعاب الرئيسة والفرعية بأشعة منطلقة من كل عقدة من فرعي القصيدة إلى نهايات المسارات لكل فرع، نكون بذلك قد حصلنا على تمثيل دائري للقصيدة، وهذا التمثيل يمكن أن يبين كيف أن القصيدة تميل إلى التوازن. على الرغم من أنها تتكون من فرعين اثنين فقط .

القصيدة الاحتمالية والنص الممكن:

تتألف القصيدة من فرعين ويمكن إعادة ترتيبهما بطريقتين فقط،  أي يمكننا أن نحصل على قصيدتين ناتجتين من إعادة ترتيب الفرعين، وإذا لاحظنا أن الفرع الأول يتكون من تسع شعاب رئيسة فيمكن إعادة ترتيب هذه الشعاب ب(9) عاملي أي ب(362880) طريقة، وفيه ثلاث شعاب ثانوية ويمكننا إعادة ترتيبها بست طرق، وهكذا يمكننا أن نعيد ترتيب الفرعين مع شعاب الفرع الأول ب(725772) طريقة، وإذا أجرينا الطريقة نفسها على الفرع الثاني،  نجد أنه بالإمكان أن نحصل على عدد كبير من القصائد الشعرية التي يمكن أن نحصل عليها من هذه القصيدة، وكل قصيدة منها هي قصيدة افتراضية، لكنها تعتبر نصاً ممكنا ولو نظريّا، أما إذا لاحظنا أن القصيدة تتكون من ستة عشر بيتاً شعرياً فيمكن إعادة ترتيب أبيات القصيدة ب(20922798888000) طريقة، أي هناك العدد نفسه من القصائد التي يمكن أن نحصل عليها بعدد إمكانات إعادة ترتيب الأبيات في هذه القصيدة، وهو رقم كبير جداً كما نلاحظ، وكل قصيدة من هذه القصائد تمثل قصيدة احتمالية، وهي افتراضية من دون شك، والشاعر لا يعترف على أي من القصائد الممكنة، إنما يعترف بالقصيدة التي أشهرها رسماً في مجموعته الشعرية (لا أسميك أيها اليأس وقتاً) على الرغم من أنها تمثل واحدة من هذه القصائد الممكنة.

***

مفيد خنسة - ناقد

رواية موت "إيفان إيليتش" لليو تولستوي

إن فكرة التناهي، لا تتخذ في واقع الأمر، شكلاً واحدا في الآداب الغربية، فالموت الذي يقوم الرعب بتعريته، وتقديمه إلى الناس، هو الجملة الأخيرة التي تقول كل شيء، هو الحجة الصادقة، التي زادها التماهي القائم في الوعي الغربي، بين الفلسفة والدين، رهبة واسعة طاغية، في أوساط التيارات الأدبية، التي تعددت منهاج تأويلها، وفكرها المتمحور حول الحتف نفسه، فالمنية صياغة اطارها المنهجي مكتمل الدائرة عندنا نحن، لأن الوفاة في مجتمعاتنا المسلمة، مرتبطة بديمومة الحياة واستمرارها، فنحن نعجب بالفوت، ونأنس إليه، ونسعى أن يتصل شبابنا به، بعد أن تشدقنا بألفاظ التضحية، والفداء، في بيئاتنا العربية الخاصة، فحقيقة الهلاك التي لا نفكر إلا فيها، ولا نعني إلا بها، يخشاها الغرب، ويتوجس منها، ويعتبرها انجراف إلى نمط من المتاهات العصيبة، يصعب التوفيق بين مقتضياتها، فتأويلات الغرب لفكرة الفناء، لا تمضي على وتيرة متشابهة مثلنا نحن، فالغرب يقر بأن الفناء، تأويل واف لتاريخية الإنسان، ودورة تكوينه الأزلي، و يدرك بأن من المستحيل  تجاهل الربط التلازمي بين الحياة والموت، ويعينه مخزونه العقدي والثقافي، لئلا يمعن في اتجاهات ومشارب شتى، في تعليل تلك الحقيقة الغائبة الحاضرة، التي لا تطرح أي اشكالات نظرية، ترتبط بمباحث البرهان، والتأويل العقلي، فهو إذن يؤمن بهذا الترابط،ولكنه يخضعه لأدبيات التحسين والتقبيح، فالغرب لا يتدبر في كثافة وحميمية هذه الروابط، التي يزخر بها تصورنا الإسلامي لحقيقة الاندثار، لأن آدابه وما اتصل بها من أساطير وفلسفة، نشأت في منظومة بنيوية، سياقها الأيديولوجي الرائج، يقدس الحياة وينفر من الردى.

إلا أن السؤال المطروح هنا بقوة، إلى أي حد، قد أثرت هذه التيارات العاصفة، والمرجعيات الفكرية والفلسفية، التي شكلت حركة التثاقف والوعي الغربي، على "ليو تولستوي-1828-1910" وهو يخط روايته التي نحن بصددها، المرجعيات التي يجوز لنا أن ننظر إليها كعقبات مقيدة، أزرت بكنه الموت حتى في نسقه العقدي، من المؤكد أن رواية" موت قاضي" كما أسماها صاحبها، لم تتحرر من تبعاتها، أو تخرج من ضائقتها، فنحن لا نستطيع أن نتتبع المسار الاجتهادي الحر، لهذه الرواية التي خلت تفاصيلها من المعاظلة والالتواء، لأنها  بتعبير قاطع، مكبلة باشكاليات الأطر والمدلولات، التي تنهض على تصورات مغايرة للالوهية والخلق، فتلك المعاني والمفاهيم البالية، يحتاج الغرب لاعادة صياغة أصولها، وفق مقتضيات عصرنا، وتحولاته المتعاقبة،  ومن الحق أن الرواة، ينبغي أن يصطنعوا كل الوسائل من أجل اقصائها، وتحييدها عن الأعمال الأدبية، فما هي هذه المضامين والسياقات، التي كان من الممكن أن يستحدثها " ليو تولستوي" في مستقبل أيامه، وتعينه أن يمضي في هذه الحياة في غير سأم، أو ملل أو فتور؟؟. لقد اتخذ "ليو تولستوي" هذه الرواية أداة قيمة لابلاغ ما يريد أن يبلغه لقرائه، فرواية موت "إيفان إيليتش" التي تم نشرها لأول مرة عام 1886م

على وجه التحديد، تعبر عن سياقات خارجية، وبنيات اجتماعية، اصطدم بها مؤلف الرواية، وهو يتحدث إلى الكنيسة التي هجر دينها ردحاً من الزمان، ودعاها في صراحة ووضوح، إلى أن ترافقه في أفكاره، أفكاره التي كانت أوسع مجالاً، من الخصائص الصورية التي تؤمن بها كنيسته،  أخذ "ليو" يتحدث إلى وجوه "دولتها"، ويدعوهم في عزم لا يعرف الضعف، وتصميم لا يعرف التردد والفتور،  لأن يجددوا الصلة "بانجيلهم" الذي بات لا يهضمه أو يستسيغه، فتعاليم  كتابهم التي لا يقفون عندها، ولا يفكرون فيها إلا قليلا، تحثهم على نبذ العنف، وبسط السلام، و تحقيق العدل، وهم أنأى الناس عن هذه الخصال، أخذ" تولستوي" ينفق أيامه ناقداً، ساخراً، متندراً على الكنيسة وطابعها الاشكالي المعقد، والكنيسة التي انصرفت عنه، ولم تجبه، استقر في نفسها، أن تسلك معه غداة كل يوم طرقاً جديدة، تكفل لها أن يرعوي ويصمت، فتارة تلقاه رفيقة به، عطوفة عليه، وتارة يجدها نافرة منه، معرضة عنه، ساخطة عليه، فلما أضناها اصراره و تعنته، رمته بفرية الخبل والجنون، لقد كان حقاً نفور "تولستوي" من الكنيسة عاماً شاملاً، يمسه في أشد الأشياء لزوماً له، فطبيعته الإنسانية في مستوياتها المتنوعة، تتدفعها تلك التصرفات الممجوجة، عن الاحجام، والرضوخ، إلى تعاليمها، خاصة بعد أن تجافت عن قيمها الضابطة لسلوكها، واستباحت لنفسها أن تجدد في بنيتها الأصولية الكلاسيكية، بممارسات شاذة، وعسف قضّ مضاجع الأشقياء، هذا الجور  المتعاظم، كثافته المطلقة، يجوز لنا حصرها، في الزام الشرائح الكادحة، التي تجد بالكاد ما يقيم أودها، ويسد رمقها، بأن تقتطع من نفقات حياتها اليومية، لتمدها بالمال، اتخذت الكنيسة التي اعتادت على نهب الثروات، هذا  المنحى الذي لا ينسجم مع رسالتها،  و"ليو" لما رأي كل هذا الحيف والطغيان، لم يخرج أهله من الصمت إلى الكلام، ثار على هذا النظام الطبقي الملتحف بالدين، والقوى الغيبية، وأعلن في سياق محاربته لرهبانها، وقساوستها، وأساقفتها، بأن مبادئهم العقدية والدينية، إضافة لسلوكياتهم الفجة، لا تقنع الناس بأن وضعهم الراهن هو الوضع الأمثل، الذي يجب أن يرضوا به، ويشكروا الرب عليه، هذا شيء، شيء آخر جعل "ليو تولستوي" يوغل في معاداته للكنيسه، وهو احساسه الذي يخامره، بأن الكنيسة لم تجب على أسئلة جوهرية تتعلق بحياته الروحية، وذاته التي تنسجم في جوهرها مع الفلسفة الوجودية، التي تؤمن بأن مدار الغلبة، والقوة هو للنفس، التي يشتد عليها الالحاح، ويكثر حولها الاغراء، وتطوف عليها ألوان الترف، فلسفة تأتلف من الفرد، وتذعن لحقوقه، وتتغاضى عن حقوق  الجماعات، فلسفة طابعها الهلامي، هو اقصاء البعد الروحي، والتجرد من كل اعتقاد يقف حاجزاً، وسداً منيعاً، أمام رغبات الذات، وهي فلسفة من ضمن فلسفات الشك والريبة التي اجتاحت المجتمع الغربي، وعملت على تقويض هيمنة التثليث المسيحي في القرن العشرين، و" ليو" الذي أظهرت الكنيسة عجزها عن رده إلى صوابه، ظلّ يدعوها إلى المرونة والتحاور، بين أطياف مجتمعها، دون تكفير أو اقصاء، ولكن الكنيسة التي أيقنت أن "ليو" الذي يقف أمام "أكسيولوجيتها" موقف الهادم، لم تسلك معه أي طريقة ايجابية، ونحن نعد هذا الصراع الحامي بين "ليو"  والكنيسة، "آلية مهمة" لفهم الملابسات، والارتباطات، التي حولت هذا النزاع، لنبوغ ذاتي أثمر عن ميلاد هذه الرواية، "فتلستوي" الذي كان قلة من الناس، تفكر مثل تفكيره، وتحس مثل احساسه، كان من الطبيعي، بعد أن ركضت قدماه في مضمار تلك الفلسفات الحداثية المموه التي نحته عن عقيدة التثليث، أن يلجأ للأدب حتى يستأصل "قصعة" الاشمئزاز عن نفسه.

ليس بوسعنا إذن أيها السادة، أن نشغل موقفاً مغايراً، ونزعم أن "ليو" كانت غايته من وراء تأليف روايتة القصيرة جداً بين رصيفاتها، هو تسليط الضوء على الطبقة الارستقراطية، وعلى مظاهر ترفها ورفاهيتها، كلا، لم تكن تلك غايته، بل كان الهدف الذي ينشده هو أن يكفكف من غلواء امتعاضه، بعد أن ألجئته الظروف، وما اتجه إليه من فلسفة وأفكار، إلى التفريق بينه وبين الكنيسة، لقد كان كل سطر من هذه الرواية، يصدره عن طبع ساخط، فرواية "موت قاضي" إذا دققنا النظر فيها، لوجدناها في مجملها، ناقمة على الحياة التي تتلاشى بالموت والزوال، وعلى عقائدها التي تضمحل بالعبث والتعصب، وعلى حضارتها التي تندثر بالجهل والمحاباة، وعلى قوانينها التي تنتفي بالتعسف والافتعال، وعلى أخلاقها التي تتمحق بالسرف والشهوات، وعلى صلاتها التي تتداعى بالغلول والآثرة، وبطل الرواية "إيفان إيليتشي" الذي استحال طمعه في ملذات الدنيا، إلى دموع غلاظ، تحدرت على عينيه قبل رحيله، هو الشخصية المحورية التي أخفى خلفها تولستوي" شخصه"، فالقاضي إيفان استقى تصوراته وقوانينه، من عقل" تولستوي" الخالص، فالهدف الذي تسعى الرواية من تحقيقه، هو مقصد الفرد، لتحقيق غاية يفترض وجودها على نحو يقيني، وأن ينتحل هذا الفرد، من الشرائع والقوانين، ما يحقق له هذه الغاية التي رسمها لنفسه، وهو في رحلته لتحقيق تلك الغاية، يجب أن يبعد أي طابع ديني، أو تصور عقلي، أو صيغة أخلاقية، تتعارض مع هذه الغاية، التي اشرئبت إليها نفسه، هذا الترابط العام الذي اشتملت عليه تفصيلات رواية "موت قاضي"، وخصائصها التي حيدت الفضيلة، وآمنت بأن يذهب الطموح إلى أقصى مدى، تتوافق صيغها، وعناصرها، ومسلماتها، مع مبادئ ومثل الفلسفة الوجودية، التي خضع لها عقل "ليو"، وعمل على ابراز ما فيها من "سمو وعظمة"، هذه الدوافع التي أشرنا إليها آنفاً، تقضي قضاءً مبرماً، على الفارق النوعي بينها، وببن فكرة الحريات، التي يجب أن تخضع لنظم الأديان،   والقوانين الأخلاقية، فالحريات التي تقوم على أساس الشعور، وتحقيق النزعات المسلم بها، نستطيع أن نكبح جماحها، بأطر الدين، الذي يعمل على إشباع هذه النزعات، والميول، وفق رؤية واسعة تراعي الضعف البشري، حتى لا تكون سبباً من أسباب العداوة، وسبيلاَ من سبل الفرقة.

 وفكرة الندم التي نعتبرها السمة الطاغية، في محاور رواية موت "إيفان إيليتش" التي تتحدث عن قاضي حاز على نصيب وافر من رجاحة العقل، وسمة الادراك، كانت المملكة الشاملة لغاياته ومراميه، عنوانها هو  التدرج في السلم الوظيفي، حتى يصل إلى مكانة مرموقة، تؤهله لأن يتزوج من فتاة بارعة الحسن، رائعة الجمال، وأن ينجب أطفالاً، ويقتني دوراً يعمل الخدم في تنظيف غرفها، وتشجير ساحاتها، وأن يحظى بمكانة اجتماعية رفيعة، وغيرها من الضروريات، التي لا يستطيع شخصاً يريد أن ينتمي للسلالات الارستقراطية، أن يشيح بناظريه عنها، وقد تحقق له قسطاً وافراً من تلك الأماني، شرع "إيفان" بالخطو إلى الأمام، فاكترى بيتاً، في منطقة تعج بتلك الطبقات المخملية، التي يتخذ الناس حيالها ما يلزم من حيطة واحتراس، وبدأ في تأسيس ذلك المنزل الزاهي الألوان، الفسيح الأركان، ولكنه سقط عند تركيب ستائر منزله، سقطة لم يلقي لها بالاً، أردته فيما بعد، قبل أن يصل إلى حافة تلك المرحلة، التي يتعاظم فيها المرض، ويكثر فيها الكلل، ويصدح فيها الأنين، مرحلة الشيوخة التي تستفحل فيها الأخطار التي تحيط بصاحبها،، مكث إيفان ثلاثة أشهر، يغالب هذا الداء الذي بدأ ينخر في عظامه، وأثر في كليته، التي ضمرت وتقلص حجمها، وأخذ الناس في الكف عن اجلاله وتوقيره، وبات يسمع ضحك أفراد أسرته وابتهاجهم، وهم ينتظرون في نشوة وافتنان، خبر مصرعه، كانت حياته بعد المرض موحشة بما فيه الكفاية، قضاها هو ملقى على فراشه، يستقبل جموع الأطباء، وتقريع زوجته التي أمضى عمره معها في مناكفة مستمرة، على عدم انتظامه في تناول الدواء، لقد فقد "إيفان" معياره القيمي في تلك الأشهر، وتنكرت له كل عائلته عدا ابنه الصغير، وخادمه المخلص، هذه الأشهر القليلة، أخذت تجر وراءها تاريخاً طويلا، تاريخ نشأته، وتطور أشكال حياته، وأخذ الشعور التي يفرض نفسه بشدة عليه، حتى اعتلى منزلة الصدارة عنده، هو الاحساس بالندم، الندم الذي كان أشد وأعمق من علله الحسية، أتاح له التمادي في قدح نفسه وتوبيخها، على العقود التي أنفقها، من أجل مناصب يأمن في حماها، ويستريح في أرجائها، المراكز التي جعلت عقله يتمرس، ويعتاد على نوع من التقييم، كان يجد فيه سعادته، وتدفعه تلك الغبطة، لتقدير أرقى وأرفع، من التعظيم الذي سبقه، ندم" إيفان" على تبديد سنوات عمره، التي أمسى يتكهن  بنهايتها، في تحقيق طموحات، لن تحرره من تلك اللعنة التي نزلت عليه، ظلّ "إيفان" عاجراً عن التخلص من الأذى العميق الذي ألحقه بنفسه، وبقى ممتطياً ظهور جياد الندم طيلة تلك الأيام، وتجلت مواهبه في آخر أيامه، في معاتبة ربه على فداحة هذا البلاء، الذي اصطفاه به، لم يكن "إيفان" موفقاً في إظهار بؤسه لربه، حتى غدا هذا العتاب لا يحتمل، ولا يطاق، ونحن لا نعتقد أن هذا العتاب المرير، سببه هو الوهن العميق، والحسرة الرازحة، والكآبة القعساء، ولكن دوافعه هي تخفيف الوطأة عن الوجدان، لقد كان "إيفان"، في ظل شعوره بالضعف، وتوعكه المتزايد، يحتاج أن ينظر لألمه، بوصفه عقاباً وقصاصاً من ربه، حتى ينتزع من نفسه البشرية، تظاهرات الوجع المريع، أمضى "إيفان" آخر ثلاثة أيام من عمره، في استياء، وندم، وامتهان لذاته، ويقينه الراسخ أنه هالك لا محالة، "وليو تولستوي المتخفي وراء ظلال شخصية "إيفان" جعل نشاطه الذهني في آخر ثلث من هذه الرواية، هو رصد انفعالات النفس، وانكساراتها، ويضاف إلى ذلك، إشاراته التي لم تكن موجزة، أو مقتضبة، تجاه تعاطي عائلته، ومحيطه، عندما تنامى إلى أسماعهم خبر وفاة" إيفان"، فزوجته استنزفت طاقتها الفياضة، في الحصول على جنازة قليلة التكاليف، تواري فيها جثمان زوجها، كما أن وفاة زوجها التي لا تتناقض مع رغبتها، أعاقها عن تحصيل راتبه المجز، فالراتب أوفى من المعاش كما نعلم، لهذا طرحت هذه المسألة، بمزيد من العمق والصراحة، إلى صديقه المقرب، حتى يوضح لها ذريعة، تستطيع بها أن تحصل على معاش وافر، أما من أمضى العمر برفقتهم، فقد أظهرت تداعيات تلقيهم لنبأ وفاته، ثغرة هائلة تحيق بقيم الإنسان، فالحزن على "إيفان" لم يصرفهم عن لعبة الورق التي كانت بأيديهم، ولا الكمد الممض، استطاع أن يطرد تلك الآمال الواعدة، التي طافت بأذهانهم، لاعتلاء منصبه الشاغر.

رواية "موت قاضي" الجانب الموضوعي، والمهيمن عليها، هو المتاعب، والصراعات، التي خاضتها شخصية "إيفان" حتى تحقق مقاصدها، وتبرهن أن القيمة المثلى، التي لا تضاهيها أي قيمة، هي قيمة السعادة التي -في وجهة نظري- يجب أن نعتقها من كل قيد، وحتى تتحقق هذه المشاعر الفياضة، التي يمكن تحويلها إلى قاعدة، توزع البهجة على الآخرين، يجب أن تحلق الروح خارج إطار هذا الجسد.

***

د. الطيب النقر

الثلاثاء: 8/7/2025

قراءة في البنية النفسية والرمزية لقصيدة "قفزة الظل... ونبوءة الأفعى" للشاعر عمار الصالح

مدخل: القصيدة بوصفها تفجّراً داخليّاَ.

تبدو القصيدة "قفزة الظل… ونبوءة الأفعى" عملاً شعريّاً مركّباً، لا يركن إلى السرد الخطيّ، بل ينفجر شعرياً من داخل الذات، كما لو كانت الكتابة هنا ليست أداة تعبير، بل فعل مواجهة، واستحضار لما هو مكبوت ومهجوس به.

فالشاعر عمار الصالح لا يكتب عن "الأفعى" بوصفها كائناً طبيعياً، بل بوصفها قناعاً نفسيّاً، وشيفرة رمزية لكائن يتسلل، يُراوغ، ويفسد البنية الداخلية للطمأنينة. تبدأ القصيدة من مفاجأة وجودية، وتنتهي في نكوص قيمي يعيد ترتيب العلاقة مع الذات والآخر واللغة.

أولًا: البعد النفسي — بين اللاشعور والانكشاف

القصيدة تعبّر عن اضطراب داخلي حادّ، ناتج عن تسلل طيفٍ خادع (ممثلاً بصورة الأنثى/الأفعى)، وهي صورة يونغية بامتياز، تشبه "الأنِيمَا" المخاتلة التي تخرج من لاوعي الرجل لتقلب موازينه، يقول الشاعر عمار الصالح :

"لم أكن هادئاً… لم أنل راحتي"

"قفزاتك الخائنة… أفزعت وردتي"

هذا الانقلاب الحادّ من الحلم إلى الكابوس، من السكينة إلى الرعب، يحاكي لحظة الصدمة النفسية، تلك التي تُحْدِث فجوة بين ما نتوقّعه من العالم، وما يرتدّ إلينا من نواياه المبطّنة.

يتمثل القلق هنا بصورٍ نفسية عميقة:

الكوابيس التي تأتي "في عزّ النهار": انكشاف اللاوعي في وضح الإدراك.

وردة تُفزعها الأفعى: رمز لقتل البراءة، وانتهاك النقاء.

قفزات "دفعة واحدة": الصدمة كفعل لحظي يفوق التمهّل والتحليل.

ثانيًا: البعد الرمزي — الأفعى، التنين، والأقنعة.

رمز الأفعى المرقطة يسيطر على النسيج الدلالي في القصيدة، ويُحمَّل بتأويلات متعدّدة، منها:

_ الخداع والازدواجية: فالأفعى ليست فقط زاحفة، بل متخفّية، "تتسلل"، "تكمن"، "تقفز"، تماماً كما تفعل الأقنعة في المجاز النفسي.

_ الفتنة المدمّرة: تحمل في جسدها غواية، لكنها تفسد ما تلامسه، كما تفسد "الحقول" و"الآتية".

_ التنين المنقرض: رمزٌ يُستدعى للتهكم على ادّعاء القوة أو التفرّد، وفي الوقت ذاته لاستدعاء الأسطورة في قلب الواقع المنكسر.

من اللافت أنّ القصيدة توظّف رموزاَ أسطورية ونفسية بشكل متداخل:

الحقول، الورد، الوادي = رموز للخصب والسلام والأنوثة.

الأفعى، الكوابيس، الخديعة = رموز للفوضى، التهديد، الموت الرمزي.

وبهذا، تدور القصيدة حول الصراع بين رمزين:

الأول رمز الحياة (الوردة/الحقول/الماء)

والثاني رمز الفناء (الأفعى/النار/الفساد).

ثالثاً: البنية الدلالية – القصيدة بوصفها مسرحاً للمواجهة

تنهض القصيدة على بنية دلالية قائمة على الاستدراك والانكشاف:

1. الدهشة/المباغتة: "تُفاجئيني... تتسللين..."

2. التحول/الانقلاب: من وردةٍ إلى أفعى، من هدوء إلى كوابيس.

3. الإدانة/الانفجار: "قفزاتك الخائنة"، "تستفزين الحقول"، "تفسدين الآتية".

تتحرك اللغة في انزياحات شعرية تؤسس لصوت مأزوم، لا يطلب التفسير بل يعيش في نَصّ الخيبة. ويبدو العالَم الخارجي كله مسرحاً لهجوم الأفعى الرمزية، التي لا تهدّد الشاعر فحسب، بل تفسد الزمن القادم (الآتية) والحقول (الخصب) والإناء (الذات).

رابعاً: جدلية الذات والآخر في التكوين الرمزي.

يبدو الآخر في القصيدة أنثى، لكن هذه الأنثى لم تعد تمثل الحب أو الحنين، بل الاختراق المُباغت والانقلاب المفاجئ. إنها:

"تتسلل في زفة الأقنعة" → الغواية المتخفية.

"تكمن خلف الحروف" → المكر المستتر.

"تفسد الآتية" → التخريب البنيوي للزمن.

وهنا، يتحول الآخر إلى قوّة تخريبية، ليست فقط موضوعاً للرغبة، بل مصدراً للتهديد. والذات الشاعرة، رغم تماسكها الخارجي، تبدو هشّة أمام هذا التطفل. وهو ما يجعل القصيدة تنتهي لا بالحسم، بل بالتساؤل والشكّ:

"وهل قفزة... دفعة واحدة... تستطيع أن تفسد الآتية؟"

سؤال بلا إجابة، لكنه يُعلن هزيمة البراءة أمام التسلل الماكر.

خاتمة: الشعر كتقنية للمقاومة

في جوهرها، تقترح قصيدة "قفزة الظل... ونبوءة الأفعى" للشاعر عمار الصالح أنّ اللغة ليست فقط أداة كشف، بل أداة مقاومة. فالشاعر، وإن أصيب بخديعة الصورة المتسللة، لا يسقط في الانهيار، بل يحيل الجرح إلى مجاز، ويحوّل الصدمة إلى صوت.

إننا أمام قصيدة تمارس نقداً وجودياً داخلياً للخيبة، وتحاول إعادة بناء العالم لا من خلال الحنين، بل من خلال تسمية المخاتلة باسمها، وفضح "قفزتها"، وقراءة الزمن عبر رمادها.

كلمة أخيرة

"قفزة الظل… ونبوءة الأفعى" ليست مجرد نص عن الحب أو الخديعة.

إنها عملٌ تأويليٌّ مكثفٌ، يرصد خيانة المعنى، وانهيار البراءة، وتمزّق الداخل تحت وطأة المفاجآت النفسية والرمزية.

قصيدة تكتبُنا، كما نكتبها، وتُفجّر فينا سؤالاًً قديماً متجدّداً:

من أين تأتي الطعنات… ومن يزرع الأفعى في الحقل؟

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

قفزةُ الظلّ... ونبوءة الأفعى

بقلم: عمار الصالح

تُفاجئيني، من زحامِ الكَلِمِ،

تأتينَ من غَفواتِ جُرحٍ مُبهمِ

تتسلّلينَ كأنّكِ الأقنـاعُ في

زفّةِ الوجوهِ بلا ملامحِ مُبْرَمِ

تَكْمُنينَ خلفَ الحرفِ، تحفرُ صمتَهُ،

وتقفزينَ إلى الكُؤوسِ من العَدَمِ

لم أَكُ هادئَ، لا ارتَحتُ في سَكَني،

منذُ استَباحتني الكوابيسُ العِظَمِ

في عزِّ ضوءِ النهارِ، بدتْ جُنوناً،

تنهشُ نعمتَ راحتي وتَهُدُّ دَمْ

ما كنتُ شاعرَ لحظةٍ مترفَ الأسى،

لكنني المصلوبُ في وَقْعِ النَّدَمِ

قفزاتُكِ الخائنةْ... يا شهوةً

أفزعتْ وردي، وأوجعتِ الحُلَمِ

يا أفعَةً مَرقّطَةً في سِحرِها،

تَغتالُ من لغتي رحيقَ التُّرْنُمِ

هل تشعلينَ الواديَ المُطفأَ الثرى؟

وتدّعينَ بأنّكِ النّارُ من قِدَمِ؟

هل تستفزينَ الحقولَ، وتُجدِبينَ

شَغَفَ الغمامِ، وتُسْكِتينَ التُّهَمِ؟

قفزةٌ... دفعةٌ من ظِلٍّ مريبْ

أفسدتِ الآتِي، وسرّ المُنْعَمِ

هذي الحقولُ انكفأتْ في حزنِها،

وجداولُ الأشواقِ جفّتْ من ألمِ

تُفاجئيني، كالعواصفِ في الضميرْ،

لكنني... لم أعد أهوى السعيرْ

إني تعلّمتُ النجاةَ من النُّبوءَة،

واخترتُ نسيانَ الخديعةِ في الحريرْ

 

كثيراً ما نقرأ في كتب التراث الأدبي هذه العبارة: وأنشد قصيدته أو أنشد الشاعر شعراً فالإنشاد هو تلاوة الشعر بنبرة خطابية مفخمة، وهو أعم من الإلقاء الذي هو قراءة القصيدة بشكل عربي سليم ونطقها بشكل صحيح مع قدرة الشاعر على توصيل الانفعالات العاطفية....وبعد فقد ورد عن حسان بن ثابت بيته الآتي:

تغنَّ في كل شعرٍ أنتَ قائلهُ / إنَّ الغناءَ لهذا الشعرِ مضمارُ

الشاعر كريم القيسي هو من الشعراء الذين يجيدون إنشاد الشعر وإلقائه وغنائه مقاماً عراقياً أصيلاً... أقول عن الشاعر كريم القيسي أيضاً: إنه أسير الحرب والحب وهذه قراءتي له وعن وقوفه على باب السياب بوصف هذا الباب عنواناً لمجموعته الشعرية.

(1) العنوان بوصفه عتبة: مع أن الشاعر ينظم قصيدة العمود إلا أنه اختار السياب عتبة لديوانه الشعري وجعله باباً لقصائده، أيعني به باب التجديد في الصورة الشعرية أم يعني به باب الحب أم الاثنين معاً؟ فقد حفل الديوان بقصائد أصنفها كالآتي:

قصائد (غزلية / صوفية / وطنية / دينية / مدائنية).

(2) المعجم الشعري: لكل شاعر معجمه الشعري الخاص به، فهو هوية الشاعر، ولاسيما أن الشاعر يمتاح من بيئته، وتراثه، ولغته، ودينه، وتجربته، فضلاً عن ثقافته الذاتية إلخ...  وقد برزت في قصائد الشاعر الألفاظ الآتية:

(ألفاظ الطبيعة / ألفاظ دينية / ألفاظ الخمرة / ألفاظ أجزاء الإنسان / ألفاظ الموت والحياة) وظفها الشاعر بانسجام لخلق المعاني والصور... يقول الناقد حازم القرطاجني (إنَّ المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان) فالشاعر ينقل لنا أحاسيسه بصياغة واقع جديد يحلم به.

(3) التناص عند الشاعر: التناص أو التعالق النصي هو الإفادة من نص آخر مشهور ومتداول لتوظيفه في نص جديد، كأن يكون نصاً قرآنياً أو شعرياً أو مثلاً دارجاً أو رمزاً أسطورياً إلخ... ويسمى أيضاً الاقتباس أو التضمين عند العرب، وقد استعمل الشاعر تناصين في قصائده هما:

تناص الامتصاص: وهو التناص الذي لا ينقل النص السابق حرفياً ولكنه يلمح إليه كما في هذا البيت (من لم يكن في الطوفان معتصما / بمركبي لا نجا ولا عبرا) فالتناص كما هو واضح مع قصة نوح وطوفانه المشهور.

تناص التحوير: وهو التناص الذي يقلب فيه الشاعر النص السابق ويعكسه؛ لكسر الجمود وإثارة الدهشة وتحقيق المفارقة والتساؤلات كما في هذا البيت:

(وقفتُ لا هدهدٌ ينبئني / ولا عفاريتٌ تنقلُ الخبرا) هنا تناص معكوس مع قصة سليمان والهدهد الذي أنبأ سليمان بعرش بلقيس ونقل الأخبار له عن طريق العفاريت لكن الشاعر ليس لديه ذلك ؛ فوقوفه هنا جاء من باب الحيرة والاغتراب لا من باب انتظار الأنباء والأخبار والعرش وقدوم المرأة، كما قدمت بلقيس على سليمان.

إن التناص عند القيسي ليس مجرد حشو لرمز ديني أو تأريخي أو سيري، بل هو عملية امتصاص ابداعي صهره بموهبته ودمجها مع تجربته الشعرية الوجدانية.

(4) شعرية المكان: يحتفي الشاعر بالأمكنة كثيراً، ولاسيما الأمكنة ذات الفضاء الواسع المفتوح، ولعل هذا الاحتفاء عوضه عن الأمكنة المغلقة التي كان فيها (أقفاص الأسر) التي عاش فيها إبان حرب الثمانينيات، وعوضه أيضاً عن صور الخراب والدمار التي رآها عندما كان يعمل مراسلاً حربياً بعد 2003 م... ومن الأمكنة التي ذكرها (بغداد / ديالى / الأنبار / هيت / حديثة / البصرة إلخ كما في هذا البيت:

(قال الذين ادعوا هيتاً حبيبتهم / بأنهم أجملُ العشاق مذ عشقوا / يسَّابقونَ وعشقي اجتازَ أولَهُم / عشرين عاماً وقالوا إنهم سَبقوا).......

***

د. مثنى كاظم صادق

.....................

* باب السياب / مجموعة شعرية / كريم القيسي / الطبعة الأولى 2023/ دار المرايا للطبع والنشر والتوزيع / بغداد / باب المعظم. 

للشاعر عبد الستار نورعلي

الشعر ليس مجرد أداة تعبيرية، بل هو مرآة تعكس الفكر والوجدان الإنساني، ويُعيد تشكيل الواقع من خلال الرموز والصور الشعرية. في قصيدة "العنقاء" للشاعر عبد الستار نورعلي، يتجاوز الشاعر الطرح التقليدي للمرأة، ليقدمها كقوة ديناميكية تمثل جوهر الحياة ومحركها الأساسي. لا تكتفي القصيدة بالاحتفاء بالمرأة، بل تطرح إشكالية علاقتها بالمجتمع، بين الحاجة إليها كمكوّن أساسي للحياة، وبين الممارسات القمعية التي تحدُّ من دورها.

القصيدة تتبنى بُعدًا نضاليًا، حيث تصبح المرأة رمزًا للمقاومة والتجدد، وهو ما يعكسه استدعاء رموز قوية، مثل العنقاء والمطر والخيول، التي تشير إلى صراع حضاري بين الجمود والتغيير. لا يقف الشاعر عند حدود الوصف، بل يدفع القارئ إلى مساءلة القيم الثقافية والاجتماعية المحيطة بالمرأة، مما يجعل النص أكثر من مجرد قصيدة؛ إنه دعوة للتحرر الفكري والإصلاح الاجتماعي.

من خلال هذه القراءة النقدية، سيتم تحليل البنية الرمزية للقصيدة، وتفكيك رؤيتها للمرأة كمفهوم ثقافي واجتماعي، إضافةً إلى استكشاف العلاقة بين الأسطورة والتاريخ والواقع، في تشكيل الخطاب الشعري لمضمون النصّ.

العنوان ودلالته:

عنوان القصيدة "العنقاء" ليس مجرد اختيار عشوائي، بل هو مفتاح تأويلي للنص، حيث يستحضر الطائرَ الأسطوريَّ الذي ينبعث من رماده، ليجسد المرأة ككيان قادر على تجاوز المحن والقيود المجتمعية. هذا الاختيار يعكس رؤية الشاعر للمرأة كرمز للتحوّل والتجدد المستمر، مما يضع القارئ منذ البداية أمام ثنائية الصراع والانبعاث التي تحكم بنية القصيدة.

الثيمة الرئيسة والمضمون:

تتجاوز القصيدة الطرح التقليدي للمرأة كمصدر للحب والعطاء، لتضعها في قلب معركة فكرية واجتماعية ضد التهميش والقمع الثقافي. من خلال استدعاء صور رمزية كالمطر، الحرير، والعصافير الفينيقية، ينسج الشاعر شبكة دلالية معقدة تربط المرأة بالحياة والحرية، مقابل قيود المجتمع التي تحاول كبح هذا الحضور الديناميكي.

المرأة بين الأسطورة والتاريخ:

يعتمد الشاعر على استعادة الرموز التاريخية والأسطورية المرتبطة بالمرأة، لكنه يعيد تأويلها وفق منظور معاصر يتحدى القراءة التقليدية. فحواء لم تعد مجرد رمز للخطيئة، وامرأة العزيز لم تعد مجرد امرأة خاضعة لرغباتها، بل تصبحان تجسيدًا لإرادة المرأة واستقلاليتها، وهو ما يعكس انحياز النص إلى رؤية متحررة من القيود النمطية.

النقد الاجتماعي والتاريخي:

تنحاز القصيدة إلى تفكيك الصورة المزدوجة التي يقدمها المجتمع للمرأة؛ فهي تُحاط بألقاب التقديس مثل "القارورة الرقيقة"، لكنها في الوقت ذاته تُحاصر بقيود تحد من دورها الاجتماعي. هذا التناقض يتم كشفه في مشاهد رمزية مثل الفتاة التي تربي أخاها ليحقق النجاح، بينما تظل هي في الظل، وكأنها مجرد "حائط مصدوع" في نسيج المجتمع، تعبيرًا عن التهميش النسوي.

اللغة والأسلوب:

تتميز القصيدة بالتكثيف الرمزي الذي يمنحها أبعادًا متعددة تتجاوز القراءة المباشرة إلى تأويلات أكثر عمقًا. فـ"العنقاء" ليست مجرد طائر أسطوري، بل تتخذ بعدًا دلاليًا يعكس قدرة المرأة على التجدد والنهوض من رماد القهر. أما "التفاحة"، فهي استدعاء ضمني لحواء، حيث تعيد الشاعرة تأويل هذا الرمز ليصبح دلالة على الإرادة النسوية بدلًا من الخطيئة.

الإيقاع والموسيقى الداخلية:

تعتمد القصيدة على الإيقاع الداخلي الناتج عن التكرار الصوتي والدلالي لبعض المفردات مثل "المثل"، "العنقاء"، "البقاء"، مما يخلق تموجًا موسيقيًا يعزّز الانفعال الشعري. كما أن التوازن بين الجمل الطويلة ذات الطابع السردي والجمل القصيرة الحادة التي تحمل صدمة شعورية، يساهم في دفع القارئ إلى التأمل وإعادة النظر في المعاني المطروحة. هذه التقنية لا تعزز فقط الإيقاع، بل تُحدث تفاعلًا ديناميكيًا بين المتلقي والنص، مما يجعل التجربة القرائية أكثر تأثيرًا وحيوية.

تحليل الأبيات الآتية التي تناولتها من قصيدة "العنقاء" يكشف عن مستوى عميق من الرمزية والتأمل، وهو يضع المرأة في قلب محوري يمثل التغيير والنهوض، مع التركيز على الصعوبات التي تواجهها نتيجة التقاليد أو الفكر السائد. لنلقِ نظرة أكثر تركيزًا على الرسائل المبطنة والاستنتاجات النهائية:

1. بداية القصيدة "المرأة كحلم غامض":

بداية القصيدة تكشف عن رمزية عميقة للمرأة كحلم يتجسد في الخيال، حيث يُصور الشاعر المرأة على أنها حلم بعيد أو غامض لا يمكن إدراكه بالكامل، كما يظهر في قوله:

حين تكون المرأةُ الأحلامْ

تنسدلُ السَّتائرُ الحريرْ،

فلا نرى أبعدَ منْ أنوفِنا.

هنا، تُقدّم المرأة كحلم بعيد، متمنّع عن التحقق، ما يعكس النظرة الاجتماعية التقليدية التي تقتصر فيها رؤية المرأة على جوانب جمالية فقط، دون أن تُدرك أدوارها الحيوية والعملية في المجتمع. تتداخل الستائر الحريرية كرمز يعكس الترف، الرقة، والمثالية، مما يعني أن المجتمع في بعض الأحيان يُحجم عن رؤية الحقيقة كاملة عن المرأة، وتظل مكانتها محجوبة تحت غطاء من الانطباعات السطحية. ويظهر الشاعر أيضًا حالة من الانغلاق الفكري في قوله "فلا نرى أبعدَ منْ أنوفِنا"، مما يرمز إلى النظرة الضيقة التي تعيق فهم دور المرأة الحقيقي في المجتمع.

2. تقدير المرأة كقوة حية ومؤثرة:

في المقطع الثاني، يتحول التصور عن المرأة من مجرد كائن جميل إلى قوة حيّة تُحرّك الوجدان والمجتمع، كما في قوله:

وخافقٌ يضربُ في صدورنا،

فكلّ نبض امرأةٍ هديرْ

والمطر الغزيرْ.

المرأة هنا تظهر كقوة فاعلة، حيث يُرمز إليها بـ "الخافق الذي يضرب في صدورنا"، ما يعكس تأثيرها العميق في نفوس الأفراد. كما يرمز الشاعر إلى طاقتها الحيوية بأنها "هدير" قوي يشبه حركة البحر التي تتجدد باستمرار، بينما يرمز "المطر الغزير" إلى خصوبة وقوة المرأة في بعث الحياة، سواء على مستوى الوجود الفردي أو المجتمعي. هذه الصورة تُظهر المرأة كمصدر للتجديد والإلهام في الواقع.

3. التساؤل حول ردود الفعل تجاه دور المرأة:

أما المقطع الثالث، فيُثير تساؤلاً هامًا حول كيف سيتعامل المجتمع مع تغير دور المرأة: هل سيختار الانفتاح الذهني على قوتها وتقديرها، أم سيقاوم هذا التغيير بالصراع والعنف؟ يتساءل الشاعر:

نفتحُ حينها عقولَنا

أم نسرجُ الخيولْ

والسَّيفَ والرُّمحَ

وصوتَ الحلمِ الغريرْ؟

الرموز في هذا المقطع، مثل "الخيول والسيف والرمح"، تمثل الصراع والتحدي، مما يشير إلى مقاومة البعض للتغيرات التي قد تأتي مع تحرير المرأة. بالمقابل، "صوت الحلم الغرير" يعكس الرغبات والطموحات غير المحققة بعد، مما يعبر عن حالة من التردد الاجتماعي في كيفية التعامل مع هذه التحولات. فبينما يرى البعض في هذا التغيير تهديدًا لقيمهم التقليدية، يراه آخرون فرصة لبلورة واقع جديد.

4. تحولات البدايات، ولادة الأمل والحلم:

في حلمٍ

يُبرعمُ الرَّبيعُ فوقَ صدرِها،

ينتظر اللحظةَ كي يدخلَ في الفؤادْ،

يُعطّرُ الروحَ بدفء روحها،

يقتطفُ العشقَ ويبدأ الحصادْ،

في هذه الأبيات، يظهر الشاعر في إطار إبداعي غني بالصور الرمزية التي تعكس فلسفته الحياتية ونظرته العميقة لدور المرأة في الوجود. يُصوّر الشاعر المرأة كحاضنة للحياة، حيث يُبرعم الربيع فوق صدرها، مما يعكس بداية النماء والتفتح. هذا التصوير لا يقتصر فقط على المعنى البيولوجي للأمومة، بل يتعداه إلى كونها رمزًا للعطاء المتجدد. كما أن "ينتظر اللحظة كي يدخل في الفؤاد" يشير إلى لحظة تحول حاسمة تتداخل فيها الأحاسيس السطحية مع الجوانب الأعمق للروح، مما يعكس التأثير العاطفي العميق للمرأة في الوجود.

في "يُعطّرُ الروحَ بدفء روحها"، يُقدم الشاعر تصورًا للمرأة ككيان روحي يمنح الحياة دِفئًا وإشراقًا، تمامًا كما يترك العطر أثرًا دائمًا. أما "يقتطفُ العشقَ ويبدأ الحصاد"، فيعكس اكتمال الدورة الإنسانية وتحوّل المشاعر إلى تجربة ملموسة، تتوج بالإنجازات التي تفيض بالعطاء. هذه الأبيات تتسم بغنى لغوي ومهارة تصويرية، مما يتيح للقارئ التفاعل مع المعاني المبطنة والتأمل في مسار النمو والازدهار الذي يوصل إلى النضج.

5. الأسطورة وتعدد دلالاتها، تفاحة الخطيئة:

في كتبِ الرِّوايةِ الأولى:

غزالةٌ تسلَّقتْ تفاحةَ البقاءْ،

وانتزعتْ تفاحةً لتقضمَ الغرامَ

واللعنةَ، والدهاءْ،

الاستدعاء للأسطورة التقليدية في قصة "آدم وحواء" عبر التفاحة يضيف بعدًا رمزيًا عميقًا. التفاحة، التي كانت رمزًا للخطيئة والمعرفة المحرمة، تُعيد إنتاج المعاني المتداخلة التي تجمع بين اللذة والعذاب، العشق واللعنة. في هذه القراءة، تظهر "الغزالة" كمخلوق برئ، لكنها تتجاوز البراءة لتصبح رمزًا للتمرد والتحدي على القيود الاجتماعية والأخلاقية. من خلال سعيها وراء التفاحة، تُظهر الغزالة رغبتها في اختبار المحرمات، مما يجعلها تتجسد كرمز للمخاطرة والتجربة التي تحمل في طياتها قدرًا من الهاء

6. جمال يوسف وصراع الرغبات:

امرأةُ العزيزِ راودَتْ فتاها عنْ نفسهِ

في حضرةِ العشقِ، وفي أمّارةِ الرَّغبةِ

في مملكةِ الأهواءْ،

استحضار قصة يوسف وزليخة في هذا المقطع يظهر الصراع بين الرغبة المكبوتة والعشق المُعذِّب. في "مملكة الأهواء"، يتجسد الصراع الداخلي للمرأة التي تتجاوز محظورات المجتمع وتتمرد على القيم التقليدية. "هيتَ لك" تصبح صرخة تحرر ورغبة خارجة عن المألوف. وفي المقابل، يظهر يوسف في هذا السياق أسيرًا لجماله، ما يعكس مأساة مزدوجة: من جهة هو في صراع داخلي مع رغباته، ومن جهة أخرى هو ضحية الجمال الذي يُستخدم كأداة للصراع بين القيم المجتمعية والتوقعات الشخصية.

7. الجمال وجدلية المأساة والمجتمع:

فانفجرتْ دماءُ صالةِ النِّساءْ،

صرخْنَ: هيتَ لكْ!

يا أيُّها الأبدعُ خلقِ اللهِ في البقاءْ

يُصور الشاعر الجمال كعنصر يثير التوتر والصراع في المجتمعات التي تحكمها تقاليد صارمة. جمال يوسف، رغم كونه هدية إلهية، يصبح مصدرًا للمعاناة والصراع بسبب التوقعات الاجتماعية والقيود المفروضة. هذه "التراجيديا" تجعل الجمال، بدلاً من أن يكون سببًا للسعادة، يصبح نقطة اشتباك بين الرغبات الفردية والأعراف المجتمعية، فيُظهر يوسف في هذا السياق كرمز للألم الناتج عن قيود المجتمع.

8. "استدعاء الأسطورة" تفاحة الخطيئة والمصير:

في كتبِ الرِّوايةِ الأولى:

غزالةٌ تسلَّقتْ تفاحةَ البقاءْ،

وانتزعتْ تفاحةً لتقضمَ الغرامَ واللعنةَ، والدهاءْ،

هنا، نجد إشارة ضمنية إلى النصوص المقدسة أو الروايات الأسطورية الأولى التي وضعت الأسس لمفاهيم الحب والخطيئة. "غزالةٌ تسلَّقتْ تفاحةَ البقاء" يرمز إلى البراءة والجمال الذي يتحدى الممنوع، كما في قصة "آدم وحواء". التفاحة في هذا السياق تتجاوز معناها التقليدي لتصبح رمزا لتجربة الإنسان المليئة بالتناقضات، من الحب إلى الخطيئة، من اللذة إلى العقاب.

9. استدعاء قصة يوسف ونساء المدينة:

امرأةُ العزيزِ راودَتْ فتاها عنْ نفسهِ

في حضرةِ العشقِ، وفي أمّارةِ الرَّغبةِ

في مملكةِ الأهواءْ

تُسلّط هذه الأبيات الضوء على قصة يوسف وزليخة من زاوية جديدة. هنا، الجمال يُعَذِّب يوسف، وتحول نساء المدينة إلى رموز للتمرد على التقاليد. في "مملكة الأهواء"، تُستعرض الرغبات المتناقضة، التي تثير الصراع الداخلي والخارجي على حد سواء، فتبرز المرأة في هذا السياق كمحرك للتغيير الذي لا يخلو من المخاطر.

10. انفجرت دماء صالة النساء، صرخن:

هيت لك!

يا أيها الأبدع خلق الله

في البقاء

"انفجرت دماء صالة النساء": يعكس هذا المشهد انبهار نساء المدينة بجمال يوسف الذي يبدو غير قابل للتحقيق، وتظهر الدماء هنا كرمز للقهر والدهشة المتزايدة.

"هيت لك": الصيحة تعبر عن رغبة مكبوتة، لكنها تحمل أيضًا تهديدًا بالخضوع للجمال كقوة خارقة للطبيعة ومصدر لتحديات اجتماعية ودينية.

11. جدلية الجمال والخضوع للمجتمع:

خُلِقتَ في أحسن تقويم

كنتَ لعبة المقدود من دُبُرٍ

وتجريح النساء

"خُلِقتَ في أحسن تقويم": استعارة من آية قرآنية تصف الجمال الذي خلقه الله بشكل مثالي، لكن هذا الجمال يوضع تحت ضغوط المجتمع الحادة التي تقيد حرية صاحبه.

"كنتَ لعبة المقدود من دُبُرٍ": استعارة تعكس غياب السيطرة الذاتية، حيث يُستغل الجمال وتصبح صاحبه مجرد أداة ضمن مؤامرات تُحاك حوله.

"وتجريح النساء": الجمال يصبح مصدرًا آخر للمعاناة، سواء لصاحبه أو لمن يتأثرون به، ما يُبرز التداخل بين النعمة والمعاناة.

12- إنّ ضلعي يتوارى اليوم خلفَ الظَّهرِ

يسقيني بساتينَ الهواء

وأناشيدَ خريرِ الماءِ صوبَ جنةِ البَّهاءْ

"إنّ ضلعي يتوارى اليوم خلفَ الظَّهرِ"هذه العبارة تعكس الشعور بالضعف أو التهميش، فالعلاقة بين الضلع والإنسان تحمل دلالات ثقافية ودينية، وقد يُفهم الضلع هنا كرمز للأنا المتوارية أو الهامشية.

"يسقيني بساتينَ الهواء": تصف هذه الصورة بساتين الهواء التي توحي بالوهم، مما يعكس حالة من التلاشي أو الآمال غير المحققة التي تظل بعيدة عن الواقع.

"وأناشيدَ خريرِ الماءِ صوبَ جنةِ البَّهاءْ": يربط الشاعر الماء كرمز للحياة والطهر بمكان بعيد عن الواقع، ما يوحي بالبعد بين الحال المثالي والواقع القاسي.

13. السَّلسبيلُ هُنَّ،

قيلَ: رفقاً بالقواريرِ، انكسرنا نحنُ،

والقارورةُ الزُّجاجُ في مكانِها

في حانةِ الصَّدرِ،

"السَّلسبيل": يرمز إلى الماء العذب من الجنة، ويُستخدم هنا ليعكس رمز الحياة والنقاء، كما يعبر عن صفات الروح الطاهرة للمرأة.

"قيلَ: رفقًا بالقواريرِ، انكسرنا نحنُ": إعادة توظيف للحديث النبوي عن النساء كالزجاج، مع نقد لحالة الانكسار التي تعانيها المرأة في الواقع، حيث يتحول الجمال إلى مصدر قسوة بدلاً من الحماية.

"والقارورةُ الزُّجاجُ في مكانِها": يظهر التناقض بين المظهر الخارجي المستقر للمرأة وبين الواقع الداخلي المهشم الذي تعيشه.

"في حانةِ الصَّدرِ": ترمز هذه العبارة إلى المكانة العاطفية للمرأة، ولكنها تحمل أيضًا إشارة إلى استهلاك المجتمع لها على الصعيد العاطفي.

"وفي أحسنِ تقويمٍ، وفي أجملِ تنظيمٍ": يعكس هذا الاستدعاء النقدي لتناقض صورة الكمال المثالية مع الواقع الذي يعاني فيه النساء من الانكسار والتهميش.

"وأشهى منْ دمِ الغزالْ": رغم جمالها، المرأة تُعامل كفريسة في مجتمع لا يقدر جوهرها، بل يراها مجرد غاية يتم استغلالها.

من خلال النصّ الآتي أدناه من القصيدة، يقدم الشاعر نقدًا اجتماعيًا يعكس التناقضات العميقة بين الصورة المثالية التي يتم تقديمها للمرأة وبين الواقع المعيش الذي يظل مليئًا بالقهر والانكسار، يقول الشاعر:

أبي وأمي أرضعاني مَثَلاً،

أختي التي ربّتني أحيا مثلاً،

أكملتُ منْ تحت يديها؛

كي تراني مثلاً،

مُدرِّساً صرْتُ،

وصارَ السِّينُ والصَّادُ مثالاً ساطعاً:

مهندساً، محامياً، مُطبِّباً،

أو عاملاً مكافحاً، أو قائداً مثقفاً

أو ناشرَ الهواءِ في الأرجاءْ،

أختي التي ربّتني أحيا مَثَلاً

ظلّتْ جوارَ الحائطِ المصدوعِ تحيا مَثَلاً،

كانتْ تصوغٌ الثوبَ بالخضرةِ، بالماءِ،

بتغريدِ الحمامْ

وحبِّ مَنْ يغزلُ مِنْ غنائهِ حلاوةَ الأحلامْ

ورايةَ السلامْ،

في مرضي

كانتْ هي الضِّمادَ والدَّواءَ والحنانْ.

في الامتحانْ

تجلسُ في فُوّهةِ البابِ وفي لسانِها

زغرودةُ النجاحْ،

في السِّجنِ زارتني

وفي العينين كبرياءْ،

لا تعبٌ مرٌّ ، ولا إعياءْ،

وقلبُها صُلْبٌ منَ الصُّمودْ

والأملِ الموعودْ،

وحينَ لفّوا الحبلَ حولَ الرَّقبةْ

أو فجّروني ارتفعتْ برأسِها، صاحتْ:

سيبقى مَثَلاً ، وخالداً،

مادمْتُ في الأحياءْ،

ما دامتِ العنقاءُ والرَّمادْ والبقاءْ.... هذه الابيات تعكس صورة عميقة عن تأثير العائلة، خاصة الأخت، في تشكيل شخصية الانسان وتحليل النص بشكل مختصر: "أبي وأمي أرضعاني مَثَلاً": يُظهر الشاعر دور والديه في غرس القيم والمبادئ منذ الصغر، بحيث تكون هذه القيم مثل الغذاء الروحي الذي يغذي الشخصية. واستخدام مفردة "مثلاً" يعبر عن أن هذه القيم لم تكن مجرد تعليمات، بل جزءًا أساسيًا من تكوينه الشخصي.

"أختي التي ربّتني أحيا مثلاً": يتناول الشاعر دور الأخت باعتبارها نموذجًا يحتذى به، ويُظهر كيف أن الأخت لعبت دورًا محوريًا في تربيته وتشكيل شخصيته، خاصة في الأوقات التي قد يفتقد فيها الشاعر أحد والديه.

"ظلّتْ جوارَ الحائطِ المصدوعِ تحيا مثلاً": يبرز هنا تماسك الأخت في وجه الصعاب، ويُرمز إلى "الحائط المصدوع" بالصعوبات الاجتماعية، ويُظهر أن الأخت رغم هذه الظروف، كانت رمزًا للصمود والمثابرة.

"كانتْ تصوغٌ الثوبَ بالخضرةِ، بالماءِ، بتغريدِ الحمامْ": يقدم الشاعر صورة فنية للأخت كرمز للعطاء والجمال، حيث كانت تزين الحياة بكل ما هو جميل ومعطاء، مما يعكس تأثيرها الإيجابي على البيئة المحيطة.

"وحبِّ مَنْ يغزلُ مِنْ غنائهِ حلاوةَ الأحلامْ": تعبر هذه العبارة عن القدرة على تحويل الألم والتحديات إلى حلم جميل، فالأخت هنا تمثل الأمل والمثابرة.

"كانت هي الضمادَ والدَّواءَ والحنانْ": في لحظات الأزمة والمرض، تظهر الأخت بمثابة الحماية والرعاية الشاملة، بما في ذلك الجوانب الجسدية والعاطفية.

"في السِّجنِ زارتني وفي العينين كبرياء": يمثل السجن في النص رمزًا للظلم والقهر، بينما زيارة الأخت تمثل الدعم العاطفي والإنساني في أوقات المحن، وتجسد الكبرياء والمثابرة في ظل الصعاب.

"وحينَ لفّوا الحبلَ حولَ الرَّقبةْ": يقدم الشاعر صورة رمزية للإعدام أو القتل في سبيل قضية سامية، ويُظهر كيف أن التضحية لا تمحو الرسالة، بل تجعل منها رمزًا خالدًا.

"سيبقى مَثَلاً وخالداً": تُجسد هذه الجملة فكرة أن النضال والتضحية لا يزولان مع الفناء الجسدي، بل يتحولان إلى إشعاع دائم، بفضل من يحيي ذكرى الشهيد ويروي قصته.

"ما دامتِ العنقاءُ والرَّمادْ والبقاءْ": العنقاء هنا ترمز إلى التجدد والأمل بعد الموت، حيث يتم الربط بين الموت والحياة، مُعبّرًا عن فكرة البقاء والنمو بعد الانكسار.

في المجمل، يعكس الشاعر من خلال هذه الأبيات قيمة العائلة، وخاصة الأخت، في تعزيز القيم الإنسانية والصمود أمام التحديات، مشيرًا إلى أن التضحية والمثابرة تظل خالدة في ذاكرة الأحياء

الاستنتاج النهائي لتحليل القصيدة:

تُقدم قصيدة "العنقاء" للشاعر عبد الستار نورعلي رؤية شعرية شاملة تركز على قيم البطولة والتضحية، حيث يتم إعادة تفسير الألم ليصبح رسالة أمل متجددة. في هذه القصيدة، يُرفض التفكير في الموت كخاتمة نهائية، بل يُعاد تعريفه كبداية جديدة، حيث تذوب الأجساد بينما تظل الأفكار حيّة وخالدة في الوعي الجماعي.

في هذا السياق، تتجاوز المرأة في القصيدة دور المشاهدة السلبية للأحداث لتصبح قوة فاعلة في التاريخ، تحول الأحزان إلى منبع للإلهام وتعكس صلابة الإرادة في مواجهة التحديات. من خلال الرموز الفلسفية العميقة مثل الحبل، الانفجار، العنقاء، والرماد، تتجسد جدلية الفناء والبعث بشكل واضح، ليصبح الموت مدخلًا لعملية الخلود التي تُغذي النضال الجماعي.

لا تقتصر القصيدة على التعبير عن تجربة فردية للفقد، بل تعلو بها لتصبح قضية جماعية تنطلق من الألم الشخصي لتؤكد إرادة الحياة واستمراريتها. من خلال هذا الأسلوب، يتمكن الشاعر من تشكيل نص شعري يعكس المزيج بين الأسطورة، الرمزية الفلسفية، والالتزام بالقضايا الكبرى. وهكذا، تبرز القصيدة في النهاية أن الموت ليس نهاية مسدودة بل بداية جديدة، تتجسد في التضحية التي تُعيد الإنسان إلى حالة من الخلود، حيث يتحول من كائن زائل إلى رمز حي يُلهم الآخرين ويقودهم نحو أفق مشرق.

من خلال هذا السياق، تعيد القصيدة تعريف دور المرأة في إطار غير تقليدي، حيث تبرز كعنصر حيوي في المقاومة والتحمل، مُظهرة أن التضحية ليست مجرد فعل إنساني عابر، بل هي مسار طويل نحو الخلود، حيث يصبح الإنسان رمزًا يُلهِم الآخرين في رحلة النضال المستمرة.

***

سهيل الزهاوي

 

لكفاح الزهاوي

يستعرض المتن الروائي عددًا من المحطات المفصلية في تاريخ العراق خلال حكم حزب البعث، كاشفًا أسلوبه البوليسي في تأسيس دولة القمع والحديد، حيث أُطلقت يد الأجهزة الأمنية لترهيب وترويع المواطنين من خلال حملات اعتقالات اتسمت بالإرهاب، استهدفت بشكل خاص أعضاء الحزب الشيوعي. هذا القمع دفع بالشباب الثوري إلى انتهاج طريق الكفاح المسلح بوصفه سبيلاً للمقاومة والصمود، ما يُبرز أن الوجدان العراقي الحي يرفض الخضوع لآلة البطش البعثية، ويتشبّث بالتحدي والرفض. كما يعكس النص عقلية النظام البعثي الشوفينية والفاشية في استهداف القومية الكردية، سواء عبر حملات التهجير القسري إلى خارج الحدود أو إلى أعماق الصحراء، وصولًا إلى استخدام الأسلحة الكيماوية، كغاز الخردل، في هجمات وحشية. الكفاح المسلح الذي خاضته فرق الأنصار لم يكن طريقًا مفروشًا بالبطولات فحسب، بل واجه معوّقات شديدة، من اشتداد الحملة العسكرية، وتلغيم الجبال والسفوح بربايا الجيش، إلى دعم المرتزقة والجحوش بالسلاح والمال لإخماد حركة الأنصار. كما غذّت السلطات الأمنية الخلافات بين الأحزاب الكردية، مؤديةً إلى اقتتال داخلي بلغ ذروته في مجزرة "بشت آشان"، التي راح ضحيتها عشرات الشباب الثوري، أولئك الذين رفعوا راية الوطن والتحرر فوق كل اعتبار، وسقطوا على أيدي زمر الحقد والعدوان. ورغم أن نضال الأنصار حمل إنجازات مشهودة، إلا أن الرواية لا تغفل عن الإخفاقات، مثل اختراق صفوف الحزب ووحدات الأنصار من قبل وكلاء الأمن، وسوء اختيار قادة الفرق ممن تنقصهم الكفاءة والخبرة. كما يسجّل النص ارتباكًا سياسيًا في تحديد أهداف الكفاح المسلح، وتعقيدًا ناتجًا عن الصراعات الكردية الداخلية، التي غذّتها السلطة المركزية دعمًا لطرفٍ على حساب آخر. لكن، ورغم هذه العوائق الهائلة، فقد أظهر الشباب الثوري صلابة لافتة، متحدّين قسوة الشتاء، والثلوج التي تغلق الطرق، والأهوال الطبيعية، حاملين روح الصمود التي تأبى الانكسار حتى في أقسى الظروف.

1- نضال:

باعتباره الشخصية الساردة، مستخدمًا ضمير المتكلم أو صوت الراوي العليم. حين اعتُقل شقيقه "حاذق"، أدرك أنه الهدف التالي، فشجّعته والدته على الهرب، لينجو بنفسه من المصير ذاته. قرر حينها التوجّه إلى كردستان للالتحاق بشقيقه الآخر "كمال"، الذي كان بدوره قد أفلت من حملة الاعتقالات.  لكي يرتب اتصاله وانضمامه الى صفوف الأنصار .  ويرتب خروجه الآمن من بغداد ( توجّهتُ إلى مكان عملي، وكنت حينها أعمل في مستشفى بعقوبة المركزي، الذي يبعد عن منزلنا ساعة تقريبًا بالسيارة. هناك طلبتُ إجازة لثلاثة أيام، اعتقدت أنها كافية للمغادرة. استعدّيت أنا وأخي قحطان لمغادرة منزلنا في بغداد دون تأخير بعد عودتي من بعقوبة." (ص229) ظلّ هاجس الهرب يُلاحقه، وسط شعور بالارتياب والحذر من نقاط التفتيش المنتشرة على الطريق، وقد شكّ به أحد الجنود بسبب رداءة الخط في دفتر الخدمة. لكن نضال تمالك نفسه وردّ بثقة ساخرة: "جان خطه مو حلو، على أساس يعدله، خطية راد يكحلها... عماها." (ص235) وصل أخيرًا إلى قرية "أحمد آروى"( برفقة مجموعة من الأنصار، ليبدأ فصلاً جديدًا في الحياة الجبلية القاسية المحاصَرة بربايا الجيش والمرتزقة، حيث عانى مع رفاقه شحّ التموين، حتى أنّ بيضتين فقط كانت توزّع على خمسين مقاتلًا! ) (ص248) جلب المياه كان مغامرة محفوفة بالمخاطر، وسط الانحدارات المكشوفة ونيران العدو، حيث تُحمَل المياه في قناني بلاستيكية على ظهور البغال. وقد استخدم نضال خبرته في التمريض لخدمة الأهالي، ما أكسبه احترامهم وتقديرهم. ورغم تهديد المرتزقة، وصعوبة الطبيعة، ظلّ الشباب يتحلّون بروح التحدي، مدركين أن كسر آلة القمع يتطلّب تضحيات، خاصة وأن العدو امتلك أدوات متطوّرة مثل مناظير الرؤية الليلية وقنّاصة يُصيبون أهدافهم من مسافات بعيدة. في مشهد بالغ التعبير، يصف الراوي اجتيازهم للمسالك المغطاة بالثلوج: "كنا حذرين بتأنٍ في خطواتنا، بسبب كثافة الثلوج المتراكمة على طول المسالك الغامضة، وانتشارها بهيئة مخيفة على المنحدرات التي يمكن أن تنهار فجأة. مضينا نقطع شوطاً كبيراً في مسيرتنا نحو القمة حتى وصلنا إليها." (ص296) ختام هذا المقطع يكشف أن الرواية لا تمجّد البطولة فحسب، بل تُجسّد تجربة التشبث بالحياة، في مواجهة آلة بطش متوحشة، وفي حضن طبيعة

2 - حازم:

يظهر "حازم" في الرواية كشخصية نضالية بارزة. خريج كلية الآداب، قسم اللغات، ومتزوج من "سهاد"، شقيقة نضال. يعمل في شركة كبيرة للإنشاءات، ويتمتع بشخصية مرحة ومحبوبة. لكنه، في خلفية حياته الاجتماعية، كان مناضلًا حقيقيًا؛ اعتُقل في انقلاب شباط الأسود 1963، ونُقل إلى سجن "نكرة السلمان" ضمن ما عُرف بـ"قطار الموت". لم يكن مجرد عضو حزبي، بل قائداً ذا خبرة عسكرية، سبق أن خدم كضابط في الجيش، وناشطًا في الحركة الطلابية، مما جعله دائمًا في مرمى المراقبة الأمنية. أُعيد اعتقاله في أواخر السبعينيات، بعد تصاعد الإرهاب في ظل الجبهة الوطنية، حيث أُعدم 31 إنسانًا بتهمة ملفّقة تتعلّق بتنظيم حزبي في صفوف الجيش. يحكي حازم عن تجربة تحقيقه القاسية: ("كانوا يعرفون كل شيء عني، حتى أدق التفاصيل عن حياتي، حركاتي، اجتماعاتي، وحتى ألوان الملابس التي أرتديها. وعندما أنكرت ما ورد في تقريرهم، أعادوني إلى الزنزانة.")  (ص115) ورغم عرض السلطات عليه تولي أي وظيفة يرغب بها، رفض ذلك بإباء، ثم غادر إلى كردستان، ومنها إلى بلغاريا. وفي عام 1982 عاد إلى الوطن والتحق بصفوف الأنصار في جبل قنديل، على سفوح بشت آشان. كلّفه الحزب بمهمة سرية إلى بغداد، لكنه تدارك الموقف سريعًا حين علم أن الأجهزة الأمنية تعرف بوجوده هناك — بسبب تغلغل عناصر الأمن في الحزب — فانسحب فورًا قبل الوقوع في الأسر. مع ذلك، سقط في هجوم مباغت نفذته قوات "أوك" (الاتحاد الوطني الكردستاني) في مجزرة بشت آشان، التي أودت بحياة عشرات الشباب. أُصيب حازم بجراح بعد نفاد عتاده، ومع أنه كان ينزف، أجهزوا عليه بوحشية. لم يكتفوا بإصابته، بل امطروه بالرصاص وهم يصرخون مبتهجين: "- فنرسله إلى الجحيم الآن، ونمزقه ببنادقنا أربًا." (ص273) وهكذا أُعدم وهو ينظر إليهم بعينين تشعّان شموخًا وثباتًا. في لحظة احتضاره، يرسم النص مشهدًا إنسانيًا غارقًا في الرمزية: "يرفع حازم رأسه، فجأة انسكب شعاع من عينيه، فسقط على شاشة الحياة، فارتسمت لوحة كبيرة تظهر عليها سهاد، وأولاده ماجد وعمر، أمام ناظريه مبتسمين، وعلى وجوههم علامات الانتظار. شدّهم الشوق إلى اللقاء ولمّ الشمل... وإذ بابتسامة عريضة تغمر وجهه."

3 - عملية الأنفال:

يرصد النص واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبها النظام البعثي بحقّ الشعب الكردي، متمثلة في الهجوم الكيماوي الذي استهدف قرى عديدة، وخاصة مدينة "حلبجة المنكوبة"، ضمن ما أُطلق عليه اسم "الأنفال" — محاولة يائسة لإضفاء صفة "مقدسة" على جريمة همجية. أسقطت الطائرات صواريخ محمّلة بغاز الخردل، لتسمّم الإنسان والحجر والشجر. لم تقتصر الجريمة على الغاز فحسب، بل توسّعت باستخدام شتى أنواع الأسلحة الفتّاكة، ترافقها عمليات تهجير واسعة. الغاز أثّر في الجهاز التنفسي، وتسبّب في حالات اختناق وعمى وتشوهات جلدية. اضطر الأهالي والأنصار للفرار صوب المناطق البعيدة أو خارج الحدود، وسط ملاحقة المرتزقة والجحوش المدعومين بأسلحة متطورة. "تم استخدام جميع أنواع الأسلحة الفتاكة، بما في ذلك الأسلحة الكيمياوية. وأطلق النظام على جريمته الشنيعة اسم الأنفال، ليُغلف بها طغيانه. شنّ هجومه الهمجي على القرى الكردية الآمنة بعد تهجير سكانها، وقتل من وقع في أَسره... في ذلك الوقت كنا ننتقل من قرية إلى أخرى، بينما الجيش ومرتزقته يتعقّبوننا." (ص308) 4 - العودة بعد الاغتراب:

بعد أن نجا "نضال" من الموت المحقق، غادر إلى "الاتحاد السوفيتي"، وأُدرج في زمالة دراسية نُسب على إثرها إلى "أوكرانيا"، حيث التقى بفتاة أوكرانية وتزوجها رغم اعتراض والدتها. رزق منها طفلين، ثم هاجر إلى إحدى دول أوروبا الغربية، وهناك مكث لسنوات طويلة حتى عاد إلى العراق، مختتمًا غربةً امتدّت لـ"سبعة وعشرين عامًا".

4 - رحلة العودة بعد الاغتراب:

لم تكن أقلّ قسوة من رحلة الغياب. فكل شيء قد تغيّر، حتى الأماكن التي كان يحتفظ بها في ذاكرته بدت له غريبة؛ بيته القديم، الطرقات، التفاصيل التي ظلت حية في وجدانه... أصبحت أشباحًا لا تشبهه. لكن الشوق الذي ظلّ حيًا في أعماقه، كان موجّهًا نحو والدته؛ تلك العاطفة الصافية التي لم تشوّهها السنوات، ولا ابتعد عنها الحنين: "منذ أن تركتُ الوطن، شعرتُ بأن الرحيل سيكون بلا عودة. لكن كان يراودني الأمل دوماً أن أعود يوماً ما، كي ألتقي والدتي التي اشتقتُ إلى حضنها كطفل رضيع... إلى لمسات أصابعها وهي تغرسها بين خصلات شعري، وتربّت على ظهري لتسكّن آلام ضياع السنين. لم يتوقّف قلب أمي عن الخفقان لحظة واحدة، وهاجس الانتظار يصرخ ألماً، معبّراً عن مدى ارتعاشها ويأسها." (ص391)

***

جمعة عبد الله – ناقد ومترجم

 

الشاعر العراقي: عمر عبد الناصر

تتناول هذه الدراسة قصيدة "في روح بغداد" للشاعر العراقي عمر عبد الناصر من خلال ثلاثة محاور تحليلية: الأسلوبي، الرمزي، والنفسي. وترصد كيف تتحول بغداد في النص من مدينة جغرافية إلى كائن شعري أنثوي، وتُستعاد كذاكرة جمعية، وجمالية، وحسية. تتجلى قوة النص في انسيابيته الإيقاعية، وغنائيته، وفي بنائه الرمزي الذي يُماهي بين المرأة والوطن، ويخلق بُعداً نفسياً يعكس مقاومة الفقد والانتماء من خلال الحنين واللغة.

في زمن تعاني فيه المدن العربية من التشظي والتمزق، تأتي القصيدة كفعل وجودي مضاد، حيث تتحول الكلمة إلى وسيلة لترميم الذاكرة واستعادة الهوية. "في روح بغداد" ليست مجرد قصيدة حب، بل هي نص مركّب يعيد تعريف المدينة من خلال العاطفة والرمز. بغداد هنا ليست مكاناً، بل استعارة كبرى للأنثى، للحضارة، ولحالة وجدانية يُعاد استحضارها عبر الكلمات، في محاولة للتغلب على ألم الفقد والاغتراب.

أولاً: البنية الأسلوبية – لغة التكرار والإيقاع الحسي.

تعتمد القصيدة على التكرار الإنشادي كوسيلة لبناء الإيقاع، وهو ما يتجلى في اللازمة المتكررة ،يقول الشاعر عمر عبد الناصر:  "في روح بغداد / هناك أحب أن ألقاك".

هذا البناء يُعطي القصيدة طابعاً إنشادياً يدور في حلقة وجدانية متكررة، ويُعيد تشكيل "الروح" كحيز شعري، غير مادّي، تستعاد فيه كل معاني اللقاء والانتماء. ويتعزز الإيقاع من خلال التوازي التركيبي كما فيةقوله:  "في أغانينا... في أمانينا".

اللغة في النص تتراوح بين الفصحى الرقيقة والعامية المُضمّنة داخل السياق، مما يعكس ثنائية الهوية الصوتية: الرسمية والحميمية.

ثانياً: الرمزية – بغداد كأنثى / المدينة كذاكرة:

تأخذ بغداد شكل الحبيبة. هذا التماهي ليس سطحياً بل ينبع من آلية رمزية متجذرة في الخطاب العربي حيث تتماهى الأنثى بالوطن. يقول الشاعر:

 "في سماركِ المثيرِ اللامنتهي

وفي الوجه الإلهيّ.. البهي".

الوجه البهي، والسمار، ليست صفات أنثوية فحسب، بل استعارات حضارية لمدينة ذات بعد إلهامي. الرموز المحلية (شارع الرشيد، المتنبي، شاي الهيل) تشكل "أيكونوغرافيا" يومية تُعيد تمثيل بغداد بوصفها مركزاً وجدانياً للذاكرة والهوية.

