قراءات نقدية
عدنان عويّد: الصّورة في النقد الأدبي

لكل فنٍّ من الفنون الجميلة وسيلة يَبْلغُ مبدعها من خلالها غايته، ولها دورها في التأثير على المتلقين ومنهم محبي الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص، وبداية ماذا نقصد بالصورة هنا، هل هي الصورة الكاريكاتوريّة، التي أداتها القلم.؟، أم الصورة التشكيليّة التي أداتها الريشة واللون.؟. في طبيعة الحال إن ما نقصده لا هذا ولا ذاك، إن ما نقصده هنا هو التصوير المتعلق بمجال أخر، أداته اللغة، إنه التصوير الأدبي بما فيه من شعر ونثر. والشعر من هذه الفنون الجميلة، وكغيره من هذه الفنون، له غاية جماليّة وفكريّة هي التأثير في المتلقي. والشاعر يصل لهذه الغاية في جعل اللغة التي يستخدمها أكثر تأثيراً، وذلك من خلال استخدامه المفردات اللغويّة بطريقة خاصة، تختلف عن الاستخدام العادي أو المعياري لها في حالة التداول بين الأفراد والجماعات، فالشعر إذن فن ينتهي إلى غايته الجماليّة عن طريق اللغة التي يشكل منها عالمه الشعري وتأتي الصورة أحد الأدوات الهامة في تشكيل هذا العالم الشعري. يقول الكاتب والشاعر والناقد والمترجم ألماني. "أوجست ولهم شليجل" في هذا الصدد "إن الشعر تفكير بالصور ».(1). أي إن الصورة هي أساس بناء الشعر.
إن الصورة في سياقها العام، هي تركيب لغوي يمكّن الشاعر من تصوير معنى واقعي/طبيعي أو عقلي/فكري وعاطفي/وجداني حيث تعرف الصورة الشعرية بأنها انعكاس للواقع من جهة، ومتخيل من جهة ثانية، ليكون المعنى متجليا أمام المتلقي حتى يتمثله بوضوح ويتمتع بجماليّة الصورة التي تعتمد التجسيد والتشخيص والتجريد والمشابهة. ويعود الاهتمام بالصورة بوصفها أداة الشاعر التي تحكم شخصيته الفنيّة في أداء التعبير من جهة، ومن جهة أخرى تعد الصورة مقياسا فنيّا وشخصيّا للمبدع الذي أنتجها. فهي المادة التي تتركب من اللغة بدلالاتها اللغويّة والموسيقيّة، ومن الخيال الذي يجمع بين عناصر التشبيه والاستعارة والكناية والتمثيل وحسن التعليل.
الدلالات الفكريّة والفلسفيّة للصورة:
تُعًرًفُ الصورة الأدبية أيضاً بأنها (تركيب فني يجمع بين ما هو مطلوب وما يتم تحقيقه في العمل الأدبي. وهي نقطة التقاء بين الظاهر والباطن في النص الأدبي. والصورة الشعريّة تتميز بكثافتها الحسيّة، مقارنةً بالرمزيّة التي تعتمد على التجريد والذاتية.). (2).
إن الصورة في الشعر الأصيل بشكل خاص، لا يؤتى بها للتزيين والزخرفة اللفظيّة، وإنما هي شيءٌ أصيل تمليه الحالة النفسيّة للشاعر، فالصورة الفنيّة هي الحامل الأمين لمشاعر الشاعر وتُرجمان نفسه الشاعرة، فالشاعر يترجم أحاسيسه وعواطفه، وينقل كوامن نفسه من خلال الصورة الفنيّة التي يبدعها في نصه الشعري، والشعر ذو طبيعة حسيّة ومنطقيّة يخضع لنوعٍ من التنظيم أو التشكيل، ويُبين عن شعور بلغ درجة الانفعال وتحريك الخيال لدى المبدع لإنتاج سلسلة من الصور. (3).
إن الشاعر وبوساطة التصوير الشعري، يقوم بعملية التخطي والتجاوز للمعني الإدراكي المباشر، أي هو يقوم بإلغاء العلاقة الأصليّة الحقيقيّة الموجودة بين الدال والمدلول، محاولاً خلق علاقة جديدة.
