قراءات نقدية

قراءات نقدية

ينتمي نص الشاعرة الجزائرية نادية نواصر "كن لباساً لي" إلى فضاءٍ شعريٍّ تتقاطع فيه التجربة الوجودية والروحية والأنثوية ضمن رؤية رمزية عالية الكثافة، تُعيد صياغة علاقة الإنسان — وبالأخص الأنثى — بالكون، والذات، والآخر، والقداسة.

في زمنٍ تواطأت فيه العقول على الصمت، وتآلفت الحواس مع الركود، تبدو الحاجة ماسّة إلى استعادة الجنون بوصفه يقظةً عليا لا سقوطاً في العبث. فالمجنون الحقّ، كما رآه نيتشه، هو من يمتلك شجاعة الانفصال عن القطيع، ومن يجرؤ على رؤية الحقيقة بلا أقنعة. إنّ غياب هذا "الجنون الخلّاق" في ثقافتنا ليس سوى علامة على تبلّد الحسّ الجمعي، وضمور القدرة على الاندهاش، وتحوّل الوعي من طاقة حارقة إلى رماد بارد.

تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك فكرة "الجنون" بوصفها استعارة وجودية وثقافية، وإلى الكشف عن علاقتها بالتحرّر والإبداع، في مقابل "العقل المروّض" الذي جعل من الإنسان العربي كائناً متكيّفاً مع القبح، بدلاً من أن يكون شاهداً على الجمال ومتمرّداً على الركود.

في سياق هذه الدراسة النقدية التحليلية الموسّعة، أعتمد المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي والأسلوبي والرمزي والجمالي والوطني والسيميائي، مع الغوص في البنية النفسية والدينية للنص، وكشف ما تحته من توترٍ وومضٍ وتأويل.

أولًا: العتبة النصية والتأويل الهيرمينوطيقي للعنوان

١- العنوان «كن لباسًا لي» يقوم بوظيفة رمزية عالية ويفتح أفق التأويل على مستويات متداخلة:

٢- دينياً: إحالة إلى الآية القرآنية: «هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن»، فيكون اللباس هنا رمزًا للستر، والأمان، والالتحام الوجودي بين الروحين.

٣- وجودياً: اللباس هو ما يقي العراء الداخلي للذات، أي بحث الإنسان عن معنى يحتضنه في عزلته الكونية.

٤- شعرياً: اللباس استعارة عن الكلمة نفسها، عن اللغة التي تتشكل لتغطي جرح الوعي وتُعيد للذات دفأها في برد العالم.

إذاً، العنوان يُبشّر منذ البدء بنصٍّ يسعى إلى التحامٍ وجوديٍّ بين الذات والآخر، بين الإنسان والمطلق، بين الأنثى والعالم.

ثانياً: فضاء الغربة والبرد — القراءة الهيرمينوطيقية الوجودية:

تفتتح الشاعرة ناديا نواصر نصها بهذه اللوحة، تقول:

- في المدار العامر بالغربة والصقيع

وعلى رصيف العمر المتعب

حيث دقت أجراس الخواء

واعتراني أنين الروح...

يبدو الافتتاح نُقطة انطلاق لتجربة أنطولوجية عميقة، إذ تُشيّد الشاعرة فضاءً سردياً يتقاطع فيه الوجود والعدم، الامتلاء والخواء، الدفء والصقيع.

إنها ترسم مشهد الكائن المعاصر في غربةٍ كونية، على رصيف العمر، أي على هامش الزمن، حيث تدق أجراس الخواء — وهو تعبير سيميائي عن انقراض المعنى وضياع المقدّس.

- من منظور هيرمينوطيقي، يمكن القول إن هذا المقطع يُعبّر عن تجربة تأويلية للعالم كغياب، حيث الغربة ليست مجرد حالة شعورية، بل تجسيد لفراغ المعنى في زمن “الزمن الضال”، كما تقول لاحقًا.

ثالثاً: التحليل الأسلوبي — اللغة بوصفها كينونة:

أسلوب نادية نواصر كثيف، متشظٍ، يقوم على المجاز المركّب.

اللغة هنا ليست أداة وصف، بل حالة وجودية تتجسد فيها المعاناة والتحوّل:

١-الجمل تتقاطع في حركة دائرية تحاكي دوران الكائن في "مدار الغربة".

٢- الأفعال تأتي في نسقٍ توتّري: اعتراني، مزّق، لملم، رحت، انزف، ابصر...، ما يمنح النص ديناميكية شعورية تحاكي الانفعال الداخلي.

٣- تتعدد الحقول المعجمية: (الروح، الصقيع، النور، الخفق، الصراع، المحنة، المحراب، المطر...)، وكلّها تُحيل إلى تجربة صوفية–أنثوية تبحث عن المعنى بين الألم والرجاء.

٤- الأسلوب قائم على اقتصاد العبارة وغزارة الإيحاء، وعلى انزياحٍ لغوي يرفع الكلمة من وظيفتها الإخبارية إلى مقام الرمز الشعري.

رابعاً: القراءة الرمزية والسيميائية — المعجم الدلالي للرموز:

القصيدة شبكة رموز متماسكة، تُبنى بعناية لاهوتية وشعرية في آنٍ معاً.

- الرمز دلالته التأويلية وظيفته السيميائية:

الصقيع فراغ الروح، قسوة العالم، موت العاطفة علامة على اغتراب الكائن في عالمٍ بلا دفء

أجراس الخواء صوت العدم تجسيد لصدى داخلي يذكّر بالفراغ المقدّس

الكاهنة الأنثى العارفة، الحارسة للسر تمثيل لعودة الصوت الأنثوي في التاريخ

الصلصال الخلق والضعف الإنساني رمز للتكوين الأول، للإنسان الذي ما زال في طور العجن الإلهي

جب يوسف محنة المعرفة والاصطفاء تجسيد للغور الداخلي حيث يبدأ التحول الروحي

الفراشة الهشاشة والتحول رمز النفس التي تحترق في النور لتولد من رمادها

اليقطين والنرجس والياسمين رموز نباتية روحية إحالات إلى البراءة والمعرفة والجمال المنقذ

اللباس الستر، الحماية، الاندماج الروحي الرمز المركزي: وحدة الكينونة بين الأنا والآخر

من خلال هذا النسق الرمزي، يتضح أن الشاعرة تبني ميتافيزيقا شعرية للأنوثة، تستند إلى تجربة روحية منفتحة على المقدّس والمأساوي في آنٍ معًا.

خامساً: البنية النفسية والدينية — بين الخطيئة والقداسة

يتخلل النص وعيٌ ديني–نفسي متوتر، إذ تتحرك الشاعرة في منطقة ملغّمة بين الإثم والمعرفة، وبين الطهر والتمرد.تقول:

إني من صلصال الإنسان في الزمن الضال،

فاحفظ نشيدي المر عن ظهر المحنة.

هذا المقطع يلخّص الوعي التراجيدي بالإنسانية الساقطة والمجاهدة في آنٍ واحد.

١- الزمن الضال ← فقدان البوصلة القيمية.

٢- النشيد المر ← الإبداع بوصفه خلاصًا عبر الألم.

٣- المحنة ← امتحان الوجود والروح.

- الخطاب الديني هنا لا يأتي في بعده الطقوسي، بل في بعده الأنطولوجي: إنها صلاة ضدّ الخواء، وعودة إلى “محراب التقوى” لا لطلب الغفران فحسب، بل لاستعادة الإنسان من طينه الأول.

- من منظورٍ نفسيّ، النص يُجسّد صراع الذات الأنثوية بين الاحتراق والنجاة، الانكشاف والستر، الجرح والأمان.

فالقول "كن لباسًا لي" هو طلب للاندماج العلاجي بالآخر الذي يمنحها اتزاناً بعد انفراط المعنى، أشبه بنداءٍ نحو “الأنيموس” في اصطلاح كارل يونغ — المبدأ الذكوري الداخلي في النفس الأنثوية الذي يُعيد توازنها الروحي.

سادساً: المستوى الجمالي والوطني

على المستوى الجمالي، القصيدة لوحة سريالية من الضوء والبرد والنشيد، تجمع بين شفافية الصورة وقوة البنية.

يتجلّى الجمال في:

١- موسيقى داخلية تعتمد على تكرار الأصوات الرخوة (السين، النون، الميم)، ما يمنح النص نغمة روحية شفيفة.

٢- توازٍ إيقاعي بين المقاطع يعيد للقارئ إحساس “التسبيح الشعري”.

٣- بنية الصور تعتمد على التناص مع الأسطورة والرموز الدينية دون انغلاق، مما يمنح النص بعداً إنسانيًا كونياً.

أما البعد الوطني، فيتجلى خافتًا لكنه حاضرٌ من خلال الإحالة إلى "الزمن الضال" و"أجراس الخواء"، وهي إشارات رمزية إلى وطنٍ مثخنٍ بالخذلان، وإلى الذات الجماعية التي تبحث عن خلاصها في فضاء من العراء والتمزق. إن استدعاء "جب يوسف" و"صلصال الإنسان" يُشير ضمنًا إلى الهوية الممزقة للعالم العربي بين المحنة والأمل.

سابعاً: القراءة السيميائية الكلية للنص

النص منظومة علامات متشابكة تعمل وفق دائرة دلالية مغلقة–مفتوحة:

1. الفضاء المكاني: (المدار، الرصيف، المفترق، المحراب، الجب...)

→ تمثل رحلة الداخل والخارج، بين العزلة والانفتاح.

2. الفضاء الزمني: (مواسم المطر، الفصول، الزمن الضال...)

→ يعبّر عن التحوّل والديمومة والتجدّد.

3. الفضاء الصوتي: (أجراس، صلوات، نشيد، أغاني...)

→ يشكل نسيجًا صوتيًا دينيًا–شعريًا، يجعل اللغة أداة خلاص.

4. الذات المخاطِبة والمخاطَبة:

→ “الأنا” الأنثوية في حوارٍ مع “أنت” الغيبي/الرمزي/الإلهي، مما يخلق جدلية الأنوثة والإلهام، الإنسان والمطلق.

في ضوء السيمياء، يتحول النص إلى نظام إشاريّ للبحث عن الالتحام الكوني: الكلمة ← جسد، اللباس ← وعي، المطر ← بعث، الصقيع ← موت، والنداء الأخير "كن لباسًا لي" ← عودة إلى وحدة الوجود.

ثامناً: الخاتمة التأويلية:

قصيدة "كن لباساً لي" هي تجربة روحٍ تبحث عن دفئها في زمنٍ مفقود المعنى.

هي صلاة ضد الصقيع، وأناشيد أنثى تتحدى الخواء بالخلق.

فيها يتعانق الديني بالأسطوري، والأنثوي بالكوني، والجرح بالجمال.

منال نواصر — في هذا النص — لا تكتب عن الحب فحسب، بل عن التحامٍ كونيٍّ يعيد الإنسان إلى فطرته الأولى، ويحوّل الشعر إلى طقس خلاص يعيد للروح لباسها النوراني.

إنها كتابة تمشي على الحافة بين التقديس والجنون، بين الأرض والسماء، لتعلن أن الشعر وحده يملك القدرة على ستر عُرينا الوجودي، وعلى أن يكون “لباساً لنا” في برد هذا العالم.

***

بقلم: عماد خالد رحمة – برلين

...................

كن لباسا لي

شعر نادية نواصر

في المدار العامر بالغربة والصقيع

وعلى رصيف العمر المتعب

حيث دقت اجراس الخواء

واعتراني انين الروح

في الخطوة المكتظة بلسعة البرد

وفي الذي بين جوانحي

من صخب الرحلة المرفوعة

على اذرع من وهن المجاز

في الذي مزق تلافيف الروح

في مهب الريح

ومفترق الجهات

في مقام الكاهنة وهي تسرد

عصف الرماح

على الظهر المكابر

في كل الذي لملم نثار القلب

وسهوب الخفق

عاينتني في المفترق المسمى

ورحت اتحراني

بين ادغال خطاي

ومعبر اليقين

حافية القلب

عارية الروح

إلا من صراع كينونتي المستميت

يا صوت النور

يا هذا الضوء الشفيف

يا صلوات الله

في محراب التقوى

يا نداء السلام الروحي

إني من صلصال الإنسان

في الزمن الضال

فاحفظ نشيدي المر عن ظهر المحنة

كي اخرج

من وهج النرجس

وجرأة الياسمين

من قصص اليقطين

أحمل أشلائي واطلع من جب يوسف

مترعة بكؤوس الحياة

وعنب المواسم

في مدار الفصول

وانحناءة المعنى

يا أنت ، ياصدى الأغاني

وهي تنبثق من أرخبيل الروح

كن لباسا لي

في مواسم المطر

وعواء الريح

كن نارا تسكت ارتجاف الصدر

من برد الفصول

إني الفراشة والنشيد الحر

والصهد الطالع

من وهج الأغاني

رغم السقوط المر

في غياهب الغيم

محمولة على وخز الظنون

وخيبة النوايا

مازلت انزف فيك

ومازلت ابصر ان كفك ملاذي

وأن عينيك شدوي وغنائي

وصبابتي وعطش المساء

إلى ينابيع القول

 

يشكل ديوان "التحليق بأجنحة من حجر" علامة فارقة في التجربة الشعرية للشاعر العراقي يحيى السماوي، إذ يعبّر فيه عن جدلية الاغتراب والمنفى، وعن الشوق العميق إلى الوطن (السماوة/ العراق)، وعن هواجس الذات الممزقة بين الحب والحنين، وبين الأمل واليأس.

العنوان نفسه يحمل تناقضا وجوديا فالتحليق رمز الانعتاق والحرية، بينما الأجنحة من حجر تعبير عن الثقل والقيود والاستحالة. وكأن الشاعر يقول: إن الحرية نفسها مشروطة بعوائق قاسية، وأن الطيران نحو الحلم لا يتم إلا بأجنحة معطوبة أو مثقلة بالوجع.

إن الشاعر العراقي الكبير يحيى السماوي من الأصوات الشعرية العراقية التي ارتبطت تجربتها بالمنفى منذ عقود. فقد دفعته الظروف السياسية القاسية، والملاحقات الأمنية في عهد النظام السابق، إلى مغادرة العراق، فكان الاغتراب سمة بارزة في تجربته الشعرية. وهذا ما يفسر كثافة حضور الوطن في قصائده، حيث يتحول العراق إلى رمز للفردوس المفقود، وإلى جرح دائم يسكن النص.

في هذا الديوان، نجد امتدادا لثيمات شعرية ظهرت في دواوينه السابقة مثل "قليلكِ لا كثيرهن" و"الأفق نافذتي"، غير أن "التحليق بأجنحة من حجر" أكثر كثافة من حيث الحضور الوجودي والصوفي. وهو ديوان يتسم ببنية شعرية تزاوج بين القصيدة الحرة والنص المفتوح على النثرية الشعرية، مما يتيح للسماوي مساحة أكبر لاستيعاب القلق الوجودي والفلسفي الذي يطرحه. ويمكن أن نستشف البداية من قوله:

"وحدي وظلّي

بين أربعةٍ ونافذةٍ تُطلُّ على الحديقةِ

حيثُ لا شجرٌ ولا وردٌ سوى

شوكِ القلقْ" (ص: 4).

فهذه البداية تكثّف روح الديوان كله، إذ نجد فيها وحدة الذات، والغربة، وشوك القلق الذي يطوّق الإنسان في غربته. من هنا يمكن القول: إن هذا الديوان يمثل لحظة نضج تكاملي في مسيرة السماوي الشعرية، حيث تتداخل الأصوات الثلاثة الكبرى في تجربته: صوت الوطن، وصوت المرأة، وصوت الاغتراب الوجودي، لتشكل معا وحدة عضوية تعكس رؤية شاعر يكتب من منفى جسدي ومنفى روحي، ولكنه يُصرّ على التحليق ولو بأجنحة من حجر.2012 yahia

أما متابعة البعد الأدبي والفني من حيث اللغة، والصور الشعرية، والإيقاع، وبنية القصيدة، فيتأسس ديوان "التحليق بأجنحة من حجر" على لغة شعرية غنية بالصور والرموز والاستعارات، لغة تُزاوج بين البساطة في التعبير والعمق في الدلالة. وهذا ليس غريبا على يحيى السماوي الذي يمتلك قدرة خاصة على جعل اللغة اليومية العادية تتجاوز حدودها المألوفة لتصبح لغة رؤيا وحلم. ففي قصيدة "وحدي وظلّي" يقول:

وحقيبةٍ فيها من الكُتُبِ الكثير

وبعضُ ألبسةٍ مُغَلَّفةٍ ـ هـدايـا ـ والقليلُ من العطورِ

وشمعدانٌ بابليٌّ ليسَ أصليّاً

ولكن النقوش البابلية لا أدقْ" (ص: 4).

حيث نلحظ اللغة هنا مزيجا بين الواقعي: الكتب، الألبسة، العطور، والرمزي: الشمعدان البابلي؛ لتخلق مشهدا شعريا يفتح الباب لتأويلات تاريخية وثقافية، حيث يربط الشاعر بين ماضي الحضارة البابلية وحاضره المنفي.

أما صور الديوان الشعرية فهي مركبة ودينامية، تمزج بين الطبيعة: الحديقة، والريحان، والبحر، والتاريخ: أوروك، وبابل، وسومر، وبين الرموز الصوفية: الخمر، والطير، والنور:

"عبرتْ بيَ السبعَ الطباقَ

وسافرتْ بي في بحارٍ لم يزرها السندباد

وليس ينجو من زلازل مائها الضوئيِّ

إلا من غرقْ" (ص: 12).

وهي صورة تنفتح على فضاء كوني واسع، يمزج الأسطورة (السندباد) بالبعد القرآني (السبع الطباق)، في مشهد يرفع التجربة العاطفية إلى أفق كوني أسطوري.

ومن الناحية الإيقاعية، يميل السماوي إلى استخدام قصيدة التفعيلة، لكنه لا يتقيد بالوزن الصارم بل يترك للنص انسيابا نثريا أحيانا. هذا التداخل بين الوزن والنثرية يعكس القلق الداخلي للنص:

جرحٌ بلا نزفٍ

وحزنٌ دون أسبابٍ

وأفكارٌ مضببةٌ مشتْ بي

نحو فيءِ الصالة القزحية الأضواء

في قصر الغدير الرحب" (ص: 13).

وهنا غاب الوزن الشعري التقليدي لصالح إيقاع داخلي قائم على التكرار (بلا نزف، دون أسباب) وعلى تراكم الصور التي تولد موسيقى داخلية متوترة.

ومن أجل أن يبعث السماوي في القارئ دفء المشاعر لم يجعل مقطوعات الديوان قصيرة مستقلة فحسب، بل جعلها نصوصا متدفقة نابضة بالحياة، أشبه بتيار الوعي الشعري. فكثير منها تبدأ بلحظة يومية أو صورة بسيطة، ثم تتوسع عبر التداعيات لتصل إلى عوالم رمزية وفلسفية عميقة.

فعلى سبيل المثال تبدأ قصيدة "وحدي وظلّي" بوصف واقعي: نافذة تطل على الحديقة، لكن المقطوعة سرعان ما تتحول إلى رحلة وجودية تتأمل في معنى الغربة والمصير. من هنا يمكن القول إن البنية الشعرية عند السماوي تقوم على التصعيد التدريجي للصور والمعاني، حيث تتحول القصيدة من مشهد أولي محدود إلى فضاء كوني شامل.

أما البعد الوجودي في الديوان فقد أخذ حيزا كبيرا وشغل مساحة مركزية فيه، فالسماوي شاعر يعيش تجربة المنفى القاسية، وتنعكس هذه التجربة في قصائده التي تنضح بالقلق، والغربة، والبحث عن المعنى، والهواجس المتعلقة بالموت والحياة:

"جرحٌ بلا نزفٍ

وحزنٌ دون أسبابٍ" (ص: 13).

 هذه هي بالضبط اللاجدوى التي تميز التجربة الوجودية، حيث يصبح الألم حاضرا بلا سبب ظاهر، ويتحول الجرح إلى رمز للوجود الإنساني الممزق. كذلك نجد حضورا واضحا للاغتراب:

"أمضيتُ نصفَ العمرِ منطفئَ الخطى

أقفو ضياعا بالمزيدِ من الضياعِ

ونصفهُ الثاني نزيلَ الغربتينِ

وها أنا وحدي وظلي

بين أربعة من الصخر الملون

استجير ولا أجار" (ص: 25).

 فالاغتراب هنا مزدوج، لأنه غربة الوطن، وغربة الروح. وكأن الشاعر يعيش في منفى خارجي (الغربة الجغرافية) ومنفى داخلي (الغربة عن الذات). أما سؤال الموت والحياة فيحضر عبر جدلية الاستسلام والمقاومة:

"أفشلتُ نفسي

بامتحاني في دروس البحر

فاخترتُ الغرقْ

ليكون حبك لي إذا حان الردى

طوق النجاة" (ص: 27).

إن الغرق هنا ليس فقط موتا جسديا، وإنما اختيارا وجوديا يعكس صعوبة التوازن بين الحياة في المنفى والموت في الوطن. إنه خيار بين موتين، وكلاهما محاط باللاجدوى. وممكن أن نستشف من النماذج التي قدمناها أن البعد الوجودي عند السماوي هو القلق واللاجدوى، والمنفى المزدوج الخارجي والداخلي، وجدلية الحياة والموت كخيارات متساوية العبثية.

ومثله البعد الفلسفي نجده يتجلى في الديوان من خلال طرح أسئلة كبرى تتعلق بالحرية والقدر، والحضور والغياب، الكينونة والعدم:

"ما منقذي مني سوايَ 

أنا عدوّي لو جنحتُ عن اليقينِ

وليس غيري من يقيني شر نفسي

من غوايتها

ولا غيري يقود خطاي نحو جنان فردوس

ونحو جحيم نار" (ص: 26).