ثالثاً: البنية النفسية – الحنين كآلية دفاعية ضد الفقد.

يوظف النص آليات "التعويض الرمزي" عبر الحب لاستعادة ما فُقد. يختلط صوت العاشق بصوت المواطن، حيث يتحول اللقاء الشخصي إلى لحظة انتماء جماعي، يقول الشاعر عبد الناصر: "كلَّ ما مرّ السلام فينا

كلَّ ما مرّ الزمان فينا".

هذا التكرار ليس فقط جمالياً بل يحمل وظيفة نفسية، حيث يصبح الزمن – عبر التكرار – جزءاً من فعل المقاومة والتشبث بالحضور الداخلي لبغداد. كما أنّ استخدام الأغاني الشعبية والأمثال (مثل "ما أجوزن أنا") يحمل دلالة انتمائية: إنه عناق جماعي للثقافة والهوية من خلال اليومي والمألوف.

الخاتمة:

في قصيدة "في روح بغداد"، للشاعر العراقية عمر عبد الناصر لا يستعيد الشاعر المدينة بوصفها مكاناً، بل بوصفها حالة شعورية مركبة تتجاوز الجغرافيا والتاريخ. تتجلى قوة النص في قدرته على محو المسافات بين الذاتي والوطني، بين الأنثى والمدينة، بين الحب والانتماء. ولعل هذه القصيدة مثال حيّ على كيفية صوغ الذاكرة عبر الفن، وكيف يمكن للشعر أن يكون مرآة لروح شعب بأكمله.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...........................

في روح بغداد

في روحِ بغداد

هناكَ… أُحبُّ أن ألقاكِ

في ذلكِ الجمالِ الذي...

أصِرُّ أن أراهُ فيكِ دوماً، وفيها

في شارعِ الرشيد

في خطانا التي يُزيِّنُها تلاقينا

في أغانينا... في أمانينا

في روحِ بغداد

هناكَ.. أحبُّ أن ألقاكِ

وأُسلِّمُ عليكِ كلَّ ما ...

مَرّ السلامُ فينا

في روح بغداد

في زحمةِ المقاهي

وضجةِ الساحات

أرى الحياةَ تكتُبُ..

كلَّ ما قيلَ عنه انمحى

وأنا وأنتِ نهيمُ في "المتنبي" *١

و"الدرابينُ"*٢ شهودٌ "بفيِّها" *٣…

وقتَ الضحى

و"شاي الهيل"*٤ قد حانَ موعدهُ

وناظمٌ بصوتهِ صدحا

و"أم العيون السود" معي هنا

وأنا… "ما اجوزن أنا"

"وخدك الگيمر وأنا اتريگ منا" *٥

في روحِ بغداد

تحلو حكايانا

وعراقية، تحلو أغانينا

في روح بغداد

جوٌّ غريبٌ…

ساحرُ الألحان

ودجلةَ بين عينيكِ

يُغازل الشطآن

ويؤنس ليلَ العاشقينا

بغداد… بغداد يا لهذي المدينة!

في روحِ بغداد

في ذلك الوجعِ الذي لا يَنقضي

وفي الجمالِ الذي صِغنا منهُ الذكريات

في لحظةٍ فيها التقوا..

عند ثغري وثغركِ فجأةً دجلةَ والفرات

في سَمارِكِ المثيرِ اللامُنتهي

وفي الوجهِ الإلهيِّ.. البهي

وفي التفاصيلِ المُشبّعاتِ بشمسٍ…

أطفأ نارَها عصيرُ الزَبيب المُعتّق

وفي نُقوشٍ على مَبْنَىً مُنمَّق

هدّهُ الزمانُ والصيفُ والآهات

لكنه ما زال واقفاً يُقاومُ الحرَّ…

ليُثْبِتَ أن بغداد أعرق

بغداد... بغداد يا لهذي المدينة!

في روحِ بغداد

تحلو حكايانا

وعراقيةً، تحلو أغانينا

في روح بغداد

هناك أحب أن ألقاك

وأسلمُ عليكِ كلَّ ما..

مرّ السلامُ فينا

كلَّ ما مرّ الزمانُ فينا

كل ما مرَّ الحنين

وغطى ليالينا...

بغداد... بغداد يا لهذي المدينة!

 

للشاعر يحيى السماوي.. من الظمأ إلى الفاجعة

مقدمة: تُعدّ القصيدة الشعرية اليوم وسيطًا تداوليًّا مكثّفًا، تتفاعل فيه اللغة والسياق والحسّ الجمعي في لحظة جمالية متوترة. وقصيدة "نهري بلا ماءٍ..." تندرج في هذا السياق بوصفها نصًّا شعريًّا ينفتح على أفق الحسين بوصفه حدثًا رمزيًّا مؤسّسًا للوعي العربي والإسلامي، متكئًا على لغة موحية، وبلاغة سردية مكثفة، تحوّل المشهد إلى لحظة صدمة دائمة.

في ضوء النظرية التداولية، سنسعى لتفكيك هذا النص على مستوى المقاصد، والافتراضات المسبقة، وأفعال القول، لنكشف عن المشهد التداولي الذي تبنيه القصيدة عبر مشاهدها الثلاثة المتلاحقة.

تأطير تداولي أولي للنص:

تعتمد القصيدة في بنيتها على التكثيف الرمزي وتفعيل أفعال القول غير المباشرة، فتبدأ بجملة خبرية:

"نهري بلا ماءٍ"

وهي عبارة تؤسس لفعل تداولي قَصديّ يتجاوز ظاهر القول (إخبار عن نهر جاف) إلى فعل تعجّبي أو احتجاجي، يراد منه التنبيه إلى مفارقة أو خلل في نظام الوجود. من هنا تبدأ القصيدة في تفعيل الوظيفة التداولية المعروفة بـ"الإنذارية" أو "التحذيرية"، وهو ما يشيع في النص بأكمله.

التداولية والمجاز الرمزي:

"وأما غابي

فيتيمةُ الأفياءِ والأعنابِ"

يتموضع هذا السطر في الحقل التداولي المتعلق بـفقدان البركة/الحياة/الكرامة. فالنهر الذي كان يفيض أصبح يابسًا، والغابة التي كانت تستظل وتمتلئ بالثمار أصبحت يتيمة، والتعبير عن الغابة بـ"يتيمة الأفياء والأعناب" يحيل إلى انقطاع النعمة وغياب المدد.

من منظور تداولي، ينتمي هذا القول إلى ما يعرف بـ"أفعال التقييم" وهو فعل يقوم به المتكلم في الحكم على الواقع، ومنح المتلقي مفتاحًا معرفيًا للتأويل، عبر صيغة انفعالية تحمل في طيّها حزنًا وخيبة.

لحظة الصدمة التداولية

"قُتِلَ الحسينُ؟

فكيف لا يغدو الضحى

ليلاً..

وشمسُ الصبحِ دون شهابِ؟"

تتموضع هذه المقاطع ضمن نموذج "الاستفهام التقريري الصادم"، والذي يُعد في التداولية من أبرز أساليب أفعال الإقناع، فيعرض الشاعر حقيقة تاريخية (مقتل الحسين) على أنها حدث كونيّ غير قابل للتصديق.

فالسؤال التداولي هنا لا ينتظر جوابًا، بل هو "سؤال تأكيدي" يُراد منه نقل وقع المأساة إلى مستوى كوني يتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ.

وتفعيل الزمن النهاري (الضحى) على أنه يغدو ليلاً، وتحويل شمس الصباح إلى نجم مطفأ، كلّها أفعال لغوية تنقل التوتر من المجال النصي إلى القارئ ذاته، ليشعر بالدهشة والخذلان.

تفعيل أفعال القول الانفعالية – مشهد السماء الباكية:

"لَطمَتْ ملائكةُ السماءِ خدودَها

وبكتْ عليهِ حجارةُ المحرابِ"

هذه الذروة في القصيدة تقود إلى المشهد الأعلى في البنية التداولية: مشهد الحداد الكوني. حين تتجاوز ردة الفعل عالم البشر إلى عالم المفارق (الملائكة) وعالم الجمادات (الحجارة).

الملائكة تلطِم، والحجارة تبكي. إنهما فعلان فائقان لطبيعة الأشياء، يُفعلان لغويًا كنوع من أفعال القول الانفعالية المكثفة:

"لطمتْ" فعل انفعالي بدائي يعبر عن ذروة الحزن.

"بكتْ" فعل إنساني يتجسد في الحجر ليصبح علامة رمزية على اختلال نظام الكون بعد مقتل الحسين.

هذا المشهد يعتمد على ما يسميه التداوليون "فعل التضمين الثقافي" (Presupposition)، إذ يفترض الشاعر معرفة مسبقة لدى المتلقي بثقل حدث كربلاء، ما يجعل المعنى يتشكل بعمق داخل العقل الجمعي.

المقصدية التداولية للنص:

تقوم النظرية التداولية على تحليل نية المتكلم وموقفه من العالم. وهنا، نستطيع أن نرصد المقاصد التالية:

1. الاحتجاج الرمزي: القصيدة لا تحكي مقتل الحسين كحدث، بل كـ"نكبة كونية"، فكل شيء انقلب رأسًا على عقب.

2. التفجير القيمي: يعلن النص عبر التداولية انهيار قيم "العدالة، والنبل، والقداسة"، حين يُقتل الحسين، فينهار العالم معه.

3. إعادة تأويل الزمن: الضحى يغدو ليلًا، أي أن الزمن لا يعود وسيلة انتظام، بل هو في حالة انكسار دائم.

4. نقل الحزن من الواقعة إلى الوجود: لا يُصوّر النص حزن الإنسان، بل حزن الكون كله، وهذه قمة البلاغة التداولية.

البعد النفسي الرمزي في تشكيل الذاكرة الشعرية:

إذا أضفنا إلى التحليل التداولي بُعدًا نفسيًا رمزيًا، اتّضح أن الشاعر لا يُوجّه خطابه فقط إلى العقل الجمعي، بل إلى اللاوعي الجمعي أيضًا، حيث تتشكّل الذاكرة الجُرحية بوصفها هوية مكسورة تعيد إنتاج الحزن بوصفه آلية إدراك ووجود.

فـ"النهر بلا ماء" ليس مجرد صورة عن الظمأ، بل هو تمثيل لأنا متصدعة تبحث عن رموز الحياة في مشهد موت. و"الغابة اليتيمة" هي اللاوعي المُجتث من الأمان الأولي، من ظلّ الأم وخصب الأرض، وكل ذلك يُصاغ بصمت الصدمة.

أما سؤال: "قُتِلَ الحسين؟"، فهو تجلٍّ واضح لما يسميه علماء النفس بـ"إنكار الفاجعة"، حيث لا تصدّق النفس ما حدث، فيأتي السؤال محمّلاً بذهول الإنسان أمام الجريمة، ورفضه النفسي العميق لها، وإن أدركها عقليًا.

وحين "تلطِم الملائكة" و"تبكي الحجارة"، فإن النص يُمارس نوعًا من الإسقاط النفسي، حيث تنفجر الذات الشاعرة من الداخل، لكنها تُحوّل ذلك الانفجار إلى رموز خارجية، لتجعل من الفقد صدمة شاملة.

بهذا المعنى، فإن الشاعر يُعيد تشكيل الحدث الكربلائي لا بوصفه قصة ماضٍ، بل بوصفه كربلة الوعي والوجود واللاوعي. فالقصيدة لا تتذكّر فقط، بل "تُكابد" عبر ذاكرتها، وتُقاسم المتلقي فجيعة مستمرة تتناسل رمزيًا في ذاته وتاريخ أمته.

الخاتمة:

إن قصيدة "نهري بلا ماءٍ..." ليست مجرد خطاب رثائي حسيني، بل هي "فعل لغوي مركّب"، يُستعمل فيه الشعر كوسيط تداولي ونفسي لإعادة سرد مأساة كربلاء بوصفها لحظة انكسار كوني وأخلاقي ووجودي.

النص يفعّل استراتيجيات متعددة: الاستفهام، الاستعارة، قلب الزمن، تأنيث الأشياء، إضافة إلى تفجير الرموز اللاواعية في جسد اللغة، ليعيد بناء المشهد من جديد في ذهن المتلقي.

وحين نقرأ في ضوء التداولية والتحليل النفسي الرمزي، ندرك أن القصيدة لا تبحث عن البكاء فقط، بل تسعى إلى زلزلة البنية الذهنية التي سمحت بقتل الحسين، فتصبح مقامًا لـ"بلاغة الغضب المقدس"، وإدانة للوجود الناقص، وتذكيرًا دائمًا بأن الحقيقة الدامية لا تزال تنزف فينا.

***

رياض عبد الواحد

...........................

نهري بلا ماءٍ  ..

وأمّا غابي

فيتيمةُ الأفياءِ والأعنابِ

//

قُتِلَ الحسينُ ؟

فكيف لا يغدو الضحى

ليلاً ..

وشمسُ الصبحِ دون شهابِ؟

//

لَطمَتْ ملائكةُ السماءِ خدودَها

وبكتْ عليهِ حجارةُ

المحرابِ

//

لَعَنَ الإلهُ القاتلينَ ومَنْ لهم

أمرٌ بِسَلِّ مهنّدٍ

وحرابِ

 

يشكّل الأدب دوراً عميقاً ومؤثراً في صناعة السياسة، ويتجاوز كونه مجرد تعبير فني أو ترفيهي، ليصبح وسيلة فعالة في تشكيل الوعي، وبناء الخطاب السياسي، وحتى تحفيز التغيير الإجتماعي، فهنالك أدوارعدة يلعبها الأدب في هذا السياق، يقف في مقدمتها، تشكيل الوعي الجمعي. فالأدب؛ سواء كان رواية أو قصة قصيرة أو شعراً أو حتى مسرحاً، يمكنه أن يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي وينقله بعمق إنساني، مما يساعد على تشكيل وعي الناس الجمعي تجاه قضايا معينة. فمن خلال القصص، وفنون الأدب الأخرى، يعيش القاريء تجارب الآخرين، مما يجعله أكثر فهماً وتعاطفاً، وبالتالي أكثر إستعداداً للإنخراط في القضايا السياسية والاجتماعية.

إن كثيراً من الكتّاب إستخدموا الأدب كمنصة لمواجهة الظلم وكشف الفساد والنفاق السياسي. إذ يمكنه أن يتسلل الى المناطق التي تعجز عنها الصحافة المباشرة للوصول اليها؛ وذلك من خلال الرمز والسخرية واللغة الإبداعية. أيّ بمعنى أنه يشكّل نقداً للسلطة وكشف ما تخفي من أمور الفساد وغيرها.

صناعة الرموز الوطنية

كما أستطاع الأدب أن يصنع رموزاً وطنية وثقافية تكون جزءاً من الهوية السياسية للدولة. فعلى سبيل المثال، شخصيات أو أبطال أدبية مثل (دون كيشوت) في الأدب الإسباني أو (إنكيدو) في الأدب السومري العراقي القديم بملحمة كلكامش، يمكن أن تتحول الى رموز تعبّر عن قيم معينة تتبناها الدولة أو المعارضة للتعبير عن شيء ما. وبذلك فهية من صناعة الأدب. فالأدب أحياناً يؤثر في السياسات بشكل مباشر، حين يتبناه السياسيون كأداة للدعاية أو التعبئة، أو حين يثير ضجة مجتمعية تدفع الحكومات الى إعادة النظر في قراراتها وطبيعة صياغتها، وأحياناً له دور في التأثير بآتخاذ القرار ذاته.

لقد شكل الأدب مصدر إلهام للثورات، فالعديد من الحركات الثورية إستلهمت قوتها من كتابات أدبية قديمة أو معاصرة، سواء من خلال القصائد الثورية أو الروايات التي تعزز قيم الحرية والكرامة والمقاومة، فالأدباء الذين رافقوا الثورة الفرنسية والثورة الروسية أو حركات التحرر العالم العربي والعالم الثالث، كانوا مؤثرين، وشكلوا حافزاً للجماهير، ونضج أفكارها، ومما لا شك فيه، فالأدب يسجل اللحظات السياسية الكبرى، في حفظ التأريخ السياسي، بطرق إنسانية وشخصية أكثر من السرد الرسمي، ويتيح للأجيال القادمة فهماً أعمق لتلك اللحظات. إذ يُعد الأدب مرآة الشعوب ولسان حالها، لكنه يتجاوز في كثير من الأحيان مجرد التوثيق أو التعبير الجمالي، ليغدو قوة فاعلة في صناعة السياسة وتوجيهها. وذلك بما يمتلكه من قدرة على التأثير في العاطفة والعقل معاً، كما يمكن أن يصبح أداة للتمرد، والنهضة، والبناء، والهدم على حد سواء. فالأدب أداة لتشكيل الوعي السياسي، فمن خلال الروايات والقصائد، والمسرحيات، إستطاع الأدب أن يرسّخ قيّماً سياسية كالحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.

 إنّ الكلمة الأدبية لا تكتفي بالشرح، بل تجعل القاريء يعيش التجربة بكل أبعادها النفسية والإنسانية، وهو ما يُحدث تحولاً حقيقياً في المواقف والأفكار. فعلى سبيل المثال لا الحصر، روايات نجيب محفوظ، وخاصة ثلاثيته، لم تكن مجرد حكايات عن أسرة مصرية، بل كانت مرآة دقيقة للتحولات السياسية والاجتماعية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين. لقد جعل محفوظ السياسة في كتاباته ملموسة وحيّة في عيون القاريء من خلال شخصياته وسلسلة أحداثه عبرالأجيال.

بين الأدب والسياسة تأريخ مشترك

إن المتابع للعلاقة بين تأريخ الأدب والسياسة، سيجده كان وسيلة لمقاومة القمع وتعرية الإستبداد في ظل الأنظمة الديكتاتورية، فيصبح الأدب غالباً الملجأ الأخير لقول ما لا يُقال. فالشاعر أو الروائي أو الفنان، يلتف على الرقيب بأساليب رمزية وإستعارية، لكنه يصل الى الجمهور بشكل أقوى من الشعارات والخُطب. ومثال على ما تقدم، فأن الكاتب جورج أورويل في روايته (1948) قدّم صورة عن المجتمعات الخاضعة للرقابة الشاملة، وقد تحوّلت الرواية الى تحذير عالمي من مخاطر التلاعب بالوعي والسيطرة على الفكر.

ففي فترات النضال الوطني أو بعد الإستقلال لكثير من الدول والشعوب، لعب الأدب دوراً في بناء (السردية الوطنية) أي القصة التي تروي من نحن، وما مررنا به، ولماذا نستحق السيادة والكرامة. فهو هنا يُسهم في صياغة خطاب سياسي وثقافي تلتف حوله الشعوب. فشاعرالعرب الأكبر محمد مهدي الجواهيري، ومعروف عبدالغني الرصافي وغيرهما، آستخدم الشعر كأداة للمقاومة، وبث الروح الوطنية عند العراقيين، فأصبحت قصائدهما بمثابة بيانات سياسية تعبّر عن الهوية العراقية في مواجهة فترة الحكم الملكي ومن ورائه بريطانيا.

فهو محرك للثورات والتحولات الكبرى، فالكثير من الحركات الثورية لم تكن فقط مسلحة بالسلاح، بل بالكلمة المسلحة. فالقصائد والمقالات والروايات كانت تحفز الشعوب وتغذيها بالإيمان بعدالة قضاياها. وهذا ما حصل في الثورة الفرنسية، إذ كان فولتير وجان جاك روسو، تأثيرهما الفكري الهائل على الشعب الفرنسي، حيث أسست كتاباتهما وآخرين معهم، لمفاهيم (حقوق الإنسان) و(العدالة الاحتماعية) التي شكلت جوهر مطالب الثورة آنذاك.

لقد كان العديد من السياسيين أّن أعتمدوا على الأدب في خطاباتهم وخطبّهم، وبعضهم كان أديباً بالأساس. فالأدب يمنح السياسي أدوات بلاغية وفكرية تجعله أكثر قدرة على التأثير والإقناع. كما أن اللغة الأدبية تساعد في صياغة خطابات سياسية أكثر إنسانية وأقل جموداً. كما كان الرئيس التشيلي الأسبق (بابلوا نيرودا) شاعراً، وفاز بجائزة نوبل، وكان صوته الشعري مصدر إلهام لملايين الفقراء والمظلومين في أمريكا اللاتينية.

الأدب والتأريخ البديل للسياسة

بعكس التأريخ الرسمي، يقدم الأدب صورة أكثر إنسانية وعمقاً للتجربة السياسية. قد تذكر الكتب المدرسية عن حرب أو ثورة، لكنها لا تنقل أثرها على الناس، بينما يستطيع كاتب أدبي أن يجعلك تشعر بما شعر به الضحايا، المنفيون، الثوار، وكذلك المهزومون. فعندما تقرأ رواية عن الحروب (الطريق الى تل المطران) للكاتب العراقي الراحل فؤاد التكرلي، التي تكشف لنا عن أهوال الحرب العراقية الإيرانية بعيون إنسانية مؤلمة، بعيدة عن الشعارات الرسمية، كذلك الحال لو قرأنا رواية الحرب والسلام للروائي الروسي تولستوي، فتجد مدى قوة تأثير الأدب لدى المتلقي.

إذاً، يُمكن القول إن الأدب ليس فقط شاهداً على السياسة، بل فاعل فيها ومشارك في صياغتها. هو الأداة التي تشحذ الوعي، وتفك السلطة، وتعيد تعريف المفاهيم، وتوحد الناس حول قيم ومبادئ، لا تنتهي بآنتهاء الرواية أو القصيد، بل تبدأ منها.

الأدب كجسر بين الثقافات والسياسات المختلفة

ففي عالم تتشابك فيه المصالح السياسية وتتباين فيه الأيديولوجيات، يبقى الأدب واحداً من أنقى وسائل التواصل بين الشعوب. الذي يتجاوز الحواجز اللغوية والسياسية ليكشف عن الإنسان المشترك في كل مكان. وعندما يقرأ القاريء العربي رواية أمريكية تنتقد العنصرية، أو يقرأ الأوربي شعراً منفياً عن القضية الفلسطينية، تحدث لحظة من التفاهم الإنساني والتقارب تتجاوز الدبلوماسية والسياسة.

هذا البعد الإنساني الذي يتيحهُ الأدب هو ما يجعله عنصراً مهماً في (الدبلوماسية الثقافية)، حيث تسهم الروايات والمسرحيات والشعر، كذلك الفنون، في تليين العلاقات بين الدول، وفتح أبواب الحوار غير الرسمي، وبناء صورة إيجابية للشعوب تتجاوز سياسات حكومتها.

إنّ العلاقة بين الأدب والسياسة ليست علاقة تبعية، بل شراكة معقدة ومتشابكة. فكما تستعين السياسة بالأدب لبناء خطاباتها وتجميل صورتها، فإن الأدب يحتفظ لنفسه بحق النقد والرفض والتمرد. الأدب لا يصنع السياسة فقط، بل يضعها تحت المجهر، ويحمّلها مسؤولية الإنسان، ويذكّرها دوماً بأن ما لا تقدر على تغييره القوانين، قد تغيره القصيدة أو الرواية أو الفنون الأخرى بكل أشكالها.

***

د. عصام البرّام

تسطير منهجي: سنمارس على هذا النص الروائي فنّ التأويل داخل مساحة تيماتية معيّنة درءاً لكلّ إسهاب أو تسيّب في المخرجات التحليلية. ونقصد بذلك البحث في الرواية عن ممكنات تشكّل الإنسان داخل منظوريْن: منظور المؤلّف المبادر إلى المعنى. ثم منظور القارئ المعيد لإنتاج المعنى. مستندين في ذلك على مقولة أرسطو (إنّ في كلّ كلامٍ تأويلا، من جهةِ أن اللغة تعريفٌ لأشياءِ الواقع)

و رواية (اولاد الكريان) مساحة تخييلية تعْبُرُ باللغة السردية ممكنات المعنى وفائض المعنى لتُعرّف بواقعٍ يتعيّن في الزمان وفي المكان ويتصدّر فيه الإنسان منازل ومقاماتٍ تفضح صيرورته بحرفي الصاد والسين مساراً وتحوّلاً، أكثر ممّا تمجدها في دغدغاتِ الإخبار الإمتاعي.

و يقوم منهجنا التأويليّ المتواضع على استنطاق منطوقات الرواية وملفوظاتِها داخل ثلاثِ دوائر:

- دائرة العلامة:

و فيها نبحث عن ممكنات وجود مجازية للملفوظات، وهي تحضر داخل العلامة بشقّينِ: واحدٌ صنعهُ المؤلّف وثانٍ يستنطقه القارئُ\المؤوّل في بحثه عن الدلالات، وهذه الأخيرة ليست قطْعية نهائية تحسم مُخرجاتِ العلامة بقدر ما هي تقيمُ في وضعٍ تأجيليّ، كما عبر عن ذلك جاك ديريدا.

فإذا كانت الدلالة الأولى تستمد وجاهتها من المعنى المباشر الذي ارتآه المؤلف، فإن الدلالة الثانية والثالثة وغيرها، منفتحة على الاحتمال، وتتناسل أشكال هذا الاحتمال المتعددة حسب تعدد عدد المؤوّلين.

- دائرة التقاطع:

أن كل نصّ هو حصيلة تقاطع بين ما نفهمه من النص في لحظته الحاضرة وبين جملة المعارف التي نحملها في تراثنا الإنساني والتي تساعدنا على فهم هذا النص، كموؤوّلين للعلامات في غير انقطاع أو قطيعة مع هذا التراث الإنساني، لأننا نحمله في وعينا وفي لاوعينا شئنا أم أبينا.

خذ أي تيمة في الرواية، خذ مثلا موضوعة المقاومة. فإن تمثّلها لدي القارئ لا تقف عند حدود المعنى الذي رسمه لها الروائي في نصّ (اولاد الكريان) المبادر إلى المعنى، وإنما تتداخل معه معارف المتلقي وتمثلاته الخاصة عن مفهوم المقاومة انطلاقا مما ترسّب في ذهنه عنه انطلاقا من زوايا استقباله للمفهوم الذي تتحكم فيه ثقافةٌ مختلفة ومغايرة. فالقارئ المغربي القادم من زمن السبعينات يختلف في تمثله لفعل المقاومة عن قارئ ينتمي للألفية الثانية... وقارئ الرواية القادم من دروب كوبا مثلا سيختلف تمثله للمفهوم عن قارئ قادم من سويسرا ... وهكذا، فإن المشترك المعرفي الإنساني يتحكّم في إنتاج المعنى وبالتالي سيتحكم في عمليات التأويل. مع الإشارة إلى أن عوامل أخرى لا يتسع المقام لحصرها تدخل في توجيه هذه الدائرة.

- دائرة الأسلاك الشائكة:

و تختلف عن الدائرتيْنِ قبلها بحكم ارتباطها بالاحتراز والوقاية أكثر من ارتباطها بالمنهج في صميمية تفعيله. ونقصد بذلك أننا نحتمي بها في عمليات التأويل حتى لا يتسيّب خارج القراءات المعقولة والموضوعية، وحتى لا يتحول فعل القراءة إلى فوضى يلقي فيها أيّ قارئٍ أيَّ تأويل.

و كأننا ونحن نمارس التأويل على الرواية نصنع لأنفسنا سياجا دائريا شائكاً يحذّرنا كلما شطّتْ بنا القراءة خارج مقتضيات السياق والحال والمقام وغيرها. ويمنعنا من السقوط المجاني في ركوب فوضى التأويل ولذة القراءة العابرة خارج منطق القرائن والأدلة.

تمهيد:

تتألف رواية (اولاد الكريان) من أربع وأربعين حكاية تتفاوت في الحجم. منها الشاملة ومنها المركزة، تفادياً لاستعمال مقولات الطول والقصر باعتبارهما مقياسا كمّيّاً لا يفي بأغراض التحليل والمقاربة والتأويل، وباعتبار هذا المعيار قد أصبح متجاوزا في مجال النقد.

و قد سمّينا هذه الأجزاء أو الفصول حكاياتٍ لأن السارد أسند للقوى الفاعلة مهمة الحكي عن ذواتها وعن غيرها، في تشاكلٍ فنّي يؤرجح عمليات الحكي داخل زوايا نظر متعددة ومختلفة، تضع المتلقي في استشكال التلقي الجمالي الذكي الذي يربأُ بالرواية أن تُسلِم ذاتها في مجانية رخيصة لخطية الحكي الباهت.

الحكاياتُ في منظور قراءتنا هي دوائر إنسانية تتشعب أقدارها وقضاياها ومصائرها ومبدؤها ومنتهاها لتنسجم في بؤرة من البؤر الدلالية العميقة أو العقيمة، انسجامَ تسريد لا انسجام موضوع. فكلٌّ يجري في فلكه ولكنه يتاخم أفلاك غيره في غير ذوبان وفي غير امّحاء.

من هذه الدوائر ينبع معين ثرٌّ لأشكالِ الإنسان داخل الرواية. وهنا لا نتحدث عن الشخصيات أو الشخوص أو القوى الفاعلة. فهذه آليات تنتمي لفن التخطيب الروائي التي تفتح مغاليق البناء السردي للقارئ. أما همّنا فهو تتبع تشكّلات الإنسان في رواية (اولاد الكريان) داخل منظور وجود هذا الإنسان في علاقته بذاته وبالآخر، وفي علاقته بالقضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية والنفسية، وفي علاقته بالهوية أيضا... إننا نشتغل في هذا السياق على تجليات الإنسان في ضعفه الوجودي الموسوم بالتمزق والتشظي والتيه والضياع والحيرة، دون أن ننفي عن الرواية تغنّيها بإنسان الإرادة والقوة الكامنة في تشكّلات المقاومة، سواء لدى الرجل أم المرأة، مثلَ الحضور القوي للغريب ولمينة الحريزية استشهادا لا حصرا...

مقْوَلَةُ الإنسان*:

1 – الإنسان الضعيف: يمثّله في الرواية، العطار الطاهر والد البتول. وهو بدوره يمثل شريحة اجتماعية واسعة في واقع الرواية وفي واقعنا نحن. وأراني لا أجانب صواباً إذا أقحمتُ هذا النوع في خانةِ الهارب إلى ركن الاستسلام خشية أن يطاله شيءٌ من الأذى. وأراني أيضاً أجده في المقولة العربية العاجزة التي ترفع عقيرتها بشعار (كم حاجة قضيناها بتركها). والتّركُ هنا ليس موقفا مؤسسا على قناعة أو توطينٍ للذات بقدر ما هو سلوك غير مسؤول يركن للدعة والاسترخاء والهروب والاستسلام، في غير حضور وفي غير قرار...

الإنسان في هذه النمطية مصنوع من مادة الخوف المجاني. ( وكان خوفه من البوليس خرافيا. كان داخل سوق راسو بشكل مبالغ فيه، تخيفه كلمة سياسة وكلمة مقاومة. هاجسه الأول أن يأكل رغيفه دون عناء – الرواية ص 11).

و لا أدل على ذلك من أن السارد قد ضاق بهذه الشريحة ذرعا فقال مشمئزّا (داخل سوق راسو بشكل مبالغ فيه). بمعنى أن هناك حدّا مقبولا للخوف قد يلتمس فيه الشارد للمعني بالأمر بعض العذر، زيادةً وإيغالاً في تصوير هذه الشريحة تصويراً واخزا مُدينا وشاجبا.

لا يمثل الطاهر نفسه، في تضييقٍ لأفق الرواية وفي تعقيمٍ لانسرابها داخل نسغِ الكتابة الفنية الناقدة والمنتقدة، بقدر ما يمثّل شريحة اجتماعية سادت قديماً وتسود حاضراً وتعيش في الظل البارد الموبوء برطوبة الوجود؟

تصور الرواية الإنسانَ في هذا المقامِ ضعيفا، وخائفا، وعاجزاً أيضا عن صناعة القرارات والحلول لذاته ولذويه. ولا أدلّ على ذلك من عجزالطاهر عن استيعاب مشكلة ابنته البتول لولا أن تدخّل الغريب وصنع بدله قرارا غيرياً ينقده وماءَ وجهه.

ليست مفرداتُ الضعف والخوف والعجز صفات ملتصقة بفردٍ نكرة في الرواية وفي المجتمع، إنها مقولات وجودية تكاد تطال الجميع بما فيهم البتول ووالدتها والتباع وولد اغضيفة وعلال وعبدالقادر ومسعود وغيرهم. وهي مقولاتٌ وجودية تأخذ أحجاما مختلفة باختلاف طبيعة الإنسان الموصوف في الرواية. وتتفاقم مفرداتها في شخص الطاهر الذي رسمته الرواية في صورتيْن: صورة الطاهرالممثّل للحالة العابرة وصورة الطاهر الكينونة. وهذه الكينونة تخرج من شرنقة المفرد إلى صيغة الجمع لتدين نمطية بشرية اختارت الظل البارد الموبوء برطوبة الوجود عوض المواجهة، على حساب وجودها ووجود المقاومة والتاريخ، وإن كانت المقومة والتاريخ لا يحتاجان إلى مثل هذا الإنسان.

الخلاصة إذن، أن الرواية هنا لا تسجّل في مرآتية عقيمة ضعف الإنسان الذي تنتشله من خبايا الواقع وتلقي به في ردهات الخطاب الروائي. إنها تخييل ماكر يقبض على المعنى، ومنه معنى الضعف البشري، في أتون الإدانة والشجب الصامتيْن.

- اولاد الكريان، رواية لا تسجّل

- اولاد الكريان، رواية لا تمارس أدوار الفوتوغرافيا

- اولاد الكريان، رواية لا تنسخ الواقع بسلبية فنية عقيمة

- إنها رواية تعيد إنتاج الشكل الإنساني\البشري الضعيف في قالب تخييلي يتجاوز التوصيف والإخبار والحكي إلى إفعام الخطاب بأكثر من سؤال. وبالتالي فهي تفتح للمتلقي شهية المساءلة بعيداً جدّاً عن هدفية الإمتاع والمؤانسة.

2 – الإنسان \ الضحية:

ويتعلق الأمر باستخلاص صور الضحية من خلال البتول، الطفلة ذات الأربعة عشر ربيعاً أو خريفاً إن شئنا حقّ التعبير. وهي تمثّل الإنسان الهش الذي:

- تعرّض للاغتصاب

- ديسَ على إنسانيته

- اختزله المجتمع في بؤرة الجسد الجميل

- اختزله المجتمع في بؤرة اللذة فقط

- حرمه المجتمع من حقه في التعلم والتعليم

- رمى به المجتمع في صيرورة لا يريدها ولا تشبهه

- المجتمع يصنع قراراته بدله

- فرض عليه المجتمع وضعاً عائليا بإكراه

- حرمه من الإحساس بعاطفة الأمومة

- حرمه من ممارسة الأمومة

- جعله يعاني مأساة الفقد المبكر في فلذة كبده

- ...

والرواية في هذا المقام لم تقْسُ على الإنسان الضحية بقدر ما فضحت من خلاله شراسة الآخر وجبروته الجاهل وأنانيته المقيته ودونيته المرضية وعقمه الغريب في إنتاج أو تبني القيم الإنسانية.

تأويل الإنسان\ الضحية ليس بالأمر الهيّن في سياق رواية ذكورية بامتياز. إن كلّ ما قيل عن هذا النمط هو تحصيل حاصل، وهو تحويل تراكم الخطاب الروائي في متنه إلى متنٍ آخر يمارس عمليات التصنيف فقط. وهذا ليس مطلوباً في مقاربتنا التي تتغيّى تأويلاً أكبر وأكثر.

من هنا السؤال:

- هل كن في وعي السارد طرح مسألة الجندر؟

- هل يمارس السارد ضغطا حريريا على القارئ للالتفات والالتفاف حول ظاهرة الاغتصاب أو ظاهرة الحرمان من الحق في التعلم؟

- هل يكتفي السارد برصد الواقع المتعيّن في فترة الاستعمار والمقاومة ولوضع المرأة داخل هذا السياق الزمني والحضاري؟

- ألا تكفينا الدراسات الموثِّقة والموثَّقة النازحة من رفوف البحث العلمي لرصد واقع الأنثى بكل الدقة والعلمية الممكنتيْن ؟

- لماذا تأخذ البتول، وهي نموذج الإنسان\الضحية كل هذا الحجم السردي في الرواية؟

- لماذا تمحور الحديث عليها علما بأن الرواية وسمها صاحبها بالإسناد الذكوري (اولاد الكريان)؟

هذه أسئلة وأخرى تتناسل في هذا الاتجاه، تفيدنا أن المسألة لا تتعلق بتوصيفٍ يقدم للقارئ المعلومة عن مسألة الجندر في زمن الاستعمار والمقاومة، وإنما الأمر يتعلق بتخييل روائي يتجاوز الوثيقة والمرجعية العلمية. إنه تصور فنّيّ يروم السفر بذات المتكلم الواصف من رهان الألفية الثانية زمن تأليف الرواية (2024) إلى رهان البناء لعوالم تخييلية ممكنة تتقاطع فيها البتول الماضوية مع البتول الحاضرة وتطرح السؤال التالي: إلى أي حدّ استطاعت البتول اليوم الخروج من الأسر الثقافي؟...

و هكذا نستوعب الدرس جيّدا من السارد وهو يرمي في آذاننا وفي وجداننا أن الضحية أكبر من البتول... فالطاهر ضحية، والأم ضحية والتباع ضحية ومسعود وعلال وغيره ، ضحايا. والإنسان\الضحيةُ في الرواية ينقلب من حالة اجتماعية يمكن رصدها في دراسات علم الاجتماع، وفي غيره من العلوم، إلى حالة إبداعية تدين السياق التاريخي كله، وفيه تنبّه الرواية شرائح المتلقين إلى أبعد من وصف وتوصيف، ومن تخييل... تنبّههم إلى صيرورة استعمارية استغلت معطيات الجهل وافقر آنذاك، وحوّلتها بفعلٍ مبيّت وممنهج من استعمار مسلح إلى استعمار فكري يحلل الخلل في بنيات الإنسان والمجتمع بصورة مركبة أشد التركيب، ومستعصية أشد الاستعصاء على الفهم والاستيعاب والإحاطة والمعالجة.

تأتي الرواية لتفتح للقارئ منافذ أخرى لاستيعاب القضية من وجهة نظر أدبية تخييلية تكشف أوراق الاستعمار وتفضح صيرورته المبيّتة في الفتك بالهوية. وهي منافذ ونوافذ تجعل قراءة التاريخ ممكنة خارج قصدية الاعتبار وحده، كما دأبت الرؤية الخلدونية تفعل ذلك، إلى قصدياتٍ أخرى أكثر ارتباطا بالرؤيا بألف ممدودة ومنفتحة على ثقافة السؤال ثم الإدانة من داخل عوالم الأدب لا من داخل الوثيقة. والفرق بين العالمين لا يحتاج إلى شرح أو تفسير.

3 – الإنسان الشهواني: ندلف إلى هذا النمط من خلال ولد اغضيفة الذي رسمته الرواية جبارا في الحومة لا يُرفض له طلب، وتهابه الساكنة وتشتري رضاه بالأداء والعطايا...

لا تهمنا صورته في الرواية، وتهمنا تداعياتُ حضوره كحمولة إنسانية (بالمفهوم الوجودي لا بالمفهوم القيمي) قابلة لتفجير الكثير من التأويلات.

و هو لا يمثل ذاته فحسب، وإنما يمثل شريحة واسعة في الواقع وفي المتخيل الروائي، ارتضت أو ارتضى لها قدرها أو ارتضى لها السارد ألا تنخرط في الفعل الإيجابي (المقاومة مثلا). وانخرطت في مسالك رخيصة نتيجة ظروف ذاتية وموضوعية لم يبحث فيها السارد ولا القارئ. فهي في حكم المعلوم الرتيب والمألوف. ولد اغضيفة وفي تغييب تامٍّ لاسم الأب، يشي بالوجود الهجين، ووضعية النشاز.

تتمثل شهوانية الإنسان في سياق الرواية داخل ثلاثِ محطات: اثنتان صارختان هما: محطة اغتصاب البتول، ثم محطة اغتصاب مسعود...وثالثة مسكوتٌ عنها هي اغتصاب التباع... وهو الفعل الذي ترسمه سياقات الرواية بنوع من التكتّم والمحافظة تزيد تكتمه ومحافظتَه بلاغة السارد.

الإنسان في هذا السياق الروائي الماكرمُفْرغٌ من أدنى حسى إنساني، وأتساءل إلى أي حد كان بإمكان المغتصب أن يقف عند حدّ ممكن ؟

هذا الفراغ الإنساني مفارقٌ في ذاته ومفارق في غيريته، بدليل أنه تحوّل إلى كائن تصنعه مادة النهم واللاشبع. قال (سأكون أنا البادي. ولن يمسّها غيري. هي لي أنا وحدي من الآن فصاعدا. هل من معترض – الرواية ص 6)

لاحظ معي أيها القارئ منطلق حديث المغتصب وكلامه. إنه التصور الرخيص الذي تبنيه ثقافة الشارع، وفيها يلغي الإنسانُ الإنسانَ ويشيّؤُهُ ويقصي إنسانيته إلى درجة تحويله إلى نكرة تشبه البضاعة (هي لي أنا وحدي) في سردٍ تصويريٍّ يبلغ بالمعنى أقصى حدود القسوة والوخز الدلالي.

و في اتجاهٍ آخر، ومعاكس، يتحول الإنسان إلى كائن مفترس يترصد الضعف أينما كان وينقضّ عليه ليمارس عليه علويته المرضية وقوته الوهمية وشهوانيته المقيتة.

قال الحاكي (ولأنه بضٌّ وجميل أثار شهية ولد اغضيفة، وشهية ولد اغضيفة أمر لا مناص من إرضائه – الرواية ص 19). هذه الشهوانية تيمةٌ تتعقّبها الرواية في محطات أخرى منها شهوانية عبدالقادر وشهوانية الفقيه سي عيسى و...

و أكاد أقول إنها شهوانيات عابرة في مساحة الرواية السردية، ولكنها مرضية مادامت تمارس شبقها على البراءة. تجد هذه الحالة المرضية تعبيرها الروائي المشحون بالقسوة والنهم في قول السارد (صرف الفقيه التلاميذ وأمر البتول بأن تستظهر أمامه حزبا كاملا. " سبّح باسم ربك الأعلى ". استظهرته دون تلكؤ فأبدى إعجابه بها، عانقها، ضمّها إليه بحنان خاص. قبّل وجنتيْها، ثمّ امتصّ شفتيْها الصغيرتيْن من فرحته بنجابة تلميذته. حكت البتول لوالدتها عن فرحة الفقيه بها ولم تخفِ عنها شيئا – الرواية ص 9).

أنظر معي للوصف كيف جمع بين إدانةِ الفعل وبين وخز الفعل، في تصوير فنيّ لا يغلّف الحكاية بزينة البلاغات بقدر ما يًبرّز الفعل في أقصى حالات الهبوط المرضي للإنسان المدّعي فقها أو على أقل تقدير حملاً لكتاب الله في صدره. وكأنني بالقارئ الآن يستدعيه السارد في هذا السياق كي يكون ثالث ثلاثة ليأخذ بعنق الفقية ويوسعه ضربا مبرحا.

4 – الإنسان\ الجسد: نقصد بذلك اشتغال الرواية على تيمة الجسد كخطيئة في سياقٍ محظور تملي ضوابطَه الملةُ والدين والعرف والاجتماع وكل المواضعات.

نرصد هذه التيمة داخل شخص مسعود الملقّب في الحكاية بالمزغوب في إطار لعبة دلالية مفارقة، كما شأن السارد في توليفات علامة اسم البتول في نقيض ما وقع لها.

يقدم السارد شخصية مسعود كائناً جميلا يشبه والدته. وقد قيل عنه إنه كان أجدر به أن يُخلق أنثى.

لا يمثل مسعود ذاته في خلاء العبارة وجفاف الإشارة بقدر ما يمثل شريحة اجتماعية، هي على قلّتها تعاني قديما وحديثا من وضعٍ اعتباريٍّ لا يرحمها، ولا يضعها الموضع المناسب لتمارس حقّها في الوجود السويّ دون مواربة أو خوف أو شعور بالنقص.

و السارد هنا يمارس فعل الحكي أولا لهذه الظاهرة، وثانيا يخبرنا أن الكتابة عن هذه الظاهرة لابد أن تخرج من أقبية التابوهات إلى الاستجابة الثقافية للمستجدات والظواهر الحادثة والحاملة لعلامات النشاز في المجتمع العربي والمغربي خاصة. وحتى لا يقولّني القارئ ما لم أقل فأنا لا أتبنّى خروج الظاهرة إلى العراء والإعلان في سياق الشرعية أو اللاشرعية، فهذا مقام لا أخوض فيه.

و كأن حساسية الموضوع التي شكّلت حرجاً لبعض الكتاب العرب وجدتْ هنا وفي رواية (اولاد الكريان) يراعاً جريئاً فسح لها المجال في جمالية سرديةٍ متميّزة، للتجلّي والتمظهر أو للهمس والصراخ، أو للكشف والبيان. وفي أقل تقدير ممكن فالرواية فسحت للظاهرة مساحة فنيةً للحضور من زاوية القيم، وأقصد بذلك قيمة الحرية.

إن إشكالية علاقة الجسد بمثله إشكالية تأخذ هنا بعدين: واحدٌ واقعي تلفّه طبقاتٌ من التّكتّم والغموض بحكم رقابة الدين والأعراف. وثانٍ تخييلي يمتطي صهوة الشكل الروائي، وينحت طريقه إلى القارئ في تؤدة ملحوظة نظرا لوطأة الموضوع على المتلقي العربي. (ثم اقترب واقترب أكثر. كان يحب عينيه. نظرته كانت تشله. شرع مسعود يداعب مكامن الإثارة في خليله ويضحك. والآخر يردد: كم أحبّ ضحكتك. – الرواية ص 23). إن المتخيّل الروائي في (اولاد الكريان) لا يهمه ما وقع للجسد في صحبة الجسد بقدر ما يهمه الصدق الفني في نقل الواقعة في اتّجاهٍ، سمِّهِ أنت اعتبارا، وأسميه أنا انتقادا، ويسميه ثالثٌ جراةً، ويسميه رابع إخلاصا لنسغ العلاقة بين الواقعي والمتخيل، ويسمّيهِ خامسٌ وسادسٌ وهلم تأويلا، في إطار تحدثنا عنه في المقدمة المنهجية القاضية بترك الدلالة في وضعٍ تأجيلي إنصافاً لكل التأويلات الممكنة.

و تأويلنا للظاهرة لا يشط بعيدا ونحن نقول إن الرواية لا تدين الفعل فحسب، بل وأيضاً وأساساً، تمارس قراءتها للظاهرة داخل نسق نفسي لا ننتبه إليه إلا لماما، هو أن الشعور بالوسامة الذكورية لا ينبغي لأن يكون مدعاةً للخوف والقلق والاستلاب في الهوية الذكورية. وأركز على قراءة الرواية للجانب النفسي لأن مسار الحكي أفشى ما في قلب مسعود الذي تحوّل من كائن مستسلم إلى كائن مشتعل بروح الانتقام وعامر بالغضب.

و الأمر في آخره يكون إدانة لا لسلوك فردي وإنما هو إدانة لظاهرة جمعية موجودة في الواقع، وتدخل الرواية المجال لتقول في المسألة شيئا ممكنا تخييلياً وفنيا...

لا يسعنا في هذا المقام إلا أن نكتفي بهذه الأنماط في تشكل الإنسان داخل الرواية، علما أن المسار طويل ومتشعب، لأن الرواية تتناسل فيها الأشكال وتتداخل وتتشعب. نذكر منها الإنسان التقليدي في شخص والدة البتول وخناثة اللتين تمثلان شريحة المرأة\الشبح التي لا تمارس دورها إلا في العلاقات الاجتماعية التقليدية العادية. ولا تحضر في الرواية كأصوات متميزة وكعلامات لا تنتج الدلالة إلا داخل مقولة القبول والاستسلام للسائد.

 ومنها تشكل الإنسان السلبي والانتهازي الذي يركب الأحداث ليرتقي في السلم الاجتماعي، ونذكر هنا شخصية التباع الذي يمثل هذه الدلالة في حضورٍ روائيٍّ تباينت فيه مواقع التباع من حضور سلبي امتطى فيه المقاومة لاحتلال منصب إداري، إلى حضور إيجابي تمثل خاصة في إنقاد البتول من وضعية الانتظار، ولو بشكل عابر ومؤقت قبل أن يكتشف عجزه البيولوجي الفاتك بوجوده فتكاً صمتت عنه الحكاية، وتركته مفتوحاً في أفق تحريك تأويلات ممكنة...

- خاتمة:

لم نأل جهدا في البحث عن تشكلات الإنسان القوي في رواية (اولاد الكريان) انسجاما مع عنوان المقاربة وأخلاصا لنسغها في البحث المتواضع عن صور لهذا الإنسان في انحداره البشري. علماً أن مبدأ القوة واردٌ بشكل ملفتٍ في الرواية، وأكاد أجزم بأن المؤلّف تبنى رهان القوة في رسم معالم الإنسان داخل منظومة المقاومة عبر شخوص وقوى فاعلة لامس السارد من خلالها كثيرا من القضايا، مثل شخصية الغريب وشخصية رفائيل ومينة الحريزية وغيرهم ممّن حضروا في المتخيل الروائي حضورا ممتدّاً غيّروا من خلاله مسارات الأحداث.

و ارتأينا أن نركز على سمات الضعف لا لترجيحٍ أو مفاضلة بقدر ما الأمر قد تعلّق أساساً باختيار لزاوية نظر ونحن نروم مقاربة رواية في حجم (اولاد الكريان) وهي تتحدّانا بقدرتها الفنية على صناعة التخييل السردي داخل نسق إبداعي رمى يكل الثقل على الذاكرة والتاريخ والإنسان. وفي هذا النزوع رسمت الرواية لوحاتٍ قويّةً لغةً وحكياً وبناءً لإنسان الهامش في منطقة بيضاوية موسومة باسمٍ قدحي في الوجدان الشعبي المغربي الذي ألبسَ مفردة الكريان صبغةَ النقصان والدونية، فيما الأمر عكسٌ ونقيضٌ تمام العكس والنقيض... ذلك أن الكريان مقولةٌ مكانية مشبعةٌ بالزمان والإنسان والثقافة، وهي مقولة حمّالة أوجهٍ كثيرة، ترفل فيها دلالاتُ الثراء الفكري والثقافي والسياسي والشعبي وغيره من أشكال الثراء المعنوي. ولقد أشارت الرواية إلى ذلك في منعطفات متعددة من الحكي نذكر منها على سبيل التمثيل كلّاً من مقولة المقاومة، ومقولة التحول النسقي والوجودي في عقليات الشخوص ومصائرها مثل تحول علال وعبدالقادر من حالات التسكع والتيه إلى كينونة الإبداع والتصالح مع الذات والواقع: علال يتحول إلى مسرحي وعبدالقادر إلى ملاكم وولد اغضيفة إلى كائن ورع ومتصالح...

إن ذكاء السارد كمُنَ في الإشارات البسيطة والتفاصيل الأبسط حيث تقيم الدهشة الروائية الإبداعية، ومثال ذلك إضاءاته المتعلقة بتفاصيل الشموع وقناديل الزيت التي كان يستضيئُ بها أهل الكريان إبّان الاستعمار، وهي الأدوات نفسُها التي استضاء بها في زمن الاستقلال، في إشارة واخزة من السارد إلى أن دار لقمان بقيت على حالها، إدانةً لعمليات التغيير النازحة من قرار الاستقلال والتي لم تطل هذا الفضاء الذي يُشار إليه في كثير من السياقات أنه حيٌّ كان وراء استقلال أمّةٍ بكاملها.

***

بقلم نورالدين حنيف

......................

* المَقْوَلَةُ نشاط ذهني يفيد في تصنيف الأشياء والظواهر انطلاقا من اعتبارالمقولة استراتيجية معرفية أساسية في إدراك المفاهيم

تفضّل فأرسل لي الأستاذ الدكتور قصيّ الشيخ عسكر كتابه المثير للدهشة والجدل الذي يحمل عنوان" روايات وقصص من الخيال العلمي". وصلني هذا الكتاب بتأريخ 20.1.2011 مع كلمة إهداء لا أحلى ولا أبلغ منها حتى أني حسبتها جزءاً من قصص خياله العلمي الكثير السعة والمرونة. قرأتها بتمعن حين وصولها لي فكتبت أو خابرت الدكتور قصي ووجهت له سؤالاً واحداً: هل اختصاصك الفيزياء؟ قال كلاّ، إختصاصي اللغة والأدب العربيين ! لم يزدْ عَجَبي حسبُ إنما وازدادت حيرتي وزاد حَرَجي: ماذا عساني قادراً على الكتابة عن مثل هذا الأدب الذي رأيته ولم أزل أكبر مني ومن كل ما لديَّ من قدرات متواضعة محدودة قصيرة الباع والذراع؟ ماذا سيقول مثلي في مثل الأستاذ الدكتور البصراوي قضي الشيخ عسكر؟

الوقت والفراغ وتكالب العلل (تكسّرت النصالُ على النصالِ / المتنبي) تجمعت فوق رأسي لا حسب قانون التراكمات الكميّة والتحوّلات النوعية ولكن حسب قوانينها الخاصة وفوق وأول الجميع أحكام وقوانين العمر والزمان. أغرتني ـ ولا أقولُ أجبرتني ـ هذه الأحكام والعوامل على تقليب ما في مكتبتي من كتب منوّعة الأغراض والموضوعات وروايات أتاني أغلبها هدايا من أصدقاء ومعارف من كلا الجنسين بل ومن أناس أخيار نبلاء لا سابق معرفة جمعتني بهم. فوجئتُ بكتاب الأستاذ قصي رافعاً رأسه من بين مجاميع هذه الكتب فوسوست لي النفس الأمّارة بالخير والفضول وحب الإستطلاع أنْ أُعيد قراءة ما فيه لعل الزمن ليّن أو ألان صعوبة ما فيه من قصص خيالية لا ولن تقع في الدنيا ذات يوم. الأكثر صعوبة هو إختلاف الموضوعات بشكل بحيث لا يجد القارئ شيئاً أو خيطاً يجمعها أو يجعلها تقف في صف واحد ليقارن ويوازي ويختار الأفضل أو الأكثر إثارة. لذا قررتُ أنْ أمشي في طريق آخر عسى أنْ أحظى ببعض النجاح في محاولاتي لفهم وتحليل وتفسير قصص الأستاذ قصي. أعني أعمل مسحاً عاماً شاملاً لكافة قصص الكتاب من غير تسلسل رقمي لصفحات الكتاب. وأضع أسئلة دقيقة ثم أنتهي بتبني مخطط للنقد أو القراءة فحواه أني أفهم النصوص بعقليتي الخاصة وما فيَّ من قُدرات على التفسير والإستنتاج لا حسبما يريد ويتوقع كاتب النص. قد أقلب النصوص وأحفرها وأُنقّب تحت أديمها وما فوق هذا الأديم لأجد شيئاً يُريحني ويُقنعني وينفع القرّاء الكرام ويفكُّ الكثير أو بعض ما يعتري النصوص من غموض وإشكاليات. إتفقنا؟ إذاً فلأغامر وأرفع قلوع السفينة كملاّح سندبادي غشيم لا علمَ له بعالم الملاحة والإبحار.

في الكتاب 12 قصة ست منها قصيرة جداً وقد أطلق الأستاذ المؤلّف عليها " قصص قصيرة جداً من الخيال العلمي " ليته لم يدرجها في كتابه الطريف هذا... ليته ! شأنها شأن المسكين المغضوب عليه " حنّون " الذي لم يزدْ في الإسلامِ خَردلةً ولا النصارى لهم شغلٌ بحنّونِ. أراها زوائد خاصة وقد وضعها قصّي جميعاً في آخر الكتاب كأنه مثلي مقتنع بأنها زوائد دودية أو زوائد غير دوديّة ... مع احترامي لقرار الدكتور نجل الشيخ عسكر صاحب المعجزات.

كيف أبدأ بل وبِمَ أبدأ؟ إسعفني يا عزيزي قصي. المهمة صعبة وليتك قريباً مني لأسألك وتُجيب ... لأحاورك بحرارة وتُسهب بطرح التفاصيل. ليتك ! طيّب، أسئلتي:

1 ـ ما أهمية ودلالات الأعوام: 1956 .. 1966 ... 1973 ... 1976 ... 1986 وهل في أحدها ما يُشير إلى عام ولادتك؟ أظن أنه عام 1956 فما رأيك بظّني هذا؟ إنه ظن نظيف خالٍ من أي إثم.

2 ـ على أي أساس ومذهب جمعتَ ناساً من ديانات وقوميات وأقطار مختلفة أعني:

/ أمير عربي ...رحلت شقيقته مع عشيق

/ طالب صيني

/ صحافي يهودي من الدنمارك ...مراسل صحيفة غطّى حرب 1973 المصرية الإسرائيلية

/ جندي أمريكي قُتل في حرب فيتنام عام 1966

/ أستاذ جامعي اسمه كارلو لعله أرجنتيني.

بصراحة ... الكلام بيني وبينك: وجدتُ المراسل الصحافي اليهودي الدنماركي " موشي " مُقحماً إقحاماً أفلمْ يكنْ من الأفضل إهماله؟ أراه عديم اللون والرائحة والطعم ! في بعض قصصك ذكرتَ أنها كُتبت في العاصمة الدنماركية كوبنهاكن ! ثمَّ .. هل التقيتَ بأحد هؤلاء ممن ذكرتَ وفي أي بلاد تمَّ ذلك؟

 قصيّ والزمن والضوء واللون

هنا وهنا بالضبط يكمن بيت القصيد وهنا نجد الكاتب في فلسفته الخاصة ـ العامّة حول مبدأ " وَحدة الوجود " وأنَّ الكون وما فيه مكّون من مادة واحدة وإنْ تغيّرت وتفاوتت أشكالها وحالاتها الفيزيائية. قد يكون في صلب فلسفة الدكتور قصي أنَّ الفوتونات الضوئية هي أساس وأصل ومبتدأ مادة الكون وهي وجهة نظر تستحق الكثير من التأمّل. الألوان موجات كهروـ مغناطيسية من نفس طبيعة الضوء ولكنْ ما شأن الزمن بالضوء وهل من علاقة بينهما تربطهما بشكل خاص وطبيعة خاصة؟ على القارئ فك الشفرة بين الزمن والضوء. قرر آينشتاين منذ زمن بعيد أنَّ أكبر سرعة في الكون هي سرعة الضوء (هناك شكوك اليوم حول هذه النظرية). ولكنْ تبقى المعادلة الزمن ـ الضوء قائمة لا أحسب أنَّ الأدب والأدباء قادرون على حلّها لكنهم لا ريبَ قادرون على وضع فرضيات ونسج قصص من بنات الخيال وكل الكشوفات في بداياتها خيال وتهويمات وسياحات فضائية فلكية كأنَّ واضعيها سحرة أو من عالم آخر.

قُلْ (ولا تَقُلْ ..) لنا أستاذ قصي والرحمة لأبيك الشيخ عسكر: ما رأيك في معادلة الزمن ـ الضوء؟ هل درست نظريتي آينشتاين النسبية الخاصة والنسبية العامة؟ يبدو لي أنك فكّرت وما زلت طويلاً في مسألة البعد الرابع الذي دعاه آينشتاين " الزمكان / زمان ـ مكان " ولكن لا متسع للضوء هنا. ذكرَ قصيّ آينشتاين في الصفحة 79 فقال:

(... لحظتها تذكّرَ أنَّ هناك عالماً في القرن العشرين يُدعى آينشتاين تحدّثَ في نظريته النسبية فأشارَ إلى أنَّ الأجسامَ إذا سارت بأعلى من سرعة الضوء تحدّبت مثل الكون المدوّر ودخلت في سرمدية أبدية). لستُ متأكدّاً من مقدار صحة هذا الكلام لكني متأكد من صحة ودقة قول أينشتاين من أنَّ لا من سرعة للمادة المتحركة تفوق سرعة الضوء. وأنَّ الضوء أثناء قطعه لمسافات بعيدة جداً يفقد مساره المستقيم في قطعه للمسافات القصيرة ويتحدّب تحت تأثير تحدّب الفضاء الكوني. إذاً لا من سرعة أكبر من سرعة الضوء وأنَّ الكون مُحدّبٌ وليس مدوّراً . تمام أحدب نوتردام؟ هل حدبتك مدوّرة؟ التحدّب شئ والدائرة شئٌ آخر كما علّمتنا هندسة إقليدس.

كتطبيق حي لمقولة ونظرية وحدة المادة في الوجود (المتصوفة كذلك يقولون بوحدة الوجود) خلط الدكتور قصي نماذج من البشر من أقطار وقوميات وديانات شتى وبذل جهوداً كبيرة في التنقّل بين هؤلاء القوم وخلط أسماءَهم فخالد مرة خالد العربي ومرة أخرى هو الصيني شوان أو الأرجنتيني كارلو أو اليهودي موشي هؤلاء أقوام شتى ولغات مختلفة لكنهم جميعاً في نهاية المطاف بشرٌ من نفس النسيج والخلايا وذات الأعضاء وتؤدي هذه الأعضاء نفس الوظائف ولون دمهم هو هو مهما اختلفت الجلود في ألوانها. قال قصي على الصفحة 35 ما يلي:

(ـ موشي .. بْلْ .. كارل .. خالد ناموا

حين دخل البروفسور الغرفة الخاصّة بالمريض هبّت بوجهه احتجاجات واختلطت أصواتٌ ولغات، كل واحد من هذا الواحد الشاخص أمامه على السرير، يحاول أنْ يثقبَ الزمن ليعرفَ حقيقة الوقت الذي وُلِدَ فيه أو وقتَ حدثٍ عظيم جعله يفقد الوعي. كان كل واحد منهم متأكّداً من فعلته، أما وجوده الحالي فيفسره بأنه محاولة من الطب تغلّبت على الموت، لكن هذا الواحد المتعدد في أكثر من زمان ومكان بدأ صبرُهُ ينفد، وعندما أحسَّ البروفسور بإمكان حدوث فوضى لجأ إلى التنويم المغناطيسي وأوحى بعبقريته في ذلك العلم إلى الثلاثة بالنوم لينفردَ بشوان الصيني وهو آخَرُ مِنْ هذا الواحد الجمع الذي لمّا يكتبْ مذكّراته بعدُ:

ـ هل نحن وحدنا يا شوان؟

يتطلّعُ إليه بعينين سكنتا عند مجال مغناطيسي فبدتا أشبه بالمتجمدتين:

ـ أشعرُ كما لو أني نائم صاحٍ.

ـ أنت الثلاثة نائم، وأنت شوان الواحد صاحٍ).

الزمن نعم الزمن ! كيف يثقبُ أحدنا الزمن؟ هل الزمن جدارُ قابل للثقب بمثقب كهربائي مثلاً " درْلْ " ليرى الماضي فالزمن متصل لا ينقطع وسيأتي يوم يمكننا العلم فيه أنْ نرى مستقبلنا وما سيجري لنا من أحداث فيه وما جرى في سالف الأزمان الغابرة والسحيقة بالقِدم. هنا يحضرني شعر قاله المرحوم عبد الوهاب البياتي حول استمرارية الزمان:

وزورقُ الأبدْ

مضى غداً وعادَ بعدَ غدْ ....

هل يختلط الزمنان الماضي بالمستقبل الآتي (مضى غداً وعاد بعد غد) ! كيف يعود الماضي بعد غد والغد مستقبل لم يأتِ بعدُ؟ تدور على هذا المحور فكرة الدكتور قصي الشيخ عسكر. وحدة مادة الوجود والزمن هو هو يتحرك بثبات لا أولَ له ولا له نهاية. ماضٍ بصمت وحكمة وجلال من الأزل إلى الأبد شأنه شأن هذا الكون غير المتناهي الذي نجهل أصله ومبتدأه والحكمة من وجوده. أسأل: من هو الأول الزمن أم الكون، المادة؟ أنا أقول وأكيد قالها الفيزيائيون قبلي: لا يمكن الفصل بينهما فلا مادة ولا كون من غير زمن ولا زمن من غير المادة. فإذا كانت السرعة هي مقياس حركة المادة المتحركة فالمادة هي مقياس حركة الزمن والزمن بدوره هو وعاء المادة في سكونها وحركتها.

أتعبتنا أخانا العزيز أستاذ قصي وحرّكتنا بعد خمول كالجمود كأنك ربيع وشهر نيسان الشاعر توماس إليوت الذي يقسو على براعم الربيع إذْ يخرجها من أكمامها ومكامنها حيث كانت تنعم بالدفء والراحة والأمان. شكرأ أنك حرّكتنا وأنطقتنا وأنقذتنا لا من شهر نيسان ونحن اليوم فيه ولكن أنقذتنا من جفاف اللسان ومن أحد قوانين نيوتن للحركة (يبقى الجسمُ الساكنُ ساكناً إلاّ إذا حركته قوة خارجية / قانون عزم القصور الذاتي) .... فهل أنت نيوتن الحركة أم إليوت شهر نيسان؟

في قصة " آدم الجديد " وردت أسماء ثلاث نساء هنَّ: بسمة أو نسمة .. فقد ورد هذا الإسم مرة بسمة ومرة نسمة ... وهيلانة صديقة كارل الأرجنتيني ... وديزي صديقة الأمريكي بِلْ. لا صديقات للصيني شوان واليهودي موشي.

قُصيّ والصين

ليس واضحاً تماماً لماذا خصّ الروائي قصي الصين بهذا القْدر من المعلومات السلبية في أغلبها؟ قد يبدو الأمرُ هكذا لمن يقرأ سطوح الصفحات دون الغوص في رموزها وسياقاتها التأريخية وأبعادها السياسية. أنقل مقتطفات كأمثلة على ما قال دكتور قصي عن بلاد الصين:

ـ (أمّي ربّة بيت، أبي عامل مصنع، لم أعرف الخارج قط، صيني معزول عن العالم، ما معنى ما أكونه من التعددية يمكن أنْ يكونَ عن العزلة التي عشتها، أكثر الشعوب نفوساً قوة عظمى، بلد رائع .. صيني، إلاّ أننا معزولون عن العالم، أنا خالد النائم وبِلْ ظهرت أخيراً، أنا نائم لكنني أسمعني، وأرى حلمي من ذاتي الأخرى، لا كتب من الخارج لا جرائد لا مجلات لا إذاعات لا ملابس، إزاء هذا الوضع تمرّدتُ فسقطتُ ... الصفحات 35 ـ 36)

ـ (ومع ذلك لا أودُّ العودة إلى الصين... شوان يستعيد ذكرى التظاهرة الدموية ...الصفحة 41)

ـ (بقيت لديه قضيتان أُضطرَّ بعد تردد تجاهلهما، القضية الأولى تندرجُ ضمن العقبات السياسية، الصين بلدٌ مُغلق مجهول الداخل ... الصفحة 48)

ـ (الأربعاء 2 نوفمبر 1986

المكان: بكّين .. مشفى بكين

هو ثاني يوم أقضيه في الصين .. وهو ثالث يوم لإندلاع مظاهرات معارضة تطالب بالإصلاح .... في هذا اليوم بدأت حكومة الصين تستخدم العنف ...فيما بعد طلب مني الإشراف على حالة جريح دخل في غيبوبة، عرفتُ فيما بعد أنه أحد زعماء الطلبة البارزين وأنَّ إطلاق النار عليه حدث خطأً ... الصفحات 59 ـ 60).

لم يقلْ قصي في الصين وعنها إلاّ ما كان معروفاً عنها كلاّ في حينه وأوانه. لم يتجنَ ولم يتعسفْ ولم يبدِ أي موقف معادٍ لهذا البلد ولا لسواه من بلدان المعمورة.

قصي والألهة الثلاث

إذا اتحد البشر أو وحّدتهم طبيعتهم المادية رغم اختلافهم في دياناتهم وقومياتهم ولغاتهم (أو لُغاهم) وألوان بشراتهم فما يمنع الألهة الفوق بشرية من أنْ تتوحد؟ لا أحدَ يعرف طبيعة مادة الألهة سوى ما قال كلكامش في ملحمته المعروفة " كُتبَ الموت على البشر .. وكتب الخلود للألهة فقط ". هل صحيح هذا الكلام يا أنكيدو المسكين المنكود الذي مرض وفارق الحياة لسبب مجهول ما زال غامضاً؟ كيف خدعتك وأغرتك العاهرة شمخاء أو سمحاء وأخرجتك من عالم الحيوان ووضعتك مع البشر في سومر فاعتلّت صحتك ثم فارقتَ الحياة؟ لا قومية ولا من لغة للألهة يا قصيّ. هم لا يختصمون ولكنْ لهم أتباع معتوهون يتخاصمون ويتقاتلون ويثيرون الحروب ضدَّ بعضهم البعض الآخر. فليتوحد البشرُ ما دام غيرهم قد توحّد فغدت الألهات الثلاث ربّاً واحداً لا شريك له لا يلدُ ولم يولدْ وليس له كِفءٌ في الدنيا. هل قصد الروائي الخيالي ربّات العرب الشهيرات الثلاث اللآ ت والعُزّى ومَناة الثالثة الأخرى؟ وحّدهنَ الدين الجديد ولم يتوحّدن بالتوافق والتشاور وحسب مبدأ المحاصصة. وحّدتهنَّ قوة خارجية لا الضوء ولا الجاذبية ولا الألوان الطيفية الزاهية. قال الروائي في الصفحة 44 ما يلي:

(أظنُ أنَّ ما أمرُّ به شبيه بعصرٍ تفكّكتْ فيه الألهة قبل اندماج بعضهم, لقد تحدّثتْ الأساطيرُ القديمة عن اتحاد ثلاث آلهات في آلهة واحدة. ماذا تقولُ عن آلهة الحب والجنس والحكمة؟). واضح أنَّ الروائي كان يقصد بهذه الألهة الرابعة عشتار سومر وبابل التي رفض كلكامش الزواج منها بل وعنّفها وشتمها ولمزها في عرضها. لماذا تتزوج الألهة طالما أنها لم تلدْ ولم تولدْ؟ ألتمارسَ الجنس المقدّس في المعابد مثل صاحبتنا السيّدة عشتار أم السيد عمّار؟ خيالك جدَّ خصيب يا قصي.

 الضوء .. هاجس الدكتور قصي الأقوى

أفرد الدكتور قصي فصلين كاملين تقريباً لموضوعة الضوء وقدّم تفسيراتٍ وتنظيرات لقدرة الضوء على التأثير على وضع ونفسية الإنسان. الفصلان هما " قصة من عام 2784 " و " مُدُن الضوء ". ما الجديد في هذين الفصلين وما اجتهادات الكاتب بخصوص الضوء وقدراته على التأثير على البشر؟

أولاً أتساءلُ عن الغرض من اختيار زمن لا وجودَ له بعدُ: 2784؟ أفي الأمر خطأ مطبعي كشأن العديد من الأخطاء التي وردت في هذه الرواية؟ أم أنَّ في رأس وقصد الكاتب أمراً آخر لا يعرفه القارئ؟ أم أنه حاصل جمع الرقمين 27 و 84؟ المعنى في قلب الشاعر علماً أننا نتعامل مع روائي وليس مع شاعر.

ما سرُّ تعلّق قصي بالضوء وهو أستاذ لغة وأدب؟ لماذا يُقحمُ نفسه في أمور وموضوعات بعيدة عن اختصاصه الدقيق واهتماماته الأدبية واللغوية؟ ذلكم شأنه وهو مسؤول عنه ولا ريبَ أنه يعرف كيف يدافع عنه وكيف يُبرر.

الآن ... قصي والضوء ... في الصفحة 113 كتب الدكتور أموراً لا أدري هل استقاها من مصدر علمي مُختص أم هي من بنات أفكاره العلمية الخيالية أم من حاصل جمع الإثنين معاً؟ أقول هذا الكلام لأنني أجهل حقيقة الأمر رغم قربي ومعايشتي لعالم الضوء والفوتونات الضوئية والألكترونات وعالم الذرة على وجه العموم دراسة وبحثاً وتدريساً في العديد من الجامعات داخل وخارج العراق بلدي المُحطّم والمخروق والمحتاج للكثير من الضوء فهو في متاهة وعَتمة وفوضى لا ينفع فيها ضوء ومغناطيس ولا ما هو أكبر وأقدر من مجالات الضوء والمغناطيس. ماذا قال الروائي في الصفحة إيّاها 113؟

(... كان يتعاملُ مع الحُلُم وكأنه واقع سوف يحدث فيما بعد. فليس أمامه إلاَ أنْ يثني الضوء ثانيةً من أجل أنْ يتحقق بدقة من الخبر القديم الجديد الذي اكتشفه اُستاذه يومَ ولادته وأوكل إليه مهمّة البحث فيه فيما بعد كي يُدرك من خلال التجربة الضوئية الجديدة أعماق المستقبل ليقرأ حوادثه وهي تمرُّ أمامه بالتفصيل).

من حق الراوي أنْ يقولَ ما يشاء من فنطازيات خيالية ولكنْ الأفضل له وللقارئ أنْ يتثبّتَ من صحة أو معقولية ما يقول وإلاّ فما يقول هو الضلال بعينه وتشويه وتخريب القيم العلمية. كتّاب الخيال العلمي يلتزمون بحقائق العلم وقوانينه المعروفة لا يحيدون عنها قيد أنملة رغم ما يقدمون للقارئ من تخيلات وسياحات وتهويمات خيالية.

ما قال الروائي بعد في الضوء ومشتقات الضوء؟ (... كان هناك اختلاف جوهري بين وجهة نظر نظر يتبناها باحث حديث وأستاذ خبير لا يؤمن أساساً بنظرية الترشيح والتنصيف بل يؤكّدُ دائماً أنَّ الحلم يكونُ واضحاً إذا تعرّضَ فردٌ ما لكمية ضوء طوال اليوم أكثر مما يحتاجه جسمهُ قبل النوم / الصفحة نفسها 113). ما المقصود بالتنصيف؟ قد نفهم ترشيح الضوء أو تفريق موجاته الطيفية ولكن ما معنى تنصيف الضوء؟ ما مصادر الروائي الخيالي؟

أسىتعيرُ ما قال الروائي في الصفحة 115:

(.. أسئلة كثيرة راودت ذهنه ودفعته إلى أنْ يقرأ رسالة السماء من خلال تغيير شكل الضوء فيوحّد بينه وبين شكل الكون على الأقل كي نعرف ما يدورُ حولنا بعد سنوات. وأول ما فعله في تجاربه ثنى الضوء تدريجياً في حلقة تشبه القوس وتسليطه على النائم المستسلم للحلم، تسليط حزمة ضوء مستقيمة على نائم ثم تحديب تلك الحزمة بجزء من المائة مليون.... ).