إذاً تُعدّ الصورة الأدبيّة بشكل عام والشعريّة منها بشكل خاص، من المفاهيم الأساسيّة في الأدب، بل هي تُشكل العمود الفقري للتعبير الأدبي. والصورة كما تبين معنا أعلاه تشكل في أهم تجلياتها وسيلة لتحويل المعاني الذهنيّة لدى الأديب إلى صور مرئية معبّرة. ومن أهم الأدوات الشعريّة الرئيسة لإنشاء الصورة الشعريّة هي التشبيه والاستعارة والكناية، وأن جميع النظرات المجازيّة/ المتخيلة المتجلية في الصورة الشعريّة يقع خلفها بالضرورة بواعث اجتماعيّة ونفسيّة وأخلاقيّة وسياسيّة وغير ذلك، هذا إضافة إلى الحس الابداعي الذي يمتلكه الشاعر بكل أدواته والذي أغنته تجربته الذاتيّة التي تجعله يحرص أن يقدم من خلالها صوراً إبداعيّة تدهش المتلقي. وبالتالي نفهم من هذا أن الصورة أساس بناء الشعر كما بينا في موقع سابق. إنها عالم حي، منفتح، متعدد الألوان، مفاجئ وسحري، يصلنا بحقيقة حياتنا وجماليتها بواسطة الاستعارة والتشبيه والكناية والتراكيب الجميلة وتجربة الشاعر الغنية الابداعيّة، كما يولد فينا نتيجة هذا الاتصال نشوة غير عادية. نعم إن الصورة عالم الكلمة الساحر.
مفهوم الصورة في النقد القديم:
يعتبر كتاب أرسطو في " فن الشعر " من الكتب الهامة التي لم يزل تأثيرها قائماً إلى يومنا هذا، أو هي المرجع الذي يتعرف منه الباحثون عن أهمية الصورة في الشعر، ويثرون به دراساتهم. لذا لا بد من القول بأن مصطلح الصورة عرفه القدماء، وإن اختلفوا في الدلالة مع المحدثين والمعاصرين.
لقد تسرب مفهوم الصورة إلى القاموس العربي مع الفلسفة اليونانية، وبالتحديد الفلسفة الأرسطيّة. فأرسطو قام بالفصل بين المادة وشكلها، ونتيجة التداخل بين المعارف، انتقل مصطلح الصورة بمفهومه الفلسفي إلى حقل الأدب، شعره ونثره، ليتم الفصل بين اللفظ والمعنى، باعتبار اللفظ صورة والمعنى مادة الصورة. (4).
ومن القدماء العرب الذين أشاروا إلى الصورة في الأدب هناك "الجاحظ" الذي أثار مسألة التصوير في الشعر بقوله: (إنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير.).(5). إنه ينسب صفة التصوير للشعر، وهذا يعد خطوة نحو تحديد مفهوم الصورة.
نقول: من هنا بدأت إشكالية الصورة، مصطلحاً ومفهوماً تعرف طريقاً نحو التوسع. لقد ترك الفكر الأرسطي، تأثيرا واسعا في فكر الباحثين العرب، وبخاصة البلاغيين، فقد تبنوا المصطلحات الواردة في " فن الشعر " ليحددوا مفهوما للصورة الحسيّة في الأدب بشكل خاص، على اعتبار أن الصور المتخيلة أو الناتجة عن الخيال كما سيمر معا بعد قليل، والذي أطلقوا عليه مصطلح المغالطة، لأنه يخلق نوعا من عدم التناسب المنطقي بين الواقع والصورة المنتجة من التخيل، ففضلوا أن يحصروا مفهوم الصورة في التشبيه والاستعارة والكناية، لكونه يجمع بين حقيقتين حسيتين على الأغلب، وتحقق التناسب المنطقي بين عناصر الصورة.
هنا نلاحظ مدى سيطرة الفكر الأرسطي، على فكر البلاغيين العرب، إلى درجة أنهم نبذوا كل ما هو بعيد عن المنطق. هكذا تبنوا مصطلح الصورة البلاغيّة، التي تنبني في مفهومها على قاعدة فلسفيّة أرسطيّة، تتبنى كما بينا التشبيه، والاستعارة وتهمل المجاز. أي تهمل دور الخيال المنتج للصورة. عكس المتصوفة بنظرتهم المتميزة إلى الصورة، وكأنهم يردون على البلاغيين، الذين لم يدركوا بوعي كامل، مدى أهمية الخيال في تشكيل صورة جديدة (6). وهذا التبني للمجاز اشتغل عليه أدونيس الذي تأثر في الشعر الصوفي من جهة، وبشعر ما بعد الحداثة من جهة أخرى.