فهذا المقطع يستحضر بوضوح الفلسفة الوجودية عند سارتر، وكيركغارد، وهايدغر، تلك الفلسفة التي تؤكد أن الإنسان مسؤول عن مصيره، وأنه هو من يختار خلاصه أو هلاكه.

فالفلسفة الوجودية عند هؤلاء تقوم على مبدأ جوهري هو حرية الإنسان ومسؤوليته عن وجوده. فالوجودية عند كيركغارد ذات طابع ديني؛ فهو يرى أن الإنسان يقف أمام الله حرّا، وأن خلاصه يتحقق بالإيمان الفردي الصادق لا بالمؤسسات أو القوالب. أما هايدغر، فوجوديته أنطولوجية، تركز على سؤال الوجود ذاته، وترى أن الإنسان (الدازاين) يعيش في قلقٍ أصيل لأنه يدرك فناءه، وعليه أن يختار العيش الأصيل بدلا من الذوبان في الناس. في حين أن سارتر جعل الوجودية ملحدة وإنسانية؛ فالإنسان عنده لا يُخلق بطبيعة مسبقة، بل يصنع ذاته باختياره الحر، وهو مسؤول بالكامل عن أفعاله ومعناها في عالم بلا إله. وملخص فلسفتهم ثلاثتهم هي الحرية والاختيار والمسؤولية، حيث يختار الإنسان خلاصه أو هلاكه بيده، ومركزها الحضور والغياب:

نزقي أضحى تقى من بعد طيشٍ

عدت كالأمس بتوليَّ المرايا

فاحفظي عن ظهر قلبي

أنت قد أصبحت لي مئذنة العشق

وإني منذ صليت بمحرابك

أصبحت بلال" (ص: 100)

تليه جدلية الوجود والعدم:

"ما انصفتني الغربتان ولا انا

انصفتها إلا هواك المنصفُ"

ومثلها:

سيان عندي أن أصنف مؤمنا

أو انني عبد الغرام أُصنَّفُ

ما دمت اعرفني فليس بضائري

إن قيل خطوي راسخ او أحنفُ"(ص: 91)

وبرأيي أن هذا الكم من البعد الفلسفي في هذا الديوان يضعنا أمام شاعرٍ يمارس فلسفة شعرية لا عبر المفاهيم المجردة، وإنما عبر الصورة والرمز واللغة الشعرية.

ولتعميق المعنى وتخليد الفكرة نرى للبعد الصوفي حضورا في الديوان عبر مزج الحب الإنساني بالحب الإلهي، وتحويل التجربة العاطفية إلى تجربة روحية:

"متوضئاً بنداكِ صليتُ الغروبَ

ميمماً نحو الوحيد الواحد الأحد الفؤادَ

ونحو خذرك مقلتي

وفمي توجه نحو كوثر زمزمكْ" (ص: 15).

فضلا عن الرموز الصوفية التقليدية مثل: الخمر والطير والبحر والنور، كما في قوله:

"أسقيكِ من خمرِ التبتلِ شربةً

هيَ للطريحِ من الهيامِ تطبُّبُ"

فالخمر هنا ليست خمرًا حسية، وإنما هي رمز صوفي للتجربة الروحية التي تفيض بالسكر المقدس. أما البحر، فيتحول إلى فضاء للامتحان الروحي:

"أفشلتُ نفسي بامتحاني في دروس البحر

فاخترتُ الغرقْ»  ( 27).

ذلك لأن الغرق عند المتصوفة هو رمز للفناء في المحبوب أو المطلق، وهو المعنى الذي يعكسه النص. ويعني هذا أن السماوي استخدم اللغة الصوفية ليعبّر من خلالها عن تجربة وجودية عاطفية في آن واحد، حيث يتداخل المقدس بالدنيوي، والإنساني بالإلهي.

من هنا أعتقد، بل أوقن أن ديوان "التحليق بأجنحة من حجر" وهو بكل هذه الفخامة لا يمثل مرحلة متقدمة في تجربة يحيى السماوي، وإنما جاء متمما لتلك الفخامة التي وجدناها عند السماوي منذ سنين طوال وهي التي أهلته ليتربع على عرش الشعر العربي المعاصر، والدهشة التي أثارها هذا الديوان، ليس لأنه يمثل مرحلة متقدمة في مسيرة السماوي، لا أبدا، وإنما لأنه يعكس وعيا شعريا معاصرا ينفتح على أسئلة الكينونة، وفي الوقت ذاته يحافظ على الجذر العراقي العربي في صوره ورموزه، وهذا هو ديدن السماوي في الأعم الأغلب من دواوينه.

***

د. صالح الطائي

دراسة هيرمينوطيقية في البنية الرمزية والجمالية لقصيدة ماجدة الفلاحي

تمثل قصيدة "زرقاء اليمامة" للشاعرة ماجدة الفلاحي استدعاءً أسطوريًّا لشخصيةٍ غائرة في الذاكرة العربية، تكتسب حضورها لا بوصفها رمزاً أنثويّاً فحسب، بل بوصفها ضميراً جمعيّاً يرى ما لا يُرى، ويصرخ في وجه العمى العام.

في هذا النص، تتحول زرقاء اليمامة من أسطورة إلى كائن شعري معاصر، يتكلم بلغة النبوءة والحقيقة، ويُعاد إنتاجها في سياقٍ وطنيٍّ مأزومٍ يشي بانكسار البصيرة وانتصار الظلام.

أولًا: القراءة الهيرمينوطيقية (التأويلية).

المنهج الهيرمينوطيقي يفترض أن المعنى ليس جاهزًا، بل يُنتَج في الحوار بين النص والمتلقي.

منذ المطلع:

 تخرج من حواشي البؤس / ومن تضاعيف القهر

تُعلن الشاعرة أن الولادة الشعرية هنا هي ولادة من الألم، من حواشي لا من المتون، من الهوامش التي تلد الرؤية.

تتجلى "زرقاء اليمامة" كصوت يتكلّم من هوامش التاريخ والجغرافيا، تقف في منطقةٍ وسطى بين النبوة والشهادة، بين الصمت والصراخ، بين الرؤية والعجز.

تُعيد الشاعرة قراءة الموروث الأسطوري تأويليّاً:

فـ"زرقاء اليمامة" لا تعود تلك المرأة الخارقة البصر في التاريخ، بل أنثى معاصرة تُرى من خلالها أزمنة القهر العربي وتكرار العمى الجمعي.

تتحول النبوءة إلى وعيٍ جريحٍ، والرؤية إلى لعنةٍ معرفية.

وهكذا تُنتج الفلاحي تأويلاً حديثًا للأسطورة، يمنحها بعدًا وجوديًّا ووطنيّاً.

ثانياً: القراءة الأسلوبية

تُبنى القصيدة على جمل قصيرة متوترة إيقاعيًا، تميل إلى الجمل الاسمية والفعلية ذات البنية المتوازنة، كقولها:

ليلها طويل... طويل كسرابٍ لا ينتهي

وصدرها حرائق لا تنطفئ

هذا التكرار الصوتي (طويل... طويل) يُجسّد ديمومة الانتظار والخذلان، في حين أن الصور (حرائق – جمر – غيم مثقل – غيث مؤجل) تشحن النص بطاقةٍ شعوريةٍ متوترة تجمع بين الاحتراق والخصب المؤجل.

كما أن الاعتماد على التوازي الأسلوبي في المقاطع الختامية:

 أنت الصوت / أنت النور / أنت الصرخة / أنت النصر / وأنت الحقيقة / وأنت الحياة

يؤسس لذروةٍ خطابيةٍ أقرب إلى البيان النبوي أو الإنشاد الطقوسي، مما يكرّس حضور "زرقاء اليمامة" بوصفها رمزًا للقداسة والرؤية والقيامة المعنوية.

ثالثًا: البنية الرمزية والسيميائية

من منظور سيميائي، تحوّلت العلامات الكبرى في النص إلى رموز متداخلة الدلالة:

١- العين: ليست أداة إبصار فحسب، بل رمز للوعي والنبوة والاختلاف. حين تقول الشاعرة:

 فلن يستطيعوا قلع عينيكِ

فإنها تؤكد أن رؤية الحقيقة لا تُقتل، وأن البصيرة لا تُستأصل حتى وإن عميت الأبصار.

٢- الليل: يحمل دلالة مزدوجة؛ إنه ليل القهر والجهل والخذلان الجماعي، لكنه أيضًا رحم النبوءة، حيث يولد الضوء.

٣- الصوت والقصيدة: يتحولان إلى وسيلة مقاومة، إلى معادل رمزي للوجود والحرية.

٤- القيود – الصحراء – الصمت – البحر الغائب: علامات سيميائية على غياب الخلاص الجمعي، واحتباس الروح في وطنٍ فاقدٍ للبحر أي للاتساع والانطلاق.

رابعاً: البنية النفسية والدينية

تستحضر الشاعرة البعد النفسي العميق لشخصية زرقاء اليمامة بوصفها امرأة "ترى أكثر مما يُحتمل".

هذا الإدراك الفائق يتحول إلى عبءٍ نفسيٍّ وكينونيٍّ؛ إذ تعيش حالة "الوعي المأساوي" التي وصفها نيتشه حين قال: من يرى الحقيقة كاملةً لا يملك إلا أن يتألم منها.

فالقصيدة تكشف الانقسام النفسي بين الرؤية والعجز عن التغيير.

زرقاء الفلاحي ليست مجنونة كما يقول عنها الآخرون، بل ضحية وعيها المتجاوز.

- أما البعد الديني في النص، فيتجلى عبر الإيحاء القرآني والنبوي، تقول:

 لا تقول إلا ما أوحي إليها

هذا التضمين الديني يعمّق من قداسة الرؤية الشعرية ويجعل الشاعرة تُعيد بناء مفهوم "الوحي" لا كمصدر لرسالة سماوية، بل كمصدر للإلهام الفني والمعرفي.

خامساً: المستوى الجمالي والوطني

الجمال في هذه القصيدة ليس جمال الصورة فحسب، بل جمال الموقف الوجودي.

زرقاء اليمامة تتحول إلى رمزٍ للوطن العربي المصلوب على أسوار المدن العمياء.

حين تقول:

 أرى فرسانها يدفنون رؤوسهم في الرمال

تقدّم الفلاحي صورة مكثّفة للجبن الجمعي، وللخذلان الوطني في وجه الحقيقة.

إنها تصف انهيار النخوة، وانكفاء البصيرة، واستقالة الضمير، ليغدو النص مرثية للوطن ومرافعة عن الصدق.

الجمالية هنا تنبع من صدق الألم واتساق الرمز، لا من الزخرف اللفظي. فكل مفردة تخدم دلالة الرؤية الكبرى، وكل صورة تُسهم في بناء المشهد الدرامي للنبوءة المنكوبة.

سادساً: البنية التأويلية النهائية (ما تحت الجلد الشعري)

تحت الجلد الشعري، ينبض النص بتوترٍ خفيٍّ بين الرؤية والخذلان، الوعي والإنكار، النبوءة والاتهام بالجنون.

هذا الصراع هو جوهر الوجود الإنساني في مجتمعٍ يرفض الرؤية.

زرقاء اليمامة، في تأويلها الأخير، ليست امرأة من زمنٍ مضى، بل هي كل ذاتٍ مبصرةٍ تُعاقَب على وعيها.

القصيدة، بذلك، ليست فقط نصًّا شعريًّا بل صرخة معرفية ضد العمى الجمعي والاغتراب العربي.

خاتمة:

في ضوء التحليل الهيرمينوطيقي والأسلوبي والسيميائي والنفسي والديني، يمكن القول إن قصيدة "زرقاء اليمامة" لماجدة الفلاحي تُجسّد رؤية شعرية كبرى عن مصير الرؤية في زمن الانطفاء.

لقد استطاعت الشاعرة أن تُحوّل الأسطورة إلى كائنٍ معاصرٍ يتكلم بلسان الحقيقة والجرح معًا، وأن تخلق نصًّا تتعايش فيه الرموز الدينية مع البنية الوجدانية والجمالية، في توازنٍ نادر بين المأساة والنبوة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

.......................

"زرقاء اليمامة"

تخرجُ من حواشي البؤس

ومن تضاعيفِ القهر

امرأةٌ تأتي من زمنٍ ولّى

تكتم جراحها

تلملم ما تناثر من تاريخ نبوءتها

وتعبر الصمتَ بوجعٍ معلنٍ في مدى عينيها.

*

ليلُها طويل…

طويلٌ كسرابٍ لا ينتهي

بلا أجنحةٍ تطير

وصدرُها حرائقُ لا تنطفئ

وغيمٌ مثقلٌ بجمر الانتظار

وغيثٌ مؤجَّلٌ لا يأتي

وفي جوفها وَجَلٌ يسكنه الصدى.

*

تحاصرُ شفتيها قصيدةٌ عنيدة

وإن قالت

لا تقولُ إلا ما أُوحيَ إليها.

تتركُ البابَ مواربًا

وتختفي وراء جدرانٍ خرساءَ باردة،

ومن كهفها تتبعها تاؤُها كظلٍّ من ضوءٍ غابر.

*

نادت

حذّرت

أنذرت

قالت:

أرى أشجارَ بلدتي تموت واقفة

أرى فرسانها يدفنون رؤوسهم في الرمال

أرى سيوفهم مغمدةً في صدر نبوءتي

وسياطهم تجلدُ ظهرَ قصيدتي

وأرى قيودهم في يدي

ولا بحرَ في بلدتي

ولا مركبَ أُلقي إليه شراعي.

*

هذا الغامضُ الخفيُّ يُنبئني:

أنا والمطلقُ واحد

لا حدودَ لرؤيتي.

*

قالوا عنها:

عرافة

قدّيسة

نبيّةٌ مرسلة.

قالوا: أنَّى لها الحكمة؟

*

ذاكرتُها وهمٌ

ولغتُها هذيان

وما تقول إلا خرفًا وثرثرة.

*

لا ملاذ لها هنا…

ما كذبت عيناها

بل هم كذبوا.

*

لا تتواري إن خذلوكِ

اصمدي ولا تُغادري

فلن يستطيعوا قلعَ عينيكِ

ولا صلبَكِ على بابِ المدينة.

*

أنتِ الصوتُ

أنتِ النورُ

أنتِ الصرخةُ

أنت النصر

وأنت الحقيقة

وأنت الحياة.

***

من ديوان مساء المرايا 2022

 

عتبة الولوج: غزة الإسلام أو النبش في الجذور للعبور من النضالي المشروع إلى الإنساني

نستهل هذا التحليل لهذه القصيدة التي تحمل بُعدًا دينيًا-وطنيًا-إنسانيًا واضحًا، وتستعرض غزّة بوصفها رمزًا للصمود والبطولة الإسلامية، بصيغة كلاسيكية ذات نفس عمودي بالوقفة العروضبة أو تحديد البحر الخليلي:

نظم الشاعر قصيدته وفق بنية الشعر العربي العمودي الموزون (الشطرين المتناظرين) والقافية الموحدة وقد احترم فيها تفعيلات بحر المديد الذي أرجع فيه الخليل بن أحمد الفراهيدي هذه التسمية إلى تمدد سباعييه حول خماسييه، بمعنى أن الأسباب قد امتدت في أجزائه السباعية، فصار أحدهما في أول جزء والآخر في آخره، وهذه البنية لها أثر صوتي ناتج عن اختيار البحر (المديد) وأيضا دور في تثبيت الموسيقى الداخلية وتعضيد الدلالة.

وقد خلص الاستقراء العروضي للقصيدة إلى إحدى صور بحر المديد كالتالي:

فاعلاتن/فاعلن/فعلن ¤¤  فاعلاتن/فاعلن/فعلن

1. التحليل الصوتي:

التوزيع الفونيمي (الحركات والسكنات)

وندرس فيه الظواهر الصوتية البارزة (مثل التجانس، الجناس، الفاصلة الصوتية) وكذا توزيع الفونيمات والتأثير العاطفي

بدءا حضور مكثف للحروف الجهرية والمفخّمة مثل: ق، ط، ص، غ، خ، ر، ح --> تخلق جوًا من القوة، التحدي، العمق، مثلًا في البيت:  ما رهبوا قصف صهينةٍ، نلاحظ: ق/ص/ف/ص/هـ/ن/ة --> تناوب الصوت القوي (ق، ص) مع الأصوات المهموسة (هـ، ن) يصنع صراعًا سمعيًا يعكس الصراع الواقعي.

الجرس الموسيقي: البحر المديد (فاعلاتن – فاعلن – فعلن)

يتميز بإيقاع متوسط السرعة، متدلٍّ، مرن، يوفّر مجالًا للانفعالات الحزينة أو التأملية، كما أن التفعيلة الأخيرة (فعلن) توفّر نهاية مغلقة للصوت، تُشبه الإغلاق العاطفي أو الانكسار.

مثلا: حال قلبي شأنه تعبُ (فعلاتن – فاعلن – فعلن) الحركات المتوالية في "تعبُ" = انتهاء صوتي متشظٍّ، كأنّه تنهيدة.

الانسجام الصوتي (الصوائت/الصوامت): الصوائت القصيرة (فتحة، ضمة، كسرة) تُستخدم بكثافة: الفتحة: تعبير عن الفتح، الغليان العاطفي والضمة: تضيف جرسًا قويًا وقاطعًا.

الصوامت المتقاربة صوتيًا (تجانس صوتي): "طرب / تعب" --> تقارب صوتي (ط/ت + ر/ب)

"نصب / حسب / نجب" --> نهاية باء ساكنة --> توحّد صوتي.

الظواهر الصوتية البلاغية

الظاهرة المثال التأثير

الجناس طرب / تعب توتر دلالي في تشابه صوتي

السجع نسب / حسب / نصب توحيد سمعي – يعزز الإيقاع

التكرار الصوتي "حالُ" تكررت كثيرًا إصرار صوتي يرمز للدوام

الانسجام الصوتي: يتجلى في تكرار الحروف الرخوة المهموسة مثل (ح، ر) والحروف المتوسطة المجهورة (ن، م) التي تمنح النص موسيقى داخلية هادئة تتصاعد مع المعاني القوية.

الجناس: تكرار بعض المقاطع الصوتية مثل: "حالُهُ طربُ / شأنُهُ تعبُ" – التشابه في البنية الصوتية يعطي إيقاعًا صوتيًا متزنًا.

الصوائت القصيرة والطويلة (المدّ الصوتي): تم توظيف الحركات بذكاء لتدعيم الإيقاع الداخلي ولخدمة المعنى، كـ"سَمَقَتْ / سِيماؤُها / شُهُبُ" --> الصوائت الطويلة تعزز الرفعة والعظمة.

وفيما يخص الإيقاع: اعتمد على التكرار الصوتي المتوازن، واستخدم الحركات القصيرة والطويلة بشكل متناغم، مما يعزز من موسيقية الأبيات.

أما في التقارب الصوتي: فنجدكثرة التراكيب التي تحتوي على الأصوات المفخمة مثل (ط، ق، ص، غ) مثل: "طرب، قصف، صهينة، غنّ".

وكذلك في الجناس الصوتي: نلاحظ بعض التكرار في المقاطع مثل: (حالُه – حالُ قلبي)-(نَسَبُ – حَسَبُ).

في خلاصة هذا المستوى نستنتج أن الشاعر استخدم توليفة من الصوتيات للتعبير عن البعد الوجداني الحاد في القصيدة، وتدعيم التوتر العاطفي والقوة التعبيرية.

2. التحليل النحوي والصرفي:

اعتمد الشاعر في هذه القصيدة الجمل الاسمية والفعلية، ما يعكس تنوع التركيب وحيوية المعاني:

في البنية النحوية العامة، استعمل تنويعا في استعمال الجمل، حيث نجد الجمل الإسمية تُستخدم لترسيخ الدلالة، بثبات، وتحويل المعاناة إلى حالة وجودية: "غزّة الإسلام قد سمقت" ليعبر عن الثبات والديمومة في حين كان استعمال الجمل الفعلية بتركيز وفاعلية: "رَكبتْ / نسلتْ / أنجبتْ / يطلبون" وهي جمل تعكس الحركية والنشاط والدينامية والتحوّل والفعل المقاوم وتؤكد على التاريخ والمجد المتجذّر. من حيث زمن الأفعال، نجد الفعل الماضي طاغٍ: "ركبت، زانه، نسلت، سمقت، أنجبت" والفعل المضارع في النهاية "يطلبون" و"يجبُ" يشير إلى استمرار النضال وتجدّده، كما تم توظيف الضمائر المتصلة والمنفصلة مثل: (حالُهُ / شأنُهُ / عطرُهُ / قد رهبوا)، للدلالة على تركيز شعوري وانفعالي.

استخدام أدوات التوكيد والتقوية: "قد" (قد زانه نسب – قد سمقت)، "ما رهبوا" (نفي مؤكد بالفعل).

وخلاصة القول أن التركيب النحوي مرن؛ استخدام المبتدأ والخبر بشكل بلاغي يعكس المعنى الحسي، وعليه، فالبنية النحوية تعكس حالة وجدانية عالية، بتوظيف تنويع الجمل والتوكيد لإبراز المضمون البطولي والتراجيدي.

- الصيغ الصرفية: تركيز على المشتقات

أسماء الفاعل: "طالب" غير مذكورة صراحة، لكن ضمنيًا في "يطلبون"، "هاربون" ضمنيًا في "قد هربوا"

أسماء المفعول: "مرفوع" ضمنًا في "قد سمقت"، لأن غزة "مرفوعة السمْت"

الصيغ المصدرية: إذا كان المصدر هو اسم الحدث المجرد من الزمان والفاعل فلدينا في القصيدة، عدة مصادر، بعضها ظاهر وبعضها مقدّر أو متحوّل:

أمثلة على المصادر الصريحة:

المصدر السياق الدلالي

العتق "يطلبون العتق" الخلاص الروحي والسياسي

الرهب "قد رهبوا"- "رهبة" خوف تعظيمي لله

النصب "حالُها، عنوانه نصب" التعب المتواصل (نَصَب لا منصب!)