ما هي رسالة السماء؟ أهي في توحيد الأديان وأصحابها وتابعيها أم في التدخل في شؤون الضوء ومعجزاته التي تنافس ربَّ الأديان وما يرسله هذا الرب من بشر يسمّون أنفسهم أنبياء ورُسُل؟ ثمَّ ... كيف وبأية أجهزة ووسائل يتم ثني الضوء؟

مُدن الضوء

نجد ونرى في هذا الجزء من الرواية العلمية أو علمية الخيال تكرير غير قليل للضوء وتأثيرات الضوء لكنها جميعاً إمّا غير علمية وغير دقيقة وتحتاج إلى مصدرأو دليل أو إلى تأويل علمي معقول يتقبّله عقل القارئ. أقدّم بعض الأمثلة وأطلب من الأستاذ الدكتور تفسير هذه الظاهرات تفسيراً علمياً من التفسيرات التي يعرفها الناس العاديون والعلماء المختصون وغيرهم ممن يعنيهم الأمر، فالخيال العلمي لا يعني الإحتطاب في الظلماء ولا الخبط العشوائي ولا قول الكاتب ما يريد أنْ يقول. قال في الجزء الموسوم ب " مُدن الضوء " وفي الصفحة 137 ما يلي:

(... كانت هناك فكرة واحدة تتبلوّر في ذهن البروفسور " ك " فتنصّبُ على الظلام والنور بصفتهما الحاضنة الأولى للكوابيس الثقيلة. لذلك وجد أنَّ الكوابيس عادت تجثم على صدور مرضاه بعد أنْ أعادَ التجربة ذاتها عليهم في جو معتم لا بصيصَ للنور فيه كما هو الحالُ في البيت الريفي فكانت النتائج مثلما توقّعها تماماً ...

كابوس .. إختناق

عدوانية تجبر النائم على العنف

هستيرية ..)

ماذا نفهم من هذا الكلام؟

الظلام والنور هما حاضنا الكوابيس الأولى ! بعضُ الناس يخافون الظلام ولا يطيقون البقاء فيه فما بال الضوء (النور) وما علاقته بالكوابيس الثقيلة المزعجة؟ وهل الناس في أحلامهم ليسوا هُمْ في يقظتهم أو في القليل فيهم شئ من عالم يقظتهم؟ كيف أنتقل في عالم النوم والأحلام ممن أكون أنا إلى شخص آخر مغاير لا يمتُّ لي بصلة أو يمتُّ ولكن بصلة ضعيفة واهية كخيوط العنكبوت؟ لماذا ينفصل الإنسان الحالم عن نفسه وعمّىا هو فيه؟ كيف يتحوّل ووفق أية آليات " مكانزمات " يتم هذا التحوّل؟ لا يكفي أنْ نعرض أطروحات ومفاهيم غريبة بإسم الخيال بل علينا ربطها بما هو معروف من حقائق علمية وتجارب لا تقبل الشك فيما تعرض من نتائج.

أخيراً إني أُكبر جهود الأستاذ الدكتور قصي الشيخ عسكر فيما كتب من قصص علمية خيالية خاصة وأنه ينتمي في دراساته إلى عالم آخر لا شأنَ له بالأخيلة العلمية . أُكبِرُه وجهوده وأعتذر له عمّا كتبتُ عن روايته الطريفة والمعقّدة التي لم تنلْ ما تستحق من إهتمام وعناية على حدِّ علمي حتى اليوم.

عزيزي الدكتور المتميّز قُصي الشيخ عسكر: إنك معجزة عمّنا الشيخ عسكر .

ملاحظة لا بُدَّ منها: وقعت في هذا الكتاب أخطاء أغلبها مطبعي لديَّ نماذج منها أتمنى أنْ يلتفت الدكتور إليها ويحاول تلافيها في طبعات الرواية القادمة.

 ***

د. عدنان الظاهر

9/4/2016

..........................

* روايات وقصص من الخيال العلمي. د. قصي الشيخ عسكر. الناشر: شمس للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى القاهرة 2010 .

 

إن الفارق بين الأدب العربي، والآداب الغربية، ثابت لا يتغير، فالآداب الغربية التي نخافها أشد الخوف من جهة، ونعجب بها أشد الاعجاب من جهة أخرى، مؤلفة من وحدات أساسية بسيطة، تأصل على نحو لا يمكن انكاره، الموروث الذي يتعلق بالصيرورة والفناء، ففي الآداب الغربية نصوص طويلة مكتوبة، تهتم ببنية الوجود الإنساني، فالإنتقال من مفهوم الحياة المتدفقة بالنشاط والحركة، إلى جزئية الهمود والسكون الأبدي، ليست مجرد عبث أدبي طنان،  ولكنها مفاهيم تنتمي دون شك، إلى الكتابات المبكرة، التي انصب جهدها الفكري، في بحث نظرية نشوء الكون، وحقيقة تأويل التوافر البشري واندثاره، فنحن نرغب في التشديد أولاً، على أن الآداب الغربية، التي امتزجت جميع عناصرها، بثنائية الوجود والعدم، قد تم اقتيادها إلى هذين الشكلين عبر الثقافة الاغريقية، التي هي عبارة عن سلسلة من الأفكار الغامضة، تحتوي على نصوص ذات دلالة كبيرة، على الصعيد الديني والفلسفي،  ففرضية نشوء العالم وانعدامه، هي التي حددت أطر الآداب الغربية وتمازجها، تبعاً لتلك الفلسفة، التي يصعب تجميع أقوالها المتباينة وتنسيقها، وبناء على ذلك، نستطيع أن نقرر بشكل حاسم، أن الآداب الغربية، قد استلهمت   تلك المفاهيم التي شغفت بتكرارها، من الحضارة الاغريقية التي حملت العالم على الانبثاق،

فمن المناسب القول إذن، أننا نستطيع أن نذهب إلى أن الآداب الغربية، تنطوي على نمط جلي من الترابطات البنيوية الدينية، المستمدة من العقائد والفلسفة، وبطبيعة الحال، يفصح هذا الزعم عن تحد قائم على الافتراض المسبق نفسه، الافتراض القائل بأن الدين والفلسفة، هما اللذان دفعا الآداب الغربية، إلى اختبار الأمور، وتمحيص الحقائق، وهما من أغدقا على أجناسها أيما اغداق، وجعلت أصنافها تلك، تصمد في وجه المتاعب والصعاب.

الكوميديا الإلهية لدانتي

إن من أهم السمات الطاغية على الآداب الغربية، هي الانفتاح المحض على كل شيء، لأجل ذلك لا نجدها تتخبط في ظلماء التيه مثل أدبنا العربي، فأدبنا في مكابدة لا تهدأ، رغم أنه أمست تتجاذبه شهوات الدنيا، تماماً كالآداب الغربية، وأضحى يخوض في وحل "الأجسام البضة، والأذرع الغضة، والسيقان اللفاء، والصدور النواهد" كما تخوض فيها الآداب الغربية، التي نجحت في أن تلم بطبيعة الفكر البشري وتطوره، وحتى نترك عنا هذا الاستطراد، نقول أن بؤرة النص الابداعي في الآداب الغربية، يدور حول هذين النموذجين منذ (ملحمة جلجامش) البابلية التي تعد من أقدم الآثار الإنسانية، التي لعبت دوراً هاماً في إغناء هوية هذه الثنائية وتقويتها، مروراً بالكوميديا الإلهية "لدانتي أليغييري"، تلك الملحمة الرائعة التي ارتبطت بمفاهيم العقاب، والثواب، والمطهر، قد نهضت على دعائم متينة، ومضت بطريقة منتظمة موحدة، وفقاَ للقواعد والقوانين، التي رسمها لها صاحبها، ملحمة"دانتي" التي خطها في القرن الرابع عشر، من الحقائق التي لا تقبل الرد أو التشكيك، أن تفاصيل هذه الملحمة الغنية والمعقدة، تنسجم فلسفتها، ونظمها المعرفية، وتشبيهاتها، وصورها المحسوسة، وقدراتها التخيلية، مع اللاهوت الإسلامي، فالكوميديا الإلهية التي أسهب وأطنب مؤلفها في ذكر مظاهر الترحيب، والحفاوة، والكرم، تلك المظاهر التي اصطفى بها الخالق أهل الجنة، وأغدق عليهم من المنح والنعم والعطايا، تتناقض في واقع الأمر، مع تلك "الدوائر التسع" من الجحيم التي طاف بها "دانتي" أولاً، لقد حصر "دانتي" عنايته، في أن يظهر لنا التفاوت في  حجم التنكيل والعذاب الذي يصب على أهل هذه الدوائر بلا انقطاع، ثم يختتم رحلته التي وصل بها إلى أحسن غاية، والتي أضحت موضوعاً لمباحث أهل الفن، والعمارة، والموسيقى، والأدب، بالوصول إلى مركز الأرض، لا كواقع يقرره، بل كشرط ضروري للتطهر من أوضارالجحيم، لقد تأثر  "دانتي الإيطالي" أعظم تأثير

بأساليب اللاهوت الإسلامي ومنهاجه، فكيف "لدانتي" الذي عاش في عصر انحطاط، أن يقرر أحكاماً هذا مبلغها من الصحة والعمق، هذه الأحكام التي تستحق منا أن نعطف عليها بمقالات أخرى مترفة، تسوغ لنا بلا ريب، أن نزعم أن تفاصيلها العديدة هي التي أرغمت صاحبها على ذلك التوسع، ومن الحق أن ندعي بشكل قاطع، أن هذه التفاصيل لم تنشأ من الفلسفة الإسلامية وحدها، بيد أنها وجدت وترقت في ظلها، ولكنها ليست من صنعها، والكوميديا الإلهية التي لم تكن تصل إلى شيء مما وصلت إليه من الاتساع والتعقد، العامل الجوهري في اتساعها هو اللاهوت، والفلسفة الإسلامية، التي تسامى إليها" دانتي" وتوغل في فهمها ودراستها، وهذه حقيقة مهمة تماماً من وجهة نظري، لا نستطيع أن نتركها وشأنها، فالكوميديا الإلهية كانت عبقريتها الحقة، ستكون ضيئلة جداً، لو لم يلم الشاعر الإيطالي بفلسفة ابن سينا، وابن رشد، وعبقرية رهين المحبسين المعري في رسالته، ويتخذ من هذه المقومات مقاماً لرحلته.

هاملت لشكسبير

ونجد في مسرحية "هاملت" للكاتب الانجليزي الشهير "ويليام شكسبير"، تلك الشخصية المحورية التي أمست من أعظم الشخصيات التراجيدية التي عرفتها مسارح العالم، شخصية اعترت حياتها الكثير من الأحدات المروعة، التي استند "شكسبير" في صياغتها إلى تخيلات تذهب أحيانا مذهب الاغراق والمبالغة، شخصية شديدة الغموض والاتساع، لا تمضي على وتيرة واحدة، ومنهج مستقر، وإنما تنتقل من حال إلى حال، وتتشكل بأشكال مختلفة، فهدفها الذي شبت في كنفه، وتحركت في اطاره، هو أن تشيد ملكها، وتقهر خصومها، ولكنها لا تنتهج إلى ذلك طريقة منظمة مضبوطة، بل تسعى لأن تحقق هذه الغاية التي ارتطمت بجدار التردد والتسويف، بالتأني، والتمحيص، وكثرة التأمل، الأمر الذي قاد إلى أن تلتزم الصمت إزاء كل ما يشين مجدها، وفكرة الانتقام التي امتزجت مؤثراتها في حنايا" هاملت" واتحدت، هي التي أدت لأن ينحصر طابع حياته في ثلاثة أشياء.

أولها هو التردد، تلك النزعة التي طرأت عليه، بعد أن أدرك أن عمه هو الذي أقدم على قتل والده، من أجل أن يستحوذ على أعنة الحكم، وعمه هذا الذي سلبه الملك، لم يكتفي بقتل والده، بل تزوج من والدته المتآمرة، وجرّها إلى مخدعه، تلك الأم التي لم تصنع شيئاً من أجل أن تعيد الأمور إلى نصابها، قد أظهرت الرضا والاغتباط بالزواج من عمه، ولم يفصل بين زواجها من عمه، ومقتل والده سوى ثلاثة أيام فقط، لقد كانت نزعة التردد أكثر انتظاماً، وأبلغ نفاذاً عند "هاملت"، ولم تجد هذه النزعة الشاسعة جداً في طبعه، عقبات تعينه على تذليلها، كان كل ما يفعله "هاملت" المسكين حيالها، عينان تحدقان في الفضاء وتتأمل، ومهجة خائرة لم تحتفظ بمركزها، ولم تعرف كيف تلحق الهزيمة بخصومها، لأجل هذا السبب كانت شخصية "هاملت"، التي لم تجد من يدحضها ويعدلها،  تتعرض في غداة كل يوم، لتلك الأغلال والقوى التي تمزقها، وتشوهها، وتهيئ لها أسباب الخبل والجنون، والعته الذي كان يجاذب "هاملت" ويجاذبه، كان موضوعاً خصباً لمباحث فرويد، وإرنست جونز وغيرهم، تلك المباحث التي لم تراعي فؤاد "هاملت" الذي تصدع من الأسى، وتثبت له نوعاً من الهيبة بوصفه رجل بلاط، تحميه في الظاهر على الأقل، من أسنة علماء النفس، التي كانت أكثر تمحكاً، ولجاجة، وتعريضاً بفشله في تنفيذ مقصده الرابض في داخله.

والوهم الذي سد كل حاجات علماء النفس، وكفل لهم السعادة، كان أكثر شيئاً يضني" هاملت" ويحزنه، لأن ذاته تنفجر لهذا الوهم انفجاراً هائلا، ويشعر بنار تملأ نفسه، وتذكي حسه، "فهاملت" الذي كان يسعى لاغتيال والده بأي حجة فيما مضى، بات أبوه يتردد عليه، كلما أغمض" هاملت" عينيه، ويحثه على أخذ الثأر من عمه الذي أزهق حياته، وجعل منه شخصاً خامل الحياة، مسلوب الإرادة، ذلك الوهم الذي عكر صفو حياة" هاملت"، لم يكن يستطيع  أن يطعن عليه طعناً نهائياً، أو يجاهر بأنه اختلاق لا فائدة منه،" فهاملت" بزعت عبقريته الجمة في التماهي مع هذه الأوهام والصور، فهي التي أثرت شخصيته، وجعلت المجال يتسع لتحصيل ثمار ترفها، فلو لم تكن تلك الأوهام، والالتباسات، والحيرة، مؤثلات في طبع "هاملت"، لما وجدنا فنوناً حقيقية يتعين علينا أن نتعلمها، وأن نتمرن عليها، لولا ذلك الغموض، والعبقرية، وخصوبة الخيال، لتداعت الأسباب التي تجعلنا نتخذ من شخصية "هاملت" أنموذجا للتفرد، ونعتبرها أوثق مصدر يمكن الرجوع إليه في تصاعد المشاعر واضطرابها.

ونزعة الانتقام، الخصيصة الثالثة التي تفرعت منها عند" هاملت"، هي أمزجته المتصارعة التي لم يكن يجمع بين حيثياتها رابط، ونحن لا ندري أي هذه "الأمزجة" قد انتصر، ولكننا نجزم بأن "هاملت" قد ذهب ضحية هذه  الأهواء، فإنه من المدهش حقاً ألا نصل إلى هذه النتيجة، بعد أن اجتهدنا، وقدرنا بالضبط ما استحدثته هذه الطبائع، فقد ساءت سيرة "هاملت"، وساء تقديره للأشياء، وقادت لأن يكون القتل عملاً منظما متواصلاً في حياته، لقد رأينا هاملت يقتل خاصته ومحض وادده، الواحد تلو الآخر، ويعجز في ذات الوقت، عن قتل من عرضه لمخاطر الفوضى، بيد أن" هاملت" في جميع أحواله، لم يسعى أن يتكلف الجد لمحق هذه العناصر، التي فرغنا لها نحن وكتبنا فيها، العناصر التي لا نعتقد أن عبقرية شكسبير وحدها، هي التي صنعتها وابتكرتها ابتكاراً، فشكسبير مهما بلغ من أدوات البحث، والاستقصاء، والتعمق، لا يمكن أن يحيط بعناصر هذه الشخصية،  إذا لم يعياشها ويرصد كل حركاتها، وسكناتها وخباياها عن قرب.

***

د. الطيب النقر

السبت 5/7/2025

 

قراءة تأويلية في قصيدة «أطلّ يُبشّر بهطول المطر» لنعيمة المديوني:

في هذا النصّ الشعري تتجلّى الحساسية الأنثوية في أعلى مستوياتها التخييلية، حيث تتحوّل الذات الشاعرة إلى كائنٍ مُترقّب، يتوشّحُ الأمل، ويُعانقُ الانتظار لا بوصفه زمناً معلّقاً، بل فعلاً وجودياً يُعيد تشكيل الوجدان.

إنّ قصيدة الشاعرة التونسية نعيمة المديوني لا تُعبّر عن الحنين فقط، بل تُعيد تأثيث الحنين بلغة الحواس، وطقوس الجسد، ورموز الخصب. الرجل هنا ليس فرداً، بل رمزٌ للمطر، ولعودة الحياة، ولانبعاث الذات من رماد الغياب.

في سياق البنية الأسلوبية نلحظ تكرار الفعل «أطلّ».

يتكرّر الفعل «أطلّ» في مطالع المقاطع الشعرية، كأنّه تعويذة استحضار، أو ناقوس استبشار، والمفارقة أنّ الشاعرة المديوني تُصرّ على فعل الحضور لا عبر الحدث الكامل، بل عبر إشراق التجلّي، وكأنّ قدومه أشبه بطيف يُعلن نفسه تدريجيًا، تقول :

 "أطلّ من بين ركوم التّمنّي

والشّوق سياط ألهبتني".

هذا التكرار الأسلوبي لا يُحدث رتابة، بل يمنح النصّ إيقاعاً داخلياً نبضياً، يُجسّد تواتر الخفقان الداخلي، ويُحاكي دقّات قلبٍ ينتظر.

إن "أطلّ" ليست مجرّد فعل، بل بؤرة إيحائية تُهيمن على البناء النصي، وتفتح أبواب الاستقبال الرمزي للحبيب القادم، حاملاً حقيبة الأمل والمطر.

في مجال البنية الرمزية نجد أنّ الحبيب بوصفه المطر، والانبعاث.

الحبيب في النصّ يتماهى رمزياً مع المطر، الذي لا يُسقط الماء فحسب، بل يُعيد "تخصيب" الأرض العاطفية، تقول الشاعرة المديوني :

 "ها الحبيب قد أتى

يُبشّر بهطول المطر

يحمل بين جنبيه مُرجًا خضراء".

المطر هنا ليس مجرّد طقس، بل أُسطورة حياة. هو العودة، والخصب، والبعث. يتداخل "المطر" مع صورة الحبيب، فيندمجان في رمزٍ واحد، يُعبّر عن فعل الخلاص الأنثوي من الجمود والوحدة والموات.

كما ترتبط رموز أخرى بوظيفة الخصوبة والبعث:

المرج الأخضر: رمز النضارة.

براعم النوار: دلالة الولادة الجديدة.

العبير والشوق والأنوار: إحالات حسّية للامتلاء والبهجة.

كل ذلك يُوظَّف داخل خطاب أنثوي يحتفي بالرجولة الحقيقية، لا بوصفها سلطة، بل سنداً وأماناً وحضناً للخصب الداخلي.

من  المنظور النفسي – من الانتظار إلى الاحتواء.

تبدأ القصيدة بحالة من القلق التوقعي، تُجسّدها الشاعرة المديوني بتراكمات "الركام"، و"السهاد"، و"الألم"، تقول :

 "والشّوق سياط ألهبتني".

لكن بمجرد أن "يطلّ"، تبدأ حركة التحوّل النفسي، فتتبدّل اللغة من وصف المعاناة إلى الانفتاح على الحياة، تقول :

 "فأشعّ في الوجدان بريق أمل

زغردت سلال الأحلام

أقبرت الأحزان والضّجر".

هذه الحركية تمثل التحوّل الداخلي للذات الشاعرة، من ذات محاصَرة بالانتظار، إلى ذات ممتلئة بالحياة.

في ضوء المنهج النفسي، يمكن القول إن النصّ يُعالج لحظة التحوّل من اللايقين إلى التوازن النفسي عبر الحضور العاطفي.

وقد عبّرت الشاعرة المديوني عن ذلك بالحسّيات (العطر، الزينة، الفساتين، السمر)، وكأن الجسد نفسه ينهض ويعود إلى الحياة.

في سياق البنية الهيرمينوطيقية – التأويل وتعدّد المعنى.

القصيدة ليست فقط عن رجل وامرأة، بل عن فلسفة انتظار الحياة ذاتها. الحبيب رمز المطر، والحبيبة الأرض؛ في لقائهما تنهض البذور المختبئة.

عبارات مثل:

"يطوي فصول الأسى"

"عانقتُ قلمي أسرّ بهمس أعاد إليه الحياة".

هي إشارات إلى فعل الانبعاث الوجودي، وكأنّ اللغة نفسها تعافت حين أطلّ.

القلم، هنا، رمز الوعي والشعر والخلق، والهمس فعل الكشف، مما يعني أن الحبّ عند الشاعرة نعيمة المديوني ليس عاطفة، بل حدثٌ كوني يُعيد ترتيب العلاقة بالزمن، بالذات، وبالعالم.

ومن هنا نقرأ في القصيدة تماثلًا مع مفاهيم الهيرمينوطيقا الحديثة (غادامير، بول ريكور)، حيث لا تُفهم التجربة من ظاهرها فقط، بل من انكشاف المعنى في لحظة الحضور.

في سياق الصور الشعرية والإيقاع الجمالي. مجد أنّ القصيدة غنيّة بالصور الشعرية الأنثوية الغامرة، لكنها ليست رخوة، بل تحفر في الأعماق بدفءٍ وجسارة، تقول الشاعرة نعيمة المديوني :

"فرشت له الربوع جلّنارًا وأمل": صورة تمتزج فيها الأنوثة بالزمن الموسمي (الربيع).

"سرّحت شعري / تبعثرت خصلاته": الجسد يتهيأ، لا للغواية، بل للاستقبال الوجودي.

"صدحت أجراس المدينة بالغناء": الترقب لا يُسمع من الداخل فقط، بل تُجاوب معه المدينة، كأن الذات تُعدي العالم بأكمله بالفرح.

أما الإيقاع الداخلي، فهو نابع من التكرار البنيوي (أطلّ... أطلّ)، ومن التوازي في المقاطع الأخيرة، تقول :

 "تزيّني... تعطّري... تبرّجي..."

"زغردي... أنشري... عطّري..."

كلّها تمنح النصّ موسيقى شعورية تصاعدية، تتحول من تمهيدٍ عاطفي إلى احتفالٍ كامل بانبعاث الأمل.

في الختام:

تمثل قصيدة الشاعرة التونسية نعيمة المديوني "أطلّ يُبشّر بهطول المطر" نموذجاً متكاملاً للتعبير الأنثوي الناضج، حيث تمتزج الرؤية الحسيّة بالرؤية الرمزية، وتندمج تجربة الحب مع تجربة الانبعاث.

إنّ القصيدة لا تحتفي بالرجل كقوة ذكورية، بل كحضور إنساني يكمل نضج الذات، ولا ترى الحبّ كصراع قوى، بل كحوار أرواح متكافئة، تتقاطع في لحظة الحياة، وتبعث فينا معنى الأمان، لا الهيمنة، والدفء، لا السيطرة.

إنها قصيدة تستحق أن تُقرأ تأويليًا كـنصّ شعري مفتوح على مستويات الحلم، والذاكرة، والتحول الداخلي.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

أطلّ يبشّر بهطول المطر

أطلّ من بين ركوم التّمنّي

والشّوق سياط ألهبتني

*

أطلّ .......

بكفّه يداعب ليالي السّهاد

يزيّن دروب مدينة أصابها الملل

*

أطلّ .......

بوجهه الصّبوح يهدّم أبراج الأنين

يلوّح للحنين

*

أطلّ ......

يحمل حقيبة سفر

يزدحم داخلها الأمل

يقترب من أسوار حديقتنا ينوي بها المستقر

*

أطلّ .......

فرشت له الرّبوع جلّنارا وأمل

سرّحت شعري

تبعثرت خصلاته تدعو لليالي السّمر

عطّرت فساتيني

أطلقت العنان لخفق

آنبرى يعزف ألحانا تغري بآلْوصال وسحر القبل

*

أطلّ .......

فأشعّ  في الوجدان بريق أمل

زغردت سلال الأحلام

أقبرت الأحزان والضّجر

*

أطلّ .......

يطوي فصول الأسى

عانقت قلمي أسرّ بهمس أعاد إليه الحياة

*

أيا فؤادا راقص الهوى

أذْهب عنه البعاد الكرى

هذه الأيّام قادمة

حبلى بالدّفء والسّمر

*

أيا أحلامي السّعيدة

ها الحبيب قد أتى

يبشّر بهطول المطر

يحمل بين جنبيه مُرجا خضراء

يدعو لآحتساء أقداح الهوى

 *

أيا دموع الرّجاء

آغتسلي من الآه والرّثاء

تزيّني ........

تعطّري .........

تبرّجي .........

ها الحبيب جاءنا يختال زاهيا

دروبنا بآلقرب مستأنسة

والهوى يغتال النّسيان منتصرا

*

يا بشائر الفرح

لا تبالي بدمع على الخدّ جرى

أقبري ساعات الأسى

هلّلي .......

راحت الجراح وحلّت بيننا الأفراح

*

أيا عيون المها

صدحت أجراس المدينة بالغناء

جاء من هفت الرّوح للقاء

لا تبالي بالذّي كان وآنقضى

*

يا مدينة الأحلام

زغردي ........

اُنشري عذب الأخبار في كل دار

ها هنا تتراقص براعم النّوّار تعانق الأنوار

تُعطّر دارنا وكل الدّيار بعبير الشّوق والهوى

***

المقدمة: يتأسس النص الومضي الماثل أمامنا على بنية اعترافية حميمية، تزاوج بين التقريرية والمجاز، وتستند إلى طاقة التخيل الإيروتيكي المقدّس، المنبعث من عمق اشتباك الذات الشاعرة مع الغياب، والرغبة، والذنب. وهو نص يُعرّف نفسه تداوليًا بوصفه خطابًا موجَّهًا إلى "المحبوبة" ولكنه، في عمقه التداولي، ينفتح على المتلقي كونه شاهدًا على اعتراف شعري يحمل طابعًا تقويميًا للذات عبر منظومة من الأفعال غير المنجزة، أو المتخيلة، في حلم ليلي جارف لم يُتوَّج بالوصال.

يعتمد هذا النص القصير – الذي يحمل عنوان (ومضة) – على الاقتصاد اللغوي الحاد، والاشتعال العاطفي المكثّف، مع اتكاء بارز على طاقة المجاز، والتكرار التوكيدي، والانزياح في توظيف الألفاظ المألوفة في سياقات جديدة. وسنقوم هنا بتحليل النص من منظور تداوليّ، يُعنى بالسياق، والمخاطب، والضمائر، ومقاصد القول، وانزياح المعنى من المباشر إلى المجازي، مع التعريج على البنية التركيبية التي تخدم الأداء التداولي للخطاب.

تداولية النصيص

جاء النصيص: "(ومضة)" مفردًا ومفتوحًا على دلالات كثيرة، منها: السرعة، الإيجاز، الانفعال الخاطف، والإشراق اللحظي. وهذا ينسجم مع طبيعة النص التي تتشكل ككثافة مشهدية متوترة، فيها حضور للزمن الليلي، والاعتراف، والاشتهاء، ولكن في مساحة سردية موجزة.

تداوليًا، العنوان لا يخاطب المتلقي مباشرة، لكنه يُعدّ بمثابة توجيه ضمني لطبيعة الخطاب: هو اعتراف خاطف، لا يحتمل الإطالة، لكنه ملتهب بالمعنى.

البنية الاعترافية والضمائر

نجد أن ضمير المتكلم المفرد ("ذنبي كبيرٌ") يفتتح النص بإعلان ذاتي صريح، من دون مقدمات. وهو ما يُوحي بأن المخاطب (المحبوبة) شديدة الحضور في ذهن المتكلم، إلى درجة إلغاء الحاجة إلى مناداة أو تمهيد. هذا ما يُعرف تداوليًا بمبدأ "القرينة السياقية"، إذ تُفهم شخصية المخاطب بواسطة السياق لا من النداء.

"ذنبي كبيرٌ ! مرّ ليلٌ كاملٌ دون لثم قرنفُل الشفتين والياقوتتين"

يتحدث المتكلم - هنا - عن "ذنب" لم يكن فعلًا حقيقيًا (بالمعنى الجنائي أو الأخلاقي)، بل هو غياب للوصال الحسي/الروحي، إذ لم "يلثم" شفتي المحبوبة. والمجاز هنا يُعزّز المقصد التداولي بالاستعاضة عن ذكر الشفاه بـ"قرنفل الشفتين"، ثم "الياقوتتين"، ما يمنح حضورها قيمة رمزية عالية.

تداوليًا، هذا يُصنّف ضمن ما يُسمى بـ"الاعتراف التضميني"، إذ لا يطلب المتكلم المغفرة لفعل مشين، بل لحلم ناقص، أو رغبة لم تتحقق، ما يضفي على "الذنب" طابعًا شعريًا لا واقعيًا.

التوتر بين الواقع والمتخيل

ينتقل النص من غياب التقبيل، إلى غياب طقوس العناية بجمال المحبوبة، إذ يقول:

"ودون تمشيطي جدائلك الحرير"

هذا الفعل – التمشيط – يندرج ضمن الأفعال الحميمية اليومية، ولكن في السياق الشعري يتحول إلى رمز للمشاركة العاطفية الحميمة. تداوليًا، يُصنّف هذا ضمن الأفعال اللغوية من نوع "الاعترافات الحلمية"، إذ يُستحضر الماضي أو الاحتمال وكأنه واقع.

ثم يتصاعد المشهد إلى لحظة التخييل الحسي – اللاواقعي:

"والركض خلف غزالة الفردوس ما بين الوسادة والملاءة والسرير"

تُقحم الذات الشاعرة هنا صورة "غزالة الفردوس"، وتوضع في إطار مكاني دقيق (الوسادة/الملاءة/السرير)، وهو ما يُعمّق الانزياح بين الواقع والحلم. فالمكان حقيقي، لكن الركض خيالي، والمحبوبة تتحول إلى كائن رمزي/أسطوري.

تداوليًا، هذه الحركة تندرج ضمن ما يُعرف بـ"الفعل التمثيلي المزدوج"، إذ  يستعمل المتكلم لغة الإيهام بالواقع لإنتاج صورة حُلُمية، ما يُعبّر عن "المعصية" التي هي في الحقيقة خيبة الشوق.

طلب الغفران والاعتذار التداولي

النقلة التداولية الأبرز في النص تأتي مع الجملة:

"فلتغفري لي إثم معصيتي"

هذا توسل مباشر، يُعطي الخطاب بُعدًا دراميًا وتفاعليًا، ويُدخل النص في مجال "أفعال الكلام الإنجازية" (Speech Acts) من نوع الطلب والاعتذار.

غير أن الاعتذار هنا غير تقليدي، فهو لا يأتي بعد خطأ واقعي، بل بعد غياب الحلم/الوصال. وهذا يعزز البعد التداولي للنص كخطاب تفاعلي يستبطن التخييل ويتجاوزه ليُنتج فعلًا تواصليًا عالي الشحنة العاطفية.

"جدي عذرًا لسادنك الموزّع بين بادية السماوة والرّصافة"

هنا ينقلنا الشاعر إلى مستوى آخر من البلاغة التداولية،  فيُحوّل ذاته إلى "سادن" (أي خادم المعبد)، ويوزع وجوده جغرافيًا – بين البادية والرّصافة – في استعارة تعكس حالة التشتت والتمزق.

السادن شخصية طقوسية مقدسة، ومثل هذا التوصيف يُحمّل الاعتذار بُعدًا ميتافيزيقيًا. هو ليس مجرد عاشق، بل خادم للمحبوبة، موزّع في الوجود، مقسوم بين جهتين، وهذا يقوي الحجة في طلب "العذر".

تقابل الجوع والعطش والقبلة

يختم النص بمشهد تقابلي شديد التداولية:

"شوقًا إلى صحنٍ من القُبُلاتِ.. يقفو جوعه عطشٌ بتوليٌّ لكأسٍ من زفير"

هنا نرصد ثلاث مستويات من الانزياح:

"صحنٌ من القبل": يحوّل المجاز الحسي إلى مادة تُؤكل، أي أن الشاعر يُجوع للقبلة.

"عطشٌ بتوليّ": يقترن بالعفاف والطهر، مما يُضفي على الرغبة بُعدًا صوفيًا.

"لكأسٍ من زفير": أي أن أنفاس المحبوبة صارت مشروبًا. وهنا ينقلب المشهد من مجاز شهواني إلى مجاز تنفسي، حميمي.

تداوليًا، هذا الجزء يمثل ذروة النص بواسطة التعبير عن الاشتياق، عبر تراكم صوري تعبيري. ويُعَدّ من نوع "التكثيف التعبيري المجازي" الذي يجعل الخطاب مفتوحًا على التأويل: هل يتكلم عن رغبة جسدية؟ أم عن طقس صوفي؟ أم عن حرمان شعري؟

الخاتمة

نص "ومضة" هو أكثر من اعتراف شعري؛ إنه خطاب مزدوج: يتحدث إلى المحبوبة ليطلب الغفران، لكنه في الوقت نفسه ينفتح على المتلقي ليصوّر له أزمة الحب الغائب والوصال الحُلُمي.

يتميّز النص بتكثيفه البلاغي، وانزياحاته التداولية من الواقعي إلى المجازي، ومن الحسي إلى الطقسي. وهو يوظف تقنيات خطابية مثل "أفعال الكلام" (طلب، اعتذار، اعتراف)، والإحالة المضمرة (ضمائر المخاطب)، والاستعارات التداولية المركبة، ما يمنحه قوة تعبيرية عالية في مساحة قصيرة جدًا.

وبذلك يتحقق للنص عنوانه: "ومضة"، لكن ومضته لا تبرق فقط على سطح اللغة، بل تتغلغل في أعمق طبقات الذات المتشظية ما بين الفراش والبادية والفردوس.

***

رياض عبد الواحد

..............................

(ومـضـة)

ذنـبـي كـبـيـرٌ!

مـرَّ لـيـلٌ كـامـلٌ

مـن دون ِ لـثــم ِ قـرنـفـل ِ الـشـفـتـيـن ِ

والـيـاقـوتـتـيـن ِ

ودون تـمـشـيـطـي جـدائـلَـكِ الـحـريـرْ

//

والـركـض ِ خـلـفَ غـزالـةِ الـفـردوس ِ

مـا بـيـن الـوسـادةِ

والـمـلاءة ِ والـســريـرْ

//

فـلـتـغـفـريْ لـيْ إثـمَ مـعـصـِـيـتـي  ..

جـِدي عـذرا ً لـســادنِـكِ الـمـوزَّع ِ

بـيـن بـاديـة ِ الـسـمـاوة ِ والـرّصـافـة ِ

مُـطـفـأَ الـيـنـبـوع ِ مُـتـَّـقِــدَ الـسـَّـعـيـرْ

//

شـوقـا ً الـى صـحـن ٍ مـن الـقـُـبُـلاتِ ..

يـقـفـو  جُـوعَـهُ عـطـشٌ  لـكـأس ٍ

مـن زفـيـرْ

 

الشاعر الذي لم يكتب

عندما نبحر مع السلوكيات المتباينة، فسوف نصل إلى المعاني المختلفة ومنها المعنى السيمانتي (النفسي) وهو أحد الكائنات التأملية في نصوص الشاعر العراقي جان دمو.

إنّ التركيب الانفعالي أو التركيب الهادئ للجملة للشعرية يبيّـن حركتها من خلال المعنى السيمانتي (النفسي)، وهو التحرر بعينه من الرقيب وتحرر المتلقي أيضا من الدخول إلى النصّ المكتوب كحالة لسانية إدراكية ذي علاقة مباشرة مع اللغة الإدراكية التي تعد من الكائنات النصية وكيفية البناء النصّي بشكله الآلي خارج التكلف؛ حيث التبدلات التي تحدث للنصّ، هي التبدلات المختلفة وكيفية المعاينة النصّية من وإلى النصّ كجامع أولي للكائنات التي تؤدي إلى الإثارة التأملية.

إنّ النصّ تأملي بدرجاته الأولى، وكذلك تعييني عندما يكون ذا علاقة مع التصور الجدلي عندما يثير الأشياء الكامة في الذات العاملة، والنصّ بجدليته ينتمي إلى المسافة الفاصلة بين الدال والمدلول، لذلك من أولى تفكرات الشاعر هي كيفية إيجاد المساحة الجمالية بتصرّف ذاتي، أي أن تكون حالة انفتاح النصّ حالة جمالية ويكون الخروج من حالات التفكر السلبي، فطبيعة عقل الإنسان، طبيعة سلبية، فالحزن عندما يتصوره الشاعر يعتبر من الحالات السلبية، ولكن هناك الحزن المجمّل الذي تكون الإثارة به توليدية فيتضاعف الجمال التأثيري بالمتلقي على أن يكون جزءا من النصّ المنظور.

نبحر في بعض نصوص الشاعر العراقي جان دمو، هذا الشاعر الذي انتمى إلى التقليلية الكتابية، فزمنية حياته لم يكتب الكثير، بل هناك مباعدات نصية بين نصّ وآخر، وقد تصل هذه المباعدات إلى فارق كبير قد يكون السنة لكي ينجز نصّا. وخصوصا أن الشاعرانتمى إلى كتابة النصّ القصير، وهو متعته الفنية عندما يكون بحالة اندماجية مع الكتابة.

امعن في صدودك أيها الواقع

فذاك قد يكون أولى بتمزيق النجوم

النجوم! قدم تبحث عمّا يماثلها، قدم تورق مع الحلم. قدم تقطع

الفأس التي صنعت لقطع الجذوع ستظل فأسا دوما.

آخر وافد الى مملكة ذراعي كان يوم الثلاثاء

بين المطر والحقيقة يسقط ظل الله

ها أنذا في سبيلي إلى ممارسة إنسانيتي

الغرفة مربعة، وكذلك القلب.

مع آخر سجائري، يتخذ القلق مكانه الأشد توحشاً.

قصيدة: الظل – جان دمو

نستطيع أن نذهب باتجاهين تخصّ الكائنات التأملية؛ فالاتجاه الداخلي؛ ويعني لنا بأن الكتابة التلقائية المعنونة، كتابة تأمّلية تفكرية، والفضاء الذي يرسمه الشاعر، هو جزء من فضاء المخيلة التي من واجبها إنجاز العمل كمنظور مواز بين الذات الحقيقية والكتابة؛ والاتجاه الثاني، هو الاتجاه الخارجي، حيث يكون مخزن الذات في تأمّلات تطبيقية وما جمعته من مؤثرات خارجية لها أحداثها الشعرية، ولكن نبقى مع كائنات الشاعر العراقية جان دمو التأملية، ومنها الكائن اليومي وكيفية الاعتناء باللحظة الكتابية ضمن المنجز الكتابي.

امعن في صدودك أيها الواقع + فذاك قد يكون أولى بتمزيق النجوم + النجوم! قدم تبحث عمّا يماثلها، + قدم تورق مع الحلم. قدم تقطع + الفأس التي صنعت لقطع الجذوع ستظل فأسا دوما. + آخر وافد الى مملكة ذراعي كان يوم الثلاثاء + بين المطر والحقيقة يسقط ظل الله + ها أنذا في سبيلي إلى ممارسة إنسانيتي + الغرفة مربعة، وكذلك القلب. + مع آخر سجائري، يتخذ القلق مكانه الأشد توحشاً

إن استقبال اللحظة الأولى من المنظور الكتابي، قد يكون تأمّلاً بولادة لحظات أخرى، والكتابة التلقائية تعتمد على التوليد الكتابي، فأنت تبدأ وسوف تنهال عليك الأفكار والجمل الشعرية المتواصلة، وهذا مانلاحظه من خلال الجملة الأولى التي بدأ بها الشاعر العراقي جان دمو، حيث أنه استطاع أن يولّد الجمل بشكلها الامتدادي لتكون المعاني متوازية مع النصّ كصورة كبرى.

نستطيع أن نقول إنّ الجملة الأولى تخضع إلى مصطلح التجريب، إذن فهي قابلة للتغيير حتى نهاية النصّ؛ ولكن في نفس الوقت طالما أنّ الشاعر جان دمو قد انتمى إلى الرمزية، فالحالة التي اعتنى بها معاني مدغمة في الذات الحقيقية، وعملية تبيانها يكون من خلال التفكر والتدبر اللذين يستوعبان اللحظة الكتابية: أمعن في صدودك أيها الواقع..

الانتماء هنا، انتماء واقعي قبل أن يبدأ بالوعي التجريبي الذي يفقده في الكتابة ويدخل منطقة اللاوعي، فالفعل الكلامي (أمعن) ساعدنا على توجهات الشاعر بمكان معين، وإلا لم يصدر فعله الاستبياني بهذه اللحظة. فالإنسان شبيهه الإنسان، والنجوم شبيهتها النجوم، لذلك حقق الشاعر معيشته الشعرية قبل استيعابها، فالعيش مع الشعر تختلف عن الاستيعاب الشعري. لذلك أطلق الأشياء بمسمياتها ومنها الفأس مثلا التي ستبقى فأسا، والنجوم الباحثة ستبقى نجوما، وهي عملية الاستدلال التصويري المرسوم في النصّ.

بالسر يتركز النوم،

في أشدّ المناطق نأيا، أقذف حاجة غامضة

ولكنني كنت على وفاق مع متطلبات الربيع

تعلمت أن أكون أنا.

وأن أترك للواقع أن يتكفل ما فسد.

المسافة تقصر، والحقيقة تتآكل.

الجمال غرفة يابسة،

مهجورة.

أتعجّل مقدم الفجر. سقوطي يمتّع

جوهر الروح.

لم أتعلم أن أتغيّب طويلا.

قصيدة: السقوط – دان دمو

يمتثل الشاعر العراقي أمام بعض النصوص القصيرة، وهي تلك النصوص التي تتغير اتجاهاتها حسب السياق المكتوب في كلّ نصّ، ومن العنونة ننقاد إلى نصّ (السقوط)، ياترى كيف حالة السقوط التي امتثلها الشاعر في وحداته اللغوية. فالاختلاف الكتابي وسرّ الحقيقة وراء ذلك، هو الاختلاف بين الدوال والمدلولات، ففي كلّ نصّ تترتّب عليه القراءات الممكنة والمختلفة واللامحدود.

بالسر يتركز النوم، + في أشدّ المناطق نأيا، أقذف حاجة غامضة + ولكنني كنت على وفاق مع متطلبات الربيع + تعلمت أن أكون أنا. + وأن أترك للواقع أن يتكفل ما فسد. + المسافة تقصر، والحقيقة تتآكل. + الجمال غرفة يابسة، + مهجورة. + أتعجّل مقدم الفجر. سقوطي يمتّع + جوهر الروح. + لم أتعلم أن أتغيّب طويلا.

يشكل النوم، أو التفكر به، وإن كان بالسرّ، أحد مزايا السلوك الفردي، فالتدبر الذي يشغل الذات الحقيقية، ليس النوم فقط، بل تظهر الأنا الموازية للتفكر السري، وهنا نطرق باب الصمت من جهة وباب التأمل الذي ينتظر الشاعر من جهة أخرى، (تعلمت أن أكون أنا.)، فليس من السهل الخروج من منطقة الأنا طالما أن الشعرية تبدأ من الذات والتي نعتبرها ملكية خاصة لاتتشابه مع الذوات الأخرى.

لقد انحنى الشاعر أمام بعض المعاني التي ظهرت من خلال الحركة الفعلية، فالفعل يتركز، من الأفعال التموضعية فهي في مكان ما، ولا تصيبها الحركة الانتقالية، بينما الفعل (أقذف) فهو من الأفعال الانتقالية، ولم يوضح الشاعر جان دمو عملية القذف (فهو يميل إلى العادة السرية) فقد وظف الإشارات لكي تتبين المعاني الإيحائية التي رسمها خلف بعض الرموز وخلف بعض الأفعال الحركية الانتقالية وكذلك الأفعال التموضعية، فالعلاقة بين (يتركز النوم) أي أن يكون المرء ليلاً، وبين الرغبة الجنسية، هذه العلاقة أثارت وضوح النصّ الذي رسمه الشاعر جان دمو.

الضفادع تشم رائحة القصيدة

مثلها مثل الغرف والورقة

ولكن حينما تثقل القصيدة بياس فائر، يشك بنتيجتها.

لقد تعلمت أن أكتب ببساطة جندي أو ربيع عقيم.

يا للهزل! أي فوضى!

أيتها الأشياء، أأنت مصممة

ألاّ تفصحي؟

أية مفارقة.

لو فقط أستطيع أن أكون ما أنا، أو أن أموت بموت الصدى.

قصيدة: صدى الضفادع – دان دمو

ننزل إلى عبقرية الشاعر ومنظوره الكتابي في النصّ؛ والهدف من وراء ذلك معتقداته والتصورات التي تشكل ضرباً من التناسق، أمّا الاعتقاد فهو الهدف النصّي ومدى ترجمته للوصول إلى أبعد نقطة رسمها الشاعر جان دمو؛ فلاشكّ أن الانفعالات والغضب زائداً الرغبة الاندفاعية، كلها تشكل وسائل في الكتابة النصّية كي يفرغ الشاعر شحناته السلبية.

الضفادع تشمّ رائحة القصيدة + مثلها مثل الغرف والورقة + ولكن حينما تثقل القصيدة بياس فائر، يشك بنتيجتها. + لقد تعلمت أن أكتب ببساطة جندي أو ربيع عقيم. + يا للهزل! أي فوضى! + أيتها الأشياء، + أأنت مصممة + ألاّ تفصحي؟ + أية مفارقة. + لو فقط أستطيع أن أكون ما أنا، أو أن أموت بموت الصدى.

عندما نطرق الجملة، وهي جملة تعني الوجود، أي القادرة على الاستدلال، نكون قد وفقنا بين الروابط التي تربط الجمل الشعرية من جهة وبين انسجام المعاني التي تمتد بعضها على بعض؛ لذلك لايكتفي الشاعر بتسمية الأشياء أو الخوض بمشتقاتها وكذلك الاستعارات التي يعتمدها، بل يرى أن يغزو الطبيعة وما آلت إله من كائنات ترغب الظهور، فقد رمز الشاعر جان دمو إلى الضفادع وأشار إلى بعض المتعلقات ومنها الغرف والورقة والجندي والربيع، كلها كانت إشارات دلالية لتنشيط النصّ،

وكلّ إشارة تحوي على المتعة الداخلية من خلال المنظور الجمالي المختلف، الذي ساعدنا بأن ننظر إلى نصوص الشاعر العراقي جان دمو وهو يقودنا بين المنظور المحلي اليومي والمنظور البعيد الذي ربّما لم يأتِ دور حضوره؛ هذه الخصائص التي تمتع بها الشاعر هي العناصر الرابطة والمؤثرة في النصّ المكتوب، وكلّ شاعر يمتلك من المتعلقات الذاتية التي تُظهر أسلوبية كتابته وتنوعها وتجعله يختلف عن الآخرين.

نحو العبور ميتاً

أساهم في تطوير الأسبوع

أسجن نفسي في ميناء السرير

أستطرف قدوم الرمل، ونواحهُ

في جذور جبهتي

غيوم كثيرة تتعثر

في

الكلام، لن أمنعك

عشب كثير يتكلم لغة الزنجي

أقفالٌ.

قصيدة: جيلي – جان دمو

عندما ينجز الشاعر منظوره الذاتي، فإنه مع الإنجاز التأملي، التأمل الذي يدور في النفس بين الشكّ في النصّ المكتوب وبين الإنجاز الحتمي، لذلك يكون الإنجاز الجوهري بعد الكتابة، أي بعد أن يكون للنصّ استعمالات جديدة لوحدات خصصت لالتقاط الابتكارات وكذلك لرسم الأبعاد والمتقاربات في النصّ الشعري المكتوب من خلال الذات المختلفة، فاختلاف الذات يؤثر على اختلافات النصّ.

نحو العبور ميتاً + أساهم في تطوير الأسبوع + أسجن نفسي في ميناء السرير + أستطرف قدوم الرمل، ونواحهُ + في جذور جبهتي + غيوم كثيرة تتعثر + في + الكلام، لن أمنعك + عشب كثير يتكلم لغة + الزنجي + أقفالٌ.

سلطة النصّ؛ هي سلطة الشاعر وما ينوي أن يرسمه من كلمات مركبة تؤدي وظيفتها ضمن الإطار النصّي، وأن يكون للشاعر بعض المفاهيم التي ينطلق منها ومن أهم تلك المفاهيم غير المنظورة هي كتابته خارج التكلف، أي أن يكون للموضوع النفسي (المدلول) الأهمية في التدخل النصّي، وما الخيال إلا بعض عناصر الشروط النفسية عندما يغيب الشاعر عن الوعي الكتابي؛ وقد لاحظنا أن الشاعر جان دمو قد أكد على مفردات تؤدي إلى النهاية (الموت) إذن الحالة التأملية قد يأس منها الشاعر وهو في دوّامة من حياة لا يستطيع أن يصرعها.

(لاتتأثر بيئة النصّ ضمن سياق الاتصال فقط بمعرفة الفرد أو مقاصده أو بوظائف النصّ في تأثيرها في مواقف أفراد آخرين وسلوكهم، فإن جماعات ومؤسسات وطبقات تتواصل أيضا تواصلا جماعيا أو عبر أفرادها من خلال إنتاج النصّ. ويبرز كذلك مكان الفرد ودوره ووظيفته في هذه الأبنية الاجتماعية من خلال سلوكه اللغوي. وقد رأينا بأن الفرد يجب أن يتصرّف من خلال سلطة أو وظيفة محددة أيضا لإنجاز أحداث لغوية معينة. "   "). وبذلك عندما يكون الشاعر متعلقا بإنجاز النصّ، فهو متعلّق لغويّ، وكذلك هناك علاقة جدلية بين النصّ والبيئة الأصلية التي ينتمي إليها، وليس هناك شرط ارتباط بالبيئة الأصلية بقدر ما تكون تلك البيئة التي عاشها في زمنية النصّ حتى وإن كانت بيئة مؤقتة.

لقد وظف الشاعر بعض المفردات الرمزية والتي من خلالها استطاع أن يصل إلى تعابير ضمن المفهوم النصّي، لتصبح تلك المفاهيم الدالة، كدلالات تقودنا إلى غايات معينة؛ مثلا: ميناء السرير؛ الرمل؛ الجبهة؛ الغيوم والزنجي؛ وهي كلها رموز وظفها الشاعر لتكون الجمل الشعرية مرتبطة ومنسجمة مع بعضها  بعض، لتؤدي وظيفتها في المفاهيم الهادفة بالنسبة للشاعر.

*** 

علاء حمد - ناقد عراقي 

.......................................

نصوص للشاعر العراقي جان دمو

الظلّ

امعن في صدودك أيها الواقع

فذاك قد يكون أولى بتمزيق النجوم

النجوم! قدم تبحث عما يماثلها، قدم تورق مع الحلم. قدم تقطع

الفأس التي صنعت لقطع الجذوع ستظل فأسا دوما.

آخر وافد الى مملكة ذراعي كان يوم الثلثاء

بين المطر والحقيقة يسقط ظل الله

ها أنذا في سبيلي إلى ممارسة إنسانيتي

الغرفة مربعة، وكذلك القلب.

مع آخر سجائري، يتخذ القلق مكانه الأشد توحشا.

**

السقوط

بالسر يتركز النوم،

في أشدّ المناطق نأيا، أقذف حاجة غامضة

ولكنني كنت على وفاق مع متطلبات الربيع

تعلمت أن أكون أنا.

وأن أترك للواقع أن يتكفل ما فسد.

المسافة تقصر، والحقيقة تتآكل.

الجمال غرفة يابسة،

مهجورة.

أتعجّل مقدم القجر. سقوطي يمتّع

جوهر الروح.

لم أتعلم أن أتغيّب طويلا.

**

صدى الضفادع

الضفادع تشم رائحة القصيدة

مثلها مثل الغرف والورقة

ولكن حينما تثقل القصيدة بياس فائر، يشك بنتيجتها.

لقد تعلمت أن أكتب ببساطة جندي أو ربيع عقيم.

يا للهزل! أي فوضى!

أيتها الأشياء، أأنت مصممة

ألاّ تفصحي؟

أية مفارقة.

لو فقط أستطيع أن أكون ما أنا، أو أن أموت بموت الصدى.

**

جيلي

نحو العبور ميتاً

أساهم في تطوير الأسبوع

أسجن نفسي في ميناء السرير

أستطرف قدوم الرمل، ونواحهُ

في جذور جبهتي

غيوم كثيرة تتعثر

في

الكلام، لن أمنعك

عشب كثير يتكلم لغة الزنجي

أقفالٌ.

للشاعرة الدكتورة ليلى الصيني.. دراسة نقدية

نقف أمام قصيدة "حافية القدمين" للشاعرة السورية الدكتورة ليلى الصيني، لا بوصفها نصاً شعرياً صرفاً فحسب، بل كبنية رمزية كثيفة تُعبّر عن تجربة أنثوية معقّدة تجمع بين الانكسار والبعث، بين الموت الرمزي والانبعاث الوجداني، بين التصوّف العشقي والتحرّر الوجودي. هي قصيدة تفيض بلغةٍ مشحونةٍ بالعاطفة، متينة في تركيبها الأسلوبي، ومليئة بالإشارات النفسية والرمزية والهيرمينوطيقية.

ففي مجال القراءة الأسلوبية – هندسة البوح وتراكيب الإيقاع تعتمد القصيدة على إيقاع داخلي غني، لا يُبنى على الأوزان التقليدية، بل يستند إلى الانفعالات اللغوية وترددات الصوت والهمس. تُكرّر الشاعرة لفظ "وحدك" لتأكيد التفرّد والتوحّد في المعشوق، كما تستثمر التكرار العاطفي في عبارات مثل:

"وحدك الفارس الذي تجاوز سرعة الضوء".

كما تقول:

 "وحدك الذي خلع الدجى بفجر الحلم".

يخلق هذا التكرار لُحمة إيقاعية تبني صورة المُخلّص. كما تُوظف مفردات ذات بعد زمني ومكاني (أيلول، سدرة المنتهى، المطر، الدجى، فجر) لتوسيع الأفق الدلالي.

أما في مجال القراءة النفسية – نجظ أنّ المعشوق كمخلّص والمعشوقة كذات جريحة تتجلى في النص ثنائية اللاوعي والوعي، عبر بروز المعشوق بوصفه "الفارس المنتظر" الذي "أيقظها من الغفلة". هو ليس شهريار، ولا هي شهرزاد، بل كيانان يتجاوزان المرويات الذكورية التقليدية. تقول د. ليلى:

 "كل جوارحي بايعتك أميراً لقلبي".

إنه فعل نفسي يعكس الحاجة إلى الاستسلام المشروط لحضور مَن يحرّرها من الخيبة والوحدة والذاكرة الجريحة. المعشوق هنا يتجسد في صورة الأب/الحبيب/المخلّص، وهي صورة مركّبة تنتمي إلى منهج علم النفس الجمعي وتنتمي إلى أرشيف الوعي الجمعي الأنثوي.

في سياق القراءة الرمزية – الأسطورة، الطفولة، والنار تنحت الشاعرة ليلى الصيني صورة البطلة التراجيدية التي "خرجت من معبد العشق حافية القدمين"، وقد "شيّعت كل الأحلام ذات حين"، و"كتبت على جدار الصمت تعويذة". هذا الخروج الأسطوري يجعلها كاهنة عصرية رفضت عبودية الحب فاختارت عري التحرّر. الحذاء هنا رمز الطفولة المهدورة، والحبّ إله مُحطّم، والمطر رفيق البقاء، تقول .

"صداقة الريح واتخذت المطر خليلا".

إنها استعارات كونية تُشير إلى علاقة الذات بالكون كبديل عن الحبيب المخذول.

 ما سبق يدفعنا لإجراء قراءة هيرمينوطيقية للقصيدة ومعرفة كنه ومستوى اللغة كأداة خلاص وتأويل في سياق هرمنيوطيقي، فوجدنا أنّ اللغة تعمل كوسيط بين المعنى والوجود، بين الداخل والآخر. النصّ لا يُكتَب لمجرد البوح، بل بوصفه محاولة لإنقاذ الذات عبر الكتابة. لذا تقول:

 "الله الله الله .... قد أفلح صوتك حين أيقظني من غفلتي".

هذا الاستدعاء الصوفي للاسم الإلهي ثلاثاً، يعكس تأويلاً روحياً لحظة التنوير. فالمعشوق صار مرآة نور، لا جسداً ولا ظلّاً، بل صوتاً داخلياً أيقظ الحضور من غيبوبته الوجودية.

أخيراً .

نجد النصّ كعتبة خلاص في "حافية القدمين"، لذا نحن إزاء نصّ شاعريّ فلسفيّ وجدانيّ، يُعيد تمثيل الذات الأنثوية لا بوصفها تابعة، بل ككاهنة تخوض طقوس الانعتاق من الحكاية، من الألم، من شهريار. القصيدة حفر في اللغة والمجاز، تأويل للهوية الأنثوية داخل عالمٍ مليءٍ بالخسارات، حيث يأتي الحبُّ لا كحكاية بل كخلاص، لا كامتلاك بل كتحوّل.

وبذلك يتحوّل النص من مجرد اعتراف عاطفي إلى رؤية شعرية تأويلية، تقيم حواراً بين الجسد والروح، بين الذات والعالم، بين الحب والحرية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

......................

حافية القدمين

خذني بيديك .. لا تذرني

سر بي حيث سدرة المنتهى

حيث ينمو العشق من بين أصابع الزنبق

خيوط حرير ...

إرسمني على الورق الأصفر في أيلول

لملم شتاتي شكلني طائرة ورق

وانفخ بي روحك

دعني أحلق فوق مدينة الأحلام قصة عشق

 *

أنا إمرأة لم أتبهرج بألوان الكلمات

ولم أخض بقواميس السحر

وحدك الفارس الذي تجاوز سرعة الضوء

لتشعل ألف لهفة في محراب انزوائي

وحدك الذي رفع راية العشق على جسدي المحرر

من عبودية أزمنتي

وحدك الذي خلع الدجى بفجر الحلم

وأشرع أبواب قلبي الموصدة

ولج عرش النبض فاتحاً محرراً

وتخطى حدود المعقول واللا معقول

بحضور مهيب

 ألقى خطبته العصماء

فتلقفتها عيناي بشغف ونشوة

 بنكهة فرحي ...

كل جوارحي بايعتك أميراً لقلبي

وبقبلات العشق مهرت صك إقراري

إنك فارسي المنتظر

لست شهريار ولا أنا شهرزاد

وما أغريتك بألف ألف قصة لأذوب شهداً في فمك

كل ما تعلمه إني ليلى ..

أنثى شيعت كل الأحلام ذات حين

كتبت على جدار الصمت تعويذة .. وحذاء طفلة ماتت من سنين

طوت دفاتر التاريخ ... حطمت إله الحب

وخرجت من معبد العشق حافية القدمين

صداقة الريح واتخذت المطر خليلا

هل أتيت .؟؟

لتحررني من قبضة الريح

لتأخذ بيدي بعد موت أحلامي

أغرك جفاف شفتاي .. في زمن المكياج

أم أغرتك عيناي الحالمتان بصمت

وشمعة توقد على روح الياسمين ؟!

كيف نفذت إلى أنفاسي كشراب التوت

كيف أخرجتني من بوتقة الحزن

وسكبت ماءً بارداً كي أستفيق

الله الله الله .... قد أفلح صوتك

 حين أيقظني من غفلتي لأبصر النور

 

يقول الجاحظ "القلوب المكلومة إذا قالت أوجعت، وكان لكلامها وقع لا يكون لغيرها"

في ارض العراق يتشارك الجميع الألم، فهو القاسم المشترك تتوارثه الأرواح فيتشكل من خلاله الجزء الأكبر للمخيال الجمعي، وكما يقره الباحثون، فهو البنية الرمزية التي تنبثق من الوجدان الجماعي وتتسرب إلى اللغة والصورة والرمز لتتجسد من خلالها، ولذلك كان الشعر أرضا خصبة للمخيال الجمعي، فمن خلاله تَّحول النص إلى مرآة تكشف ذلك القلق بحنين وألم الشاعر تارة وبالبحث عن الهوية المستلبة أو المهددة تارة أخرى، ومن هنا أتقدت فكرة إماطة اللثام عن هذا القلق، متجاوزا الأمكنة عابرا لتلك التنوعات الثقافية فلا يعترف بالخرائط ولا تحده ثقافة متخطيا ذلك، متسللا عبر الثقافات معانقا لذلك المشترك الثقافي، بنبرة حزينة تجمع ما بين شاعر الجنوب يحيى السماوي وشاعر الشمال جهاد الدامرجي، وصوت الانتماء المربك شاعرة الأنثى آمنة محمود ليتبدى لنا صوت يشق جدار سومر لتنهض تراتيل سومرية نازفة من الطين ذاته، ارض العراق، لتجمع بين نخيل الجنوب يحيى السماوي، وسرو الشمال، جهاد الدامرجي، وصفصافة الأعظمية آمنة محمود.

إنَّ التمثلات الشعرية للغربة والحنين والانتماء للشاعرين نراها محملة بمعاناة جماعية تتجاوز الذات الفردية، فلم تعد الغربة توحي بذلك البعد المكاني، بل نرى الشاعر يُعيد تشكيلها لتعبر عن انفصال قسري وتمزق داخلي ناتج عن الإقصاء والتهميش وتنميط الأخر ووفقا لذلك يتلاقى الشعراء.

أولا: المكان بين وجع الروح وألم الجسد.

يتعامل الإنسان مع الأمكنة وفقا لمنظومة متباينة من الدلالات كان منها ما يركز عليه الشاعر من دلالة توحي بها علاقة الروح مع الأمكنة، فتلك العلاقة تجسد لنا لحظة الهلاك لذلك الجسد إذما فارقته الروح \المكان وهذا يُشير إلى رابط نفسي ووجداني بين الشاعر والمكان [1]، وتبعا لذلك يقول السماوي ما نصه:

أأحمل ُ نخلة أمي معي ؟

أم أترك روحي هناك

وأهاجر وحدي ؟[2]

وهنا يدخلنا الشاعر في دوامة فقده لروحه متسائلا إن كان بإمكانه أن ترافقه تلك الروح التي تجسدت كائنا أخر يحاوره الشاعر، إذ يتساءل السماوي إن كان بإمكانه أن يحمل وطنه \نخلة أمه وهو يعلم بأنه ليس بإمكانه أن يحمل وطنه معه، فالعلاقة بين الشاعر \الأم \النخلة، علاقة ثلاثية الأبعاد، تتجسد من خلالها الهوية متمثلة بالمكان، وتكون الأم دليل الانتماء أما النخلة فقد كانت رمزا للمكان وامتدادا للأم، واصول الشاعر الجنوبية، فهي شامخة متجذرة كالأم تشد الشاعر إلى اصوله الجنوبية فالصورة تختزل دلالة روحية فضلا عن دلالتها المكانية.

أما سؤاله فمؤكد أن الشاعر على علم بالإجابة وهي استحالة أن يحمل الشاعر تلك النخلة، والهوية والمكان، وهنا تكمن لحظة الوجع من خلال منفى الشاعر الحقيقي ووانفصاله عن تلك الجذور.

أما الدامرجي فقد يتجسد الوطن في صورة أنثى تتوحد مع الأم والحبيبة، فكانت مصدرا يهبه الحياة وتؤكد أُصوله وتعزز انتمائه، لكن الشاعر يعيش لحظات الفقد ذاتها التي شهدها السماوي فيقول ما نصه:

"آنا كركوك

كَوزل ياريم

سن سز قالماغ

جانسيز قالما ق."[3]

يتحقق من خلال علاقة الدامرجي مع مدينته وجوده وتثبت هويته ويُعزز انتماءه، وفقدانها هو قطع لتلك الأواصر وإلغاء لهذا الوجود، وانكسار لجوهر الشاعر الداخلي، فالمدينة \كركوك، هي الأم والحبيبة الجميلة وبمجرد أن يفارقها كأنما يُفارق روحه، وهي علاقة مشابهة تماما لعلاقة السماوي مع النخلة التي لا يمكن أن يقتلعها ليحملها معه أينما حل.

يعيش الشاعران التجربة ذاتها وحالة الفقد ذاتها، فتغدوا العلاقة مع المكان

إنَّ ما يُميز قصائد (الدامرجي) هو إصراره على قولها دون ترجمة بل بلغة الأم التركمانية في العراق وهذا بحد ذاته فعل مقاومة وكأنَّ القصيدة تحاول أن تقول إنَّ لغتي موجوعة لكن رغم هذا الوجع والألم ما زالت تنطق وهذا يتفق تماما مع رؤية الناقد (د. سمير خليل) أستاذ النقد الأدبي الحديث والدراسات الثقافية في جامعة المستنصرية، إذ يقول:" إنَّ التمزق في الهوية الوطنية العراقية برر فيما بعد للتمسك المتطرف بالهوية (الكردية والسريانية والتركمانية وقبل ذلك القومية العربية) [4].

كما وتميزت اللهجة التركمانية عند (الدامرجي) بصوتها الريفي الكركوكي أو التلعفري، وهذا بدوره أضفى على المفردة الطابع المأساوي وكأننا نلمح أنيين ينبعث من صدى حروف المفردة، حتى أنَّ القارئ العربي رغم اللامفهومية قد يكون لتلك الكلمات وقعها على مسمعه.

ثانيا: الوجع الداخلي وتشظي الهوية:

يستدعي السماوي مرآته لتكون البوابة التي تنقله إلى ماض يحن إليه وذكريات يحاول استحضارها لكن المرآة تخونه والذاكرة لا تسعفه، فهو يتوسل بالذاكرة لتكون المنقذ له في الغربة، لكنها تفاجئه باستحضار مشاهد تضمر الخيبة والانكسار فلا يتذكر سوى الخسارات لذلك فهو يقول:

 أبحث في المرآة عن قميصي القديم

فلا أرى غير الحطام "[5]

فالمرآة تُعيد أنتاج الخسارة، لكنها لا تخمد صراعات الشاعر الداخلية وكأنه يرى من استحضار الماضي وتذكره المنقذ له، لكن هذا المنقذ يتعمد الفرار ليتعرى الفرد أمام ذاته لائما ومعاتبا، فلم تعد الذاكرة تملك القدرة على استحضار صورة الوطن أو صورة الأحبة وهنا يكمن الوجع ويتجدد الألم عند كل لحظة يحاول الشاعر فيها أن يمتلك زمام الأمور لكن يرد خائبا متألما.

وللأنثى كذلك جروح لا تُدمل بل تتسع وتتسع ما بين حين وحين ليتجدد الألم وكأنه يأسف على مغادرة الجسد فالذاكرة هي الحارس الأمين وكيف له أن يفرط به ويسمح له بالخروج، وهنا يكمن الوجع الحقيقي هو أن تخونك ذاتك وترتد عليك تلك القوى من الداخل لتستنزف قواك وتكون يدك هي اليد التي قطعت أنفاسك، فالوجع كصوت أنثوي قد يعلو فجأة كصرخة مكبوتة، وقد يخفت كأنين لا تسمعه إلا تلك الروح الموجوعة فهو يتوارى خلف تفاصيل الحياة، وهذا الأنين لا يعني نهايته بل يتجدد بين الحين والحين، يتمدد داخل الجسد قد يعلو حينا ويخفت كأنين خفي حينا أخرى، هذا الصوت الذي نسمعه من صدى تلك الحروف التي سطرتها الشاعرة (آمنة محمود) ، تلك الشاعرة التي لطالما مزجت بين وجع انثوي وانتماء المتعدد فوصفتها بعض القراءات بالفراشة الملونة وأنا أراها صفصافة دجلة، إذ تجذر صوتها بين ضفتي الحياة والموت معا، صفصافة انحنت على نهر دجلة دون أن تنكسر وذلك ما توحي به قصائد الصفصافة، ووفقا لذلك تقول ما نصه:

 استنطق ذاكرة المرايا فأراها

 (أنثى من ورق

أثاثها الكلمات

ودمعها الأحبار)

أتشرنق حولي

تتكدَّس شظاياي فوق شظاياها

وحين نصير كتابا لا نعود.[6]

يبدو أن الذاكرة تقود الشاعرة إلى ذكريات محملة بالألم والوجع تلك الذكريات ولشدة وجعها ووقعها جعلت منها مجرد أنثى ورقية من الممكن أن تتمزق في أي لحظة أو تحترق فصورتها التي تنعكس على المرايا كانت اللحظة المسؤولة عن ولادة الوجع، ومحاولة فرض سلطته على الشاعرة لكنها تنتفض لتطرد الوجع خارج مملكتها وتتمرد، رغم أنَّ محاولاتها الدفاعية كانت تتسم بالرقة والأنوثة، إذ نراها تتشرنق حول ذاتها كوسيلة دفاع ومع أنَّها وسيلة دفاع هشة لكن ما يُحسب لها هو تلك الأنوثة التي تتجلى بها وهي تقاوم هذا الوجع فقولها (أنثى من ورق) قد يوحي بالجمال والرقة تارة والضعف والانكسار تارة أخرى وللفظة (التشرنق) هشاشة وانطواء حول الذات وشعور داخلي بالضعف والخوف والقلق مما هو آتا، لكن هي صورة لولادة جديدة، فضلا عن ذلك فقد كانت المفردات التي شكلت الصور المجازية تحمل بصمة أنثوية واضحة، فهي تستحضر مفردات تنحدر من حيزها الأنثوي والرمزي للمرأة وهذا ما تجلى لنا من خلال (اتشرنق، امرأة من ورق) ، فتعبر من خلالها عن موقع المقاومة من الداخل لا من موقع الصدام، بعبارة أخرى من موقع تكوينها الداخلي، فهذا التحول الذي يُسببه التراكم وتكدس الألم والانكسارات إنما كان سببا في قوة الشاعرة فمن هشاشة إلى ورقة ومن ثمة إلى كتاب فأي تحول هذا تتسلح به تلك الذات الأنثوية لتؤكد تجاوزها الألم وتحقق انتصارها وتحوله إلى قوة هادئة، تستمد رقتها من جوهرها لا من ضعفها وانكسارها، ومؤكد أنَّ هذا الكتاب الذي تشكل من ألمها لا يمكن أن يوارى بل سيضل رمزا لخلودها رغم أنه نُسج من جراح هذا الجسد، والاهم من ذلك أن الصفصافة آمنة محمود بعد أن تناست هذا الوجع اختارت أن لا تعود قد يكون للماضي أو لتلك المرأة الورقية، أو إلى تذكر تلك الجراح وفي كل الأحوال كان الرحيل دون عودة المنطقة التي يتألف شعورها الداخلي مع الألم ويعتاد عليه.

وتأسيسا لذلك لنا أن نقول أنَّ كوامن الذات الداخلية للشاعرة كان مصدر للألم والوجع، فلولا الذاكرة لما تمثلت لها صورة المرأة الورقية على المرايا فأوقدت تلك الجراح التي تتوارى في كوامنها الداخلية لتتشظى منقسمة على ذاتها ما بين السقوط تارة واستجماع القوى وتجاوز تلك الجراح المتراكمة للنهوض من جديد تارة أخرى.

وللألم وقعه على روح السماوي فيقول ضمن مقطع تتجلى من خلاله فوضى الانتماء والهوية المشتتة:

وأملك من الوطن

بعض ترابه العالق بحذائي

حين عبرتُ حدوده

بجواز سفر مزُوَّر..[7]

يضمرُ نص السماوي معاناة التمزق النفسي والاغتراب وفقدان الهوية والانتماء، فأثار التراب العالقة بحذائه تعكس هذا التمزق النفسي الذي يعيشه الشاعر معلنا مرارة الفقد الكامل، فالتراب كان اثر عابر والجواز المزور كان رمز الانكسار، فكيف لأرضه، وطنه التي ينتمي لترابها، أن تكون مجرد أثار تتلاشى مع كل خطوة يخطوها الشاعر، وكيف له أن يعبر حدود وطنه بجواز يصرح بدخوله أو يمنعه من الدخول فما بين الرغبة في الانتماء وواقعه الذي لا يعترف بل وينكر انتمائه يتجلى الوجع الداخلي ليرسم لنا مفارقة تمزج ما بين الحنين والخذلان.

للدامرجي أبيات محمَّلة بالحنين والترابط العميق بين روحه كمواطن تركماني وأرضه التي ينتمي إليها ليُثبت من خلالها وجوده ويؤكد هويته التركمانية، وتبعا لذلك يقول الشاعر ما نصه:

غربته قلبم أغلار

وطنه حسرت قان آغلار [8]

فقد كانت الغربة ومفارقة الشاعر لأرضه، مدينته كركوك، مصدرا لذلك الوجع الذي أبكى قلبه ودمه، فالوجع الذي امسك قلب الشاعر بقبضته هو وجع جماعي لا فردي، مشترك والجامع هو تلك الأرض التي ينتمي إليها الشاعر والتي يبدو أنه فارقها قسرا لذلك فهو يبكي من شدة الألم فالغربة كانت توقِد نار الشوق والحنين إلى أرضه.

***

نسرين إبراهيم الشمري

...................

* ترجمة القصائد من اللغة التركمانية إلى العربية... سندس هادي شكور. (مدرسة مادة اللغة التركمانية ث جلال رضا أفندي)

المصادر

اشكالات النقد الثقافي، عبدالله الغذامي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2023:132

ديوان نقوش على جذع نخلة، يحي السماوي، ديوان العرب، 2006

النقد الثقافي والممارسات الثقافية للخطاب، سميرالخليل، كنوز المعرفة، عمان، 2023:90

جهاد الدامرجي ملك القصيدة الشعبية التركمانية، مجلة صدى التركمان، أيوب بامبوغجي، 2020

 

قراءة نقدية في شعرية المقاومة بنص الجوع الناطق للشاعر محمد ثابت السميعي

يحمل عنوان قصيدة "الجوع الناطق" مفارقة بلاغية لافتة (oxymoron) إذ يحول الجوع من حالة بيولوجية صامتة إلى كيان ناطق وفاعل، و"غاضب"، في انزياح دلالي كثيف يختزل طبيعة القصيدة كلها بوصفها صرخة احتجاج جماعي ضد الجوع والخذلان والصمت العربي المريب. ومن هنا، تغدو القصيدة فعلاً بلاغياً سياسياً تسائل من خلاله الذات الشاعرة مواقف السلطة وتكشف عن بنية التواطؤ التي تعيد إنتاج المجاعة وتصادر الكرامة.

تنطلق هذه الدراسة من فرضية مفادها أن القصيدة لا تقدم الجوع بوصفه حدثاً بيولوجياً، بل كرمز ثقافي / سياسي مشحون بالمعاني. وتسعى إلى تحليل تشكل الخطاب الشعري المقاوم في النص من خلال مساءلة البنية الأسلوبية والرمزية والإيديولوجية في ضوء منهج نقدي مركب يجمع بين المقاربة الأسلوبية والتحليل الموضوعاتي والإيديولوجي.

إنّ أهمية هذه الدراسة تنبع من قراءة القصيدة باعتبارها نصاً احتجاجياً يحمل طابعاً إنسانياً معاصراً يفضح ديناميات السلطة والتهميش، ويعيد للشعر مكانته كوسيط للوعي والمقاومة....