فمن خلال اهتمام المتصوفة الكبار بالخيال، استطاعوا تحديد مفهوم جديد للصورة. بالرغم من أنهم ينطلقون هنا من العالم الأرضي، عالم المحسوسات، ولكنهم يسعون لتشكيل صور جديدة ذات علائق جديدة بين عناصرها بواسطة الخيال والتجريد، وذلك ليعبروا عن أحاسيسهم غير الملموسة في الواقع الدنيوي.
إن البلاغيين العرب القدماء، حاولوا التملص من الخيال، باعتباره يخادع المتلقي، لكنهم من جهة أخرى، حاولوا الاعتراف بوجود الصورة البلاغيّة التي تكونها الاستعارة والتشبيه، كونهما البنية التي تقوم عليها الصورة.(7).
مفهوم الصورة الشعرية عند المحدثين:
لقد صاحب عصر النهضة الأدبية، ظهور المذاهب الأدبيّة، التي كان لها انعكاس على مفهوم الصورة، ذلك أن كل مذهب أو مدرسة أدبيّة تقوم على فلسفة معينة، فتعدد المدارس الأدبية، نتج عنه تعدد في مفهوم الصورة، الذي أسهم في تطويرها. ومن أهم هذه المدارس التي درست الصورة الفنيّة هناك":
المدرسة البرناسيّة: التي ترى أن الصورة تتشكل بالمحاكاة، أي باستخدام حاسة (البصر). فروادها يعترفون فقط بالصور المرئيّة المجسمة أو ما يسمى بالبلاستيكية. فالبرناسيّة تنطلق من الوجود الحسي الواقعي وتعود إليه في تشكيل الصورة، فلا دخل لأي عالم أخر في تشكيلها.
أما المدرسة الرمزيّة: فإنها ترى أن المبدع في تشكيله الصورة، ينطلق من الموجود الحسي، ثم أثر هذا الوجود في أعماق اللاوعي، لينتج لنا في النهاية، صورةً هي مزيج من المحيط الواقعي والذات الفرديّة. لقد ابتدعوا وسائلهم الخاصة في التعبير، كتصوير المسموعات بالمبصرات والمبصرات. بالمشمومات وهو ما يسمى بتراسل الحواس.
أما المدرسة السرياليّة: فقد أسهم السرياليون في توسيع مفهوم الصورة برؤيتهم المتميزة في كيفيّة تكوين الصورة، إذ نجدهم يهملون إسهام الوعي في تشكيل الصورة وجعلوا اللاوعي يقوم تشكيلها، إذ جعلوه منبعا تتولد منه الصوّر باستمرار. هكذا حصر السرياليون مفهوم الصورة في اللاوعي، فالصورة عندهم لا واعية، إلى درجة أن المتلقي يحس أن الصور التي يشكلها المبدع السريالي، تنبعث من حلم عميق أو خيال مجنح لا يقيده ضابط. (8). وقد تجلت معطيات هذه المدرسة في أدب ما سمي بأب ما بعد الحداثة.
وهناك أيضاً المذهب الاتباعي: الذي اعتمد على العقل أساساً له، أي إخضاع الأديب لسلطان العقل القائم على أسس وقواعد. فالصورة الفنيّة الاتباعيّة كانت أنموذجاً عقليّاً وقالباً جاهزاً يصب الشاعر فيه مادته ويصوغها في ألفاظ توافق غرضه، وليس للشاعر الحق في توليد المعاني وخلق علاقات جديدة بين الأشياء، لأن المعاني قائمة قبل أن يصوغها الشاعر في صوره الفنيّة، وما على الشاعر إلاّ أن يكسو المعنى بألفاظ التي توافق غرضه. (9).
وهناك المذهب الابتداعي: في الأدب – وقد قام كردَّة فعل على المذهب الاتباعي – حيث تغيرت النظرة إلى الأدب عامة، وتغيرت المعايير التي ينظر من خلالها إلى الأدب، ففي مجال الشعر ضاق الابتداعيون بسيطرة العقل وتقييد الخيال بقواعده، لذلك نادوا بتحرير الخيال تحريراً مطلقاً، وقد انعكس ذلك على بناء الصورة الفنيّة التي أخذت تتحرر من ربقة العقل وتخضع لخيال الشاعر، وأصبحت وظيفتها نقل الشعور وتصوير العواطف والأحاسيس، ولم تعد تلقي بالاً للواقع، وإنما تعتمد على ما يمليه الخيال، (وقد كان الخيال الابتداعي خيالاً طموحاً وجموحاً، يتطلب له مثالاً أينما وجده في غير زمانه ومكانه لا يستوحيه أولاً وأخيراً إلاّ من ذات نفسه ولا يتاح له فهم ما تجيش به عواطفه وآماله إلاّ بالصور والأخيلة التي يضفيها على الحقائق ... إذ إن الأحاسيس لا تفصح عن نفسها إلا في صور، وكل كنوز المعرفة والسعادة الإنسانيّة مقصورة على الصورة.). (10).