الطرب "حالُه طرب" انفعال وجداني عالٍ (فرح أو شوق)

التعب "شأنه تعب" إعياء روحي أو جسدي

ملاحظات على المصادر:

اختيار المصدر دون الفعل --> توجيه الانتباه للحالة كقيمة.

"النصب" --> لا يقول "تنصب" بل "عنوانه نصب" --> التركيز على الحالة لا الفعل.

المصادر مرتبطة بالضمير الإنساني:

"حالُه طرب" --> القلب، "حالُها نصب" --> العيون، "شأنُه تعب" --> الذات

هذه المصادر تتحول إلى علامات دلالية، فهي توصّف الشخصيات والأشياء لا بالأفعال، بل بالأحوال.

أمثلة على المصادر المقدّرة:

في بعض المواضع، نجد أفعالًا تحيل إلى مصادر غير مصرح بها:

"قد رهبوا" --> المصدر: الرهب، ولكن ورد الفعل للتعبير عن الخوف التعظيمي من الله.

"ما رهبوا قصف":  "الرهب" مقابل "القصف" --> مفارقة بلاغية: لم يخافوا القصف، بل رهبوا الله!

"أنجبت فرسانها عبقًا"،  "الإنجاب" هنا يُرادف الإبداع/الخلق/الإخصاب

والمفعول به "عبقًا" --> مصدر مجازي = "عطر معنوي"

في التحليل الدلالي للمصادر:

المصدر القيمة البلاغية

العتق التحرر من "سقر" --> الجحيم --> الاحتلال --> الذنب

الطرب انفعال شعوري شديد --> وجد ديني/وطني

النصب/التعب ديمومة الألم، لا لحظة عابرة

العبق تجريد للفعل الجهادي في صورة "عطر" معنوي

الرهب تحويل الخوف من عدو إلى خشية من الله

3. التحليل المعجمي (اللفظي)

يزخر المعجم الشعري لهذه القصيدة بحقول معجمية غنية ومتنوعة، إذ نجد:

حقل الجهاد والمقاومة: "فرسان، صهينة، العتق، قصف، فجرنا، نصرًا"

حقل الكرامة والمجد: "سؤدد، تليد، حسب، نسب، شرف، نجب"

حقل المعاناة: "تعب، لم تذق رغدًا، نصب، سقر"

حقل الصراع والمقاومة: "قصف، صهينة، العدى، فرسان، فجر"

حقل العزة والنسب الشريف: "هاشم، سؤدد، تليد، حسب، نجب"

حقل الدين والخوف من الله: "عتق، سقر، ربّ، رهبوا"

من الملاحظ أن الشاعر وظف ألفاظا من التراث العربي: "هاشم، سؤدد، تليد، حسب، نسب" ل ربط الماضي بالحاضر واتسمت قصيدته بقلة الألفاظ الدخيلة، مما يدل على نقاء اللغة وعمقها العربي الإسلامي.

وخلاصة القول أن المعجم محكم الدلالة، ويجمع بين البعد النضالي والتاريخي والديني، مما يعطي القصيدة عمقًا في المعنى والرسالة.

4. التحليل التركيبي اللغوي:

اتسمت القصيدة بالأسلوب التقريري المتماسك حيث تؤدي الجمل معاني مباشرة مع صور بيانية مضمّنة.

التوازي التركيبي بين الشطرين المتناظرين في كثير من الأبيات (تكرار البنية النحوية):

"في عيونٍ لم تذق رغدًا / حالُها، عنوانُهُ نصبُ"

"أنجبت فرسانَها عبقًا / من رحيقٍ، عطرُهُ نُجُبُ"

هذا التوازي يمنح النص تناغمًا منطقيًا وشعريًا.

الاستعارات والتشابيه: "فرسانها عبقًا" --> استعارة تصف المقاتلين بأنهم عبق، أي ذوو أثر جميل ومؤثر.

"سيماؤها شهب" --> استعارة وصفية قوية.

في الروابط البلاغية:

استخدام الحروف (قد، في، من، و) لتقوية الربط بين المعاني، أما  النفي في "ما رهبوا قصف صهينة" فهو يعمّق دلالة الثبات.

الإزاحة الأسلوبية: تُغيّب بعض التركيبات المألوفة لصالح تراكيب موحية.

هكذا نجد أن التركيب اللغوي يُوظَّف بلاغيًا لخدمة الإيحاء أكثر من المباشرة، ويُعزز الانفعالات الشعورية للقصيدة.

5. التحليل الدلالي

الثيمة الأساسية التي شيد عليها معمار القصيدة هي: غزة بوصفها رمزًا إسلاميًا، نضاليًا، نقيًا، متجذرًا في النسب الهاشمي.

--غزة --> الأنثى الوردة --> الأم الباس

يمكن حصر الدلالات الكبرى في: غزة كرمز للإسلام والمقاومة-->استخدم الشاعر اسم "غزة الإسلام" لا كمدينة جغرافية، بل كرمز حضاري ومقدّس، وكان التركيز على المعاناة والنبل، ورغم الألم والتعب، فإن غزة تزدهر بالنسب، بالأنفة، بالفروسية.

تستحضر القصيدة البُعد الديني والتاريخي من خلال إشارات مثل "سقر، ربّ، رهَبوا، فرسانها، عتق" وهذا يعزز توظيفًها للموروث الديني والتاريخي.

ويتبثق الأمل في الحمولة الدلالية للرسالة الخاتمية: الفجر قادم، من خلال البيت الأخير الذي يحمل أملاً مؤكَّدًا:

"فَجْرُنَا آتٍ سَرَى يَجِبُ"

بذلك تكون هذه القصيدة ذات دلالة مقاومية روحية، تجمع بين الحزن والفخر، بين الألم والأمل.

6. المستوى التداولي (البراغماتي)

المُرسل (الشاعر): يتحدث من موقف وجداني حاد، كمن يعيش أو يتماشى مع معاناة غزة.

الرسالة: هي دعوة للصمود، وتثبيت للمقاومة، وشحن للعاطفة الإسلامية الجمعية.

المُخاطَب (الجمهور): الأمة، القارئ العربي، والمجتمع المسلم وقد تنفنح على كل أحرار العالم.

السياق الواقعي: يشير إلى معاناة غزة تحت الحصار والاحتلال، مع تطعيم الخطاب بنَفَس إسلامي نضالي.

وأخيرا وليس آخرا، فهذه القصيدة تُوظَّف لأغراض تعبويّة وتوعوية، لكنها تظل ضمن إطار شعري فني.

الخلاصة العامة:

الجانب التحليل

البحر المديد يدعم التوتر العاطفي، الفاصلات الصوتية تخدم الانفعال

الصوتي إيقاع قوي، حروف مفخمة، جناس--توزيع متقن بين الحروف الجهرية والمهموسة

النحوي تنوع نحوي، أدوات توكيد--توظيف دقيق للجمل الاسمية لإثبات الحالة، والفعلية لإبراز الفعل المقاوم، التراكيب مشحونة بالمعاني دون إفراط

المعجمي معجم نضالي – وجداني – ديني

التركيبي توازي، استعارات، بلاغة متقدمة

الصرفي صيغ مصدرية كثيرة (طرب، نصب، رهب، عتق) تعبّر عن الحالات الشعورية والمصيرية بدلاً من الحركات المؤقتة--المصدر يوظَّف هنا كوسيلة لتكثيف المعنى، وتحويل الانفعال إلى كيان لغوي محسوس

الدلالي ثنائية الألم/العز، غزة كرمز، وعد بالنصر--

التداولي خطاب تعبوي موجه للأمة.

***

بقلم د. أحمد جمرادي

***

.....................

غزةُ الإسلام

رُبّ قلْـبٍ حــــالُهُ طَــــــــرَبُ

حـــــــالُ قلْبِي شـــأْنُهُ تَعَبُ

*

في عُيــونٍ لمْ تَذُقْ رَغَـــداً

حــــالُها، عُنْـوانُهُ نَصَـــبُ

*

ورْدَةٌ فـــي هــــاشِمٍ رَكبتْ

عُودَها، قدْ زانَــــهُ نَسَبُ

*

مِنْ عَتِيــــقٍ سُؤْدَدٍ نسَلَتْ

مِنْ تَلِيــــــدٍ قَدّهُ حَسَـــبُ

*

غَزّةُ الْإسْـــلامِ قَدْ سَمَقَتْ

سَمْتُها سِيمـاؤُها شُهُبُ

*

أنْجَبَتْ فُرْســــــــــانَها عَبَقاً

منْ رَحِيقٍ، عِطْرُهُ نُجُبُ

*

يَطْلُبُـونَ الْعِتْقَ مِنْ سَقَرٍ

خَوْفَ رَبٍّ عالٍ، قدْ رَهَبُوا

*

مَا رَهَبُـوا قَصْفَ صَهْيَنَةٍ

و الْعِـــــدا جُبْناً قدْ هَرَبُوا

*

غَنِّ يـــــــا نَصْراً عَلا شَرَفاً

فَجْرُنــــــــا آتٍ سَرَى يَجِبُ

***

قصيدة من إبداع الشاعر نورالدين حنيف أبوشامة

 

"تشريح الشخصية وجماليات التلقي في الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار"

رواية (الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار) للأديبة المصرية هناء نور الصادرة حديثاً عن دار روافد للنشر والتوزيع ليست مجرد حكاية تُسرد، بل هي مختبر سردي معقد تُختبر فيه ذات القارئ وقناعاته بقدر ما تُختبر شخصيات الرواية، تبلغ جماليات التلقي ذروتها هنا من خلال تفكيك الكاتبة للحقيقة الواحدة، وعرضها كفسيفساء متعددة الألوان، كل لون يمثل وجهة نظر شخصية مختلفة، تاركة للقارئ مهمة تجميعها ورؤية الصورة الكلية، أو الاكتفاء بجمال القطع المتناثرة.

تعدد الأصوات السردية: الحقيقة المتشظية

الرواية مبنية على تعدد الأصوات السردية، حيث تُروى الأحداث من وجهات نظر الشخصيات الأربع الرئيسية، كل منها يحمل روايته (الحقيقة) الخاصة:

"ليلى": المدربة العالمية للتنمية البشرية، التي تبيع الوهم والثقة، لكنها في داخلها تعيش فراغاً وجودياً وشهوة لا تشبع، روايتها تبدأ بعد الصدمة، مما يجعل سردها مزيجاً من التبرير والبحث عن ذنب جديد.

"عادل": الطبيب الحزين، ابن الأسرة الأرستقراطية الذي أنهكته خيانات الحياة وموت الأحبة، سرده مليء باليأس والشك، ينظر إلى العالم من خلال عدسة التشاؤم والخيانة المتوقعة.

"عصمت": رجل الأعمال القاسي والعبقري، الذي يرى العالم كمسرح للعرائس (كما ورد في الصفحات 54-56) وهو من يحرك الخيوط، سرده مليء بالثقة والاحتقار، لكنه يكشف عن جروح طفولة وحاجة ماسة للحب.

"عايش": الشاب الفقير الذي كان على حافة الانتحار، ليجد نفسه فجأة في قلب الحدث، سرده هو الأكثر صدقاً وجرأة، ينظر إلى عالم "الأغنياء" من أسفل الهرم، محملًا بمرارة الحرمان وأمل الصعود.

هذا التعدد لا يقدم للقارئ "الحقيقة" بل "حقائق" متضاربة، القارئ هنا ليس متلقياً سلبياً، بل محققاً نفسياً عليه أن يقرر من يصدق، وأي الروايات أقرب إلى واقع هو نفسه يشارك في تشكيله.

حلقات درامية محورية: لحظات الانزياح والتلقي

هناك لحظات مفصلية في الرواية تعيد تشكيل فهم القارئ للأحداث والشخصيات:

الحلقة الأولى: انهيار حفل الزفاف (الفصول الأولى): هذه هي اللحظة التأسيسية، مشهد اقتحام عايش للحفل وادعائه حبه لليلى يُرى أولاً كعمل مجنون، لكن مع تقدم الرواية، نكتشف من خلال سرد عادل أنه ربما هو من دفع لعايش ليفعل ذلك كي يهرب من الزواج (كما يدعي عايش لاحقاً في فيديو على وسائل التواصل – الصفحة 53)، هذه الحلقة تضع القارئ في حالة شك دائم: من هو الضحية؟ ومن هو الجلاد؟

الحلقة الثانية: لقاء النهر (الصفحات 83-90): هذه هي ذروة جماليات التلقي، اللقاء على المركب بين الأربعة (عصمت، ليلى، عادل، عايش) يحول الرواية إلى مسرح، حوارهم الحاد، اعترافاتهم غير المكتملة، وقفز ليلى وعايش في النهر، كلها مشاهد مفتوحة للتأويل، هل قفزت ليلى لتنقذه أم لأنها وقعت في حبه؟ هل قبلته حقاً تحت الماء؟ مشاهد مثل هذه تترك للقارئ مساحة واسعة لملء الفراغات بناءً على انحيازاته هو.

الحلقة الثالثة: تسجيلات عصمت (الصفحات 109-110 و 124-125): اكتشاف عادل أن عصمت كان يتنصت على ليلى طوال حياتها ويكشف أسرارها، هي صدمة للقارئ كما هي لعادل، هذه اللحظة تهدم صورة ليلى (الملاك) تماماً وتكشف عن شخصية مظلمة ومتشبعة بالغرائز، القارئ الذي كان يتعاطف معها، يُجبر على إعادة تقييم كل ما قرأه من قبل من وجهة نظرها.

الحلقة الرابعة: مواجهة عايش لأهل ليلى (الصفحات 132-134): هنا يتحول التلقي من التعاطف مع "الضحية" الفقير إلى الإعجاب بـ"البطل" الذي يواجه النظام الطبقي، عرض عايش أن يكتب كل ما يملك لليلى هو تحول جذري في شخصيته، يدفع القارئ لتغيير نظرته عنه من (المخبول) أو (الضحية) إلى (الرجل الواعي) الذي يرفض أن يكون نسخة من عصمت.

الشخصيات كمرايا: أمام أي مرآة يقف القارئ؟

جمالية التلقي هنا تكمن في كيف تجبر كل شخصية القارئ على النظر إلى نفسه:

(ليلى) مرآة للنفاق الاجتماعي والهوة بين الصورة العامة والذات الخاصة، (عادل) مرآة لليأس والخوف من الحياة ومن المواجهة، (عصمت) مرآة للهوس بالتحكم والقوة، والجروح التي تختبئ وراء القسوة، (عايش) مرآة للغضب المكبوت، الحلم البسيط (جوارب جديدة – الصفحة 30)، والصراع من أجل الكرامة.

القارئ قد يرى جزءا من نفسه في إحدى هذه المرايا، وهذا الانحياز النفسي هو ما سيحدد أي حقيقة من حقائق الرواية سيميل إليها.

القارئ شريك في الاكتشاف

"الدقيقة الأخيرة قبل الانتحار" هي رواية ما بعد حداثية بامتياز، إنها لا تقدم إجابات، بل تطرح أسئلة عن طبيعة الحقيقة، الحب، الطبقية، والذات، جمالية التلقي الأكبر التي تقدمها هناء نور هي تحويل القارئ من متلقٍ إلى شريك في الكتابة، حيث تصبح عملية القراءة هي عملية اكتشاف لا لأحداث الرواية فحسب، بل لذات القارئ وقيمه وانحيازاته الخفية، في النهاية، ليست الرواية من يجب أن تُفهم، بل القارئ نفسه هو من سيفهم نفسه بشكل أفضل بعد هذه الرحلة في متاهات النفس البشرية.

***

رزق فرج رزق - ليبيا

 

للشاعرة الفلسطينية شادية حامد.. قراءة هيرمينوطيقية، أسلوبية، رمزية، جمالية، وطنية، وسيميائية

تُعَدّ قصيدة «تُفَّاحَةٌ من حجر» للشاعرة شادية حامد نموذجاً متفرّداً للنصّ الشعريّ الذي يتجاوز حدود البوح الذاتي إلى أفق فلسفيّ وجماليّ مفتوح، يُقارب سؤال الإنسان في زمن الحداثة المتأخرة، حيث تتقاطع التقنية والمقدّس، والجمال والخراب، والحرية والزيف. إنّها ليست قصيدة في المكان أو في المدينة الحديثة بقدر ما هي تأمّل في مصير الكائن داخل العالم المعاصر؛ الكائن الذي تحوّل من ذاتٍ فاعلة إلى رقمٍ في نظامٍ مبرمج، ومن روحٍ مبدعة إلى حجرٍ يلمع على واجهة الحضارة.

لقد أصبح الشعر المعاصر، في تمظهراته الجديدة، مختبراً فلسفيّاً للوجود، يُعيد مساءلة القيم والمعاني التي صاغتها البشرية عبر قرون، ثم فقدت بريقها تحت ضغط الآلة والافتراض والتمثّل الرمزي للحرية. وفي هذا السياق، تتجلّى تجربة شادية حامد بوصفها صوتاً أنثويّاً وجوديّاً يسعى إلى إعادة اكتشاف العلاقة بين الكلمة والعالم، بين الذات والآخر، وبين الجمال والألم، عبر لغةٍ مشحونةٍ بالرموز، تنبض بوعيٍ نقديٍّ عميق، وتستبطن رؤيةً فلسفيةً تُقارب في كثافتها رؤى شعراء الوعي المأزوم من طراز أدونيس، أنسي الحاج، وسيلفيا بلاث.

إنّ هذه الدراسة تنطلق من افتراضٍ أساس، مفاده أنّ قصيدة «تُفَّاحَةٌ من حجر» لا يمكن قراءتها وفق منظورٍ واحد، لأنها نصّ متعدّد الطبقات والدلالات؛ تتداخل فيه الأسطورة بالدين، والرمز بالواقع، والأنثوي بالكوني، والبعد السياسي بالميتافيزيقي. لذلك، سيُصار إلى مقاربتها من خلال مناهج متشابكة:

١- المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي لفهم البنية العميقة للمعنى في النص.

٢- والمنهج الأسلوبي للكشف عن الإيقاع الداخلي وتشكيل الصورة،

٣- والمنهج الرمزي والسيميائي لتفكيك شبكة العلامات والأيقونات التي تشكّل البنية الثقافية للنص،

٤- إلى جانب القراءة النفسية والجمالية والوطنية التي تُضيء المسافة بين الذات الشاعرة والعالم الذي تتمرّد عليه.

بهذا المعنى، لا تتعامل هذه الدراسة مع النص بوصفه منتجاً لغويّاً فحسب، بل بوصفه خطاباً وجوديّاً يعبّر عن مأزق الإنسان الحديث أمام تحوّل الحرية إلى شعارٍ أجوف، والجمال إلى سلعة، والمعرفة إلى حجرٍ صقيلٍ بلا دفء. فـ«التفاحة» هنا ليست ثمرة الخطيئة، بل رمز المعرفة التي تحجّرت، والمعنى الذي تجمّد في رماد المدن الكبرى.

إنّ تحليل هذا النصّ يهدف إلى الكشف عن الجدل بين الوعي الجمالي والوعي النقدي في تجربة الشاعرة شادية حامد، وعن كيفيّة تحويلها الشعر إلى أداةٍ فلسفيةٍ للإنقاذ من موت المعنى. فالشاعرة، وهي تتأمّل مدينة الأضواء، لا تكتب عن نيويورك، بل تكتب عن الإنسان الذي ضلّ طريقه بين ناطحات السحاب والرموز، لتُعلن عبر لغتها الكثيفة والرمزية أنّ المعرفة حين تفقد روحها، تتحوّل إلى تفّاحةٍ من حجر.

أولاً: المدخل التأويلي (المنهج الهيرمينوطيقي):

قصيدة «تُفَّاحَةٌ من حجر» ليست نصاً شعرياً فحسب، بل هي تجربة تأويلية مفتوحة تنطوي على شبكةٍ من الرموز والتماثلات الثقافية، تتجاوز البنية اللغوية إلى استدعاء تاريخي وحضاري وروحي معقّد.

تبدأ الشاعرة من سؤال الوجود في مدينة الحداثة، تقول:

"سرداب وراء سرداب / لا نافذة، ولا باب"

هنا، تتجلى صورة الإنسان المنفي داخل سرداب العزلة التقنية، في مدينة تفتقد النوافذ، أي: الانفتاح على الروح والسماء.

هذا الغياب للنافذة والباب هو غياب للمعنى، وهو في التأويل الهيرمينوطيقي رمز لانسداد الأفق الوجودي الذي تعانيه الذات الشاعرة أمام العالم المادي، حيث تتحول الحرية إلى تمثال، والروح إلى ريشةٍ في مهب الرماد.

إنّ الشاعرة تتخذ من نيويورك فضاءً رمزيّاً لـ"الحضارة الإسمنتية" الحديثة، لكنها تقرأها بعين الشرقي الذي يرى في بريقها كسوفاً للمعنى لا انتصاراً للنور. فـ"التمثال" الذي كان رمزاً للحرية في المخيال الغربي، يتحوّل لديها إلى أيقونة من زئبق ومطاط، أي إلى حرية زائفة، مرنة، متقلبة، بلا جوهر.

---ثانياً: القراءة الأسلوبية:

أسلوب الشاعرة مشبع بالتناوب بين الجملة الخبرية والإنشائية، بين السردي والتأملي، وهو ما يُنتج إيقاعاً هارمونيّاً متقطّعاً يوازي التوتر الداخلي للنص.