من البنية إلى الخطاب: تمفصلات المعنى في نص الاحتجاج الشعري

تبنى قصيدة "الجوع الناطق" على تسلسل بنيوي داخلي يحاكي منطق التصعيد الدرامي ويُفعّل آلية الخطاب الاحتجاجي في مراحل متوالية. وتظهر القراءة البنيوية للنص أنه يتكون من وحدات دلالية مترابطة تؤسس خطابه من النداء إلى الإدانة:

النداء التحذيري الاستهلالي: تفتتح القصيدة بأسلوب الأمر "قِفَا"، وهو نداء مزدوج مستوحى من استهلال المعلقات ("قفا نبكِ")، ما يضفي طابعاً تراثياً على لحظة التأمل ويفتح أفقاً تأويلياً يحمل النداء بعداً أخلاقياً واستعجالياً .

التوصيف التصاعدي للمأساة: يصور الجوع باعتباره قوة مدمرة تفتك بالشعب في تصعيد درامي يحول الظاهرة من مجرد حالة اجتماعية إلى مشهد كارثي مفتوح يتجاوز الإطار المحلي إلى مستوى الأمة.

التمثيل الرمزي للمعاناة: تتجلى مأساة الجوع عبر رموز موحية كـ"الطناجر المنهكة"، و"الأبنية التي تموت"، و"الدمع"، وهي صور ذات طابع يومي مألوف، لكنها محملة بشحنة دلالية تحيل إلى السقوط الاجتماعي وانهيار البنى الحياتية.

المفارقة الأخلاقية والسياسية: يتسع النص لعرض ثنائية أخلاقية حادة بين "من لبى" و"من خذل"، بين "المنبطحين" و"المقاومين"، ما يعكس اشتغالاً عميقاً على مفاهيم العار والشرف والتخاذل في سياق يعيد ترتيب القيم.

الخاتمة التقويمية والرمزية: النص بصيغة لعن وشجب، حيث يتحول الجوع إلى قوة قضائية ,لا فقط مادية تدين الجميع وتنطق بالحكم الرمزي على المتخاذلين. تحيل "الشباك" هنا إلى رموز مركبة: قد تشير إلى الحصار أو العجز أو حتى الاحتلال ضمن مساحة رمزية مفتوحة على التأويل.

إنّ هذا التسلسل البنائي لا يخدم فقط البناء الجمالي للقصيدة، بل يشكل في جوهره بنية خطاب احتجاجي مكتمل العناصر يحشد فيه الشعري لخدمة الرسالي....

بلاغة الاحتجاج الشعري: تشكيلات اللغة والإيقاع والانزياح في "الجوع الناطق"

تتسم لغة قصيدة "الجوع الناطق" بجزالة فصيحة وتستثمر حقولاً دلالية متداخلة: دينية ("الخزي"، "اللعنة")، سياسية ("الخيانة"، "الخذلان"، "الاقتصاد")، واجتماعية ("الجوع"، "الطناجر"، "المعونات"). الشاعر ينهل من معجم عربي كلاسيكي لكنه يحمله هموماً معاصرة، ما يضفي على النص كثافة لغوية ذات بعد رسالي.

تعتمد القصيدة أدوات بلاغية متعددة، أبرزها الاستعارة والتشخيص، حيث يتحول "الجوع" إلى كائن ناطق وفاعل يمتلك إرادة وغضباً:

"قِفَا.. فالجوعُ يَدفَعُ بالأُلوفِ / لهاوية التدافعِ والهلاكِ"

"قِفَا.. فالجوعُ يَلعنكم ويدعو / عليكمْ بالمجاعةِ.. والشَّاْبَاكِ !"

بهذه الأساليب، يستثمر الجوع بوصفه رمزاً مركزياً للقصيدة تتجمع حوله بقية الدوال في مشهد احتجاجي.

كما يكثف الشاعر التوازي التركيبي عبر التكرار البنائي للأمر "قِفَا"، المستوحى من الشعر الجاهلي ("قفا نبكِ")، ما يمنح القصيدة بعداً نصياً تراثياً في خدمة قضية معاصرة، ويضفي على النصّ نبرة تحذيرية واستنهاضية.

وتبرز المقابلات والصور الجدلية في بنية القصيدة:

"يأكل نصف شعب / يفتك بالبقية" – تصوير مركب لمأساوية الجوع.

"من لبّى / من خذل" – بناء ثنائي أخلاقي واضح.

"تلقّاها بحظ وافر / يعيشون انبطاحاً في تباهٍ" – مقابلة بين الشهادة والمهانة.

إيقاعياً، تنتمي القصيدة إلى البنية الخليلية العمودية، وهي موزونة وهو ما يضفي طابعاً كلاسيكياً مهيباً يناسب البنية الخطابية ذات النفس الاحتجاجي. انتظام التفعيلات وتماسك القافية يسهمان في ترسيخ الرسالة ويقربان النص من نمط الإنشاد الجمعي.

ولعل هذا ما يجعل القصيدة تحقق ما أشار إليه الناقد صلاح فضل في حديثه عن الشعر السياسي، حين قال:

"إن الشعر حين يغدو خطاباً احتجاجياً لا يفقد شعريته، بل يضاعفها حين يستبطن القيم الجمالية في بنيته الأسلوبية."

وبذلك، تتجلى بلاغة القصيدة في قدرتها على تحويل المأساة اليومية إلى شكل فني متماسك، يشتبك مع اللغة من جهة، ومع الواقع من جهة أخرى...

الجوع بوصفه خطابًا كاشفًا: البنية الموضوعية والرمزية السياسية

لا يطرح الجوع في هذه القصيدة بوصفه حالة بيولوجية ظرفية، بل يتحول إلى رمز مركزي يفكك البُنى الاجتماعية والسياسية القائمة. إنه خطاب كاشف، يمتحن من خلاله الضمير الجمعي للأمة، كما تنفضح به هشاشة السلطة وسلوك النخب المتواطئة.

يقول الشاعر: "قِفَا.. فالجوعُ يأكلُ نِصفَ شَعْبٍ / ويَفْتِكُ بالبقيَّةِ في اشتِباكِ"، لتكون الصورة أقرب إلى ملحمة فناء جماعي.

تسير القصيدة في مسار جدلي: من الرصد المأساوي للواقع إلى التحريض، ثم الإدانة الصريحة. يخاطب الشاعر الشعوب والأنظمة على حد سواء، لكنه يمنح "الجوع" ذاته صوتاً كأنّه نبيّ ساخط أو قاضٍ يحكم على الجميع.

وتتّضح هذه النزعة في قوله:

"قِفَا.. فالجوعُ يَلْعَنُكمْ ويدعو / عليكمْ بالمجاعَةِ.. والشَّاْبَاكِ !"

ولعل استعارة "الأسد النائم" تحمل إحالة مزدوجة: فهي تعيد تدوير الصورة النمطية للعرب في الشعر السياسي (عبر النقائض والهجاء)، كما تفضح الغياب السيادي للرد الجمعي أمام المأساة.

من صوت الجياع إلى صرخة الوعي: التشكل الإيديولوجي للموقف الشعري

ينطلق موقف القصيدة من تصور جذري لوظيفة الشعر، لا بوصفه أداة جمالية محايدة، بل فعلاً يتقاطع مع الوعي والاحتجاج. وفي هذا السياق، يصدق ما قاله أدونيس:

"الشعر ليس وسيلة لتزيين الواقع، بل لتفجيره."

وهو ما تقوم به القصيدة فعلياً، إذ تنحاز للمقهورين، وتكشف بنية القهر، وتدين بالصورة الشعرية ما تعجز عنه اللغة المباشرة.

تمتلك القصيدة رؤية واضحة وانحيازاً صريحاً للمهمشين والمقهورين، مقابل إدانة قاسية لمن أسماهم الشاعر بـ"المنبطحين"، أو أولئك الذين "غضّوا عرشهم" عن رؤية المأساة. ويمكن تصنيف هذا الموقف ضمن تقاليد الشعر المقاوم، حيث تنحاز الكلمة إلى الهامش بدل المركز.

يقول: "ومَنْ لَبَّى ولاقى الموتَ عِزّاً / لنُصْرَةَ أهْلِهِ مِثْلَ المَلاكِ"، في احتفاء واضح بالشهادة والبطولة الفردية.

لكن الموقف الأيديولوجي هنا لا يقدم بلغة تقريرية، بل عبر استعارات وانزياحات تنقل الجوع من مستوى الحاجة إلى مستوى "الثورة الكامنة" التي تنتظر لحظة الاشتعال. بهذا، يحول الشاعر قصيدته إلى مانيفستو احتجاجي يتقاطع مع مزاج الانتفاضات الاجتماعية والسياسية في الوطن العربي.

ويسجل له توظيفه للتكرار، والمقابلة، والانزياح الرمزي ليجنب نصه السقوط في المباشرة، ويمنحه بعداً تأويلياً مفتوحاً....

تمثل قصيدة "الجوع الناطق" أكثر من مجرد رثاء شعري لحالة مجاعة أو أزمة اقتصادية؛ إنها نص احتجاجي مركب يتجاوز الوظيفة التقريرية نحو بناء خطاب مقاومة رمزي ومفاهيمي، يجعل من "الجوع" فاعلاً ناطقاً ومن الشعر نفسه سلاحاً في مواجهة الخذلان المؤسسي واللامبالاة المجتمعية.

ينجح الشاعر في إعادة تشكيل الجوع من كونه حالة بيولوجية إلى كونه رمزاً مركزياً في بنية الصراع القيمي والحضاري، مستنداً إلى مرجعيات دينية وأخلاقية، وشعبية. بهذا التوظيف الرمزي، يغدو النص ساحة صراع بين:

الكرامة والموت

الحق والجوع

الصوت والصمت

الوعي والخيانة

وقد كشفت القراءة، بمستوياتها البنيوية واللغوية والرمزية، عن اتساق النص في تشكيل موقف أيديولوجي صريح، دون الوقوع في المباشرة، بل عبر أدوات شعرية مثل التكرار،و الانزياح، والصورة الاستعارية المركبة.

وهو ما يجسد بدقة ما عبر عنه ت.س. إليوت بقوله:

"Genuine poetry can communicate before it is understood"،

أي أن الشعر الأصيل يحدث أثره حتى قبل أن يفهم، ما يجعل من "الجوع الناطق" نصاً احتجاجياً فعالاً لا في مضمونه فحسب، بل في طاقته الجمالية.

إن "الجوع الناطق" لا يُقرأ فقط كأدب وجداني، بل بوصفه وثيقة شعرية مقاومة تنتمي إلى لحظة تاريخية مشبعة بالألم العربي، لحظة يموت فيها الناس من أجل كسرة خبز، بينما يحيا "البعض" على حساب الصمت والتخاذل.

وعليه، فإن القصيدة تقدم نموذجاً للشعر الذي يعيد مساءلة الواقع من موقع لغوي جمالي، ويمنح "القصيدة" دوراً يتجاوز التعبير إلى المشاركة الفعلية في تشكيل الوعي…

***

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبد الله

.....................

الجوعُ الناطق!

قِفَا..فالجـــوعُ يَدفـــعُ بالأُلوفِ

لهــــــــاوية التدافُــــعِ والهلاكِ

*

قِفَا..فالجوعُ يأكلُ نِصْفَ شَعْبٍ

ويَفْتِكُ بالبقيــــــةِ في اشْتِباكِ

*

وتَمتدُّ المَهـــــــــــالِك راصِداتٍ

لها وَجْــهٌ مُلَطَّـــــــــخُ بانْسِفَاكِ

*

وتَمتدُّ (الطناجِر) مُنْهَكَــــــــاتٍ

تُصَارِعُ للبقــــــــاءِ... ولابـواكي

*

ومَنْ يَشْهَدْ نِـــــداءَاتٍ..ودمعاً

وأبنيـــــةً تموتُ...بلا حِــــرَاكِ

*

سَتُدْرِكــــــــهُ...بيومٍ لامَنَــاصَ

لــــهُ مِنْـــهُ بِخِــــزيٍ..وانْتِهاكِ !

*

ومَنْ لَبَّــــى ولَاقَى الموتَ عِزًّا

لِنُصْـــرَةَ أهْـــلِهِ مِثْلَ المَـــلاكِ

*

تَلَقَّـــاها بحــظٍ وافِـــرٍ...أَحنَى

رِقابَ الكُفْرِ قســـرًا كي يَراكِ:

*

على قدميكِ تبتسمينَ دَهـــرًا

تَؤُمِّينَ الحيـــــــاةَ على هواكِ

*

ومَنْ خَذَلــــوكِ وابتلعوا لِسانًا

وغَضُّــوا (عَرْشَهُمْ) عما دَهاكِ

*

يَعيشونَ انْبِطَــاحًا في تَبَــــاهٍ

لِيَنْتَعِشَ اقتِصادَ الـ(اِحْتِكاكِ)!

*

فما طــارَتْ شَرَارَةُ دون قَـدْحٍ

ولا قـامتْ قيامـــــةُ بالسِوَاكِ

*

وهل نامتْ بِعَيْنِ العُـرْبِ أُسْدٌ

سوى جُـــبْنٍ مُقِيـــمٍ باحتِبَاكِ!

*

قفــا..فالجوعُ حَرْبٌ_إن أَرَدّتُمْ_

فخوضوهــا بِشَـجْبٍ واعْتِلاكِ

*

ولاتَقِفُوا حَيــــارى إنْ مَنَعْتُمْ

عن الجــوعى معونات الفِكَاكِ!

*

متى كُنتُمْ لها سَـنَدًا وعَـــوْنًا

لتهنـأ بالحيــــاة بلاعِــــــرَاكِ!

*

قفا.. فالجوعُ يَلْعَنكُمْ ويدعو

عليكمْ بالمجاعَةِ..و( الشَّاْبَاكِ ) !

***

الشاعر اليمني: محمد ثابت السُّمَيْعي

 

يجتهد النقد الغربي في تقسيم الروايات بحسب أنواع تشكيلاتها، فتارةً يصفها بأنها رواية الشخصية، وتارةً أخرى بأنها رواية الأفعال، وقد تكون هيّنةً مرة، ومركّبةً مرةً أخرى. وقد ينزاح الفعل الروائيّ ليَنهَضَ بسرد سيرة ذاتية، وأحيانًا يتوهّج المرجع الواقعيّ فيتحوّل إلى مرجع نصيّ، إذ يغادر واقعيّته الحرفيّة ليَنهَضَ من خلال ذاتية الكاتب ولغته وإحساسه ومشاعره ورؤاه وإسقاطاته، حذفًا واستبدالًا وإضافةً.

رواية "قوّة الأشياء" للروائي والباحث الفلسطيني عارف الأغا، الصادرة في دمشق عام 1992، هي واحدة من الروايات المعقّدة التي خاطبت العقل والنفس معًا، فبدت تارةً روايةً شخصيةً، وتارةً رواية أفعال، كما أنها رواية المرجع الواقعي المتوهّج، وهي في الآن ذاته رواية ذاتية.

قال أبو حيان التوحيدي: "ما أصعب الكلام على الكلام"، مُؤسِّسًا بذلك لنظريةٍ نقديةٍ حاز بها فضلَ السبق، أطلق عليها الحداثيّون في النقد الغربي اسم "نقد النقد"؛ حيث يتحوّل العملُ النقديّ من سلطةٍ لإصدار الأحكام المعيارية المسبقة، التي تُصادر صوت الإبداع فتقتله في مهده، إلى نقدٍ إبداعيٍّ يحمل من الأدبية ما يجعله يُوازي أو يُضاهي لغةَ الإبداع. لكن في رواية قوّة الأشياء نجد الأدب والنقد من داخل النص الأدبي في توازٍ وانسجام.

لقد جسّدت تجربة الروائي الفلسطيني عارف الأغا المقدرة القصوى للخاصّ الفلسطيني والعربي، وهو يبحث له عن مكانٍ لائق في العالم الكوني، ليُكثّف بذلك أعلى لحظات التوتر في علاقة الخاص بالعام، ويُعبّر عن أشدّ حالات معاناة المثقف الإشكالي. فقد جسّد الروائي، في هذه الرواية، قدرةً عاليةً على التقاط مفردات الحياة اليومية وانعكاسها على الحالة النفسية والفكرية والفلسفية لبطل الرواية.

ولو استعرْنا مصطلح لوكاتش عن البطل الإشكالي روائيًّا، ضمن القراءة التفسيرية التي قدّمها غولدمان، بوصفه البطل الذي يبحث عن القيم في وسطٍ متحلّل، والذي يطمح إلى بناء كليّات نوعية جديدة على أنقاض بنى تقليدية متداعية، لوجدنا أن عارف الأغا هو البطل الروائي لنصّ الحياة العربية، في رواياته مثل:

أزهار الصبار (دمشق 1990، مطبوعات الاتحاد)،

مخيّم في الريح (1986، مطبوعات النسيم)،

ورواية قوّة الأشياء.

تدور قوّة الأشياء حول شخصية عمر أيوب، الذي يجسّد الفلسطيني التائه. إذ عاش طفولته في مخيمٍ بائس بلا أبٍ ولا أم، ثم انتقل إلى عائلةٍ تبنّته، ليعيش غريبًا في المدينة، وفي مدرسةٍ بعيدة كلّ البعد عن واقعه في المخيم. وإزاء هذه الغربة الساحقة، أشعل النار في المدرسة التبشيرية انتقامًا لغربته، فاحتواه الشارع شريدًا جائعًا، لكنّه كان حرًّا هذه المرّة.

وتشاء المصادفة أن يتبنّاه رجلٌ آخر، ولكنّ عمر ينتقم مجددًا لغربته بحبّ زوجة معلّمه الأولى المهجورة. عاش صراعًا حادًّا بين خيانته وحبّه لهذا الرجل الذي أنقذه، لكن عمق التيه الذي يعيشه هذا الفتى دفعه إلى الفرار إلى الأكواخ المتناثرة على أطراف المدينة، حيث بدأ حياةً جديدة، وتعرّف إلى عائلةٍ بسيطةٍ ذات قيم أصيلة، ووقع في حبّ ابنتهم الجميلة عذاب. لكن لم يدم هذا العشق طويلًا؛ إذ تدخلت قوة الأشياء وانتهت حبيبته قتيلةً مغتَصَبةً على يد بعض الأشرار، وفقد هو ذاكرته بعد ضربة على رأسه منهم.

خلال وجوده في الأكواخ، اجتهد عمر في القراءة والتعلّم حتى أصبح كاتبًا مرموقًا، واستخدم الروائي حالة فقدان الذاكرة بشكلٍ فنتازيّ ليُظهِر أنّ الوباء الذي يجتاح المدينة هو السبب في هذا التيه. ويكتشف عمر في نهاية الرواية أنه جزءٌ من هذا الوباء، ويُعلن – من خلال ممارساته – أن لا خيار في ذاك العالم الموبوء سوى أن يكون قاتلًا أو مقتولًا. تلك هي قوّة الأشياء التي لعنها عمر، ولعنها الروائي على لسانه، إذ يقول في ختام الرواية: "اللعنة عليكم جميعًا".

خاتمة تحليلية:

رواية قوّة الأشياء ليست مجرّد عملٍ سرديّ يحكي حكاية فردية مأساوية، بل هي نصٌّ يتجاوز الخاص إلى العام، ويتحوّل من سيرة شخصية إلى مرآة كاشفة لتمزقات الذات الفلسطينية والعربية في لحظة انهيار حضاري شامل. لقد قدّم الروائي عارف الأغا عملاً أدبيًا يجمع بين الصدق الإنساني والوعي الفني والالتزام السياسي، دون أن يسقط في فخ الشعارات أو الخطابية أو المباشرة، بل اختار أن يخاطب القارئ من داخل التجربة لا من فوقها.

فنيًّا، تنتمي الرواية إلى الأدب النفسي والواقعي في آنٍ معًا، مستندة إلى بنية سردية متقنة، وزمن دائري، وشخصيات متحوّلة تتطوّر وفق صراع داخلي كثيف، وهو ما يمنح النصّ عمقًا دراميًّا لا يخلو من البُعد الرمزي والفلسفي.

أما سياسيًّا، فهي رواية تقاوم النسيان، وتفضح آليات الهزيمة في الواقع العربي، من خلال الغوص في بنية القهر الاجتماعي والاغتراب السياسي والخذلان الوطني، لتقدّم شهادةً صادقةً عن فلسطين لا بوصفها قضية، بل بوصفها ألمًا حيًّا يسكن الجسد واللغة والذاكرة.

وهكذا تُمثّل قوّة الأشياء رواية تحمل في طياتها مشروعًا للكتابة المقاومة، وتُؤسّس لوعي جديد، لا ينفصل عن الواقع، ولا يُسلّم له، بل يُحاكمه ويُعرّيه، ويُحاول استشراف مخرجٍ ممكن من تيه الذات والواقع، عبر قوّة الفن والكلمة.

رواية قوّة الأشياء هي رواية تيه الوعي في الواقع العربي والفلسطيني الموبوء؛ حيث تضيع الحدود بين القيم والأضداد، ويتماهى القاتل بالضحية، كما تتشابه مفردات الشرف والعار، ويضيع الوعي بين سطوة الرغبة والتشبّث بالمبادئ، فيقع البطلُ فريسةً لأوهامٍ ناتجةٍ عن القهر والإذلال والخذلان من قبل الأقرباء قبل الغرباء.

وما يميّز هذه الرواية أنّها تسير وفق منطق الحفر النفسي العميق في دواخل الإنسان الفلسطيني، الذي وجد نفسه مسلوب الذاكرة والهوية والكرامة والأرض والانتماء. وقد أسعف الكاتبَ في ذلك بنيةٌ لغويةٌ مُحكَمة، رشيقة، مستمدّة من الواقع النفسي والاجتماعي والسياسي، متقاطعة مع ما يمكن تسميته بالأنا الفلسطينية الجمعية، التي باتت تمثل الذات الكبرى، وسط تراجيديا عربية قاسية.

يستخدم الروائي تكنيكات روائية فنية متعددة، كـ: تقنية الراوي المشارك، وتعدد الأصوات، وتقنية الحلم، والرسائل، والاسترجاع الزمني (Flashback)، وتيار الوعي.

وقد وظّف هذه التقنيات بشكل بارع، دون أن يسقط في المباشرة أو التقريرية أو الخطابية. كما يُلاحظ في الرواية اختزال الزمن وتكثيفه في مراحل حاسمة ومفتاحية، بما يجعل كل تفصيل في الرواية يخدم الحبكة ولا يذهب سدى.

المرأة في رواية قوّة الأشياء ليست مجرّد تفصيل عابر، بل هي الذات والوطن والحبيبة والأم. إنها الحضور المهيمن، سواء كأملٍ أو كوجع، كمخلّص أو كقاتل. فـ عذاب، التي أحبّها عمر حبًّا طاهرًا، كانت تمثّل الوطن الجميل الحنون، لكنها اغتُصبت وقُتلت، تمامًا كما اغتُصبت فلسطين. أما الأم فهي الغائبة الكبرى، الغياب الذي شكّل جذر التيه في الرواية كلّها.

وبالرغم من الألم الذي يسكن النص، لا تخلو الرواية من بؤر ضوء وأمل، حيث نجد شخصية العم صالح، الذي مثّل رمز الحكمة والتعقّل، والمرأة المسنّة التي احتضنت عمر في لحظة انهيار، ليبدو أن الشعب الفلسطيني، رغم مآسيه، لا يزال يمتلك خزّانًا من الطيبة والصبر والمقاومة.

لقد استطاع الروائي الفلسطيني عارف الأغا في هذه الرواية أن:

يخلق نصّاً مفتوحًا على التأويلات.  ويقدّم بطلًا إشكاليًّا يعاني من تيه وجودي وقيمي، كما نجح في تعرية البنية الاجتماعية والسياسية العربية، دون خطابة.

إنّ البنية الأسلوبية للرواية تنوس بين السرد العادي والتدفق الشعري، في توازنٍ نادر، تُسنده لغة تصويرية قوية، موحية، ذات طابع شعري خفي، يتداخل مع لغة الواقع اليومية، مما يُنتج نغمةً سرديةً خاصة، ممهورة بختم الروائي عارف الأغا.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

 

القصة القصيرة (شهيق وزفير) للقاصة سنية عبد عون تتجوّل في أزقة الواقع الاجتماعي العراقي؛ لتلتقط منها حكايات شخصياتها، وأحداثها، وحركتها، ومعاناة شريحة من المجتمع، وهو اختيار فنّيّ قصصي (نقدي) للكاتبة، مثلما عوّدتنا في قصصها عموماً، اختيار عن قناعة، وموقف، واتجاه، وبناء فني للظواهر السلبية والإيجابية في هذا الواقع الاجتماعي، وأثر ذلك على النفس فرديّاً وجمعيّاً.

القصة تتناول حياة امرأة عراقية، متعلمة (مديرة مدرسة متقاعدة)، ومضحية من أجل بناء شخصية ومستقبل زاهر وآمن لأولادها، بعد استشهاد زوجها في الحرب العراقية - الإيرانية الطويلة في الثمانينيات من القرن المنصرم. وهي بهذا تتناول شريحة من العراقيين وهي المرأة/بطلة القصة، ومن خلالها تصوّر معاناة المرأة العراقية في تضحيتها، وتحمّلها بمقارعة الصعاب، وشجاعتها، وإصرارها على مواصلة الحياة بثبات وقوة مع الظروف القاسية التي تمرّ بها؛ لإيصال أبنائها الى برِّ الأمان، رغم فقدان ربّ الأسرة، ومعاناتها هي، وتضحيتها الكبيرة، لكنّها راضية مقتنعة، مؤمنة بدورها الأمومي. وبذا تعطي مثالاً إيجابياً للمرأة، وهو مثال موجود في المجتمع وبكثرة. والقاصة هنا تركز في حكايتها على هذا الجانب، مع الإشارة النقدية غير المباشرة الى أحد الجوانب السلبية في الواقع، وهو النكران والإهمال، والتهميش الذي تواجهه هذه الشريحة مع عظيم تضحياتها.

تمتاز القصة بجماليتها الظاهرة، سرداً ولغةً، وأسلوباً تزيِّنه الإثارة والشدّ والفضول، والتفاعل والمعايشة، من خلال جذب المتلقي بأحداثها المتسلسلة، وجعله يتابع بشغف حتى نهايتها، وبحبكة مُحكّمة.

القصة إحدى الحكايات الواقعية التي مرّت وتمرّ بمجتمعنا، وهي تغطي بعض الظروف التي عاشها، ويعيشها المجتمع العراقي وأفراده، ففي كل بيت معاناة، وفي نفس كلِّ أمّ ألم دفين، وجرح غائر نازف، بصمت وتحمّل، خلف الظاهر الذي يخفي الكثير من الآلام، والأحزان، والأحلام التي تصطدم بمرارات الحياة، وقسوتها.

تتناول القاصة الأحداث والشخصيات ببراعة سردية فنية، ولغة غنية بالمفردات، والأساليب الصياغية المنسجمة، والمتناغمة مع الحالة الموصوفة، وبموهبة كبيرة واضحة، تعمل كلها كخلية نحل. كل واحدة تؤدي دورها، ومهمتها في الحكاية المروّية، بإتقان وحرفية عالية؛ لذا تحمل قصصها شحنات من التجربة في الحياة، والتقاط الأحداث والشخصيات من الواقع الاجتماعي، بدقة متناهية؛ لتقديم صورة فوتوواقعية، من غير السقوط في مزالق المباشرة، كتقرير صحفي إعلامي. ثم تقوم الكاتبة سنية عبد عون بصياغتها فنيّاً، وبمهارة ملحوظة.

(شهسق وزفير) قصة قصيرة، مكتنزة بكلّ قوانين، واشتراطات فن السرد القصصي، من حيث العرض بحبكة متقنة، بدايةً ووسطاً ونهايةً. والتسلسل فيها يجري بعناية وحرص؛ لتكون الأحداث مترابطة الأجزاء، واقعية مقنعة، تصل الى الخاتمة الطبيعية التي ترسمها القاصة، وهي الضربة النهائية في مسيرة الحكاية، الضربة التي تترك أثرها في المتلقي، وهو الهدف من الكتابة، ومعاناتها عند التحضير والتأليف، لإيصال الفكرة المبتغاة بعناية وحرص، والّا.. فلماذا نكتب؟

هناك ميزة أخرى مهمة، وبارزة في أدب كاتبتنا، هو الإحساس الدافع للتجربة التي تخوضها في السرد القصصي، ففيه يشعر المتلقي، ويعيش مع الشخصيات ما تعيشه، من خلال السرد المُحكّم، والوصف الدقيق، بلغة ثرية متقنة، لما تعانيه، وتمرّ به الشخصيات في حياتها اليومية، وما تحيط بها من ظروف. وهذا نابع من إحساسها هي بالحكاية وأبطالها، وكأنها حقيقةً هي البطلة التي تتناولها. وهذا نجاح فائق.

والحق أقول، شعرتُ أنا شخصياً بغصة في نهاية القصة هذه، فترقرت الدموع في عيني، واجتاح حزن نفسي فانقبضتُ، وهذا دليل على كل ما أسلفت من ذكر لما يتصف به أدبها القصصي. وقد سبق لي في الكتابة عنها من قبل أن أشرتُ الى أثر الشعر في أسلوبها السردي وبنائها اللغوي في القصة، من خلال كمية الأحاسيس، والمشاعر الصادقة التي تتناولها في الشخصيات داخل رواية الحكايات الواقعية في فنها، مثلما نقرأ  أثر السرد في نصوصها الشعرية. فالإحساس والشعور هما سيدا الشعر، وحادياه، وملاحاه، وفارسا مخياله. وهما النسيج الفنيّ الأدبي الذي يتداخل معاً في أسلوبها قصّاً وشعراً.

***

عبد الستار نورعلي – شاعر وناقد

..................................

شهيق وزفير ...قصة قصيرة

سنية عبد عون رشو

تعانق نسيمات الصباح خصلات شعرها الأشيب الذي يحمل قصصاً من ماضيها الذي لا تود ان تبوح به لأقرب الناس اليها .

كعادتها تجلس قبالة باب الدار فربما يزورها أحدهم تنتظر دون ملل مرتمية فوق كرسيها الخشبي المتهالك تحت شجيرة الياسمين . وبعد ان يخذلها الانتظار تعود الى غرفتها صامتة تجر أطراف شالها الأخضر بلون أمانيها .. وهمسات الحنين تسكن أضلاعها .

تمسك ست وداد قلما ودفترا وتكتب بسرية تامة دون ان تسمح لأحداهن ان تعرف شيئا عن مذكراتها أو ربما تكتب قصة حياتها في دفتر كأنه سجل مدرسي لونه يميل للرمادي الغامق انه يذكرها بسجلاتها المدرسية قبل احالتها على التقاعد .

عشرون عاما واسمها يتصدر لوائح مديرية التربية كأفضل مديرة مدرسة في تلك المدينة اضافة لكونها ربة أسرة وأم لثلاثة أبناء ذكور . وها هم اليوم رجال ملتحون .

أستشهد زوجها في حرب الثمان سنوات . ولن يثنيها هذا عن دورها كأم مكافحة في بيتها ومربية ناجحة في مدرستها .

متوسطة القامة ومكتنزة قليلا لكن ملامحها تنبؤ بما كانت تتمتع به من جمال في سالف أيامها . وما زالت شديدة الاهتمام بملبسها واناقتها التي عرفت عنها دائما الست وداد .

الظروف وضعتها هنا رغما عنها . وهي تتأبط سجلها وصندوق يحمل كل ذكرياتها وسرها الذي لا يعرفه سواها . كانت تكتب رسائلها التي لا ترسل ، ولا زالت تتذكر صوته حين قال لها : ان ضاعت الأيام فلا تدعي الحب ان يضيع ..انتظريني سأعود ، لكنه لم يعد وبقيت هي كما وعدته تنتظر ..وكل ما تملكه هو صوته في آخر لقاء ونظرة طويلة بدرت منه قالت كل شيء وكأنه تنبأ لفراقهم الأبدي . لم تنسَ ذلك اليوم ولكن عقلها الباطن يرفض مسألة موته في جبهة القتال وضياع جثته بين الوديان . ولتبقى تنتظر من لا يعود .

كان الجميع يحترمون رغبتها في الانعزال والصمت الذي ينهش عزلتها ..وحنينها الجارف لأبنائها الثلاثة الذين ربتهم بدور الأم والأب . لقد انشغلوا عنها تماما . لم يزرها أحدهم منذ أمد بعيد وكل ما تبقى منهم ورقة معلقة فوق جدار سريرها : اتصلي بنا عند الضرورة .

اثنتان كن يشاطرنها سكن غرفتها في دار المسنين

كانت احداهن مولعة بمتابعة المسلسلات من خلال جهاز التلفاز في قاعة الدار .وكانت تتفاعل بشدة مع احداث القصص وتذرف دموعها من اجل البطل أو البطلة ..لذا يكون تواجدها نادرا .

اما السيدة الثانية فكانت تشغل جلّ وقتها بقراءة الكف لبقية النزيلات وهي شديدة التعلق بهذه الهواية . لكنها ثرثارة قليلا

سألتها ذات مساء لماذا لم تتزوجي بعده ..؟؟ تضحك الست وداد بهدوء وهي تقول : انا متزوجة من الانتظار ...وفاء لزوجي فربما يعود لي ذات يوم .

اذن وماذا تكتبين ولمن ..؟؟

أخذت الست وداد شهيقا طويلا ثم الزفير بعده وببطء ايضا .

ثم قالت : أكتب له ..ربما يقرأه ان عاد ويشعر انني كنت هنا وكنت اتذكره ولن انساه يوما واني بقيت أحبه رغم كل هذا الغياب . انه لا يكذب حين قال لي انتظريني ..

كانت الأيام في دار المسنين تمر ببطء ولوعة . والوقت لا يقاس هناك بالساعات والأيام بل بعدد مرات شهيقها وزفيرها وبعدد زيارات ابناءها التي لم تتحقق أبدا .

وذات ليلة تموزية شديدة الحرارة شعرت الست وداد بدوار شديد مع ارتفاع درجة حرارة جسدها وعدم تقبلها لوجبة العشاء وكذلك لوجبة فطورها الصباحي في اليوم التالي . وهذه الحالة لا تشبه نشاطها اليومي المعتاد ، نقلت على أثرها للمشفى .

طلب منها الطبيب ان لا تغادر المشفى تحسبا لأي عارض .

ولكن في اليوم الثاني ازدادت حالتها سوء وأخذت تهذي مع ارتفاع شديد بدرجة حرارة جسدها .وقبل ان تغمض عينيها طلبت من الممرضة ان تحتفظ بدفترها وتعطيه لولدها البكر ان حضر .

اتصلت مسؤولة الدار على رقم ولدها البكر . وقد تأخر كثيرا في الحضور للمشفى لكنه جاء أخيرا ليستلم جثتها مسجاة داخل ثلاجة المشفى .

بقي المقعد الخشبي خاليا في دار المسنين والدفتر بين يدي ولدها البكر والياسمين مازال يتساقط بصمت فوق شاهدة قبرها كأنه يعرف تماما ان هنا يرقد قلب أحب بصمت ورحل بصمت .

تنقل ولدها البكر بين صفحات الدفتر ليجد رسائلها الموجهة له ولأخويه . كتبتها بحنان الأم ولوعة المشتاق .

..أثارت شجونه هذه العبارة في أول ورقة بالدفتر وأول سطر فيها أولادي : سامحوني ان أثقلت عليكم في طفولتكم فقد كنت أما وحيدة ومرتبكة ومسؤوليتكم كانت ثقيلة فوق أكتافي .. ربما كنتم تكرهون عصبيتي أحيانا . لكنني أحبكم يا أغلى الناس .

تساقطت دموعه فوق السطور ..لكنها تساقطت في الوقت الخطأ.

1 / 6 / 2025

بيت من الشعر الجاهلي، كلّما قرأته أدهشني، لما فيه من الدقة والغرابة والبراعة، والحكمة، وقوة الملاحظة والإدراك الفلسفي (المدرسة الجشتالتية الألمانيّة)، وجودة التعبير، والتوظيف اللغوي الموحي بشرف اللفظ والمعنى معا.

مِكَرٍّ، مِفَرٍّ، مُقْبِلٍ، مُدْبِرٍ، مَعًا

كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَيْلُ مِنْ عَلِ

كلّما قرأت هذا البيت من معلّقة الشاعر الجاهلي امرؤ القيس، في وصف فرسه سرعة فرسه، تبادر إلى ذهني السؤال التالي: هل كان امرؤ القيس على اطّلاع بقوانين علم الفيزياء؟ كيف استطاع امرؤ القيس المزج بين اللغة والبلاغة والعلم؟ كيف استطاع أن المزج بيان العاطفة والعقل في سياق بلاغي واحد؟ إلى أيّ مدى كان الشاعر يمتلك القدرة على دقة الملاحظة وبراعة التصوير في بيئته الصحراويّة؟ ربّما لو عاد امرؤ القيس بجسده وروحه وسألناه هذا السؤال: هل كنت - أيّها الملك الكندي الضليل - على اطّلاع على قانون السرعة في الفيزياء، في وصفك لسرعة فرسك وتشبيهه بالصخر الضخم المكوّر (جلمود) المندفع من علٍ؟ لله درّك أيها الشاعر الفحل، لقد وقفت واستوقفتَ، وبكيت واستبكيت وذكّرت واستذكرت ونزلت واستنزلت واشتقت إلى الحبيب والديار. للّه درّك، من شاعر عاشق للحبيب، وفيّ له. ربّما، سيفاجئنا بحقيقة لم نكن على علم بها. ربّما قال لنا بنبرة يقينيّة: وما تظنّون هذا الذي تسمّونه في قاموسكم العلمي (الفيزياء)؟ إنّ الشاعر لا يختلف عن المشتغل بها. فإذا كان للفيزيائيّ مخبر علميّ، فيه يلاحظ ويفترض ويجرّب ويستنتج ويستدلّ ويستقريء بعقله المجرّد من الظنون، لا تعدمه العاطفة، ليخلص للنظريّة، فإن للشاعر مخبره هو الطبيعة والخبرة والملاحظة والتجربة الشعريّة ليخلص أيضا للصورة البيانيّة وقد نضجت وأينعت وأشرقت في أبهى زيّها البلاغي، وقد امتزجت في مائها العاطفة بالعقل. فسيّان بين الشاعر والفيزيائي.

لقد كنّى عن السرعة الفائقة لفرسه، بصورة جلمود صخر مندفع من أعلى. والجلمود هو صخر ضخم، متكوّر أو حصيرة كبيرة من الصخر في علم الجيولوجيا، يقاس عادة بحجم حبيبات التربة أو هو حبيبات كبيرة جدا من الصخر لا يمكن تحريكها بسهولة. وقد سبقه بيت آخر في وصف فرسه:

وقد أغتدي والطير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

لم يشبّه امرؤ القيس فرسه بـ (حجر صغير مثلا) يتدحرج من علوّ، لأنّه كان يعلم أنّ القانون الفيزيائي، أو نظرية الفيزياء، تقول أنّ سرعة الجسم الساقط من أعلى تتناسب مع كتلته. فكلّما كانت كتلة الجسم الساقط ضخمة، كانت السرعة أكثر. (العلاقة بين كتلة الجسم وسرعته). كلّما زاد الوزن زادت السرعة وقلّ الوقت). فالكتلة النسبية – زيادة الكتلة بزيادة سرعة الجسم). وإذا كان البلاغيّون يصنّفون هذا الأسلوب في خانة الكناية عن السرعة الفائقة [مكرّ، مفرّ، مقبل، مدبر (معا)] والتشبيه (كجلمود صخر)، فإن الشاعر قد مزج بين علم البلاغة وعلم الفيزياء. فأسلوب التشبيه ظاهر في البيت (المشبّه (الفرس) والمشبه به (جلمود صخر) وأدة التشبيه (الكاف) ووجه الشبه (السرعة الفائقة). أمّا الكناية فقد وردت في قوله: [مكرّ، مفرّ، مقبل، مدبر (معا)]. نلاحظ أنّ لفظة(معا) هي التي أعطت للبيت عنصر الكناية. أما نظيرتها في علم الفيزياء فهي كالتالي: [الكتلة (جلمود صخر، هيكل + حطّه السيل من عل، الكرّ والفرّ والإقبال والإدبار (معا) وقيد الأوابد = كناية عن السرعة الفائقة للفرس.

لقد برع الشعراء العرب في العصر الجاهلي في وصف مظاهر الطبيعة المتحركة والجامدة، وصف الفيافي والأطلال والليل والكواكب والنجوم والمعارك وغيرها من ألوان الحياة اليومية.

ما يلفت النظر في هذا البيت القيسي (نسبة إلى امريء القيس)، هو دقّة اختيار الألفاط الدالة على الزمن، أي لحظة حدوث الفعل. (مكرّ، مفرّ، مقبل، مدبر، معا)

فالفعل (كرّ)، ثلاثي لازم متعدٍّ بحرف، كررت، أكرّ، يكرّ، مصدر كرور، واسم المفعول مكرور. والكرّ على العدو هجوم وحمل عليه للقضاء عليه، ومن معانيه المتداولة قولنا: على كرّ الدهور، أيّ على مرّ الأيام. ومعنى مكرّ، الخيول التي تكون خفيفة الحركة وقادرة على التحرّر، كما نقول فرس، فرس مكرّ، أيّ يتميّز بالسرعة والسهولة في الحركة والتحرّر والانقضاض على العدو. ومن معاني الكر عند أهلنا بالعراق، أنّه مكيال يساوي اثنا عشر وسقا، أيّ سبع مائة وعشرون صاعا، والصاع عند الحنفيّة 2340 كغ، وعند الجمهور 1468.8كغ.

أمّا الاسم (مفرّ) فمشتق من الفعل الثلاثي فرّ (فرر). ومنه الفرار من خطر داهم أو الانسحاب. وعلاقة (الكرّ والفرّ) بالخيل يفسّر استخدام الخيل لنظام الكرّ والفرّ. وقد وصفه والتر كانون (1) في 1915 م بقوله: (الحيوانات تتفاعل للخطر بطريقة استنفاذ عام للجهاز العصبي، ممّا يجعل الحيوان مستعدّا للقتال أو الهروب.). ونظريّة الكرّ والفرّ قائمة على عقيدة تكتيكية لاستخدام الهجمات المفاجئة القصيرة، والانسحاب قبل تمكّن العدو من الردّ بقوّة والمناورة باستمرار، وهدفها إضعاف العدو ببطء. وقد تمّ التعرّف على هذه الاستجابة، فيما بعد، (بأنّها المرحلة الأولى لحالة التعوّد العامة التي تنظّم استجابات الإجهاد في الحيوانات الفقرية وبعض الكائنات الأخرى). وقد عرف عرب الجاهلية تكتيك " الكرّ والفرّ " بلا نظام أو قاعدة أو هدف. فقد كان القتال يبدأ بالمبارزة بين أبطال القبيلتين المتخاصمتين وحسمت الكثير من الحروب بين العديد من القبائل. وقد استخدم النبيّ محمد صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة أسلوب الكر (الهجوم) والفر (الانسحاب)، وهو أسلوب قتالي يعتمد على المفاجأة والمناورة لتشتيت العدو وإضعافه، تم توجيه ضربة قاضية له.

واسم الفاعل (مقبل) من الفعل الثلاثي قبل ومزيده، وهو وصف شخص أو شيء قادم أو متّجه نحو مكان أو شخص، ويمكن أن يعني أيضا شخصا يهتم بشيء أو يتوجّه إليه.

الفعل أقبل، القادم، المتقدّم، المُقدِم على الشيء بنفسه. (مدبر) مشتق من الفعل الثلاثي (دبر) الذي له معان متعدّدة في لغة الضاد منها على سبيل المثال: دبر الأمر، جعله خلفه والمدبر، هو العبد التي تُعلَق حريته على حياة سيّده، كأن يقال له: أنت حر دبر حياتي، أيّ بعد حياتي، ولذا سُمِيَّ مدبرا.

وهي أفعال تدل على المطابقة في معناها، أيّ المعنى وعكسه كما هو شائع في علم البلاغة والمحسّنات البلاغية. لكن، هنا، ليس الشاعر بصدد البديع والتحسين والتنميق اللفطي، بل هو في معرض رسم خط زمانيّ معيّن، وتدفق إحساس عارم بنوعيّة اللحظة المعاشة. وهو إحساس نابع من زخم المعركة الدائرة رحاها. إنّ توظيف لفظة (معا) هو الذي أعطى لمعنى السرعة دلالتها ما فوق المنطق والعقل. فإنّ الشعاع في مساره لا يمكنه (علميا) أن يأخذ مسار الانطلاق والعودة في آن واحد، وفي اللحظة نفسها، حتى ولو اصطدم وانكسر بحاجز غير نافذ.

يقول الناقد التونسي توفيق قريرة (2)، أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسيّة، في مقالة له بالقدس العربي بعنوان: " مقبل مدبر معا " (3)، نُشرت بتاريخ 23 ديسمبر 2024:

" لفظة (معا) التي جاءت لبيان كيفية الإقبال والإدبار هي التي أربكت المعنى المعتاد "

و يقول أيضا:

" ليس من المقبول وليس من (المعقول) أن ترى شخصا مقبلا ومدبرا في الآن نفسه "

ثم يضيف:

(أنا حين أرى ولا أتكلّم أدرك وحدي المشهد، ولكنّي حين أصفه باللغة أبنيه لي ولغيري. الرؤية والإبصار شيء أحاديّ لا يتقاسم، ولكنّه حين يُبنى باللغة يصبح موضوع تشارك)

و قد أضاف عجز البيت (جلمود صخر حطّه السيل من علٍ) معنى أكثر عمقا ووضوحا وقوّة لحركة الفرس على وجه المشابهة. فتشبيهه بـ (جلمود) وهو صخر ضخم متكوّر أو حبيبات كبيرة جدا من الصخور في علم الجيولوجيا، أكّد قوةّ الإبصار والملاحظة ودقّة التعبير عند الشاعر في صدر البيت...

براعة امرؤ القيس في رسم هذه اللوحة الفيزيائيّة في قالب بلاغي مدهش، تدلّ على أنّ الشعر العربي في العصر الجاهلي، وكذلك في العصرين الأموي والعباسي، قد بلغ ذروة التعبير عن أعماق النفس، بل قد سبق التحليل النفسي في القرن المنصرم. فرويد وغيره. ولولا توظيف كلمة (معا)، ما أخذ هذا البيت هذا الزخم كلّه، ولكانت سرعة فرس امريء القيس عادية لا تختلف عن سرعة الأفراس الأخرى، سواء انتصرت أو انهزمت.

الذكاء النابع من التجربة الشعريّة والملاحظة العميقة للأشياء والتعبير الدقيق وبراعة توظيف الألفاظ وحملها على سياقها البلاغي، كلّ هذه الأوصاف والقدرات، تدلّ على أسبقيّة الشاعر العربي قبل الإسلام (العصر الجاهلي). والسؤال الذي بقي عالقا، وبات يؤرّقني: هل كان الشاعر امرؤ القيس مطّلعا على القانون الفيزيائي: (السرعة تتناسب مع الكتلة)؟.

وإذا كان الجسم الساقط خاضع أو تتحكم فيه أو تؤثر فيه الجاذبيّة الأرضية، فإن فرس امريء القيس، له جاذبيّة من نوع آخر.

لم يكن الشاعر امرؤ القيس بعيدا عن منطق الفيزياء، وهو يصف فرسه بجلمود (صخر ضخم متكوّر) ساقط سقوطا حرا من علٍ أيّ من ذروة قمّة عاليّة، ليمثّل للمتلقي مشهد السرعة الفائقة لفرسه في عمليّة الكرّ والفرّ، والإقبال والإدبار (معا). ولم يكن مشهد (الفرّ) و(الإدبار)، سوى عمليّة التفاف على العدو، وتزوّد بقوّة (الإقبال) و(الكرّ) على العدوّ.

و لمّا كان إبداع الشاعر وعبقريته اللغوية والبيانيّة مبنيّة على الخبرة والتجربة والملاحظة والإبصار والبصيرة والفرضيات، كذلك العالم الفيزيائي يأخذ مادته الفيزيائيّة من الطبيعة المرئيّة واللامرئيّة، من المشاهدة (الإبصار)، والغوص في الماورائيّات (الميتافيزيقا)، بالأدوات نفسها. هناك، ماهو مشترك ما بين الشاعر وعالم الفيزياء، بين الشاعر المشتغل بالخيال الأدبي والفيزيائي المشتغل بالخيال العلمي. ولم يكن الشعر خال من اللمحة العلميّة، ولا كان العلم خال من الخيال.

لقد برع الشعراء العرب في وصف الخيل والتغنّي بها في حضرة السلم، وفي أتون المعارك والغزوات، كوصف أبي الطيب المتنبي لها في معركة الحدث الخالدة:

أتوك يجرّون الحديد كأنّما *** سروا بجياد ما لهنّ قوائم

و قوله أيضا مفتخرا بنفسه في بلاط سيف الدولة:

فالخيل والليل والليل والبيداء تعرفني ** والسيف والرمح والقرطاس والقلم

ووصف حسّان بن ثابت لخيول الصحابة، في ملحمة فتح مكّة:

عدمنا خيلنا إن لم تروها *** تثير النقع موعدها كداء.

****

بقلم: أ. علي فضيل العربي / روائيّ وناقد / الجزائر

...................

هامش:

(1) - والتر كانون (1871 - 1945 م) – فيزيولوجي أمريكي. اشتهر في كتابه التغيّرات الجسدية في الألم والجوع والخوف والغضب (1929) لمتلازمة الاستجابات الفسيولوجية للكائن الحي الذي يواجه موقفا يثير الخوف أو الألم أو الغضب.

(2)- توفيق قريرة، أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية

(3) - مقال بالقدس العربي - 23 ديسمبر 2024 م.

 

قدَّم الكاتب الروائي المصري توفيق الحكيم [ت: 1987م] في روايته "الرباط المقدس" رؤيته حول ما يجب أن يتوافر في شخصية المفكر من صفات، باعتباره أحد مصابيح الظلام التي تهتدي بها الأمَّة، وقد رمز توفيق الحكيم لشخصية المفكر في روايته باسم (راهب الفكر)، ثم أسقط عليه من الدلالات ما يرفعه إلى درجة المثاليَّة؛ فإنَّ ذلك المفكر قد «أحسَّ تبعة تأثيره في الناس فأخذ عمله مأخذ الجد، ولم يشأ أن يخادع الناس فيقول ما لا يعمل، إنه كان يؤمن بأنَّ واجب رجل الفكر والقلم أن يُدخِل على البشر الإيمان بأنَّ في إمكانهم أن يَسْموا على أنفسهم، وأن هذا الواجب يفرض عليه أن يعيش حياة سامية لا مطعن فيها ولا غبار عليها».

فهو مؤمن بقول الله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة: 44]، وهذا الموقف الذي اتخذه راهب الفكر تجاه نفسه؛ هو الموقف ذاته تجاه الآخرين؛ فقد «كان دائمًا يزدري أولئك الذين ينشرون على الناس أدبًا رفيعًا وجمالًا بديعًا، ثم يعيشون حياة كلها ضَعَة وخسَّة وقُبح، الكاتب الحق في نظره هو مثَل يُحتذَى في باطنه وظاهره، وإن لم يكن كذلك فهو إذًا مهرِّج، يلبس للناس على الورق ثياب الملوك، فإذا خلا بنفسه خلعها، فبدا في حقارته كأنه شحاذ»، فهو يستمد أفكاره من الفطرة الصحيحة التي فطر الله الناس عليها، ويؤمن بقول الله تعالى (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) [الصف: 3].

وقد أكد راهب الفكر إيمانه العميق بمبادئه فقال: «إني لأدهش لأولئك الذين أُعطوا المقدرة على خداع الناس، فيظهرون في المجتمع في مسوح القدِّيسين، وهم في باطنهم مِن أفجر الماجنين»، ثم يستطرد الكاتب مبيِّنًا مثاليَّة راهب الفكر؛ الذي يقول واصفًا نفسه: «إني في الباطن خير بكثيرٍ منِّي في الظاهر؛ لأن الباطن مِلكي ومِن صُنعي، ولكن الظاهر مِلك الناس ومِن صُنع الظروف، لم أحاول يومًا التمثيل فأصنع للناس ظاهرًا رائعًا بِيَدي؛ بل تركتهم يصنعون لي ما شاؤوا من أردية، دون أن أحفِل بغير حقيقتي التي أعيش معها داخل نفسي، بينما أنا أبدو للناس أحيانًا هازلًا دائم الابتسامة، وفي باطني الجد، وفي طبيعتي الصرامة».

إنها المثالية التي يستوحيها توفيق الحكيم من خياله ويرجو تحقيقها، مؤكدًا أنها الصفات التي يجب أن يتحلى بها المفكر، الذي يسمِّيه في روايته أحيانًا بالأديب وأحيانًا بالكاتب، وهو في كل حالٍ يعمل في مجالات متعددة من مجالات الفكر الإنساني، وهو موقن دائمًا أنَّ «كل شيء ساكن خلا الفكر، ما الفكر إلا الحركة الكبرى».

يرى الكاتب أنَّ الفكر أساس من أسُس التوافق، ولا بدَّ من وجوده بين الأزواج، لذلك قال على لسان خطيبٍ لخطيبته التي لا تحب القراءة: «لن يُحدِث الزواج بيننا ذلك الاتصال التام الذي طالما تمنيته في زوجتي؛ فإنَّ نصف الحياة -الفكر- سيبقى خارج نطاق الزوجية»، ويبدو أن الكاتب كانت لديه رؤية عامة أو شِبه عامة حول علاقة المرأة بالثقافة في زمانه؛ فقد قال على لسان ذلك الخطيب بعد أن تزوج خطيبته واستمر في محاولات جذبِها إلى القراءة: «إني كدت أقنط من المرأة في بلادنا، ولطالما قلت لزوجتي: إنها قد تظفر منِّي بالعطف، ولكنها لن تظفر أبدًا بالإجلال الواجب لها إلا إذا عرف عقلها كيف يخاطب عقلي».

ويظهر في هذه الرواية أثر الحقبة الزمنية التي عاصرها توفيق الحكيم؛ حيث كان النوع السائد من المدنيَّة والتحضر عند المرأة هو ما يتعلق بالمظهر الخارجي، الذي اعتمد في جوهره على تقليد الغربيِّين، ويبدو هذا الأثر في قول توفيق الحكيم على لسان زوج تلك الشابة الصغيرة التي لم تكن تهتم بالقراءة حين تزوجها: «تلك الفتاة الجاهلة ذات التعليم الزائف، لا يعدو حديثها بضع عبارات فرنسية تلوكها في سماجة كلما أحرجتها الظروف، تلك الفتاة المسكينة المغرورة التي تحسب أنها متمدِّنة لأنها عرفت أن تضع بين أناملها أصبع الأحمر، تلك الفتاة التي تعرف أنَّ لها فمًا يجب أن يُملأ، ولا تعرف أنَّ لها رأسًا يجب أن يُملأ أيضًا إذا أرادت أن تجعل من نفسها شخصًا جديرًا بالاحترام».

وهذا يوضح أنَّ من مهامِّ المفكر عند توفيق الحكيم توعية الناس بأهمية الثقافة المحلية؛ فهي التي تتوافق مع التكوين النفسي والمؤثِّرات البيئية في المجتمع الذي يعيشون فيه، وقد شهدت الحقبة الزمنية التي كتب الحكيم خلالها هذه الرواية؛ إقبالًا ملحوظًا من بعض فئات المجتمع وطبقاته، على تعلُّم كلماتٍ وعباراتٍ أجنبية يرون أنها تميزهم من العامة وترفعهم فوقهم، وقد كان توفيق الحكيم ضد ذلك الاتجاه، فاهتم بنقد هذه الأفكار، والدعوة إلى الفكر الصحيح الذي يتأتَّى من خلال القراءة والمطالعة، وذلك في إطار الثقافة العربية والإسلامية التي تشكِّل هويَّتنا.

ويرى توفيق الحكيم أن المفكر يجب أن يكون ناصحًا أمينًا، يقدِّم للناس الحكمة بعد أن يعمل هو بها، لذلك ختم روايته بإحدى الحِكَم على لسان الراهب: «الشجاعة ليست في تجنُّب مزالق الجسد، وتحاشِي مواطن الزلل؛ بل في مواجهتها بمصباح الحقائق ونور المُثُل العليا»، ومن أجل هذه المُثُل عانى راهب الفكر كثيرًا في أحداث الرواية؛ فقد وجد نفسه في موقفٍ حرِجٍ أكثر من مرة بسبب كتمان الزوجة على زوجها أمر ذهابها إليه، ووقع راهب الفكر في حيرة من أمره، بين إخبار زوجها الذي بدأ يتردد إليه أيضًا وبين الكتمان، وفي كل مرة كان يوازن بين النتائج المتوقَّعة، ويحرص على الخيار الأقل ضررًا، كما كان يراعي في أفعاله ما يليق بمكانته ولو كان ضد سعادته المؤقتة؛ ويقصد الكاتب من هذه الأحداث والمواقف التي سردها في روايته؛ أن يبيِّن الصفات التي يجب أن يتحلى بها صاحب الفكر، بحيث يرتقي إلى المثاليَّة، التي يحافظ بها على مكانته، ويصون بها فِكره الذي يكتبه وينشره ليفيد به المجتمع.

***

حسن الحضري

شاعر وكاتب مصري

مقدمة: القصيدة كفضاء لمساءلة المعنى

في زمنٍ تتهاوى فيه اليقينيات وتسقط الرموز من عليائها، يصبح الشعر أكثر من مجازٍ جمالي؛ يغدو حقلًا فلسفيًا مفتوحًا لأسئلة الكينونة والعدم، الأمل واليأس، المعنى وسقوطه.

إنّ قصيدة “محكومٌ عُمري” للشاعر جورج عازار تندرج في هذا المسار الوجودي، حيث لا تحتفي باللغة كوسيلة تعبير، بل كأداة مقاومة وتفكيك. قصيدة تنبني على قلق وجودي كثيف، وتتلبّس بطيف عبثي يمحو المسافة بين الحنين والانطفاء، وبين الرغبة في النجاة والإيمان باستحالتها.

في هذا النص، تنهار رمزية الفينيق—رمز البعث والأسطورة—وتسقط فكرة الخلاص الشعري في وجه تجربة داخلية صريحة تنكر الخلود، وترى في الأمل كذبة كونية كبرى، تُصاغ فقط كي نُطيل لحظات البقاء أمام الهاوية.

فما هي الرؤية الفلسفية التي تُملي على الشاعر هذا الموقف من الرموز والأساطير؟

وكيف تُعيد القصيدة مساءلة علاقتنا بالذات، بالموت، وبالكتابة؟

وما وجوه التداخل بين الهمّ الوجودي والرمزي والنفسي والاجتماعي في بنيتها؟

تلك هي الأسئلة التي تحاول هذه القراءة استنطاقها عبر مقاربة متعددة الأبعاد: فلسفية، رمزية، عبثية، نفسية، وأسطورية.

ظلال الذات في خراب المعنى

ليست القصيدة وصفًا للحزن، بل تجسيدًا لانهياره داخليًا. إنّها تجربة من التشظي بين صوتٍ يبحث عن معنى وصدى يردّد الفراغ.

حين يقول الشاعر إنّ الأمل مجرد “حقنة مورفين”، لا يُسقط فقط فكرة الخلاص، بل يجرّد اللغة من ادّعاء الإنقاذ. كأنّ الحرف هنا لم يعد وعدًا، بل اعترافًا بمرارة الهباء.

يتسرّب الرماد من بين الكلمات، لا ليخفي النار، بل ليكشف أنّها لم تشتعل أصلًا. هنا لا يحترق الفينيق… بل يتواطأ مع الخيبة.

لا أحد يأتي من جهة الأبد

في هذا النص، لا نوافذ مفتوحة على انتظار. الانتظار نفسه مشكوك فيه، مشكوك في نواياه، في صدقه، في نهاياته.

الحنين ليس سوى انعكاس لما تبقّى من وهم. الأمكنة تطرد، البيوت تلفظ، والقبور تزداد بُعداً كلما ازداد الشاعر بحثاً عن حضن.

الهجرة هنا ليست حركة، بل حالة. غربةٌ لا تشبه المنفى، بل المنفى داخل الذات.

من رماد الأسطورة إلى فراغ الأسئلة

يتكئ الشاعر – في تهكمٍ رمزي – على “الفينيق”، فيكشف زيف بعثه. هذه الأسطورة التي طالما كانت معبراً نحو النور، تنقلب إلى قناع شاحب يغطي جثة الأمل.

لا تجدد في هذا الحطام، لا بداية تليق بنهاية مجروحة، لا ميلاد بعد الموت، فقط دورة متكررة من الخيبة.

من خلال هذا التمزّق الرمزي، تفتح القصيدة بابًا أمام سؤالٍ وجودي عارٍ: هل كان البعث دومًا كذبة شاعرية؟ وهل كان علينا أن نصدّق الخرافة كي لا نموت قبل موعدنا؟

الذات كغريبٍ في مراياها

“تتبرأُ مني ذاتي”… عبارة واحدة تختصر انفصام الشاعر عن صورته. ليست الذات هنا بيتًا، بل صدًى مشوّشًا في أروقة غريبة.

ما يظهر ليس ما يعتمل. والشاعر – وإن كتب – لا يسكن اللغة، بل يحفر فيها مجازًا هاربًا من الانطفاء. لا هو ذاته، ولا هو الآخر. كأن كل تعرّف على الذات، يُفضي إلى غربة أعمق منها.

رؤى فلسفية تتقاطع بين العدم والمقاومة

تُطلّ القصيدة من شرفة أسئلةٍ قديمة/جديدة، تتقاطع فيها الفلسفة الوجودية، والعبثية الكاموية، والنقد الرمزي، دون أن تدّعي أنها تجيب.

- عند نيتشه، تنهار القيم عندما تُصاغ بوصفها أوهامًا مريحة. وهنا يرفض الشاعر رمزية الفينيق كما رفض نيتشه فكرة “العزاء” القيمي.

- وعند سارتر، يغدو الإنسان حراً، لكن هذه الحرية عبء، لأنه مطالب بخلق معناه. الشاعر في “محكومٌ عُمري” لا يجد بيتًا، لا في اللغة ولا في الزمن. إنه كائنٌ منفي من المعنى، مطالب بالكتابة داخل الصمت.

- أما كامو، فنجده بوضوح في الموقف الأخير: لا جدوى… ومع ذلك، نكتب. لا معنى… ومع ذلك، نواجه العدم بحرفٍ لا يصدأ.

مقاربات متعددة الأبعاد

1- المقاربة الوجودية:

يغدو النص بُعدًا وجوديًا مكثفًا، يستبطن قلق الإنسان أمام هشاشة العالم. الحياة هنا ليست سلسلة من الأحداث، بل وعيٌ دائم بمحدوديتها، وانعدام قدرتها على منحنا يقينًا.

2- المقاربة العبثية:

الأمل يُعالج كمخدر. فكرة البعث تسقط رمزيًا. الزمن بلا خطية، والأحلام “أشلاء”، والبيت يلفظ… في بنية كهذه، لا يبقى إلا العبث.

3- المقاربة النفسية:

الداخل متصدع. الروح في “طقوس عزاء”، والذات تعلن انفصالها عن ذاتها. إنها تجربة ما بعد الانهيار، حيث تصبح الكتابة بديلاً عن الفهم.

4- المقاربة الرمزية الأسطورية:

جلجاميش، الفينيق، الحمام… رموز تتحوّل إلى مرايا محطّمة. لم يعد الحمام سلامًا، بل غيابًا. لم يعد جلجاميش منتصرًا على الموت، بل ضائعًا في سؤالٍ لم يلقَ جوابًا.

الأسلوب الشعري: لغة التمزق والعمق

يُشكل أسلوب الشاعر في قصيدة “محكومٌ عُمري” مرآة لصراع الإنسان مع عبثية الوجود، حيث تتداخل الصور والرموز بأسلوب مكثف ينسج بين الشعرية والفلسفية. يختار الشاعر لغةً متقطعة أحيانًا، توازي حالة التشظي النفسي والوجودي، وفيها عبارات تختزل ألمًا عميقًا مثل “حقنة مورفين” و”عتْمة الداخل” و”بقايا قزم داكن السواد”، تعبيرًا عن فراغ يلف الروح وينسف الأمل.

القصيدة لا تستسلم لسردٍ خطي تقليدي، بل تستخدم التكرار والتضاد بين الأمل واليأس، الغربة والانتماء، الحياة والموت، مما يخلق إيقاعًا يذكّر بأن الحياة ليست قصة متماسكة بل حالة تذبذب دائم.

وبهذا، يصبح الأسلوب جزءًا لا يتجزأ من المعنى، لغةً تحمل في طيّاتها استدعاءًا مستمرًا للشكّ والرفض، مع إصرار لا ينكسر على الكتابة رغم الخراب.

خاتمة: ضد النسيان… مع الذبول

القصيدة لا تحتفي بالنجاة، بل بالتسمية. لا تبشّر بخلاص، بل تُعلن عن مقاومة الهشاشة بالكلمة.

حين يخوننا الفينيق، لا يبقى لنا سوى الذكرى.

وحين يُجرّد الأمل من سلطته، تُولد الكتابة من رحم العدم، لا لتُنقذ، بل لتُبقينا شهودًا على سقوط الأساطير.

هكذا تتحوّل “محكومٌ عُمري” إلى شهادة شعرية في زمنٍ لم يعد يؤمن بالخلاص، لكنها رغم ذلك، تُصرّ على أن تقول: “لن أذبل”.

تحية للشاعر جورج عازار، وللفنان كميل يعقوب، على هذا التواطؤ العميق بين الشعر والتشكيل، بين جلجاميش الإنسان وقلق الإنسان المعاصر.

***

بقلم: د. آمال بوحرب - ناقدة وباحثة في الأنثروبولوجيا

30 جوان 2025

 

يسعى الكاتب الفرانكفونى د. محمد طعان للغوص بمكامن الكتابة من خلال مستويين في لغة الكتابة: السردية والتصويرية المكثفة للنص الروائى، الذي رسمه لنا في شخوص روايته «سيد بغداد». والكاتب لو سبرنا غور حياته الشخصية لوجدناها متشظية في عوامل الانتقال بين بيروت وأوروبا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهى حالة سبغت جسد روايته وحولته إلى عالم من الغرائبية الممزوجة بالانطباع الاثنى والمذهبى أحيانا أخرى. وهنا فهو يشدو بروايته سيد بغداد أنغامه متنقلًا إلى عالم السردية الكلاسيكية للرواية العربية تارة، وإلى التناغم الفطرى للنص الدينى العفوى الذي يفرض وجوده بين أسطر الرواية تارة أخرى. قد تجد عنوان الرواية يأخذ بمداه نحو تأويلية توحى للقارئ من الوهلة الاولى أنه كاتب عراقى عاش بين العشائر العراقية المتمركزة في الجنوب من العراق، أو ربما معتنق أحد مذاهبها وذلك لكونه يشير إلى شعائرها في أكثر من فصل في الرواية. إلا أن (أهل مكة أدرى بشعابها) فلو اطلع الكاتب وعاش الحقيقة بين هذه العشائر الجنوبية من العراق واطلع عن كثب على تفاصيل حياتها، لاكتشف الاعمق مما تناوله من تفاصيل روايته، وأدرك عمق العلاقات الاجتماعية وخصوصيتها وتقاليدها وموروثها المذهبى في الشعائر الدينية لتلك العشائر، تحديدا وهو يتناول قضية ثورة سيدنا الحسين بن على بن أبى طالب في واقعة الطف (مدينة كربلاء 170كم جنوب بغداد في عام 61 للهجرة). متناولًا منها البعد الانسانى، وكيف ينتصر الحق على الباطل، في دعوة للسعى في صورة الانتماء للعسكرى الأمريكى جيمى إلى عشائر الأهوار ومناصرة الحق لهم، كما هو الحال كمعادل موضوعى في شخصية الحر الرياحى الذي ترك جيش يزيد بن معاوية وانتمى إلى جيش الحسين بن على.

لقد استخدم في روايته تقنيات تعدد الاصوات وتخالف المنظور، وتوظيف الرسائل والمذكرات وتحريك الصورة المشهدية لتركيز اللقطة النصية في الحوار، حتى يرتقى للقيمة الكبرى للعادات والتقاليد والأعراف لدى هذه العشائر الجنوبية.

وبالتالى سيكون الاقرب منها في رسم الوصف والسرد وإعطاء البعد الانسانى للشخصية وحركتها داخل البناء الروائى، فضلا عن الاقتراب من دقة الوصف خصوصا عندما يحدد شخصية السيد، وهى الشخصية المحورية التي تعتبر من الاشراف لدى هذه العشائر ويكون نسبه (نسب السيد) عائدًا إلى آل بيت النبى محمد (ص) إلا أن الكاتب تجده ينسب هذه الشخصية (السيد) إلى عشائر الفريجات أو العبيدات وهاتان العشيرتان ليستا من الاشراف!!، كما هو الحال في وصف المكان وتسميته المكررة خطأً للبعض منها كمقهى الزهراوى والاصح مقهى الزهاوى (نسبة إلى الشاعر العراقى جميل صدقى الزهاوى المتوفى 1930) أو قوله مسلم بن عقيل بن ابى طالب هو ابن خال سيدنا الحسين والاصح ابن عمه.. فضلا عن عملية خلط الراوى بين أحداث ثورتى تموز في 1958 وتموز 1968. إن الراوى محمد طعان يختزل الكثير من الرؤى في شخصية البطلة آمنة التي تسعى للبحث عن زوجها الذي كان ضحية المقابر الجماعية في عهد النظام السابق لحكم صدام حسين، فهى تضمر في داخلها لواعج لماضى يتوزع بين الحنين لحبها البريء، وتضحيتها لزوجها الضحية في الوقت نفسه، وصراعها الداخلى الذي يؤطر سلوكها والسعى للتجرد منه.لان آمنة هذه الفتاة الغجرية التي كانت تعيش في دار غجرى وفى حى يسكنه الغجر في احدى أطراف العاصمة بغداد والذى يلهو معها وطبان، تلك الشخصية التي أغمرنا بها الراوى وتسليط الضوء عليه، حيث كان هذا الاخير وزيرا للداخلية في عهد النظام السابق وقد تعلق بآمنة مذ كان يتردد على بيت امها بذلك الحى الغجرى.. فضلا عن ارتباطها بزميل زوجها واللقاءات معه للبحث عن زوجها ومساعدته لها المتكررة، والسفر بين بغداد حيث يعمل فيها هذا الاخير والعودة إلى الأهوار في جنوب العراق عند العيش مع والد زوجها السيد، هذا الارتباط المحورى أن صح التعبير عنه، والتنازع النفسى الداخلى، يقودنا إلى ادراك النمو والتطور الهارمونى والدراماتيكى للشخصية، التي تنساب إلى المتلقى بانتقالات فنية، هنا استطاع الراوى تذويب لغته السلسة والشيقة في نمط سردى بديع يتميز بالحركة والتدفق والشجون التي تطلقها آمنة وهى تنصاع إلى شخصية وطبان المحاصرة لشخصيتها، ومراقبته لها حيث تشاء من التنقل بين بغداد والأهوار في جنوب العراق.

إن مثل هكذا شخصيات كما يصفها عالم النفس يونغ، شخصية تفرز رواية من داخل رواية، فهى بحكم مركب النقص الذي يكون في تكوين شخصية آمنة، وتنازع النفس البشرية بين البيئة الغجرية التي كانت تعيشها، والانتقال إلى الأهوار والشعور القسرى الذي يلاحقها من وطبان، كفيل بأن يخلق دراما لرواية قائمة لوحدها.

وعندما تتوزع الرواية بين آمنة والسيد والعسكرى الأمريكى جيمى، تتشظى صور الأحداث بطريقة غير عشوائية بل تشظى من النوع الابداعى للراوى أو الكاتب المتمكن من توظيف أدواته في البناء الروائى لعبور اللحظات غير المرغوب فيها وتجاوزها، في أسلوب التصور الفنتازى للاحداث وللزمن الذي يسقطه الكاتب، متجاوزًا الترهل في ديناميكية الحركة التصاعدية للأحداث.. لذا يعطينا الكاتب انطباعًا من الوهلة الاولى وحتى الاخير بأننا امام مشاهدات تنطوى على احداث عاشها الروائى بواقعية سحرية صورها لنا عن الأهوار في جنوب العراق، والموروث الشعبى الذي يخاطب به شخصية السيد للعسكرى الأمريكى جيمى وكيف تحول الاخير باعتناق الدين الاسلامى..

قد يعزو ذلك إلى الإيحائية التي أراد بها الروائى من خلال شخصية العسكرى جيمى باعتناقه الإسلام بأهمية الدين الاسلامى وبرائته مما يحدث الان من ردود افعال على شبكات التواصل الاجتماعى (السوشيال ميديا) من تطرف فكرى وارهاب وأحزاب اسلامية.. ليؤكد أن المتطرفين فكريا هم أخطر من مرتزقة، وأن ما عاشه العسكرى الأمريكى جيمى خلال فترة غزو العراق لإسقاط نظام صدام حسين، كانت أكبر خدعة أمريكية، عززت لديه مفهوم كذبة دولته العظمى، بأن العراق لا يمتلك أي أسلحة دمار شامل، وأن ما عبثت به القوات الأمريكية بالشعب العراقى اثبتت له بالدليل القاطع أن أمريكا لا تحمل أي مفهوم عن حقوق الإنسان وأن الإنسانية براء منها، والذى جاءت به تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ولست أدرى أن كان الكاتب د. محمد طعان قد شهد بنفسه ما عاشته بغداد بعد الغزو الأمريكى لها، أو قام بزيارة جنوب العراق والأهوار والعشائر العراقية التي تنتشر هناك، واطلع على الأعراف والعادات والتقاليد والشعائر الدينية فيها، لاتضحت له حقائق كثيرة وتصورات ربما مغلوطة عن ذلك العالم، عندما لا تتوازى فيه الجرعات المعرفية من ثقافات بين مجتمع إلى آخر، ففى البلد الواحد تختلف العادات والطقوس من شماله عن جنوبه، وبلد كالعراق، تتعدد فيه الديانات والقوميات والمذاهب والاثنيات، وبلد عريق صاحب تاريخ وحضارة، الذي كان موئلًا للكثير من القبائل التي سكنته وتسكنه حتى يومنا هذا، ومسرحًا للحروب والغزوات عبر التاريخ، يحتوى من عادات وقيم وأخلاقيات وطقوس شتى. ويقتصر أثره على هذا الحماس المشبوب لإصلاح العالم بسلاح الدين كما يتوهم المتعصبون، ولكن هذه الإشارات الثاقبة التي لا تتسنى ملاحظاتها إلا لمن تأملها بإمعان تدل على خبرة الكاتب الوثيقة بهذه العوالم وقدرته على توظيفها في سياقاتها الطبيعية بتلقائية عجيبة.

إن المؤلف قد استطاع تذويب لغته السلسة الشيقة في نمط سردى بديع يتميز بالحركية والتدفق وحكى بها شجون شخوصه وخواطرهم ونقدهم للحياة في مستوياتها المختلفة.

فإذا كان فن الرواية كما يصفها خورخى بورخيس بانها كتبت في عصور لاحقة ولكنها لم تصل إلى ذروة الفعل الانسانى، إلا أن رواية «سيد بغداد» باختلافنا مع الرأى السابق، فإنها أعطت للقارئ العربى نموذجا يحاكى الواقعية والسحرية والتنبؤ، بأن هنالك مخططا يقود العالم نحو التطرف والصراعات والانقسامات والتحديات، ليس على مستوى قيام الحروب بين دول العالم، وإنما حتى على صعيد الحروب من الاجيال الرابعة والخامسة فيما سيبقى الفن الروائى راصدًا للوجع الإنسانى الذي شهد العديد من المعالجات المعقدة لانعكاسات واقع عربى سلبًا أو إيجابًا وسريع التحول في مفاصل الحياة والإنسان ذاته.