خصائص الصورة الشعريّة:
تمتاز الصورة الشعريّة بالعديد من السمات والخصائص من أهمها:
1- التطابق بین الصورة والتجربة: لابد ان تكون الصورة مطابقه تماما للتجربة التي مر بها الشاعر لإظهار فكرة أو حدث أو مشهد او حاله نفسيّه أو غير ذلك.
2- الوحدة والانسجام التام: عندما تكون الصورة متطابقة مع تجربة الشاعر، فستشكل بالضرورة بنيه حيّه منسجمة بين الأفكار وتلازم متصل بين المشاعر، وبالتالي تجانس محكم بين هذا كله وبين مصادر الصورة جميعاً.
3- الشعور: الصورة الشعريّة في حقيقتها حالة وجدانيّة يقدمها الشاعر للمتلقي بعد عناء تجربته ورهافة إحساسه في عكس قضايا الحياة الإنسانيّة، وهذا ما يمنحها القدرة على تحريك مشاعر المتلقي ومشاركته مشاعر وأحاسيس الشاعر ذاته.
4- الحیویّة: ويرى جابر عصفور في كتابه الصورة الفنيّة: "إن الصورة الجيدة هي الصورة الحيويّة، وحيويّة الصورة تنبع من قدرة المبدع على تحريكها، وقدرته على التقاط أجزائها وصهرها في بوتقة المشاع".
5- الایحاء: إن الصوره الجيده هي التي لا تصح بالمضمون مباشره ولا تكشف عنه، بل توحي إليه لكي يحمل المتلقي فكره، فهي كما قال جابر عصفور " في كتابه "الصورة الفنيّة" إن الصورة موحية بلا غموض ولا تعتيم وقد يكون الايحاء بكلمه تستدعي معاني متعددة، وقد تكون أصوات كلمة تستدعي معاني متعددة.
وظائف الصورة الشعريّة:
هناك وظائف كثيرة تؤديها الصورة الشعريّة، ويمكننا تحديد العديد من هذه الوظائف، كالوظيفة الجماليّة ولانفعاليّة والتعبيريّة والايحائيّة، كما تستطيع الصورة أن تؤدي دورًا مهمًا في نقل تجربة الأديب أو الشاعر والتعبير عنها كما أشرنا في موقع سابق. ومن أهم هذه الوظائف للصورة الشعريّة هي:
أولاً – إن الصورة تساهم كثيراً في إعادة إنتاج المخزون العاطفي والوجداني لذكرى أو تجربة عاطفيّة وإدراكيّة غابرة، ليست بالضرورة أن تكون بصريّة.
ثانياً – إن الأصوات أي الألفاظ المنبثقة من اللغة قادرة أن تخلق صوراً تستعمل لخلق ارتباط بين نفوسنا والوجود الخارجي وتخيلاتنا.
ثالثاً – تحطيم الواقع والذهاب إلى عالم إبداعي جديد يجسده الأدب عبر الصورة بشكل خاص. لقد ذهب الشاعر والمسرحي والناقد الأدبي الانكيزي "إليوت" في رؤيته الما بعد حداثيّة إلى تحديد مهمة الشعر من خلال عمل الصورة حيث يقول: (على سبيل التخييل يجب أن يهدم الواقع ويمحق، لكي يختار الأدب من يمتلك القدرة الفريدة على تصويره كتجربة صافية، فالمهم أن تكون للأدب هذه القدرة في تهديم الواقع، أي تهديم العالم الرياضي لولادة عالم آخر هو عالم الأدب، باستثناء أن الصورة فقط، هي التي يمكن أن تعطي للأسلوب لوناً من الخلود”.) (11).
رابعاً - هذا وتعتبر الصورة الشعريّة من الناحية الوظيفيّة أيضاً من أهمّ المرتكزات والرّوافد الفكريّة الّتي تثري الدلالة، وتغني المعنى في النّصّ. ومالا شكّ فيه أنّها من أهمّ الوسائل التّعبيريّة الّتي تفوق اللّغة التّعبيريّة المباشرة، فهي مثلما تمثل الواقع، تمثل أيضاً مواقف الشّاعر الذّاتيّة المتخيلة.