نلاحظ توظيفها المتقن للوقفة الشعرية والسطر المفصول، تقول:

"ها هنا، حتى أدقّ المشاعر والأفكار من إسمنت"

"العقل جدار رقمي / اللغة جدار آخر"

هذه التوازيّات الأسلوبية تشكّل ما يمكن أن نسمّيه جدار اللغة داخل النص، أي أن البناء الأسلوبي نفسه يعكس دلالة النص المضمونية: كل شيء جدار، حتى اللغة.

كما أنّ التكرار الإيقاعي لـ«ها هنا» و«هناك» و«أهذي» يمنح النص بعداً طقوسيّاً، أشبه بتراتيل استنطاقية للعالم، حيث تتحول القصيدة إلى نشيد وجودي ساخط على فقدان المعنى في زمن العولمة.

ثالثاً: القراءة الرمزية:

العنوان نفسه «تُفَّاحَة من حجر» هو مفتاح رمزي بالغ الكثافة:

١- التفاحة ترمز إلى المعرفة، الإغواء، الخطيئة الأولى في الموروث الإبراهيمي.

٢- الحجر يرمز إلى الجمود، المادية، القسوة، والموت المعنوي.

وبذلك يصبح العنوان تعبيراً عن تقدّم حضاري مفرغ من الروح؛ معرفة بلا ضمير، وحرية بلا إنسانية.

وفي قولها:

"كأنها هي، ولكن تلك بأنامل من قصب، وهذه بقلب من إسمنت"

تُجسّد الشاعرة الصراع بين الروح الأنثوية (القصب، الليونة، الطبيعة) والصلابة الذكورية التقنية (الإسمنت).

إنها مواجهة رمزية بين الطبيعي والمصطنع، الإنساني والآلي، الأنثوي والحداثي المتوحش.

رابعاً: البنية الجمالية والفضاء الشعري.

من الناحية الجمالية، تتشكل القصيدة عبر مفارقة فنية كبرى: جمال الخراب.

تصف الشاعرة الخراب بلغة مبهرة، وتحيل القبح إلى لوحة ميتافيزيقية.

تغدو الصور الفنية كأنها لوحات سوريالية، فتمثال الحرية «حمامة من السماء وطاووس من الأرض» يحمل أجنحة الزئبق، أي حرية مراوغة، براقة، لا تُمسك.

يتبدّى الجمال في المفارقة بين الخارج والداخل:

١- الخارج: مدينة الأضواء، الحضارة، التكنولوجيا، الزحام.

٢- الداخل: فراغ روحي، عزلة، رماد، فناء المعنى.

بهذا تصبح الجمالية في القصيدة جمالية التناقض والتشظي، لا جمالية التناغم أو الانسجام.

خامساً: القراءة الوطنية والإنسانية

يتحوّل نص شادية حامد إلى مرآة لوعي عربي منكسر أمام الغرب.

هي لا تهاجم الغرب، بل تكشف الخلل في الشرق القديم الذي نام على الأساطير والأوهام. تقول:

"هكذا نحن في شرقنا القديم، حين ننام وحين نصحو..."

تسائل الشاعرة حضارتين في آنٍ واحد:

١- الغرب الذي صنع الحرية من إسمنت وزئبق.

٢- والشرق الذي صنع من المجد أسطورة ومن الوعي سباتاً.

بهذا تتجاوز القصيدة الموقف الأيديولوجي إلى وعي كوني مأزوم، يرى في "الإنسان المعاصر" – سواء في الشرق أو الغرب – كائناً ضائعاً في ليل التقنية والسلع.

سادساً: القراءة السيميائية:

السيمياء هنا لا تقتصر على الرموز الكبرى، بل تشمل الإشارات الحضرية واللغات الثقافية داخل النص:

١- التمثال: رمز السلطة الرمزية للحضارة الغربية.

٢- الرماد: رمز ما بعد الحداثة، لما تبقّى من الإنسان بعد الاحتراق.

٣- الفنجان و«الهُنود الحمر»: رموزٌ لثقافات مفقودة وذاكرات مسحوقة.

٤- القطار و«المحطة» و«مانهاتن» و«التوقيت» هي إشارات إلى الزمن الصناعي، في مقابل الزمن الميتافيزيقي في الشرق القديم.

تُمارس الشاعرة لعبة العلامات بدقةٍ حداثية؛ فهي تستعمل رموز الغرب لتفكيك أسطورته، وتجعل من اللغة ساحة مواجهة بين المعنى والفراغ.

سابعاً: البعد النفسي والديني

في البنية النفسية، تتبدّى الشاعرة كذات ممزقة بين انتماءين:

١- انتماءٌ ديني روحي يبحث عن الصلاة والسكينة.

٢- وانتماءٌ وجودي عالق في عالمٍ فقد إيمانه، تقول.

"أريد أن أُصلّي... ولكن هذه كنيسة التراتيل فيها سوداء والقس أبيض"

إنها مأساة الإنسان المؤمن في عالم ما بعد المقدّس، حيث تذوب الفوارق بين الإيمان والمسرح، بين العبادة والعرض.

وهذا التوتر بين الروحي والمادي، بين الإلهي والآلي، يولّد ما يمكن تسميته بـالاغتراب الأنثوي الوجودي: امرأة تبحث عن صلاةٍ نقية في عالمٍ تلوث بالخراب الجمالي.

ثامناً: الدلالات الختامية – ما تحت الجلد الشعري

تحت جلد القصيدة ينبض نبض الغضب النبيل: غضب الإنسان الشاهد على سقوط العالم في الإسمنت.

اللغة، رغم ما فيها من زخرفة، تنضح بصرخة وجودية، فكل صورةٍ تُطلّ من رحم ألم.

إنّها ليست قصيدة في نيويورك، بل قصيدة في موت الإنسان الحديث، حيث تتحول التفاحة – رمز الحياة – إلى حجر، أي إلى موتٍ صلبٍ ومصقولٍ بيد الشيطان نفسه، كما تقول:

"أصغر تفاحة فيه لا يفوح منها أي أثر… منحوتة بإزميل أعظم فنان: الشيطان."

تاسعاً: خاتمة تحليلية

قصيدة «تُفَّاحَة من حجر» نصّ يزاوج بين الأسطورة والواقع، الفلسفة والشعر، الدين والسياسة، وتُقدّم الشاعرة فيه نموذجاً لشعرٍ كونيٍّ ذي بصيرة أنثوية نافذة.

إنها تُعيد إنتاج العالم بمنظورٍ نقديٍّ يلتقط جوهر المأساة الإنسانية: أنّ الإنسان المعاصر صنع لنفسه جنة من إسمنت، لكنه نسي أن يبني فيها قلباً.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

تُفَّاحَةٌ مِنْ حَجَرْ

شادية حامد

"نِيرَانٌ دَائِمَةٌ تَرْقُدُ غَافِيَةً عَلَى أَحْجَارِ الْصُوَّان"

لوركا

سِرْدَابٌ وَرَاءَ سِرْدَاب.

لَا نَافِذَةَ،

وَلَا بَاب.

أَهَذِهِ نيُويُورْك؟

أَمْ هَذِهِ حَفِيدَةُ إِرَمَ ذَاتَ الْعِمَاد؟

إِذَنْ،

مَاذَا تَفْعلُ الْمَلائِكةُ

فِي هَذِه الْبِلاد؟

*

كَأَنَّهَا هِيَ.

وَلَكِن تِلْكَ بأَنَامِلَ مِنْ قَصَبٍ

وَهَذِه بِقَلْبٍ مِن إسْمَنْتْ.

طُوبَى لِلإسْمَنْتْ.

*

هَا هُنَا،

حَتَّى أَدَقُّ الْمَشَاعِرِ وَالْأفْكَارِ مِنْ إِسْمَنْتْ.

الْعَقْلُ جدَارٌ رَقَمِي.

الْلُّغَةُ جَدَارٌ آخَر.

وَالْرُوحُ، بَيْنَ بَيْن، رِيشَةٌ.

مُجَرَّدُ رِيشَةٍ

فِي مَهَبِّ الْرَّمَاد.

يَا أيُّهَا الْرَّمَاد!

فِي أَيِّ قَارُورَةٍ كُنْتَ إلَى حَدِّ الْآن؟

الْصَّيْفُ ذَهَبَ َوعَاد.

وَأَنْتَ مَا تَزَالُ هَا هُنَا،

فَوْقَ رُؤُوسِنَا ,

تَتَأَوَّه.

*

هَا هُنَا،

تَحْتَ الْرَّمَاد،

تَحْتَ أَجْفَانِ مِيدُوزَا،

وَفِي غَفْلَةٍ مِنْ سَيْفِ بِيرْسْيُوس،

أَنَّى لي أَنْ أُحِيطَ بِأَشْلاءِ الرَّمْز،

وَأَضْغَاطِ الْمَعْنَى؟

*

هَا هُنَا،

مُنْذُ مَا لا يُحْصَى مِنَ الْحُرُوب،

وَالْمَجَاعَاتِ،

وَالْأَعَاصِير،

وَالْزَلَازِلِ،

تِمْثَالٌ لِلْحُرِيَّةِ،

مِنَ الْسَمَاءِ كَالْحَمَامَةِ

وَمِنَ الْأَرْضِ كَالْطَاوُوس،

بِأَجْنِحَةٍ مِن زِئْبَق.

وَشِفَاهٍ مِنْ مَطَّاط.

حَوْلَ الْرَّأْس سَبْعُ مِسَلّات.

كِتَابٌ فِي الْيَمِين.

وَمِشْعَلةٌ فِي الْيَسَار.

قَد اخْتَلَطَ الْلَّيْلُ بِالْنَّهَار

وَمَا عَادَتْ حَتَّى اِيمَا لازَارُوس تَتَذَكَّر مَا كتَبَتْ

هَا هُنَا،

عِنْدَ قَاعِدَةِ الْتِمْثَال

*

هَا هُنَا،

بِاسْمِ الْحُرِيَّة، يَصْنَعُ الْحَجَرُ مَا يَصْنَع:

لِنَفْسِهِ،

فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ،

أُرْجُوحَةً زَرْقَاء.

لِيْ

- أَنَا الّتِي لَسْتُ لَا سيدة أَعْمَالٍ،

وَلَا عَارِضَةَ أَزْيَاء –

أُغْنِيَةً سَوْدَاء.

*

لِأمْثَالِي

قُبَّعَاتٍ مِن تِبْن.

ولِلْبَاقِين مَخَابِئَ

تَحْتَ الْأَرْض.

*

هَا هُنَا،

كَمْ رِيشٍ مُخْتَلِفِ الْأَلْوَان،

كَمْ حَضَارَةٍ،

كَمْ لُغَةٍ،

كَمْ لِسَان ْ،

وَلَكِن بِالْله عَلَيْكْ، أيُّهَا الْطَاوُوس الْحَجَرِي

مَاذَا أَدرَكْتَ مَنْ بَحْرِ الْظُلُمَاتْ؟

مَاذَا تَرَكْتَ لِي فَوْقَ ضَرِيحِ الْمَعْنَى؟

وَمَاذَا تَرَكْتَ لِلْهُنُودِ الْحُمْر

فِي قَرَارَةِ الْفِنْجَان؟

*

هَا هُنَا،

- حَوْلَ الْفِنْجَان –

صَعَالِيكٌ،

غَجَر،

بشرٌ يأْكُلُهُم بَشَرْ،

أَحْفَاد لُورْكَا،

زِنْجٌ،

وَإفْرِنْجٌ،

وَإغْرِيقٌ،

وَأسْبَان،

وَرُومَان،

قَيَاصِرَة،

وَجَبَابِرَة.....

لَكِنَّهُم أَحْرَار.

*

بِالْمُقَابِلْ:

هُنَالِكَ، فِي شَرْقِنَا الْقَدِيم،

مُنْذُ أَنْ كُنَّا وَخَيْرٌ عَمِيم

تَجِيءُ مِنْ أَقْصَى الْغَرْبْ:

قَنَاطِيرُ قَمْحٍ يَتَقَاسَمُ رَيْعَهَا

الْسَلَاطِين،

وَالْسَمَاسِرَة،

وَشُيُوخُ الْقَبَائِل

أَكْيَاسُ مِلْحٍ فَاسِدٍ،

طَوَاحِينُ هَوَاء،

ذُبَابُ خَيْلٍ تَلِيهِ أَرْتالٌ مِنَ الْنَّمْلِ الْمُجَنَّح:

دَائِمَاً،

بِاسْمِ الْحُرِيَّة

مِنْ أَجْلِ سَحْقِ الْحُرِيَّة.

*

هَا هُنَا،

فِي شَرْقِنَا الْقَدِيم:

الْقَيْلُولَةُ الْطَويلَةُ،

وَالجَدَل الْعَقِيم.

بَيْنَمَا هُنَالِكَ، مِنَ الغربِ إِلَى الْغَرْب:

صَخَب ٌ،

زِحَامٌ،

نَاطِحَاتُ سَحَاب،

سِرْدَابٌ وَرَاءَ سِرْدَاب،

وَقْتٌ يَقتُلُ الوَقْت،

فِي عُجَالَةٍ،

وَمِنْ غَيْرِ أَدْنَى نَدَم،

أَوْ عِتَاب.

*

أَهَذِهِ وَاحَةٌ؟

أَمْ هَذَا سَرَابْ؟

هي ذي Manhattan

دُونَ تَوَقُفٍ،

وَدُون اسْتِرَاحَةْ،

هِيَ ذِي، ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَرَابِعَة

كَأَنّهَا قِلَادَةٌ مِنْ فَوَانِيسَ

فَي صَحْرَاءَ شَاسِعَة.

كَأنّمَا نيُويُورْك بُسْتَانٌ أَشْجَارُهُ مِنْ حَجَر

وَأَصْغَرُ تُفَّاحَةٍ فِيهِ

لَا يَفُوحُ مِنْهَا أَيُّ شَيْء،

أَيُّ أَثَر،

غَيْرَ أَنّهَا مَنْحُوتَةٌ بِأِزْمِيل أَعْظَمِ فَنَّان،

أِزْمِيل جَدِّ الْبَشَر،

الْشَيْطَان!

*

وَاحِد.

اثْنَان.

ابْتَعِدَا عَنِ الْسِكَّة،

بَعْدَ قَلِيلٍ يَنْطَلِقُ الْقِطَار.

هَا هُنَا،

فِي

MADISON SQUARE

يَنْطَلِقُ مِنْ مَحَطَّة Penn

في كُلِّ عُشُرِ ثَانِيَةٍ،

قِطَار.

*

قِطَارٌ وَراءَ قِطَارْ

نَحْوَ الْحَاضِر.

نَحْوَ الْمُسْتَقْبَل.

نَحْوَ كُلّ مَا هُوَ طَارِئٌ وَمُفَاجِئٌ وَجَدِيد

هَكَذَا، مَحَطةً مَحَطّة،فِي بِلَادٍ بَارِعَة

فِي صَهْرِ كُلِّ شَيْء

الْطَبِيعَةِ وَالْثَقَافَة.

الْحَدِيدِ وَالْجَلِيد.

الْحَدِيدُ يَؤُولُ إلَى

حِلي حَوْلَ جِبَاة الْنَاس وَأَعْنَاقِ الْمُدُن.

وَالْجَليدُ إِلَى أساوٍر حَوْلَ أَقْدَام عُمَّالِ الْمَزَارِع،

وَأَحْدَاقِ بُنَاةِ الْسُفُن.

*

NO COMMENT

قِفْ وَرَاءَ ظَهْرِ تِمْثَالِ الْحُرِيَّة

ثُمَّ اجْلِس عَلَى رُكْبَتَيْك

وَشَغِّل الْكَامِيرَا

*

هَكَذَا هُمْ،

بَيْنَمَا نَحْنُ: كَمَا نَحْنُ

نَقْبَعُ فِي بِلَادِ الْذَهَبْ

قُرْبَ كَوَانِينِ الْحَطَبْ.

قَاطْ،

عَرَقْ،

نَارْجِيلَة،

ثُمَّ هَاتِ، أَيُّها الْحَكَوَاتِي

مَا فِي جُعْبَتِك:

قَصَصْ،

وَخُرَافَاتْ،

وَأَسَاطِيرْ،

عَنِ الْأَنْدَلُس،

وَأَلْفِ لَيْلَة وَلَيْلَة،

وَالْسِنْدِبَاد،

وَخَزَائِنِ ثَمُود،

وَعَجَائِبِ عَاد.

إلَى مَا لَا نِهَايَة،

أَوْ إلَى أَنْ يُرَنِّقَ الْنَوْمُ عُيُونَ الْصِغَار.

هكذا نحن في شرقنا القديم،

حين ننام،

وَحِينَ نَصْحُو،

وَحِينَ يَنْطَلِقُ مِنْ مَحَطَّة Penn

فِي أَقَلَّ مِنْ عُشُر ثَانِيَة

مِلْيوُن قِطَار وَقِطَار.

*

هَارْلِمْ!

يَا هَارْلِم!

كَم الْسَاعَة الْآن بِالْدَقيِقَة َ والَثَانِيَة؟

أَزِفَ الْوَقتُ وَهَا أنَا الْآنَ فِي هَذِه ِالْمَحَطَّةِ

بَيْنَمَا أَقْدَامِي فِي مَحَطَّة نَائِيَة.

*

هَارْلِم!

يَا هَارْلِم!

قَلْبِي عَلَيْكِ.

قَلْبِي عَلَى الْوَجَع الْطَاعِنِ فِي غَيَاهِبِ الْجَاز،

فِي سَحَائِبِ الْكُوكَايِين،

وَفِي مَقَالِبِ الْمَجَاز.

يَا أَنْكَى الْكُلُوم وَالْكَلِمَة،

هَارْلِم!

يَا هَارْلِم!

يَا أَوَّلَ وَأَطْوَلَ صَيْحَة مُؤْلِمَة!

*

أُرِيد أَنْ أُصَلِّي.

وَلَكِن هَذِه كَنِيسَة ٌ

الْتَرَاتِيِل فِيهَا سَوْدَاء

والْقِس أَبْيَض.

كِيْفَ أُصَلّي،

بِأَي لُغَة،

بِأي سِفر،

وَخَلْفَ مَن:

خَلْفَ أبْرَاهَام لينكلن،

أَمْ خَلْفَ رُعَاة الْبَقَر؟

*

SOS

هَذَا وَقْتٌ غَيْر الْوَقْت.

وَهَذَا مَكَان غَيْر الْمَكَان.

هَا هُنا، قبل تَقَاطُع بْرُودْواي والْجَادَة السَابِعَة

في ميدان Times Square

زُحَام،

ضَوْضَاء،

أَشْرِطَة أخْبَار،

لَافِتَات عِمْلاقَةٌ تَُنَاطِح الشَّمْس،

أَيَّتُهَا الشَّمْس،

يَا مَكْتَبَةً أَيْنَ مِنْهَا مَكْتَبَةَ الْكُونْغْرِس

وَلَكِن بِلا كُتُب،

وَلا رُفُوف

قَدْ بَانَ الْمَعْنَى

أَهَكَذَا يَبْدُو الْخُسُوف؟

أَمْ هَذِه فَقَط فَتْرَة مَوْسِمِيَة

يَكُون فِيهَا الْمُحِيط فِي سُبَاتٍ،

بَيْنَمَا الْمَرْكَز فَوْقَ نَار قَوِيَّة؟

أَيَّتُهَا الشَّمْس! لا مَنَاص.

وَأنْتَ، يَا شَبِيهي، احْتَرِس!

هَا هُوَ أَوَان الْكُسُوف

قَدْ تَخْلَع نَظَّارَتَك السَوْداء

قَد يَخْدَعَكَ النَّظَر.

وشَظَايَا البشر

فيِ مَرَايَا هيئة الأمم

قَدْ تَنْسَى، وَقَد تَحْسَب، تَحْتَ تَأثِير النِيُون

أَنَّ لَثْغَتَكَ لَم تَعُد مَرْئيِّة.

أَو أنَّ بَشْرَتَك قَدْ صَارَت - مَعَ الْوَقْت – بَيْضَاء.

حَذَارِ.

احْتَرِس.

فَأَنْتَ مِنَ الشَّرْق.

وَأَبْنَاء الشَّرْق لَيْسُوا كلّهم

مِنْ أَبْنَاء السَّمَاء.

*

أَنَا كذلك مِنَ الشَّرْق.

ومِثلي مَنْسِيَّة مِنَ الْمَتْن

كَيْفَ لِي أَنَ لَا أُجَن؟

وأنا أُجيل النَّظَرَ فِي أَرْجَاء

METROPOLITAN MUSEUM OF ARTS

زَخَارِف مِنْ مِصْر،

مَصَاحِف مِنَ الْقُوقَاز،

مُنَمْنَمَات مِن أَصْفَهَان،

أَرَابِيسْك،

قُدُور مَنْحُوتَة،

نُقُوش هِيرُوغْلِيفِية،

وأَلْوَاح آشُورِيَّة.

*

أَحَقاً هَذَا؟

أَمْ أَنَّه عَلَيَّ أَنَا أَيْضَاً

أَنْ أُعِيدَ النَّظَر:

فِي لُغَتِي،

وَإِثْنِيَّتِي؟

***

شادية حامد

 

قراءة نقدية في جماليات التلقي لمجموعة "وجهي… والرّياح"

تمثل المجموعة الشعرية "وجهي... والرّياح" للشاعرة سونيا عبد اللطيف عالماً شعرياً مكتملاً ينبض بالحياة، حيث تتفاعل الذاتي مع الكوني، والأنثوي مع الإنساني، والخاص مع العام، تعتمد جمالية التلقي هنا على حوارية عميقة بين النص والقارئ، تدفعه إلى أن يكون شريكاً فاعلاً في بناء الدلالة واستكناه الطبقات المتعددة للنصوص.