***

د. عصام البرام

..................

* شاعر وكاتب وباحث عراقى عمل في السلك الدبلوماسى بوزارة الخارجية العراقية وهو شاعر وكاتب سياسى وأكاديمى وحائزعلى لقب المثقف العربى لعام 2015 وعضو اتحاد الكتاب العرب واتحاد كتاب مصر وأتيليه القاهرة واتحاد المؤرخين العرب وحاليا وزير مفوض بالجامعة العربية

(زاهي حوَّاس، وجو روجان: نموذجَين)

ليست براعة التصوير الفنِّي والتشكيل الشِّعري وليدة الحضارة العَرَبيَّة بعد الإسلام، لدَى العبَّاسيِّين أو الأندلسيِّين، فحسب، بل تجد نفثاتها المدهشة قبلئذٍ لدَى شعراء الجاهليَّة ومخضرميهم. هكذا قفز بنا (ذو القروح) إلى رمال العصر الجاهلي. قلت:

ـ مثل ماذا؟

ـ لا تستعجل على رزقك! سيأتيك بالأخبار من لم تزوِّد!

ـ هات!

ـ لقد تَصِل الصُّورة في الشِّعر القديم أحيانًا إلى تشكيل لوحاتٍ فنيَّة، لو عزوتها إلى المدرسة السُّرياليَّة، لما بدوت مبالغًا. خذ نموذجًا على هذا الذي نزعم من بيتٍ واحدٍ بسيط لـ(عمرو بن معدي كرب)(1)، يصوِّر فيه فَرَسه، قائلًا:

يَقُـولُ لَـهُ الفَوارِسُ إِذْ رَأَوهُ

نَرَى مَسَـدًا أُمِـرَّ عَلَى رِماحِ

فهو، في أربع كلمات «مَسَدٌ أُمِرَّ عَلَى رِماحِ» ينقل إليك صورة أبلغ من لوحة (الفِيَلة The Elephants)، التي رسمها الإسباني، رائد الفن السُّريالي، (سلفادور دالي Salvador Dali ، 1904- 1989)، عام 1948، إذ أراد- على ما يبدو- التعبير عن المفارقة بين خِلقَة الفِيْل الواقعيَّة وصورته المتخيَّلة. أو قل: بين كثافة الواقع وتسامي الخيال. وإنْ تمخَّضت لوحة دالي في النهاية عمَّا هو أقرب إلى عبثيَّة الدلالة مقارنةً بلوحة (عمرو بن معدي كرب)، الجامعة بين الواقعيَّة والسُّرياليَّة؛ حين يتحوَّل الفَرَس، ضمورًا وسُرعة عَدْو، إلى حَبْلٍ أُمِرَّ على رِماح.

ـ ما إنكار التفوُّق على الإنسان القديم إلَّا عادة مزمنة.

ـ تجلَّى من شواهدها مؤخَّرًا في ما جرى في تلك الحلقة التهريجيَّة التي ظهر فيها عالم الآثار المِصري (زاهي حوَّاس) في مواجهةٍ إعلاميَّةٍ، «بودكاست» كما تُسمَّى.

ـ أو (برود كاست) حسب رواية الفنان (حسن عسيري)!

ـ هذا أفضل تعريب! إذ يبدو أنَّ العَرَب قد عجزوا عن أن ينطقوا بمقابل لتلك التسمية «بودكاست»، وهم عمَّا دونها أعجز. ولو اقترح عليهم أحدٌ استعمال (مواجهة إعلاميَّة) بدل «بودكاست»، لما راق لهم هذا؛ حتى لا يزعلوا سيِّدهم اللُّغوي والحضاري!

ـ المهم؟

ـ كلُّه مهم! كانت تلك المواجهة غير المتكافئة مع المهرِّج الأميركي المعروف (جو روجان Joe Rogan)، ذات دلالات حضاريَّة. ولا تجنِّي في وصف جو بالمهرِّج، فهو كذلك بالفعل، شكلًا ومضمونًا، يذكِّرك بأبطال المصارعة الحُرَّة من المهرِّجين خلال القرن الماضي. لقد ظلَّ روجان هذا طوال الوقت مُصِرًّا على أن يسلِّم معه الآثاريُّ المِصْريُّ (زاهي حوَّاس) بخزعبلات غَرَبيَّة حديثة، حول بناء الأهرامات. مكرِّرًا أنَّ ثمَّة إيطاليَّين ما، لله دَرُّهما- ويكفي أنهما أوربيَّان ليُحكَم لهما بالعدالة والعِلميَّة، شاء من شاء وأبى من أبى- زَعَما أنَّ الأهرامات مبنيَّة على أعمدةٍ ضوئيَّة، بدعوَى أنها التُقِطت صُوَر لتلك الأعمدة الوهميَّة عبر الأقمار الاصطناعيَّة!

ـ يا حلاوة!

ـ إلى غير هذا من الخيالات غير المثبتة عِلميًّا، ولا المعقولة، بأيَّة أقمار. بل يبلغ التهريج أحيانًا في هذا السياق الهزلي إلى الزعم أنَّ بُناة الأهرامات إنَّما هم كائنات فضائيَّة، جاءت فبنتها ثمَّ انصرفت، ربما لتبني أهرامات أخرى على كوكبٍ آخر.

ـ ثمَّ يقال إنَّ العقل الغربيَّ عقلٌ عِلمي!

ـ الخرافة هنا لا حياء فيها، ما دامت تحقِّق هدفًا!

ـ وهو؟

ـ هو أن يقال إنَّ الشرق، و(أفريقيا) بالذات، من المستحيل تصوُّر أنها كانت ذات حضارة قبل آلاف السنين بهذا الحجم؛ فإنما الحضارة غربيَّة حصرًا، منذ الأزل وإلى الأبد، رُفِعت الأقلام وجفَّت العقول!

ـ غير أنَّ الأعجب هنا جاء عن ضجَّة الإعلاميِّين العَرَب!

ـ هؤلاء دراويش يستثيرون الشَّفقة حقًّا! ربما يضجُّ دُيوكهم اليوم لسبب، وغدًا يضجُّون لسببٍ آخَر نقيض! وأعني الأسباب السياسيَّة أو الأيديولجيَّة. إذْ شَنُّوا هجومًا على عمِّهم (حوَّاس)، منكرين عليه أشدَّ الإنكار زهوه، واعتزازه بنفسه، فقد كان جديرًا أن يقبِّل يدي (جو روجان)، وحسبُه شرفًا أنه ظهر معه!

ـ لعلَّه كان يؤزُّهم إلى ذلك بالأحرى ما عبَّر عنه المثل الشعبي »الفرنجي برنجي»، المشخِّص لعُقَد الخواجة فينا.

ـ خليطٌ من العُقَد. فكان طبيعيًّا جِدًّا أن لا يقدِّموا للمتلقِّي فكرةً عِلميَّةً واحدة، مع أو ضد. سِوَى أنَّ (حوَّاسًا) حاسَ اللقاء، وكان يدخِّن بشراهة أثناء المواجهة، أو أنه ظهر متعجرفًا، وكان ينبغي أن يستغلَّ اللِّقاء ليقدِّم دعايةً إعلاميَّةً سياحيَّةً جذابة لـ(مِصْر)، لا تُعوَّض، ولو على حساب اقتناعاته، وليَغُر التاريخ والآثار والعِلم في ستِّين داهية، المهم نيل شهادة حُسن السيرة والسلوك من العم سام...!

ـ وهم في المقابل لم يلحظوا الطَّرَف الذي يدافعون عنه، بجسده المستحيل إلى سوادٍ قاتم، لكثرة الرسوم الموشومة عليه، أكثر من أيَّة جداريَّة هيروغليفيَّة مِصْريَّة.

ـ لا تنس أنه في لقائه بـ(حوَّاس) كان يغطِّي جسده، ربما لكيلا يبدو هو الآخَر تمثالًا مليئًا بالوشوم والكتابات التصويريَّة، الدالَّة على أنَّه أكثر بدائيَّة من تماثيل قدماء المِصريِّين.

ـ ولا شاهدوا فيه أيضًا فوقيَّته وتعاليه وعجرفته؛ لأنَّ »الفرنجي برنجي» دائمًا وأبدًا.

ـ هكذا هي جمهرة الناس، مع الأسف، يعجبها الآخَر، مهما فعل بها، وتزدري أبناء أوطانها، ملتمسةً لازدرائهم كلَّ سببٍ وحُجَّة. ومن شِيَم الناس أن يقفو غالبًا مع الباطل، حيثما كان، ومع الضَّلال، حيثما وُجِد، ومع المثير للعواطف والخيالات والأكاذيب، وإنْ رفع بها عقيرته مجنونٌ رسمي.

ـ شريطة أن يكون مجنونًا فرنجيًّا طبعًا.

ـ فيما يقفون للحقِّ والعقل والعِلم بالمرصاد، ولا سيما حين يصدر من أبناء البلد.

ـ والأدهى لديهم حين يُنكِر ابنُ البلد مقولات »الفرنجي البرنجي»، وأنها محض هراء.

ـ أمَّا حينما يتجرَّأ على القول: إنَّ غير »الفرنجي البرنجي» كان لديه ذات يوم مثل ما لدَى »الفرنجي البرنجي» أو أفضل منه، ربما منذ القِدم، فهو هنا قد كفر، وفجر، وتمرَّد على ثقافة القطيع، ولا بدَّ، إذن، أن يقام عليه حَدُّ الرِّدة عَلَنًا، وإنْ معنويًّا. وعندئذٍ سيُرمَى بالجهل، والتخلُّف، وأنه قد بات فضيحةً بجلاجل أمام الغرب المتقدِّم، كيف لا، وقد شوَّه صورتنا الحَمَليَّة الوادعة في حضرة السيِّد الأبيض؟ الذي كان يجب دائمًا أن نحظى بشرف التأمين على ما يبخِّرنا به من أضاليل، عمدًا أو جهلًا!

ـ أمَّا (جو روجان)، فمهرِّجٌ يمينيٌّ متطرِّفٌ معروف، وهُمُ كُثْر!

ـ وفوق هذا لا علاقة له لا بالتاريخ ولا بالآثار، ولم يقرأ عن الموضوع، حتى لمجرَّد التحضير للمقابلة، كأيِّ إعلاميٍّ يحترم عمله. بل إنه كان لا يعرف اسم الضيف نفسه؛ فإذا هو يدعوه (زاوي)، بدل (زاهي)!

ـ ما موقعه من الإعراب، إذن؟

ـ موقعه من الإعراب: (مفعول لأجلهم)؛ محمَّلًا بما حُمِّل به من أوزار القوم، ليلقيها كيفما اتفق. إنَّما جاء لإيصال أصوات هلوسيَّة تنتاب منذ سنوات صديقه الحميم الصحفي الاجتماعي الإنجليزي Graham Bruce Hancock، الذي له خلافاته القديمة والحادَّة مع (زاهي حوَّاس). وما هذا اللقاء الأخير إلَّا حلقة لمحاولة تصفية الحسابات، بصورةٍ غير مباشرة، عبر وسيطٍ صديق، وهو روجان.

ـ كلُّ من تابع الضجَّة الإعلاميَّة، بالإنجليزيَّة أو بالعَرَبيَّة، ومهما اختلف مع (حوَّاس)، لن يجد كلمةً واحدةً عقلانيَّةً في الموضوع المثار ضِدَّه.

ـ هما تياران، يا صديقي، عَرَبيٌّ وأجنبيٌّ، عَرَبيٌّ له خطابٌ متشنِّجٌ مسيَّس، مؤدلَج، تراه يَرْدَح بمناسبةٍ وبغير مناسبة، يمنةً ويَسْرة. وتيارٌ غربي، غنيٌّ عن التعريف، في نظرته العنصريَّة ومواقفه من المختلف في هويَّته أو حضارته أو لونه. وأمَّا جَلْد الذات العَرَبيَّة من العَرَبيِّ احتفاءً بكلِّ ما هو غربي، وإجلالًا لكلِّ ما هو أميركي، فليس بجديدٍ ولا بغريبٍ على ولاء العُربان للرُّوم. وولاء العُربان للرُّوم عريقٌ جِدًّا، منذ ما قبل الإسلام. حاول الإسلام اقتلاع جذوره، لكنه عاد أقوى من ذي قبل. ولذلك، لن تجد إلَّا كلامًا مجَّانيًّا، من مثل، إنَّ هذا الخواجة أكبر صاحب «بودكاست» في العالم، وعنده عشرون مليون متابع، وقال: إن ذلك كان أسوأ لقاء...

ـ يا للهول!.. «يا شماتة أبلة أمريكا فينا»! ما علاقة «أكبر...»، و«قال...» بالحقيقة والتاريخ والآثار أصلًا؟!

ـ وما أكثر الناس، ولو حرصت، إلَّا من عيِّنة هؤلاء!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1) (1995)، شِعر عمرو بن معدي كرب الزُّبَيدي، تحقيق: مطاع طرابيشي، (دمشق: مجمع اللُّغة العَرَبيَّة)، 77/ 8.

شظايا الذوات في طاحونة بقايا وطن

توطئة: من الواضح أن بعض المؤولات الإظهارية المشكلة للتمفصلات النسيجية في البناء الموضوعي لنصوص مجموعة (أنقاض وطن) للقاص فلاح العيساوي، تعد بذاتها ذلك التجسيد العضوي الذي من خلاله تتم اختيارية المحاور الموضوعية في دليلها ودالها الحكائي الذي يتمثل ويحاكي علاقات واستعادات هي من الخصوصية الموضوعية والدلالية الموحدة . فالقاص العيساوي في موضوعات أقاصيص مجموعته موضع دراستنا يتوقف عند موضوعة ذات إطارية دينامية تتوحد من خلالها سباقات (الحادثة ـ الحبكة ـ التبئير) خلوصا نحو تلك الدائرة الانتاجية من فرضية معادلات الخلق النصي، وما تقتضيه توالدات البنيات الزمكانية المؤطرة للمادة القصصية من (رؤية ـ فضاء ـ صيغة) وعلى هذا النحو واجهتنا الصنعة القصصية في مواطن مستويات الكتابة لدى العيساوي، وكأن البعض منها لا يعادل مقدار الأثر الموضوعي في الواقع المتخيل، ذلك لأن طبيعة الكتابة للنصوص القصصية حلت في ملفوظات لم يحسن القاص جيدا في سبكها ولا من ناحية ما من خلال مستويات جاذبية التخييل في شرايين النصوص، بل جاءت مندرجة ضمن حكايات وبنيات تتوسل لذاتها للأبعاد القصدية والإيحائية للنص.

ــ البنية السردية والمأثور الحكائي

يشكل الإيحاء والتعمق في السمات الهواجسية في السرد القصصي، ذلك الممكن الملازم لبلاغة المادة السردية في القص . فمثلا تواجهنا قصة (أوجاع ذكرى) وقصة (عنق الزجاجة) بما يوفر دورا موضوعيا هاما في مجال الفكرة والرؤية، ولكننا عندما نعاين في تمفصلات الإجرائية السردية، نكتشف أن القاص قد بذل جهدا جهيدا في رصد أفكاره، دون أن يحول من معالجات السرد القصصي إلى أداة مبطنة بالمعنى المغاير والمتفرد، بل أنه أخذ في كل حساباته فرض أهمية وقائعية الموضوعة دون أدنى التفاتة إلى مستوى تقانة التخييل ومدى ما يشغله من الوظائف المتعددة في المعنى المؤول . ربما أنا لا أقصد من جهة هامة بأن تجربة القصص في المجموعة لا تحمل أدنى حالة تأثيرية في مستوى الإبداع إجمالا، لا أبدا أنا أقصد أن القاص العيساوي في جملة نصوصه وخطاباتها كان من اللازم عليه تأثيث فضاءات نصه بتقانات حبكوية أكثر مساءلة في أبعادها المكبوتة والضمنية في شواغل الكتابة السردية المفترضة . هناك مثالا في حيثيات قصة (أوجاع ذكرى) ثمة مفترضات غير محكومة بصدقية عين الواقع الزنزاني، إذ نلاحظ تلك الشاشة التي تظهر للمعتقل بصورة فجائية، على حين غرة كشف لنا السارد منذ عدة سطور بأن السجين: (الظلام الحالك جدا .. لا أستطيع أن أميز أصابع يدي . / ص7) بما يدلل على أن طبيعة المكان تعود إلى مزايا موحشة من الأساليب البدائية من التنكيل، فكيف حال حدوث اشتغال هذه العارضة السينمائية التي تعرض كيفية تعذيب السجناء، فهذا الأمر ما يدل بذاته أن طبيعة المكان عائدة إلى دولة أوربية مثلا، وليس في إبراز ما قام به القاص من أحداث موصوفة سلفا في مستهلات القصة كـ: (أشباح تدور حولي وأنا معصوب العينين . / ص7) كما وهناك من المواقع الحسية للشخصية ما لا يتوافق مع زمن وظروف المعتقل بحد ذاته كحالة ما في السرد أيضا: (لا أعرف ما يخبئه القدر لي في لحظات قادمة ؟ ــ الأصوات، التي تبعث القرف قي نفسي انتهت فجأة استرجعت شريط الأحداث ليومي منذ الصباح .. على عادتي تأنقت، تعطرت، تأملت نفسي في المرآة . / ص8) بمثل هذا النوع من التحول داخل ذاتية السجين (صورا بشعة لأنواع التعذيب ــ وبين هذا وذاك سياط تهوي على الأجساد تقرع أبواق الألم . / ص8) لا أعتقد من جهتي من ناحية ذاتية أن من يعتاش مثل هذه الأجواء الكابوسية له القدرة على استعادة شريط يومه حتى وأن كان الأمر مباحا قبل عملية الاعتقال . إذن هناك حالات غير مدروسة نفسيا وعاطفيا في مواضع بعض الأحداث في النص، ولكن القارىء للقصة ذاتها قد يتفاعل مع باقي بنادات المتن السردي، حيث يقوم الفاعل الذاتي في قصة (عنق الزجاجة) وقصة (ذئاب رحمية) وقصة  (عروس شنكال) بجملة أفعال تقترب من مغالاة المتخيل وانحسار صدقية الواقع، فمثلا هناك المصادفات الغريبة في قصة (ذئاب رحمية) والمنظور المباغت في حالات قصة (عنق الوجاجة) والقصة الأخرى التي تقترب من الفضاءات الرومانتيكية في (عروس شنكال) . عموما لا أود الإضافة والتعليق حول بعض ثغرات النصوص القصصية في المجموعة (أنقاض وطن) سوى القول أن موضوعات القصص ما هي إلا تجليات تسعى إلى رصد دلالات مرحلة الأرهاب ومرحلة النظام السابق في العراق، ولو حاولنا قراءة قصص المجموعة الأخرى كـ (أورتار العود ـ طائر الجنة ـ رقية العصر ـ عقدة الماضي ـ حافة الانهيار ـ أزهار بين الصخور) وقصص أخرى أشد ولوجا في دواخل الذات الناظمة وإلى أغوار منظورات العلاقات التفاعلية المأساوية التي راحت تسجل أشد مظاهر التقهقر للفرد الإنساني بين ثنائية (أنقاض = وطن) وصولا إلى أشد حالات السرد والتبئيير للأحداث والشخصيات المذابة في أفضية الذاتية والموضوعية المرسومة في آفاق بانوراما الخارج والداخل .

تعليق القراءة:

تتجلى الأحداث القصصية في مجموعة (أنقاض وطن) للقاص فلاح العيساوي، ضمن ممارسة متمحورة في كثرة الاسترجاعات والاستبطانات التي كانت تمارسها الشخصية الساردة والتي يقتضيها المقام السردي كحالة زمنية متمايزة بضمير المتكلم الذي يستعين في سرده بضميري (المتكلم ــ المبئر) وصولا إلى صيغة الشخصية المركزية التي تعد بمقام الفاعل الذاتي الذي يطرح أغلب حالات التوجس والخوف من المصير المجهول كما عاينا ذات الأمر في حال قصة (عطف الموتى) وقصة (موعد) وقصة (شروق الشمس) وقصة (خفايا الجسد) . عموما ما تم التركيز عليه في أقاصيص (أنقاض وطن) هو الاستفاضة بالوعي الفردي المأساوي المحفوف في كافة تفاصيل المحتوى المتني والمضمر في النص القصص، وقد يرتبط الاحساس بالشخصية القصصية في مجموعة العيساوي في كونها ذلك البناء النفسي للسارد المشارك، حيث تنعكس رؤيته الداخلية المعبدة تجاه سياق السرد بتلك اللغة الأكثر شفافية وبساطة وعمق في نقل أحوال وملامح صورة الفرد القاهرة في أبنية أخيلة ورؤى أرتبطت ومصير يبوح به السارد المشارك عن الملامح المأزومة للذوات الشخوصية في فضاءات أنقاض وطن .

***

حيدر عبد الرضا

قراءة رمزية هيرمينوطيقية في مرايا فرحان الخطيب

مقدمة تأويلية: في "قطوف الشعر" لا نقرأ قصيدة فحسب، بل نصّاً يتناوب فيه الشاعر على التماس الجمالي مع المطلق، ويتخذ من الشعر ملاذاً للذات، ومرآةً كونية للوعي. القصيدة ليست مجرد تأمُّل شعري في فعل الكتابة، بل تشييدٌ رمزي للذات عبر اللغة، وانبثاقٌ وجودي للكينونة في لحظاتها الأكثر هشاشة وأناقة. يتكئ الشاعر على إيقاع داخليّ رقيق، ويعبر بين رموز الحلم، والأنوثة، والطفولة، والموت، ليجعل من الشعر طريقًا نحو المطلق، ونحو الخلاص الإبداعي من شقاء الحياة.

البنية الأسلوبية – الشعر كذات ناطقة

يبتدئ النص ببيت افتتاحي يضع الذات الشاعرة في مركز الكون يقول الشاعر فرحان الخطيب:

"ليس للشعر منزلٌ مثل ذاتي

فيه يسمو إلى ذُرا المكرماتِ".

الأسلوب هنا تصريحي تقريري، لكنه لا يخلو من فخامة رمزية، حيث تُقام علاقة احتواء بين الذات والشعر، فليس الشعر مكاناً خارجيّاً بل مسكناً داخليّاً، وكأن الشاعر يعيد تشكيل "أناه العليا" لتكون وعاء الخلق، لا مجرد ناقل للمعنى. وهذه العلاقة ليست زهواً، بل إعلان وجوديّ يقول: "أنا الشعر، ومن دوني لا مكان له."

القصيدة تميل إلى استعمال أفعال حيوية: (أقطف – أداري – يجيء – يطل – طرّز)، ما يمنح النص حركة ديناميكية، تُخرج القصيدة من التأمل الخالص إلى الفعل الشعري الإبداعي المتجدد.

البنية النفسية – الشعر كبديل عن الألم

يتجلّى في القصيدة خطاب نفسيّ مزدوج: من جهة، الشاعر في حالة نرجسية إبداعية، يرى ذاته مركزاً للشعر؛ ومن جهة أخرى، هناك اعتراف خفيّ بالهشاشة والتعب يقول الشاعر الخطيب: " يا شقيَّ الحياةِ طرّزَ شعري، بوحُكَ الثرُّ عن شقاء الحياةِ" .

في هذا البيت يُوجَّه الخطاب إلى الحياة باعتبارها كياناً يتقاطع مع الشاعر في المعاناة. الشعر هنا هو رد فعل نفسي عميق على شقاء الوجود، محاولة لمداواة الصدع الداخلي عبر التجميل اللغوي: "طرّز شعري". ثم يعلن الشاعر الخطيب مرارًا عن تلك الجدلية بين الرغبة في الصعود والألم المصاحب له ، يقول: " يا نديمَ الصعودِ نحو شهيٍّ

من دوالٍ تضجُّ بالمترفاتِ" .

الصعود هنا رمز للتسامي، للارتقاء عبر الكلمة، ولكن هذا الصعود محفوفٌ بالمعاناة والرغبة واللذة، في آن. الشاعر لا يهرب من الحياة بل يستدرجها إلى القصيدة، فيفككها رمزيّاً ليعيد تركيبها على نحوٍ جمالي.

البنية الرمزية – الشعر ككائن مركّب

القصيدة تزخر بالرموز التي تتنقل بين الطبيعة، والأنثى، والطفل، والموت. كل بيت تقريباً يحمل طبقة رمزية قابلة للتأويل، يقول الشاعر فرحان الخطيب:

"وبناتُ الأفكار عندي صبايا

يتحممنَ في ضُحى المفرداتِ" .

الفكرة هنا لا تأتي بصورة ذهنية، بل ككائن أنثويّ حيّ. "بنات الأفكار" لسن مفاهيم عقلية، بل صبايا يتحممن، أي أن الشاعر يمنحهن بعداً جسديّاً وحسّياً. هذا التمثيل الرمزي للفكر كأنوثة يمزج الجمال العقلي بالجمال الجسدي، ويجعل من الشعر تجربة حسّية عقلية في آن. يقول:

"يا غزالاً من الكلامِ تشظّى

بين معنى وبين لفظِ اللغاتِ".

الغزال هنا رمز للجمال الهارب، للحقيقة التي تتشظى، وللكلمة التي لا تثبت على معنى واحد. هذه صورة شديدة العمق في توظيفها الهيرمينوطيقي: الكلمة ليست وعاءً لمعنى نهائي، بل تفرُّق دائم، وهي بذلك مرآة للشاعر نفسه، المتشظي بين لغاتٍ ومعانٍ.

التأويل الهيرمينوطيقي – القصيدة كنصّ مفتوح على إمكان المعنى

إننا في هذه القصيدة أمام نص مفتوح التأويل. القصيدة تقول، لكنها تترك لنا أن نفهم. لا تُغلق أفق المعنى، بل تتوسّله وتتجاوزه. نقرأ:

" إنهُ الشّعر بعض موجٍ وغنجٍ

وحكايا على ضفاف المماتِ".

الشعر هنا ليس شيئاً محدّداً، بل "بعض"، أي جزء من مجهول أكبر. إنه تموّج وغنج (دلال أنثوي)، ثم سرد يمسّ حدود الموت. نحن في فضاء تأويلي بين الحياة والموت، الجمال والفناء. هذا التوتر هو ما يمنح النص قوته الوجودية.

وفي بيت ختامي مؤثر يقول الشاعرالخطيب:

"أيّها الشعرُ سوف نبقى نغنّي

كالعصافير للرّياضٍ لآتِ".

هنا تتخذ القصيدة بُعداً أنطولوجياً خلاصياً. فالشعر، رغم المأساة، هو ما يبقينا أحياءً، وما يجعلنا نغنّي للعالم حتى في أوقات التلاشي. إننا نغنّي كما تغنّي العصافير، لا لأن الواقع ورديّ، بل لأن الغناء مقاومة، وانتظار لفجر يأتي.

الإيقاع والموسيقى – سيمياء الصوت والمعنى

القصيدة مكتوبة على بحر الكامل (وهو بحر الانسياب والعنفوان)، ما يمنحها انسيابية موسيقية تُوازي جمالية الصور. تكرار القوافي المنتهية بـ "اتِ" (المكرماتِ – الجهاتِ – الفاتناتِ – الأمنياتِ – ناضراتِ...) يصنع إيقاعاً طقسيّاُ، وكأن الشاعر الخطيب يرتّل الشعر كما يُرتّل صلاة. الموسيقى هنا ليست مجرد تجميل لغوي، بل بنية سيميائية تمكّن من تفعيل الأثر الجمالي للمعنى.

خاتمة:

الشعر بين الذات والكينونة

في "قطوف الشعر" لا ينشد فرحان الخطيب العالم، بل يُنشئه. يصوغ من الشعر ليس حكاية فقط، بل وجوداً بديلاً، يتجاوز الحياة العادية نحو الحياة الشعرية. إنه شاعر يؤمن بأن الشعر ليس وسيلة، بل غاية في ذاته، مرآة للذات، وجسر إلى العالم الآخر، حيث "الغزل، والموت، والطفل، والغابة، والبوح" يجتمعون في قصيدة واحدة.

إن هذه القصيدة عملٌ تأويليّ بامتياز، تنفتح على معانٍ لا تنفد، وتدعو القارئ إلى مقاربتها لا بوصفها منتجاً لغويّاً، بل ككائن حيّ يتنفس الجمال، ويرتجف من الألم، ويواصل الغناء، لأن لا شيء يبقى غير القصيدة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..........................

قطوف الشعر

ليس للشعر منزلٌ مثل ذاتي

فيه يسمو إلى ذُرا المكرماتِ

أقطفُ الشعرَ من جنونِ رياحي

وأداريهِ من دُوَارِ الجهاتِ

وبناتُ الأفكار عندي صبايا

يتَحممنَ في ضُحى المفرداتِ

إنّهُ الشّعرُ نجمةٌ في خيالي

ومرايا توشوشُ الفاتناتِ

كل فجرٍ يجيءُ ضوءاً شفيفاً

وندىً بين وارف الأمنياتِ

كل صبح يطلُّ ورداً وعطراً

من جنانٍ مُخضلّةٍ ناضراتِ

**

يا شقيَّ الحياةِ طرّزَ شعري

بوحُكَ الثّرُّ عن شقاء الحياةِ

يا نديمَ الصعودِ نحو شهيٍّ

من دوالٍ تضجُّ بالمترفاتِ

يا غزالاً من الكلامِ تشظّى

بين معنى وبين لفظِ اللغاتِ

إنّه الشّعرُ للمحبّينَ جسرٌ

من هديلٍ يسندسُ الأغنياتِ

إنهُ الشّعر بعض موجٍ وغنجٍ

وحكايا على ضفاف المماتِ

نامَ طفلاً على وسادة عمري

وأفقْنَا على رؤىً عابساتِ

كم رأينا، ولم نكنْ نتمنّى

صورَ الموتِ في مُدَىً دامياتِ

أيّها الشعرُ سوف نبقى نغنّي

كالعصافير للرّياضٍ لآتِ

الشاعر العراقي فارس مطر.. أردتُ القلب من الجسد إلى الجوهر

يأتي النص القصير:

 "‏حسناً أيها الجسد،

لقد وصلت يدي إلى النهد الأيسر

ماذا بعد الحلمة؟

كنتُ أريدُ الأبعد،

أردتُ القلب..

القلب". ليمنحنا مشهداً شعرياً مكثفاً في لغته، عميقاً في دلالاته، يتحرك من الجسد نحو الروح، ومن الرغبة نحو الحب، ومن اللمس الفيزيائي إلى لمس الوعي. ينتمي النص إلى نمط الكتابة الشعرية المعاصرة التي تراهن على القصر والتكثيف والإيحاء، وتفتح مجالاً للتأويل الوجودي والعاطفي في آنٍ واحد.

التوتر بين الجسد والمعنى

في هذا النص، لا يُقدَّم الجسد كغاية، بل كبداية طريق نحو شيء أعمق. فالسطر: "لقد وصلت يدي إلى النهد الأيسر" قد يُفهم بدايةً كفعل جسدي أو شهواني، لكن سرعان ما يُجهض هذا الفهم في السطر التالي: "ماذا بعد الحلمة؟"، وهو سؤال يتحدى الجسد ويبحث عمّا وراءه.

بهذا يتحول الفعل من مجرد اقتراب جسدي إلى بحث روحي، وهذا ما يعبّر عنه النص بـ "كنتُ أريد الأبعد، أردتُ القلب".

إننا هنا أمام حركة عكسية: لا تندفع من القلب نحو الجسد كما هو مألوف في حالات الحب الشهواني، بل تبدأ من الجسد لتصل إلى القلب، في رحلة تقشير لطبقات الإنسان وصولاً إلى الجوهر.

-- : الأسلوب والتكثيف اللغوي. يمتاز النص بأسلوب شعري مكثّف، لا يستخدم البلاغة التقليدية أو الصور المزخرفة، بل يذهب مباشرة إلى المعنى، ولكن بلغة مشحونة بإيحاءات حسية ووجدانية في آن. فكل سطر يُبنى على سابقه، بتصعيد داخلي: يبدأ بالنداء: "أيها الجسد"، ثم يأتي الفعل: "وصلت يدي...". ثم الانكسار بالسؤال: "ماذا بعد؟".

ثم البوح بالرغبة الحقيقية: "أردت القلب".

هذا التصعيد لا يهدف إلى إحداث إثارة بل إلى كشف داخل الذات: حركة من الخارج إلى الداخل، من الفعل إلى التأمل، من اللذة إلى الوعي.

البعد الفلسفي – الإيروس كطريق إلى الروح

النص يستحضر نوعاً من الإيروس الفلسفي، أي الحب الذي يبدأ من الحواس لكنه لا يتوقف عندها. وهذا يذكّرنا بـ تصور أفلاطون في "المأدبة" عن الحب الذي يبدأ من جمال الجسد، ثم يصعد تدريجياُ نحو جمال الروح والفكر.

إن سؤال: "ماذا بعد الحلمة؟"، هو تحدٍ للغريزة، ومحاولة لتجاوزها، من خلال رغبة في "معرفة" الآخر لا امتلاكه، وفي الوصول إلى "القلب" لا الجسد فقط. إنها محاولة لأنسنة الرغبة، أو جعلها طريقاً لاختبار الحقيقة لا الاستهلاك.

مقارنة بنصوص مشابهة

أ. محمود درويش في "أحبك أكثر":

: أحبكِ أكثر..

لا أعرف ماذا أحبُّ فيكِ.. هل هي الزرقة التي لا تراها؟ أم هو الحزن الذي يتخفّى في ضحكتكِ؟"

مثل هذا النص، يتجاوز درويش الشكل الخارجي للمرأة ويغوص في تفاصيلها الداخلية، اللا مرئية، كأنه يردد المعنى ذاته: الجمال الحقيقي ليس في الخارج بل في العمق.

ب. أنسي الحاج في "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع":

"أحبكِ لأنكِ تلمسين العالم لا بأصابعكِ بل بقلبكِ" .

أنسي، ككاتب يتقاطع مع الإيروتيكا الوجودية، يرى في الجسد بوابة إلى ما هو أبعد. وهذا أيضاً ما يفعله النص الذي بين يدينا، ولكن من زاوية الذكر الذي يريد ألا يقف عند الجسد بل يطلب جوهر الإنسان.

البنية النفسية للمتكلم

النص لا يتكلم بلسان عاشق عادي، بل يبدو صوت الذات الشاعرة هنا مأزوماً بوجوده، لا مكتفياً باللذة، بل يبحث عن معنى، عن "قلب" يحسّ أنه مفقود أو بعيد. هناك جوع روحي خلف الفعل الجسدي. وهذا يمنح النص طابعاً سيكولوجياً يتجاوز الغرض العاطفي.

في الختام:

في هذا النص القصير، يلتقي الجسد بالروح، والرغبة بالحب، واللمسة بالسؤال. لا يكتفي المتكلم بالفعل الحسي، بل يتجاوزه نحو التأمل، فيجعل من العلاقة مع الجسد تجربة وجودية، لا لحظة غرائزية. بذلك ينضم النص إلى سلسلة من الكتابات الحديثة التي تسعى لفهم الإنسان لا من الخارج، بل من الداخل: من القلب.

***

بقلم: عماد خالد رحمة -  برلين

.........................

نص القصيدة

‏حسناً أيها الجسد،

لقد وصلت يدي إلى النهد الأيسر

ماذا بعد الحلمة؟

كنتُ أريدُ الأبعد،

أردتُ القلب.. 

القلب

***

ميلانو / إيطاليا

 

منطلقات السيرة الذاتية، تحتاج الى خبرة وكفاءة في هندسة لسردها وترتيبه أحداثها في صياغة تملك ابداع فني في التكوين، في ذكر أهم الأشياء الحساسة والمؤثرة في فعلها السردي الدراماتيكي الصاعد الى الذروة، في السليقة الشعورية في الكشف والبوح، في المشاعر الحسية الداخلية، التي ظلت راقدة في الذهن والشعور، وينبغي افراغها وسكبها بصياغة الفن الروائي الحديث، لذلك السرد الروائي، برع في ترتيب هذه ا الانثيالات الشعورية الذاتية، ربما شيء مختلف عن المألوف، بأن أغلب الروايات، السيرة الذاتية، عن أحلك مرحلة سياسية مرت في تاريخ العراق، هي فترة حكم البعث المتسلط بالإرهاب والطغيان، والمواطن تحت مجهر عدسة رجال الأمن، في المراقبة والترصد، أغلب هذه الروايات جاءت على لسان رجل أو بصيغة المذكر، ولكن هذه الرواية جاءت بلسان امرأة بصيغة المؤنث، التي عاشت هذه الذكريات بالمعايشة الفعلية واليومية، كانت في عين الترصد والمراقبة، لان زوجها نجا من قبضة الدولة البوليسية، واختار طريق الغربة في بلغاريا / صوفيا) وكانت السلطات الامنية اعتقدت بأن زوجها لم يتحمل فراق زوجته وهي حامل كان لديهم يقيناً بعودتك طالما أنا باقية هناك قريبة منهم، كأنهم لم يفهموا !!) ص26. لذا فنحن إزاء ذكريات واقعية حدثت فعلاً، تمثل بخطوطها العامة، وجع الوطن. وجع النضال السياسي والحزبي، وجع الغربة في ظروفها الصعبة وفي أماكن مختلفة العراق. بلغاريا / صوفيا. اليمن الجنوبي) حتى المناخ مختلف كلياً، من درجة السخونة العالية العراق. اليمن الجنوبي) الى درجة التجمد 10 درجات تحت الصفر بلغاريا / صوفيا)، بدون شك هذا التكيف صعب في هذه الأماكن المختلفة، تحتاج طاقة لتحمل اكثر من الواقع الاعتيادي، لكن السارد العليم، بطل الاحداث الروائية، تعلمت وتربت من عائلتها، الام والاب، خصال التحدي والشجاعة والثقة بالنفس، إن قدرة الصياغة السردية تجعل القارئ يفهم ويدرك مدى قساوة سنوات العجاف، سواء داخل العراق، وفي الغربة والمنفى ايضاً، جسدت فيها مشاعرها الذاتية بسليقة حرة منطلقة من أعماق الشعور الذاتي ، هذا يشير اننا بصدد امرأة مناضلة ومكافحة تتحدى الظروف بكل تضاريسها المختلفة، رغم الوجع والالم الداخلي، لذا صفحات السرد الروائي. هي ازمنة التحدي، رغم هواجس القلق والتوجس والحيرة، ان هذه الرحلة الطويلة، في رحلة المنافي الطويلة، هي رحلة المجازفة والمجازفات الدائمة والمستمرة، منذ ان وطئت قدميها في ارض مطار صوفيا، ولم يكن زوجها في استقبالها، وذهبت الى الفندق وحدها، وهي تحمل حقيبة الكتف فقط، وبعد ايام التقت بزوجها الحبيب، وكذلك عانت من بعض السلبيات من العلاقات الرفاقية، التي صدمتها بالمفاجأة غير المتوقعة، بأن أحد اعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي البارزين،قابلها بالغضب والاحتجاج بصوت غاضب أخرجي من هنا لا نريد رؤيتك) حاولت ان تجد مبرر لهذا الغضب، لكن عبثا وتحملت ذلك على مضض، وواصلت جهدها في العمل والدراسة، وممارسة مهنة الخياطة والتطريز، ويكون ريعها المالي هو دعم الأنصار في كردستان، كما لاحظت بعين غير راضية، هو ترتيب اوضاع اقامة الرفاق المتواجدين في بلغاريا، منْ يمتلك صداقات ومعارف، يرسل الى الدراسات الجامعية، وغيرهم يرسل الى دورات حزبية ودراسات اكاديمية محدودة، حاولت ان تقنع نفسها، بأن ضرورات النضال الوطني تتطلب هذه الإجراءات، وجاء وقت المخاض والولادة، واصبحت أم، ملئ هذا الوليد الدفء والحنان، وهي بامس الحاجة اليه لكي يملئ حياتها، في هذه الظروف الصعبة، وتعلمت ان تتحمل الوجع والالم، كزوجة وام، وحتى من العلاقات العامة، حيث تجمعت عوائل الرفاق بكثرة في الفنادق، كثر القيل والقال، لكنها تمسكت بقوة الحب الى زوجها، فهو الملاذ الامن في هذه الرحلة الطويلة لقد كانت رحلة شاقة، لكن علمتها: ان الحياة ليست دائماً كما نخطط لها، وان الحب الحقيقي هو ذاك الذي يظل صامداً رغم كل العواصف... ظلت ذكريات تلك الأيام محفورة في قلبها، لا ذكرى ألم، بل كاثٍ من القوة والمثابرة) ص89. وجاءت الغربة الثانية هو الرحيل الى اليمن الجنوبي بقرار حزبي، فوافق زوجها على القرار، وعرفت عن زوجها لا يعارض أي قرار من الحزب، يمتثل لكل قرار مهما كان كان زوجها ممن لا يعارضون، ولا يبدون امتعاضاً حين يتعلق الامر بتوجيهات الحزب، فقد نذر حياته لقضية آمن بها حتى العظم، واخلص لها إخلاص العابد المتبتل في محرابه، أما هي ورثت عنه هذا الولاء) ص94. هذا الولاء تداعياته احساس تعمق بالنضال الوطني، لكنها وجدت نفسها على تخوم هذه البقعة من العالم اليمن الجنوبي)، اوضاع لا تحتمل ولا تطاق، اشتغلت مع زوجها بمهنة التعليم براتب زهيد، يصعب تلبية الحاجات الاساسية اليومية، لكن اقتنعت بهذا الوضع الجديد، ليس منفى، وإنما ولادة جديدة في قطار العمر، وكان الصبر ملاذها، رغم الحزن والكابة. بدون شك حكايات السرد كثيرة ومتنوعة من الهموم والاشجان، لكنها تبقى هذه الذكريات توثيق تاريخي وسياسي بالغة الاهمية... نقتطف منها:

1 - الأم زهرة:

هي قريبة الشهيد سلام عادل حسين احمد الموسوي). تسرد عن سيرة حياته، بكل فخر واعتزاز، منذ ربيع عمره انخرط في غمرة النضال السياسي والحزبي، رجل واثق من نفسه متفاني في قضية الوطن والاخلاص له، بل كان ملحمة ثورية بطولية، تسرد الحكايات عنه بكل قدسية الرجل الذي لم يكن شخصاً عابر في الحياة، بل ملحمة نضال تمشي على قدمين..... حسين احمد الموسوي. المعروف بين رفاقه بأسم خلده التاريخ - سلام عادل -) ص140. كانت الام زهرة، مثال الشجاعة والاقدام، وكانت تقف في وجه رجال الأمن في العهد الملكي، والى زمن الحرس القومي البعثي، ونشأت من عائلة فقيرة كادحة، تعلمت مهنة التمريض، وكانت تقدم خدماتها الى الناس، وخاصة عند النساء ساعة المخاض، كانت محل حب واحترام لدى الناس، وتكون حاضرة ساعة الشدة والعسر.

2 - الاب: صورة الأب الواعي والمتفهم في حاجاتهم المادية والإنسانية، ويتذكر موقفه المشهود، بكل حب واعتزاز، حين جاء ابن العم يطلب يد ابنته للزواج، وهو يفتخر بأمواله وامتيازاته الكثيرة بما يملك، فوقف الاب في وجهه بصلابة وصرخ به ليس عندي بنات للبيع.. أنا لست من تبحث عنه) ص177. فكان بالنسبة الى عائلته الداعم والسند، وكان يكتب الشعر، يقرأ قصائده التحريضية ضد الظلم والطغيان، وكان يستغل المواكب الحسينية، لبث حماس الناس ضد الظلم والطغيان والارهاب، وليس فقط ذكر مظلومية الحسين، بل قصائد تصب في توعية الناس. كان الشعر يسري في عروقه كما الماء في العروق، فكان شعره سلاح سياسي ضد سلطات الإرهاب، كان والدها يكتب الشعر في الليل ما سيردده في النهار، يلقي اشعاره بصوت الجهوري وسط المواكب الحسينية  والدها لم يكن شاعراً فحسب، بل كان ضميراً حياً، يقف في وجه الجهل والخوف مستنداً إلى قضية لا تموت) ص183. وجاءت ساعة الاعتقال في زمن البعث، في جملة اتهامات منها: شيوعي خطير، وتارة ينتمي الى حزب اسلامي، تارة اخرى مهرب، يهرب السلاح والعبوات الناسفة. كان غياب الاب صعب جداً على عائلته، صدمها بحزن غيابه، ولكن بعد اطلاق سراح السجناء السياسيين عام 1973، أطلق سراحه، فتح الباب ببطء وأطل شبح انسان في جسده النحيل، في حالة يرثى له، فقال بصوت متهدج مخنوق هل انتم جميعاً بخير؟ لم يعتقل احد؟ لم يعذب منكم احد؟) ثم أضاف بقوله الحمد لله..... كنت اسمع اصوات استغاثتكم بي، من الزنزانة المجاورة كل ليلة، كنت اميز صراخكم، كنت اسمع احدكم يصرخ: أنقذني يا أبي، أنا أموت، لقد هددوني بكم..... كانوا يعذبونني بذلك، ينهشون قلبي قبل ان ينهكوا جسدي) ص187.

3- الزوج الحبيب: تربى في عائلة بسيطة وفقيرة وكان والده عامل، لا يملك من الدنيا سوى عرق كدحه وجبينه، واصل دراسته بامتياز، وانخرط بشهية طاغية في حب قراءة الكتب الفكرية والادبية، وانخرط في النضال السياسي والحزبي، وبرز من الأسماء الادبية اللامعة في العراق، وكان محل احترام وتقدير في قلوب الناس. تزوج من حبيبته رغم معارضة أمها، وكان الزواج بحضور شاهدين فقط، لا مهر، ولا احتفالات، ولا تجهيزات فاخرة ليوم الزفاف، لأنها كانت تؤمن بالحب كانت مؤمنة بأن من اختارته شريكاً لحياتها، سيفهم طموحها، سيدعمها، سيقف إلى جانبها في كل خطوة، بهذه القناعة واجهت الجميع وتحدت اهلها) وخلال الحملة الارهابية البعثية، خاض عمار الغربة والمنفى وترك زوجته الحامل، لكن التواصل استمر بدوام الحياة رغم معاناتها، بذلك اختتمت الرواية بهذه المقولة الحكيمة لا نهاية تكتب إلا في طيها بداية آخرى، أكثر املاً واشراقاً، وأشد امتلأ بالحب) ص231.

***

جمعة عبدالله

للروائي السوري: محمد فتحي المقداد.. دراسة نقدية في رمزية المكان والشخصيات

المقدّمة: تأتي رواية بنسيون الشارع الخلفي بوصفها شهادةً سردية حارّة على زمن الانهيار والتمزق، حيث لا مكان ثابتاً، ولا هوية آمنة، ولا يقيناً يُعوّل عليه. يعتمد الكاتب على فضاءٍ مكانيٍّ محدد ومغلق - البنسيون - لاحتضان شخصيات مأزومة تعيش تمزقات وطنية ووجودية، في ظل انهيار القيم الاجتماعية، وتحلل المعايير الأخلاقية، كمجازٍ رمزيٍّ لوطنٍ خاضعٍ لحربٍ دامية، تتورّط فيها السلطة بقسوةٍ ضد شعبها، ويدفع المدنيون الثمن الأكبر في تشظيهم النفسي وانقسامهم الوجودي.

بذلك، لا تقدم الرواية سرداً تقليدياً قائماً على حدثٍ واضحٍ، أو حبكةٍ دراميةٍ متصاعدة، بل تشتغل على الانهيار البطيء للقيم، عبر أصواتٍ متعددةٍ تُمثّل أطيافاً متصارعةً من الشعب نفسه. في هذا السياق، تصبح الشخصيات ليست فقط كائناتٍ فردية، بل استعاراتٍ اجتماعية وطبقات رمزية من جسد الوطن المجروح.

1. الرؤية الوجودية في الرواية

تتمركز الرؤية الفلسفية للرواية حول سؤال الوجود في عالم يفقد كل شروط الأمان. ليس فقط وجود الذات في مواجهة نفسها، بل في مواجهة وطنٍ ينكفئ على شعبه، ويحوّل مؤسساته إلى أدوات قمع وعنف. هنا، تتحول الحياة إلى فعل انتظار طويل للمجهول.

"كلّ شيء يتآكل ببطء. نحن نعيش في قبو الزمن، ولا نعلم إن كان الصباح آتياً أم لا."

الزمن في الرواية متآكل، واللغة محمّلة بالشروخ النفسية والخراب الداخلي.

“لا أعرف متى دخلت البنسيون، ولا متى سأخرج… كلّ شيءٍ يشبه كلّ شيء، حتى أنا لا أعرفني.”

هذه العبارة تجسّد تماماً مركزية القلق الوجودي في النص، حيث الذات لا تثق في الحواس، ولا تجد يقيناً في أيّ بعدٍ من أبعاد الواقع، وهو ما يتماشى مع الرؤية الوجودية عند كامو وكيركغارد: الإنسان كائنٌ في مأزقٍ دائم.

هذه الرؤية الوجوديّة تتغذّى على غياب الأفق السياسي والأخلاقي، وانعدام المرجعيّات، والشكّ في جدوى اللغة والمعنى. وهي تُحاكي تيار "العبث المعنوي" الذي نجده لدى ألبير كامو في "الغريب" وصامويل بيكيت في "في انتظار غودو"، حيث الفعل البشري يتحوّل إلى طقس من العجز والتكرار.

2. البنسيون: الوطن في مرايا التهجير الداخلي والحرب الأهلية

البنسيون كمكان رمزي:

يمثل البنسيون أكثر من مجرّد مكان إقامة؛ إنه الوطن المصغّر، المقطّع، والمسيّج بالخوف. تتحول غرفه إلى مقاطعات نفسية، تعكس حال الانفصال بين مكوّناته، وكأنّ قاطنيه يمثّلون شعباً مشتتاً داخل وطنٍ فقد وظيفته كحاضنةٍ للانتماء والنجاة.

"لا أحد يعرف أحدًا، وكلّ الغرف مغلقةٌ، حتى لو كانت مفتوحة."

في ظل انهيار الدولة وتحوّلها إلى جهازٍ قمعيٍّ يشنّ حرباً أهليةً على مواطنيه، يتحوّل البنسيون إلى مأوىً للهاربين، المنفيين، المهمّشين.

“لا تسأل أحداً من أين جاء. كلّ من في البنسيون جاء من جهةٍ خائفة."

هذا المكان، بما فيه من غرف متشابهة، وجدران مكتومة، ووجوه شاحبة، يُجسّد الوطن المقهور الذي لا يوفّر سوى الظلّ لمن فقدوا الضوء. إنه حاضنة جراح جماعية، لكنه أيضاً انعكاسٌ لنظامٍ مأزومٍ في الخارج.

البنسيون كمجتمع بديل مأزوم:

البنسيون يختصر المجتمع الخارج من رحم الصراع. حيث يُجبر الناجون من الحرب على التعايش، دون مصالحة. يعيشون جنباً إلى جنب، لكنهم مقسمون عاطفيّاً وذهنيّاً وانتمائيّاً. بعضهم يعادي بعضًا صامتًا، وبعضهم لا يتكلم.

بهذا المعنى، يتحول البنسيون إلى بنيةٍ ما بعد وطنية، أو وطنٍ بديل مُحمّلٍ بالخذلان، والرقابة الذاتية، والتباس العلاقات، والتشكيك في الآخر.

في غياب الدولة، ينشأ داخل البنسيون مجتمعٌ هامشيٌّ يعيد تشكيل نفسه وفق منطق البقاء، لا العدل، تتفكّك فيه الروابط، وتفشل فيه العلاقات، ويتحوّل الإنسان إلى “كائنٍ ساكنٍ" لا يصنع مصيره، بل ينتظر نهايته.

3. الحبكة: لا حدث إلا التشظي

بنية (اللا) حبكة:

تتجنّب الرواية البناء الدرامي الكلاسيكي، وتختار سرداً تفكّكيّاً، يقوم على تيّار الوعي، وتقطيعٍ زمنيٍّ مقصود. لا نجد حبكةً تصاعدية، بل تتكرّر المشاهد، وتتداخل الأزمنة، لتصوير حالة الدوار النفسي والجمود الوجودي.

"لا شيء يحدث. فقط الأيام تتكرر بلون رمادي، وكأن الزمان لا معنى له".

اللاحدث في الرواية هو حدثٌ بحدّ ذاته، لأنه يعكس غياب الأفق، وانسداد المعنى، وانهيار القيمة في عالم الشخصيات.

تختار الرواية، عن عمدٍ، أن تكون بلا حبكةٍ دراميةٍ تقليدية. لا توجد بدايةٌ بالمعنى الكلاسيكي، ولا عقدةٌ، ولا ذروةٌ، ولا خاتمةٌ حاسمة. كلّ شيءٍ متّصلٌ ومقطوعٌ في الوقت ذاته.

"الأيام تتكرّر مثل وجوه النزلاء، ولا أحد يتغير، إلا في داخله المكسور."

تيار الوعي والسرد المتقطع:

يُبنى السرد على أساس تيّار الوعي والداخل النفسي، حيث تسرد الشخصيات أفكارها، انطباعاتها، هواجسها، دون ترتيبٍ منطقيٍّ. هذا الخيار الفنّي يُحاكي الفوضى الداخلية التي يعيشها الإنسان وسط العنف السياسي والاجتماعي.

4. تحليل الشخصيات الرئيسية

تركّز الرواية على ثلاث شخصياتٍ محوريةٍ: نبهان، ميرا، وسدرا، تتحرك جميعها في مساحةٍ تحاكي التيه والانكسار والبحث عن ذاتٍ مفقودة.

سدرا: الأنثى الجريحة/الواعية

تُعدّ "سدرا" من أبرز شخصيات الرواية، إذ تجمع بين الألم والوعي، بين الجسد الأنثوي المقموع، والعقل الرافض للامتثال، وهي تمثّل الأنثى في مجتمعٍ ينكرها ثم يعاقبها. هي صوت الأنثى في مجتمعٍ فقد توازنه القيمي.

“سدرا كانت تنام بقميصٍ أبيض باهت، كما لو أنها ترفض أن تكون مرئية.”

سدرا ليست شخصيةً خاضعة، بل واعية، تراقب بصمت، وتلخّص ما لا يستطيع الآخرون التعبير عنه. تمثّل الفئة المظلومة والمهمّشة التي لم تشترك في الحرب، لكنّها دفعت الثمن الأثقل.

"سدرا كانت الوحيدة التي لا تكره أحداً، لكنها لم تعد تحب أحداً أيضاً."

كأنها "الوطن/الأم" الذي أهمله الجميع، لكنّه ما زال يحمل القدرة على النظر بعين العدل، رغم الصمت.

ميرا: الانفجار الداخلي للمقموع

ميرا شخصية مشوشة وغاضبة، تمثل الشقّ المتمرّد والعنيف في بنية المجتمع. هي المنفيّة النفسية التي لا تصالح، ولا تتعايش، لكنها أيضاً لا تجد الخلاص.

"ميرا تنفجر كلما ساد الصمت. كأنها ترفض السكون لأنه يشبه القبر."

تمثّل ميرا شريحةً من المجتمع، لم تعد تؤمن بأيّ إصلاحٍ أو عدالة، وتحاول أن تهدم كلّ شيءٍ لأنها فقدت الإيمان بكلّ شيء.

وكأنها انعكاس لـ "نبهان" و"سدرا" في أكثر حالاتهما اضطراباً. هي أقرب إلى (الظلّ النفسي) غير المتكيّف، وغير المُتصالح، والعنيف إذا لزم الأمر.

“ميرا لم تكن تتكلم كثيراً، لكنها عندما تنفجر، تقول كلّ شيءٍ دفعةً واحدة، كأنها تفرغ الحرب من صدرها.".

ميرا تُجسّد العنف المضادّ للخذلان، والوعي الحادّ بما يدور خلف الأقنعة.

نبهان: الوعي القَلِق

نبهان ليس مجرّد بطلٍ تقليديٍّ للرواية، بل هو مرآةٌ شديدة الحساسية للهشاشة النفسية والاجتماعية التي خلّفتها الحرب والانهيار الوطني. إنه الشخصية التي تدور حولها الأحداث، لا لأنّه فاعلٌ قويٌّ، بل لأنه كائن مُراقِب ومُثقل بالأسئلة. يفتقر نبهان إلى الحسم، ويتحرّك داخل الرواية بثقلٍ شعوريٍّ كثيف، كأنّما يمثّل "الذات السورية المسحوقة"، التي فشلت في الفعل السياسيّ أو الأخلاقيّ، فانسحبت إلى منطقةٍ بين الحياة والموت.

"نبهان لم يعد يحلم بشيء، لكنه ما زال يخاف من أن يصحو فجأة على كل ما فقده."

هذا التوتر بين الخوف والرغبة في الاختفاء هو ما يصنع طاقة الشخصية. فهو حاضرٌ، لكنّه دائم الميل إلى التلاشي.

هو يمثّل صوت المحايد المأزوم، الذي لا يقف مع طرف، لكنه يدفع الثمن؛ يعيش على الهامش، خائفاً من كل شيء، غريبًا في وطن لا يشبهه. هو رمز للجيل الخاسر في وطن مأزوم، يُجسد جيلاً ورث شعارات كبرى عن الوطن والحرية، ليجد نفسه بين مطرقة الاستبداد وسندان الحرب الأهلية.

في الرواية، نبهان ليس ضحيّةً فقط، بل ممثلٌ للضمير المكسور، الذي فشل في المواجهة، فانسحب إلى صمتٍ داخليٍّ يُعاني من خرَسٍ وجوديٍّ؛ لكنّه يظلّ الأكثر وعياً بما حوله. من هنا، فدوره ليس البطولة، بل التأمّل: هو شاهدٌ على انقراض المعنى والقيمة.

من أبرز الملامح الرمزية في شخصية نبهان، أنه يتاجر بالكتب المخطوطة، لا بالكتب المطبوعة أو الحديثة. وهذا التفصيل البسيط ظاهريّاً يحوي طبقاتٍ من الدلالة:

- رمزيةٌ أولى تكمن في أنّ نبهان لا يقرأ تلك الكتب. هو مجرّد وسيطٍ، وهذا يعكس انقطاع المثقّف عن فاعليته التاريخية. فالمعرفة تحوّلت إلى سلعة، والكاتب/القارئ إلى تاجر خائف.

"لم يكن نبهان يعرف إن كان زبائنه يقرؤون تلك المخطوطات، لكنه كان يعرف أنها لن تغيّر شيئاً."

- في ظل الحرب، لا أحد يطلب الكتب. وبالتالي، فإن بيع المخطوطات هو محاولة يائسة للإبقاء على أطلال الحضارة بينما تُقصف المدن.

يمثّل "نبهان" النموذج الكلاسيكيّ للمهزوم؛ لكنّه ليس جباناً، بل مرهقاً من كثرة الخسارات. هو ضحية وطنٍ دمويٍّ ومنفىً باهت. لا يبحث عن خلاصٍ، بل عن مساحة صمتٍ، عن ركنٍ لا يُؤذى فيه.

"نبهان لم يعد يتذكر حتى صوت أبيه، لكنه لا ينسى كيف كانوا يركضون من الرصاص في زقاق الطفولة".

يمثّل نبهان حالة اغتراب مركّبة: عن الوطن، عن الجسد، وعن التاريخ الشخصي. حيث الإنسان غريبٌ عن ذاته، عن الآخر، وعن المكان. فالبطل “نبهان” يمثّل صوت الفرد المهزوم، الخارج من وطنٍ يقتل أبناءه، إلى منفىً باردٍ لا يحتضن أحداً.

خاتمة:

رواية بنسيون الشارع الخلفي ليست حكاية أفراد، بل مجازٌ أدبيّ لوطنٍ ممزّقٍ في حالة حرب صامتة وصريحة. الشخصيات تمثّل أطيافًا من الشعب الصامت، الغاضب، المنفي، والمقموع. أما البنسيون، فهو المرآة المعتمة التي تعكس تفتّت الوطن، وعجزه عن احتواء نفسه.

تشكّل رواية بنسيون الشارع الخلفي مشروعاً سردياً وجودياً، يطرح أسئلةً عن الوطن، المنفى، الذات، الموت، والنجاة.

هي ليست حكاية حدثٍ، بل سردٌ لانكسارٍ جماعيٌّ في وجه قمعٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ وأخلاقي. الشخصيات ليست أدواتٍ للحبكة، بل أصواتاً سرديةً تعرّي الخسارات الفردية والجماعية.

البنسيون هنا ليس مكاناً، بل وطناً بديلاً مفخخاً، تمجيداً للصمت، وتأبيناً للحرّيّة.

إنها روايةٌ عن الخسارات الكبيرة، التي لم تعد تُبكى، بل تُروى على مهل، في غرف مكتومة، خلف نوافذ لا تُفتح.

***

منذر فالح الغزالي

Wachtberg. 30.06.25

 

وتَدوينٌ ثقافيٌّ لِمعاني الهُويَّةِ السِّيريَّةِ

تقديـمٌ: القارئ المُتَتبِّع الذي يُطالع مدوَّنة زيد الشَّهيد (شارعُ بَاتا) بِدأً من لوحة الغلاف العنوانية الأولى، أو من أول صفحة من صفحاتها التدوينية، سَيقرأ أنها وشِمَتْ بكلمة (رِوايةٌ) في تصنيف جنسها الأدبي. وسَيذهبُ بهِ المُعتاد التقليدي أو الظنِّي في التلقِّي القرائي المعرفي أنَّه إزاء عمل سرديٍّ روائيٍّ يقوم على فكرةٍ موضوعيَّةٍ مركزيةٍ تتوزَّع عليها أحداث الرِّواية من أوَّلها حتى آخرها. سواء أكان هذا العمل متواليةً قصصيَّةً سرديَّةً أمْ مجموعةَ حكاياتٍ فصليةٍ تراتبيةٍ تربطها فكريَّاً وحدةٌ موضوعيةٌ معيَّنةٌ ما، مهما اتَّسعت مِساحة هذه الحكايات والأفكار المتناسلة زمكانياً ونسقيَاً.

ولكنَّ المفاجئ واللَّافت الضوئي لأنظارنا بإدهاشٍ في هذا التلقِّي القرائي التدويني التاريخي الجديد لرواية (شارعُ باتَا) ذات الفصول السبعة المحتوى أنَّها لا تقوم في معمارية تأثيها الهندسي والفكري على نظام وحدةٍ موضوعيَّة واحدةٍ مُعيَّنةٍ ما؛ وإنَّما تقوم في مركزية اشتغالاتها التوثيقية على أفكارٍ تجدُّديةٍ ووحدات حكائيَّةٍ موضوعيَّةٍ مُتعدِّدةِ الفاعلية لها وجودها النسقي وأثرها الحياتي المجتمعي.

ويبدو واضحاً أنَّ المعادل السردي الموضوعي الذي قامت عليه فكرة مدوَّنة (شَارعُ بَاتا)، هو مجموع عناصر الرواية الأساسيَّة المكانية والزمانية وشخصيَّاتها الفواعلية، وسلسلة أحداثها الفعليَّة المتنوِّعة التي تشكِّل برُمَّتها وحدةً مركزيةً موضوعيَّةُ تقوم عليها حبكة أحداث الرواية في عصرنة صراعها القائم بهذا التشكيل التاريخي المِيتا سردي الحداثوي الذي يُفكِّك مركزيَّة البطل الواحد، ويمنح الأولوية لتعدُّديَّة الأصوات التي تدور في فَلكِ الرواية بوصفها أُنموذجاً تعبيريَّاً وفنيَّاً جديداً.

وتعدُّ البنية المكانية للرواية والشخصيَّات الرمزية (السَّماويَّة)من أكثر أدوات السرد الأساسيَّة إسهاماً وتأثيراً في بناء هندسة معمارية الوحدة الموضوعية الكبرى للرواية، وإحكام السيطرة جيِّداً على خيوط نسيجها التسريدي العام في ظلِّ هذا التحوُّلات الفنيَّة والجماليَّة الجديدة لسرد ما بعد الحداثة.

وعلى الرغم من أنَّ الرِّواية في خطِّ نسقها الثقافي الظاهر تبدو لنظر لقارئ من خلال تعاقب فصولها السردية السبعة مُتعدِّدة الأفكار والرؤى والحكايات بأنَّها رواية (بوليفونية)مُتعدِّدة الأصوات والشخصيَّات والرموز والوجهات المرتبطة زمكانياً بجذور واقعة الحدث الموضوعيَّة. بيدَ أنَّها في الوقت ذاته تبدو في نسقها الخفي المُضمَر وموحياتها الدلالية البعيدة بأنَّها روايةُ الصوت الواحد والبطل الأوحد الذي يُمثِّل نواة الحدث المُضيئة ويُشكِّل نقطةَ بؤرته السيريَّة الموضوعيَّة المهمَّة.

غير أنَّ ما يظهره نسقها البعيد أنَّها رواية الكاتب السارد أو المؤلِّف الحقيقي زيد الشَّهيد الذي يمكن أنْ نعده هو بطلها في النسق المضمر والظاهر وفي السرِّ والعلن وفي جدليَّة (الخَفاء والتجلِّي) التي امتزجت فيها صورته السِّيريَّة الذاتية وقناع هُويته الشخصيَّة والأدبيَّة الحقيقية في هذا التدوين مع شيء من الخيال الممتع بين انثيالات أنسنة السطور، وخلف معاني حركة مسارات واقعة الحدث.

ولا أدلُّ على ذلك الخلط التسريدي المُتوحدن لمثال الشخصيَّة البطولية لُغة التعبير السردي تتمُّ بلُغة إبراز ضمير تاء الفاعلية وتَكرار توكيده الحضوري القوِّي في بنية الخطاب السردي وتخليقه الإنتاجي الذي هو سرُّ صناعة الحدث ووحدته الكليَّة، على الرغم من أنَّ البطل كونه اللَّاعبَ الفاعلَ والممثَّلَ عن الحقيقة والمُحرِّك الأساس للحدث السردي؛ فإنَّه صار واحداً من بين أصواتٍ آخرين.

إنَّ من يحاول البحث والاستقصاء بجديَّةٍ عن شخصية بطل مدوَّنة (شَارعُ بَاتا) الرئيس، ويُمعنُ النظر مليَّاً بعين نقديَّةٍ واعيةٍ في فكِّ رموزها والكشف عن لُغة شفراتها الفنيَّة الموضوعيَة سيتراءى له بوضوحٍ تامٍ أنَّه أمام شخصيَّةٍ كاتبها الحقيقي المُبدع أو مؤلِّفها عَينهُ بِكلِّ أوصافها ومسمَّياتها الثقافية العامّةَ والخاصَّة، وإنْ كان الفرق ضئيلاً جدَّاً في التفريق بين معاني الحقيقة والخيال المُبدع.

إنَّ فعلَ هذا التداخل الصوري الجميل الذي يَمزج فنيَّاً بين الواقعي واللَّاواقعي، وبين الحقيقي والميلودرامي المفتعل يشي إليكَ أنَّك حقيقة تقف أمام صورة البطل الحقيقي الغالب زيد الشَّهيد في صفحات الرواية المُمتدَّة طولاً وعُرضاً. وحين تبحث عن شخصيَّة الشَّهيد، الإنسان أوَّلاً والمثقَّف المبدع ثانيَّاً في هذا اللَّون الاشتغالي من التَّسريد الجديد، ستجدها ماثلةً بكلِّ صفاتها في أروقة وشوارع ومكتبات ومثابات ومقاهي (شَارعُ بَاتا)وهذا ما سيكتشفه القارئ بنفسه في قراءته للمُدوَّنة.

لقد اختلط علينا صوت الراوي العليم (الكاتب) بأصوات الرواية الأخرى، ولا مناصَ من التفريق بين راويها العليم وبطلها الافتراضي (حمزة). فهذا هو اللَّون التعبيري من الكتابة الذي تمتزج فيه حيثيات الواقع وتشيُّؤاته التَّشكليَّة بمدخلات المخيال المُوسطرة سردياً.

والتي تَرى فيها صورة الكاتب الرائي بدمه ولحمه وهيأته وكأنَّ شَبَحُهُ يُحدِّثُكَ ويَسردُ عليك واقعة الحدث السردية بوثوقيةٍ وهدوءٍ، وشدٍّ وجذبٍ عجيبينِ؛ لَهوَ لونٌ من ألوان الإنتاج الإبداعي السردي الأثير الذي يُضفي على وقع الرواية إمتاعاً أُسلوبياً روحيَّاً شائقاً، ويمنحها ابتداعاً تفرُّديَّاً حداثويَّاً مُذهلاً يروي ظمأ القلوب العطشى للتلقِّي في جماليَّات النقد السردي واشتغالاته الكثيرة.

خاصَّةً وإذا كان زيد الشَّهيد يتحدَّث بهذه السردية من التدوين التاريخي عن خصائص وصفات ومزايا أبطاله الثقافية والمعرفية والعمليَّة في السَّماوة حاضنته الأرضية والوجوديَّة، إنَّما هو في الحقيقة يَتاً حدَّثُ عن طابع هُويته الشخصيَّة وحضوره الذاتي وتطلُّعه العلمي والثقافي والمهني والأدبي الثَّر. فهو لا يتماهى مع شخصيَّاته فَحسب، بل يُجسِّد فيها سيريَّاً وروحيَّاً ما في دواخله من مكنونات وإمكانات تفرديَّة طبعت شخصيَّته الثقافيَّة المُبدعة وحضوره الوجودي المتعدِّد الثقافات.

وبموضوعيةٍ حياديَّةٍ من يَودُّ معرفةَ الكاتب الشَّهيد، فَزَيدُ الشَّهيدِ هو الشاعر والمُترجم والقاصُّ والراوي والقارئ الناقد النابه والمُتذوُّق للسينما والمسرح وفُنُون التشكيل الجماليَّة، والمحبُّ للحياة والمُتطلُّع في أسلوبه إلى الجنوح الأدبي والانفتاح الذاتي على الجامعة الإنسانية.هذا هو زيد الشَّهيد الصوت المَحكِي المُتفرِّد ثقافياً لا الصدى الزائل، والذي نحت بإزميله السردي في الصخر ونقش معاني حروف تراسله القصصي على صفحات وأركان الحجر، وخطَّ آيات إبداعه الفنِّي والجمالي على موجات الماء وأوراق الشَّجر. وأنَّ عديدَ نتاجاته الإبداعيَّة في الترجمة والشعر والسرد -قصةً وروايةً- شاهدةُ إبداعٍ على قيام مشروعه الفكري والثقافي العام والتدويني لذاكرة الرموز الخاصّ.

إنَّ هذه المثابرة التي تحدَّتْ صَخرة سيزيف بالجرأة والشَّجاعة والإقدام لا بالتراخي والإحجام كي يكون زيد الشَّهيد الإنسان أولاً قبل أن يكون الرمزَ العنوانَ ثانياً. وهذا الثناء والإطراء الذي طال سيرته الأدبية ليس مدحاً أو نفخاً ناتجاً عن محاباةٍ أو انحيازاً عابراً لحدود الموضوعيّة وقوانين الحياديَّة؛ إنَّما هو في حقيقة الأمر شَذَرَاتٌ تعريفيَّة وإضاءاتٌ تنويريةٌ صادقة استمدَّتْ ثوابتها العلمية والاعتبارية من موهبته ونتاجاته الأدبيَّة المُبدعة. وهي أفياءٌ وظلالٌ عامرة من طيَّات وبواطِن ومُتون كُتُبهِ وشواهد مُدّونته السرديَّة (شَارعُ بَاتا) التي تعدُّ ذاتها شاخصاً عَيَّانيَّاً عن ذاته.

إنَّ كلَّ فصل من فصول هذه المُدوَّنة السبعة يروي بحكاياته العنوانية رافداً من روافد ثقافته التعدَّدية، ويكشف بتجلٍّ عمَقَ وسِعةَ جوانبها ومُدخلاتها وحُمولاتها الفكرية شعراً وسرداً وترجمةً وعملاً فنيَّاً ومعرفيَّاً ومهنيَّاً اجتمعت فيه كُلُّ هذه النتاجات الفكرية مشروعاً ثقافياً يترجُمُ مشروع سيرته الشَّخصيَّة وهُويته الذاتية. وانعكست في هذه المدوَّنة السرديَّة كلُّ مُخرجات مرآتها الضوئية اللَّافتة على جوانب كثيرة ومتعدِّدة من ثقافة شخوصه وتطلُّعاتها وفلسفتها الآيدلوجية تُجاه الآخر.

وخلاصة قولنا التنويري في مُدوَّنة (شَارعُ بَاتا) هذه الرواية الجديدة في إيقاعها الأسلوبي ونظامها الفنِّي السردي لم تعد لِتقولَ لقارئها هذه هي الحكاية المركزية، ولم تجرؤ التلويح بالتنبيه أو الإيحاء بأنَّها وحدة الحدث، بل تقول إنَّها فكرة لأكثر من حكايةٍ واحدةٍ من مجموع حكاياتها. أي أنَّها واحدة من الحكايات المتناسلة عن فعل شخوصها وفعليَّاتها الحدثية. فهذه هي رسالة زَيد السرديَّة لقارئه.

عَتباتُ النَّصِّ الروائيِّ السَّرديَّة:

لا شكَّ أنَّ أولى عتبات النصِّ الموازي الرئيسة هي عتبة (العنوانُ الكُليَّةُ) التي تُعدُّ نقطة التحوُّل التعريفي المُهمَّة، ومفتاح الدخول الضوئي إلى إقفال النصِّ ومغاليقه البنائية المُحكَمَةِ الانْسدادِ. والَّذي من خلال هذا المفتاح يُمهَّدُ الطريقُ لِبابِ وحِفريَّاتِ النَّصِّ الموازي وإلى لُقاه الأثرية، فتُفتَحُ دَرْفِتِاهُ الدخوليَّة على مصراعيها الواسعين. ويُسمحُ في الوقت ذاته لعتبات النصِّ وشبابيكه الفرعية معرفة فعل التهوية السردي الذي يُغذِّي مُكوَّنات العمل الروائي، ويَملأ رِئتَهُ بِسردٍ النقاء الطبيعيٍّ.

فهذه المقدِّمة التمهيديَّة المُيسَّرة تقودنا بشكل مباشر إلى أنَّ (شَارعَ بَاتا) هو العنوان الرئيس لهذه الرواية، والذي ظهرت لافتته الضوئية على صورة ولوحة الغلاف الأولى التي تُمثِّل واجهةَأَيقونتهِ المكانيَّة المُتفرِّدة، وعلامته السِّيميائية البارزة، ومَعْلَمَاً من معالم مدينة السَّماوة التجارية التي هي مدينة الكاتب الرائي زيد الشَّهيد ومَنبَتُ عَيشِهِ الوجودي الضافي على نهر الفرات شريان الحياة الذي يروي صحراء هذه المدينة، ويتوسَّد وسادتها الرُّوحية الهانئة التي تغفو عليها بأحلامها اللَّيلية.

لم يأتِ اختيار زيد الشَّهيد لـ (شَارع بَاتا) عنواناً لافتاً ومُميَّزاً لروايته من فراغ عابر على المدى الزمكاني، بل إنَّ علامة (باتا) هي الماركة العالميَّة لشركة الأحذية الإنكليزية ذات الأصول التشيكية والتي مقرها الرئيس بِمدينة (لُوزان) السويسريَّة، والمعروف عنها تاريخياً بتصنيع وتوزيع جميع أنواع الأحذية ولوازمها الأخرى عبرَ تَعدُّد فروعها التجاريَّة المنتشرة في المَعمورة من دول العالم.

