قراءات نقدية

باسمة العوام: قراءة في رواية "ولادة قيصرية" للدكتور وليد خالدي

حروف تجرك على جسر الألوان، بين البداية والنهاية، تأخذك سيراً على العقول والقلوب وبلا طريق، تروي عمرك بلغة الألم، ثم تعلمك الرقص على المرافئ، بين التلال وفوق الجبال، تفتح لك كفيها لتلملم انهيار الوجوه من حولك، وتحرر ليلك من وداع قديم ؛ تفك أزرار النار بعود ثقاب، ليشتعل سعيرها في الصدور، وكاتبها يرتب الزمن في صرير حبره القادم مع الريح، ينثره بين روابي السطور، ويبقى الصباح واقفاً على جناحيها، يطرق كل الأبواب، حيث تجري الحياة بتفاصيلها المرهقة على موائد الزمن .

- " ولادة قيصرية " رواية الدكتور "وليد خالدي"، الصادرة عن دار متون المثقف للنشر والتوزيع / القاهرة، عام 2023، تأخذك،بداية، من عنوانها وصورة غلافها، إلى عالم التساؤلات: ماعلاقة الولادة القيصرية بصورة تلك المدينة وبيوتها وآثارها وبقايا من جدرانها ونوافذها؟ في اي بيت منها ستكون الولادة؟ وأية ولادة هذه التي ستكون تحت مبضع الجراح وأوجاع مابعد الولادة؟، من هو ذاك المولود القادم؟ ما نوعه، وما شكله؟، أية حاضنة ستحضنه؟ وكيف سيكون؟ أم أنه ترميز لغد سيأتي بعد نزيف وجراحة وأوجاع؟، وماعلاقة ماورد على الغلاف الخلفي للرواية؟ وما دلالة ذاك النص الذي ورد فيه:

" يتساءل بلا كلل ...!

يتساءل بقلب ثائر وحانق، وجبينه ينضح بالعرق، رمى بكامل ثقله مسنداً ظهره إلى جذع شجرة .. !!

ولكن الوساوس في جنح الظلام مزقت قلبه حتى ذاب كالجليد .. !

يسأل التاريخ التاريخ اولا، ثم يسأل نفسه ثانية، بل العشرات من الأسئلة تتدفق على شفتيه، حرة سليلة بلا تمحيص ولا رقابة .. ماالذي يريده الأسد الأبيض بعودته؟!

أتراه اشتهى الأيام التي خلت، بعدما رحل خلسة، منذ أعوام مضت، عفا الدهر    عنها، أم يطمح لإسماعنا صوت زئيره مجددا، لنتبرع بما تبقى من الدم، بدون ترخيص أو مقابل؟ ... ولم يفكر بنرجسية متعالية؟ . لم يفسر هدوءنا بالضعف والعجز وعدم المقدرة على المواجهة، حتى تسوّل له نفسه ذلك؟."

- نفتح الرواية لنقرأ إهداء قدمه الكاتب:

" إلى كل من تعبق روحه مسكاً وعنبراً ..

إلى كل من علمه حرفاً، إلى أبويه، زوجته، أولاده، أغلى الناس، وإلى رفيق دربه: " بو خليفة عبدالله " ...".

- ثم مقدمة تحمل أقوالا لمشاهير، ربما هي مفاتيح أبواب هذه الرواية:

"- "عبد الرحمن منيف ": "قد أكون تافهاً بنظركم، لايهم، ولكن في داخلي صوتاً صغيراً اطرب له، وأحب أن أسمعه دائما، وهذا الصوت يقول لي باستمرار: ارفض هذا العالم المجوس التافه، ولاتندمج به، وإن استطعت يجب أن تساهم بتغييره ."

- " جبران خليل جبران ": " في قلب كل شتاء ربيع يختلج،ووراء كل نقاب كل ليل فجر يبتسم ".

- " ديل كارنيجي ": " لاتحاول البحث عن حلم خذلك، وحاول أن تجعل من حالة الانكسار بداية حلم جديد ".

- " أدهم الشرقاوي ": " إما أن تقاوم أو تتظاهر بأنك تقاوم .. لكن لاتنحن أبدأ ".

- " ويليام شكسبير ": " وفي النهاية يرحلون جميعا.. وتبقى لك نفسك التي قتلتها من أجلهم ".

-" شمس الدين التبريزي ": " واسأل نفسك مع شروق الشمس متى ستشرق انت؟".