شاعرة الهمس والموج، وقيثارة المشهد الثقافي التونسي

ليست مجرد شاعرة تكتب القصيدة، بل هي مشروع ثقافي متكامل يُنظِّم الفضاءات، ويُؤسِّس للمشترَك الإنساني. من مدينة قليبية الساحلية، حيث همس الموج، انطلقت كاتبةً متعددة الأجناس (الشعر، النثر، الومضة، السيرة الواقعية، القصة) وقارئةً تحليليةً تنفذ إلى أعماق النصوص، تتلمس في كتاباتها مكامن الجمال والألم معاً، محوِّلةً تفاصيل الواقع اليومي إلى استعارات كونية، وهي كاتبة لا تنفصل عن دورها المجتمعي؛ فأستاذة التعليم، والمدربة في التنمية البشرية، والمذيعة المتخرجة من مركز مارينا، كلها أوجه تُغني نصّها بحساسية فريدة تجاه الإنسان وتفاصيل حياته.

عرفتها الساحة الثقافية رئيسةً لنادي الشعر ثم نادي الأدب في جمعية ابن عرفة، وعضواً فاعلاً في اتحاد الكتاب التونسيين حيث ترأست مجلس الأدب والفنون، لكن بصمتها الأبرز تأتي من تأسيسها وإدارتها لـ "مجالس همس الموج الأدبية والفنية"، التي أصبحت منبراً أساسياً يحتضن الأصوات التونسية والعربية، من خلال تظاهرات نوعية، بين الإصدارات التي تنوعت بين الشعر ("امرأة استثنائية")، والومضات ("بجناح واحد أطير")، ويوميات الواقع ("ميترو هات... وهدرات")، وإصدارات باللغة الإنجليزية، تثبت عبد اللطيف أن حبرها لا يجف عند حدود القصيدة، بل يمتد ليشكل سجلاً حياً للذات والمجتمع.

مشاركاتها الممتدة من مهرجانات تونس (قرطاج، سيدي بوزيد، قفصة) إلى عواصم الثقافة العربية (الصويرة، غرداية، الإسكندرية، بسكرة، زاكورة) تؤكد حضورها كصوت شعري عربي يجمع بين خصوصية المحلي وعالمية الإحساس، هي في جوهرها، "امرأة استثنائية" كما عنونت أحد دواوينها، لا تكتفي بمواجهة الرياح بقوة وجهها، بل تخلق من عواصف الحياة موجاً يهمس بأجمل القصائد.

(2)

جمالية العتبات النصية: مدخل إلى العالم الشعري

تبدأ جماليات التلقي من الغلاف، حيث الصورة الفوتوغرافية التي التقطتها الشاعرة في طبرقة (بتاريخ 29 ماي 2022). هذه العتبة البصرية ليست زخرفة، بل هي جزء عضوي من "وجهي… والرّياح" عنوان يخلق فضاءً من الحركة والصراع والتحليق، الوجه (الثابت، الهوية، الذات) في مواجهة الرياح (المتغير، العالم الخارجي، قوى القدر والزمن). هذا التناقض الظاهري يضع القارئ منذ البداية في قلب المأساة والحركة التي تميز المجموعة.

(3)

تعدد الأصوات والتناص: تشابك الحكايات

المجموعة عبارة عن سيمفونية من الأصوات المتنوعة:

الصوت الغنائي العذب: كما في "قمران" و "همس الموج"، حيث تتحول العلاقة العاطفية إلى حالة كونية من الإشراق ("نُزيلُ صدأ القلوب الصّماء").

الصوت الحكائي الأسطوري: كما في "هند امكَ" و "الأميرة النائمة" و"الحرباء"، حيث تُسقط الذات تجربتها على شخصيات رمزية وحكايات تستدعي ألف ليلة وليلة وشخصيات تراثية، مما يخلق تناصاً ثرياً يثري عملية تأويل القارئ.

الصوت السردي الواقعي الجارح: وهو الأكثر بروزاً وقوة، كما في "كاميرا" و "الجدار" و "شجن الوطن"، هنا تتحول القصيدة إلى كاميرا ترصد مآسي الواقع بتقنية "الزوم" السينمائية، مما يخلق صدمة تلقي لدى القارئ ويجبره على المواجهة، قصيدة "كاميرا" تحديداً هي ذروة هذه الجمالية الصادمة، حيث تتحول المفردة (الثدي) إلى رمز مأساوي للجوع والأمومة المهدرة واللامبالاة.

الصوت الاستفهامي الوجودي: كما في "اكتشاف" و"تساؤلات" و"أبواب المعراج"، حيث تطرح الشاعرة أسئلة وجودية عن الذات، الحب، الموت، والخلاص، هذا الصوت يدفع القارئ إلى طرح الأسئلة ذاتها، محوّلاً التلقي من متعة جمالية إلى فعل تأملي وجودي.

(4)

الصورة الشعرية: بين الرقة والقسوة

تتقن سونيا عبد اللطيف بناء صور شعرية قادرة على خلق عالم متخيل كامل:

صور طبيعية مضيئة: النورس، البحر، القمر، الضياء، الندى. هذه الصور تخلق فضاءً للتحليق والأمل.

صور واقعية قاسية: القمامة، الثدي المتدلي، الجدار، الإسفلت، الغربان. هذه الصور تخلق فضاءً للاختناق والاحتجاج.

صور سوريالية مدهشة: "بجناح واحد… تطييير!" في "اكتشاف"، أو "أنا شهرزاد تُنادي من قمقم الأسر" في إحدى القصص الضمنية. هذه الصور تثير الدهشة وتوسع آفاق التوقع لدى القارئ.

التناقض بين هذه الصور يخلق توتراً جمالياً يظل القارئ في حالة تأويل دائمة لمعناه.

(5)

الإيقاع بين الانسياب والانكسار

الإيقاع في المجموعة عضوي، يتبع نبض التجربة. فهو تارة منسياب كهدير الموج في "همس الموج"، وتارة أخرى متقطع، متشظٍ، يعكس انكسار الذات وشرذمة الواقع، كما في "كاميرا" و "غربة". هذا التلاعب بالإيقاع يوجه مشاعر القارئ، فينتقل من حالة الطمأنينة إلى القلق، ومن التأمل إلى الصدمة.

(6)

الذات والآخر: جمالية التماهي

جمالية التلقي الأبرز هي قدرة النصوص على خلق تماهٍ عميق بين القارئ والشخصيات:

القارئ يشعر بضياع "النعامة" التي تتعلم الطيران، ويتألم مع المرأة في "كاميرا" ويتساءل معها: "كيف يستقبلني المطر؟"، ويحلم مع "الحالمة" ويتمرد مع "وردة الرمال"، وحاصرته أسئلة "تساؤلات" كما حاصرت الشاعرة، هذا التماهي لا يتم عبر الشفقة، بل عبر إنسانية عميقة تجعل من الخاص (تجربة المرأة) عاماً (قضية إنسانية).

(7)

اللغة: بين الشعرية اليومية والرمزية العالية

تستخدم الشاعرة لغة سلسة لكنها مكثفة، تخلط بين مستويين من اللغة، شعري رفيع (يُرفرف الحلم سربا) ولغة الحياة اليومية (علب سردين، حفّاظات قذرة)، هذا المزج يجعل النص قريباً من القلب دون أن يفقد شعريته، ويجعل التلقي ممكناً على مستويات متعددة.

مجموعة (وجهي… والرّياح) هي مشروع شعري إنساني طموح، جمالية التلقي فيها لا تقوم على المتعة السلبية، بل على التحدي، تتحدى القارئ:

أخلاقياً: لمواجهة القبح والظلم في قصائد مثل "كاميرا" و "هنيئا لكم الأعياد".

وجودياً: لمواجهة أسئلة الموت والوجود في "سأموت" و "أبواب المعراج".

جمالياً: لتقبل تنوع الأصوات والأشكال والانزياحات عن المألوف.

الانزياح الأكبر هو تحويل جسد المرأة (بكل تفاصيله الحميمة والمأساوية) من موضوع للتلقي الذكوري إلى ذات فاعلة، ناطقة، محكومة بالرياح لكنها تحاول دائماً التحليق، القارئ، رجلاً كان أم امرأة، مدعو ليس فقط لقراءة هذه النصوص، بل لـ تلقّيها بكل حواسه وضميره، ليكتمل المعنى في فعل القراءة نفسه، الشاعرة لا تقدم إجابات، بل تفتح نوافذ على الأسئلة الكبرى للوجود والإنسان، مخلّفة وراءها أصداء لا تتبدد بسهولة في ذهن وقلب القارئ.

***

بقلم: رزق فرج رزق- ليبيا

في قصيدة "وهل غيرها أنهكتْني" للشاعر القدير جواد غلوم

المقدمة: تُعدّ قصيدة الشاعر جواد غلوم «وهل غيرها أنهكتني؟» نصًّا شعريًّا يتجاوز الغزل التقليدي ليقدّم الحبيبة بوصفها رمزًا مركّبًا يتداخل فيه الوجدان مع الفكر والوطن. تنبثق أهمية النص من كونه يعكس تجربة شاعرٍ عاش المنفى وعاد إلى وطنه محمّلًا بمشروعٍ فكري ونضالي، ما أضفى على قصيدته بعدًا مركّبًا يجمع بين العاطفة الفردية والالتزام الجمعي. ورغم حضور دراسات حول شعر الحداثة العراقية، يبقى النص مفتوحًا على قراءة متعددة المناهج تبرز تداخل بنيته الإيقاعية والدلالية مع أبعاده النفسية والوطنية.

تهدف هذه الدراسة إلى تقديم قراءة متكاملة للقصيدة من خلال خمسة محاور أساسية: تفسير العنوان، تحليل الأبيات، الكشف عن الاستعارات والانزياحات الدلالية، ثم تطبيق مناهج التحليل البنيوي والسيميائي والنفسي والوطني–الفكري، وصولًا إلى خاتمة تستخلص دلالات النص وراهنيته في المشهد الشعري المعاصر.

عنوان القصيدة والأبيات

دلالة العنوان ووظائفه الجمالية والدلالية

«وهل غيرها أنهكتني؟»

العنوان كمفتاح بنائي

يشكّل العنوان «وهل غيرها أنهكتني؟» مفتاحًا نصيًا ذا وظيفة إغرائية وتأويلية في آن. فهو صيغة استفهام لا تبحث عن جواب بقدر ما تُنتج التباسًا. «هل» أداة تفتح الاحتمال، و«غيرها» لفظة مبهمة تترك المرجعية معلّقة: أهي امرأة بعينها؟ فكرة كبرى؟ الوطن؟ أم المرجعية المدنية التي ينتمي إليها الشاعر؟ أما الفعل «أنهكتني» فيحمل ثِقَل الزمن المستمر، بما يوحي بأننا إزاء تجربة تراكمية لا لحظة عابرة. بذلك، يضع العنوان القارئ أمام سؤال وجودي/التزامي: ما مصدر هذا الإنهاك الذي ينفذ إلى عمق الذات؟ ومن هنا ينطلق النص لتفكيك الإجابة عبر الأبيات.

المعلّمة كرمز

منذ البيت الأول: «مُعلّمَتي لا تُحبّ اللقاء إذا ما استُطاب وجاز حدوده» ينزاح النص عن المعجم الغزلي المألوف، ليمنح الحبيبة صفةً تربوية/معرفية. المعلم ليس كائنًا عاطفيًا، بل مرجع يضع شروطًا صارمة للوصال. هذا التحويل من الحسي إلى الفكري يُعيد تشكيل العلاقة: فالحب هنا ليس مجرّد رغبة جسدية، بل التزام تجاه سلطة معرفية أو وطنية. ويتأكد هذا المعنى لاحقًا حين يقول الشاعر: «تعلّمت منك جمال الرويّ» و«تحبّ الكتاب وما يحتوي»، وهي إشارات تُنزِل الحبيبة منزلة المشروع الثقافي أو الوطني.

الشوق كاختبار والإنهاك كحصيلة

في الأبيات التالية: «بُليتُ بوجدٍ عسير المنال وفاتنةٍ في هواها عنيدة»، يبرز الشوق لا بوصفه متعة، بل ابتلاءً عسيرًا. الحبيبة/الفكرة فاتنة لكنها عنيدة، لا تمنح نفسها بسهولة، بل تجعل من طول العذاب شرطًا. وحين يعلن الشاعر: «عجزتُ وهُنتُ وهُدّت قواي»، يصبح الإنهاك المحوري في العنوان نتيجة منطقية، تجسّد تصدّع الذات أمام مشروع/حب لا يتحقق. ومع ذلك لا يستسلم لليأس، بل يسائل: «أمِن مسعفٍ في مساعٍ حميدة؟»، فيربط النجدة بمعيار أخلاقي يرفض المساومة والانتهازية.

الحب كحرب

ذروة التصعيد الدلالي تأتي مع: «هو الحبّ حربٌ ولا تنطفي وتضعف فيها العقول الرشيدة». هنا يرفع الشاعر الحب إلى مستوى الصراع الوجودي، حيث ينهك حتى «العقول الرشيدة» أي المتزنة. إنها صورة قريبة من تجربة الالتزام السياسي: فالنضال، مثل الحبّ، حرب طويلة تستنزف الطاقات وتضع العقل في مواجهة فتنةٍ تتجاوز قدرته على التحليل. وبهذا يتداخل الغزل مع الالتزام، فيتحوّل النص إلى مرآة لمعاناة المثقف الذي يعيش بين الحلم والخذلان.

الحبيبة كمنبع للكتابة

في الوحدة الثالثة، تتحول الحبيبة إلى ركيزة نصية: «قريضي تهاوى فصرتِ عموده». هنا لا تكون موضوعًا للقصيدة فحسب، بل بنيتها الداخلية التي تسندها. إنها مصدر الإلهام واللغة، ما يجعلها أقرب إلى رمز للفكر أو الوطن الذي يمنح الشاعر شرعية القول. كونها «تحب الكتاب وما يحتوي» يرسّخ هذه الرمزية الثقافية، ويبعد النص عن الغزل الجسدي التقليدي.

الولادة من الألم

«ترعْرتِ فيّ غرامًا بكى… نموتِ جنينًا وكنتِ الوليدة». هذه الصورة المركبة تُجسّد الحبّ/الفكرة كوليد لآلام الشاعر. الفعل «ترعّرت» يحمِل دلالة النموّ العضوي، لكن النمو هنا مرتبط بالبكاء لا بالفرح، أي أن الفكرة أو الوطن وُلد من رحم المعاناة والتضحية. ومن ثمّ تأتي مرارة الشاعر حين يواجه ولاءات الحبيبة المتعددة: «وأكره فيك الصدود العسير ولاءاتك المكثرات العتيدة». إنها إشارة إلى انقسام سياسي أو تبعية تيارات متعددة، تجعل المرجعية غير نقية، وتضاعف الإنهاك.

النداء البراغماتي

في الوحدة الأخيرة، يعلن الشاعر: «فإني المشوق بلا مطمع… أشيري إليّ تعال اقترب». يتجلّى هنا موقف أخلاقي صافٍ: حبّ بلا مصلحة، انتماء لا يطلب مكافأة. لكنه في الوقت نفسه يرفض أن يظل حلمًا معلّقًا: «إن كان حلمًا فلا، لن أريده». إنها لحظة مواجهة بين الوهم والفعل، بين الشعر والحياة. القصيدة نفسها تصبح ملاذًا حين يقول: «وإن باعدتنا دروب الحياة فقد ننزوي غفلةً في قصيدة». الشعر هنا وطن بديل حين يتعذّر اللقاء في الواقع.

الخلاصة

يتضح أن العنوان «وهل غيرها أنهكتني؟» ليس مجرد عتبة جمالية، بل بوصلة تفسيريّة تقود القراءة. فالإنهاك الذي يسائل عنه الشاعر يتوزّع بين الشخصي والرمزي: هو إنهاك الحبّ المستحيل، وإنهاك الانتماء السياسي الذي يرهق دون أن يمنح تحققًا. وتظهر الحبيبة كرمز متعدّد: امرأة، معلمة، وطن، فكرة، مرجعية حزبية، وكلها تتقاطع لتشكّل بنية مركّبة. من هنا يمكن القول إن القصيدة تجسّد انتقالًا من الغزل إلى الالتزام، ومن الشوق الفردي إلى مأزق المثقف أمام وطنه وفكرته. ولعل قوة النص تكمن في أنه لا يحسم المرجعية، بل يتركها مفتوحة، بحيث يشارك القارئ في استكمال المعنى

الاستعارات والانزياحات الدلالية في قصيدة "وهل غيرها أنهكتني؟

تتميز هذه القصيدة بغنى الاستعارات والانزياحات الدلالية، التي تتجاوز المعنى المباشر لتعيد تشكيل العلاقة بين الشاعر والحبيبة بشكل رمزي مركب. هذه التقنيات لا تعمل كزخارف لغوية فحسب، بل تمثل أدوات فنية تخلق طبقات متعددة من المعنى، تتجاوز الغزل التقليدي لتلامس الفكر والسياسة والهوية الوطنية والمدنية.

في مستوى الاستعارات المركزية، يبرز استخدام صورة المعلّمة، التي لا تدل فقط على المرأة التي تعلّم، بل ترمز إلى جهة فكرية أو وطنية أو مدنية توجه الشاعر، تحدد شروط اللقاء، وتضع ضوابط للعلاقة المعرفية والعاطفية على حد سواء. كما أن عبارة

"الحب حرب" تمثل توترًا داخليًا بين الرغبة والالتزام، بين الشاعر وموضوعه الرمزي، حيث يصبح الحب معركة مستمرة، والارتباط علامة على صراع معرفي وفكري، يعكس تجربة الانتماء الوطني أو الالتزام بالقضية.

رموز أخرى مثل الرحيق والورود

تشير إلى لذة الحب، لكنها في الوقت ذاته تعكس تحقق الأهداف أو الاستجابة لمتطلبات الوطن والفكرة. كذلك، فإن

القصيدة نفسها كمأوى

تتحول إلى وطن بديل أو حضن رمزي يلجأ إليه الشاعر عند مواجهة ألم الاغتراب أو الخذلان، بينما يرمز الطير والسرب إلى وحدة وانفصال في آن، تصوير داخلي لمنفى الشاعر أو انفصاله عن الجماعة السياسية أو الوطنية.

أما الانزياح الدلالي فيرتبط بالبنية الكاملة للنص، إذ يخلق تحولًا في المرجعية والهوية المخاطبة. فعلى سبيل المثال، ضمير المخاطبة "أنتِ"، بالرغم من توجيهه إلى الحبيبة، يحمل دلالات وطنية وفكرية، محوّلًا الحبيبة إلى رمز أكبر يمثل الوطن أو القضية أو المشروع المدني. ويتجلى الانزياح أيضًا في البيت

"قريضي تهاوى فصرتِ عموده"

حيث تصبح الحبيبة عنصرًا داخليًا في إنتاج النص الشعري، فتتجاوز وظيفتها التقليدية كموضوع غزل لتصبح شرطًا لإنتاج المعنى والبنية الفنية للنص.

تتجسد كذلك فكرة التعقيد والطبقات في عبارة "أحبك بحرًا من المُلغزات"، حيث يتحول الحب إلى مشروع فكري غامض متعدد الأبعاد، يبتعد عن الرومانسية السطحية ليصبح تجربة معرفية متشابكة. وأخيرًا، يرفع البيت

"فإني المشوق بلا مطمع"

مستوى الحب من نزعة تملكية إلى موقف التزام وفكر، مؤكدًا أن الحب الحقيقي هنا مرتبط بالتضحية والمسؤولية، لا بالاستحواذ أو الملذات العابرة.

من خلال هذه الاستعارات والانزياحات، يتضح أن القصيدة لا تكتفي بالغزل الرمزي، بل تحوّل كل صورة وجدانية إلى إطار للتأمل الفكري والسياسي، حيث تصبح الحبيبة وطنًا ومعرفةً وفكرة، والقصيدة مأوى وتجربة اختبار للالتزام الداخلي للشاعر. هذه الطبقات المتداخلة تؤكد أن النص الشعري في جواد غلوم ليس مجرد فضاء وجداني، بل ساحة رمزية لتجربة الذات بين الرغبة والالتزام، بين الحلم والواقع.

التحليل البنيوي والسيميائي والنفسي لقصيدة و البعد الوطني والفكري في قصيدة " وهل غيرها أنهكتني؟"

أولًا: التحليل البنيوي

في ضوء مقولة رولان بارت (1) القائلة: «الذات لا تُدرك نفسها إلا عبر الآخر، الذي يُعيد تشكيل صورتها»، تقرأ قصيدة جواد غلوم "وهل غيرها أنهكتني؟" كنص يبني هويّة المتكلّم الشعري عبر علاقة انعكاسية مع الحبيبة/الآخر. لا يظل حضور الآخر هنا مجرد ظرف عاطفي أو موضوع غزلي، بل يتحوّل إلى آلية بنيوية مركزية تُعيد تشكيل بنية الذات داخل الخطاب الشعري. ولذلك، تصبح الحبيبة مرآة تُسائل الأنا وتكثّف داخلها تناقضات الانتماء والخذلان: فالهوية لا تُعطى كحقيقة مستقلة، بل تُنتَج لغويًا وإيقاعيًّا كلّما تكرّر النداء واستُعيدت أفعال الرغبة.

من منظور بنيوي، تستثمر القصيدة بنية عمودية تقليدية — من حيث الوزن والقافية — كإطار شكلاني يُولّد توتُّرًا داخليًا بين الشكل الكلاسيكي والمضامين الحداثية/الاستبطانية. الوحدة الإيقاعية المتسقة تمنح النص تماسكًا صوتيًا يبدو، ظاهريًا، امتثالًا لقواعد الانضباط الفني؛ لكن هذه الاستمرارية المقطعية تعمل أيضًا كخلفية تخضع لها ديناميكية تصاعدية في الانفعال الشعري: انتقال النص من وصف الحبيبة إلى استبطان الأنا ثم إلى نداء القرب والمناجاة ينبني على منحنى تصاعدي واضح يصل إلى ذروة انفعال لفظي. وفي هذا السياق، يلعب التكرار البنيوي — في صور أفعال مثل «أحبك» و«أريدك» و«تعال» و«اقترب» — دورًا وظيفيًّا يتجاوز التوكيد البلاغي: فهو يؤسس محور الرغبة ويجعل من المسافة الوجدانية بين الأنا والآخر موضوعًا مركزيًا للنص، ومساحة إنتاج للذات الشعرية نفسها.

