قراءات نقدية
أيمن دراوشة: قراءة في رمزية التشظي النفسي والعاطفي في قصيدة الشاعر فتحي مهذب
"بين الحلم والقلق:
النص:
أواجه القلق بفأس الهندي الأحمر.
لم تزل نظراتك معلقة في سقف البيت
السقف الذي تحدقين فيه طويلا
كلما هممت بإعادة طائر النوم إلى الفراش
كنت تحدقين في الحديقة
ترمين نظراتك الحلوة
على مناديل الأزهار
تحدقين في تقاطيع الصمت المتكىء
على الأريكة الهرمة
كما لو أنه أحد فلاسفة الإغريق
ترمين نظراتك الحلوة من الشباك
كنت تملكين نمورا شرسة من الكلمات
ترمين السحرة في الجب ولا تكترثين
يتبعك المستقبل برشاقة لاعب الجمباز
إلى مكان مجهول
أحدق في نظراتك
الملقاة على الكنبة
مثل قطع نادرة من الماس
تحدقين في تلاوين وجهي
يسقط الفراغ مثل زجاجة من يدي
والندم ذئب صغير ينمو ببطء
عندما تغيبين
أواجه القلق بفأس
لا أكلم أحدا قبل الهزيع الأخير
من الهذيان
لا أحتمل سطوع الشمس
ألتهم أطراف أصابعي
أحب رائحة الدم
سرد حكايات دراكولا
قتل المسلمات بطلق ناري مكثف
ألاحق أطفالا لم يولدوا بعد
أصطاد فلاسفة الريبة
في مفترق اللاجدوى
أصرخ أصرخ أصرخ
كما لو أني إوزة من الشمعدان
غالبا ما أنام فوق شجرة حزينة
أو أمام مبغى مليء بالغربان والعظايا
تضحك عيناي المتناسختان
ضحك من ريش وقش
أدعو جميع المنتحرين
لحفلة عشاء فاخر
بعد غيابك الهابط مثل الباشق
أقمت جزيرة صغيرة من التوابيت
ودعوت الأرامل لتربية الأسماك
في أحواض الدموع
دعوت طيور الكراكي لهذا المسرح العبثي
أنا أحب المنتحرين في هذا الوقت الحالك
أحب الموسيقى التي تتدفق بثمرات الكستناء
أطرب المهاجرين إلى دارة قلبي
ليس لي ملجأ أثير
غير نظراتك التي تطلع من المرآة
ملآى بالنور والذهب
***
..........................
التحليل الفني:
مقدمة: يتميز هذا النص بكثافة الصور الشعرية والرؤى المجازية التي تعبر عن حالة قلق عميقة وشعور بالتشظي الداخلي. وسنقوم بتحليل تفصيلي للجوانب الجمالية والفنية في هذا النص الفريد:
مواطن الجمال في النص:
1- الصور المبتكرة:
- يبدأ النص بصورة قوية ومباشرة، وهي مواجهة القلق "بفأس الهندي الأحمر"، مما يستحضر صورة بدائية ووحشية تعبّر عن رغبة في تحطيم هذا القلق أو مواجهته بوسائل بدائية عنيفة. هذا الأسلوب في التصوير غير متوقع ويعطي للنص طابعًا مثيرًا وعميقًا.
- تتوالى الصور المجازية بعناية في النص، مثل "ترمين نظراتك الحلوة على مناديل الأزهار"، والتي تضفي طابعًا شاعريًا حالمًا، في حين أن "تقاسيم الصمت المتكئ على الأريكة" و"نمور الكلمات" توحي بحالة من الغموض العميق.
2- التوتر بين الرقة والعنف:
النص يمتاز بقدرته على التلاعب بالتناقضات، حيث ينتقل من مشاهد حالمة ولطيفة إلى مشاهد عنيفة ومظلمة. على سبيل المثال، ينتقل الكاتب من وصف النظرات المعلقة، الحديقة والمناديل إلى مشاهد القلق، رائحة الدم، وصيد "فلاسفة الريبة".
- هذه الازدواجية تخلق شعورًا بالانقسام الداخلي، وكأن الشخصية تعيش بين عالمي السكينة والاضطراب.
3- البنية الدرامية:
- النص يسير بوتيرة سردية متصاعدة من حيث تصعيد التوتر النفسي، حيث يبدأ بوصف النظرات والسقف والنوم، ثم يتدرج إلى مشاهد أكثر قتامة مثل "يواجه القلق بفأس"، "أحب رائحة الدم"، و"أدعو المنتحرين إلى حفلة عشاء". تصاعد هذا التشدد العاطفي يخلق بنية متماسكة ومشحونة بالعواطف القوية.
- تبرز في هذه البنية صورة الفراق وغياب المحبوب كسبب رئيسي للاضطراب الداخلي، مما يعطي للنص طابعًا شخصيًا وشعوريًا مؤلمًا.
4- الرمزية والاستعارات:
- النص مليء بالرموز التي تعكس حالات معقدة مثل "النظرات كقطع نادرة من الماس"، "الندم كذئب صغير"، "جزيرة من التوابيت"، و"أحواض الدموع". هذه الرموز تعطي بعدًا فلسفيًا وعاطفيًا متنوعًا، وتسمح للقارئ بالتعمق في المعاني الخفية وراء الكلمات.
- النص يخلق عالمًا ميتافيزيقيًا وشعريًا، حيث تتداخل الحياة والموت، والفراغ والشغف، بشكل يجعل من السهل فهمه على عدة مستويات.
5- الأسلوب اللغوي:
- تتميز لغة النص بالإيقاع الشعري، مع تكرار كلمات وتراكيب معينة مثل "ترمين"، و"تحدقين"، و"أصرخ" مما يعزز الشعور بالتوتر.
- الصياغات غير المألوفة تضفي جمالية خاصة على النص، مثل "أصطاد فلاسفة الريبة في مفترق اللاجدوى"، والتي تضيف نوعًا من العمق الفلسفي وتبرز حالة الضياع.
6- النهاية المفتوحة:
- ينتهي النص بتعبير عن الحب للـ"منتحرين" و"الموسيقى التي تتدفق بثمرات الكستناء"، ويمثل ذلك انسجاماً غريبًا بين المأساة والأمل، مما يمنح النص ملامح العبثية والرومانسية السوداء.
- النهاية المفتوحة والتي تتحدث عن "نظراتك التي تطلع من المرآة ملآى بالنور والذهب"، تعطي شعورًا بوجود بصيص من الأمل، كما أنها تربط النص بأكمله حول علاقة الحب والقلق الذي ينتهي بالتصالح مع الذات.:
كلمة أخيرة:
النص يتميز بلغة مشحونة بالعاطفة والرمزية، ويعبر عن حالة نفسية معقدة تجمع بين الحب والقلق والتشظي. يوظف الكاتب أسلوبًا مجازيًا كثيفًا، يتراوح بين الوصف الحالم والعنف الداخلي، ما يجعل النص قريبًا من الشعر النثري الذي يعكس عمق التجربة البشرية وصراعها الدائم مع الذكريات والألم والخوف.
***
قراءة: أيمن دراوشة