إنَّ هذه التسمية تستند إلى الدلالة الأيقونيَّة التعريفية التي تُثير لدى القرَّاء والمتلقِّين صوراً ذهنيةً تأمليَّةً عن طبيعة جماليَّات المكان السردي وتكويناته. والتي هي في الحقيقة ترتبط ارتباطاً مباشراً بموضوعات الرواية وشخوصها وأحداثها الوقائعية. هذا من جهةٍ، ومن جهة أخرى فإنَّ للعنوان موحياته الدلالية المتعدِّدة، منها الارتباط الروحي بالذاكرة الجمعية المشتركة للقُرَّاءالَّذين لهم معرفة زمنية مُسبقةٌ بـ (شركة بَاتا)للأحذية التي لها تاريخ وحضور طويل على المستوى العالمي والدَّولي.

وأنَّ هذا التاريخ يشي بارتباط صلتها الروحيَّة الوثيقة بذاكرة القُرَّاء وشخصيَّات الرواية ورموزها الحقيقية التعدُّدية. ومنه أيضاً الدلالة الرمزية الكبيرة والمهمَّة لشارعٍ باتا الذي ترمز مكانته العالمية والمحليَّة إلى الكثير من الأشياء والمقاصد الذاتية مثل، التحوُّل والتغيِّر والسفر والهجرة والتُّرحال والاغتراب والانتقال إلى فضاءات العالم الخارجي من خلال سعة دلالة ماركته الرمزية الشهيرة.

أمَّا العَلاقة البينية الوثيقة بينَ العنوان والرواية فهي عَلاقةٌ جمعيةٌ ترابطيةٌ وتكامليَّةٌ بين واقعة موضوعات الرواية وشخصيَّاتها الفواعلية.وقد تجسَّدت عُرَى هذه العَلاقة فعليَّاً بمكانة هذا الشارع المهمَّة، (شَارعَ بَاتا) المذكور في لوحة العنوان الذي يشكِّل موقعه مكاناً مُميَّزاً وفريداً وفارقاً في عتبات الرواية؛ كونه مكاناً ودالةً بينيةً حُضوريَّةً لتجمُّع شخصيَّات الرِّواية الفاعلة، والتي هي في الحقيقة ذاكرة زمانية ومكانيةً سيرية توثِّقُ تاريخياً لحركة الشخصيَّات وصراعها الإنساني الطويل.

وقد حفلت عتبات رواية (شَارعُ بَاتا) وخطابها السَّردي النصِّي بالعديد من الشخصيَّات الثقافية المغيَّبة والمهمَّشة من المسكوت عنها عن قصدٍ أو غيرِ قَصدٍ، والتي كان لها حضورٌ كبيرٌ ونصيبٌ وافرٌ في هذا الشارع وهذه المدينة ذات التقاليد العشائرية المُوروثة المَتينة والضاربة بُعداً في الأثر المديني مثل، شخصية (ناطور المَكِّي، وجَوادين، وهاشم المُسافر، وفارس رشيد، وياسر، وعقيل، وهاشم عبد الكريم، وشهلاء، وحيدر، وشاهين، وفالح عواد، وليلى، ورشيدة، وأزهار، وجميل)، فضلاً عن شخصية حمزة البطل وولَدَيهِ (حارثٌ وميمونٌ). البطلُ الذي يلبس قناعه (الراوي العليم). وغيرهم من الشخصيَّات الأخرى التي أسهمت في تفعيل أحداث الرواية وصنعها تاريخيَّاً ومكانياً.

لم تقف عتبات النصِّ الروائي لدى زيد الشَّهيد عندَ هذا الحدِّ من العنونة الكبرى، بل تعدَّت إلى ما يسمَّى بعتبة التصدير التالية للعنونة، والتي افتتحها المؤلِّف الكاتب بعبارةٍ موجزةٍ وبليغةٍ للفيلسوف والمُفكِّر والأديب الرُّوحي الفرنسي (هنري برجسون)، والذي يؤكِّد مكانية العقل البشري وأهميته في حفظ شذرات من الماضي وتاريخه التنويري إذ يقول: "هُنَا وَهُناكَ في العَقلِ صَناديقٌ أمينةٌ لِحفظِ شَذراتِ المَاضِي". (شارعُ بَاتا، ص 5).

وبالتأكيد فإنَّ اختيار السارد زيد الشَّهيد لهذه العبارة الفكرية الأمينة للحفظ في ذاكرة العقول ترتبط ارتباطاً كليَّاً باختيار سردية عنونة الرواية المكانية لـ (شَارعُ بَاتا) ذي التاريخ السيميائي الدلالي والتأصيلي لماضي المدينة وحاضرها الآني والمستقبلي الذي لايُموت مهما طالته يدُ الزمن.

ومثلمَا أنَّ بناء الحضور التصديري له أهميته الفكرية والموضوعية في سرديَّات زيد الشَّهيد واشتغالاته الحكائيَّة قصةً وروايةً، فإنَّ مثل هذا الإجراء النموذجي والتطبيقي شجَّعه على القيام بخطوات أخرى أكثر نضجاً وبلاغةً وإقداماً في فنيَّة التعبير السردي وفي أسلوبيته الإبداعية والإنتاجية لهذه الرواية وغيرها من السرديات المكانية التي تمثَّلُ ارتباطه الروحي والثقافي بها.

فقد ارتأى أنْ يكون لكِّ فصلٍّ من فصول روايته السبعة عتبةً عنوانية فرعيةً صغيرةً تُماهي وتُناظر وتُحاكي متون الرواية وفصولها المُتعدِّدة في موازاتها للنصِّ. فضلاً عن أنَّ هذه العتبات الثانوية الترتيب والمهمَّة التركيب البنائي في نسج سردياته الحدثية تتَّصل بسيرته الشخصيَّة وتُلخص بقصديةٍ تامةٍ ثقافته الأدبية وإبداعه الفني شعراً ونثراً سرديَّاً. على الرغم من أنَّ حكاياتها وشخوصها وحُمولاتها الفكرية والجماليةليست بمعزلٍ عن تاريخ حياته الشخصيَّة وثقافته المعرفية.

هذه هي الغاية والمغزى الحقيقي لاستحضار هذه العنوانات الفرعيَّة ونسجها بإحكامٍ مع واقعة الحدث السردية وإن كانت جزئيةً؛ لكنَّها مهمَّة في توثيق حياة أشخاص ومدنٍ ومثاباتٍ ذات أهميةٍ في سجل وتاريخ وجوده التكويني في خريطة الإبداع الإنتاجي والثقافي كرمزٍ من رموزها العديدة.

جاء الفصل الأول من الرواية يحمل العنوان التالي: (التَّرجمةُ وبَاتا والرَّحيلُ)، وقد حرص جدَّاً زيد الشَّهيد على إسناد وتعضيد هذا العنوان بما له عَلاقةٌ أو صلةٌ بالمكانية الأولى للإنسان، وأعني بذلك المأوى أو البيت الذي يضمُّ وجوده وكيانه الشخصي وتكوينه الحياتي والروحي المُستقل.

وقد استهل زيدُ الشَّهيد مطلع هذا الفصل للحديث بمشهد ميلودرامي عن إزالة تمثال الصنم صدام، وسقوط النظام البعثي الذي حكم العراق خمسةً وثلاثين سنةً عجافاً، وعن دخول القوات الأجنبية لبغدادَ عام2003م، والذي اعتبر بعضهم دخولها تحريراً، وحسبه بعضهم تغييراً دون علم. ثم تفرغ للحديث عن شخصَّيات (شَارعُ بَاتا) المحليَّة والتي آثرت الرحيل لأُوربا بعيداً عن ديارها.

وبوعيه الثقافي وموهبته المعرفية المُكتسبة اختار الشَّهيد زيد هذه المرَّة قَولاً مَائزاً للمفكِّر والفيلسوف الفرنسي المعرفي الظاهري (غاستون باشلار)الذي يُخبر فيه متلقِّيه وقارئه عنه قائلاً: "يَنقلُنا الإحساسُ بِالهناءةِ إلَى بِدايةِ المَأوَى، مِنْ نَاحيةٍ جَسديَّةٍ فإنَّ الكَائنَ الَّذِي يَمتلكُ المَأوى يَتكوَّر وَيَتَستَّرُ، وَيَختفِي، ويَرقدُ يَتلذَّذُ، وَهوَ غَائبٌ عَنِ الأنظارِ". (شارعُ بَاتا، ص 7). وهذا يؤكِّد أنَّ فعل الترجمة وباتا والرحيل من أولويات زيد الشَّهيد الثقافيَّة السرديَّة المُمكنة في مُتبَنَّيَات خطابه.

أمَّا الفصل الثَّاني من الرواية فقد وظَّف له زيد الشَّهيد عتبةً ثلاثيةً الأبعاد، (الثقافةُ تَجسيداً.. الرفقةُ والافتراقُ..فِعلُ الترجمةِ)ِ، وهي موضوعات حيويَّة مُستمدَّةٌ أولاً من الذات وثانياً من الذات الجمعيَّة للواقع الحياتي المعيش لشخصيَّات (شارعُ بَاتا)القلقة التكوين الفكري الوجودي. وخاصَّةً الشخصيَّات والرموز التي ما زالت حَيَّةً أو باقيةً تنعم بقيد الحياة وتُمارس حياتها الثقافية والمهنية بأمنٍ وأمانٍ.

وأفصح السارد الشَّهيد في هذا الفصل الحديث عن أثر الفعل الثقافي لدى أصدقائه من المُثقَّفين والأدباء ممن كان لهم رفقةٌ وحضور واسع، وأثر كبير بالواقع الثقافي والحضاري لمدينة السماوة، وخصَّ منهم بالذكر سيرة حياة صديقه المُقرَّب فالح عواد الثقافية والعسكرية، والذي كان يلتهم الكتب الثقافية التهاماً، ثمَّ عطف الحديث عن اهتمام الكثير من أبناء المدينة بالقراءة والكتب الثقافية.

وفِي مَعرضِ حديثه السردي عن أثر الترجمة وفعلها الأسلوبي الفنِّي في حياته السيريَّة المتماهية مع شخوصه الثقافية التي تشاركه الرأي والقول والعمل والتجريب السردي للترجمة.ولأنَّ الترجمة لها مكانة كبيرة وارتباط نفسي وروحي مُهمٌّ في حياة زيد الشَّهيد العامَّة والخاصَّة من حيث تمكنه من اللُّغة الإنكَليزيَّة اللغة الثانية الأمِّ واطِّلاعه على الأدب العالمي المقارن نالت اهتمامه، إذ يقول:

"التَّرجمةُ عَلَّمتنِي أساليبَ الكِتابةِ لَدَى الكٌتَّابِ مِثلمَا تَعَّرفتُ عَلَى اللُّغةِ الِّتي يَكتبُونَ بِهَا كَوسيلةِ تَعبيرٍ.. فَمنهُم مَن يَرَى فِي الجُملةِ القَصيرةِ الخَاليةِ مِنْ حُرُوفِ التَّشبيهِ والكَثافةِ مِنْ خِلالِ التّخلِّي أوْ التَّقليلِ مِنَ الوَصفِ والإسهابِ تَفِي بِالمعنَى وَتَتَّسمُ بِالعُذوبةِ؛ وِمِنهُم مِنْ يَكتبُ بِتراكيبَ تَطولُ وَتَقصرُ تَتجَلَّى عِندَهُ اللُّغةُ مِطواعةُ وَمُستعدةُ لَلاستطالَةِ، وَمُتهيِّئةً لِلتشكُّلِ مِنْ أجلِ جُملةٍ تَختزِنُ داخلَهَا الصُّورُ وَالشَّفراتُ، وَحَسبِي أنَّ القُرَّاءَ يَتفاوتونَ فِي رُؤاهُم تُجاهَ أساليبِ الكُّتَّاب فَمِنهُم يَقفُ مَعَ الأوَّلِ عَلَى حِسابِ الثَّاني وِمنهم يَرَى الثَّاني خَيرَ مُعبِّرٍ عَنْ ذَاتِهِ...". (شَارعُ بَاتَا، ص 162).

وقد عكف زيد الشَّهيد أنْ يكون لهذا العنوان السردي له ما يوازيه من الشعر والمنثور الذي يتغنَّى بالإنسان؛ كونه القيمةَ العُليا التي تملأ فراغ الطبيعة الكونية الجامدة والمتحركة وتسدُّ وحشتها المكانية بحركته الفواعلية واندماجه الرُّوحي. فآثر الكاتب الشَّهيد أنْ يختار لتأثيث هذا الفصل إحدى قصائد الشاعر اليوناني الشهير (يانيس ريتسوس)، وهي من القصائد التي ترجمها الأديب المصري خالد رؤوف والمُفكِّر الشاعر السوري أدونيس ضمن عشرين قصيدةً من قصائد الشاعر ريتسوس ذات الأثر الشعري الذي يهتمُّ بتفاصيل ومألوف سَرَيَانِ الحياة اليومية المَعيشة.

وربَّما أراد زيد الشَّهيد من هذا الاختيار النصِّي من شعرية ريتسوس أنْ يكون تحاكياً شبيهاً بآثار شخصياته البطولية، وشبيها بذاته الشعرية التي اهتمت فعلياً بآثار الترجمة وحفظت للرفقة مكانتها الاجتماعية الوطيدة. ولعلَّ من أبرز شخصيَّات هذا الفصل التي اهتمت بأثر الفعل الثقافي الأجنبي والتراثي العربي شخصيَّة حمزة بطل الرواية التي تُقابل شخصيَّة السارد أو الراوي العليم، فضلاً عن شخصية رفيقه القديم والمقرَّب فالح عواد، وشخصيَّة زميلتهما ليلى ورشيدة الذين هم جميعاً من أبرز مُثقفي وشخصيَّات (شَارعُ بَاتا) العديدة والفاعلة أثراً وعملاً وفكراً بِمدينة السَّماوة.

ويَستمرُّ هاجس تقديم التقانات الفنيَّة بمقدِّماتٍ عنوانيةٍ لافتةِ الأثر عند الكاتب الشّهيد زيد في تدشين فصول روايته، فيأتي الفصل الثَّالث حاملاً عنوانَ (الحكاياتُ) التي تتَّصل بالواقع الشعبي المديني لشخوص رواية (شَارعُ بَاتا) السَّماوية، ويختار لهذا الفصل قصيدةً شعرية نثريةً من ديوانه الشعري الخاصّ (أشجانُ الغُرباء) كفاتحةٍ للخوض في أعماق هذه المدينة الجنوبية الضاربة شخصيَّاتها عمقاً بالتقاليد والأعراف الشعبية والتراثية المعبِّرة عن حياة الناس وثقافاتهم التأصيليَّة منذ عهود زمنية.

واهتمَّ زيد الشَّهيد في هذا الفصل بالفعل السردي للحكايات الغريبة والخُرافات الشعبية التي يسودها الجهل والفقر والفاقة التي كانت سائدةً، ثم سار في التعريف بهوية شارع باتا الضِّيقة في المدينة. والتفتَ إلى الحديث عن مِثلية أوائل القرن الحادي والعشرين، وعن المِثلية السائدة في الستينيَّات. وفصَّلَ الرائي التسريد بالحديث عن ثلاث حكايات شعبية تتصل بثقافةشَارع باتا ومروياته الشعبيَّة.

وفي أعقاب الانتهاء من فصل الحكايات المُتعدِّدة تُطالعنا فاتحة الفصل الرابع موسومةً بعنوان يجمع بين الذاتية والجمعية المشتركة، ذلك هو (صَدى الرحيلِ، وضَجرُ الشَّاعرِ) الذي يعبِّر فيه عن مدى أسفه وانكساره عن أصداء هذ الرحيل المفاجئ والشعور بضجره المُميت. وكان لأثر الترجمة الروائية فعلها الأدبي والثقافي الكبير عند الشَّهيد في تأثيث سرديَّات هذا الفصل الثقافي السِّيري.

آثرَ الشَّهيدُ في هذا الفصل الحديث عن الخبر الذي مفاده عودة صديقه جميل وزوجته من روسيا إلى السَّماوة، والإشادة بجرأته ومغامرته بالهجرة والعيش في بلادٍ غريبةٍ جداً عن ثقافة مجتمعه. وأشار بحديثه عن سردية دخول العراق للكويت عام1991م، وعن آثار الحصار الاقتصادي الظالم والذي دام (12)عاماً. ثُمَّ عَرجَ بالحديث عن قيام الانتفاضةالشعبانية في العراق ضدَّ النظام وآثارها.

وفضَّلَ زيد الشَّهيد أنْ تكون مُقدِّمة هذا الفصل قصيدةً شعريةً مختارةً لأبرز شعراء قصيدة النثر في العالم العربي للأديب والشاعر السوري المُميَّز (مُحمَّد المَاغُوط)، والتي يقول فيها هاجساً بالبوح:

أُريدُ أنْ أضمَّ إلَى صَدرِي أيَّ شَيءٍ يُعِيدُ زَهرةً بًريَّةً

أو حِذَاءً مُوحِلَاً بِحجمِ النَّسرِ

أُريدُ أنْ آكلَ وَأشرَبَ وَأمُوتَ

وَأنَامَ فِي لَحظةٍ وَاحدَةٍ

إنَّنِي مُسرِعٌ مُسرِعٌ

كَغيمةٍ أُصيبَتْ بِالجَرَبِ

كَمَوجَةٍ وَحِيدةٍ مُطارَدَةٍ فِي البَحرِ (شَارعُ بَاتا، ص 123)

وتتابع خطى العنونة عند الشَّهيد فيأتي الفصل الخامس معنوناً للحديث عن (الإرهاب.. يدُّ القتلِ.. الكراهيةٌ السوداءُ). وجاء ت مسرودات هذا الفصل مؤكدةً الحديث عن أثر الإرهاب والأيادي الخفيَّة للقتل على الهَوية. وما تولّد هناك من كراهيةٍ سوداءَ؛ نتيجة ما خلفته أفعال داعش الإرهابية.

وقد آثرَ السارد زيد الشَّهيد أنْ تكون فاتحة هذا الفصل الدامي قولاً مأثوراً للشاعر والمُفكِّر السُّوري علي أحمد سعيد المسمَّى بـ (أدونيس)مُستلة من كتابه (الكتابُ، الخِطابُ، الحِجابُ)، أراد الكاتب من هذا القول أنْ يكون تأكيداً قوياً لسرديَّات هذا الفصل وموضوعاته الطارئة على حياة شخصياته، التي لا قرار ثابت لها في أبجديات مجتمع آمن لا يؤمن بفعل الإرهاب والكراهية:

"كلُّ عَالمٍ ضَيِّقٍ اليوم، هُوَ عَالَمٌ ثَانويٌّ، كُلُّ ثَانويٍّ هَامِشٌ لَا شَأنَّ لَهُ، وَلَا فِعلَ، لَا حَاجَةَ كِيانيَّةً لَهُ مُهدَّدُ بِالانقِرَاضِ". (شَارعُ بَاتا، ص 169).هكذا يرى الشَّهيد زيد هذا العالم الوجودي الضيِّق منبوذاً لا حاجة لوجوده أبداً؛ كونه عالما مُنقرضاً زائلاً بزوال فعله ومحو أثره في خريطة الحياة الحيَّة.

أمَّا مُفتتح الفصل السادس فقد جاء تحتَ مُسمّىً عنوانيٍّ ثنائيِّ التركيب مثير هو (الارتماءُ في العَبثِ..الهُجرةُ المُرَّةُ). وتحدَّثَ فيه الكاتب عن ظاهرة العبث والارتماء في أحضانه القاتلة، وفضَّلَ أيضاً الحديث عن أثر الهُجرة المريرة والتمرُّد والعَبث في أوربا إثر سقوط المفكِّرين بلا جدوى.

وقد اتَّشحت مقدِّمة صفحة هذا الفصل بمشهدٍ سَرديٍّ وارتحاليٍّ عن شخصية (بيدرو بارامو) التي تعدُّ من أشهر روايات الأدب المَكسيكي الأجنبي في القرن العشرين لمؤلِّفها الأديب والرِّوائي الممكسيكي (خوان رولفو)، رولفو الأديب المعروف بواقعيته السِّحرية، والَّذي عُرِفَ عنه أيضاً بتشابه مسيرته الإبداعية بخطِّ مسيرته الحياتية العملية الواثبة.

ويمضي تواتر العنونة الفصليَّة حثيثاً حتَّى يقف عند خاتمتها أو فصلها السابع والأخير الذي فضَّلَ زيد الشهيد أنْ يكون بناء عتبته النصيَّة ثلاثية الثيمات (المَرآةُ.. الرحيلُ.. التشبُّثُ). فالمَرْآةُ هيَ الأداة الضوئية الكاشفة والفاصحة عن حياة أبطال شارع باتا الدفينة والمجهولة، وأمَّا الرحيل فهو الحُلُمُ المنشود لهذه الشخصياَّت الثائرة والحالمة بالرحيل والارتحال والهجرة والاغتراب والابتعاد الاضطراري عن أثر المخاطر المُحدقة بمدينة السَّماوة وبمكانية (باتا) شارعها العتيد.

وفكرة التشبُّث، هي إصرار بطل الرواية حمزة وراويها العليم زيد الشَّهيد على البقاء بهذه المدينة مركز الرفض والاحتجاج التحرُّري والمجابهة. المدينة التي صنعت منه بطلاً حقيقياً مبدعاً على الرغم من أنَّ فكرة الإغواء بالرحيل والتلويح بالهجرة أسوةً برفاق الدرب من روَّاد ومثقفي شارع باتا السَّماوي الراغبين بتحقيق حياة أبهى وأحسن وأفضل من حياتهم الحالية بهذه المثابة.

وفي ضوء هذا الرحيل والهجرة خصَّ زيد الشَّهيد في طيَّات هذا الفصل الحديث الخاص عن خبر وصول صديقه جَوادين إلى ألمانيا وإقامته فيها. ثم تحوَّل الحديث عن الحياة بشارع باتا السَّماوي الذي ضاقت به سبل العيش، وخَلَّفهُ الحديث عن الرؤية البصرية في المرآة والتشبُّث بعدم الرحيل.

وقد رأى الكاتب زيد الشَّهيد أنْ تكون مُقدِّمة الفصل الأخير الذي هو خاتمة الرِّواية عن الحُلُم الذي يثير في نفوسنا الإغواء بالشيء الجميل. ومثلما اختار الكاتب مُقدِّمةَ (غَاستون باشلار) التي أثَّث بها الفصل الأوَّل عَمدَ إلى أنْ تكونَ مُقدِّمَةَ فصله الأخير حُلُميَّةً إغوائيةً محبَّبةً لذاتِ الكاتب والفيلسوف الفرنسي الشهير التي يقول فيها: "إنَّ عالمَ الحُلُمِ يُومِئ لَنَا بِالإغِوَاءِ". (شَارعُ بَاتا، ص229).

إنَّ هذا الإغواء الذي يشي به الحُلُمُ ويُومِئُ به هو شيء رغائبي لا بُدَّ منه لكلِّ إنسانٍ يَحلمُ بأنْ يكون إنساناً حُرَّاً لنفسه لا ذليلاً أو عبداً لغيره؛ لأنَّ الحُريَّة تؤخذ بالدم والكفاح والمواجهة ولا تُوهَبُ أو تُعطى مجاناً، هذه هي أبواب الحصول على الحريَّة الحمراء مُضرجة بالدماء لا بالسَّلمِ.

إنَّ التخطيط المعماري لأقانيم هذه العتبات السبع الداخلية بهذه الشاكلة التنظيمية والإجرائية أمرٌ في غاية الأهمية الفكرية والموضوعيَّة في الإمساك بأحداث الرواية مرتبةً ترتيباً حداثوياً يُمَكِّنُ الكاتب الرائي من السيطرة والتحكُّم بتقاناته الموضوعية والفنيَّة مَتى ما يشاء المنتج السارد.

وأعني بذلك التحكُّم، حُريَّةَ الكاتب الأسلوبية في فنيَّة التعبير، وميله المنضبط في توظيف تقنيتي (الاستقدام والاسترجاع) السرديتين اللَّتينِ تُحفِّزانِ القارئ على معرفة أحداث الرواية بظمأٍ واشتياقٍ كبيرين وفق هذا الترتيب اللُّغوي السردي الواثب الخُطى، والدال على تَمَكُّن الكاتب الشَّهيد من أدواته التعبيرية في فنيَّة الخطاب السردي الذي له عناصره واشتراطاته وآلياته التعبيرية الخاصَّة.

أبنيةُ المَكانِ السَّرديَّةُ للروايَةِ:

من يتطلَّع بتأمُّلٍ وتدبُّرٍ فاحصين إلى لافتة عنوان الرِّواية الكلي (شَارعُ بَاتا)، حتماً سَيَستَقْرِئُ ويفهم أنّه يشكِّلُ الشاخص المكاني المحلِّي الأول أو نقطة البداية التي انطلقت منه شرارة أحداث الرواية المكانية المتشابكة، وانعطفت منها الأحداث في تأثيث أبنيتها السردية المتواصلة، وأقامت عليها أسس مثاباتها الوجودية وحضورها المَحلي والدَّولي والعالمي حتَّى نهاية أحداث الرواية.

فشارع باتا يُعدُّ مَعلَمَاً أيقونياً تجاريَّاً لافتاً، وكان إيذاناً تواصلياً لشوارع محليَّةٍ داخليَّةٍ أخرى في مدينة نابضة بالحياة كالسَّماوة مثل (شارع العيادات، وشارع السوق، وشارع الجسر، وشارع المُتنزه)، فضلاً عن شارعي الرشيد والجمهورية في بغدادَ. ويتبعها من المُدن المحليَّة العراقيَّة تحديد وظيفة الأماكن لهذه المدن كقوَّةٍ فاعلةٍ في تطوُّر الحدث السردي وبناء شخصيَّاته الفاعلة.

تلك المدن التي كان لها حضورها الروحي البارز وارتباطها المكاني الحقيقي الضارب بالعمق مع جذور وتاريخ شخصيات هذه الرواية وسير حركتها الانتقالية الدراميَّة المتواثبة السريعة، مدنٌ مثل، (السماوة وبغداد والبصرة والديوانية وشمال العراق والمنطقة الغربية)، وغيرها من مدن العراق التي تتَّصل بسرديات الحدث وتكون جزءاً من مثاباتها البنائية في متن الخطاب الروائي:

"شَارعُ بَاتَا اِسمٌ أو مَكانٌ لَا يُمكنُ لِأحدٍ تَجاوزهُ. إنَّهُ قَلبُ المَدينةِ. شَارعٌ مِضيافٌ دَائمٌ؛ يَفرِدُ ذَراعيهِ اِستقبالَاً لِلزائرينَ. هُوَ ذَاكرةٌ مُنفتحةٌ كَبحرٍ يُريكَ فَضَاءَهُ ويَدعُوكَ لِلإبحارِ. حِفرةٌ لآلئ كُلَّمَا أخذتَ مِنهَا وَحَمَّلتَ كَبُرتْ. هُوَ أيضَاً صَديقٌ يَبتسِمُ لَكَ عَلَى الدَوامِ. يَمُدُّ كَفَّهُ لِمصافحتِكَ فَيَأخذُ بِكَ إلَى حَيثُ دُرُوبِ الإِمتَاعِ. يَتجوَّلُ بِكَ دُونَ أنْ تَتِيهَ. يَأخذُكَ فِي فُرجَةٍ عَلَى السُّوقِ المُسَقَّفِ فَيَجعلُكَ تَدخُلُ عَالَمَاً مِنَ البَهرجَةِ كَأنَّكَ فِي اِحتفاليَّةٍ كَرنفاليَّةٍ لِبضاعةٍ وَنَاسٍ، لِظلٍّ وَضَوءٍ وَحَركاتٍ". (شارع بات، ص 47). فالنصُّ المكاني يكشف عن نفسه ويُعرِّفُ عما يتَّصل به من حياةٍ وأثر.

ومع تنامي أحداث الرواية الحثيث وتصاعد وتيرتها السرديَّة السريعة نحو الهرم السردي، وتزايد أصوات شخوصها وكثرة تعددها الحركي، تتَّسع ميدانياً رقعة المِساحة المكانية وتتضاعف أُس مثاباتها التأصيليَّة تأسيساً وتأثيثاً وحضوراً لافتاً مع حركة إيقاعها السردي البنائي السريع.

فتبدأ بوصلة الحدث السرد المحليَّة والدوليَّة والعالميَّة المكانية في الرواية مؤشراتها البينية أفقياً وعمودياً، وتتَّجه شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. وإنْ كانت مؤشِّرات هذا التحوُّل والانتقال السردي الكبير افتراضيةً وليست واقعيةً على سبيل التوصيف المكاني الذي يُعطي للبنيَة السرديَّة المكانية قوَّتها التفرديَّة الظاهرة، ويهبها مِساحةً تعبيريَّةً من الجمالية وأُفقاً بعيداً من التعبير الفنِّي الإنتاجي.

وعلى وفق ذلك التراسل السردي الحقيقي والافتراضي المخيالي المفتعل تظهر سرديَّاً على خريطة رواية (شِارعُ بَاتا) بلدان عربية وأوربية تتناسل فكريَّاً وموضوعيَّاً مثل، (ليبيا وتونس والكويت وألمانيا وأمريكا والدنمارك وروسيا وهنكَاريا وفرنسا والنمسا وتركيا وإيران)، فضلاً عن المهجر الشمالي والجنوبي الأمريكي ونحوهما من الدول الأوربيَّة التي شكَّلت من الأهمية مَحطَّ أنظار أبطال شخصيات الرواية وحلمهالتحقيق إرادتها الذاتية من أجل العيش بكرامة وعزةٍ وسلامٍ:

"الرَّحيلُ... الرَّحيلُ! عَادتْ بِي الذَّاكرةُ إلَى رَحيلِ هَاشمٍ فِي بِدايةِ السَّبعينيَّاتِ. عَادتْ رسائلُهُ المُتواصلَةُ تُخبرُنِي بِوجودِهِ مُستقرَّاً بَعدَ اِجتيازِ عَقباتٍ وَتجاوزِ مُعوَّقاتٍ. يُعلمُنِي أنَّه آثرَ العَيشَ فِي وَسطِ سَلٍام، وَأمنٍ، وَحُريَّةٍ. تَذكَّرتُ تِلكَ الأيامَ قَبلَ مَا يَربُو عَلَى الأربعينَ عَاماً...أيامَ كَانتْ حُمَّى السَفرِ شَمَالاً تَتَعَالَى فِي المَدينةِ، وَسَريانُ عُشبةِ حُبٍّ تَركَ البِلادَ وَالبَحثَ عَنْ مُستقبلٍ أجملَ تَسرِي فَي قُلُوبِ الشَّباب. وَكَانتْ وَسائلُ الاِنفضاضِ وَالرَّحيلِ تَتَّخذُ المَناحِي، وصُولاً إلَى الخَلاصِ كَمَا يُجاهرونَ". (شَارعُ بَاتا، ص221).والعيش الآمن الذي يُنبِئ به نصُّ الكاتب إشارةَالرحيل لبلدان أوربا الغربية، أو البلدان الاشتراكية التي يُفضِّلُها من انضم من الشباب إلى صفوف الحزب الشيوعي.

وقد رأى الكاتب المُتوهُّج زيد الشَّهيد أنْ يكون وقع هذا التمثيل المكاني الخارجي تمثيلاً حقيقياً تأصيلياً نابعاً من إيمانه وحريَّة وثقافة شخصيَّات الرواية التحرُّرية التي ترى في الهجرة إلى العالم الأُوربي الغربي عالماً آخرَ مُختلفاً عن ثقافة وتقاليد شعبها ونظام وجودها الشرقي.

ويشكِّل الحضور المكاني نقطة تحوُّل مهمَّةٍ وفارقةٍ في تكامل هُويتِها وتاريخها الحضاري والثقافي والعلمي المستقبلي الواعد. على الرغم من أنَّ توظيف بعض هذه الأمكنة والمثابات الكونية الخارجية في بنائه السردي المتراتب قد يكون افتراضياً تخيُّليَّاً معنوياً تعضيديَّاً عن أثر الواقع الحياتي المحيط، وإسناديَّاً من أجل استكمال عناصر السرد الداخلية للرواية وإتمامها كليٍّاً.

"فِيمَا فَضَّلَ بَعضٌ الرَّحيلَ إلَى بُلدانِ أوربَا الغَربيَةِ بَعدَ الحُصولِ عَلَى تَأشيرةِ دُخولٍ أوْ دَعوةٍ تُوجهُهَا إليهِ مُؤسسةُ ثُقافيَّةٌ أوْ عِلميَّةٌ فَيختارُ فَرنسَا أوْ بِريطانيَا. وَمَنْ يَجدُ لِديهِ الحَظَّ الأوفرَ فَسيدخُلُ ألمانيَا. لِذَا صِرنَا مَعَ تَوالِي الأيامِ نَسمعُ بِسفرِ مَنْ كَانَ يَسبقُنَا بِمرحلتينِ دِراسيتينِ أوْ أكثرَ، وَقدْ بَلغَ العِشرينَ مِنَ العُمرِ إلَى تِلكَ البُلدانِ سَفَرَاً لَا عَودةَ مِنهُ...". (شَارعُ بَاتا، ص 222).

إنَّ جنوح الكاتب الرائي الشَّهيد وميله الكبير إلى ثقافة سرد الاغتراب المكاني الخارجي وإيلائه الأهمية الكبيرة لم يكن في حقيقته الحكائية التسريدية أمراًعرضياً طارئاً لا أساس له، وإنَّما هو جزء لا يتجزَّأ من السيرة الذاتية والأدبية لشخصيَّات روايته وحياة أبطالها المحوريَّة التي تسعى لتحقيق أحلامها وآمالها وتطلُّعاتها الذاتية والجمعية المشتركة على المستوى الإنساني الاجتماعي والثقافي المهني والعلمي الذي هو حقٌّ ومطلبٌ من حقوقها المَنشودة، ومسعى شخصي وجمعي من مساعي إرادتها الحياتيَّة؛نتيجةَ يقظة رغبتها الفكريَّة ووعيها الثوري الحُرِّ ونمو ثقافتها الشخصيَّة المُكتسبة.

ويتناهى إلى ظنِّي كثيراً أنَّ مغزى هذا الاستحضار المكاني وتحديد وظيفة الأمكنة بوصفها قوةً مؤثرةً وفاعلةً في تطوُّر الحدث السردي، وبناء الشخصيَّة، والاستقدام الدؤوب للمثابات الدَّوليَّة لأصوات الرواية المُتعدِّدة، وخاصَّةً المُثقَّفة منها والواعية الطامحة لتحقيق مقاصدها الاحتجاجية والآيدلوجية هو في الحقيقة البعيدة والقريبة مِهمازٌ تَعبيريٌّ سرديٌّ صادقٌ، وتلويحٌ إيجابي نسقي وأسلوبي ظاهر في مركزية توهُّج اشتغالات زيد الشَّهيد لمتواليته السرديَّة في مدوَّنته (شَارعُ بَاتا).

وكلُّ ذلك يحدث إجرائياً للتعبير عن قناع شخصيته الأدبية ورمزيته الثقافية وهُويته السيريَّة التي تظهر دلالاتها ومعانيها السرديَّة الصادقة واضحة في جماليَّات خطابه التعبيري وفي بروز وارتفاع صوت الأنا السرديَّة للكاتب السارد عالياً، والتي هي صوت ولغة البطل الراوي العليم المترائية ظلال صورته الحقيقية لك واقعيَّاً، والتي لا يمكن أنْ تشكَّ بها، ولو لِلَحظةٍ واحدةٍ في مناطق اشتغالات تسريده المكاني بهذا الظلِّ الأسلوبي الشخصي البوفوني للكاتب نفسِهِ.

وقطعاً أنَّ مثل هذا التماهي والتحاكي فيما بين لُغة الرواية وهِجسِ الكاتب السارد أو الراوي العليم دليل على التشابه السيري والثقافي النسقي الظاهر والمضمر لكلا الصوتين المُتوحُّدين سياقيَّاً وفنيَّاً وسيريَّاً. وهذا لا يُضعف من هيبة السرد الحكائي وقوته التعبيرية، أو يُقلِّلُ من وقع قيمته النوعية والفنيَّة، بل على العكس من ذلك سيَهبهُ صفاتٍ من الجِدَّة والحداثة والارتقاء الفنِّي؛ كونه تعبيراً أخلاقياً وروحيَّاً وإنسانياً صادقاً عن مجريات تفاعل واقعة الحدث السردية، وعن مظاهر تمثُّلاتها ومدخلاتها الفكريَّة الضافية على فضاء الواقع الأرضي الكبير، فَلنُصغِيَ لِصوتِ الرَّحيلِ:

"تَعالَ يَا عَمُ حَمزةُ.. هَاجِرْ وَالتِحقْ بِنَا.. تِرَيَحْ.. تَعالَ، يُردِّدُهَا جَوادينُ، وَمعَهُ هَاشمٌ يَّهزُّ رَأسَهُ تَوافقَاً، وًيًكملُ، أَنتَ آخرُ مَنْ بَقِيَ مِنْ رَعيلِ شَارعِ بَاتَا الَّذينَ فَكَّروا بِالرحيلِ، وَرَحَلُوا". (شَارعُ بَاتا، ص 237).والنصُّ السردي يكشف عن تشبُّث الكاتب بالبقاء في مدينته وعدم تركها رغم المطالبة بذلك.

إنَّ شخصيَّاتٍ روائيةً بالغةَ الأثرِ احتلَّت مِساحاتٍ مَكانيةً من فضاء الرواية وخطابها السردي، وتبوأت نوافذ ثقافيةً قصصيَّة مُهمَّةً من مناطق اشتغالاتها المكانية على سبيل الحصر، شخصيَّات مثل، (هَاشم المُسافر وجَوادين وحمزة وفارس رشيد وغيرهم)، ما هي إلَّا أنساق ثقافية مُتجليَّةً وخفيَّة، ومصادر حكائية عديدة تمثَّل نسخةً طبقَ الأصل مُعدَّةً عن وعي وثقافة ومَلَكَةِ زيد الشَّهيد المعرفية وتدويناته التوثيقية التي تشي بصدقٍ وتؤكِّد بتجلٍّ زمكاني عن شروع مشروعه الثقافي الفكري والروائي السردي وتوثيقه التاريخي لمذكراته السيريَّة وهُويته الأدبية والثقافية المُتعدِّدة.

وكلُّ ما يتَّصل بها من رموزٍ وأصواتٍ ثقافيةٍ حُرَّة لها الأثر الكبير في قرار صناعة الحدث السردي وتخليقه الإنتاجي على مدى عُقودٍ طويلةٍ من تعاقب الزمن . وقد أسهمت وَسَتُسهِمُ إبداعيَّاً وفنيَّاً في بناء مُستقبله الإبداعي والفكري كاتباً مُتألِّقاً وإنساناً واعداً بما هو أصيلٌ وجميلٌ في فُنون وميادين الشعر والسرد والترجمة والتدوين والإبداع الذي يُناسب رؤى وأفكار عصرنة الحداثة وتَطلُّعات ما بعد حداثة التفكير؛ لكسر وتحطيم جُدُرِ قِيم المألوف الثقافي والأدبي من الأفكار المُستهلكة والأطر الثقافية الصنميَّة التالفة التي أكلَ الدهر عليها وَشَرِبَ من غبار الزمن مكانياً.

وأنَّ نتائج قيام هذا المشروع الثقافي المُستقبلي لا يمكن أنْ تحدثَ وتظهر نتائجه الأوليَّة شاخصةً على أرض الواقع تنظيراً فحسب، بل ما لم يكن أثره فِعلاً حدثياً إجرائياً وتطبيقياً بأنساقٍ ثقافيةٍ بديلةٍ تقوم مقام تلك النَّمطيَّات المؤسساتية التقليدية الصارمة وتتجاوزها مكانياً على مستوى الإبداع والتفكير الثقافي والإنساني المُتجدِّد الحُرِّ. وأنْ تمنحَ العقل والفكر مِساحةً ثرَّةً من حرية التعبير.

تأصيلُ بِنيةِ الخِطابِ السَّرديِّ لِلمدوَّنَةِ:

السُّؤال القائم الذي بحاجة إلى إجابةٍ نقديةٍ وافيةٍ مُنصفةٍ، كيفَ تَمَّ تَأصيلُ بنية الخطاب في الروايةِ؟ الكتابُ الذي نحن بصدد تحليل وتفكيك عناصره الأوليَّة وأجزائه الأساسيَّة المُهمَّة التي تشكِّل بنية النصوص السرديَّة الكُليَّة للخطاب في المُدوَّنة، هو مُدوَّنة (شَارعُ بَاتا) الروائية لِمؤلِّفها الهُمامِ الجَادِ، وكاتبها الشاعر والقاصِّ والرِّوائي والمُترجم المتنوُّع الإبداع زيد الشَّهيد. والصادرة بطبعتها الأولى عام 2017م عن دار أمل الجديدة للطباعة والنشر والتوزيع في دمشق بسوريا، وبِكَمٍّ عددي طباعي من فئة القطع المتوسِّط الذي بلغ نحو (238) صفحةً اكتملت بها صفحات الرواية وتوثَّقت.

وعلى وفق ذلك الكم النوعي والعددي المُتَّحد تُوحي عتبته العنوانية الكليَّة الأولى (شَارعُ بَاتا) بأنَّنا أمام نصٍّ روائيٍّ طويل التسريد يتحدَّث من خلال متواليته الحكائية المكوَّنة من سبعة فصولٍ قصصية وحكائيَّة فاعلة مع عتباتها الثانوية وتصديراتها المفتاحية عن كثير من الأحداث الخَطيَّة التي توالت وقائعها الحدثية في الزمن القريب الماضي أو الفائت. واستمرَّت خطى آثارها الواقعية إلى الزمن الحالي أو الحاضر.

وربَّما يعيش بعض أبطال قصصها وحكاياتها الآنَ وقع حلاوة فعلها الحدثي الإيجابي، ويتذكَّر بمرارة أبعاد أثرها الذهني والنفسي السلبي على حياته وكفاحه الروحي الذاتي وشعوره بالحزن والندم والأسى الشديد، على الر غم من أن المستقبل الزمكاني كفيلٌ بنسيان ذلك الأثر العصيب وقادر في الوقت ذاته على إخفاء أثر الأحداث والذكريات المُحزنة الأليمة وتلاشيها أثراً بعد أثرٍ .

ومن اللَّوافت السرديَّة لهذا العمل الأدبي أنَّ زيداً الشَّهيد في روايته (شارعُ بَاتا) لا يقوم خطابه السردي على حكايةٍ مركزيةٍ واحدةِ -كما مرَّ بنا التنبيه إليه سلفاً في دارستنا- تخصُّ ثيمة الشارع المذكور ونواة موضوعيته البؤرية السيمائيَّة الرمزيَّة، وإنَّما تقوم على عدة حكاياتٍ إخباريةٍ مَنطقيَّةٍ مُتسلسلةٍ الأحداث في مشاهد ميلودراميتها الحركية المتصاعدة الأثر.

ويبدو أنَّ الرائيَ الشَّهيدَ بوصفه قارئاً نقديَّاً ذكيَّاً واعياً ولمَّاحاً بارعاً قد أفاد كثيراً من الملاحظة النقدية اللَّافتة التي توصَّل إليها الناقد الفرنسي جيرار جينيت في صفحات كتابه النقدي (عودةٌ إلى خطابِ الحكايةِ) التي يروي فيها من أنَّ الحكاية بالأساس لا تقوم على خطاب واحدٍ، وإنَّما تقوم على عدة خطاباتٍ. (جيرار جينيت، عودة إلى خطاب الحكاية، ترجمة وتقديم: محمَّد المعتصم ، المركز الثقافي، بيروت، 2000م، ص 9).

وفي الوقت ذاته إنَّ الخطاب السردي بدوره يقتضي عند جينيت وجود تمثُّلات حضورية للأحداث والأفعال في حين أن مُصطلح (الوصف) يُشير إلى أنه تمثُّلات وصفيَّة للأشياء والشخصيَّات الناتجة عن فعل الوصف. وهذا يشي من حيث تلقي الأمر أو القيام بالعمل، إلى أنَّ الوصف عنده يكون دائماً رهن إشارة السرد وتحت حكم أمره. أي متى ما طلبَ السرد أمراً لبَّى الوصف فعله الطلبي وامتثل بحسن الطاعة والقبول لأمره. أي أنَّ الفعل السردي يأتي أولاً والوصف في المحل الثاني؛ لأنَّ الوصف إمَّا أنّ تكون وظيفته تزينية جمالية، وإما أنْ تكونَ رمزيةً توضُّحُ نفسيةَ شخصياته:

"اِتَّخذنَا الطَّريقَ خَارجينَ مِنْ شَارعِ بَاتَا بِاتجاه ِشَارعِ الجِسرِ، ثُمَّ اِنعطفنَا شَمالاً فَجلسنَا عِندَ أولِ مُقهَى تَتوزَّعُ كَراسيهَا عَلَى الرَّصيفِ المُحاذِي لِلنهرِ. تَأتينَا رَائحةُ دُخانِ النَّراجيلِ (إنَّها النِّعمةُ الأُولَى الَّتي حَلَت فِي المَدينةِ بَعدَ سُقوطِ النِظامِ)، وَتَشيعُ فِي الفَضاءِ رَائحةٌ مُلازمةٌ (هِيَ رَائحةُ الحَشيةِ الَّتي ظَهَرَتْ إلى العَلَنِ بَعدَ أنْ كَانَ حُكمِ اِستخدامِهَا وَالمُتاجرةِ بِهَا الإعدامَ دُونَ رَحمةٍ؛ ظَهَرتْ بَديلاً عَنْ خُمُورٍ كَانتْ شَائعةً لَا اِعتراضَ عَليها مُنِعَتْ بِفتَاوى الأحزابِ..". (شَارعُ بَاتا، ص 62).

وإذا ما أردنا في هذا المقام النقدي التحليلي والتفكيكي من سَمت هذه الدراسة أنْ ندرسَ نظريَّاً وإجرائيَّاً بنية الخطاب السردي لمُدوَّنة (شَارعُ بَاتا) التي تشكِّل بِرُمَّتِهَا بنية النصوص السرديَّة في هذه الرواية التوثيقية المُهمَّة، لا بُدَّ وأنْ نفهمَ وَنُدركَ جيَّداً في هذا السياق من المبنى المعرفي ما معنى مفهوم التأصيل السردي؟ وما جدواه إبداعياُ؟

والتأصيل، هو بالتأكيد يعني البحث والتقصِّي اللُّغوي المعرفي بتأنٍ مُتَّئِدٍ عن الجذور الأولى أو الأصول الأساسيَّة المُهمَّة التي بها تتشكَّل بنية الخطاب السردي للعمل الروائي وتكتمل موضوعيَّاً وجماليَّاً0ومن ثمَّ تحليل العناصر المُهمَّة والأدوات الرئيسة التي تُسهم فعليَّاً في إنتاج تشكيله وتوجيه مساراته وخطوطه الأفقية والعموديَّة الفنيَّة وتقاناته السرديَّة الصحيحة.

وفي ضوء ما تقدَّم من تحليل، لقد نجحَ زيد الشَّهيد في تحويل عتبة (شَارعُ بَاتا) إلى بنيةٍ سرديَّةٍ فاعلةٍ ومتكاملةٍ داخل العمل الأدبي، وبالضبط كتلكَ البنية السردية التي يُعرِّفُهَا اللِّساني مؤسس السيميائيَّات البنوية جوليان جريماس في كتابه (سِيميائيَّات السَّردِ)، والتي يرى بأنها "شبكة من العَلائق المُحاثة للتمظهر، تُصبحُ الفضاء الوحيد الذي يتحدَّد داخله التفكير حول شرط انبثاق الدلالة". (أ.ج جريماس، سيميائيَّات السرد، ترجمة وتقديم: عبد الحميد نوسي، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء، 2018م، ص 38).

عَناصرُ بِنيةِ الخِطابِ السَّرديِّ:

ويترتَّب على مفهوم ذلك الإجراء، أنَّ بنية الخطاب السردي للمُدوَّنة الروائية تشتمل على مجموعةٍ من العناصر الأساسيَّة التي تكوُّنها فنيَّةُ السرد التعبيري، والتي من أهمها معرفة ما يأتي من العناصر الأربعة المهمَّة التي تُسهم في صنع بنية الحدث وإنتاجه فنيَّاً. وتتمثَّل هذه العناصر بـ (الخطُّ الزمني، والشَّخصيَّاتُ، والحِبكةُ، والوصفُ)، وما يتَّصل بها من مُلحقاتٍ حقليّةٍ دلالية مُهمَّة:

1-الخطُّ الزمني.

يُعدُّ الخطُّ الزمني من أوَّل العناصر الأساسيَّة التي تنتجها بنية الخطاب السردي الموضوعية في رواية (شَارعُ بَاتَا)، والذي يُقصدُ منه الوقوف عند التسلسل الزمكاني لأحداث الرواية؛ وذلك من خلال متوالياته القصصية والحكائيَّة المتنامية. وقد عكف وعي زيد الشَّهيد على الاهتمام بالمفارقة الزمكانية لخطِّ التسلسل الزمني لسير الأحداث؛ وذلك عبر توظيفه الإجرائي لتقنيتي (الاستباق والاسترجاع) الحَدثي الذي يتطلَّبه فعل البناء السردي الإخباري والحكائي القصصي والروائي.

وقد كانت البنية السردية الزمانية للرواية بنيةً خطيَّةً ثقافيةً تراتبيةً منذُ خطِّ الشروع الأوَّل، ولم تكن بنيةً دائريَّةً مُغلقةً، أو بنيةً تتداخل فيها الأزمنة التاريخية وتتشابك أحداثها أسلوبياً إلَّا القليل منها؛ لأنَّ مُهمَّة البنية السردية الأولى هو بناء سرد الأحداث وضبط إيقاعها التعبيري المُتعاقب للمحافظة على ميزان السرد وتأكيد توازنه التاريخي والنأي به عن الخلل أو الوهن الناشز الاهتزاز.ومن خلال أرخنة الإحالات الزمنية للنصِّ حدَّدَ المؤلِّف النابه الشَّهيد بنية الزمن النفسي عند شخصياته في أحداث روايته وكشف عن خطِّ تواترها النفسي والروحي والاجتماعي القلق:

"فِي ضُحَى يَومِ مُنتصفِ آذارَ/ مَارس 2015م حَلَّقَتْ، مِثلَ عِقابٍ أسودً بًهديرٍ طًويلٍ، طَائرةٌ حَربيةٌ فِي السَّماءِ .. دَارتْ حَولَ المَدينةِ عِدةَ دَوراتٍ قَبلَ أنْ تَتَوَارَى، مُعيدةً تِلكَ اللَّحظةَ لَدَى اللَّذينَ رَفَعُوا الرُّؤوسَ يُتابعونَهَا أيامَ الحَربِ الَّتِي أسقطتْ صَدامَاً مُنهيةً حِقبةً حَكَمَ فِيهَا البَعثيونَ خَمسَاً وثَلاثينَ سَنةً، وَتفَاوتَ النَّظرُ بِيومِ دُخولِ القُواتِ الأجنبيَّةِ بَغدادَ وإسقاطِ تِمثالِهِ المَنصوبِ فِي سَاحةِ الفِردوسِ بِذلكَ المَشهدِ المِيلودرامِي الَّذي نَقلتهُ فِضائيَّاتُ العَالمِ أجمعَ". (شِارعُ بَاتا، ص9).

2- الشَّخصيَّاتُ

وتأتي مهمَّة الشخصيات أو القوى الفواعلية الرئيسة والثانوية ودورها الحركي المناط بها في كلِّ قصة من قصص الرواية وحكاياتها التتابعية. وكانت أولى خطوات الراوي زيد الشَّهيد في هذا المقام التطبيقي للرموز والأصوات الفاعلة اختياره لنوعين مُهمَّين من أصناف الشخصيات الروائية وتحديد وظائفها، وتحديد ما هو مُرسل منها ومُرسل إليه على مستوى الإبداع النصِّي والتلقِّي.

النوع الأول هو الشخصيَّات الرئيسة المؤثِّرة في الرواية، والتي عرف عنها بأنَّها من أكثر أنواع الشخصيَّات التنويرية والمعرفية والعلمية التثويريَّة والميَّالة في طموحها الشخصي والجمعي إلى ثقافة الاحتجاج والمواجهة للآخر. ورفض َكل ما هوَ قميء له صلة قُربى بديستوبيا الفساد وظُلم الاستبداد ، ومن يؤمنُ بفوضى كبح اليوتوبيا والحُريَّات التحرُّريَّة ذات الموقف الآيدلوجي الثابت.

وقد تمثَّلت نماذج هذا الصنف من الرموز والأصوات بأسماء كثيرة مرتْ بنا في تحلينا السردي مثل شخصَّية: (حمزة وهاشم المُسافر وجَوادين وفالح عواد وفارس رشيد وهاشم عبد الكريم)، والتي أخذت حركتها الدراميَّة والتَّمثُّليَّة السرديَّة المتنامية مِساحاتٍ كبيرةً وواسعةً من سرديَّات الرواية؛ كونها شخصياتٍ تأصيليةً مهمَّةً لها حضورها وارتباطها الميداني الروحي المائز في أقبية مثابات شارع باتا ومحيطه الخارجي. وقد كشفت نصوص زيد الشَّهيد عن طبيعة الحوار ووظائفه التي يتمُّ من خلالها التعرُّف على الشخصيَّات المُتحاورة وطبيعة العلاقة الخطيَّة فيما بينها:

"سَادتْ فَترةَ السِّتينيَّاتِ مَوجةُ رَحيلٍ عَنِ البِلادِ وَشَهِدَ شَارعُ بَاتَا غِيابَ عَدَدٍ مِنْ شَبابهِ المُفعمينَ بِأملِ التَّغييرِ وَالحاَلمينِ بِالخُروجِ عَنْ رِقعةِ الشِّطرنجِ؛ اِبتدأهَا فَارسُ رشيدٍ، الشَّابُ العَاشقُ لِكُتبِ الفَلسفةِ مَدفوعَاً مِنْ عَمهِ الَّذي سَكَنَ بَغدادَ، وكَانَ مُغرمَاً بِقراءةِ الكُتُبِ المُترجمَةِ، إذْ لَا يَكادُ يَدخُلُ مَكتبةَ مَكنزِي وَيَجدُ كِتاباً جَديدَاً يِقرأُ عَليهِ اِسمَ كَانتَ أوْ دِيكارتَ؛ هِيجلَ وَماركِسَ أو نِيتشة أو هَايدجرَ، أو أرسطو أو أفلاطونَ إلَّا وسَارعَ لِشرائهِ لِيلتَهِمَ فَحواهُ اِلتهامَاُ...". (شَارعُ بَاتا، ص 19)0.

أمَّا النوع الثاني فهو الشخصيَّات الثانوية والتي يقتصر دورها الحقيقي على أنَّها تكميليةٌ مُساعدة على إتمام فِعليِّات الحدث السردي وترابطه زمكانياً مع واقعة الحدث السردي، وإنْ كان دور بعض هذه الشخصيَّات قد فَاقَ في حجم فاعليته الحركية السردية دور الشخصيَّات الرئيسة الأولى في الرواية مثل، شخصيَّة (نَاطُور المَكِّي) الذي يعدُّ من بين الشخصيَّات المحليَّة المُهمَّة والمضيئة بفعلها الحدثي المميَّز. والتي أسهمت إسهاماً مضيئاً في تَأرَخَةِ هُويَّة شخصيَّات شارع باتا وتوثيقها:

"لَقَدَ نَدِمَ نَاطورُ المَكِّي وَهوَ يُدوُّنُ وَفيَّاتَ أهالِي السَّماوةِ فِي دَفترهِ الَّذي اِمتلَأ وَتَناسَلَ إلَى دَفاترَ، نَدِمَ عَلَى تَكريسِ دَفترٍ يُدَوُّنِ فِيهِ أسماءَ مَنَ هَاجرُوا مِنْ شَارِعِ بَاتَا أوْ المَدينةِ بِرُمَّتِهَا. فَهُم لَيسُوا بِالعدَدِ القَليلِ، وَليسَ مِنَ البِّرِ تَفادِي غِيابِهُم وَعدَمِ تَأرخَتِهِ". (شَارعُ بَاتا، ص 233). هكذا وُصِفَتْ شخصيته.

ومن الشخصيَّات الثانويَّة التي أظهرت تمثيلاتها الحركيَّة دراميتَهَا على بساط الواقع السردي للرواية بحضورٍ جميلٍ مثل شخصية، (ليلى ورشيدة وشهلاء وأزهار وكاترينا وغيرها). ويلحظ أنَّ أغلبها يُعدُّ من الشخصيَّات الأنثوية التكميلية المُشاركة لإتمام وقائع الأحداث. ويمكن القول إنَّ زيداً الشَّهيد من خلال نصوصه السرديَّة لهذه الشخصيَّات قدَّم تحليلاً نفسياً وعاطفيَّاً وشعوريَّاً وجدانيَّاً عالياً لشخصياته الفاعلة. كما قدَّمتْ نصوصه السرديَّة توصيفاً تحليليَّاً للبعد الاجتماعي لشخصياته من خلال تتابع أوصافها الخارجية وحركتها الداخلية في محيطها المكاني العملي والعلمي الخاصّ:

"تَسألُنِي لَيلَى عَنْ مَشروعِي المُنشغلِ بِهِ وَتَنظَّمُ إليهَا رَشيدةٌ فِي السُّؤالِ فَأنبرِي أُحدِثهُّنَ عَنْ الشَّاعرةِ الإنكَليزيَّةِ (أدِثِ لِويسَا سِتوَل) وَرَغبتِي بَعدَمَا قَرأتُ لِعديِدِ المَرَّاتِ قَصيدتَهُ الشَّهيرةَ (مَا يَزال المطر يَهطُلُ) فٍي تًرجمتهٍ إلى العًربيَّة[...]وتَسبقُنِي بِمعلومةٍ أنَّ السَّيَّاب تَأثَّر بِهَا وَكَتَبَ رَائعتَهُ (أُنشودةُ المَطرِ) بَعدَمَا حَصَلَ عَلى مَجموعةِ سِتوَل مِنْ أُستاذهِ جَبرَا إبراهيم جَبرَا الَّذي كَانَ يُلقِي مَحاضرةً عَنِ الشِّعر الإِنكَليزِي كَمنهجٍ مُقرَّرِ فِي الجَامعةِ؛ وَكَيفَ أنَّ، السيَّابَ أدخَلَ الأُسطورةَ فِي شِعرهِ بَعدَ ذَلكَ تَأثَّر بِمَا جَاءَ فِي قَصيدةِ سِتوَل عَنِ المَسيحِ المَصلوبِ عَلَى خَشبةِ الصَّليبِ". (شَارعُ بَاتا، ص87). وتكشف ثيمة النصِّ السردي عن سعة الثقافة الأجنبية لهذه الشخصيَّات الثانوية في حوارها مع البطل واهتمامها الجم برموز الأدب العالمي والعربي الثقافية والإبداعية.

3- الحِبكةُ السَّرديَّةُ

ومن العناصر الأساسيَّة الأخرى والمُهمَّة جداً في تأثيث بنية الخطاب السردي وتدشينها في مُدوَّنة (شَارعَ بَاتا) هو عنصر الحِبكة السرديَّة المُتمثَّلة بالإطار العام للرواية، والتي تشتمل في مفهومها العام والخاص على جميع الأحداث والمواقف السردية التي تمرُّ بها حركة الشخصيات في الرواية أو القصة بدأً في أوَّلها وحتى نهاية خاتمتها بشكل تواتري متصاعد في تتابع الأحداث:

"اِنتهيتُ قَبلَ ثَلاثةِ أيامٍ مِنْ تَرجمةِ فَصلٍ كَاملٍ بَعدَمَا أكملتُ تَرجمةَ الفَصلِ الأولِ الَّذي يَدورُ حَولَ عَائلةِ أوكونُور الَّتي تَتألفُ مِنْ ثَلاثِة أنفارٍ: تُومُ، وأمُّهُ وَأختُهُ فيودورَا تَكبرُهُ بِثلاثةِ أعوامٍ. كَانَ الثَّلاثةُ يَعملونَ كَخدمٍ فِي حَانةٍ صَغيرةٍ قُربَ أحدِ مَوانِئ الجَزيرةِ. مَالكُ الحَانةِ يُدعَى سَنيور لُوبيز... وَكَما هُوَ شأنُ شَبابِ شَارعِ بَاتَا عِندَنَا فِي المَدينةِ وَتَطلعُهُم لِحياةٍ مُتغيَّرةٍ تَهبَهُم فَضاءً أوسعَ يِبنونَ مِنْ خِلالِهَا مُستقبلَهُم وَتَجعلُهُم يَعيشونَ الأملَ الَّذي رَسمُوهُ فِي مَخيلتِهُم وَعَزمُوا عَلَى تَطبيقهِ وإحالتهِ واقعَاً يَوميَّاً فَإنَّ تُومَ أوكونور فِي رِوايةِ خَاتِم الأميرِ العَبدُ هُوَ أيضَاً كَانَ يَسعَى مِنْ أجلِ التَّخلُّصِ مِنْ هَيمنةِ سَنيور لُوبيز صَاحبِ الحَانةِ...". (شَارعُ بَاتَا، ص 95).

وقد تجسَّدت الحِبكة السرديَّة لواقعة الحدث الروائية لبنية (شَارعُ بَاتا) بجملةٍ من العناصر والأدوات التكميلية التي تقوم عليها وتستمرُّ الأحداثُ موضوعياً وفنيَّاً. وقد تمثَّلت هذه العناصر بخمسةٍ محدَّدات هي: (البدايةُ والصراعُ والَتَّطوُّر والذروةُ والنهايةً الختاميةُ). وقد ارتأى الرائي زيد الشَّهيد أنْ تكون البداية الأولى لمسروداته الخبريَّة من نقطة اشتغاله المركزي (شَارعُ بَاتا).

وتتضمَّن بداية الرواية التعرُّف على الشخصيَّات والمكان والزمان، وأنَّ زمان الرواية يمتدُّ تأريخيَّاً من الحِقبَات الزمنية التي سبقت أحداثها المجتمعية والدَّولية والإقليمية عام التغيير السياسي لنظام الحكم في عصرنا الحديث وما بعده تاريخياً من تجليَّات وأحداث وتغيَّرات شكلية وجوهرية مُهمَّة.

أمَّا العنصر الثاني من عناصر الحبكة فهو (الصِّراعُ) فقد حدَّدَ الكاتبُ علاقته التواصلية التي واجهت شخصيَّاته في مسألة حُريَّة الفكر والعمل وتحقيق هُوية الذات في صراعها مع الآخر. تلك الأفكار التي جعلت من قصص الرواية أنْ تكون مُثيرةً للمتلقِّي كونهُ صراعاً بين الخير والشرِّ.

ويَعقِبُ بُنيةَ هذا الصراع الدائر بين ثنائيتي (الخير والشرِّ) عنصر (التطوُّر)، وأعني به تطوُّر حركة الأحداث السردية وتناميها وتقدُّمها بشكلٍ منطقيٍ سلسٍ فيه من الدهشة اللَّافتة والذهول النفسي والانجذاب والتشويق للقارئ والرائي.والتطوُّر الذي يسير على خطواتٍ ثابتةٍ صحيحةٍلا فكاكَ عنهُ.

ونصل بسلسلة هذا التطور إلى عنصر (الذَّروةِ)، وهي النقطة الضوئية العُليا التي وصلت فيها مسرودات (شَارعُ بَاتَا) الحكائية إلى أقصى لحظة من لحظات ودرجات التوتر النفسي والذهني الانفعالي والوجداني للمتلقِّي من لذَّة التشويق الإمتاعي الروحي لهذه الذروة الفائقة في ترغيبها وترهيبها، والتي تمثِّل المفارقة السرديَّة لتلك اللَّحظة الهاربة من هرم واقعة الحدث الموضوعيَّة.

ولا بُدَّ لهذه الذَّروة العاليَّة الجودة من نهايةٍ تُحدِّدُ الواقعة القصصيَّة للرواية التي تحلُّ فيها عقدة المشكلة الحدثية وتنتهي استمراريَّة الصِّراع بنهايةٍ توقعيَّةٍ فجائيةٍ تكسر إيقاع المألوف السردي وتهزُّ جوانبه الاعتبارية بالجدِّة والموضوعيَّة التي تُهيمن على فكر القارئ وتُمتِّع نواظره النفسيَّة.

وفي ظلِّ هذا السياق لا يمكن أن ننسى وظيفة (العُقدَة السرديَّة)التي تُعرَفُ بـ (الوحدةِ السَّرديَّةِ)التي وضع لها الناقد رولان بارت تعريفا بأنها" تتألَّف من كلِّ مقطعٍ من القصِّة يُقدِّمُ نفسه كتعبير عن تعالقٍ ما". وتُعدُّ العُقدةُ أداةً تعبيريَّةً تأزُّميَّةً من أهمِّ أدوات السرد القصصي وأكثرها تأثيراً في بنية العمل السردي وجودة خطابه من جهة، وفي عملية التلقِّي النفسي الذهني للقارئ من جهة أخرى.

ويمكن أنْ نعدها نشاطاً ذهنيَّاً وفكريَّاً ذكيَّاً عاليَّاً يُمارسه الكاتب السارد في اِتقان لُعبته السرديَّة والموضوعية مع المتلقّي من أجل تمريرها كفعلٍ سرديٍّ لا بُدَّ منه في التخليق الروائي. والعُقدة جزء لا يتجزأ من الحبكة ودورها المُساعد في دفع أحداث الرواية إلى الأمام وجعلها لُعبَةً مثيرةً في البناء السردي من أجلِ حلِّها حلُاً تدريجياً يقنع المتلقِّي من الناحية السايكولوجية والموضوعية. وقد بذل زيد الشَّهيد جُهداً كبيراً بِحلِّ عُقدَهِ السرديَّة في كلِّ مقاطع حكاياته القصصيَّة في الرواية.

وأنَّ هذه العناصر الخمسة للحبكة السرديَّة لها أهميتها العملية؛ كونها تُساعد على انجذاب القرَّاء للرواية واهتمامهم بها، وتُمكِّن من نقل رسالة الكاتب الإبداعية وإيصالهاإلى القارئ، وتحقِّق الغرض الروحي المقصود من الرواية. وأنَّ الغرض الانزياحي الذي يتوخَّاه زيد الشَّهيد منها إثارة الفكر بالمؤانسة والترفيه والإمتاع واكتساب فُنُون المعرفة العلميَّة والأدبيَّة وأصول التعليم الحديثة:

"غَادَرَ بِزمالةِ قَصدِ الحُصولِ عَلَى شَهادةِ البكلوريوسِ فِي التَّاريخِ وَاضعَاً فِي ذِهنهِ أنْ يَكونَ يَومَاً مَا مُنقِّبَاً لَا سِيَّمَا وَأُوروكُ لَا تَبعدُ عَنْ السَّماوةِ غَيرَ ثَلاثينَ مِيلاً، وَجلجامشُ يَنامُ هُناكَ.يَحلمُ أشرفُ بِهمسةٍ كُلَّمَا وَضعَ رَأسَهُ عَلَى الوِسادةِ وَتَساءَلَ مَتَى تَتَحقَّقُ أُمنيةُ اِرتقائِهِ مُنقِّبَاً يَدخلُ عَلَى شَعبِ أُوروكَ وَيَدورُ في شَوارعَ وَأزقةِ المَدينةِ. يَخرجُ إلَى بَساتينِهَا، ويُصاحِبُ الصَّيادينَ فِي زَوارقِهُم وَهيَ تَجوبُ الفُراتَ، وَتَطَأُ قَدَمُةُ سُلَّمَ الزَّقورةِ لِيرتقيَ إلَى إنليلَ وآنو وإينانا، هنا حيث سَينحنِي بِتحيةِ السُّومريينَ وَيضعُ الكّفَّ عَلَى الصَّدرِ عَلامةَ التُّقَى وَالخُضوعِ لِلآلهَةِ". (شارعُ باتا، ص 83).

4- الوَصفُ أو (التَّوصيفُ)

ونقف عند آخر عنصر من عناصر بنية الخطاب السردي المُتمثِّلة بعنصر الوصف أو التوصيف التفصيلي والواقعي لوحدتي المكان والزمان والشخصيَّات المرتبطة فاعليتها بأحداث الرواية. والوصف التسريدي التفصيلي المُيسَّر الذي أقامته أسلوبية وموهبة زيد الشَّهيد الواقعية والتخيُّليَّة في فرش مدوَّنة الرواية (شَارعُ بَاتا) ساعدت وظائفه الميدانية في الفضاء السردي لبنية الخطاب في التعرُّف على شخصيَّات الرواية من الناحية النفسية والاجتماعيَّة والثقافيَّة.فضلاً عن التعرُّف الدقيق على المثابات والأمكنة التأصيلية لمسرح وقائع أحداث الرواية وأبعادها التكوينية الأخرى، فلنقرأ في هذا السياق كيف يصف الشَّهيد السيرة الذاتية لتاريخ وهُوية (شَارعُ بَاتا) التأصيليِّة قديماً وحديثاً:

"شَارعَ بَاتَا .. سِيرَةٌ ذَاتيةٌ. الزَّحامَ وَكَثرةُ النَّاسِ، كَمَا أبصرُهَ الآنَ ظَاهرةً لًافتةً؟ وَشَارعُ بَاتَا اليومَ لَيسَ كَشارِعِ بَاتَا قَبلَ خَمسينَ عَامَاً.. فَهوَ يَمُورُ بِمَنْ جَاءَ لِيتبضَعَ فَامتَلَأ كَكُلِّ الَّذينَ اِبتدَأُوا فَقراءَ فَجاهَدُوا، حَتَّى اِغتنُوا وَتَشبَّعُوا بِالغِنَى. فَقبلَ خَمسينَ عَامَاً كَانتِ الحَوانيتُ فِي الشَّارعِ قَليلةَ العَدَدِ وِبائسةً تَترَاجعُ أمامَ عَددِ البُيوتِ أبوابُها خَشبيةٌ بِنوافذَ عَاليةً؛ والنَّاسُ مِنْ سَكنةِ الشَّارعِ لَا يَتعدُّونَ العَشَرَاتِ، والسَّماوةُ بِرُمَّتِها لَا تَتجاوزُ الآلافَ..." . (شَارعُ بَاتَا، ص 40).

ومن نوافل القول الختامية المُستحبة في مضمار هذا المجال السردي أنَّ اهتمام الكاتب بتأصيل وتفعيل بنية الخطاب السردي لشارع باتا ساعدنا كثيراً على فهم نظام البنية السردية لهذه الرواية، وكيفية بنائها القصصي وتشكيلها الفنِّي، وأفادنا في تحليل موضوعاتها الدلالية وسماتها الفكرية المشتركة. وقدَّم لنا المساعدة السرديَّة المرجوة في فهم مهارات فنيَّة زيد الشَّهيد التعبيرية والكتابية، وكيفية بنائه لحكاياتٍ نصيَّةٍ روائيةٍ فعَّالةٍ وماتعة الأثر على مستوى الخطاب النصِّي والفكري.

خَاتمةُ الرِّوايةِ وَفَجائيةُ السَّردِ التَّدوينِي

تُشكِّلُ مُدوُّنةُ (شَارعُ بَاتَا) للسارد المُتألِّق زيد الشَّهيد مع مدونتيهِ السابقتينِ رواية (أفراسُ الأعوامِ)، و(تَراجيديا مَدينةٍ) إحدى ثالوث مشروعه الثقافي الميتا سردي التدويني لتوثيق تاريخ مدينة السَّماوة وذاكرة الحياة الإنسانية فيها مُتخذاً من هذا المِيتَا تَاريخ الَّسردي الزمكاني مرتكزاً من مرتكزاتها البنيوية في الحديث عن الذات الإنسانية وعن نتاجها الثقافي والعلمي وعن الهمِّ المستقبلي والأمني والاستقرار والتهديد والظلم والحصار والتهميش، وعن التحرُّر من نقرة السلمان، وجميع مفاصل الحياة.وقد أفرغ زيد في هذه الرواية خلاصة ثقافته المعرفية والأدبية عامة والترجمة بشكلٍ خاصٍّ.

فإذا كانت هذه المسرودات النصيَّة تُمثِّل حُمولات الرواية وعصب رسالتها الفكرية في فصولها السبعة، وكان الرحيل أو الهجرة الهمَّ الأول لساردها زيد الشهيد، والشغل الشاغل لمطامح وآمال وتمنيَّات شخصياتها المُهمَّشة على مدى أحداث الرواية بأجمعها، فإنَّ الأمل بتحقيقها حُلماً قد تبدَّد وتعطَّلَ إجراؤه عند بطل الرواية (حمزة الأب)، أو عند ساردها (العليم) زيد الشَّهيد في منتهى خاتمتها الفجائية الصادمة والمُدهشة لتوقُّعات القارئ وكسر جداره الذهني المألوف.

وأنَّ مغزى قصديَّات ذلك التعطيل رُبَّما كان تعبيراً صادقاً عن مدى حُبِّه السرمدي وتشبُّثه الأبدي بمدينته الأُمِّ السَّماوة ووفاء لوطنه الأبِّ الكبير العراق، وإيثاراً لافتاً منه بها لِوَلديهِ الشَّابينِ (حارث وميمون) رمزي الغد والمستقبل الحياتي الواعد. وقد تَرجمَ الشَّهيد إحساسه بوحاً فأضمَّرَ:

"وَأنَا أنتهِي مِنْ كِتابةِ هذهِ الكَلماتِ، مُتذكرَاًآمالَ وَرغباتِ وَخُططَ تَوم أوكُونور الفَاشلةَ فِي الهُجرةِ وتَغييرَ الحَالِ دَقَّ جَرسُ البَابِ الخَارجيَّ.. قَليلاً وًدخلَ عَلَيَّ مَيمونُ... لَمْ يَكُنْ قَدْ زَارَنَا مُنذُ شَهرٍ. بَعدَ التَّحيةِ وَتَلقِي التَّحيَّةِ رَأيتُ فِي رَأسهِ شَيئاً يَمُورُ..عَيناهُ وَشَتَا بِذلكِ.بَعدَ لَحظةٍ وَلَحظاتِ فَجَّرَ مَا جَاءَ مِنْ أجلِهِ بِتصميمٍ وَحَماسةٍ:أبي.. أُفكِّرُ بِالهُجرِةِ مَعَ المُهاجرينَ.. هُمُ لَيسُوا بِأفضلِ مِنِّي. َوبَعدَ سَاعةٍ؛ سَاعةٍ لاَ غَيرَ دَقَّ جَرَسُ البّابِ مِنْ جَديدِ..أسمعُ صوتَ وَلَدِي الأكبرَ حَارثٍ يَدخُلُ.. يُلقِي التَّحيَّةَ عَلَى أُمِّهِ وَيَسألُ عَنِّي.. وِأسمعُهٌ يٌكلِّمُها قَائِلاً: (أُمِّي، أُفكِّرُ بِالهُهْ.....)". (شَارِعُ بَاتا، ص 238).