- نتابع لنتعرف على الأستاذ " نعيم "، بطل الرواية ومحرك أحداثها ؛ ونتعرف على كل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدينية والثقافية التي عاش في ظلها، فراح يرسم نفسه بين الواقع والحلم، يغتاله الوجع ويخطفه الهم، يبتلع نشرات الأخبار وضجيج الشوارع،صباح مساء، باحثاً عن مواثيق الحياة، متمرداً على دساتير وقوانين غريبة عنه وعن محيطه ؛ يرثي الماضي والحاضر، يغفو على وسادة من دبابيس، ويستيقظ على جراح ودموع أطفال وشباب .. منهم من أصابته تخمة الحزن والضياع، فتاه في منافي الغربة والوطن ؛ ومنهم من تنكر لأصله وذاته وسخر ونسي من كانوا قدوة له ومثلا ؛ فيصفهم في قوله:

-ص 21 .." يشتكي حرقة الطيور المهاجرة التي تختفي في الأفق، تتنزل على رأسها أنواع الوقائع العجيبة، مشدودة بحبال في غاية الدقة، وبحركة غير مرئية، وهو في أمس الحاجة إلى إجراء مقابلة صحفية، غير ان عدسات الكاميرا تمل التفاصيل والإسهاب في الكلام،وترى العائدة زهيدة الثمن، والإغراء فاقداً للفاعلية ولفت الانتباه، فتلتصق بها تهمة خيانة الوطن، وفي الجهة المجاورة غربان تحلق في أجواء ناعمة تضحك بخبث ".

- ص 24.. " ثم أردفها: حتى كلمة الله جردتموها من بهائها، وألبستموها شبحا مخيفا بأصواتكم المرعبة، ألا تستحون من " بلال بن رباح "؟!.."،( ذاك الصحابي الجليل الذي عُذب في الله تعالى بعد إسلامه على يديّ أبي جهل وامية بني خلف، وكان على ذلك صابرا محتسبا، يقول: أحدٌ أحد) .

- ويستمر الكاتب بلسان الأستاذ " نعيم "، ويداه تتقن السفر على جسد الكلمات، يرسم معاناته في أزقة العمر، وخيالاته التي تنفجر صورها بصمت في عينيه، وحروفه ولغته التي صارت منفاه وربطته بالوجع والعذاب، مسجونا على فراش مرضه كطائر في قفص وديدان الوقت تنهش هويته وتتسلى بقضم ماتبقى من أحلامه ؛ يفكر بما مضى، وماهو كائن، لايخشى الموت، بل يخاف على الوطن، على شبابه التائه وكل ما يمر به من أزمات نفسية واجتماعية في وطن يعاني الويلات والحروب والتمزق والانقسام، ويتغلغل فيه الحقد والطمع والكراهية والغدر في ظل ظروف سياسية واقتصادية وإنسانية تهدد وجود الإنسان والإنسانية فيه ....

-ص26.." يقرأ (محمد الماغوط ): " إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى.. الخسارة الكبرى هو مايموت فينا ونحن إحياء " .

_" الكل متفقون على بيع كل شيء ولكنهم مختلفون على الأسعار ".

- لم تكن الجزائر وحدها حاضرة في عالم الأستاذ " نعيم "، بل حمل هموم وطنه العربي الكبير بكل قضاياه وصراعاته وأحواله ؛ نقرأ مثلا:

-ص43.. " .. فالمعركة طال عهدنا بها أكثر مما نتصور، فقد شردت كل فكرة،سبحت في البهو الفسيح، ف تحتَ كل ملف انطوت صفائحه في الزمن الماضي، و هاهي الآن كسيحة مقعدة، تطلب يد المساعدة، ولكن جذوة الطلب مصفدة الأيادي...".

-ص104.." وشارون وحاشيته في اجتماعات مغلقة مع جامعة الدول العربية، يدرسون ملف مكافحة الإرهاب، وقضية المصالحة الوطنية، وفي هذا السياق اتفق الطرفان على تعزيز العلاقات ..! وسوريا في اوج ريعان شبابها تفكر بالانتحار، وما طفقت العزلة تلبسها الشيخوخة المبكرة، وتهرم في ظروف غامضة ليتهاوى طودها، وتلفظ أنفاسها الأخيرة، والقافلة والموكب يمران مر السحاب عن يمينها وعن شمالها، ومن فوقها ومن تحتها .......".

- أما رسالته هو والدكتورة " ريم " إلى مؤسسة الشروق T.V. للإعلام والنشر:

- ص98 ...."إن القصر القديم بدأ يشيخ، ويتنازل عن كبريائه، ليدخل في الأبجديات الغامضة، فالأصوات التي تحيط به أبت أن ترسم على شفتيها معالمه الجغرافية، والرمال الناعمة فقدت ثلث جمالها الأخاذ المبهر، وكل احساس مرهف وذوق فني أصيل والطوباويات المترهلة، شاحت في وجهها كل صيانة، والعين لم تعد تبصر تلك اللوحة الفسيفسائية؛ للزخرفة التي تأسرك بسحرها، وهي تملأ ضواحيها .. آه، تصدعات وشقوق، صرفت القلوب لتتحول إلى كومة من القش، ترزح تحت نير التهميش واللا مبالاة..

كانوا على موعد مع المغتربين، وظلت بعض المسائل معلقة في حارتنا، يضحك المرء لتفاهة مضمونها، ومما يزيد من سفاهتها، تقمصها شخصيات ذات إيقاعات أجنبية، سحرتها بنغمتها الحديثة، محملة بباقة وردية آتية من مكان نجهله ؛ أنستهم انغامهم التراثية، و رأوها على أنها غراميات باهته، بالية، تنأى عن الحضارة.... " .-خاتمة .....

