قراءات نقدية
قراءة نقدية اسلوبية في قصيدة "مذبحxـة الأبرياء" للشاعرة فرانكا كولوتسو

أولًا: المستوى التركيبي – البناء اللغوي والنحوي
تُفتَتَح القصيدة بجملة فعلية مكثّفة:
"أجنحةٌ للريحِ قد نُشِرَتْ، فانطلقتْ"
توظف الشاعرة هنا فعلين بصيغة الماضي المجهول ("نُشِرَتْ"، "انطلقت") ما يُضفي طابعًا قدريًا على حركة الأرواح، وكأن الرحيل قد كُتب على هذه الأجنحة منذ البداية.
الأسلوب مركّب بشكل يمنح السطر رهافةً صوتيّة وسلاسةً إيقاعية، مع نبرة تأملية.
ثانيًا: الإيقاع الداخلي والموسيقى الشعرية
القصيدة مكتوبة على نمط السطر الحر (شعر التفعيلة) مع التزام داخلي بإيقاعات صوتية تقوم على التكرار والتوازي:
"ترفرفُ، تصعدُ، تحلّقُ"
هذا التوالي للفعل المضارع بصيغة الجمع ثلاثي الإيقاع يمنح القصيدة نغمة ترتيلية/تراتيلية (Liturgical Tone)، تعزز من صورة الصعود الروحي، وتبني إيقاعًا يتناسب مع طابع الرثاء والتقديس.
التكرار لا يقتصر على الأفعال، بل يشمل الصور والأصوات (مثل "الركام"، "الصمت"، "الموتى") مما يُؤسّس لتماسك نصّي، وحالة موسيقية قائمة على التوازي والتدوير الصوتي.
ثالثًا: الصورة الشعرية – البُنية الرمزية
تفيض القصيدة بصور شعرية غنية متعددة المستويات:
الصورة الجمالية – الجسد والروح:
"تنسابُ كريشٍ هائم،
ترفرفُ، تصعدُ، تحلّقُ..."
صورة الريش الهائم تشير إلى الخفة، التلاشي، والبراءة الطفولية. هذا الرمز يُستخدم كأداة لتصعيد المأساة إلى مستوى كوني–روحي، ويُقابل لاحقًا بصورة الغراب:
"أجنحةُ الغِربانِ تمرُّ فوقَ الخراب..."
في هذا التناص البصري، تقوم الشاعرة ببناء ثنائية نقيضية بين "أجنحة الغراب" و"أجنحة الملائكة"، بين الموت والبقاء، الدنس والطهر، الظلام والنور.
رابعًا: التناص الديني والأسطوري
النص يتكئ على رمزية دينية عالية توحي بالعمق اللاهوتي والإنساني للمأساة:
"كأنهم السرافيم" — في إشارة إلى الملائكة العليا في الميثولوجيا السماوية.
"من مذابحِ النورِ تُولدُ / صورةٌ داكنة" — مفارقة بلاغية تقلب المفاهيم، حيث يولد الظلام من النور.
"ولدَ قابيل الملعون" — نهاية رمزية توثّق الجريمة بأصلها التوراتي؛ الأخ الذي يقتل أخاه، في إحالة إلى القتل الأول في التاريخ البشري.
هذا التناص مع قصة قابيل وهابيل يضيف بعدًا أخلاقيًا وجوديًا للنص، يجعل من القاتل المعاصر امتدادًا لإثمٍ أوليٍّ أبديٍّ.
خامسًا: الأسلوب العاطفي – شحنة وجدانية مكثّفة
القصيدة تفيض بالحزن، لكنها لا تسقط في المباشرة أو الخطابة. بل تستخدم أسلوبًا شبه طقوسيّ:
"أعمالُهم الصغيرةُ / قُدِّمَت للهِ هديةً / من أمهاتٍ مكلومات."
هنا تتحول الأم إلى كاهنة حزينة، تقدم قرابينها على مذبح الألم.
أسلوب التعبير يتسم بالتقديس والرهبة، ويمنح النص عمقًا وجدانيًا يكاد يُسمع صوته في الصمت.
سادسًا: المفارقة (Paradox) كأداة جمالية
المفارقة عنصر أسلوبي بارز في القصيدة:
"ولا ينوحُ على الراحلينَ / إلّا الركام" — مفارقة بين الإنسان والجماد، حيث يصبح الصخر أكثر وفاءً من البشر.
"من مذابح النور تُولد صورة داكنة" — مفارقة بين المفترض والمتحقّق.
تُستخدم هذه التقنيات لتسليط الضوء على عجز المنطق أمام المأساة، وعلى قلب المفاهيم في زمن القتل المجّاني.
خاتمة أسلوبية:
في "مذبحة الأبرياء"، تعتمد فرانكا كولوتسو أسلوبًا شعريًا يتميز بـ:
الرمزية الكثيفة
الإيقاع الداخلي الهادئ والموجع
التناص الديني والوجداني
الصور البصرية الممزوجة بعناصر سماوية وأرضية
إنها قصيدة تكتب الحزن لا لتستهلكه، بل لتؤبّده، وتحوله إلى أثر شعري خالد.
الأسلوب هنا ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل هو جزء عضوي من المأساة نفسها.
***
بقلم: كريم عبد الله – العراق
...............................
مذبحة الأبرياء
أجنحةٌ للريحِ قد نُشِرَتْ، فانطلقتْ
في موكبِ الصمتِ العلوي،
تنسابُ كريشٍ هائم،
ترفرفُ، تصعدُ، تحلّقُ،
من مستشفى غزّةَ المكلوم،
حيثُ الصاروخُ قد هوى،
فمزّقَ قلبًا عتيقًا، نابضًا بالحياة.
*
نهضوا معًا، كأنهم السرافيم،
خُطِفوا من لعبِ الطفولةِ البريئة،
والآنَ اللّعبُ مذبحةٌ لا تنتهي.
أجنحةُ الغِربانِ تمرُّ فوقَ الخراب،
تداعبُ أجنحةَ الملائكةِ في الأعالي.
*
يبهتُ المساءُ
وسطَ أشباحٍ تتهادَى،
ولا ينوحُ على الراحلينَ
إلّا الركام،
موتى بلا ذنبٍ يُذكَر،
وقبرٌ جماعيٌّ
للأطرافِ المبتورةِ.
*
الأطفالُ ما عادوا يخافون،
فزمجرةُ الجحيمِ سكنت،
والجوعُ، والعطشُ، صمتوا.
أعمالُهم الصغيرةُ
قُدِّمَت للهِ هديةً
من أمهاتٍ مكلومات.
من مذابحِ النورِ تُولدُ
صورةٌ داكنة،
تكشفُ أرضًا مدنّسةً
ووَلدَ قابيل الملعون.
***
للشاعرة: فرانكا كولوتسو - ايطاليا