إنَّ قراءة أسلوبيةً لموضوعة الهجرة والارتحال تؤكِّد بما لا يقبل الشكَّ مما صرَّح به السارد أو الرائي في خاتمته الفجائية، أنَّها مجرد آمال ورغبات ذاتية فاشلة قد لا تُحقِّقُ الهدف أو المبتغى القصدي المنشود منها. وقد شبَّهَ الكاتب والروائي زيد الشَّهيد قضية الهجرة بمحاولة شخصية البطل الدنماركي المندفع (الفتى أوكونرو)، والتي باءت بالفشل الذريع كلُّ محاولاته ومغامراته وخطِّطه مع صاحب الحانة المُحتكِر لوبير لتغيبر واقع الحال مع أفراد عائلته الثلاثة الذين هم شخوص وأفراد رواية (خَاتمُ الأميرِ العَبدُ) الدنماركية الأصل التي ترجمها السارد أو الراوي العليم.

هذا من جانب سردي تناصِّي توافقي وتحوَّلي، ومن جانب فكري وتحليلي آخر أنَّ الهجرة التي وردت على لسان وَلَدَي البطل (ميمون وحارث) كانت مُجردَ فكرةٍ (أُفكِرُ بِالهُجرةِ...)، وليست قراراً قطعيَّاً نهائياً لا رجعة عنه اُتُّخذ بها. إذن التفكير بالأمر شيء والقرار الحاسم شيء آخر لا بدَّ منه.

وهذا التحليل المنطقي لسرديَّة الهجرة يُحيلنا فنيَّاً إلى أن الخاتمة ليست مجرد خاتمةٍ فجائيةٍ تتَّسم بالإمتاع والإدهاش لذائقة المتلقِّي فحسب، وإنَّما هي أيضاً خاتمة موضوعيَّة تتَّسم بالانفتاح لإشراك القارئ الواعي أو المتلقِّي النابه وتوجيه رغبته وإبداء رأيه الشخصي إلى الإسهام جديَّاً في التفكير التواصلي بإيجاد حلٍّ إيجابي أو سلبي مُناسب لخاتمة موضوع الهجرة. وهذا ما كان يسعى إليه الشَّهيد بجدٍّ في مشروعه التدويني لأرخنة وتوثيق الميتا سرد الحداثوي بلُغةٍ جديدةٍ وأُسلوبٍ واعٍ.

وتشي أسلوبيَّاً قراءة بواكير هذه الخاتمة النصيَّة إلى أنَّه عندما تكون شخصَّية بطل الرواية السارد هي نفسها شخصيَّة الروائي الكاتب بضمير الـ (أنا) الحاضر والفاعل وتأكيد أثر فاعليته الحَدثِيَّة والموضوعية فيصبح شاهداً عينيَّاً بَصَرِيَّاً على دراميَّة مسرح واقعة الحدث السرديَّة.

ومما يُضفي على هذه التجربة التدوينية وأرخنتها التوثيقية مصداقيةً عاطفية وموضوعيةً في ذاكرة سرديَّات المدن التاريخية. وأنَّ فعل هذا النموذج من الإبداع يظهر تداخلاً بين التوثيق التاريخي والتجربة الشخصية حيث يكون الكاتب سارداً وشاهداً حيَّاَ يعكس صور حِدَّة الصراع البيئي بين الاثنين في (شَارعُ بَاتا). بقي أنْ نذكر أنَّ ارتباط الكاتب المبدع زيد الشَّهيد بالواقع الزمكاني التاريخي وبالشخصيات الفواعلية كان ارتباطاً روحيَّاً عميقاً يَمُتُّ بصلة رَحِمٍ كبيرةٍ لهذه المدينة التي خلَّدها في نتاجاته الشعرية والنثرية لتكون شاهدةً تاريخيةً على فعله الإبداعي والثقافي.

فَائدةٌ سرديَّة

لم تكن مُدوّنة (شَارعُ باتا) مجرد مشروع سردي تدويني، وتوثيق تأريخي دقيق للحكايات والمدنٍ والمثاباتٍ واشتغال للأدوات السردية الفاعلة الأثر، وإنَّما احتفت صفحات هذه الرواية بمجموعة كبيرة ثرَّةٍ من القيم المعرفية والأفكار الفلسفية والأدبية والشعرية والمرويَّات الشعبية والسير الذاتية والتراجم اللُّغوية والآثار الإبداعية والفنيَّة للأصوات والرموز الثقافيَّة المَحليَّة والعربيَّة والعالميَّة.

تلك الثقافات والمعارف والفنون التي وظَّفها زيد الشَّهيد وسعى لها أن تكون فناراتٍ ضوئيةً لافتةً التوهج تتوزَّع بعفويةٍ وتخطيطٍ مُتقنٍ على فضاءات الرواية، وتضيء بأحداثها السرديَّة التنويريَّة مفاصل وحدة العمل الأدبي السردي، وتُضفي عليه نسغاً روحيَّاً جديداً من عناصر القوُّة وجماليَّات الإبداع والابتداع الفنِّي الذي يُميُّز العمل الأدبي المكين ويحفظ له خلودَهُ الزمني. وهذا ما يُميَّز أُسلوبية زيد الشَّهيد الانزياحيَّة التعبيريَّة المُقدَامة وتوهُّج معجمه التسريدي في كتاباته الإبداعيَّة.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ / ناقدٌ وكاتبٌ عراقيٌّ

يُعْتَبَر الفَيلسوفُ والرِّوائيُّ الإيطاليُّ أمبرتو إيكو (1932 - 2016) مِنْ أبرزِ الكُتَّابِ العالميين الذينَ جَمَعُوا بَيْنَ الفَلسفةِ والرِّوايةِ، وهَذا يَتَجَلَّى بِوُضوحٍ في روايته الشَّهيرةِ " اسم الوردة " (1980)، التي تُصنَّف كواحدةٍ مِنْ أعظمِ الأعمالِ الأدبية في القَرْنِ العِشرين.

تَدُورُ أحداثُها في دَيْرٍ إيطاليٍّ في القَرْنِ الرابع عَشَر، حَيْثُ تُرتَكَب سِلسلة مِنَ الجَرائمِ الغامضةِ يَذهَب ضَحِيَّتَهَا عَدَدٌ مِنَ الرُّهْبَانِ. ويَمتزِجُ في الرِّوايةِ التَّشويقُ والفَلسفةُ، وتَختلِط فِيها عَناصرُ الجَريمةِ ومَبَادئُ التاريخِ وعِلْمُ الرُّمُوزِ، وُصولًا إلى مُناقشةِ العَلاقةِ بَيْنَ الإيمانِ والعَقْلِ. وهَذا يُؤَكِّد أنَّ الأدبَ يُمكِن أنْ يَكُونَ وَسيلةً فَعَّالةً لطرحِ أسئلةٍ وُجوديةٍ وفِكْرية عميقة.

عُرِفَ إيكو في بِدايةِ مَسيرته الثقافية بِمُؤلَّفاته النظريةِ في فَلسفةِ اللغةِ وَعِلْمِ الدَّلالةِ في بُنْيَةِ النَّصِّ الأدبيِّ، ولَمْ يَبْدَأ تجربته الأدبيةَ إلا بَعْدَ أنْ قاربَ الخمسين مِنْ عُمْرِه. ويُوصَف بأنَّه رائدُ عِلْمِ السِّيميائيَّة، وَهُوَ العِلْمُ الذي يَدْرُسُ الرُّمُوزَ والعَلاماتِ، ويَهْدِفُ إلى فَهْمِ كَيفيةِ إنشاءِ المَعنى وتَفْسِيرِه في مُختلَف السِّيَاقَاتِ الثقافيةِ والاجتماعية.

إنَّ الرِّوايةَ بالنِّسبةِ إلى إيكو لَيْسَتْ سَرْدًا للأحداثِ والوَقائعِ فَحَسْب، بَلْ هِيَ أيضًا عَالَمٌ مِنَ الرُّمُوزِ التي تَدْفَعُ باتِّجاهِ التَّفكيرِ الفَلسفيِّ العَمِيقِ، وَفَضَاءٌ مِنَ العَلاماتِ التي تُؤَدِّي إلى تَحليلِ الأشياءِ، وتَفسيرِ الثقافةِ هُوِيَّةً وَسُلطةً ونَظريةً وتَطْبيقًا.

والرِّوايةُ هِيَ الوِعَاءُ الحَاضِنُ للمَبادئِ الفَلسفيةِ المَنثورةِ في مُؤلَّفات إيكو غَيْرِ الأدبيَّةِ، التي تَتَنَاوَل تفاصيلَ السِّيميائيَّة، وَمَواضيعَ القُرونِ الوُسطى، وأُسُسَ النَّقْدِ الثقافيِّ والاجتماعيِّ. والنَّصُّ السَّرْدِيُّ هُوَ نُقْطَةُ التَّوَازُنِ بَيْنَ الظواهرِ السِّيميائيَّة والظواهرِ الثقافية، حَيْثُ تُصبح الكَلِمَاتُ رُمُوزًا تُشكِّل نِظامًا مَنْطِقِيًّا مَعَ بَعْضِهَا البَعْض، وتَصِير المَعَاني إشاراتٍ تَدْمُجُ هُوِيَّةَ الفِعْلِ الاجتماعيِّ مَعَ الوَقائعِ التاريخيةِ القائمةِ على الاتِّصَالِ بَيْنَ الثَّقَافَاتِ، وَالتَّوَاصُلِ مَعَ العَناصرِ المُحيطةِ بالفَرْدِ والجَمَاعَةِ، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَكوينِ إطارٍ تاريخيٍّ للأفكارِ والأشياءِ، وتأسيسِ مَرجعيةٍ مَعرفيةٍ تَتَعَامَل مَعَ التَّجَارِبِ الإنسانيَّةِ في المُجتمعِ كأنظمةٍ عَقْلانيَّةٍ وَرُمُوزٍ لُغويَّةٍ وَمَهَارَاتٍ إبداعيَّة.

إنَّ انتقالَ إيكو مِنَ الفَلسفةِ إلى الرِّوايةِ لَمْ يَكُنْ عَبَثِيًّا أوْ صُدْفَةً أوْ مُفَاجِئًا، وإنَّمَا كانَ مُحاولةً جَادَّةً لِنَقْلِ الأفكارِ الفلسفيةِ مِنَ الهُلامِيَّةِ إلى الواقعيَّةِ، وَمِنَ التَّجْريدِ إلى التَّطبيقِ، وَمِنَ الحَيِّزِ النَّظَرِيِّ إلى الفَضَاءِ الإنسانيِّ المُشتمِل على المَشاعرِ والأحاسيسِ والأحداثِ اليَوْمِيَّةِ والوقائعِ التاريخيَّة.

وَلَمْ تَكُنْ رِواياتُ إيكو إلا أنساقًا مَعرفية لإدراكِ الحقائقِ التاريخية الكامنة في الحَياةِ الواقعية، وأنظمةً فلسفيةً للكشفِ عَن الأشياءِ التي لا يَقُولُهَا النَّصُّ، حَيْثُ يَتِمُّ الربطُ بَيْنَ الخَيَالِ الأدبيِّ والغُموضِ الفلسفيِّ القائمِ على الأسئلةِ الوُجودية العميقة.

والنَّصُّ _ باعتبارِه عَمَلًا فَنِّيًّا إبداعيًّا _ يَحْمِلُ في دَاخِلِهِ تَفْسِيراتٍ مُتَعَدِّدَة، وتأويلاتٍ مُتباينة، ويَبْتكِر قوانين خَاصَّة به، ويَخترِع لُغَةً وِجدانيةً جَديدةً ومُدْهِشَةً تُعيدُ تَعريفَ العاطفةِ كَفِعْلٍ اجتماعيٍّ، وَتُعيدُ صِياغةَ مَرجعيةِ اللغةِ كوظيفةٍ وُجوديَّة مَفتوحة عَلى جَميعِ التَّجَارِبِ والتَّأمُّلاتِ.

إنَّ عَوَالِمَ السَّرْدِ تَعتمِد عَلى فَلسفةِ اللغةِ، وتَستنِد إلى الأشكالِ التَّعبيرية، وتَرتكِز عَلى رُوحِ النَّقْدِ الجَذْرِيِّ، وتُحلِّل طَبيعةَ مَسَارِ الإنسانِ، وتُفَسِّر مَاهِيَّةَ مَصيرِه، مِنْ أجْلِ بُلُوغِ الحَقيقةِ كَقِيمَةٍ مِعْيَارِيَّةٍ ومَنظومةٍ حَيَاتِيَّة. الأمْرُ الذي يَقُودُ إلى الخُروجِ مِنْ هَامِشِ التاريخِ إلى الوَعْي بالتاريخ، والانفتاحِ عَلى العَالَمِ، وتَطويرِ مَفاهيمِ الإبداعِ كَمًّا وكَيْفًا.

ومَا يُميِّز الرِّوايةَ عَن الفَلسفةِ هُوَ أنَّ الرِّواية قادرةٌ على صَهْرِ التَّشويقِ والمُغَامَرَاتِ والحِوَاراتِ والتاريخِ في بَوْتَقَةِ تَغْييرِ الواقعِ، اعتمادًا على اللغةِ والفِكْرِ والمَنْهَجِ، أمَّا الفَلسفةُ فَهِيَ مَنظومةٌ جَامِدَةٌ ومُتمركزة، تُنتج خِطَابًا نُخبويًّا مُتعاليًا، كَمَا أنَّها تَتَحَرَّك في ظِلِّ التَّعريفاتِ الاصطلاحيَّة. لذلك تَشترك الفَلسفةُ والرِّوايةُ في الألفاظِ، وتَختلفان في المَعَاني، نَظَرًا إلى اختلافِ المَرْجِعِيَّة، والأصلُ يُحدِّد طَبيعةَ الفُروعِ، والمَنْبَعُ يُحدِّد طَبيعةَ الرَّوافدِ.

لَقَد اعْتَبَرَ إيكو أنَّ الرِّوايةَ هِيَ المَيدانُ العَمَليُّ لأفكارِه النَّظرية، والتَّطبيقُ الفِعْلِيُّ للخَيَالاتِ التاريخية، وأنَّ الفَلسفةَ لا يُمكِن أن تَصِلَ إلى شَرائح المُجتمع كَافَّةً إلا مِنْ خِلالِ عَمَلٍ أدبيٍّ مُتكامل فَنِّيًّا وفِكريًّا، وأنَّ الغَوْصَ في أعماقِ التاريخِ والثقافةِ لا يَنْجَحُ بشكلٍ كامل إلا مِنْ خِلال قِصَّة قائمة على التَّشويقِ وجَذْبِ المُتَلَقِّي. وَمِنْ خِلالِ هَذه القِصَّةِ يَتِمُّ حَقْنُ الأذهانِ والمَشاعرِ بالأسئلةِ الوُجودية الحاسمة، والأفكارِ الفلسفية العميقة، والعُثورُ على خَريطةٍ فِكرية للعَالَمِ تُفَكِّك أحداثَ التاريخِ، وتُفَسِّر وُجودَ الإنسانِ في الأزمنةِ المُختلفةِ والأمكنةِ المُتَعَدِّدَة.

إنَّ الرِّحلةَ اللغوية مِنَ الفَلسفةِ إلى الرِّوايةِ تُمثِّل بِحَدِّ ذَاتِهَا مَركزيةً مَعرفيةً تُوضِّح الحُدودَ الفاصلةَ بَيْنَ تَفْسيرِ الوَعْي الاجتماعيِّ وتأويلِ النَّصِّ الأدبيِّ. كما تُمثِّل إعادةَ بِناء للتاريخِ الغَامِضِ في المراحلِ الزَّمنية، والتاريخِ الكامنِ في أعماقِ الإنسانِ السَّحيقةِ. وهَذا يَكْشِفُ العَلاقةَ التبادلية بَيْنَ المُؤلِّفِ والنَّصِّ، وكَيفيةَ التفاعلِ بَيْنَ التاريخِ والأساطيرِ والفَلسفةِ والأدبِ، وُصُولًا إلى القوانين الضابطة لعمليةِ استنباطِ الأفكارِ مِنَ النَّصِّ، باعتباره فَضَاءً مَفتوحًا مِنَ الدَّلالاتِ الخَفِيَّةِ اللانهائية.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

بين فردوس المنفى وطقوس الجمال.. قراءة في شعرية العتمة المضيئة

تمهيد نظري: تهدف هذه الدراسة إلى تحليل نص "غرازييلا.. العتمة المضيئة" للشاعر محمد مجيد حسين من خلال رؤية حداثية تستند إلى مفاهيم التفكيك والرمزية والتخييل الطقسي، مستنيرة بمقولات باشلار وبلانشو وجوليا كريستيفا. تستند الدراسة إلى فرضية رئيسة مفادها أن "غرازييلا" ليست محض تجربة وجدانية أو عاطفية، بل هي تركيب رمزي تتداخل فيه الذات الشاعرة مع الأنوثة والمقدس والمنفى، بما يجعل النص ممارسة شعرية تأويلية ذات طابع طقسي.

ومن خلال هذه الرؤية، تقارب الدراسة النص عبر عدد من المحاور المرتبطة بالبنية الرمزية، وشاعرية المنفى، والأنوثة الطقسية سعياً لاكتناه جمالية العتمة المضيئة. 

غرازييلا بوصفها رمزاً أنثوياً خلاصياً

"غرازييلا تُشعل النورَ / في أقفالِ منفايَّ"

"بدون مملكةٍ هي ملكةٌ"

"هي الوعدُ الهاربُ .. / هي النُبل المُعتق"

في هذه التكوينات الشعرية تتجاوز "غرازييلا" كونها صورة أنثوية تقليدية لتتحول إلى بنية رمزية خلاصية تتجسد في تخوم المنفى والانتظار. لا تحضر كموضوع للرغبة، بل كقوة كاشفة تستدعي النور من العتمة وتمنح الذات الشاعرة شرعية الأمل في فضاء عدمي.

هذا التكوين يتقاطع مع تصور جوليا كريستيفا للأنوثة بوصفها: "حضوراً طارئاً يؤسس غياباً جمالياً لا يستقر ويُنتج المعنى لا كمكتمل بل كمعلّق."

تظهر "غرازييلا" هنا كعلامة متجاوزة للزمن والمكان بوصفها وعداً هارباً و"نبلاً معتقاً "، أي أنها لا تؤسس الخلاص في المنظور الواقعي، بل عبر انبثاق رمزي طقسي يعيد تشكيل العلاقة بين الذات والأنوثة والمقدّس. بهذا المعنى، تغدو "غرازييلا" وسيطاً رمزياً بين العالم السفلي للمنفى والعالم العلوي للمعنى. 

المنفى والذات المجروحة: انكسار الهوية وشاعرية الانمحاء

"وأنا شمعةٌ في وطني المنكوب / شمعةٌ الدياجير"

"أنت تعبرُ مُدن النحاس / في الزمن الحظر القاتل"

في هذه الصور، يتجلى المنفى بوصفه تجربة وجودية لا جغرافية تتداخل فيها الهوية بالانمحاء والذات بالحطام. لا يتعامل النص مع المنفى كمسافة مادية، بل كشرخ نفسي حاد تعيشه الذات بوصفها "شمعة" تتآكل في العتمة وسط "مدن النحاس"، حيث يتكثف الشعور بالاغتراب داخل زمن محظور وقاس.

في هذا السياق، تنسجم الرؤية الشعرية مع تصور موريس بلانشو الذي يرى أن:

"الكتابة هي غربة داخل اللغة، حيث يغدو الشاعر شاهداً على ذاته وهي تتلاشى"

إن استخدام مفردات مثل "الدياجير" و"مدن النحاس" لا يقصد به الوصف الجمالي فحسب، بل يمارس كفعل رمزي على مستوى الانمحاء التدريجي للذات في مواجهة عالم قاس ومعدني مغلق. بذلك تتحول الكتابة إلى مرآة لانكسار الهوية وإلى طقس من الحضور عبر الغياب. 

الطقس الجمالي واللغة ككائن شعري

"طقوس معارك الجمال / هي الوعد الإلهي / بشرعية نبوءتي"

في هذا المقطع، تتحول اللغة من وسيلة تعبير إلى بنية طقسية تشتغل على إنتاج المعنى لا نقله، بحيث يصبح الشعر ممارسة شبه مقدسة تستدعي الأسطوري والإلهي، لا بوصفه معتقداً دينيًا، بل كقوة جمالية كاشفة. إن حضور "الوعد الإلهي" و"النبوءة" يشير إلى أن اللغة نفسها لم تعد أداة حيادية، بل صارت كائناً جمالياً ذا طابع شعائري.

يتقاطع هذا الطرح مع تصور غاستون باشلار الذي يرى أن:

"الكلمة الشعرية تحول المادة إلى خيال مقدس، وتمنحها كينونة لا تستمد من الواقع بل من طقس الحلم."

هكذا، تتحول "غرازييلا" إلى مركز طقسي داخل النص، ليست فقط بوصفها رمزا أنثوياً، بل كوسيط شعري يفعل البنية التأويلية للقصيدة، حيث تمارس اللغة وظيفة طقسية تعيد تشكيل العالم عبر الخيال، لا عبر المرجع. 

الغرائبية والتخييل: اللغة السريالية كأفق تأويلي

"إشارات المرور تُخاطبني / أنت تعبرُ مُدن النحاس"

"غرازييلا تعبرُ جنون الأضواءِ / في بلاد الجمال"

ينسج النص مشهداً شعرياً تنزاح فيه اللغة عن مرجعها الواقعي لتخلق عالماً سريالياً داخلياً، تتكثف فيه الرموز وتتفكك العلاقات المألوفة بين الأشياء. "إشارات المرور" لم تعد علامات مرورية، بل تحولت إلى كائنات دالة تتفاعل مع الذات وتعيد إنتاج المعنى. أما "مدن النحاس" فتمثل عالماً مغلقاّ وقاسياً يوحي بالجمود والاختناق ويكثف صورة الاغتراب.

يتقاطع هذا الأسلوب مع ما يسميه غاستون باشلار بـ "تخييل المادة"، حيث تتحول العناصر الجامدة إلى رموز نفسية وروحية عبر فعل الكتابة. كما يمكن ربطه بما يعرف بـ"الواقعية التخيلية" التي تتجاوز التفسير العقلاني لصالح خيال تأويلي مفتوح.

في هذا السياق، لا تكتب الغرائبية لأجل الإدهاش، بل لأجل زعزعة يقين الواقع وخلق ممر تأويلي ينقل الذات من المعنى الخارجي إلى بعد باطني متعدد الإمكانات. 

شعرية الانخطاف: الغنائية التأملية وتحول الأنا

"هي موسيقا العتمة المُضيئة في روحي"

"صدى صوتها يعزف ليّ على أوتار الوعد الإلهي"

في هذين السطرين، تتجاوز الغنائية حدود الانفعال العاطفي المباشر لتصبح فعل تأمل داخلي يمس الجوهر الوجودي للذات. "موسيقا العتمة" ليست وصفاً شعرياً عابراً، بل صورة مركبة تظهر امتزاج المتناقضات (النور/الظلمة، العزف/الصمت)، مما يخلق حالة انخطاف شعري وهي لحظة عبور الذات من وعيها المباشر إلى فضاء تأويلي أكثر عمقاً .

يماثل هذا ما يسميه موريس بلانشو بـ"الغياب المنتج"، حيث "الكتابة الحقيقية تؤدي بك إلى غيابك أنت فتظل موجوداً فقط بما تُخفيه من ذاتك." هنا، تتحول غرازييلا إلى مرآة للذات في لحظة محوها فتُصبح الغنائية ذات طابع أنطولوجي لا محض وجداني.

من خلال هذا، يتخذ "الوعد الإلهي" بعداً شعرياً لا لاهوتياً ويغدو فعل الكتابة بمثابة طقس خلاص داخلي تمارس فيه الذات استعادتها عبر الآخر ‚ الأنثى/الرمز. 

الشعر بوصفه طقساً تأويلياً

ليست "غرازييلا.. العتمة المضيئة" مجرد قصيدة حب أو حنين منفي، بل هي مشروع شعري يؤسس لبنية رمزية طقسية تتجاوز التعبير الانفعالي إلى ممارسة جمالية تأويلية. يتعامل الشاعر مع اللغة لا كوسيلة بل ككائن حي تتولد داخله الصور والاستعارات لتعيد تشكيل العالم من حوله. الأنثى هنا، كما في تصورات كريستيفا، ليست فرداً بل طيفاً وجودياً خلاصياً تحضر بوصفها لحظة انخطاف وكشف.

المنفى، كما قرأناه من خلال بلانشو، ليس جغرافيا بل وعياً جمالياً هشاً، تمارس الذات داخله انمحاءها من أجل قول جديد. كذلك فإن التخييل، كما عند باشلار يعمل على تحويل المادة اليومية إلى خيال ذي طابع مقدس يحول القصيدة إلى تجربة تقف بين الكتابة والطقس.

من هنا، فإن النص لا يقرأ فقط، بل يمارس. فهو لا يقدم المعنى بل يفتحه ولا يغلق التأويل بل يوسعه، بما يجعل "غرازييلا" نصاً لا يستنفد، بل يستدعي القارئ للدخول في طقسه الجمالي بوصفه فعلاً مستمراً من الإنصات والعبور.

***

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله

.......................

غرازييلآ .. العتمة المُضيئة

غرازييلآ تُشعل النورَ

في أقفالِ منفايَّ

لتنسجَ أنوالاً مُختلفة

غرازييلآ تُعانق نبوءتي

من جهة الغروبِ

هي الوعدُ الهاربُ ..

هي النُبل المُعتق

هي شجرة الأماني الباحثة عني

غرازييلآ تواجهُ قُبح العالمِ

تُناشدُ تذاكر السفرِ

في مطارات الهزائم

بدون مملكة هي ملكةً

صدى صوتها يعزف ليّ

على أوتار الوعد الإلهي

غرازييلآ الدافئةِ

إشارات المرورِ تستثنيكِ

إشارات المرور ..

إشارات المرور تزفُ ليّ

ملامحي القادمة بغرائبية

إشارات المرور تُخاطبني

أنت تعبرُ مُدن النحاس

في الزمن الحظر القاتل

غرازييلآ تعبرُ جنون الأضواءِ

في بلاد الجمال

وأنا شمعةٌ في وطني المنكوب

شمعةٌ الدياجير

الراسخة في روابي الزمن المنفلت

غرازييلآ الروح المُلاحقة

عبر نواب قصر المعاني

وفي منفايَّ المناظر

لأبراج صدى هشاشة الندى

وفي مواسم القحطِ

وعند نهاية الهزائم

أرى غرازييلآ كحوريةٍ

تُعانق ملوحة الدمعِ

هي موسيقا العتمة المُضيئة في روحي

هي طقوس معارك الجمال

هي الوعد الإلهي

بشرعية نبوءتي ..

***

الشاعر محمّد مجيد حسين

 

في التيار الكهربائي هناك سلكان نقيضان: سالب وموجب، لكن حين يتصلان يحدث أحدُ أمرين: صعقة كهربائية حارقة أو: إضاءة كاشفة لمصباح

النقيضان المتصلان، المتحدان، والمرتبطان عضويّاً، وانفعالياً في تلاحم بيّن في قصائد يحيى السماوي، يحدثان كلا الأمرين معاً، الصعقة والإضاءة، ليتركا أثراً بالغاً بعدهما في ذائقة القارئ: الصعقة والدهشة، والانتباه والشدّ، وشحنة من الهزّة الشعورية. ثمّ الإضاءة الكاشفة بعدها لما خلف هذه الصعقة الحسّية، أثناء التلقي:

ليلٌ وصبحٌ

شمسٌ وظلٌّ

ثأرٌ وصفحٌ

الصاحي... النائم

الأحلام واليقظة

تكتب وتمحو

فالجمع بين النقيضين، كما ورد في رباعية الشاعر الكبير يحيى السماوي التالية أدناه (مثالاً لما ذكرنا)، لا يأتي من فراغ، بل منْ طبع شاعريّ شعريّ - لا صنعة شعرية جامدة تقليدية - ومن بوحٍ شجيّ سلس رهيف، أثناء نزول الوحي بعد تجربة وجدانية عميقة الغور في النفس، ضاغطة لتنفجر، وهي سمة جمالية بلاغية حاضرة في صياغات شعر شاعرنا الكبير. وهي لا تتوفر إلا لشاعر مقتدر بقامته، تقف خلفه موهبة ثرية، وتجربة غنية طويلة، وخزين شعري، وثقافي عام. إنه يخلق من النقيضين لوحة متكاملة الألوان والأبعاد، فكأنهما نسيج واحد متشابك الخيوط بلونين مختلفين، يضيفان جمالية مبهرة للنظر شكلاً، وللنفس مضموناً، ومدهشة للتلقي حسّاً، إذ لا يمكن الفصل بينهما؛ لأنه يكمل أحدهما الآخر. فلا بد حين يُذكر واحد منهما أو يُرسم أنْ يؤتى بالثاني لتكتمل الصورة المرسومة في القصيدة، فتكون لوحة موحدة متقنة تجمع الضدين معاً، في إطار فنيٍّ من الأحاسيس والروح، لوحة مرسومة بألوان القوس قزح الحسية التعبيرية، والتصويرية، واللغوية، ببلاغتها التي تتغذّى من بلاغة الشاعر الخاصة المتميزة، والمتصفِّ بها، والتي هي من سمات شاعريته وشعريته غير المألوفة.

هذا الجمع بين الضدين (النقيضين) في لوحة شعرية واحدة، وصورة ممتزجة في وحدة موضوعية حسية روحية غير مرئية، ولا مُلتقَطَة بتعمّد وسبق إصرار شعري، وتخطيط مُسبَق، إنما تأتي هكذا عفوية من طبع السماويّ الشعري الفذَ، حين يهبط الوحي عليه، بلا استئذان، أو دقّ باب المشاعر والإيحاء، ومنهما يبدأ في نسج سجادة شعرية ملوّنة؛ ليكون النقيضان فيها شكلاً فنيّاً منسجماً متآلفاً في الشكل والمضمون داخل روح القصيدة وصورها، ومشاعر وإرهاصات وخيال الشاعر المُحلّق الغنيّ، فتعمل على إبراز جمالية وحلاوة القصيدة، وإشباع ذائقة المتلقي الباحث عن الجمال والدهشة والبريق في القصيدة، التي تشبع ظمأه الجمالي والشعري لما يثير الإبهار من الشعر. فلا تكون القصيدة مجرد شكل بلاغي تصويري وأسلوب جميل جذاب، وإنما عمقاً غزير المعان،ي والصور، والإشارات، والدلالات، والأبعاد، والثرّ بما يزخّه التاريخ الأسطوري، والديني، والثقافي، والسياسي، والاجتماعي، مما تكتنز القصيدة بها، وبالتضمين منها، واستيحائها، أحداثاً، وشخصياتٍ، وأقوالاً، وحِكَماً، ومواعظَ حسنة نستلهم حكمتها، ورؤيتها، وبُعدها الإنساني المضيء.

الشعر الحقّ، والأصيل، والخالد، هو ما قلناه أعلاه في بعض ما نقرأه في قصائد شاعرنا الكبير السماويِّ يحيى.

هذا غيض من فيض شاعريته الفذّة، التي ليست بحاجة الى شهادة؛ فهي تحصيل حاصل.

***

عبد الستار نورعلي

الأربعاء 25.6.2025

.....................

الربـاعـيـة

فـي يـدي وردٌ وفـي روحـيَ جُـرحُ

فـالــنَّـقــيـضـانِ أنــا: لــيــلٌ وصُـبـحُ

*

والــصّـديـقـان أنـا: شــمــسٌ وظِــلٌّ

والـــعَـــدُوّان أنـــا: ثــأرٌ وصَـــفـــحُ

*

لا أنـا الـصّـاحـي فـأغـفـو عـن قـذىً

أو أنــا الــنـائــمُ جــذلانَ فــأصــحــو !

*

لـم تــزلْ صــفـحـةُ عــمـري زَبَــداً

تـكـتـبُ الأحــلامُ والـيـقـظـةُ تـمـحـو !

 

للشاعر الفلسطيني "موسى حوامدة"

ملامح أوليّة لسيرة الشاعر الذاتيّة:

الشاعر موسى حوامدة (وُلِد في 25 فبراير 1959 السموع، الخليل – ) شاعر فلسطيني- أردني الاقامة، يُعَد شخصيّة بارزة في انطولوجيا الشعر الفلسطيني وشعر الحب العربي. الشاعر موسى عضوًا في رابطة الكتاب الأردنيين واتحاد الكتاب العرب، وهو أيضًا عضو في نقابة الصحفيين الأردنيين. شارك في عدّة مهرجانات عربية وأوروبيّة، وتُرجِمَت قصائده إلى عدّة لغات،

درس الإعداديّة في مدرسة السموع، ثم انتقل للخليل لدراسة المرحلة الثانويّة، اُعتُقِل أكثر من مرة عندما كان طالباً هناك من قبل جيش الاحتلال. التحق بالجامعة الأردنيّة للدراسة في كليّة الآداب، وسجن في الأردن لأسباب سياسيّة، وتخرج من قسم اللغة العربيّة عام 1982.

صدر للشاعر: خمسة عشر ديوان شعر نذكر منها:

1-  المجموعة الشعريّة"شغب"1988 –

2- المجموعة الثانية (تزدادين سماءً وبساتين)، وهي عبارة عن قصائد حب 1988 –

3-  وديوان "شجري أعلى" 1999-   وهذا الديوان أثار حفيظة المتطرفين الإسلاميين. صودر الديوان عام 2000 وواجه تحديات قانونيّة حتى عام 2002 عندما تمت تبرئته من تهمة تحقير الأديان ومخالفة قانون المطبوعات، إلا أن النائب العام استأنف الحكم ضده. وفي عام 2001 حُكِم عليه من قبل محكمة جنايات عمان بالسجن ثلاثة أشهر بتهمة مخالفة قانون المطبوعات والنشر بمصادرة كتابه "شجري أعلى" في الأردن.

4- المجموعة الشعريّة الخامسة "من جهة البحر" الصادرة عن المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر في بيروت. 2004.

5- والمجموعة السادسة "سلالتي الريح عنواني المطر"، عن دار الشروق عام 2006: والذي حاز على جائزتين فرنسيتين في نفس العام.

6- ومجموعته "موتى يَجرُّون السماء" من إصدارات دار أرابيسك بالقاهرة. 2011:

7- وديوان «جسد البحر رداء للقصيدة» ، من إصدارات دار نون الإمارات. 2015

8- المجموعة الرابعة وهي بعنوان "أسفار موسى العهد الأخير" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر2002 .  مع حذف بعض القصائد من قبل إدارة المطبوعات. وهي المجموعة التي اخترنا منها القصيدة موضوع النشر: " ولدت من بطن غيمة".

وإلى جانب إنجازاته الشعريّة، تعمق "موسى" في الأدب الساخر بثلاثة كتب نثرية، منها "حكايات السموع" (2000)، الصادرة عن دار الشروق في رام الله وعمّان. وترجمت منه ليلى الطائي ملتون لمجلة بانيبال الإنكليزية في العدد الأخير الذي كُرِّس للأدب الفلسطيني الحديث.

كُرِّم "موسى" لمساهماته الأدبيّة من خلال العديد من الجوائز. حصل على جائزة رابطة الكتاب الأردنيين لغير الأعضاء في عام 1982 عن قصيدته "الفراغات". والجدير بالذكر أنه حصل في عام 2006 على جائزة "لا بلوم" (الريشة) (بالفرنسية: La Plume) المرموقة، وهي الجائزة الكبرى التي تقدمها مؤسسة "أورياني" الفرنسية (بالفرنسية: Fondation Oriani)، كما نال جائزة مهرجان تيرانوفا الفرنسي، وجائزة المهاجر الأسترالية للشعر عام 2011.

كتب عن شعره العديد من الكتاب والنقاد العرب، مثل –بلند الحيدري – محمد علي شمس الدين – بشرى البستاني –د. محمد القواسمة.. وآخرون كثر. كما قام المخرج ناصر عمر بإخراج فيلم عن تجربته الشعرية ضمن برنامج هؤلاء الآخرون".

لمعرفة المزيد عن سيرة الشاعر "موسى حوامدة" يراجع موقع "ويكيبيديا".

البنية الدلاليّة والفكريّة للقصيدة:

أن تكون فلسطينيّاً، أي أنت رمز للعذاب والشقاء والتشرد والضياع والقهر والحرمان... نعم هكذا تحول الفلسطيني إلى رمز لكل ذلك، لقد جسدته رمزاً عذابات قرن من الزمن، دون أن يلقى إلا القليل من يتعاطف معه ليعيد له حقه الذي سلب منه أمام أعين العالم بشكل عام، وأعين ذوي القربى بشكل خاص.

وإذا كان المواطن الفلسطيني يحس بعذابه ويعرف أسباب مأساته، فالشاعر أو الأديب الفلسطيني، هو الأكثر قدرةً على فهم واقعه ومأساته وبالتالي ترجمة أحاسيسه ومعاناته والتعبير عنها ونقلها عبر الأجيال...

وهذا هو واقع الشاعر "موسى الحوامدة" الذي كرس معظم جهده وإبداعه من أجل قضية شعبه الفلسطيني بكل معاناته، من جوع وتشرد وآلام ويتم وضياع وغربة وفقد...

ففي قصيدته " ولدت من بطن غيمة" تتجلى لنا عبقريّة الشاعر مع عنوان القصيدة، فالغيمة العابرة ليس لها وطن تحط فيه وتستقر، إنها غيمة عابرة تتقاذفها الرياح ولا تعرف أين تحط رحالها، وهي هنا شبيهة بالفلسطيني الذي تقاذفته الرزايا بعد أن سلبت منه أرضه من قبل المستعمر الغاصب دون وجه حق، وبعد أن زور زناة التاريخ تحت وهم أساطير قالوا فيها بأن هذه الأرض لشذاذ الأفاق وليس لأهلها الشرعيين الحق فيها، وصدقهم مجرمو التاريخ أيضاً الذين عملوا من فلسطين حصان طروادة لتحقيق طموحاتهم ومصالحهم في هذه الأرض وما يحيط بها. فكانت النتيجة كل هذه العذابات التي عاشها ويعشها الفلسطيني اليوم.

يقول الشاعر "موسى": واصفاً كل تلك المعاناة التي يعيشها شعبه، هذا الشعب الذي أصبح فيه الفرد، وهو واحد منه شبيهاً بقطرات ماء تحملها غيمة سابحة في هذا الفضاء دون أن يعرف أين سيهبط، وعند هبوطه سيهبط خفيفاً لا يحمل معه إلا جسده وذكريات طريّة في ذاكرته مسجل فيها كل معاناته وقهره وتشرده.. يهبط دون مأوى، شريداً تصفعه شدّة الرياح، وتحرقه حرارة الشمس... وتتجاذبه بلاد الله التي لا يعرف كيف يستقر فيها.. لذلك هو يحاول في مضمار مأساة هذا التشرد أن يعيد توازنه، وأن يجد مستقراً له كي لا يضيع أو يهرب كطير لا يعرف إلى أين... إنه يحاول في غربته أن يتسامى ويتماسك رغم كل معاناته كي لا يسقط ويتلاشى .. فجذوة البقاء والتمسك بالحياة من أجل العودة إلى الوطن منحته كل هذا القدرة على التحمل والبقاء. يقول الشاعر " موسى حوامدة":

ولدتُ من بطن غيمة

هبطتُ إلى الأرض خفيفًا...

كأني لا أُبصرْ

الريحُ تَصْفَعني

الشمسُ تنزعني

الوديانُ تجذبني

تثاقلتُ كي لا أطير

تَساميتُ كي لا أذوب

تماسكتُ كي لا أسقط،

ثم يتابع الشاعر رسم مأساته المتضمنة بالضرورة مأساة شعب فلسطين، بأن الكل قد تخلوا عنه، فمن ينتمي إليهم في العروبة من ذوي القربى أنكروا هذا الانتماء، ومن رفع نظره إليه عالياً وطلب العون تخلى عنه أيضا، وتركه فريسة لرب دين آخر غير ربه لا يعرف إلا القسوة والجريمة بحقه وحق كل فلسطيني أو مختلف.. لقد أصبح كل من شرّد إليهم أعداءً له.. فلم يعد يعرف طريق العودة إلى وطنه فلسطين بعد أن سدّت أمامه كل الطرق، وكيف لا تسدّ هذه الطرق وعدوه من ربط العهدين القديم بالجديد وآمن بأن المسيح لن يعود إلا إذا كانت فلسطين للصهاينة. يقول الشاعر "موسى حوامدة"

الرعدُ أَنْكر أبوتي

السماواتُ تخلت عني

الأرضُ عدوَّتي

كيف أعود ...

كيف أعود إلى رحم غيمتي؟!

عدوتي- أسفار موسى العهد الأخير.

البنية الفنيّة والجماليّة للقصيدة:

هناك مناهج تمثل مدارس وتيارات أدبيّة ونقديّة متعددة، لكل منها منهجية الخاص في تحليل النصوص، والمقصود بالتحليل هنا هو القراءة العميقة للنصّ، أي الإحاطة بالمقاصد والمعاني والدلالات التي يسعى النصّ تبليغها للمتلقي الذي تتفاوت قدراته القرائيّة بين القراءة السطحيّة والقراءة العميقة.

والنص الذي بين أيدينا هو لشاعر متمكن من حرفته، والشعر عنده لم يأت ترفاً أو تسليةً، وإنما الشعر بعمومه عنده وسيلة فكريّة وفنيّة تحمل أبعاداً اجتماعيّة وسياسيّة وفكريّة، يريد الشاعر عبرها أن يقول ما يشغل ذهنه وعقله من قضايا الوطن والأمّة والإنسان. وتأتي قصيدته " ولدت من بطن غيمة: أحد اشتغالاته الشعريّة التي وصف فيها حال الفلسطيني المشرّد والمقهور كما بينا عند حديثنا عن البنية  الدلاليّة والفكريّة للقصيدة. فدعونا نتعرف هنا على البنية الفنيّة والجماليّة لهذه القصيدة.

نقول: بالرغم من أن القصيدة تقع في مضمار "الشعر المنثور" وهو الشعر الذي لم يجرأ إلا القليل من النقاد على نقده لما له من سمات تختلف في حقيقتها عن سمات الشعر العمودي أو شعر التفعيلة. كغياب الموسيقى الخارجيّة في النص من وزن وقافية، وكذلك تحررّها إلى حد كبير من الأنماط التفكيريّة المؤدلجة، إضافة إلى سيادة السكون نهايات الجمل والسطور والمقاطع في القصيدة، وبالتالي إمكانية قراءة مفردات القصيدة الداخليّة دون الالتزام بالحركات، أي تعميم السكون على كامل القصيدة. والأهم في هذا السمات هو الغموض الذي يتجلى في القصيدة وصعوبة الفهم والتفسير لدلالاتها. وبالتالي ما يجعلها مفتوحة الدلالات أمام المتلقي، لذلك وصفت بإسفنجيّة البناء والتركيب.

نقول بالرغم مما تحمله قصيدة النثر من هذ السمات الاشكاليّة أمام الناقد، إلا أن الشاعر "موسى" بعبقريته وتجربته العميقة استطاع تذليل الكثير من هذه الاشكاليات من خلال الصياغة الفنية لهذه القصيد وما حملته من قيم جماليّة وفكريّة.

أولا: الصورة في بنية القصيدة:

تشكل الصورة عنصرًا بارزًا ومهمًّا في النص الأدبي، إذ يلجأ الأديب عادة إلى تغليف أفكاره وتثبيتها في نفس القارئ بالصور، كما أنها توقظ العواطف، في لغتها التصويرية. وكلما كان الأدب تعبيريًّا كانت الصور هي التي تتشكل في أذهان القارئ.

وفي الأدب عمومًا لابد من الصور التي تأتي مباشرة أو صور جزئيّة كالصور البلاغيّة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز، أو تأتي بحالة تأليفيّة تلتحم أجزاؤها لتشكل رقعة كاملة مترابطة. وفي العادة يراوح الأديب بين الصور الكلية والجزئية، وكثيرًا ما يميل الأدب الحديث إلى الصور الكليّة التأليفيّة،

والدارس للنص الأدبي يلتفت إلى تكوين الصور في النص وترابطها وانسجامها مع الفكرة، ويلحظ كذلك سمات وخصائص  الصورة هل هي (ماديّة حسيّة) أم (تخيليّة) بعيدة عن الواقع ولكنها تعبر بالضرورة بهذا الشكل أو ذاك عن قضايا الواقع. كما ينتبه الدارس للنص إلى (حركة الصورة وعمقها وتلوينها)، ويأتي التلوين عادة بأصباغ الانفعال النفسي عند الأديب الذي يحاول نقلها إلى القارئ.

وما يميز قصيدة " ولدت من رحم غيمة" إن الشاعر استطاع أن (يجسم) المعاني الخفيّة في قصيدته  لتصبح بالصورة باديةً جليةً، ويمكن رؤيتها أو لمسها. حيث يقول:

(ولدتُ من بطن غيمة) وفي (هبطتُ إلى الأرض خفيفًا... كأني لا أُبصرْ). أو في (الريحُ تَصْفَعني ... الشمسُ تنزعني ... الوديانُ تجذبني...) أو (الرعدُ أَنْكر أبوتي .. السماواتُ تخلت عني.. الأرضُ عدوَّتي..كيف أعود... عدوتي- أسفار موسى العهد الأخير.) .. الخ. من هذه الصور العقليّة التخيليّة التي تنقلك كل صورة منها إلى عالم مأساة الفلسطيني مشخصةً في واقع حالهم الذي لم يعد خفيّاً بالأصل عن أحد... هذا مع تأكيدنا على الحالة الجماليّة في الصورة الخاصة والعامة في بنية القصيدة رغم مأساة دلالاتها، حيث استطاع الشاعر ان يوظف مفردات البلاغة من تمثيل وتشبيه واستعارة، التوظيف المتقن لشاعر مبدع، حقق الإدهاش عند المتلقي رغم مأساة الأغراض الفكريّة والإنسانيّة في بنية النص.

ثانياً: القناع في النص:

إن ما يميز القصيدة النثريّة بشكل خاص، هو اعتمادها على الرمز والاشارة والايحاء وأبنية المجاز. فهي لا تطمح كثيرا على إبراز الوجدانيات والعواطف في بنيتها، بقدر ما تطمح إلى  التعبيرعن نوع من فهم الواقع نفسه. دون إعلاء لحالات وجدانيّة أو عاطفيّة أو غنائيّة صاخبة. وبذلك عملت الشعريّة في قصيدة النثر على نقل الواقع إلى آفاق تجارب شعريّة جديدة دمجت العالم داخلها ومنحته طاقة جماليّة عبر أبنية المجاز والرمز والإشارة والايحاء والتلميح. فالقناع بشتى صوره المجازيّة والبلاغيّة والإيحائيّة يهدف إلى تعميق المعنى الشعري، وجعله مصدراً للإدهاش والتأثير وتجسيد لجماليات التشكيل الشعري ذاته.

نقول: رغم أن الشاعر أو الأديب يلجأ إلى استخدام القناع في نصه للتغطية على أبعاد سياسيّة أو اجتماعيّة او عاطفيّة في الغالب، إلا أن الشاعر " موسى حوامده" استخدم في قصيدته القناع هنا بطريقة فنيّة رائعة، فهو استطاع أن ينقل المتلقي عبر كل صور النص الحسيّة منها والمتخيلة، لذاك الفلسطيني الذي ولد من بطن غيمة ليس لها مستقر، وراح يعاني في عالم الواقع الذي لم يرحمه أو ينظر في مأساته.

فبطن الغيمة هنا إشارة إلى حالة التشرد التي حلت به.  وهبوطه على الأرض (خفيفاً) هي حالة توحي إلى أنه بعد تشرده لم يحمل معه إلا جسده المتعب وعقله الشقي المثقل بذكريات لن يمحوها الزمن، ورؤية مشوشة لا تعرف الطريق الذي سيوصله إلى مستقر آمن.  أما إشارته إلى عصف الريح .. وحرارة الشمس .. وتجاذب الوديان، إلا إيحاءً إلى معاناة الفلسطيني بعد تشرده وضياعه في غابة لم يعد يعرف كيف الخروج منها. وهذا ما تشير وتوحي به بقية الصور في بنية القصيدة، ليصل أخيراً إلى المضمر في مأساته وأسباب تحققها وهي (أسفار موسى العهد الأخير.). التي التحمت بالعهد الجديد وشكلت رمزاً لكل من تصهين وآمن بأن عودة السيد المسيح لن تكون إلا إذا عاد اليهود وخاصة الصهاينة إلى أرض فلسطين التي يجب أن يقلع شعبها الأصيل من جذوره.

ثالثاً: النغم والايقاع في القصيدة:

لقد تمرد الشاعر المعاصر وخاصة شاعر قصيدة النثر على الوزن والقافية، ولجأ إلى التنويع في الصوت والنغم، وأصبح الاهتمام بالإيقاع الداخلي يزداد لكونه أشمل من الوزن والقافيّة  ويتعدى في الدلالة. وقد تطور الإيقاع فانتقل من نظام الصوت المتشابه، والبنيات المتماثلة في الوحدات المتقابلة، ومن نظام الوزن الصارم في الشعر إلى إيقاع جديد متحرر متسامح مع نفسه، ومن ثمة صار الصوت يؤدي دورا ًبالغ الأهميّة في التأثير على المتلقي بما يحمل من خصوصيات في التنغيم والنبر والجهر والهمس عند الالقاء من جهة، ثم اعتماد الشاعر الحديث على الصورة بوصفها مطلباً يُفضي إلى موسيقى جديدة تنغمها مشاعره وانفعالاته المرتبطة بالموقف من جهة ثانيّة، وهذا ما أعطى قيمة أكبر للإيقاع النفسي وللنسق الكلامي لا لصورة الوزن العروضي للبيت الشعري.

إن كل هذه المعطيات التي تمثله قصيدة النثر الحديثة نجدها في قصيدة " ولدتُ من بطن غيمة" للشاعر الكبير المبدع "موسى حوامدة. لقد استطاع عبر كل الصور الحسيّة والتخيليّة التي وظفها في النص الشعري، أن يمنح المتلقي من خلال ترابطها، وعمق دلالاتها وجماليّة لغتها، وترابط الدال والمدلول فيها أن يحقق رتماً موسيقياً داخلياً لنصه كاد أن يعوض ما فقده النص من وزن وقافية. يقول الشاعر: (ولدتُ من بطن غيمة...هبطتُ إلى الأرض خفيفًا... كأني لا أُبصرْ.. الريحُ تَصْفَعني..الشمسُ نزعني..الوديانُ تجذبني...). فبهذه الانسيابيّة في تلاحق الصور بكل جماليتها، يشعر المتلقي بشفافيّة الرتم الموسيقي في هذه الصور وما تحمله من مواقف تهز وتحرك خوالج الروح والجسد معا.

رابعاً: التكرار في القصيدة:

إن ورود التكرار في النص الشعري عند الشاعر يشير إلى محتوى معين يريد إظهاره والتأكيد عليه. أي هو الحاح على فكرة هامة في النص الشعري يريد تأكيدها الشاعر أكثر من عنايته بسواها، وهو بذلك – أي التكرار - ذو دلالة نفسيّة قيّمة، كما يعد التكرار أحد العوامل التي ترتبط بالقدرة على الفهم، فالفهم يكون أسرع في حالة استخدام التكرار وخاصة في القصيدة الحديثة، مثلما التكرار يشكل في القصيدة أحد مفردات الإيقاع بجميع صوره، قد نجده بالقافيّة، أو في تكرا الحرف أو الكلمة أو العبارة أو الصورة، وله دور جمالي في النص مثل كل الأساليب البلاغيّة الأخرى، بشرط أن يأتي التكرار في مكانه داخل بنية النص.

من هنا يأتي التكرار في بنية قصيدة "ولدت من بطن غيمة" للشاعر " موسى حوامدة" إن كان في الكلمة أو العبارة  أو الحرف، بغية تأكيد المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني...

تثاقلتُ كي لا أطير

تَساميتُ كي لا أذوب

تماسكتُ كي لا أسقط،

فهنا جاء تكرار عبارة (كي لا) في سياق الجمل التي تكرر فيها، لإشعار المتلقي بأن الشاعر وما يمثله من حالة إنسانيّة، لم يزل متمسكاً بأرضه ووطنه وقضيته، ولن يذوب أو يسقط أو يطير بعيداً في المجهول.

وعندما تنكر لمأساته الجميع من ذوي القربى ودعاة القانون الإنساني الدولي وكل الديانات، وباعوه تحت ذريعة أوهام وأساطير تاريخيّة. راح يكرر متسائلا: (كيف أعود ... كيف أعود إلى رحم غيمتي؟! عدوتي- أسفار موسى العهد الأخير).

أما تكرار حرفي النون والياء معا، وكذلك حرفي التاء والياء معاً في العديد من جمل القصيدة (تَصْفَعني... تنزعني... تجذبني... عني..). وكذلك تكرار حرفي التاء والياء معا: (عدوَّتي.. أبوتي.. عدوتي..غيمتي... ). فقد جاء التكرار هنا من أجل تنويع الإيقاع الداخلي، وتوضيح المعنى وتأكيد دلالة قهر الشاعر وظلمه وغربته عن وطنه روحاً وجسداً.

خامساً: اللغة في القصيدة:

لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري.

سادساً: العاطفة في القصيدة:

العاطفة هي الانفعال النفسي المصاحب للنص، وقد يكون الانفعال هادئًا أو متوسطًا أو جامحًا؛ فالغزل يناسبه الهدوء، والحزن كذلك، وبين الأول والثاني اختلاف في اتجاه الهدوء، فالأول هدوءٌ إيجابيٌ متمددٌ فرح، والثاني هدوءٌ منكمشٌ حزين. أما الغضب فهو انفعالٌ جامح.

إن ما يميز العاطفة في القصيدة، أنها مشبعة بالحس الإنساني، والوطني، والمشاعر المحركة لهذه العاطفة، مشاعر حب وحزن وألم وانتماء، وهي عميقة وصادقة وجياشة، استقرت في عقل ورح إنسان سلبت أرضه، وشرد كغيمة في سماء لا يعرف لها حدود أو مستقر.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد من سورية:

.................................

ولدتُ من بَطن غيمة

الشاعر موسى حوامدة

ولدتُ من بطن غيمة

هبطتُ إلى الأرض خفيفًا...

كأني لا أُبصرْ

الريحُ تَصْفَعني

الشمسُ تنزعني

الوديانُ تجذبني

تثاقلتُ كي لا أطير

تَساميتُ كي لا أذوب

تماسكتُ كي لا أسقط،

الرعدُ أَنْكر أبوتي

السماواتُ تخلت عني

الأرضُ عدوَّتي

كيف أعود ...

كيف أعود إلى رحم غيمتي؟!

عدوتي- أسفار موسى العهد الأخير.

***

من ديوان (لست موسى يا أبي).

رواية الخروبة يمكن إدراجها ضمن أدب السيرة الغيرية، حيث أن الكاتب الحفيد يكتب لنا ما يشبه السيرة أو جزء منها لسيرة الجد. ولأنها سيرة غيرية فمن الطبيعي أن يطلق الكاتب العنان لمخيلته لتوضيب ما سمعه سواء بالتواتر او من أفراد العائلة الذين عايشوا تلك المرحلة الزمنية دون ان يحيد عن الخط الدرامي للحكاية وأصلها.

 حدس الأم كان لافتا ذلك الصباح الذي لم يكن مثل كل صباح بالنسبة لمِصلحة أم رشيد، هاجس غريب عبث بخدر الجسم وأبعد عن العينين سكينتهما، وبات الفراش غريبا يتنكر لمهمته كمكان تستمد منه بعض الطاقة للغد.

 أحداث الرواية جرت زمن الإحتلال العثماني للوطن العربي، والحدث الأساسي التي انطلقت منه هو مجيء الخيالة في الجيش العثماني لإصطحاب رشيد للتجنيد الإجباري، ولم يشفع له كونه الإبن الوحيد لأبويه فأوامر السلطان واضحة تجنيد يعني تجنيد.ولقد ترك هذا الأمر انعكاساته على العائلة. فوالده عبد الرحمن بحدث نفسه ويتساءل: "هل حقا سيعود ومتى؟ لقد كان وجوده عونا حقيقيا لي فهل أراه مجددا؟ هل سيكون على هذه الارض من يخلد إسم هذه العائلة بالولد وولد الولد؟ عندها تراقصت الشفتان واستجابت العينان بدمع حارق، وحرص الوالد ان تكون البنات خارج السقيفة خشية ان تراه فدمعة الأب شديدة الألم في نفس البنت، وهي أشد ألما في نفس الاب إن هي لاحظتها. ولم تكن الأم بأحسن حال من الأب فقد تاهت في دوامة من الاسئلة: كيف سيكون أمر طعامه وشرابه؟ من يعتني به؟ أين سينام وهل سيأخذ كفايته من النوم؟. وفي موضع آخر يصف لنا الكاتب حال النسوة الأمهات اللواتي لذنّ بصخرة تطل على الطريق ليودعنّ الركب والأبناء وفي كل عين دمعة، وفي كل قلب حرقة، وفي كل نفس ضيق والحيرة تتملك الوجوه.

  قدمت لنا الرواية رشيد ذلك الفتى الفلسطيني الحريص على كرامة وعنفوان أبويه فهو يأبى لهما الظهور بمظهر المستعطف أو المتذلل أمام العسكر العثماني بل تقدم وبكل شجاعة قائلا: "ولا يهمك يابا، يبدو أن لا طريقة للفكاك، هون عليك واعتنِ بأمي وأخواتي وسأعود إليكم". وفي موضع آخر عندما انتدب رشيد مع مجموعته للقبض على من يصفه العثماني بأحد الأشرار الذين يتاجرون بالمحرمات ويضايقون الأهالي، وبعد ان انطلق رشيد بمجموعته قال لهم "اسمعوا يا جماعة نحن لا نعرف عن هذا الرجل شيئا قد يكون شرير فعلا والأرجح ان يكون معاديا للدولة التركية لأسباب أخرى فعمدت لإلصاق هذه التهمة به لتأليب الناس عليه، ويريدون منا أن نكون مخلب قط ينقضون به على أعدائهم وأنا لا أود لكم ولا لنفسي القيام بهذا الدور". هنا تقدم لنا الرواية صورة بأن الفلسطيني بطبعه يميل لنصرة ابن جلدته ووطنه ولا يسلمه للغريب المحتل. وفي موضع آخر تبرز الرواية الصفات القيادية التي تمتع بها رشيد والتي جعلته مسؤولا عن تدريب رفاقه، كما وانه استطاع ان ينسج معهم علاقات صداقة وأصبحوا يطمئنون لوجوده بينهم.

  أجاد الكاتب في توصيف الوضع المعيشي للأسرة في الريف الفلسطيني، حيث كانت أسرة رشيد مؤلفة إلى جانب أبويه منه ومن اختين، يعيشون في بيت هو السقيفة ولا يملكون من سبل العيش سوى زوجين من الماعز وبضع دجاجات وديك وحمار للركوب او لنقل المحاصيل في المواسم كمواسم الزيتون وغيره من المحاصيل. كما اتت الرواية على معاناة الناس من شح المحاصيل وضيق ذات اليد، ومع ذلك كانت السلطة العثمانية ترهقهم بتقدير الضرائب على نحو لا يتناسب وقدراتهم المالية. وفي إشارة قد تكون لا تزال قائمة في بعض البلدان إلى يومنا هذا فبعض الدول لا تتذكّر رعاياها عندما يستحق تعليمهم، ولا تؤمن لهم رعاية صحية وإستشفائية، ولا ظروفاً معيشية لائقة. ولكنها تتذكرهم عند جني الضرائب أو الحاجة إلى شبابهم لتزج بهم في أتون حروبها.

كما أشارت الرواية إلى حالة التكاتف والتعاضد بين الأهالي حيث كانوا يتداعوا إلى طعام مشترك يأتيهم من البيوت ومعظمه يغلب عليه العدس والبقوليات. وايضا عندما اراد مختار إحدى القرى إطعام الخيالة والذين معهم ووفقا للدور المتبع نادى المختار على ثلاثة من الرجال قائلا:" الله يخلف عليكم يا عميّ ولا تنسوا تعلقوا للخيل". وأيضا عندما أقدم أبو سليم صديق عبد الرحمن بتزويده بكميات من السكر والشاي لندرة هذه المواد في الاسواق. كما تنقل لنا الرواية طبيعة الأحاديث التي كان الجمهور يتناقلها فلا تنقل صافية كما هي بل يطالها التبهير والمبالغة في أحيان كثيرة.

  المكان كان حاضرا في هذه الرواية فقد أتى الكاتب في سياق سرده على العديد من الأمكنة والمعالم التي عبرها رشيد من حين التحاقه بحملة التجنيد ولغاية وصوله إلى بعلبك في البقاع اللبناني وما تلا ذلك. والبداية من قريته جيبيا لتكر سبحة الأماكن التي مرت بها قافلة التجنيد ومنها، بير زيت، كوبر، برهام، أم صفاة، خربة "صِيّا"، كفر أشوع ، عجول، القدس، بيت صفافا، دير الشيخ، طولكرم، جنين، العفولة، حيفا، طبريا، بيسان، رام الله، سمخ التي اصبحت لاحقا مستوطنة تسيماح، دمشق وأسواقها المتنوعة وأيضا مدينة بعلبك اللبنانية وغيرها من الأماكن. كما ذكر لنا أسماء بعض المقامات في القرى والبلدات مثل مقام بايزيد، أحراش النبي صالح، مقام الشيخ محسن ومقام الأربعين. وفي إشارة موجزة عن بعض المدن توضح الرواية اصل تسمية طولكرم بأنها طور كرم أي جبل العنب، كما أن بيسان كانت عاصمة الفراعنة خلال حكمهم لفلسطين، وكذلك جنين تعتبر حارسة مرج بني عامر وهي غارقة في التاريخ إلى زمن الفراعنة. أما بعلبك فهي بعل أي الإله وبق بمعنى البقاع لتكون بعلبك موطن إله البقاع. ولم يفت الكاتب الإشارة إلى القائد الفلسطيني ظاهر عمر الزيداني الذي اقام أول كيان فلسطيني في القرن الثامن عشر فحكم عكا وأنشا مدينة حيفا وفي هذا إشارة إلى عراقة الوجود الفلسطيني في تلك المنطقة.

المكان المركزي الذي تذكره الرواية والذي استمد منه الكاتب عنوان روايته هو موضع الخروبة المعروفة بخروبة النحلة والتي سميت بهذا لأن نحلة استقرت بين أغصانها وجعلت لها فيها مقراً. والتي أصبحت بمثابة الصومعة لأم رشيد التي سارت إليها لترقُبَ الركب الذي إبتعد مصطحبًا وحيدها معه وكأنهم شدذوا جزءاً من روحها. ولقد جعلت مِصلحة من الخروبة مقرّها ومقامها في ساعات العصر تترقب عودة ابنها وتعد نفسها لمراسم إستقباله. وأصبحت الخرّوبة مكانًا للجلسات واللقاءات للصديقات والقريبات والجارات وحتّى الذين علموا بوفاة عبد الرحمن، جاؤوا إلى القرية مُعزّين باتت الخرّوبة وجهتهم. وفي إشارة رمزية حول ما آل إليه مصير تلك الخروبة تقول الرواية انها اختفت ويرجح ان يكون الإحتلال قد اغتالها لاحقا لما تمثله في الذاكرة الشعبية لفلسطينيي تلك المنطقة وهذا ليس بغريب عنه فمن يغتال البشر لا يتواني عن اغتيال الشجر.

لا بد من الإشارة إلى ان الرواية تضمنت بعض الأمثال الشعبية التي لا تزال حيّة ليومنا هذا مثل:

- اللي بيوقع من السما بتتلقاه الأرض، مثل خبز الشعير مأكول مذموم، إن لم يتوفر الضاني عليك بالقطاني، بيت البنات خراب ومن سرى باع واشترى. وإلى جانب هذه الأمثال كانت اللهجة المحكية حاضرة أيضا في الرواية مما أضفى عليها الكثير من المصداقية والواقعية.

ملاحظة أخيرة تورد الرواية بعض الإشارات المستقبلية بحيث تدفع القارىء للتساؤل هل الكاتب بصدد كتابة الجزء المتمم لها، ومن هذه الإشارات مثلا: لم يعلم عبد الرحمن في حينه أن حفيده وحامل اسمه وكنيته أبو رشيد سيناضل في سبيل إنشاء مؤسسة تعليمية في منطقة بيرزيت تحمل اسم مدرسة الأمير حسن. وأيضا عندما كان رشيد يتلقى الضربات بالسوط من العثماني يتساءل الراوي هل علم ولده سليمان بهذه التجربة وهو يكابد التعذيب في السجون الإسرائيلية؟.

انتهت الرواية بعودة رشيد غلى عائلته وبلدته واندحر الإحتلال العثماني على أمل ان تتحقق نبوءة رشيد " أما ما بعد ذلك يا أمي فبداية عهد جديد" وكلنا أمل ان يكون ذلك العهد الجديد بزوال الإحتلال الحالي إسوة بما سبقه من إحتلالات..

 ختاما رواية واقعية أرّخت لحقبة تاريخية محددة وكتبت بلغة رشيقة بحيث تجذب القارىء وتأسره للمتابعة.

***

بقلم عفيف قاووق- لبنان

من خلال استقرائي لنصوص الشاعر (صالح رحيم) والتي انطوت على تكوينه كانسان وحالات الغضب التي تعتريه من جراء الإثارة التي تتعارض مع تطوره الفكري، وبدوافع مختلفة ولدت لديه ردود أفعال أزاءها، فقد غلب على طرحه الفنتازيا المبطنة، والرفض، والغضب، والشدة، فهو المؤرق من قضايا أججت به البحث عن الحلول التي يراها من الضروب المستحيلة، مما أدى به إلى وضع نفسي مرتبك، فالغضب عند القدماء ممن ينشدون الشعر، يأتي ما بين التهديد والوعيد ودعوة الخاطئ إلى الصلاح، فصالح يرى أن الظروف المحيطة لا تلتزم بحدود ولا في الأفق إلى إصلاح، وقد استنفذ صبره وقد تعالت ثورته الذاتية فأنشد نشيده الغاضب، وذلك للتمادي على كينونته وعدم مراعاة الحقوق، فقد أُهينت القيم العليا لذا فمقدار ما ضاع خلال سيره الجديد في دروب الحياة استنفر طاقته ليقول على الورق وفي وسائل التواصل الاجتماعي، فهو يمتلك الشجاعة لطرح أفكاره ومقدار الحمية التي يحمل للذود عما يؤمن به، فما تعرض له من تجريح وطعن وغبن وانتقاص في الحقوق فجر به غضب الماء لإشباع الداخل بثورة نفسية طاغية على ما أنتج من كتب أدبية شعرية وسردية في المشهد الثقافي العراقي، فكانت ثلاث كتب بعناوين لافتة، تنم عن مكنوناته النفسية وتعامله مع ما يؤثر في شخصيته وحياته المعيشية وتطلعاته وطرق كتابته، فهي على التوالي مجموعة شعرية نثرية (ريشة لطائر منقرض) ومجموعة شعرية نثرية (أهناك مَن يرى؟) وكتاب سردي يقع ضمن الكتب السير شخصية بعنوان (ليس للأسى نبع)، ونظرا لرغبة في المشاركة بمهرجان المربد العالمي، آليت أن أكتب هذا البحث على عجالة، فالغضب لا توجد دراسات كثيرة ومعمقة في تناوله، ولم يخضع للدرس الأكاديمي الأدبي، فقد وجدت أنه نوقش من جوانب مرضية في علم النفس، ومستهجن في الآيدلوجية التقليدية الإجتماعية والدينية ومنهى عنه، فقد قيل في الغضب:

-الغضب يفسد المزاج ويغير الخلق ويسيء العشرة، ويفسد المودة ويقطع الصلة.

-يعصرني غضب أحمق على نفسي أنني أفسد كل شيء واحرق من خلفي المراكب

- الغضب ريح تهب فتطفيء سراج العقل.

- الجهل غضب صامت.

قال الرسول(ص):

قال رجل لرسول الله أوصني، قال: لا تغضب، قال أوصني، قال: لا تغضب، لأنَّ الغضب يسبب شرَّاً، ويسبب خطراً عظيماً.

التمهيد:

دخل الغضب في شتى أصناف القول الشعري بدأ بالعدو وانتقل إلى الزمن والح والمرأة والحياة، فالإنسان في طبعه الغضب، حينما يتعرض للضياع المقصود والقدري، وهو من الصفات التي نهى عنها الدين والعقلاء، وقربوه من الجهل، ولكن ما حيلة المغصوب حقوقه في حقول الحياة؟

فالحديث عن كتب الصالح التي اطلعت وجدت العنوان وكما هو في كل المجالات وفي مختلف الأماكن يُضع لأسباب نفسية، أمّا لجب الانتباه وشد الشخص أو القارئ أو المشاهد أو المتحرك ليقف وهو يرى لافتة، فهذه اللافتة تفرز للمتلقي نوع من الاستغراب أحياناً، أو الفضول لمعرفة ماهية هذا الاسم وأن كان محل لمواد اسم لمطعم أو محل أو على بناية لمنظمة أو عنوان لكتاب، ومن خلال هذه السنين التي عبرت من العمر، واجهت الكثير من العناوين، أحببت بعضها ونفرت من الكثير واحتفظت بالكثير، فمنها فردي الكلمة وثنائي وجمل طويلة ومنها المستعرب والتراثي الغريب، لكن كُتبَ صالح رحيم الثلاث، من العناوين التي تقع كما أدّعي أن أطلق عليها (كتب الحال) وكتب الحال هذه تشي من أول اصطدام بتصورات على أنك تعرف وتفهم ما في داخلها بأنها قادمة من الأعماق، من رحم المكابدات، أسماء ممكن أن تُكَوّن فكرة عنها قبل أن تلجها، أعني بالإمكان قراءة دلالاتها دون قراءتها، على الرغم من أن هناك عناوين لكتب لا تشبه متنها، فكتابه الأول (ريشة لطائر منقرض) يدفعك بالتفكير بالطائر أولاً، ثم بالانقراض ثانياً، وتستنتج وانت تمر على العنوان (الانتهاء) والمحو، وأنه غير موجود حاليا على الأرض، وما يدل على وجوده السابق هذه الريشة، فهو يقع ضمن المجول، وفي دلالة المجهول يقع آلاف العراقيين، الذين يعانون الانقراض ومنهم قرية صالح وعائلته ونفسه، فالدلالة على انقراض صالح هو كتابه نفسه، الذي تحمل معناه الريشة، فالشعور الذي يلزمنا حين نقرأ نصوصه التي يُخرج ما في داخله فيها من رفض تحول ضمن تفاعل داخلي إلى غضب بمفرداته العنيفة أحياناً والمتمردة دائماً وإن أضاف إليها اسناد جملي باهر ووضع عليها بعض مساحيق التجميل وضربة من احتراف كتابي، وموهة في تركيب الجملة ألا أنه يعاني من الاهمال وعدم الاهتمام و(ريشة لطائر منقرض) كتبه ومازال طالبا في الدراسة المسائية، بل الطالب المكافح القابع بقرية تابعة لقضاء الخضر، يعاني من أنواع الأشواك الحياتية الجافة.

ولكنه كموهوب لابد أن يصل وحين اختلط بالجمع المثقف، أوصل صوته إلى الحقل الأدبي عانى من بعض النفوس المريضة ولم يكن بحالة لزيادة الأشواك فلديه الكثير، فأطلق كتابه (أهناك مَن يرى؟) فهو مهووس في السؤال هذا السؤال يشمل الكثير على الرغم من أن الجميع مبصرين، أو لهم عيون ألا أنه يعرف لا يرونه، وحال كل منتج يحتاج للمشترين، فما قيمة البضاعة أن لم يكن هناك روّاد ومعجبين ومترددين ليروا ما لديه؟ وربما كان يريد أكثر من كونه شاعراً يحتاج لمن يرى حاله ووضع حياته وحال بيئته وافرادها، فالسؤال للبحث عن الصالحين والباذلين الذين يمدون يد العون دون السؤال ولو مع النفس عن الفائدة, فهم يعملون ضمن الفضاء الانساني الشاسع، فهذه الجملة الاستفهامية (أهناك من يرى) تولِّد سؤال آخر في المتلقي ترى ماذا يريد صاحب الكتاب إن رأيت ما في داخله، وماذا يحمل الكتاب في تضاعيفه؟

أما بعد أن مَنَّت كورونا علينا بهمها وألمها الغير محسوب وانجلاء غبرتها، وتنفس العديد من الطلبة هدنة القساوة في الامتحانات، دخل صالح قسم الفلسفة وهو القسم الذي أراه مكملاً لشخصيته على الرغم من قلة الانتفاع المادي في الوقت الحاضر، أنتج لنا كتاب أطلق عليه (ليس للأسى نبع) وهو كتاب سردي وثّق فيه مقدار المأساة التي مرت به، ومشاهداته ورأيه بها، وملاحظاته وقناعاته، ولكن غلبت عليه النظرة السوداوية، ففي الكتاب نفس ناقمة وروح تفتقد إلا لأدنى أدوات الأمل، فتحليل هذا العنوان يبدأ بفعل ناقص لا يولد، فهو عقيم يفيد النفي، لهذا فهو بائر كأرض صالح الغاضبة والممحلة، وكلمة(الأسى) وهذه الكلمة المستعمرة التي ينضوي تحتها المعاناة والآلام والتعب، والوحدة وعديد من الخسارات الباهظة، أمل كلمة(نبع) في المشرقة دون نور يذكر فهي موجودة في السياق غير فاعلة في العمل النفسي لنفيها من تواجد المحل إلا في الجملة، مجرد كلمة إفهام في الجملة على الخلو، وشعرنا يعتقد أن الأسى قدرياً، ولا يأتي من مسببات حياتية مادية، أو بشرية وطبيعية، هو قدر مكتوب ولا بد من معايشته.

في الكتب الثلاثة أستشف غضب الشاعر أورثتها له الطبيعة والبيئة والمجتمع، وربما من قوة القدر، وهو رافضاً المصالحة والمهادنة مع أي منها، ولسان حاله يقول: هي دروب كُتِبتْ علينا فما باليد من حيلة من أن أمشيها مقاتلاً ساخطا.

التأثير البيئي الذي يولد الغضب:

الثقافة الشعبية موروثاً غنياً للعمل الأدبي والعلمي وخاصة في الحقل الإنساني، ومهما تعددت اشكالها وخاض بها من خاض إلا أنها دائما بكرا، فالتراث الشعبي على الرغم من أهميته، وقلة المشتغلين به ألا أنه ثروة تحتاج لينفض عنها الرماد، وهي تمدنا بأصوات وفكر غني بفعل عوامل مختلفة أهمها المكان، وعوامل الإجهاض مستمرة لقتل الروح النامية فيها بمختلف الأوامر وفق التحولات الراهنة ومدى تأثير ذلك على النتاج اللغوي ابتداءً من مفهوم العائلة المتماسكة على المستوى الأفراد وشبكة العلاقات.

حينما أتحدث عن الغضب في شعر(صالح رحيم) أتحدث عن قرية ميتة أو شبه ميتة، أو قريبة من الموت، وشهدت تغييرات (كمجتمع) وتحولات عميقة شملت مختلف بنيتها الاجتماعية، لم تشهدها في تاريخها الماضي لبروز قيم جديدة كسرت التابو العشائري، واختلفت فيها الطبقات التي انتجتها خلال سنوات عمرها.