ثانيًا: التحليل السيميائي

تنطلق هذه القراءة السيميائية من فرضية أمبرتو إيكو(2) القائلة بأن «كلّ علامة هي شبكة من العلاقات ولا تُفهم إلا داخل نظامها» ، وبناءً عليه تُقرأ العلامات في قصيدة «وهل غيرها أنهكتني؟» ليس كوحدات مستقلة بل كمراكز دلالية تتكوّن وتتحوّل عبر علاقاتها الاقترانية والتقابليّة داخل النسق النصّي. بهذا المنطق، لم تعد المفردة البسيطة علامة ثابتة، بل نقطة التقاء لدوال ودلالات تتداخل لتشكّل حقولًا رمزية متعددة الطبقات.

تتكثّف هذه الديناميكية في تحويلات دلالية واضحة: فـ«المعلّمة» لا تكتفي بدلالة المرأة المتعلمة بل تنفتح لتدلّ على مرجعيات مدنية وإيديولوجية — مؤسسات، فكر، ومواقف — تجعل منها علامة نظامية تحدّد موقع الشاعر الفكري والوجداني داخل الحقل النصّي. وتمامًا، تتحول صور «الرحيق» و«الورود» من إشارات لذة حسّية إلى مؤشرات على خصوبة المشروع الوطني أو فشلُه؛ بينما يخضع «الطير» و«السرب» لعملية تحويل دلالي تجعل منهما رمزين للمنفى والتشرذم بدلاً من رموز الحرية الأولى.

تؤكد القراءة كذلك أن ضمير المخاطبة «أنتِ» لا يظلّ محصورًا في علاقة خاصة، بل يعلو ليصبح علامة عليا تمثّل الوطن أو الفكرة؛ إذ تجعل سلسلة النداءات («أحبك»، «أريدك»، «تعال») فعل النداء فعل انخراط وانتماء، وتحوّل المخاطَب إلى قناع تشكّلي يفرض شروطه على وعي الشاعر وسلوكه الوجداني–السياسي.

لمزيد من الوضوح التطبيقي، تقدم هذه النقاط قراءات مختصرة لمظاهر الانزياح الدلالي في النص:

الولادة المؤلمة دلالة على الدلالة، — في «ترعرتِ فيّ غرامًا بكى… نموتِ جنينًا وكنتِ الوليدة» تتحوّل الولادة إلى رمز لتكلفة نشوء الفكرة؛ حضور يولد بثمن آلامي.

تعدّد الولاءات — في «وأكره فيك الصدود العسير ولاءاتك المكثرات العتيدة» تُقرأ «الولاءات» كدلائل على تشظّي المرجعية السياسية وضعف الإجماع

القصيدة كمأوى/وطن بديل — عبارات مثل «فلمّم شتاتي فإني شريدة» و«فقد ننزوي غفلةً في قصيدة» تحوّل النصّ إلى فضاء إنقاذ رمزي يعيد بناء الذات أمام اغتراب الواقع.

الرحيق والورود — «حتى متى قد يغيب الرحيق» تجعل من «الرحيق» مقياسًا لنجاح أو فشل المشروع الجماعي، وتربط الحزن الشخصي بخيبة الأمل العامة.

الطير والسرب — التكرار والتحوّل في صور الطيور تبرز تحوّل رمز التحليق إلى مشهد منفى وتشرذم جماعي.

ضمير المخاطبة «أنتِ» كعلامة كلية

— تكرار نداءات الحب يرفع الضمير إلى مرتبة علامة فاعلة في بناء الهوية النصية والسياسية.

في المحصّلة، تعمل السيمياء في القصيدة كآلية لإنتاج معانٍ متراكبة: العلامات تتقاطع لتولد دلالات لا تنحصر في الغزل الفردي، بل تتوسع لتشمل أفقًا وطنيًا–فكريًا واجتماعيًا.

ثالثًا: التحليل النفسي

تنبني هذه القراءة على فرضية جاك لاكان (3) القائلة بأن «الذات لا تُدرك نفسها إلا عبر الآخر الذي يُعيد تشكيل صورتها». في قصيدة «وهل غيرها أنهكتني؟» تتخذ الحبيبة ــ بوصفها الآخر ــ موقعًا وظيفيًا محوريًا لصياغة هوية المتكلّم الشعري؛ إذ لا تعمل كموضوع غزلي فحسب، بل كمرآة تُعاد عبرها تركيبَاته النفسيّة وتُقاس بها دوافِعه. يكشف الشطر «عجزتُ وهُنتُ وهُدّت قواي» عن مناخ انفعالي يسودُه انهيارٌ داخلي ناجم من صراع متكرر بين اشتياق الذات إلى القرب والوفاء، وبين إدراك استحالة تحقيق هذا القرب في إطار العلاقات الواقعية أو الرمزية.

ينتج عن هذا الصراع إحساسٌ مستمرّ بالعجز والاغتراب، بحيث يصبح الآخرُ «المرجع الكبير» الذي تُحدَّدُ به مطالبُ الرغبة وتُستنسَخ عبره صورةُ الذات. في ضوء ذلك، تتحوّل الكتابة إلى عملية إنقاذ نفسي؛ تعمل القصيدة كمأوى رمزي واستعادي، إذ يعيد الشاعر ترتيبَ تقطيعاته الذاتية وترميمَها، مستفيدًا من الفضاء اللغوي لصياغة هويةٍ مؤقتةٍ تقاوم ذوبانَها الناتج عن الخذلان. بناءً على هذا الإطار، يُنصَح بدعم التحليل باقتباساتٍ نصيةٍ توضح التكراراتِ اللغويةِ أو الصورَ الرمزيةَ التي تُثبّتُ فكرةَ «الأنا في مرآة الآخر» وتُبرزُ ديناميكياتِ الانهيارِ وإعادةِ البناءِ داخلَ الخطابِ الشعري.

رابعًا: البعد الوطني والفكري في قصيدة "وهل غيرها أنهكتني؟"

رابعًا: البعد الوطني–الفكري في ضوء موقع سعيد النقدي ومفهوم السلطة الخطابية عند فوكو

يتموضع النص الشعري ضمن أفق دلالي تتقاطع فيه ثنائية الانتماء والسلطة، حيث تُقرأ الحبيبة/الفكرة لا بوصفها استعارة غزلية فحسب، بل كبنية خطابية متشابكة تُنتج الذات وتعيد ترسيم حدود وعيها. ففي ضوء أطروحة إدوارد سعيد (4) حول موقع الناقد الذي «يظلّ في موقع نقدي، حتى تجاه ما يحبّ»، يتبدّى النص وقد انفتح على حقل وجداني–وطني تتخلله غواية الانتماء، إذ تنبض أبيات مثل «فلمّم شتاتي فإني شريدة» و «حتى متى قد يغيب الرحيق»

بحنينٍ يتجاوز الفردي ليتمثل في وعد الجماعة بالتحقق والامتلاء.

غير أنّ هذا البعد الغنائي لا ينفصل عن مفاعيل السلطة الخطابية بالمعنى الفوكوي (5)، حيث الخطاب ليس مجرّد انعكاسٍ للواقع، بل ممارسة سلطوية تُنتجه من هنا يصبح خطاب الحبيبة/الفكرة جهازًا معرفيًا–سلطويًا يرسم شروط الولاء، ويؤطر أفق التطلعات، ويعيد إنتاج موقع الشاعر داخل الحقل الوطني–المدني. إنّ الرغبة الموجهة نحو الوطن/الفكرة لا تتخذ هيئة نزعة تحريرية صافية، بل تظل محكومة بسلطان المعنى الذي يُقنن حدود الانتماء ويحوّل الحب ذاته إلى صراع دائم لا تخمده الخيبات.

وإزاء هذا التشابك، يظل الشاعر في موقع مزدوج: فهو منجذب وجدانيًا إلى الخطاب الذي يعده بالخلاص، لكنه، انسجامًا مع الموقف النقدي الذي يشدد عليه سعيد، يحتفظ بمسافة مساءلة تعيد اختبار صدقية هذا الخطاب. ويتجسد هذا في السؤال الشعري «وهل غيرها أنهكتني؟» الذي لا ينطق بالاعتراف بالخذلان فحسب، بل يفضح كذلك المسافة الفاصلة بين الوعد السياسي–المدني وواقع الإخفاق في تجسيده.

وعليه، فإنّ الحبيبة/الفكرة تتشكل كآلية خطابية مزدوجة: فهي في آنٍ واحد قوة جذب تُولّد شهوة الانتماء، وآلية سلطوية تُعيد إنتاج الحقل الوطني وتحدّد موقع الذات داخله

الخاتمة

تُبرز هذه القراءة أن قصيدة جواد غلوم «وهل غيرها أنهكتني؟» تمثل نصًا مركبًا يجمع بين تفاعلات بنيوية، سيميائية، نفسية ووطنية تعمل على تشكيل هوية المتكلّم وكشف أبعاد تجربته الشعرية. على المستوى البنيوي، يُظهر استخدام الإيقاع والتكرار (مثل «أحبك» و«تعال») دينامية تصاعدية تنظم التوتر العاطفي وتدفع النص نحو لحظة ذروة تجسد الانكسار والحنين. أما من الناحية السيميائية، تتحول المفردات إلى رموز ثقيلة بالمعاني (مثل المعلّمة التي ترمز للفكر والمدنية، والرحيق الذي يستعير الشفاء الوطني، والطير كصورة للمنفى)، وتتداخل هذه الرموز في شبكة دلالية متعددة الطبقات، ما يضفي عمقًا وغزارةً على النص ويطرح مجالًا واسعًا للتأويل.

بفضل هذا التشابك، تتجاوز القصيدة حدود النص الغزلي التقليدي لتتحول إلى فضاء تأويلي لا نهائي، يعيد صياغة الهوية وتشكيلها بواسطة مرآة الآخر، مستفيدًا من توظيف اللغة والإيقاع والرموز لطرح أسئلة وجودية ووطنية في آنٍ واحد. ولتعزيز القيمة الأكاديمية لهذه القراءة، يُقترح دعم التحليل باقتباسات نصية محددة، بالإضافة إلى استعراض التحليل التركيبي الذي يحدد مواقع الرموز ضمن بنية الخطاب. كما يمكن فتح المجال لدراسات مقارنة تربط هذا العمل بمشاريع شعرية حداثية عراقية معاصرة، مما يُثري الفهم النقدي ويضع القصيدة ضمن سياقات أدبية أوسع.

***

سهيل الزهاوي

......................

وهل غيرها أنهكتْني؟

مُــعــلِــمَــتي لا تُــحــبّ الــلــقــاءَ

اذا مــا استــطاب وجــازَ حــدودهْ

بليــتُ بِــوجْــدٍ عــسيــر المَــنــالِ

وفــاتــنــةٍ فــي هَــواها عَــنــيْــدةْ

فلا تشــتهي غـيـر طول العــذاب

ومشْــيَــتُــها للــغــرام وئــيْـــــدة

عجــزتُ وهُــنْتُ وهُــدّت قــواي

أمِنْ مسعِــفٍ في مســاعٍ حميدة؟

هــو الحــبّ حــربٌ ولا تنطفــي

وتضعــف فيها العقول الرشيــدة

تـعلّمْــت مــنْـك جَــمال الــرويّ

وأرشَــدتِــني دائــما ان أزيْــــدَه

حبــيــبة قلــبي وعَــقْــلي ســواء

قريضي تهاوى فصرتِ عـموده

تُــحــبّ الكــتاب ومــا يحــتـوي

وتعشق في الصبح ما في الجريدة

تـرعْــرتِ فــيّ غَــرامــا بَــكـــى

نَـمَــوتِ جنــيــنا وكـنْــتِ الوليدة

فإن خفَــتَ اللــحنُ في مسمعــي

يــظلّ الفــؤادُ يـغــنّـي نـشــيــده

أحبّــك بحْــرا مــن المُــلغِــزات

طروحات فِـكْــرٍ ورؤيا سديْــدة

وأكـره فـيْــكِ الصدود العَـسيــر

ولاءاتِــك المكْــثرات العـتـيــدة

فإنــي المــشوق بـلا مَــطْــمَـعٍ

بــلا أمَــلٍ ارتجي ان أعــيْــده

وحتى متى قد يغـيب الرحيق

ويــنأى بعـيدا ليـنسى وروده

أشيري إليّ تــعالَ، اقْــتربْ

فان المسافات لـيست بعــيدة

هــنا مُــلْـتَــقاكَ بحضنٍ خـلا

فلمْلمْ شِـتاتي؛ فإنـي شـريـدة

فأنــت تـراني بعــقْــلٍ سَــويّ

ولـكـنْ بـقُـربِـك أبْـدو بـلـيْــدة

وإن بعُــدَ الطيــر عـن سربهِ

فـتُــوقعــهُ فـي فخاخ المكيْــدة

وان باعَــدتْــنا دروب الحيـاة

فقد ننْزوي غَـفْلةً في قصيـدة

أريــدك قُـرباً ووقْــع خطــىً

إذا كان حلما فلا، لن أريده

***

جواد غلوم

..........................

1- بارت، رولان. الكتابة في درجة الصفر. ترجمة فؤاد زكريا، دار الشروق، 1986. ص. 21

2- إيكو، أمبرتو. السيمياء وفلسفة اللغة. ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، 2005. ص. 45

3- لاكان، جاك. التحليل النفسي والفن. ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، 1990. ص. 88

4-  سعيد، إدوارد. تمثيلات المثقف. ترجمة فواز طرابلسي، دار الساقي، 1996.ص .14

5-فوكو، ميشيل. السلطة والمعرفة. ترجمة حسن حمادة، دار الفارابي، 2003 ص. 33

 

محمد خالد النبالي

تمثل قصيدة "نافذة البحر" نصاً شعرياً وجودياً يتجاوز حدود التعبير الجمالي إلى مساءلة كبرى عن الموت والفناء والغياب والمعنى. ينطلق الشاعر من "النافذة" بوصفها عتبة بين الداخل والخارج، ليجعل من البحر مرآةً للغيب وفضاءً فلسفياً مفتوحاً على السر والالتباس. وهو بذلك يستعيد ما أشار إليه غاستون باشلار في جماليات المكان حين اعتبر النافذة "موضع انفتاح الكائن على اللامحدود"، لكن النبالي يجعل منها منفذاً إلى قلق الإنسان أمام سر الوجود.

البنية الفنية للقصيدة

التكرار والإيقاع الدلالي

تكرار العبارة الافتتاحية «فِي ذَاتِ صَبَاحْ» ليس تكراراً زخرفياً فحسب بل وظيفة بنائية زمنية ودلالية: يخلق إيقاعاً دائرياً يشبه طقوس العودة إلى نفس السؤال الوجودي ويحول الزمن الشعري إلى حلقة تكرارية لا تقدم حلاً بل تزيد من كثافة القلق.

هذا التكرار يعكس ما يسميه بول ريكور زمن التكرار حيث يعود الإنسان إلى مواجهة الأسئلة المصيرية دون مخرج نهائي. كما يجعل الصباح ليس حالة واحدة وإنما سلسلة من الصحو/الاستدعاء، فيحيل على مفهوم الزمن الحلقي عند القراءات الوجودية ويمنح النبرة طابعاً تأملياً طقسياً.

الاستعارة والرمزية: النافذة، البحر، الخريف

النافذة: عتبة بين الداخل والخارج، ليست مجرد إطار بصري بل موقع لوجودية الرؤية وموقف فلسفي من المساءلة.

البحر: يتحول من مجرد منظر إلى "آخر" معرفي  مصدر الغياب والسر. صمته وإجاباته المشفرة تعمّقان فكرة القلق الوجودي: البحر كرمز للامحدود والغياب الذي لا يستنزف بواسطة اللغة.

الخريف والأوراق المتبعثرة: يرمزان إلى التفتت والخلخلة التي تسبق الكشف. الخريف هنا ليس حالة مناخية فقط بل حالة   أنطولوجية تكشف عن حافة المعنى حين يتفكك العالم/الذات.

التضاد والتفاضل الدلالي

يبني الشاعر تضاداً واضحاً:

بين النهر (جمال وحياء، رمز للقريب والمنسجم مع الذات) والبحر (عميق الأسرار، رمز للبعيد المجهول الذي يهدم الثقة المعرفية).

وبين الموت والنحر: فالموت قد يحمل طابعاً طبيعياً، بينما النحر يوحي بالعنف والتمزق، مما يفتح النص على تباينات أخلاقية وفلسفية حول الفناء والنية والمعنى.

الحوارية والضمائر وسيناريو البلاغة

القصيدة بناؤها حواري: "أنا" المتكلم مقابل "البحر" المتكلم/ الصامت. هذا التوزيع الصوتي يجعل من النص دراما فلسفية صغيرة: الذات تستجدي المعنى والآخر (البحر) يعيدها إلى الصمت أو إلى شرط كشف مشروط:

"سِرِّي لَنْ يَظْهَرَ حَتَّى تَتَبَعْثَرَ كُلُّ الأَوْرَاقِ."

الأسئلة البلاغية المتكررة (قُل لي... ما الفرق...؟) تؤكد حالة الأبوريا (الأسئلة التي لا تجد جواباً نهائياً) وتحول اللغة نفسها إلى مسرح عجزها عن الاستيلاء على السر.

البناء النحوي والإيقاعي والوقفات

الاعتماد على الأسطر القصيرة والتقطيع السطري يخلق إيقاعاً متقطعاً يقارب اضطراب الذات. تكرار صيغة «قُلْ لِي» يعمل كدعوات متكررة لكنها تفشل بالردود الصامتة، فتصبح اللغة نفسها دليلاً على الفشل المعرفي.

الصوت والوزن واللحن الداخلي

يتكرر صوت الفاء والباء والصاد بما يشبه التمتمة الطقسية. كما أن مفردات مثل "فاضَ"  "تتبَعْثَر"،"مات السر"  تحمل شحنة إيحائية قوية: "فاض"  توحي بالامتلاء المفرط الذي يتجاوز السيطرة و'مات السر" تختم النص بلحظة انقطاع نهائي.

الصور الحسية والبعد البصري/السمعي

النص يوظف صوراً بصرية (النافذة، النور، الظلام، الأوراق) وسمعية (الصمت، السؤال) ليؤسس تجربة حسية وجودية:

"والنور يجيء / وحتى الإظلام يهل"

ما يعكس جدلية الحضور/الغياب، والكشف/التلعثم.

التركيب الدلالي العام

تجمع هذه العناصر بين الشعرية والفلسفية لتؤكد أن النص ليس مجرد طرح أسئلة معرفية بل هو تمرين على حدود اللغة ذاتها  حيث يتحول الشعر إلى مساحة مساءلة للسر الذي يتعذر القبض عليه.

الثيمات الوجودية

البحر رمزاً للغيب واللامحدود

"البحر غريب، مريب، عجيب."

البحر يصبح استعارة للآخر الغامض الذي يواجه الذات بحدودها. كما يقول ريلكه: "إن الجمال ليس سوى بداية الرعب التي ما زلنا قادرين على احتمالها."

الخريف والتبعثر بوصفهما شرط الكشف

"سِرِّي لَنْ يَظْهَرَ حَتَّى تَتَبَعْثَرَ كُلُّ الأَوْرَاقِ / بِأَزْمِنَةِ خَرِيفْ."

الخريف هنا علامة على الذبول والانكسار السابق للكشف وهو ما يوازي رؤية ميرلو-بونتي: "الوجود يدرك في لحظات الهشاشة والانهيار أكثر من لحظات الاكتمال.

السؤال الفلسفي عن الموت والخلود

"مَا الْفَرْقُ هُنَا بَيْنَ فَنَاءٍ وَخُلُودْ؟"

هذا السؤال يذكر برؤية سارتر: "الإنسان محكوم عليه بالحرية والحرية تبدأ بالوعي بالموت." فالقصيدة تساءل الفارق بين الزوال والمعنى وبين الغياب والوجود.

البعد الفلسفي للقصيدة

اللغة وحدود السر: في النهاية "مات السر" لا لأنه انكشف بل لأن اللغة والبحر معاً عجزا عن تقديم تفسير. كما يقول ت. س. إليوت: "الشعر يبدأ حيث تعجز اللغة عن القبض على المعنى."

المفارقة بين الجمال والفزع: النهر "جمال وحياء"، البحر "عميق الأسرار". هذه الثنائية تجسد مفهوم "الجليل" عند إدموند بيرك، حيث يولد الانبهار من التلاقي بين الجمال والرعب.

المقارنة الأدبية/الفلسفية مع شاعر معاصر

تركز كل من قصيدة "نافذة البحر" والنصوص الفلسفية لأدونيس على الطبيعة كفضاء رمزي للتأمل الوجودي. عند النبالي يصبح البحر رمزاً للغيب والسر والخريف للفناء في لغة استعارية دقيقة وحوارية مباشرة. أما أدونيس فيستخدم الطبيعة في صور أكثر تجريداً تربط الزمن بالتاريخ والهوية. وبذلك يحقق كل منهما رؤية فلسفية مختلفة: النبالي عبر الحوار الوجودي المباشر، وأدونيس عبر التأمل الرمزي المركب.