" ولادة قيصرية " رواية تعج بالثيمات المتنوعة والأفكار الخلّاقة والدلالات الفاضحة لواقع مُرّ تحياه الإنسانية ؛ استطاع، من خلالها، الدكتور " وليد خالدي "، وبكل مهارة وإبداع، أن يصور هذا الواقع وكل ما أثرعليه، وتأثر به ؛ مستخدما لغة الإيحاء والترميز _ في الشعر والنثر معا _ في عالم يضج بالتساؤلات والجري خلف إظهار الحقيقة والبحث عن طرق الخلاص، نقرأ مثلا:

-ص70_71 ..." .... كنت أحاول التغاضي عن العيوب، والامتناع عن التشهير بها، ولكن فداحة المشهد تفيض كنهر جارف، ذكرتني بأغنية أجنبية، تشبه سرب الطيور المهاجرة في ملامحها المتعبة بالتساؤلات الحارة:

ماذا عن شروق الشمس؟

ماذا عن المطر؟

وماذا عن كل الأشياء

التي قلت أننا سنجنيها؟

ماذا عن ميادين القتال؟

هل هناك وقت؟

وماذا عن كل الأشياء؟

التي قلت أنها لكم ولي؟

هل سبق ووقفت لحظة تتأمل؟

كل الدماء التي سفكناها من قبل؟

هل وقفت لحظة تتأمل؟

لهذه الأرض الباكية او تلك الشواطئ الدامعة؟

ماهذا الذي فعلناه بعالمنا؟

وماذا عن كل السلام؟

الذي وعدت به ابنك الوحيد؟

ماذا عن حدائق الزهور؟

ماذا عن كل الأحلام؟

وكل الأطفال القتلى والحروب؟ ........ " .

- كذلك، عندما أشار ل " وسيم الأصلع " ب (الأسد الأبيض)؛ ورمزية ما تقوله له أمه:

-ص82 ... " هذه الدندنة التي تعشقها المحافل الدولية، وتزكي صاحبها، وتجعله على رؤوس الخلائق...! ويظل عيداً تتوارثه الأجيال ".

-وهكذا، استطاع " وليد خالدي "، الإمساك بيد قارئه، يقوده بين سطوره، مع شخصياته التي اختار لها أسماء ذات دلالات عميقة في التاريخ، وحاضرة في عالمنا الحاضر، التكنولوجي والتقني المتمازج بحضارة الآخر ؛ يتألم للجانب السلبي من هذا التثاقف الذي قاد الأمة لهذا الواقع، وجعلها تغرق في بحور الوهم واليأس والضياع وفقدان الهوية، نقرأ:

-ص208 ..." الحاضر حولناه إلى كومة من الصيغ والتراكيب التي لا دلالة لها، وقدمناه إلى غيرنا نسخة مشوهة، ملبدة بالغيوم والحجب.... أنصتنا لساعات طوال إلى أحاديثهم الرنانة، فاستقطبت كمّاً هائلا من المعجبين، يصعب على المعارضين اختراق حواجزه، وقفنا على تلة نترقب المكان بمنظار من بعيد ؛ رويدا رويدا أبصرنا الطربوش والعمامة يتنحيان جانباً ليفسحا المجال للقبعة لاعتلاء العرش، فبات الطربوش والعمامة مع كل انبلاج فجر يتعرضان للإعدام من قبل عائلاتهم، تحت وقع شمس صباح ملتهبة ...".

- وفي النهاية، وبعد رحلة الألم الطويلة، وهذا المخاض الطويل الذي رسمه " وليد خالدي "، على أوراق سكنتها الشياطين، عكست أوجاع الأستاذ " نعيم " ورفاقه، وطلبته، وأبناء وطنه، وإنسانيته ؛ تارة يحاورهم، وتارة يحاور نفسه، يحلم ويتخيل، يرسم ويخطط ويتمرد، يثور ويقاوم، ولا تخمد ناره حتى في غيبوبته، وهو يخضع لعمل جراحي جراء عسر في الهضم، ليستيقظ أخيرا على ولادة قيصرية، ولد فيها الأمل بالغد ؛ أشرقت روحه من جديد، واحتضنت الآمال مولوده الجديد:

-ص 209- 210 ...." وماهي إلا دقائق قليلة، كان من خلالها يحاول رسم خطة جديدة لحياته ؛ حتى استفاق من غفوته تعلوه ابتسامة مشرقة نابضة، وصرخة مدوية من الأعماق، مدججة بلحظات الانعتاق، هنا انتابه إحساس شديد دفعه إلى أن يزيل عن كاهله كل الأفكار العالقة التي توسدت جسده حيناً من الدهر .....

وأخيراً ... " تتمدد في محاضنها الآمال المتجددة، مع نزول كل قطرة من عرق ..!!".

*** 

الشاعرة والناقدة السورية باسمة العوام

في المثقف اليوم