ما هي اهم التغييرات التي طرأت على المجتمع بصورة عامة وشملت هذا المكون من البيئة المحلية الت يلها تأثير مباشر على حياة الشاعر؟

التغيير الاجتماعي: ويشمل تغير الآليات والأساليب المتبعة داخل الهيكل الاجتماعي، كالرموز الثقافية وأنظمة القيم، وقد تنوعت وفق عوامل تغير ضاغط خارجي، ومنها:

العامل الفكري: علمنة الفكر في تطور الطابع النقدي، حيث تأثرت المنظومة الاجتماعية تأثرا ملحوظاً في التطور العلمي وفي كافة المجالات مما أدى بالزحف على المبادئ والقيم المتوارثة، وكسر قيد التحكم الحاصل للعادات المتوارثة، أحدثت هزّة في الوعي والنظرة السائدة لدى الشاعر، لأنها أنتجت أساليب جديدة تعمل على أساس عقلائي، ولمّا كانت طبيعة الشاعر أكثر عاطفية وثبات قيمي مع تعاطفه بالقادم وإغراءه إلا أن الصراع الداخلي أظهر غضبا اتجاه القيود المؤطرة بالتطور وتهديم القيم، وبدأ هذا الصراع يظهر عبر مفردات قد تكون غير مقصودة مباشرة، مع وجود رغبة وقتية بالانغماس بالتنوع الجديد والعلمنة لما لها من صوت تعرية للباليات من الموروث وتقديمه لأغلب المتفتحين على انه عوائق في طريق النجاح

والتقدم الثقافي والاجتماعي لدى الشباب، ففي مجموعة (اهناك من يرى[1]؟) وفي صفحة 11، هناك نص(درس) يقول:

إفعل ما شأت،، هذه الليلة

فالغراب في رأسي،، والجثة في العراء

ولدي ما يكفي من النعيق

لأعلم العالم

طريقة دفن جديدة

اجد أنَّه تعلم درساً كافياً ممن ينالوا منه أو منهم كمجموعة ضعيفة في البيئة، لم يعد يهتم، ففي تفكيره النابه صورا متعددة اختار أحدها او اسوئها تعاضدا، الغراب شاهد القتل الأول على الأرض، وجثة الضحية في الفلاة، ففي فكره الذي بدأ يتلمس البياض وعدم صموده أمام الفجائع، يكفيه من أنه مملوء نعيقاً، فلم يعد كما سبق، فهو اليوم صاحب الدرس وعلى العالم أن يتعلم طرقه وأفكاره، فرفضه لم يعد كما كان متلقيا بائساً، الدفن في التراب له طرق، فهذا الغضب الظاهر بـ (لديَّ ما يكفي) لقدرةٍ فكرية جديدة وتحول في طرق غير معهودة.

ففي كلمة(دفن) وهو طمر أي شيء في التراب، لكي تختفي معالمة أو ما يدل عليه لدى الشاعر طريقة دفن جديدة، ربما عملية دفنه في قرية بعيدة عن الضوء، واختفاء أبسط الوسائل التي تتيح لساقية الحياة أن تتهدج في مشيتها، يعتقدها دفن لذا هناك مطلح شعبي متعارف عليه عند ابتعاد الشخص عن التواجد في الأماكن التي يتواجد بها أقرانه وزملائه سوى بعمل بدائرة بعيدة أو بمكان بعيد أو نأى عن الجميع وقطع التواصل، يسأل: (أنت وين دافن روحك) أي أين دفنت روحك، لذا ألاحظ ان الكلمة كبرت وأصبحت شاملة لشتى أنواع الدفن، وصالح يعرف قسما كبيرا منهن فيقول من كتابه السردي(ليس للأسى نبع):

(ليس من الشجاعة ترك الروح والجسد عندما يتعرضان لوحشية الأنا، يبدو أن هناك تعاونا مشتركاً، تبادلية يحتاجها الجميع، ولابد أن يخضع الجميع لمبدأ واحد، لأجل ان يدرك كل منهم ماذا يريد، وماذا ينفع وجوده، وقد توصلت إلى ذلك بنفسي، أن أعامل الثلاثة معاملة العبيد، فلمحت من بعيد نور الخلاص الأول[2]).

بعد تفكير وحمل نفسه على أن يعتمد على شجاعته كموقف من ثلاثة فيه وهم الحاضن لموجودات الله، الروح والأنا، قرر معاملة الثلاثة كلً حسب ماهيته كعبيد ليتظاهر بأن يجلس على مفترش الحقيقة وينظر لما تأول إليه ماهية هؤلاء العبيد فأدرك النور، فالسؤال: هل حقق (صالح) ما يدعي أم أنها مجرد مفردات، أتلمس ماهية الروح ومعرفة ماذا تريد؟ إنه الحنق عن تواجدها بجسد بالٍ كجسدة الصغير الحجم ومادى غضبه من تكوينه الخَلْقي، فنحن في أوقات معينه نكره أجزاء في اجسادنا، وما فداحة العوامل الاجتماعية، وتنوره الفكري الفردي، في وسط لا يشبع نهمه المعرفي، يؤدي بتفكيره على انه (كصالح في ثمود)، لهذا انتج ليس للأسى نبع على أنه قدر مكتوب، فهو إبن بيئة صعبة.

من الأوامر التي تغضب (صالح رحيم) نظام الوصايا الذي يفرضه الكبار حيث يمارس رغباته منذ أن كان صبياً فحملها في تضاعيف فكره، حيث أن كل الرغبات التي تحاكي الغائر في النفس، فمن الرغبات الممنوعة في سن من العمر العرف لا يسمح بها، هي التدخين والغناء والتمثيل والمنع يزحف على اختيار الأصدقاء والسمر معهم، وربما يصدر أمر بتحديد أولئك، فولدت هذه الأعراف الرفض وتحول تدريجيا من جمر يتنامى تحت الرماد في داخله إلى صوت غضب مغطى بالنصيحة، وهو يرى (صالحا) مازال ذلك الصبي الخائف، ففي مجموعة (ريشة لطائر منقرض) حيث بدأ افراغ همَّه في نتاجه، الأول حيث يرى نفسه فتى لائذا بظل ما لكي لا يرى لمجرد أن يدخن سيكارة، ليقول لذلك الصبي:

الطفل الخائف في أقصى المقهى

أقول: لا تخف

لا تخف أُخيّك

ولا من أي أحد[3].

فقد أصبح كبيرا وقادرا عن الدفاع عمّا يريد، ولكونهم أقرانه والذين أتوا بعده صغارا خائفين من سطوة الوصايا الأسرية وخوفا من الانزلاق في متاهات لا تحمد عقباها تبدأ بسيكارة، ولأنه يحمل فكر الصغار الذي غادر، على أن من يدخن سيصبح كبيرا وسط الرجال ووسم بطابع البلوغ الرجولي، لذا يقول له:

الدخان في كل مكان

في رئة المريض

وفي رئة المعافى

الدخان هو مجرد أن تبقى على قيد الحياة

فهو يراه في كل شيء، في الاجساد والنوايا، وهذه النشوة والشعور لا يزيد من قامتك بل يحملك فوق قيود الالفاظ والأصوات، وحرارة التبغ التي تكوي حنجرتك وتبدأ بإشاخة أوتارها فتخشن، فأنت وبقايا الدخان على حافات أوراق الأشجار سواء، كلاكما لن تدوما في الأرض، والدخان يحتل جزءً كيراً من أجسامنا، حيث نملأ ساحات الاعتصام ومجالس الساسة ومعارك الدول ومجالس اللصوص ودسائس الخونة.

العامل السياسي: بما إن الدولة هي ظل الله في حكم المجتمع، لأنها الجهة الوحيدة المخولة لتغيير بعض القوانين وتنظيم العلاقات ولها التصريح أو أ مر أو التفويض بتغيير وتشريع وإلغاء واستحداث بدائل للقوانين التي لم تعد توائم الوضع الحالي، فالقصور المتعمد و الإهمال أو الإغضاء عمّا يريده الشعب ويعتني بمصالحه المهمة في العيش والأمن والمتطلبات الحياتية التي تمسه صورة مباشرة يزعج الشعب كلّه، ولكنه يؤثر تأثيرا قوياّ على المثقف ويؤذي الأديب الذي مُلكه الكلمة وسراج فكره المتفتح الصور المثلى والخيال لما في الحياة من (الشارع والمتنزه ودور السينما والمسرح ومنابر الشعر)، فالتقصير في قوانين الحياة العامة لها مداليل على كل المخرجات حتى تصل إلى لقمة العيش، لهذا يغضب الشاعر وان ألبس قوله صوراّ غير معلنه أو هاجم مباشرة الدولة وتشريعاتها أو اخفاقاتها أو تهميشها.

مرحلة ما بعد سقوط الحكم السابق، كثر الباعة وتكاثرت الأصوات من الأزقة والحواري وجابت القرى والأرياف والقصبات باختلاف أصنافهم واشكالهم وطرق بيعهم وما يحملون مما يباع، من الكلام الفضفاض إلى الوطن، وبين غمرات الباعة يوجد باعة الخضر وباعة الرزق وباعة القيم وكل بما لديه فرح، ولكن المشتري والمعجب والمساند لم يكن كما كان فرحا متأملاً الخير، لأن الأصوات تغيرت نبراتها بهشاشة حناجرها، و(صالح رحيم) ينظر للباعة على أنهم متجولون، رافضا البيع أو الابتياع من أحد بل بدأ يشفق على تهرأ صوت الجوّال أو حتى المستقر منهم فقدم مفردات غضبه وفق نصيحة الانكسار على ما كان يحمل وما آل إليه الحال، حيث (صوتك المبحوح) لينبهه بأن صوته ما عاد يسمع، فيقول:

بدأ يسبب إحراجاً للجيران

الباعة الذين هم أصدقائك

الذين بدأوا يشفقون عليك[4]

وهنا قد ينطلق من معيار إنساني آخر وهو محاكاة البائع الحقيقي ليعلمه آن أوان الوضع الحالي أن يستريح، وان الأسواق متشابه، فالكل يقدم ما يحمل للبيع لكي يشتري ما يحب، فلا يمكن ان تشتري دون بيع، فالعراقيون لديهم مثلٌ يقول: (البائع ينادي على ما في سلته)، ولكنه رافضاً ان يدخل السوق ليخرج محملاً بأصوات الباعة وطرق تأدية موادهم المباعة، لذا يذكّر البائع:

كل كلمة تخرج من فمك اليوم

تقارن حاضرها المجروح

بأيام عزّها التليد.

واني أرى أن لغة الخطاب موجهة لقائد عراقي بارز في الصراع السياسي القائم على تهديم البلد، وان حاضر صوتك لا يشفع له ماضٍ تولى، فحاضرك تشوه بأفعالك وأصبحت مفرداتك الغير واضحة مجروحة إسوة بحاضرها الملطخ بدم الشباب، حيث يذكر:

حيث هناك الماضي

وكانت الكلمات أطفال

وآذان المستمعين أعياد

آنذاك كان صوتك يثلج الصدر ويشرحه، وتوفي آمال وتطلعات الشعب مفرداتك، كأنها أطفال تبعث المسرة لأنهم جمال الله وبراءة الضحكة الآملة بوطن حرٍّ، ونحن نبحث عن الراحة بعد العناء والهدوء بعد ضجيج الحروب، والدعة بعد عسر مخاضات ودمار للنفس وسجون لمفردات، فكنا نسمعك كتهاليل الأعياد، وفي صورة مشهدية أخرى للسعادات والتهاليل التي يأسف عليها باطنا، قوله في نص (سعادات):

(ثمة أشياء تزدهر لأتفه سبب، وثمة أخرى تذبل لأتفه سبب أيضا، كنت ماشياً ذات يوم في أحد شوارع المدينة، وإذا بي ارى مشهدين: الأول هو غصن اخضر يتدلى من عربة حمل، والثاني فتاة تدفن ابتسامتها بيديها خجلاً، بينما كنت أسير مستمتعا بهاذين المشهدين ارتطم رأسي بسيارة واقفة، من دون أن أشعر بألم يذكر، فصار ينزف، حتى سالت السعادتان مع الدم[5])

لو قفنا عند هذين المشهدين لوجدنا أن الغصن الأخضر المتدلي من عربة النقل، ناتج من قتل شجرة، أو إزالة أغصان شجرة مزهرة في بيت ما أو شارع ما، وهذا الغصن كان ملجأ لعصافير وفيء لمتعب وربما سند لثمرة، فكلمة سعادة لهذا المشهد هو فنتزايا الألم الذي يُدفع، المشهد الثاني، هو كبت الحريات، والانتقاد من ان امرأة تضحك في السوق، كي تعبير عن فرحها أو مشهد مضحك فالعرف يقول عليها أن لا تخرج أسنانها التي لا تظهر ما عدى التي تظهر أثناء الحديث، فالفتاة تخضع لكتم الضحكة والفرحة وحرية التعبير ولو بضحكة، وهذا ليس بسعادة، ولنعود إلى نهاية المشاهد مجتمعة، فقد سالت بنهاية المطاف دماً، كل سعاداتنا لونها دموي، لذلك قدّم (صالح) مشهدا سوداوي تحت لافتة السعادات .

العامل الاقتصادي: تغيرت الكرة الأرضية أثناء الثورة الصناعية وما بعدها، فأحدثت تغييراّ في النظام الاجتماعي وذلك لتنوع أنظمة الإنتاج في مختلف أرجاء المعمورة، كذلك أجد التغيير السياسي في العراق ما بعد 2003، أحدث هزة في المجتمع العراقي، في كل مناحي الحياة، وخاصة المصادر التي لها علاقة مباشرة بحياة الفرد، فالتغيير السياسي اهمل الجانب الصناعي تماماً واغلقت مصادر الانتاج الاقتصادي، فازداد اعداد الايادي العاطلة، لذلك ادّى هذا العمل لتجمع الشعب نحو المجال المتاح في اجهزة الدولة العاطلة، فتنوعت اهداف الناس، وجلس الكثير على مصاطب الغضب لما يروا من التخبط الحاصل في المخرجات الاقتصادية والتنموية وما يحصل من الحرمان والنقص الحاصل في مطبخ الأسرة وغلاء المعيشة يوّلد الغضب الجمعي، وأكيد يكون الشاعر هو القائد الأول لذلك لم يسكت الشعراء في اغلب المناسبات الثقافية والجماهيرية الشعبية والنخبوية، (صالح رحيم) شاعر شاب ابن المجتمع الريفي الغاضب كله لموت المحاصيل الزراعية والنبات المنتج لقلّة المياه وابتعاد الراحة أو الطريق اليها بعيدا عن دروب مسالك أرجلهم، كذاك هو ابن أسير آثر الانزواء بعد ان خاب امله في العيش المستقر والراحة من بعد عناء وغربة وكذب ومصالح شخصية وعدم تقدير، وعودته لأرضه التي قتلها العطش.

فمن اهداء صالح رحيم في مجموعته (ريشة لطائر منقرض) يقول:

(إلى الولد الذي يستيقظ مبكراً من أجل دراسته، فيضربه المدير في صباح بارد بالعصا على يديه لأنه لم يجلب الخمسمائة ديناراً التي تخص أجرة المعلمات، ذلك الولد الذي شتم المدير وترك المدرسة غاضباً، الولد الذي تحبه المعلمة لنباهته ولشدة حبه كتبت له أحسنت يا حمار، اليه ذلك الحمار الذي ضاع في الوديان ... [6])

لنراجع كمية الغضب الذي يحمّله (صالح رحيم) للوضع الذي كان به وهو تلميذا وكيف أجبرته حالته المادية على ترك الدراسة، اجد ثلاث عوامل مهمة وقاسية تجرح هذا الكيان الضعيف، وهنّ (عامل الفقر، عندما يكون الفقر مؤسسة وراثية في العائلة، فالعائلة لا تملك أن تدفع للولد الخمسمائة دينار، لكي ينجو من العقاب ويكمل دراسته، والقانون الذي شرّع على ان تكون أجرة سيارة نقل المعلمات لمدرسته ليس على الدولة وهي في ضرف طباعة العملة النقدية في البلاد وخارج القانون الدولي النقدي، فهذا القانون جائر، فالناس لا تملك لأن الدولة لا تملك نقد مالي، وعدم الاهتمام بمستقبل الطفل الذي هجر مقعده الدراسي وما سيترتب عليه قادم السنوات التي أنتجت (صالحاً) ونوعية العمل التربوي وطرق التعامل مع التلميذ لبناء شخصيته من قبل المعلمة وفنتازيا الجملة (احسنت يا حمار) بدلالة المحبة، ومقدار الفراغ الذي يعيشه لحظة التدوين قصر الكلمات ليترك مساحة منقطة خلف جملة (الحمار الذي ضاع بالوديان) وغضبه على أنه ضاع كمتعلم وضاع والده في حرب لم تنصف عائلته حتى في غيابه كأسير حرب، وكعائد مساند لحملة التغيير وقادتهم وعملية تهميشه، ومن ثم موته وتركه في أعتى الرياح وهو متزوج وطالب ولا يملك من حطام الدنيا سوى الأنفاس.

التغييرات الاجتماعية تطرأ على المجتمع أما بشكل تطوري تدريجي وفق منهج واضح وبرامج معدة سلفا، واعدت المعالجات لعوائق قد تصادف المنهج العلمي التطوري وتطبيقه، أو منهج اجتماعي ثوري مفاجئ ومؤثر وجذري، فالمجتمع الذي نكابد العيش فيه، هُدِّم تدريجيا، فما بين ثوري أثر على حياة الفرد العراقي وبين ما سبقه يولّد الغضب والرفض، فقد ضاعت كل الطموحات الفردية التي يحملها كل فرد حسب تفكيره، ونظرته للحياة واحلامه التي ينغي تحقيقها (صالح رحيم) تلك البقعة الزاهرة التي اصبحت بلقعاً، فهو الباحث عن المشابه له، في شتى المعمورة ويستعمل هؤلاء كرموز يضع عليهم همومه الكبيرة ويخلص كاهله مما يرهقه كفرد معدم فمثلا اختياره (شوبنهاور) كعنوان لنص، هذا الرجل الذي بدأ مع والده التاجر السفر واطلع على مختلف البلدان وشاهدها ووثق ما رأى في كتاب أسماه (يوميات سفر) ووضع به الحياة بأفراحها وتعاستها حيث تعلم عدة لغات، ووضع نفسه أزاء مساوء الحياة، وكان سفره قد غمره وهو ابن السابعة عشر وبتعليم متوسط الشعور بالتعاسة، كما هو (بوذا)، لذلك جنّد نفسه ليجيب على سؤال : كيف نخفف من معاناة الحياة؟ .. أو بعبارة أخرى .. ما الوصفة التي من خلالها نجابه ضجر عالمنا وملله وبؤسه؟

فكلمة التعاسة القاسم المشترك مع (صالح) فقد ارسى لها مع القذارة قدرا كبيرا من المفردات في كتبه الثلاث، فالتعاسة لها مسميات ومصطلحات شتى تعنيها وتدل عليها لنقول عنه عاش تعيسا مثلاً، ولنقرأ جزء قليل من نص (لعبة العذاب) :

(أعيش مثل حبة أرز في قعر كوب الشاي، سهواً سقطت من طبق العائلة، لم ينتبه أحد إلى وجودي، ولا إلى ضياعي[7]) فهو يرى انه جاء عن رغبة جسدية، وسكن قعر الإناء فقط سقط سهواً، كما يسقط أبناء الفقراء في مختلف الأواني بعد متعة عابرة، فهو ينمو دون اهتمام ويكبر دون اهتمام لشتى الظروف، ويضيع دون أن ينتبه أحد له، إلا تشكل هذه الحياة تعاسة حقيقية لفرد في مجتمع إنساني يبحث في قيمة خلق الإنسان، لذا فعملية استحضار شوبنهاور لم تأتي من ترف كتابي.

إذن تشابه الحالة التي كان عليها (شوبنهاور) تشبه إلى حد ما حالة(صالح) مع فارق مالي كبير، فواقع صالح مرير وعقله يبحث عن حلول للمعاناة الحالية والمنتظرة، جعله ينظر في أعطافه، في بيئته ويتمنى أو يحاول الفرار من هذا الواقع إلى كرم الحقل والسنابل ليسقطه على العيش الذي يحلم، ومن واقع بيئي وهو حصاد الأرض حين ينقل خطواته واستدارات رأسه إذ يرى الطيور تتهاوى على مزارع القمح، والنمل بلا كلل ينقل الحبوب إلى ممالكه، وأن الرزق مساق بكرم السنابل، فيرجو أن يكون مجتمعه نسخة لما يتطلع إليه، فيقول:

أيام الحصاد

تعانق كل سنبلة أختها

فيتساقط القمح

دون تدخل الفلاح والمنجل

وتترك كل سنبلة

حصة للطير وأخرى للنمل

كرمى لفتاة جميلة مثل إبنتيً.[8]

ألاحظ أن (صالحاً) قلقا على ابنته التي ولجت الحياة، لكن سنابل البيئة بائرة من الحبوب، فهو كريم بمحبته لهذه المخلوقة العجيبة، فلا يرى تبدل للحياة مع قدومها، وعليه يجب أن يسعى لتغيير عالمه، وتستقر الزروع والطيور ويكف الصياد عن المطاردة، وتهجع الطريدة لتعيش باطمئنان، وتكف الرياح على أن تجرح كل ما تشبه ابنته، وعلى الرغم من سعادته على قدوم ورحيل الفتيات تحت مظلّة شوبنهاور التي يعتقد ألا أنه رافضاً لما يعانين من سوء التصرف للأسر وهدر حقوقهن/ لذلك كان يرجو أن تكون الحياة كعناق السنابل حيث يعيش عليها الطائر والزاحف والراكض، الصغير والكبير والأكبر وبتساوي الحقوق في خيرات البلاد.

بإطلالتي على حياته وجدت إشكالات تحيط به كعدو وعوائق تؤذيه كشاعر واهمها:

أ- عوائق اجتماعية:

"يخضع الفرد في العراق لهيمنة اجتماعية، تعود إلى البنية الاجتماعية التقليدية بالخصوص الأسرية، إذ لا زالت الشخصية الفردية تقدر التقليدية والخضوعية والعدوانية التسلطية والتراتبية[9]"، فهو يخضع لأعراف وقيم بعيدة كل البعد عن توجهاته وقلة الدعم مما دفعه إلى النفور وعدم التوافق مع المحيط الذي نشأ به وتطور فرديا وسط تراجع ملحوظ في البيئة بصورة عامة، كما يظهر الطلبة دافع ضعيف نحو التوجه الآيدلوجي المحافظ ودافع قوي نحو التوجه الآيدلوجي التحرري، ففي نص (كلهم بخير) وغضب من عملية التعامل الشكلي حول إشكالية اللون والعرق ضمن الطائفية الإنسانية، فالتقابل الطبقي من حيث النسب، ذهب هذا الرجل لمناقشته، في النص المشار إليه، إلى (زبيبة أم عنتر) ليكشف أعماق الشخصية العربية، وعمل الإنسان حين يتجرد من انسانيته، ومدى سخطه على الرغم من تعامله الهادئ وطريقة مناقشته لهذه الثيمة في المجتمع، موضحا التقابل في سخطه ورضاه، قبوله ورفضه، الحرية والرأي، في العيش وتساوي الحقوق والواجبات والتمييز على أساس اللون والعرق، (كلهم بخير) نص يتعدى التواجد الفعلي للجميع حيث (كانوا بخير) أما الآن لا، ولكن المخاطب (زبيبة) المرأة السوداء التي ديست بقانون الاستعباد والمتعة، والأم المحتقرة من قومها، وقد قال عنترة في اشعاره، الإزدواجية في التعامل معه، يقول صالح:

كلهم بخير

يعشقون ويقطعون الطريق

ينجبون الأولاد

يتمتعون بأشرف الأنساب

إلا أنتِ

كانت الحرية دماً مؤكسداً

يتشاطره في جوفك الغرقى

هنا الإعتمال الداخلي وأثره على تكوين الجملة الادبية الشعرية، بإيجاز عملوا كل شيء في ظل السطوة والحريات المتاحة لهم واختياراتهم ومصاهرة الأشراف من القوم وأنت أم بطلهم، وهذه المحاكات ليست لماضٍ تولى بل اليوم، هكذا يعامل الفقراء والمساكين لحماية الدهاقنة ضمن العرف السياسي السائد الذي أنجب مجتمع معاق عاد لألف سنة خلت، حيث يستتب الأمر لهم (إلا أنتِ) مستثناة لأنك لا تشبهينهم، ومساحة الحرية ملزمة بلون دمك المؤكسد، الدم المحترق في داخل هذا الجوف الذي استبيح، فولدك كأولادنا وحياتك في عصر الحرية عند الطبقة الضعيفة كانت (يتشاطره في جوفك الغرقى) لأنَّ كل الغرقى يتحول لونهم إلى الإزرقاق ثم إلى السواد عند تعرضه للهواء أو الشمس لكنهم أموات ونحن انت ولكننا أحياء، فالنتيجة وادة جميعا حيات رمل تذرى بالرياح دون مأسوفٍ عليها، هكذا ليقول خاتماً المقطع:

حياتك ذرة رمل لا أكثر

ذرة رمل سوداء اسمها زبيبة.

ب- عوائق ثقافية:

البيئة الاجتماعية تخضع لتقاليد وثقافة متوارثة وعادات أكل عليها الدهر وتناساها، ولكنها ماثلة تحيطه من كل الجهات، فالتوجهات الثقافية تتصف بثقافة جمعية وثقافة فردية وتختلف من الاتجاهات بحدوث انزياحات في القيم من التقليدية أي القديمة إلى الجديدة، والبارزة الحضور في المجتمع بفعل التطور الإعلامي والإنفتاح الفكري وهو نتاج الرفض للقديم عند الشباب، وخاصة أن الشاعر كمتطلع يطمح ليكوّن شخصية مستقلة ونفض الإضطهاد الثقافي التقليدي ضمن بيئته المحلية، وجدت الشاعر في كتابه السردي قد أماط اللثام عما يكتنزه من موروث ثقافي مغطى بشال (العيب) أي الخجل، وهذه ثقافة المنع العامة المتفق عليها والغير قادر أي شخص كسرها كتابو تتضمن لا حديث لشاب وسط الكبار، ومنع الجلوس وسط الكبار ومنع الدفاع عن نفسك وإن اتهمت زوراً من قبل كبير بالعمر وحين تقول لولي أمرك : يقول : أعرف ولكنه رجل كبير، ومما يماثلها من القضايا حتى تكبر ممسوخ الإرادة، وفي أغلب الأحيان تتنازل بفعل الوراثة عن حقك، وكذلك الثقافات الخاصة بحقوق المرأة ومكانتها وثقافة التواصل الاجتماعي فهناك العديد من النواهي المبتكرة التي يجب اطاعتها دون النقاش فيها لأنها من المسلمات الوراثية التقليدية العامة والتي تنتصر على الفردية، فصالح هنا في نص (المحو) من كتابه السردي (ليس للأسى نبع) يتلمس طريقاً نحو القمة الصعبة، ويعدُّ العثرات إجمالاً، ليخبرنا:

(خلعت نعليَّ وتقدمت متخذاً من العشب بوصلة للوصول إلى الجبل، العشبُ ليس دليلاً، فقد جرحتني نباتات ذات أشواك، وسقطت على وجهي عدة مرات بفعل سواقٍ صغيرة اعترضتْ طريقي بين وقت وآخر، أوصلني العشب إلى أرض ترابية وسقطت على وجهي سقطةٌ لم أنهض بعدها، فقدت القدرة على الوقوف..)[10]

محاكاة هكذا نص يصور ويتحدث عن صورة من واقع مرير، بالإمكان القول وهذا يشبه ما سلف ونكتفي، فالموروث الشعبي فيه الكثير من الاخلاق التي تنتمي إلى القيم العليا، ولكنه لا يصلح لكل العصور ومادامت الخليقة تبحث عن الجديد في ثقافة مختلفة ونحن نتبادل معها تجارياً وحضارياً وأدبياً فلابد من مؤثر تدريجي سيحدث في المجتمعات كمحايث ناتج من التواصل والتلاقح ليكون جزءً من المجتمع الآخر لا يشبهها ولكنه يتجذر بها، قد يوجد هذا في تطلع صالح الشاعر، ولكنه على الرغم من انتهاجه النهج المعتدل النامي ألا هناك الكثير من الأشواك في نباتات جرحته، وكثير من السواقي التي يعتبرها صغير على اغراقه أصبحت عثرات في طريقه نحو الرقي الذي هو ينشده، فاتبع لون الأمل فأسلمه التراب، ولم يصل الجبل، لم يصل القمة المنشودة، وهذه آخر سقطة أسلمته نهاية التطلعات، لو انتقلنا لمجموعة (ريشة لطائر منقرض) وخاصة إلى نص(سيرة الغبار) يخبرنا الشاعر، بأن الأماكن تكبر وتتسع حسب حالته النفسية، لا حسب كينونتها الحقيقية في الطبيعة، وتُحَب ويرغب فيها أيضا، فكرياً وخيالاً عبر ما تمنحه من ثقافة الولوج إلى عالم لا يتصوره الإنسان العادي، فيقول باللافتة الأولى:

مرة جربت أن أتسلل

إلى داخل ذرة غبار،

دخلت الذّرة،

فشعرت بسعة المكان

وآهٍ كم كانت الحياة

ضيقة، قُلتُ ..

وحينما يناقش ذرة الغبار ويؤنسنها على انها ممكن ان تشعرك بأنك على قيد الدنيا، يخلق لها فعلاً تقوم به، أو تسببه بقصدية، وبطريقة ذكية لتؤنسه وتشعره بانه حيٌّ، يقول:

فعلة ذكية من ذرة الغبار

أن تسب لي العطاس

كرسالة أنني

ما زلت في الداخل.

هذا الهروب العقلي من واقع ثقافي مبني على مالا يطيق أو يحتمل، فها هو يهرب إلى أصغر موجود الكون او الطبيعة الماثلة، لتشكل لديه متسع من العظمة والذكاء لتشعره على أنه حي، لأنه يناقش العلم، وبث الحياة في جسدة الذي أكلته آفة التخلف البيئي والمجتمعي المحيط.

ج- عوائق اقتصادية:

اعظم ما أنتجته المنظومة السياسية هو الفساد، وزيادة في تهديم البنية الاقتصادية كالبنى التحتية للوطن، ونهب المال العام، وظهور طبقة مخملية سياسية مهجنة فارهة، وزيادة بنسبة الفقر بين الشعب العراقي والسماوي كأعظم نسبة فقر في العراق، ومشكلة الفقر ترجع إلى عوامل خارجية تخص مسؤولية النظام الحاكم، وعوامل داخلية مرتبطة بالنفس البشرية، توضع على عاتق الفقراء أنفسهم وهناك دراسات كثيرة في هذه الجوانب، ولكن مدى تأثير الفقر على نتاج الشاعر وسخطه ورفضه لواقع وجد نفسه فيه مرغما، وما للفقر من عواقب نفسية فهو مشكلة اجتماعية حتى يصبح مؤسسة لها إعلام تبريري وناس تعمل على أدامتها، فالتزاوج بين الفقراء غير مبرر وكثرة انتاج أحفاد لزيادة حجم الفقر، وعدم المصاهرة مع طبقة أخرى لإيجاد منافذ للعيش، فالشاعر نتاج هذا المصنع المبرر بالقدر، والطوق المدام بثوب الرضا، وفقد كتب صالح:

ولدت في العاشر من مايو

في السنة الرابعة والتسعين من القرن العشرين

وقد كان والدي في السجن

فتجرعت المرَّ في المهد // حتى صار حلواً

وتغنيت وحدي في حظيرة الأصدقاء والأحبة

كان جدي رحمه الله

مغرماً بالنبي صالح وبناقته التي عُقِرت

فسمّني تيمناً باسمه

ولمّا كبرتُ رأيتُ الناس يعقرون كل شيء

رأيت الناس يعقرون الناس

وأنا لست نبياً لأنهى

أنا مجرد صالحٍ لا ناقة لي في هذا العالم ولا جمل

صالحٌ رأى الجمل يتطلع إلى نجاته من ثقب الإبرة!

أستشف هذا التهكم والرفض لحياته، اسمه لرجل عشق نبي، وحياته مغطاة بشال الفقر الوالد في السجن، فعلاقة الفرد بالجماعة والمحيط الاكبر وقد ولد في خضم صراعات دموية، فوالده في السجن، هنا فقد للدفء العاطفي لانتفاء أحد أطرافه، ومع بنية أسرية تقليدية، فالكل بالمعمل المتنامي من الأمية وقلة التحصيل العلمي، فالمستوى الإقتصادي المتقارب أو المتساوي عند الجميع، وإهمال نصفه بربات البيوت، فوجد أن الناس يعقر بعضها بعضاً، مع باقي الاشياء,

د- عوائق سياسية:

انتشار وانشطار في المؤسسة الحكومية وتحولها إلى دويلات لها قوانينها وأعرافها وسياستها بفردانية وظهور الدول العقيمة في الجانب الديني والاجتماعي، اوجد الكثير من الرفض الشعبي المتزايد، والذي يبدأ بحراك ثقافي أدبي والتعبير عنه علناً، وما ثورة تشرين الشبابية إلا مخرجات الغضب المتنامي في جوف الشباب ونظرة الضياع أدت إلى ظهور شعارات عميقة .. العامة(نازل آخذ حقّي) والخاصة المثقفة: (نريد وطن) وكلها في مصب نهر الرفض الذي أظهر الغضب الصادح، لذا شهدت الساحة الاحتجاجية الغاضبة تفاؤلاً لتغيير مع اصرار على التشبث بالسلطة من الفاسدين لما يتمتعون به من ثروات وسلطة، ولكن الشعب تنوع من حيث المشاركة، والوقوف بعيدا، ومؤيدا وفق آراء مختلفة ولكن الفاسدين انتصروا، بعد أن أوجدوا منافذ لتغيير المعادلة وزج القوة المناهضة في حرب مصيرية في حرب داعش، فانتصرت الهوية الوطنية لتقف على اعلى السلم ثم الدينية والطائفية والقومية والعشائرية، من هنا أجد أن الشاعر ككائن متفاعل مع كل ما يحيط به كعراقي يعد الخيبات المتلاحقة، ينتج نصا (وجوه متعددة لجمجمة واحدة) في مجموعة أهناك من يرى؟، يطرح علينا ما يراه بصوفه غاضبا مما يحطنا ويشمله فيقول للوطن:

آه يا وطني

كم من مرض مزمن

احصيت حتى الآن

وكم من منهم قضى نحبه // وكم ينتظر,

يبدو أن هذا هو حتفنا // من الأبدية الفاجرة

أمل ينطوي على نفسه //وآخر يبتكر شكاً

لكل حقيقة مطلقة // نحن الذين تساقطوا

من شجرة دون الاهتمام.[11]

هذا الجزء السردي مما اورده ضمن النص المذكور أعلاه، يختصر ما أشرت إليه سلفا عن حالة الفرد الرافض والغاضب بفكر حر لا من غضب إنفعالي جاهل، فهو يرى ويكابد ويترجم غضبه.

مشكلات تنامي الغضب

مشاكل الطبقة الضعيفة:

تعاني الطبقة الضعيفة في الوطن من مخرجات الظرف الحالي والسابق من (الفساد، عدم المساواة، الفقر، الفرص، التمييز الحزبي والولائي)

مشاكل فردية:

ونتجت من عدة عوامل سالفة الذكر ومنها: (الأمية، والحروب، الانحراف الجرمي والجنسي، المخدرات، واللا مبالات، والهدف المالي).

تغييرات اثرت نفسياً

ظهور العديد من المنظمات الانسانية الصورية والرابحة حقيقةً، والمتغطية بأردية شتى كالتجسسية والداعية إلى المثلية والإباحية لهدم القيم الأسرية وابراز قيم بديلة لثلم سور الاسرة العراقية، الموجهة من اعداء الدين والمجتمع وفق أيدولوجيات مختلفة، فأصبح الوطن ساحة التجريب والتخريب والاهدار.

ظهور الاوبئة وتزايد حالات الأمراض المستعصية كالسرطان والتشوهات الخلقية ونقص الأدوية وتفشي ظاهرة المتاجرة بالأعضاء البشرية والأرواح بسبب مخلفات الحروب.

المناظر البشعة في السوشيل ميديا ومدى تأثيرها على الحالة النفسية وعدم الفهم بالدراسات العالمية ومعرفة ما يرغب الفرد الشرقي والتنبؤ بمستقبله وفق ما يهوى ببرامج مسمومة ومدعومة بوسائل عالية الدقة بجمع المعلومات ومعرفة الأهواء والتوصل لمعرفة التفكير الفردي .

ضياع القانون العملي والتنطع بالقانون الورقي والتلفازي اللفظي، وجر الشعب وفق درج استهتاري بما اوجدته الشرائع بإدخال ما يخالفها على أن الجديد أصلح.

هدم القيم الدينية الباقية بوفادة القوانين الغربية والازدواجية، وتشوية الذوق وتضعيف الأمر الديني واغواء الانحراف الجنسي بإفشاء المثلية والجندرية، وطمس تكريم القيمة الإنسانية المقدسة ليتساوى مع الحيوانات وزواج النوع الواحد والله العالم بالقادم.

ظهور العصابات الإجرامية المنظمة بمختلف أنواعها وخطورتها على النفس:

(المليشيات التابعة للأحزاب والكتل، العصابات السياسية، العصابات الخارجية والداعمة للخونة، عصابات السلب والنهب والقتل، عصابات الطائفية، عصابات الغش والنصب)

عملية تجاهل ما يسمع وما يرى، هي عملية نفسية طاردة أصبحت لدى الشخص العراقي لأن النفس دائما تحاول النأي عن المؤذيات، وطرد المنغصات وتجنب الخوض بها، وهذا عامل فطري في النفس البشرية.

نتائج البحث:

الغضب الفكري ناتج من عملية القراءة والاحتكاك والاطلاع ومقارنته مع الوضع الراهن. الشاعر (صالح رحيم) والتي انطوت على تكوينه كانسان وحالات الغضب التي تعتريه من جراء الإثارة التي تتعارض مع تطوره الفكري، وبدوافع مختلفة ولدت لديه ردود أفعال أزاءها.

الرفض يولد الغضب نتيجة لظروف إقتصادية معيشية كالفقر وديمومته من قبل الأسرة وباقي المحيط المجتمعي، فالشاعر المؤرق من قضايا أججت به البحث عن الحلول التي يراها من الضروب المستحيلة، مما أدى به إلى وضع نفسي مرتبك، فالغضب عند القدماء ممن ينشدون الشعر، يأتي ما بين التهديد والوعيد ودعوة الخاطئ إلى الصلاح.

رفض الواقع هو تطلع الطلبة والادباء ومنهم الشعراء إلى التحرر من قيود التوجهات الآيدلوجية التقليدية. فصالح يرى أن الظروف المحيطة لا تلتزم بحدود ولا في الأفق إلى إصلاح، وقد استنفذ صبره وقد تعالت ثورته الذاتية فأنشد نشيده الغاضب، وذلك للتمادي على كينونته وعدم مراعاة الحقوق.

الوضع السياسي السائد وتفشي منظومة الفساد والذي اصبح اخطبوط تتواجد أذرعه في كل أماكن الدولة وبناها التحتية، فالشاعر يرى أُهينت القيم العليا لذا فمقدار ما ضاع خلال سيره الجديد في دروب الحياة استنفر طاقته ليقول على الورق وفي وسائل التواصل الاجتماعي، فهو يمتلك الشجاعة لطرح أفكاره ومقدار الحمية التي يحمل للذود عما يؤمن به.

الحالة النفسية ابتداءً من النشأة الأولى إلى انهزام الاماني يولد الضغط النفسي الذي يجعل النتاج الأدبي ساخطا رافضا، فقد غلب على طرحه الفنتازيا المبطنة، والرفض، والغضب، والشدة، فما تعرض له من تجريح وطعن وغبن وانتقاص في الحقوق فجر به غضب الماء لإشباع الداخل بثورة نفسية طاغية.

الثقافة التقليدي لمجتمع الطبقة الضعيفة، وبناها الهشة، والحاجة المستمرة للمتلسط أوجد الغضب الشعري في نتاج الشاعر.

فقدان الأمل وظهرو عوامل نفسية لتراكمية اجتماعية تخص الهوية العراقية والسيادة.

***

عيال الظالمي

.........................

[1]. اهناك من يرى؟، صالح رحيم، ص 11.

[2] ليس للأسى نبع، صالح رحيم،،مطبعة لازورد، 2022، ص5.

[3] ريشة لطائر منقرض، صالح رحيم، ص8-9.

[4] ريشة لطائر منقرض، صالح رحيم، ص12.

[5] ليس للأسى نبع، صالح رحيم، ص10 كتاب الكتروني.

[6] ريشة لطائر منقرض، صالح رحيم، دار الدرويش، بلغاريا، 2020، ص5.

[7] ليس للأسى نبع، صالح رحيم، ص29 كتاب الكتروني

[8] المصدر السابق

[9] الخيبة والأمل في العراق، لؤي خزعل جبر، دار مسامير،2023، ص54.

[10] ليس للأسى نبع، صالح رحيم، مطبعة لازورد، 2022، ص43.

[11] أهناك من يرى؟، صالح رحيم، ص82 كتاب الكتروني.

 

للشاعر يحيى السماوي

تشدني رائحة القهوة من ياقة الشعر، نحن في محافظة السويداء جنوب سورية نفتقد المقهى، ونستعيض عنه بالمضافة التي لا يخلو منها بيت تقريباً، ورمز الضيافة فيها القهوة العربية المرّة.

قراءة القصيدة:.

يبدأ الشاعر رحلته قبل الفجر، مدفوعاً بشوقٍ داخليٍّ أشبه بالضرير الباحث عن الضوء، متجهاً إلى مقهى "رضا علوان" في الرصافة البغدادية، الذي يرفعه إلى مرتبة "المعراج" الروحي. المقهى هنا ليس مجرد مكان، بل محطة وجدانية حيث ينبض قلبه بالمتناقضات: الماء والنار، الهدوء والاشتعال. يصل الشاعر مبكراً، فيتحول الانتظار إلى عبء ثقيل، كصخورٍ يُرهق ظهره حملها. الوقت هنا جامد وقاسٍ كالحجر، يصعب المرور فيه، راجياً أن ينتصف النهار بسرعة حيث موعده المنتظر. هذا الانتظار المرير يبحث فيه الشاعر في وجوه الحاضرين عن أمل أو خلاص.

الخلاص المرجو يتجسد في صورة "إينانا" إلهة الحب والجمال السومرية، التي ترمز للمحبوب أو للمصدر الذي ينسج له برداء من بهاء الحياة "قميصاً من زهور الجلنار". حضورها يحوله إلى "أنكيدو" الصديق البريء في ملحمة كلكامش، فيستعيد شبابه ولهوه: مسامرة البدر ليلاً وملاحقة الغزالة نهاراً. لكن الواقع قاسٍ، فالوقت يتحول إلى جمر ملتهب، ويجد الشاعر نفسه كـ "سومري جائع عطشان" رمز للإنسان العراقي- الإنساني المعذب، يفصله عن النهر - مصدر الحياة والخلاص وادٍ قاحل "غير ذي زرع" إشارة قرآنية تعزز معنى اليأس والعطش. في هذا العطش، يتوسل إلى "وردة الكرز الخرافي" رمز للجمال والخيال أن تروي ظمأه بكأسٍ من "زفير الزعفران" شراب صوفي مرغوب لكنه وهمي وصحن ريحان وظلٍّ يقي من حرّ القفار. بحثه عن ملاذ يتجلى في تحديقه بنهر الأنوثة في لوحة زيتية على الجدار، وهو نهرٌ جميل لكنه غير معيش، مجرد صورة معلقة.

مع اقتراب اللقاء، يتحول الوقت إلى "صاب" نبات مرّ المذاق- ، لكن المسافة بينه وبين "الشهد" المحبوب- اللقاء تصبح قصيرة جداً، أقل من مسافة بين خاتمها و"زيق قميصها" - ياقة ثوبها أو بين معصمها الناعم كالسفرجل والسوار. هذه التفاصيل الحميمة تعكس شدة القرب والتوق. مع اشتداد الحر الوقت من شوك- ، يتحول الشاعر داخل المقهى إلى "شيخ طاعن في العشق" رغم تجاوزه السبعين، سجين وجده. يرقب بلهفة "هدهد البشرى" - الرسول المبشر ليأتي بخبر دخوله الفردوس اللقاء- الخلاص كطفلٍ بريء، لكنه محبوس في كهف صبابته المنعزل "لا يزور ولا يُزار".

يتمنى لو تعيد "شهرزاد" حكاءة ألف ليلة وليلة ترتيب الحكايات، فيتحول هو من "سومري" معذب إلى "شهريار" الملك الذي استسلم لحكايات شهرزاد واستعاد إنسانيته- ، أي يتحول من المعذَّب إلى المؤرَّق بالعاطفة والقصص. لكن أمل اللقاء الوردي "الموعد الوردي" عند منتصف النهار يتحطم. يأتي الضحى والموعد يمر دون أن يتحقق. الوقت الذي كان ينتظره كسمك وخبز عند دجلة - رمز للوفرة واللقاء يمر سريعاً كعصفورٍ خائفٍ من نسرٍ فطار. خيبة الأمل قاسية.

في النهاية، يعود الشاعر إلى بيته في السماوة - مدينته- ، شيخاً منهكاً، خطاه خافتة، وحيداً يُناجي ذكرياته في عزلة تامة "لا أزور ولا أزار". المقهى الذي بدأ كـ "معراج" ينتهي ككهف عزلة، واللقاء المنتظر يتبخر، تاركاً الشاعر وحيداً مع عبء السنين وحرقة الصبابة التي لم تطفئها السنون. القصيدة هي سيمفونية من الشوق والانتظار والخيبة، تُصوِّر الزمن العراقي القاسي والوجع الإنساني العميق، من خلال رموز أسطورية ودينية وواقعية، وتجعل من مقهى رضا علوان مسرحاً كونياً للتجربة الوجودية.

***

بهيج حسن مسعود

.....................

للاطلاع على القصيدة 

https://almothaqaf.org/nesos/981961 

 

براعة المتن الروائي يشتغل على عوالم مختلفة، في أحلك الفترات المظلمة التي مرت على العراق، التي تميزت بالعنف الدموي المفرط ونهج الإرهاب المشدد با على درجات البطش، الذي يمثل قوام الدولة البوليسية الفاشية، في اطلاق العنان الى رجال الامن، في بث الرعب والخوف، كما هو في فترة حكم البعث، وتوج الى اعلى القبضة الحديدية، بعد تولي صدام حسين، وازاحة الرئيس احمد حسن البكر، وتصفية تقريبا نصف اعضاء القيادة القطرية ومئات الكوادر المتقدمة في قاعة الخلد، او في مجزرة قاعة الخلد، ولم يقتصر التصفية والابادة على اعضاء حزب البعث، الذين عارضوا اغتصاب السلطة من قبل المجرم صدام حسين، بل سبقتها حملات الاعتقالات المستمرة ضد أعضاء الحزب الشيوعي واليسار العراقي عامة، في زجهم في الاعتقالات والسجون ووضعهم تحت المراقبة الامنية، وفي ممارسة التعذيب الوحشي، التي تنتهي الى الاعدامات الفورية دون محاكمات، او محاكمات صورية سريعة، هذه فترات الرعب البعثي، سجلت أحداثها الدقيقة في صياغة الأحداث السردية في المتن الروائي، على لسان السارد العليم (نضال) وهو يعود بذاكرته في تسلسل سيرة حياته منذ طفولته في إحدى المناطق الكردية، التي تميزت بالفقر وصعوبة شظف المعاناة المعيشية للفئات الفقيرة الكادحة خاصة، وبعدها انتقال عائلته الى العاصمة، والحياة تسير من السيء الى الاسوأ في تهجير الاكراد، وزادت اكثر وحشية في زمن البعث، في حملات تهجير، تمثلت اما رميهم في الصحراء، أو رميهم خارج الحدود، في اسلوب هجين خالي من ادنى الشروط الانسانية، بل كان هدفها ابادة القومية الكردية بكل الاساليب الفاشية والعنصرية، وتوجت بأستخدام السلاح الكيمياوي، وشن الحروب الخارجية في اعلان الحرب ضد ايران، وممارسة الارهاب بالقبضة الامنية، تنال كل مواطن لم ينتمي الى حزب البعث، او عليه شبهات بالانتماء الى الاحزاب المعارضة، حول الحياة العامة الى الرصد والتنكيل، لكل من يكون خارج أسطبل البعث، هذا التوثيق الروائي، يمثل شواهد شاخصة في التفاصيل اليومية، كما تناولت المسائل الاجتماعية في العقلية بالايمان بالدين، والاعتقاد في الخرافات وحكايات الشياطين، الذين يجتمعون في جنح الليل في الازقة المظلمة للبيئة الفقيرة المعدمة، وفي تناول مجريات الامور المعاشية في اسلوب واقعي هادف ورصين، كما عاشها فعلياً (نضال) وتجرع علقمها المر، منذ طفولته، والى مراحل حياته الاخرى، في التفاصيل اليومية الدقيقة، التي لاتخلو من انتقاد حاد، ومنصات السخرية المضحكة والتراجيدية، اي بين الملهاة والمأساة، كما ان (نضال) شارك في خضم الاحداث السياسية والحزبية بنشاط، رغم الاخطار الجسيمة التي واجهها من قبل اعضاء الاتحاد الوطني لحزب البعث، او من وكلاء الامن، الذين وضعوه تحت مجهر المراقبة والترصد في حياته اليومية، ان معالم السرد الروائي كثيرة ومتشعبة في الشخوص المحورية، والشخوص الفرعية، هذا الكم الكبير من احداث المتن الروائي، يمكن اجمالها في خيوطها الاساسية.

1- نضال: تقمص دور السارد العليم المتكلم

نشأته في بيئة كردية فقيرة تعاني البؤس والظروف المعاشية الصعبة، تربى في عائلة كبيرة العدد (ثمانية اشقاء وثلاث شقيقات)، ترعرع تحت رعاية أمه بالحب والحنان، كانت بحق كادحة ومثابرة، وتفسر الاشياء والاحداث بذكاء وروية رغم إنها (إن أمي كانت امرأة أمية، إلا أنها كانت واعية ذهنياً، ومتنورة، مدرسة خالدة نابضة بالحياة، متسامحة، لا تحمل أية ضغينة تجاه الآخرين، كنت أصارحها بكل شيء) ص28، إلا أنها كان يساورها القلق والخوف على إخوته الكبار، بسبب انتماءاتهم الحزبية للحزب الشيوعي، ويصيبها بالرعب من مداهمات الحرس القومي لمنزلهم، خشية الاعتقال بعد انقلابهم الدموي المشؤوم، منذ الصغر بدأ شغفه وحبه الشديد الى عالم السينما والفن، ويواظب في الحضور في دار السينما الوحيدة في مدينته، وبعد ثورة 14 تموز أصبحت ثلاث دور سينمائية، يرتادها الناس بشغف متواصل، منذ الصغر تشبع ببعض الخرافات واساطير الجن والشياطين، التي تتجمع في جنح الليل في الازقة المظلمة، لخطف الاطفال، ويوماً وقع في إشكال صعب، مر في زقاق مظلم متجهاً الى منزله، وبدأت تساوره المخاوف والقلق من خشية اعتراضه وخطفه في المكان المظلم والموحش وهو يتبول في مكان مظلم (وشعر بالارتباك في هذه اللحظة المصيرية، وكطفل، وقع في الخطيئة، ينبغي أن يعاقب عليها، حيث أني عملت شيئاً مخالفاً للعقيدة، حين لقنتني والدتي ألا أتبول في سواد الليل، لان ذلك كما قالت: (يؤدي الى تجمع الشياطين حولي) ومع ذلك عصيت كلام أمي، بل ربما هذا العصيان، بدعوته هذا قد يلحق مصائب الدنيا وكوارثها، فكل ما يصيبنا من سوء الحظ فهو من رجس الشيطان) ص44، لكن كظم خوفه وقلقه، وواصل تبوله، انهى مهمته بصعوبة وواصل مسيرته نحو بيته، رغم نباح الكلاب تلاحقه، لكنه شعر بأنه انتصر على الشيطان وخرافاته المخيفة، وحينما دخل البيت، ورى الى أمه انجازه العظيم، في معركته الوهمية مع مخلوقات غير مرئية، نعم انها معجزة في تحدي الشيطان. انتقلت عائلته الى العاصمة ودخل المدرسة الابتدائية، وكان يشكو من النطق العربي الصحيح، فكان محل سخرية وتندر من التلاميذ، لذلك اشتكى احد اصدقائه الى المعلم بقوله: أن نضال، طالب جديد من القومية الكردية، لا يلفظ الكلمات بصورة صحيحة، وهذا الدافع عزم على الدراسة والموظبة وتعلم النطق باللغة العربية بشكل صحيح، حتى نال التفوق الأول في مدرسته، وبعدها دخل المدرسة المتوسطة، وتلمس الفرق الكبر بين المدرسين، منهم من يؤدي مهمته الانسانية، بجدارة ومسؤولية وينال احترام الطلبة، ومنهم العكس ذلك، يتعامل بخشونة ولا يقبل اية ملاحظة، يواجهها بالحقد والكراهية، مثل الاستاذ (فاضل) حين ابدأ حد الطلبة ملاحظة، بأنه يلقي الدرس بالاستنساخ الحرفي من الكتاب، دون ان يزيد او ينقص حرفاً، فظهرت ملامح التشنج والعداء من الاستاذ، وبدأ يضرب بشكل عدواني مبرح، كأنه في حلبة تمرين لجسد الطالب المسكين، اشبعه ضرباً ورفساً في كل خلية من جسمه، كأنها صورة طبق الاصل من التعذيب الوحشي من الأجهزة الامنية البعثية، في التعذيب والرمي في احواض التيزاب للمعارضين بقيادة مجرم العصر المجرم (ناظم كزار) في قصر النهاية، والذي قتله صدام حسين شخصياً بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة،. وفي مرحلة الإعدادية بدأ حبه الشديد والطاغي في قراءة الكتب الأدبية والسياسية، اضافة عشقه الى السينما والفن كذلك حبه في الرياضة في مجال العاب الساحة والميدان، وكذلك شارك في النشاطات الحزبية للحزب الشيوعي، رغم ان هناك الجبهة الوطنية بين الحزبين البعث والشيوعي، لكنها كانت فخ ومصيدة في تصفية الحزب الشيوعي، بفتح المعتقلات والسجون، والمتابعة الامنية في قبضتها الحديدية، وتفاقمت الازمة السياسية في عام 1979، حين استولى صدام حسين على السلطة، في إجبار الرئيس أحمد حسن البكر على التنحي، وتصفية بالاعدام تقريباً نصف اعضاء القيادة القطرية، ومئات من الكوادر المتقدمة لحزب البعث، جمعهم في قاعة الخلد، وعرفت بـ مجزرة قاعة الخلد، لإشباع غرائزه التسلطية (كان طموحه النرجسي ان يتوج نفسه بطلاً للامة العربية، أو حتى القائد الاوحد للامة برمتها، وكان على استعداد للتضحية بأرواح الناس، ومستقبل البلاد لتحقيق أهدافه الشريرة ومن اجل الوصول الى هذا الطموح، كان لابد من البحث عن وسيلة تمكنه من تحقيق ذلك، ومن هنا بدأت معاناة الناس في تصاعد، عندما هام القائد المفدى الشروع في تنفيذ مآربه الشخصية) ص127. وكذلك لشخصيته المتكبرة بالغطرسة المفرطة، ان يشن حرب مدمرة مع إيران عام 1980 (اندلعت نيران الحرب ضد ايران عام 1980 التي اشعلها الرئيس العراقي صدام حسين، واصرار الخميني فيما بعد على عدم وقف هذا الدمار والخراب، الذي استمر ثمان سنوات من الالم الاذى، واودت بحياة اكثر من مليون إنسان بين قتيل وجريح ومعوق، على الرغم من كل المآسي، إلا أن صدام لم يتعظ من خسارته الاولى، بل ادخل جيشه في حرب محبطة اخرى خاسرة مع دولة الكويت، فأهلكت كاهل الدولة التي دفع العراقيون ضريبة ذلك، بسبب عنجهية وغطرسة رأس النظام، عن طريق تجويع الشعب العراقي في حصار ظالم) ص129. دخل (نضال) في أول مغامرة عشقية في الغرام، لكن نتائجها كانت فاشلة، في مواصلة الحب فانقطعت العلاقة بين الجانبين. وحين انهى المدرسة الاعدادية، واراد ان يواصل تحصيله الدراسي بالدخول الى معهد الطب الفني، وجد عقبة تحول دون قبوله، وهي ينبغي ان يحصل تزكية من الاتحاد الوطني البعثي، حاول ان يقنعهم بأنه مستقل ليس له علاقة بالسياسة لكن لم يقتنعوا بكلامه، وطالبوا منه بالتوقيع على استمارة تعهد، بأنه لم ينتمي الى اي نشاط حزبي عدا حزب البعث، رفض التوقيع على الاستمارة بعدم الانتماء إلى اي حزب آخر، وإذا أخل بالتعهد، سيعرض نفسه لعقاب شديد، ورفض التوقيع بذريعة (قلت:

- ولكن تحت هذا السطر ارى الورقة فارغة، من يضمن لي انك لا تملي الاستمارة اني مديون بمليون دينار بعد مغادرتي، وانا فعلاً وقعت على الورقة) ص154 ولكن بعد تدخلات جانبية، تم قبوله في معهد الطب الفني، لكن وضع تحت مجهر المراقبة الامنية، وعند انتهاء فترة الدراسة والتخرج، لم يجد اسمه ضمن قائمة التعيين، فتأخر تعينه ثماني شهور، زادت تعقيدات الأزمة السياسية نحو الاسوأ، زادت حملات الاعتقال والمطاردة ضد أعضاء الحزب الشيوعي، وجاء اعتقال شقيقه (حاذق) ادرك بانه الهدف المقبل في الاعتقال، طلبت أمه ان يهرب وينجو بنفسه والدموع تغرق عينيها (- اهرب يا بني لا احتمل خسارتك ايضاً.

وأضافت:

- هذه مملكة الرعب، حكم القمع، واغتصاب الحريات) ص226. فاستغل الوقت المناسب للهروب من مملكة الرعب والموت.

2 - حاذق: أعدم عام 1985. سيرته الحياتية، أنه أصغر أشقاء (نضال) شاب وسيم حلو المعشر بين الناس والطلبة، يبلغ من العمر ثلاث وعشرين عاماً. طالب جامعي في السنة الاخيرة من كلية الطب، يتميز بمواهب متعددة، في مجال الموسيقى والرسم والأدب والصحافة، وناشط في الحزب الشيوعي، يمتلك الوعي والحكمة وصفاء الذهن، يتحمل بصبر باستمرار استفزازات الاتحاد الوطني، وكان مراقب تحت عيون رجال الأمن، ينتظرون الفرصة السانحة لنهش لحمه، كالذئاب المسعورة.خلال تصفية حزب أعضاء الحزب الشيوعي جاء دوره في الاعتقال، لكن بحجة سخيفة، بأنه مهرب، فاحتجت أمه بالغضب في وجه رجال الأمن (أبني طالب جامعي) غيروا لهجتهم في التعامل بقول أحد رجال الأمن (- وداعتج خمس دقائق ونرجعه واخذي من هالشوارب) 271. لكن أدرك حاذق انه الوداع الاخير، صوب كلامه صوب أمه بقوله (يا أمي... لا تفكري بي بعد اليوم) فانفجرت بالبكاء المر، وشعرت بأن السماء ملبدة بالغيوم السوداء المشؤومة، هذه تعبر عن حالة الإرهاب المفرط للدولة البوليسية (عبرت تلك الأساليب البربرية عن ايديولوجية فاشية مدمرة ترمي الى افراغ الانسان، من بوتقة انسانية وقيمة نبيلة، وجعله آلة جامدة غير قادرة على التفكير، سوى ترديد نغمة واحدة، يحيا قائد الضرورة) ص225. وفي عام 1985 في ليلة شتوية باردة كانت العائلة مجتمعة حول (صوبة علاء الدين القديمة) طرق بابهم احد رجال الامن بابهم وابلغهم، بأن عندهم موعد في سجن ابو غريب لمواجهة ابنهم حاذق. تيقنت الام بأن هذا الموعد المشؤوم يدل على إعدام حاذق، ولم تنم العائلة لك الليلة في هواجس الخوف والقلق، وعندما ذهبوا في الصباح تيقنوا خبر إعدام حاذق في استلام جثته، فصرخت الام بكل شجاعة وجسارة في وجه حراس السجن بقولها (- سوف ارى عدي وقصي في هذا التابوت يوما ما يا أوغاد ؟) ص289.

3 - سرقة المسدس من رجل الامن: نتيجة منطقية لرد الفعل والعمل تجاه الاساليب البطش والارهاب المفرط ضد اليسار عامة. تنتج ردات فعل متطرفة نتيجة الشحن الفعل الثوري (- الحياة تعد ساحة حرب، تتطلب من الإنسان المجازفة، في اختيار خططه، وبراعته، والمجازفة لا تعني ان التجربة قد تمضي الى تحقيق الهدف المنشود، وإنما هي خطوة نحو تحقيق الأفضل) ص132. والتشديد على الوعي في السلوك في الاختيار اللحظة المناسبة للفعل الثوري، جرى هذا النقاش الساخن بين الأصدقاء في جلسة شرب في نادي ليلي، يرتديه ايضاً بعض رجال الأمن، خلال نقاشهم، لاحظ أحدهم بأن احد رجال الامن ترك مسدسه على المغسلة، وتوجه نحو المرافق الصحية، فانتهز الفرصة الثمينة في سرقة المسدس، والخروج بسرعة من النادي الليالي، قبل وقوع المحظور وتكون العواقب وخيمة عليهم، ولكن بعد التحري والمتابعة والتحقيقات الأمنية المتشددة، عرفوا السارق، والقيء القبض عليه ومات في التعذيب الوحشي، وبدأت ملاحقة أصدقاءه والمشاركين في عملية السرقة والتستر عليها، ومنهم (نضال) لكنه أنكر علاقته به، لا من بعيد ولا من قريب، ولكن أخذ الاحتياطات الضرورية، لأنه وضع تحت عين المراقبة الامنية.

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد

 

يبدو (أبو الطَّيِّب المتنبِّي) أحيانًا أكبر منافقٍ عرفه الشِّعر العَرَبي، وفي هذا الباب كان يكدُّ قريحته.  ولذا لم يُنتِج شِعرًا يُذكَر كما أنتج في غرض المديح. ولعلَّه لم يَصْدُق في بيتٍ منه، باستثناء بعض قصائده في (سيف الدَّولة).  هكذا زعم (ذو القُروح). فقلت:

ـ وهذه مأساة ثقافيَّة حقًّا أن يكون شاعر العَرَبيَّة الأكبر هكذا.

ـ شاعر العَرَبيَّة الأكبر؟ من تقصد (المتنبِّي)، أم (الجواهري)؟!

ـ ألقاب مملكةٍ في غير موضعها! وهذا الأخير إنَّما نُحِل هذا اللقب الفاحش في العصر الحديث، اعتباطًا!

ـ لقد ظلَّ «شاعر العَرَبيَّة الأكبر» هذا- بتلك الشخصيَّة المريضة- مفاخرًا ببطولاته في التسوُّل، بلا كرامة إنسانيَّة:

لا تَجْسُرُ الفُصَحاءُ تُنشِدُ هَاهُنا      

بَـيْـتًا، ولَكِـنِّي الهِزَبرُ الباسِلُ!

ـ ويا له من هِزَبْر باسل، في غير ميدان الهَزابر والبَسالة! 

ـ نحن عادةً لا نقرأ شِعر (المتنبِّي) بعقولنا، بل بعواطفنا، وبما لُقِّناه في مدارسنا من تصنيم شأنه وشأن شِعره، لنتولَّى ترديده لمن بَعدنا. ولا ريب أنه بارع جدًّا في لُعبة النَّظم العَروضيَّة، لكنَّه كثيرًا ما بدا منحطًّا جِدًّا بمقاييس النقد الإنساني، الثقافي والقيمي، وربما بمقاييس الجمال الفَنِّي أيضًا.

ـ كنتَ قد قلتَ: إنَّ معظم الرائع من شِعر (المتنبِّي) في مقدِّمات قصائده، أمَّا ما بعد المقدِّمات فتقليديٌّ نَظميٌّ غالبًا، مدحًا أو هجاءً أو رثاءً.

ـ بل إنَّ مقدِّمات قصائده نفسها لا تخلو من النَّظم الذِّهني البارد؛ لأنَّ نصيبه في الحُبِّ والغَزَل صِفر.  اللَّهم إلَّا حُبّ منحوتاته الشِّعريَّة، على طريقة (بيجماليون)، حسب قصيدة الشاعر الروماني (أوفيد Publius Ovidius Naso، -17م) السَّرديَّة، بعنوان «التحوُّلات Metamorphoses».  انظر، على سبيل النموذج، إلى قول (أبي الطَّيِّب):

لقَـد حـازَني وَجْـدٌ بمَـنْ حـازَهُ بُـعْدُ

فـيَا لَـيْـتَـني بُـعْدٌ ويـا لَـيـتَـهُ وَجْــدُ

أُسِـرُّ بتَجديـدِ الهَـوَى ذِكْـرَ ما مضـَى

وإنْ كـانَ لا يَـبقَى له الحَـجَرُ الصَّلـدُ

سُـهادٌ أتـانـا منكِ فـي العَـينِ عِنْدَنَـا

رُقــادٌ وقُـلَّامٌ رَعَـى سـرْبُـكُـمْ وَرْدُ

مُـمَـثَّـلَـةٌ حـتَّى كـأنْ لَـمْ تُـفـارِقـي

وحتَّى كأنَّ اليأسَ مِن وَصْلكِ الوَعدُ

فيبدأ القصيدة بأداة التحقيق (لقد)، وكأنَّ تلك قضيَّة فكريَّة شائكة، تقتضي التقرير، والتحقيق، والتأكيد، والتشديد في الإثبات! وكأنَّ المتلقِّي كان يهمُّه مثل هذا البيان التقريري عن علاقة الشاعر بصاحبته، وهو يخشى إنْ لم يحقِّق له الأمر بـ«لقد» أن يساوره الشك، لا قدَّر الله!  وعبارة (لقد) لا تَرِد إلَّا في السياقات الجدليَّة، التي تقتضي التحقيق والتأكيد، إجابةً عن سائل، أو شاكٍّ، أو ردًّا لشُبهة، أو إنكار. وهو ما لا يناسب سياق (المتنبِّي) في التغزُّل؛ فما لنا ولشؤونه العاطفيَّة، ليتصوَّر أنَّنا متطلِّبون منه ضربَ الهامات بـ(لقد)؟!

ـ وهو يوردها في أوَّل كلمةٍ من مطلع القصيدة؛ وكأنَّ تلك قضيَّة خلافيَّة بين الناس، وما قال القصيدة إلَّا ليجلِّي الحقيقة بشأنها، وأنَّه، والله، «قد حازَهُ وَجْدٌ بمَن حازَهُ بُعْدُ»! ومن يتتبَّع استعمال (لقد) في «القرآن»، يعي مواضع استعمالها السليمة. ثمَّ ما حكاية «الحيازة» هذه؟ «حازَني وَجْدٌ بمَنْ حازَهُ بُعْدُ»؟! 

ـ يقال: حازَه يَحُوزُه، إذا مَلَكَه وقَبَضَه واستبَدَّ به.(1) وهو معنى لا بأس به، لكنَّه لا يخلو من تكلُّف هاهنا.  ثمَّ انظر إليه كيف يختم بيته: «فيَا لَيْتَني بُعْدٌ ويا لَيتَهُ وَجْدُ»؟ مكرِّرًا الشَّطر الأوَّل، في ضربٍ من الطَّيِّ والنَّشْر.  وهكذا في تلاعبٍ رياضيٍّ بالألفاظ، أشبه بأعمال الحُواة بالأفاعي منه بوجدانيَّات العشَّاق، وما تقتضيه من رِقَّة التعبير والتصوير، والتعويل على نبض الرُّوح، لا على معادلات الذِّهن!  وحسبك بهذا المطلع عن تحليل سائر الأبيات، التي نُسِجت على المنوال عينه.  وشتَّان بين هذا التكلُّف وبين جَمْع شاعرٍ آخَر بين عُمق التصوير وعذوبته، وهو (ابن خفاجة الأندلسي)، في قصيدةٍ له من عشرة أبيات، تكاد من الغضارة تسكب:

سقْـيًا لِـيَومٍ قَد أَنَـخْـتُ بِـسَرحَـةٍ

رَيَّـا تُـلاعِـبُـها الشَّمالُ(2) فَتَـلعَـبُ

سَكْـرَى يُغَـنِّـيها الحَـمامُ فَـتَـنثَـني

طَـرَبًا ويَسقـيها الغَـمامُ فَـتَـشرَبُ

يَـلْـهُـو فَـتُرفَـعُ لِلـشَّبـيـبَـةِ رايَـةٌ

فيـهِ ، ويَـطلُـعُ لِلبَهـارَةِ كَـوكَـبُ

والرَّوضُ وَجهٌ أَزهَرٌ، والظِّلُّ فَرعٌ

أَسـوَدٌ ، والـمـاءُ ثَـغـرٌ أَشْـنَــبُ

في حَـيثُ أَطـرَبَـنا الحَـمامُ عَشِـيَّـةً

فَـشَدَا يُغَـنِّـيـنا الحَـمامُ الـمُطـرِبُ

واهتَزَّ عِطفُ الغُصْنِ مِن طَرَبٍ بِنا

وافْـتَـرَّ عَن ثَـغرِ الهِـلالِ المَـغـرِبُ

فـكَـأَنَّـهُ والـحُـسنُ مُـقـتَـرِنٌ بِـهِ

طَـوْقٌ عَلى بُـرْدِ الغَمامَـةِ مُـذهَـبُ

في فِتيَـةٍ تَـسْرِي فَيَنـصَدِعُ الدُّجَـى

عَنها، وتَنـزِلُ بِالجَديبِ فَـيُخصِبُ

كَـرُموا فَلا غَـيثُ السَّماحَةِ مُخلِـفٌ

يَـومًا، ولا بَـرقُ اللَّطـافَـةِ خُـلَّـبُ

مِـن كُـلِّ أَزهَـرَ لِلنَّعـيمِ بِـوَجـهِـهِ

مـاءٌ يُـرَقرِقُـهُ الشَّبـابُ فَـيَسكُـبُ!

وهي رِقَّة شِعريَّة عميقة، لا سطحيَّة تقليديَّة على غرار ما أُطلِقَ عليه سلاسل الذَّهب البُحتريَّة. أعني شِعر (البحتري)، القائل، مثلًا، في سلاسل بُحتريَّة، لا شِعريَّة ولا نثريَّة:

يَمتُـتنَ بِالقُـربَـى إِلَـيهِ وعِـندَهُ  

فِعلُ القَريبِ وهُنَّ غَيرُ قَرائِـبِ

بِطَـرائِـقٍ كَطَـرائِـقٍ وخَـلائِـقٍ  

كَخَـلائِقٍ وضَرائِـبٍ كَضرائِبِ

في تَـوبَـةٍ مِـن تـائِبٍ أَو رَهبَـةٍ  

مِن راهِبٍ أَو رَغبَـةٍ مِـن راغِبِ!

ويبدو من خلال شِعريَّة (ابن خفاجة الأندلسي، - 533هـ)- ابن (جزيرة شقْر)، بشرقيِّ الأندلس، بين (شاطبة) و(بلنسية)- الذي أخلص لحُبِّ الطبيعة، لا لأصنام الحُكَّام كغيره من الشُّعراء، أنَّه كان يسعَى سعيه لمعادلةٍ شِعريَّةٍ تجمع بين مذهب (أبي تمَّام) الشِّعري، بانزياحاته المبتدعة، ومذهب (البحتري)، بغنائيَّاته وسلاسة ديباجته.  ولذلك لم يَجِد له القدماء نظيرًا مشرقيًّا ليشبِّهوه به، ويلقِّبوه بلقبه، كما كانوا يفعلون؛ إذ يلقِّبُون أحد الشعراء الأندلسيِّين بـ(بحتري الأندلس) وآخَر بـ(متنبِّي الأندلس)؛ فظلَّ نسيج وحده.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.............................

(1)  يُنظَر: الزَّبيدي، تاج العروس، (حوز).

(2)  يعني: ريح الشَّمال. وكثيرًا ما يخلط الناس اليوم بين (الشَّمال)، بفتح الشين، و(الشِّمال)، بكسرها. ذلك أنَّ الأُولى هي جهة الشَّمال، والأخرى تعني جهة اليَسار. وإنْ كان لهذا علاقة بذاك؛ لأنَّ العَرَب كانوا يُسمُّون ما عن يمين (الكعبة) (يَمَنًا)، وما عن يسارها شَمالًا، أو(شَامًا). وهذا يعني أنَّ القائل بهذه الجهات يولِّي وجهه قِبل المشرق. وتلك كانت قِبلة العَرَب من عَبَدَة الشمس. ومن هنا جاءت تسمية (اليَمَن)، و(الشَّام) و(الشَّمال). ومن طرائف ما يُذكَر في هذا السياق قول (ابن قتيبة، (د.ت)، أدب الكاتب، تحقيق: محمَّد الدالي، (بيروت: مؤسَّسة الرسالة)، 91) وهو يتحدَّث عن رِيح الشَّمال: «الشَّمال: وهي تأتي من ناحية الشَّام، وذلك عن يمينك إذا استقبلتَ قِبلة العِراق!» فكيف يكون الشَّام عن يمينك إذا استقبلتَ قِبلة (العِراق)؟! على القارئ أن يعرف أوَّلًا أين كان (ابن قتيبة) حينما قال هذا الكلام؛ أي حينما كانت الشَّام عن يمينه وهو مستقبلٌ العِراق. ما يعني أنه كان في نواحي (إيران) أو بلاد (فارس). وهو بالفعل يُنسَب إلى (دَيْنَوَر)، الواقعة إلى شَمال غرب بلاد فارس. وكان عليه ليفهم القارئ «أدب كاتبه» أن ينبِّهه إلى المكان الذي يتحدَّث منه، حينما أراد تحديد هذه الجهات بناءً على موقعه! وإنْ كانت بوصلة (ابن قتيبة) الجغرافيَّة تبدو بعدئذٍ آيةً في الاضطراب؛ بدليل أنه بعد صفحةٍ من جعله الشَّام عن يمينه، قال عن (نجم سُهَيل): «من الكواكب اليمانيَّة، ومطلعه عن يسار مستقبل قِبلة العِراق!» وهنا يكون ابن قتيبة قد قفز بالضرورة إلى شرق بلاد فارس؛ كي يُمسي (سُهَيل اليماني) عن يَساره وهو مستقبلٌ العِراق! إلَّا لو قيل: إنَّه في المرَّة الأُولى كان يستقبل من (دَيْنَوَر) قِبلة جَنوب العِراق، ليُصبح الشَّام عن يمينه، وفي المرَّة الأخرى يستقبل قِبلة شَمال العِراق، ليُصبح سُهَيل عن يساره!

في المثقف اليوم