خامساً- إن الصورة الشعريّة تمثل الروح التي تسري في كل عملٍ شعري وتمنحه شاعريته، وهي السر الذي يضعه الشاعر في قصيدته حتى يجعل المتلقي يتفاعل معها، ويحسُّ بما يريد أن يقول فيها.
سادساً – إن كل صورة في العمل الفني تؤدي وظيفة محددة كما تتعاون مع غيرها على إبراز الصورة الكليّة للقصيدة والإيحاء بالجوّ العامّ الذي تحاول القصيدة التعبير عنه.
سابعاً - ومن الوظائف التي تؤديها الصورة الفنية في النص الشعري (التكثيف الشعوري) (فالصورة الفنية وحدة تعبيريّة تجسد القصد الذي يدور في ذهن الشاعر بكثافة. أي إنها توحي بما يختلج في نفس الشاعر من مشاعر، وتقدمه في تركيبة تختزل في داخلها عدّة مشاعر وأحاسيس مختلفة، وربما كانت متباينة أحياناً. ومصدر هذا التكثيف يرجع إلى الإيحاء وإقامة علاقات جديدة بين أشياء الوجود الداخلة في بناء الصورة الفنيّة، فهي لا تقول كل شيء، وإنما تقول القليل وتترك للمتلقي إكمال الباقي بحسب ما يجد من مشاعر أوحت له بها الصورة الفنيّة). (12).
ثامناً- ومن وظائف الصورة الفنية في الشعر – أيضاً – تجسيد المجرد، فهي تقوم بنقل المشاعر والأحاسيس والعواطف إلينا بطريقة مقروءة أو مسموعة، بحيث نستطيع أن نحس المجردات إن جاز التعبير ولنقرأ قول مجنون ليلى:
(كأنّ القلبَ ليلةَ قِيلَ يُغدَى بِليلى العامـريةِ أو يُراحُ
قَطاةٌ عزَّها شَرَكٌ فباتتْ تُجاذِبُهُ وقد عـلِقَ الجناحُ
لها فرخانِ قد تُركا بوَكرٍ فعُشُهما تصفِّقُـهُ الرّيـاحُ
فلا بالليل نالت ما تُرجِّي ولا بالصبحِ كان لها بَراحُ.). (13).
ملاك القول: إن الصورة الفنيّة هي المفتاح الذي يستطيع الناقد أو الدارس أن يفتح بها مغاليق النص الشعري، ويلج إلى عوالمه الغامضة، فعن طريق متابعة فيض الصور الفنيّة في النص الشعري يستطيع الناقد أن يُلمّ بالحالة النفسيّة والشعوريّة المسيطرة على الشاعر عندما أبدع نصه الشعري، إن فهم التجربة الشعريّة للشاعر، وإدراك القيمة الفنية للقصيدة لا يمكن أن يتم للناقد أو الدارس إلا بعد دراسة صور القصيدة مجتمعة وتتبع العلاقة التي تنشأ بين أجزائها، وذلك لأن في الصورة الشعريّة بكل أشكالها المجازيّة وبمعناها الجزئي والكلي تكمن روح الشعر، وفيها تستقر رؤية الشاعر للموقف الذي يصوره.
إن الصورة الشعريّة تحتل أهميه كبيره في تشكيل البناء العام للعمل الأدبي، على اعتبار أن العمل الأدبي أو النص بعمومه هو صورة يقوم الكاتب أو الأديب في تجسيدها شعراً أو نثراً. فهي تعبر أيضاً عن جمالية البناء الفني في فضاءات الإبداع. وهي كما قال أحد النقاد تشكل عنصراً هاما من الركائز التي يقوم عليها العمل الأدبي، كالأسلوب، اللغة، والموسيقى، والصورة. لذا هي لا تعبر فقط عن إحساس وعاطفة الأديب أو المبدع فحسب، بل تعبر أيضاً عن حقائق وصور من واقع الإنسان وعن تجارب الشاعر وخلجاته ومكوناته التي يكشف عنها بطريقه بالغه الدقة والروعة بعد أن رسمها بحواسه، وعبر عنها بعاطفته المشحونة بالإحساس. وهذا ما يجعل المتلقي لهذه الصورة أن يعيش التجربة مع الشاعر فيتفاعل معه ويفهم تجربته ويحس بها. وعلى هذا الأساس نستطيع القول إن الشعر ليس فقط تعبيرا بسيطا أو سطحيّا عن التجربة الفرديّة الذاتيّة للأديب، بل يتجاوز ذلك إلى تصوير الظواهر الاجتماعيّة بكل دقه مستعينا في ذلك باتساع مخيلته، وقوه لغته، لتنتج صوره شعريّة قويّه ومؤثره للكشف عن جوانب خفيّه في تجربته الشعريّة وعكس مستوى تجربة الشاعر وقدراته الفنيّة والأدبيّة. ومن خلال تتبع المتلقي للصور داخل القصيدة ودراسته لها يستطيع أن يُلمّ – أو على الأقل يحسُّ- بما يريد الشاعر أن يقوله من خلال نصِّه الشعري فكل صورة في العمل الفني كما بينا عند حديثنا عن وظيفة الصورة، تؤدي وظيفة محددة كما أنها تتعاون مع غيرها على إبراز الصورة الكليّة للقصيدة والإيحاء بالجوّ العامّ الذي تحاول القصيدة التعبير عنه، وكل صورة فنيّة في القصيدة يجب أن تحمل صدق الأداء. وميزة الصورة الخصبة أنْ تُشع في كل اتجاه وأنْ تسمح لك باستكناه مزيد من المعاني كلما أوغلت معها بحسك. إنها صورة معطاءة تكشف عن المزيد دائماً (14).