تكشف هذه الدراسة أن "نافذة البحر" نص شعري وجودي يدمج بين جماليات اللغة وقلق الفلسفة. اعتمد الشاعر على التكرار الطقسي والاستعارة العتبية (النافذة)، ثنائية النهر/البحر  والصيغ الحوارية ليعيد إنتاج قلق الوجود بدلاً من حله.

تؤكد القراءة أن اللغة في النص عاجزة عن احتواء السر لكنها تبقى المجال الوحيد للمساءلة. وهكذا تتحول القصيدة إلى تجربة معرفية حدية، حيث يصبح الخريف والتبعثر شرطاً ضرورياً لظهور أي احتمال للمعنى، بينما يبقى البحر صامتاً كتذكير دائم بحدود الإنسان.

***

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله

........................

"نافِذَةُ البَحْر"

فِـي ذَاتِ صَـبَـاحْ

جَـاءَ الـنُّـورُ وَفَـاضَ وَبـَاحْ

فِـي ذَاتِ صَـبَـاحْ

كُـنْـتُ بـِنَـافِـذَةٍ، طَـلَّـتْ فَـوْقَ الـبَحْـرِ

لِـتَـنْـظُـرَ كَـيْـفَ تـَكُـونُ نـِهَـايـَةُ

هَـذَا   الكَـونْ

فِـي ذَاتِ صَـبَـاحٍ

مَـا كَـانَ اللَّـوْنُ بـِمِـثْـلِ اللَّـونْ

وَخَـرَجْـتُ لِـنَـافِـذَتـِي

أَنـْظُـرُ هَـلْ بـَحْـرُ الأَرْضِ

يـُخَـبِّـرُ عَـنْ كُـنْـهِ المجْـهُـولْ؟!

لَـكِـنَّ الـبَحْـرَ يـَظَـلُّ يـَقُـولْ :

سِـرِّي لَـنْ يـَظْهَـرَ حَـتَّـى تـَتَـبَعْـثَـرَ كُـلُّ الأَوْرَاقِ

بـِكُـلِّ غُـصُـونِ الأَشْجَـارِ

بـِأَزْمِـنَـةِ خَـرِيـفْ..

الـبَحْـرُ يـَقُـولُ، بـِأَنَّ العَـالَـمَ

أَمْـرٌ مَـطْـوِيٌّ

مَـنْ يـَبْـحَـثُ فَـالسِّـرُّ مُـخِـيـفْ

مِـن نـَافِـذَةِ اللَّـيْـلِ

وَنـَافِـذَةِ الإِصْـبَـاحِ أُطِـلْ

وَالـنُّـورُ يـَجِـيءُ

وَحَـتَّـى الإِظْـلاَمُ يـَهِـلْ

وَأُسَـائِـلُ دَوْمًا هَـذَا الـبَحـرْ

قُـلْ لِـي عَـنْ فَـرْقٍ

بـَينَ

الموْتِ وَبَيْنَ

الـنَّحْـر؟!

قُـلْ لِي.. :

مَـا الـفَـرْقُ هُـنَـا

بـَينَ فَـنَـاءٍ

وخُـلُـودْ؟

مَـا الـفَـرْقُ،وَقَدْ فَاضَ عَلَـيَّ

بِبـَيْنِ غِـيَـابٍ

وَوُجُـودْ؟

لَكِـنَّ الـبَحْـرَ كَمَيْتٍ

لَـيْـسَ يـُجِـيـبْ

لَكِـنَّ الـبَحْـرَ غَـرِيـبٌ، وَمُـرِيـبٌ، وَعَجِيبْ

الـنَّـهْـرُ جَـمَـالٌ وَحَـيَـاءٌ

وَالـبَحْـرُ عَـمِـيـقُ الأَسْــرَارْ

مِـنْ نـَافِـذَةِ الـبَحْـرِ

اعْـتَـدتُ سُـؤالاً..

وَجَـوَابُ الـبَحْـرِ

يـَجِـيءُ كَـخَـوْفِ نـَهَـارْ

هَلْ أسْألُ

مَـا الـفَـرْقُ إذًا بـَينَ جَبَانٍ وسِواهُ  يَكِرْ؟

هَلْ أسْألُ

مَـا الـفَـرْقُ صَدِيقِي

بـَينَ الـحِـقْـدِ وَبَيْنَ الـبِـرْ؟

لِيـَضِـيـعَ الصَّـوْتُ.. تَلاشَى الضَّـوْءُ

فَمَاتَ  السِّــرْ

***

محمد النبالي

في الشعر العربي الحديث

الأدب، منذ فجره الأول، ظلّ بحثاً مضنياً عن الأصوات الغائبة والمقموعَة، وتجلّياً حيّاً لرغبة اللغة في الانفلات من قبضة الواحد وهيمنة الصوت المفرد. وإذا كانت المعلقة الجاهلية عند عمرو بن كلثوم مثالًا على الشعر الملحمي الذي ينهض على نبرة أحادية متعالية، وإذا كان أبو فراس الحمداني قد كرّس الغنائية العاطفية بوصفها صوتاً ذاتياً مكتملاً، فإن ما ظلّ مطموساً في التراث الشعري العربي هو ذلك التوق إلى الحوارية، إلى تشظّي الصوت الواحد وتفتّحه على تعددية السرديات. هنا تتبدّى بذور ما يمكن أن نسمّيه بـ الأقصودة، أي النص الشعري الذي يتّخذ من السرد جسراً ومن الغنائية جناحين، فيتحرّك بين ضفاف الشعر والقصة، بين الإيقاع والتخييل، بين البنية الموسيقية والبعد الدرامي.

إنّ الأقصودة ليست جنساً أدبياً نهائياً بقدر ما هي تجربة عبور، محاولة لإرباك الحدود الفاصلة بين الأنواع، وتفجير الصمت الذي رسّخته سلطة الصوت الأحادي. ففي قصائد بدر شاكر السيّاب، لا نقرأ صوتاً منفرداً للشاعر، بل نصغي إلى حوارية بين البحر والمرأة، بين الغياب والانتظار، حيث تتجسّد اللغة ككائن يتوزّع على أكثر من ضمير وأكثر من ذاكرة:

 "وجلستِ تنتظرين عودة سندباد / والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود / هو لن يعود".

هنا، الشاعر ليس ذاتاً متسيّدة تروي، بل سارداً ينسحب لصالح الدراما، محوّلاً النص إلى مسرحٍ للأصوات وتناوب الرؤى. وهذا ما يجعل من الأقصودة ـ بحسب التعبير الاجتهادي ـ ملتقىً بين الهُويّة الشعرية والوعي السردي.

لقد كان ميخائيل باختين، في حديثه عن "تعددية الأصوات" في الرواية، يشير إلى أنّ الفن العظيم لا يكتفي بسلطة صوتٍ واحد، بل يفسح المجال للحوارية. هذا المبدأ يمكن إسقاطه على الأقصودة، التي تعلن قطيعة مع المونولوج الشعري وتؤسّس لبنية حوارية تتجاور فيها الأصوات الإنسانية مع أصوات الطبيعة والذاكرة والأسطورة.

من جهة أخرى، يمكن النظر إلى الأقصودة بوصفها علاجاً جمالياً لحالة الخرس الثقافي التي تنتج عن استبداد الصوت الواحد، وهذا ما يشير إليه علم النفس التحليلي عند كارل يونغ حين يتحدّث عن "انبعاث الأصوات المكبوتة في اللاوعي الجمعي". فالأقصودة ـ بهذا المعنى ـ ليست فنًا فحسب، بل تفريغ علاجي للأصوات المقموعة داخل النص والوعي الجماعي.

وإذا كان الشعر العربي القديم قد كبَتَ هذا الشكل بفعل الهيمنة الملحمية والغنائية، فإن الشعر الحديث أعاد إحياءه تحت تأثير التداخل الأجناسي والانفتاح على السرد. يقول أدونيس: "القصيدة لا تعود قصيدة إذا أغلقت على ذاتها، إنما تصبح كائناً حياً حين تتنفس من ثقوب الآخر". وهذا التعريف يتماهى تماماً مع جوهر الأقصودة، حيث الآخر حاضرٌ دائمًا: آخر في الحوار، آخر في السرد، وآخر في التخييل.

أما الأطباء النفسانيون، مثل ريلكه في نصوصه التأملية، فقد رأوا في الشعر طاقة مداوية للروح، قادرة على منح الكلمة أفقاً للانعتاق. والأقصودة بهذا المنظور ليست سوى منصّة للتنفيس الوجودي، حيث يجد الشاعر في تهجين الأجناس منفذاً للتعبير عن قلقه الأنطولوجي.

في هذا السياق، يمكن القول إن الأقصودة هي:

- جمالية كسر الحدود بين الأنواع الأدبية.

- فضاء تعددي يتشابك فيه السرد مع الغنائية.

- منبر للحوارية التي تزعزع سلطة الواحد وتؤسّس لحضور الآخر.

حقل علاجي تتنفس عبره الذات الجماعية أصواتها المكبوتة.

لقد أدرك كبار المفكرين والمثقفين العرب والغربيين أنّ الفن الحقيقي يعيش على القلق والتحوّل، ولا يكتفي بطمأنينة البُنى الثابتة. الأقصودة، بهذا المعنى، هي ابنة القلق والتجريب، وهي صرخة ضدّ النمطية، كما هي محاولة لإعادة تعريف الشعر في ضوء الحوار والتعدد.

خاتمة:

الأقصودة ليست مجرد مصطلح طريف في التداول النقدي، بل هي وعي جديد بالشعر، يفتح له أفقًا يتجاوز صوته الفردي إلى جوقةٍ من الأصوات، ويحرّره من سلطة المونولوج ليصبح نصًا مفتوحًا، متحوّلًا، متجددًا. وإذا كان الشعر العربي قد عرف ميلادها في ثناياه القديمة، فإن الشعر الحديث أعطاها اسمًا وملامح، لتصبح علامةً فارقة في تحوّل الشعر من القول المفرد إلى القول المتعدد.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

الأديب والكاتب "الطيب صالح"، أديب وكاتب سوداني، بدأ رحلته مع الكتابة في خمسينيات القرن العشرين، وساهم في نشر الأدب والثقافة السودانيّة في مختلف أنحاء العالم من خلال رواياته ومؤلفاته وكتاباته التي ترجم العديد منها إلى لغات عالميّة، ولُقب بـ"عبقري الرواية العربيّة". من مواليد 1929 لأسرة تشتغل بالزراعة في منطقة (مروي) شمالي السودان بقرية (كَرْمَكوْل). درس المرحلة الابتدائيّة في منطقة "وادي سيدنا"، ثم انتقل إلى الخرطوم لإكمال دراسته، حيث حصل على البكالوريوس في العلوم، ثم انتقل إلى العاصمة البريطانية لندن حيث غيَّر تخصصه ودرس في جامعاتها العلوم السياسيّة.

تقلب الطيب صالح بين عدّة مواقع مهنيّة، داخل السودان وخارجه، حيث عمل إعلاميّا في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانيّة "بي بي سي"، وترقى فيها حتى وصل إلى منصب مدير قسم الدراما. وعمل إعلاميّاً في السودان حتى حط به المطاف في دولة قطر، وعمل في وزارة إعلامها وكيلاً ومشرفاً على أجهزتها. ومن بعد ذلك عمل الطيب صالح مديرا إقليميّا بمنظمة اليونيسكو في باريس، وممثلا لهذه المنظمة في الخليج العربي.

بدأ الطيب صالح الكتابة منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، ومن بين أعماله "ضو البيت" و"عرس الزين" و"مريود" و"دومة ود حامد" و"منسى" و"بندر شاه"، إضافة إلى رواية "موسم الهجرة إلى الشمال". وقد حاز على ثقافة في واسعة، جمعت بين حقول معرفيّة مختلفة في اللغة والسياسية والفقه والفلسفة والأدب والإعلام والشعر.

كان مسكونا ببيئته السودانيّة، وعكس ذلك في رواياته وقصصه، فعالج بطريقة أدبيّة إيحائيّة إشكاليّة التعدديّة الإثنيّة والثقافيّة والصدام بين الحضارات، وخاصة في روايته الأشهر "موسم الهجرة إلى الشمال".

حصل على جوائز عديدة، منها إطلاق لقب "عبقري الأدب العربي" عليه، واعتبرت الأكاديميّة العربيّة في دمشق روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" الرواية العربيّة الأفضل في القرن العشرين.

في عام 2010 تم إطلاق جائزة الطيب صالح العالميّة للإبداع الكتابي، الذي تزامن مع الذكرى السنوية الأولى لوفاته.

توفي الطيب صالح يوم 18 فبراير/شباط 2009 بلندن، حيث ظل فترة طويلة يرقد في مستشفياتها للعلاج بعد إصابته بفشل كلوي يستوجب عمليات غسيل للكلى ثلاث مرات في الأسبوع، وقد نُقِل جثمانه إلى السودان حيث دفن في العشرين من الشهر نفسه.

رواية عرس الزين.

مدخل:

"الطيب صالح" أديب سوداني متمكن من حرفته الأدبيّة، وهي كتابة الرواية.. وذلك لاعتماده على المنهج الواقعي في الأدب، وهو منهج يعمل على تحليل الواقع والنظر في مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة، ومدى انعكاس هذه المستويات في ذهن الأديب روائيّاً كان أو قاصاً أو شاعراً. بيد أن هذا المنهج يتطلب بالضرورة حيازة الأديب برأيي على ثقافة واسعة وشموليّة، جمعت بين حقول معرفيّة مختلفة في اللغة والسياسية والفقه والفلسفة والأدب والإعلام والشعر، وغير ذلك، مما مكنه من القدرة على التحليل والمقارنة بأسلوب يجمع بين الإقناع الفكري، والتأثير الوجداني، والغوص في عمق الوقائع، وتصويرها، أو حتى إظهار المخفي والمسكوت عنه فيها للمتلقي، وهذا ما امتاز به الطيب صالح في أعماله الروائيّة، ومنها رواية (عرس الزين).

البنية السرديّة أو الحكائيّة للرواية:

بالرغم من أن الرواية تحاكي حياةً اجتماعيّةً في قرية أو مدينة صغيرة في السودان، إلا أن مضمون ما جاء فيها من أحداث ينطبق في الحقيقة برأيي على معظم حياة ريف عالمنا العربي، مع اختلافات بسيطة يتعلق بدرجات التخلف السائد فيها.

زين الشخصيّة الرئيسة في الرواية ومدار أحداثها، فريدة في سماتها وخصائصها وبناء هيكلها الجسمي، وصفها "الطيب الصالح" بقوله: (كان وجه الزين مستطيلاً ناتئُ عظام الوجنتين والفكين وتحت العينين ، جبهته بارزة مستديرة، وعيناه صغيرتان محمرتان دائماً، محجراهما غائران مثل كهفين في وجهه، ولم يكن على وجهه شعر إطلاقاً، ولم تكن له حواجب ولا أجفان، بلغ مبلغ الرجال وليس له لحيةٌ أو شارب... تحت وجهه رقبة طويلة، وبالتالي كان الأولاد يلقبونه من بين ألقابه الكثيرة " (الزرافة). وهذه الرقبة تقف على كتفين قويتين تنهدلان على بقية الجسم في شكل مثلث، والذراعان طويلتان كذراعي القرد، واليدان يظتان عليهما أصابع مسحوبة تنتهي بأظافر مستطيلة حادة، (فالزين لا يقلم أظافره أبدا).. صدره مجوف، والظهر محدودب قليلاً، والساقان رقيقتان طويلتان كساقي الكركي، أما القدمان فقد كانتا مفلطحتين عليهما آثار ندوب قديمة).ص3.

بهذا الوصف الدقيق برزت شخصيّة "زين" في قريته، حتى أصبح علماً من أعلامها، وعليه تنسج القصص والحكايا والأمثال.

يقال يولد الأطفال فيستقبلون الحياة بالصراخ، هذا هو المعروف أما الزين، والعهدة على أمّه والنساء اللائي حضرن ولادته، أنه أول ما مس الأرض، انفجر ضاحكا وظل هكذا طول حياته.

كبر "الزين" وليس في فمه غير سنين واحدة في فكه الأعلى والأخرى في فكه الأسفل. وأمه تقول: إن فمه كان مليئا بأسنان بيضاء كاللؤلؤ. ولما كان في السادسة ذهبت به يوماً لزيارة قريبات لها فأصبنه بالعين، فصابته حمة، وفي الصباح فاق ولم يوجد في فمه إلا هذين السنين.

تقول الرواية إن الزين دخل بيتا ليسرق طعاماً. حيث كان معروفا بالنهم، فإذا أكل لا يشبع. وفي الأعراس حين تأتي (سفر) الطعام ويتحلق الناس حلقات يأكلون، يتحاشى كل فريق أن يجلس "الزين" معه، كونه سيأتي في لمح البصر على كل ما في الآنيّة، ولا يترك أكلا لآكل.

ولكن مهما قال الناس عن "الزين"، فإنهم يعترفون بسلامة ذوقه في النساء، فهو لا يحب إلا أروع فتيات البلد جمالاً وأحسنهنّ أدباً وأحلاهنّ كلاماً. ولذلك كثيراً ما يُستغل من قبل ذوي الفتيات اللواتي أحبهنّ، كما جرى له مع بنت المختار، ورغم أن الكل عرف قصة حبه لها حتى المختار نفسه، وهم يدركون أن هذا الزواج مستحيل، فإن المختار نفسه، قد عرف كيف يستغل هذه العاطفة، فسخر "الزين" في أعمال كثيرة شاقة يعجز عنها الجن. حيث كنت ترى "الزين" العاشق، يحمل جوز الماء على ظهره في عز الظهر، في حر تئن منه الحجارة مهرولاً هنا وهناك، يسقي جنينة العمدة. أو تراه ماسكاً بفأس أضخم منه يقطع شجرةً أو يُكسر حطباً. أو تراه منهمكاً يجمع العلف لحمير العمدة وخيله وعجوله.

عندما أحب بنت العمدة "حليمة" وتزوجت من غيره، حدثت نقطة تحول في حياة "الزين". إذ فطنت أمهات البنات إلى خطورته وأهميته معاً، كبوق يدعين به لبناتهنّ في مجتمع محافظ تحجب فيه البنات عن الفتيان.

لقد أصبح "الزين" رسولا للحب، ينقل عطره من مكان إلى مكان.. كان الحب يصيب قلبه أول ما يصيب، ثم ما يلبث أن ينتقل إلى غير من أحب بعد زواج حبيبته، فكأنه خلق سمساراً أو دلالًاً أو ساعي بريد. فما أن يلهج لسانه بذكر الفتاة ويصيح باسمها حيثما كان، فلا تلبث الآذان أن ترهف، وما تلبث العيون أن تنبه ، وما تلبث يد فارس من بينهم أن تمتد فتأخذ يد الفتاة.

لقد وفدت على "الزين" سنوات خصب مفعمة بالحب. بعد أن أصبحت أمهات البنات يخطبن وده ويستدرجنه إلى البيوت فيقدمن له الطعام والشراب، ويفرش له السرير، سواء كان الوقت ضحى أو عصرا، وما أن يسمع النساء أن "الزين" في دار قريبة حتى يتقاطرن عليه، والسعيدة منهنّ من تقع في قلبه موقعاً، أو التي يخرج واسمها على فمه، فتلك الفتاة ستضمن زوجاً في خلال شهر أو شهرين.

لقد روجت أم الزين أن ابنها (ولي من أولياء الله). وقوى هذا الاعتقاد صداقة "الزين" مع الشيخ الصوفي "الحنين". وكان رجلاً صالحاً منقطعاً للعبادة، والناس يتناقلون قصصاً غريبةً عنه. فيحلف أحدهم أنه رآه في مروى في وقت معين، بينما يقسم آخر أنه شاهده في كرمه في ذلك الوقت نفسه - وبين البلدين مسيرة ستة أيام. ويزعم أناس أن الشيخ "الحنين" شوهد برفقةٍ من الأولياء السائحين الذين يضربون في الأرض يتعبدون. و"الحنين" قلما يتحدث مع أحد من أهل البلد، وإن سئل لا يجيب. ولكن في البلد يوجد إنسان واحد يأنس إليه "الحنين" ويهش له ويتحدث معه هو "الزين"، كان إذا قابله في الطريق عانقه وقبله على رأسه، وكان يناديه " المبروك".

عندما عاد "الزين" من المستشفى في مروى بعد ضرب (سيف الدين) له وفج رأسه، حيث ظل أسبوعين، كان وجهه نظيفاً يلمع. وثيابه بيضاء ناصعة. وعندما ضحك لم ير الناس كما عهدوا سنين صفراوين في فمه، ولكنهم رأوا صفين من الأسنان اللامعة في فكه الأعلى، وفي فكه الأسفل من صدف البحر.

لقد تحول "الزين" إلى شخص آخر. وهنا خطر لـ (نعمة) ابنة عمه، وهي واقفةٌ بين صفوف المستقبلين، أن "الزين" في الواقع لا يخلو من وسامة!!!!. وهي الفتاة الجميلة التي نذرت نفسها لتعلم الدين وحفظ القرآن، خطبها الكثير من خيرة شباب البلد، إلا أنها رفضتهم واعتقدت بأنها خلقت لخدمة زوج هو بحاجة لها فوجدته في "زين" ابن عمها.. فأقنعت والدها عم "الزين" بعد جهد، فكان الزواج الذي أقيمت له حفلة لم يجر مثلها في البلد.

الحي كله انشغل بعرس "الزين". لقد ماج الحي من كل أركانه وجاء الناس من بحري وقبلي، فاجتمعت النقائض تلك الأيام. وامتلأت الدور بالوافدين من كل مكان حتى من بدو (القوز) فامتلأت دور أهل الحي كلها بالضيوف الغرباء، فلم يبق بيت إلا أنزلوا فيه جماعة من القوم حتى دار العمدة نفسه وبيت القاضي الشرعي.