***
د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريا
..........................
هوامش البحث:
1- (الصورة في شعر السيّاب (أنشودة المطر أنموذجا)- مذكرة لنيل شهادة الماجيستير في إختصاص قضايا الأدب- من إعداد الطالبة: آریمة بوعامر، ز. یونس - جامعة الجزائر كلية الأدب العربي واللغات – قسم اللغة العربيّة.).
2- (مفهوم الصورة الشعرية – موقع الدكتور عبده منصور المحمودي – https://dr-almahmoodi.com/مفهوم-الصورة-الشعرية/).
3- .( الصورة الفنية وأهميتها في الشعر – مفهوم الصورة الفنيّة - مصطفى بن الحاج – موقع https://daifi.yoo7.com/ ). بتصرف.
4- (علي البطل - الصورة في الشعر العربي - دار الأندلس - بيروت ١٩٨١- ص ١٥ ).
5- (5). (أبو عثمان الجاحظ، الحيوان، ج ٣، تحقيق عبد السلام محمد هارون، دار الكتاب العربي، بيروت – ١٩٦٩- .١٣٢ ، ص ١٣١).
6- (الصورة في شعر السيّاب (أنشودة المطر أنموذجا)- مذكرة لنيل شهادة الماجيستير في إختصاص قضايا الأدب- من إعداد الطالبة: آریمة بوعامر، ز. یونس - جامعة الجزائر كلية الأدب العربي واللغات – قسم اللغة العربيّة.). بتصرف.
7- (علي البطل، الصورة في الشعر العربي- دار الأندلس- بيروت 1981- ص- 17-18- .). بتصرف.
8- (يراجع لمعرفة المزيد عن هذه المذاهب المتأتى عليها دراسة - الصورة في شعر السيّاب (أنشودة المطر أنموذجا)- مذكرة لنيل شهادة الماجيستير في إختصاص قضايا الأدب- من إعداد الطالبة: آریمة بوعامر، ز. یونس - جامعة الجزائر كلية الأدب العربي واللغات – قسم اللغة العربيّة. بتصرف.).
9- (الصورة الفنية وأهميتها في الشعر – مفهوم الصورة الفنيّة - مصطفى بن الحاج – موقع https://daifi.yoo7.com/ ). بتصرف).
10- (الصورة الفنية وأهميتها في الشعر – مفهوم الصورة الفنيّة - مصطفى بن الحاج – موقع https://daifi.yoo7.com/).
11- ( في تعريف الصورة الشعرية وأهميتها – موقع - https://kmarabian.me/ .).
12- (الصورة الفنية وأهميتها في الشعر – مفهوم الصورة الفنيّة - مصطفى بن الحاج – موقع - https://daifi.yoo7.com/ ).
13- ( ينظر: الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري: دراسات في أصولها وتطورها ، د.علي البطل ، دار الأندلس ، ب.بل ، الطبعة الأولى ، 1980 م ، ص24 . وكذلك: الصورة والبناء الشعري ، د.محمد حسن عبد الله ، دار المعارف ، ب.ط ، ب.ت ، ص27.).
14- ( الصورة الفنية وأهميتها في الشعر – مفهوم الصورة الفنيّة - مصطفى بن الحاج – موقع https://daifi.yoo7.com/ ). بتصرف.