وقال شيخ "علي" لحاج "عبد الصمد": (عرس زي دا الله خلقني ما شفت زيه)

وقال حاج "عبد الصمد": (على بالطلاق الزين عرس عرس صح مو كدب).

الكل رقصوا وغنوا.. جواري الواحة غنيين ورقصن تحت سمع الإمام وبصره. كان المشايخ يرتلون القرآن في بيت، والجواري يرقصن ويغنين في بيت، والمداحون يقرعون الطار في بيت، والشبان يسكرون في بيت، لقد كان في الحقيقة فرحاً كأنه مجموعة أفراح. وكانت أم "الزين" ترقص مع الراقصين، وتنشد مع المنشدين، وحتى "عشمانة" الطرشاء رقصت. وصفق "موسى" الأعرج.

إن الحضور كلهم كانوا في هرج ومرج إلا "زين" بحثوا عنه في كل مكان فلم يجدوه، لقد ترك العرس خلسةً وذهاب إلى المقبرة حيث دفن الشيخ حنين .. لم يتركوا مكانا إلا وبحثوا عنه.. ولم يبق إلا المقبرة وجدوه جاثماً عند قبر الحنين، وقال له عمه محجوب: (الجابك هنا شنو؟.). لم يردْ ولكن بكاءه اشتد حتى أصبح شهيقاً حاداً، ثم قال "الزين" في صوت متقطع يتخلله النحيب: (أبونا الحنين إن كان ما مات، كان حضر العرس). ووضع محجوب يده على كتف "الزين برفق" وقال له: (الله يرحمه. كان راجل مبروك، لكن الليلة ليلة عرسك. الراجل ما بيبكي ليلة عرسه يا ألله نروح).

وقام الزين وسار معهم. وصلوا الدار الكبيرة حيث أغلب الناس، فاستقبلتهم الضجة... كانت فطومة تغني، وفي الوسط فتاة ترقص، وحولها دائرة عظيمة فيها عشرات الرجال يصفقون ويضربون بأرجلهم ويحمحمون بحلوقهم. وفجأة انفلت الزين، وقفز قفزةً عالية في الهواء، فاستقر في وسط الدائرة. ولمع ضوء المصابيح على وجهه الذي ما يزال مبللا بالدموع. صاح بأعلى صوته: (أبشروا بالخير .. أبشروا بالخير)، وفار المكان كأنه قدر تغلي. لقد نفث فيه "الزين" طاقةً جديدة. وكانت الدائرة تتسع وتضيق تتسع وتضيق، والأصوات تغطس وتطفوا، والطبول ترعد وتزمجر، و"الزين" واقف في مكانه في قلب الدائرة، بقامته الطويلة وجسمه النحيل كأنه صاري المركب.

البعد الاجتماعي والفكري في الرواية:

إن اعتماد الطيب صالح على المنهج الاجتماعي وقدرة هذا المنهج على ربط المواضيع الاجتماعيّة بالواقع، منحه القدرة الرائعة على دراسة وتصوير الظاهرة الاجتماعيّة في ريف السودان متخذا من قرية "الزين" أنموذجا، لهذا الواقع. لقد وجد الغرابة في شخصيّة "الزين" الذي يمثل بطل الرواية، وهو الغريب منذ مولده، ولازمه تكوينٌ جسديّ غريبٌ، وتصرفاتٌ غريبةٌ أيضاً، الأمر الذي جعله أغرب الشخصيّات، وهذا الأنموذج الفريد من الشخصيات التي تمتاز بالبلاهة وقلة في العقل والإدراك، غالباً ما يجعل منها حسنا الشعبي رجال كرامة وأهل خطوة. وهذا ما لمسناه واضحاً في الرواية، حيث اعتبرته أمّه وليّاً، وصدقها الكثير من أهل القرية، وخاصة بسبب طبيعة علاقته الحميميّة مع الشيخ (حنين).

ثمّ هناك الشيخ الصوفيّ "حنين" الذي تظهر غرابته من خلال التصوّر اللاعقلاني لشخصيته، كولي صالح وما يتبعها من كرامات وخوارق، حيث تحولت أقوله وأعماله إلى سرٍّ مكنونٍ لا يعلمه أحد، وبالتالي راح يشكل عامل بركة بالنسبة لأهل القرية خاصة عندما دعا لأهلها بالبركة، التي حلت عليهم، خدمياً في القرية عندما قررت الدولة أن تقوم بأعمال لم يدرك أهل القرية أسبابها الحقيقية.

لقد قامت الدولة ببناء معسكر كبير للجيش في الصحراء على بعد ميلين من بلدهم، وراح الجنود يأكلون ويشربون، فانتعشت البلد من توريد الخضروات واللحوم والفواكه واللبن للجيش، حتى أسعار التمر ارتفعت ارتفاعاً ليس له نظير في ذلك العام، وأن تبني في بلدهم دون سائر بلدان الجزء الشمالي من القطر، وهم قوم لا حول لهم ولا طول، ولا نفوذ ولا صوت يتحدث باسمهم في محافل الحكام، دفعةً واحدةً مستشفى كبيراً يتسع لخمسمائة مريض، ومدرسة ثانوية ومدرسة للزراعة، ومرة أخرى عادت الفائدة على البلد، في الأيدي العاملة ومواد البناء وتوريد الغذاء.

كل ذلك تم بعد شهرين من وفاة الشيخ (حنين)، لقد قامت الحكومة بتنظيم أراضيهم كلها في مشروع زراعي كبير تشرف عليه الحكومة نفسها بما لها من قوة وسلطان، ووجدوا بلدهم فجأة تعج بالمساحين والمهندسين والمفتشين، وأن المياه غمرت أراض زراعيّة لم تكن تعرف المياه من قبل.

إن كل هذا الازدهار فسره "عبد الحفيظ علم السر، وهو يقول لمحجوب، ووقد جمع بين عينيه الحقل الواسع الذي هو حقله، والريح تلعب بالقمح فتثني صفوفه فكأنه حوريات رشيقة تجفف شعرها في الهواء (معجزة يا زول . ما في أدني شك)... ولم يعد ثمة شك في ذهن أحد، حتى محجوب، بأن هذه المعجزات مردها لدعوة الشيخ "حنين" لأولئك الرجال الثمانية أمام متجر سعيد ذات ليلة: (ربنا يبارك فيكم ربنا يجعل البركة فيكم).

أما "نعمة" ابنة عم "الزين" وزوجته بنهاية الرواية، فقد مثلّت غرابة فتاة متمردة على تقاليد مجتمعها، بعد أن قضت كل وقتها في حفظ أيات من القرآن الكريم، حتى امتلأ قلبها الرحمة والشفقة لتتزوج ابن عمها "الزين".

وهذا "سيف الدين" الذي كان غريباً بفسقه، راح يتوب فجأة ويذهب من صباحه إلى أمّه ليقبل رأسها ويبكي طويلا بين يديها. وما كاد أهل القريّة يستجمعون أنفاسهم حتى سمعوا أنه جمع أعمامه وأخواله وأنه تاب واستغفر الله أمامهم. وتأكيداً لتوبته أخرج ما تبقى من ثروة أبيه من ذمته، وجعل عمه الأكبر وصيّاً عليها، ويتفرغ هو تماماً لمباشرة مسؤوليته كرجل صالح.

ولم يغفل الروائي "الطيب صالح" مسألة على درجة عالية من الأهمية في مجتمعاتنا وبريفنا بشكل خاص، وهي قضية التسامح، وهذا ما تجلي في قضية ضرب "سيف الدين" لـ "لزين" وفج رأسه، وبعد تدخل الشيخ "حنين" حل الخلاف وقبل "سيف الدين" رأس "الزين" وعادت الأمور إلى مجراها الطبيعي.

وهناك ظاهرة حلول القرباط على أطراف المدن والقرى، وولع الشباب الطائش بهم، وتمضية الوقت والمال عندهم لتحقيق لذات عابرة. فكم من شاب مراهق، خفق قلبه في جنح الظلام حين حمل إليه الليل ضحكات الجواري وصياح المخمورين. وقد عاش معاني البطالة والخمول وعدم الرجولة – وراح يطلب الزواج من جارية ماجنة فارغة العين.

أما القضية الأهم التي ابتدأ فيها الراوي رواية "زين" هي ذاك المكر والخداع الذي يمارسه الفرد البسيط في وعيه وغلبة مصالحه على مصالح المجتمع، مستغلاً جهل الآخرين الذين لا يختلفون عن جهله هو بالذات، ففي الرواية يستغل بعض الماكرين مثلاً قضيةً عدم مقدرة "زين" على الزواج من ابنة عمه "نعمة" فحولوها إلى قصة يلوكها الناس ويحققوا من وراء ذلك مصالح أنانيّة ضيقة.

فهذه "حليمة" بائعة اللبن تقول لآمنة - وقد جاءت كعادتها قبل شروق الشمس - وهي تكيل لها لبنا بقرش:

(سمعت الخبر؟ الزين مو داير يعرس).

وكاد الوعاء يسقط من يدي آمنة. واستغلت حليمة انشغالها بالنبأ فغشتها اللبن.

وهذ الطالب الذي تأخر عن الدوام المدرسي وقد وضع طرف ردائه تحت إبطه حتى وقف أمام باب " السنة الثانية " وكانت حصة الناظر .

(يا ولد يا حمار. إيه أخرك؟).

ولمع المكر في عيني الطريفي:

(يا فندي سمعت الخبر؟)، (خبر بتاع إيه يا ولد يا بهيم ؟).

ولم يزعزع غضب الناظر من رباطة جأش الصبي، فقال وهو يكتم ضحكته:

(الزين ماش يعقدو له بعد باكر)

وسقط حنك الناظر من الدهشة ونجا الطريفي .

البنية الدلاليّة للعنوان:

شكل العنوان في الرواية بعدا رمزيّا برأيي، أرد الروائي منه أن يقول أن مفاهيم المجتمعات المتخلفة تحمل في معظم الأحيان غير الحقيقة، وهذا ما تجلى بوضوح في اسم "الزين" بطل الرواية، فالزين الذي وصف الروائي سماته وخصائصه في الروية يقول غير ذلك تماما، فـ"الزين" هو الرجل العاقل المتزن العارف بأمور الحياة والقدوة، بينما حقيقة زين الرواية غير ذلك تماما، فهو أقرب إلى الكركوز الغبي.

إن في سلوكيات هذه الشخصيّات جميعها، أظهر المؤلّف غرابتها من خلال الأحداث، أو من خلال الوصف المباشر، وقد كان للعوامل البيئيّة المتمثلة في المعتقدات الدينيّة، والتصورات الصوفيّة، والقيم الاجتماعيّة التقليديّة، والأساطير الشعبية، أثر في ذلك.

بنية السرد الروائي في رواية زين:

امتاز أسلوب سرد الرواية بالاقتصاد والدقة. وجنبها الراوي الوقوع في السرد التقريري أو الإنشائي المجاني. وجعل منها لوحات متتابعة، مرسومة بألوان حيّة مجللة بأطياف من الحزن والأسى والفرح والسخرية معاً.

لقد صاغ الروائي "الطيب صالح" الكثير من مظاهر تخلف ريفنا العربي عبر قرية "زين"، في ضوء وإيقاع وزوايا تصوير وحشد الكثير من الطقوس والوقائع الواقعيّة.

إن رواية (عريس الزين) يقبل المتلقي على قراءتها بحفاوة، ويعكف على تأملها وتقصي أبعادها بجديّة واهتمام. وهذا يعود إلى أن الروائي يؤمن بدور الأدب في الحياة وتأثيره على المتلقي.

لقد تميز أسلوب الرواية وبناؤها بالأحكام والانسيابيّة والرصانة. كما صاغ الراوي روايته في حكي روائي طغى عليه اللهجة السودانيّة الشعبيّة الريفيّة بكل بديعها. مع استخدم اللغة العربية الفصحى البسيط أيضاً عندما يتدخل الروائي ذاته لربط حوادث الرواية مع بعضها ومنحها حالة الانسيابيّة والتكامل، أو ربط الحوادث ببعضها.

الأسلوب الذي اعتمد الراوي في الرواية؟.

ما ميز طريقة السرد في الرواية، هو مشاركة السارد للشخصيات، أو ما يسمى (الرؤية مع)، حيث تكون فيها الشخصيّة هنا هي الساردة، من جهة، وهي تتشارك مع السارد - الراوي أيضاً في تقديم أحوال الشخصيّة من جهة ثانية. فالشخصيّة ليست جاهلة بما يعرفه الراوي عنها، ولا الراوي بجاهل عما تعرفه الشخصيّة عن نفسها.

ارتباط الحدث بالشخصيّة في بنية الرواية:

إن ارتباط الشخصيّة ببنية الحدث هو ارتباط عضوي، وهذا الارتباط يدفعنا إلى القول إننا لا يمكن أن نتصور وجود شخصيّة في الرواية بدون حدث، ولا حدث دونما شخصيّة، لأن الشخصيّة هي التي تصنع الحدث في الرواية، فهي القوة المولدة للأحداث تؤثر فيها وتتأثر بها. وأي خلل في بناء الشخصيّة والحدث معاً فسيخل ببنية الرواية، ويحط من فنيتها التي لا يمكن أن تتحقق إلا بالترابط والانسجام بين الشخصيّة والحدث. لذلك وجدنا في رواية (عريس الزين)، ذاك الارتباط الوثيق بين كل شخصيّة من شخصياتها مع أحداث الرواية، وبالرغم من أن كل شخصيّة منها، الرئيسة والثانويّة والهامشيّة لها دورها في صنع الحدث الخاص بها، إلا أن الراوي استطاع أن يشكل من كل هذه الشخصيات والأحداث التي قامت بها، بنية عامة للرواية تجعل المتلقي يعيشها وينشدّ لمتابعة تفاصيلها الحدثيّة، وكأنها حلقات مسلسل تلفزيوني مترابطة مع بعضها.

على العموم: لقد تميز تصوير الراوي لروايته بالحيويّة وتسارع الايقاع، وذلك بسبب نأي الراوي عن السرد التقريري والانشائي أو التسجيلي كما بينا في موقع سابق، فكان سرد الرواية سرداً يتدفق في سلاسة وانسيابيّة وبساطة، سرداً حافلاً بمفردات من الصور والمواقف والحوارات يتوالى في إيقاعات منضبطة ورصينة، وفي توازن دقيق بين الواقع والخيال، وبين الفكر والعاطفة، وبين الحكي المألوف والتجريب المشروع ،وبين دوائر تتسع لهموم البشر الصغار، ولهموم الإنسان في فضاء وجود اجتماعي متخلف، ورغم بساطة أهل هذا الفضاء الاحتماعي، إلا أنه مشبع بالتناقضات وصراعات المصالح.

الشخصيّة في رواية عرس الزين:

لا شك أن أهميّة الشخصيّة في أي رواية لا تقاس ولا تحدد بالمساحة التي تحتلها، وإنما بالدور الذي تقوم به، وما يرمز إليه هذا الدور، وأيضا مدى الأثر الذي تتركه في ضمير القارئ، مما يدفعه للتساؤل والمقارنة، تمهيدا لتصويب موقف في الواقع.

وتعتبر الشخصيّة ذلك الكائن الذي يبدعه المؤلف من الكلمات، فيعطيه اسمًا، وعنوانًا، وشكلاً ومضموناً. إنها (كائن موهوب بصفات بشرية، وملتزم بأحداث بشرية").

نعم.. إن الرواية هي فن الشخصيّة، والشخصيات داخل الرواية تتخذ مكان الصدارة في الحدث الروائي، لأن الشخصيّة في الرواية "هي التي تكون واسطة العقد بين جميع المشكلات الأخرى، حيث إنها هي التي تصطنع اللغة، وهي التي تبث أو تستقبل الحوار، وهي التي تصطنع المناجاة، وهي التي تصف معظم المناظر والوقائع التي تستهويها، وهي التي تنجز الحدث، وهي التي تنهض بدور تضريم الصراع أو تنشيطه من خلال سلوكها وأهوائها وعواطفها، وهي التي تقع عليها المصائب... وهي التي تعمر المكان.

في رواية (عرس الزين) نجد شخصياتٍ عديدةً ملأت فضاءاتِ الرواية بانفعالاتها وحواراتها وأفعالها وردود أفعالها مع محيطها المهني والعائلي والاجتماعي، فنمت بينهم مشاعر الصداقة والألفة والكراهية، وذلك كله بفضل ما يمارسونه ويتناقشون به ساعات لقائهم في محيطهم الاجتماعي الضيق (القرية)، من ألوان المصارحة والبوح والحوار، ومحاولة التعبير أو انتزاع قشور أجواء بيئية متخلفة غطت عقولهم وغالباً ما تدفعهم لممارسات قيم تقليديّة بالية ورؤى جامدة سلفيّة توارثوها، يحكمها هوس لتدجين الأجيال القادمة وكبح أية بادرة تحاول هذه الأجيال الخروج منها، أو من صفوف القطيع المنكفئ على همومه اليوميّة.

إن لكل شخصيّة همومها الخاصة، ولكنها بهذا الشكل أو ذاك تطمح للشروع بتحقيق التكامل والانسجام على المستوى الروحي والعقلي والجسدي مع الآخر، رغم أنها غالبا ما تفشل في تحقيق ذلك، ويتردى طموحها هذا إلى حالات من الفشل والاحباط .

طموح الرواية:

إن كل ما تطمح إليه رواية (عريس الزين) هو الخروج عن السائد والشائع والمألوف... هو طموح من أجل بناء علاقة إنسانيّة أكثر عقلانيّة وإنسانيّة جديدة تتسم بالتوازن والسمو والعلو عن كل ما يسودها من كذب ورياء وأنانيّة، وتنطبق فيها الممارسة مع الفكر، ويتربع فيها الفكر على عرش الضمير والقلب والعقل والسلوك.

***

د. عدنان عويد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.

للشاعر عطا يوسف منصور

انها قصيدةٌ كُتبت بمداد الوجع لا بالحبر، قصيدةٌ تُذيب المعنى في استعاراتٍ موجعة، وتزرع الوعي في قلب الريح. لم تكن صرخة شاعرٍ جريحٍ فحسب، بل شهادة عصرٍ مقلوب، تُكرَّم فيه الرذيلة وتُقصى الفضيلة، ويُصفَّق فيه للباطل بينما يُجهض الحق.

إنها أكثر من كلمات؛ إنها احتجاجٌ على صمتٍ خانع، وإيقاظٌ لوعيٍ تلاشى في زحمة الشعارات، ودعوةٌ لأن نرى الحقيقة ولو من خلال ما تذروه الرياح.

على قدرٍ من الدنيا امتياحي

بمنزلةِ المريضِ من الصحاحِ

بالتوقف عند مطلع القصيدة، يتضح للقارئ أن شاعرنا ينطلق برسالته الصريحة هذه من موقع الخيبة والخذلان، لا عن ضعفٍ ذاتي، بل عن مفارقة القدر في توزيع الحظوظ. فالشاعر " وربما الأمة كلها بصوته " تحيا على هامش العالم، كالمريض بين الأصحاء، مُهمّشٌ رغم استحقاقه.

وفي قوله:

وحظي في تعثره وحالي

دقيقًا صار يُنثَرُ في الرياحِ

نلحظ ترميزًا عميقًا للتلاشي، فالـ "دقيق" هنا، انما هو تصوير بليغ للفرد الذي سُحق بين رحى الظلم والخذلان، حتى لم يبقَ منه سوى ما تنثره الرياح، بلا أثر، بلا وزن، بلا قيمة.

ان القصيدة مشبعة بالبلاغة الجزلة: تشبيهات حية، واستعارات كثيفة، وكنايات موجعة، نجدها مثلًا في:

وترفعُ رايةَ الأرذالِ كيدًا

بأهلِ الفضلِ أو أهلِ الصَلاحِ

صورة قاتمة لانقلاب القيم، حيث تُكافأ السفاهة ويُقصى النبل. إنها مفارقة عصرٍ اختلّت فيه الموازين، وتسيّدت فيه الرذيلة على أنها قوة وتطور.

وفي قوله:

فذا زمنُ التفاخرِ والتباهي

بمولودِ الرذيلةِ والسِفاحِ

يُشخّص الزمن وكأنه كائن يفتخر بالعار، زمن يحتفل بالخطيئة كإنجاز! وهذه استعارة مُفزعة تُجسّد انحدار المجتمعات حين تفقد وعيها الأخلاقي.

القصيدة في رسائلها المباشرة والرمزية، تتجاوز السخط الشخصي إلى نقدٍ اجتماعيٍّ شامل. هي احتجاجٌ على حالة الانحطاط العامة التي سادت المجتمع العربي في بعض مراحله، خاصة حين غُيّبت القيم لصالح الشعارات الزائفة. الشاعر لا يهاجم أشخاصًا، بل يهاجم منظومةً متجذرة الفساد:

فهم جعلوا الفضائل موبقاتٍ

بميزان التطور والنجاحِ

هنا تكمن الحكمة الكبرى للقصيدة: تحذير من التطور الزائف، الذي يتنكّر للقيم ويُقدّس البهرج الفارغ. ما أكثر هذه المفارقة في واقعنا الحالي، حيث تُقاس الأمم بأبراجها لا بعقولها، وباقتصادها لا بأخلاقها.

كما يعيد الشاعر صياغة مثلٍ عربي معروف في قوله:

كلامُ الليلِ يُمْحى في الصباحِ

وهذه حكمة ساخرة تُشير إلى انفصال القول عن الفعل، والنفاق الذي صار دينَ السلطة وبعض سادات المجتمع.

كأنّ هذه الأبيات كُتبت هذا الصباح، ونحن نُشاهد – على شاشاتنا وفي شوارعنا – الأراذل يُكرّمون، والعلماء يُهمّشون، والجهل يُسمّى ثقافة وحداثة. القصيدة تُجسّد زمنًا استبطن الشاعرُ معالمه، وهي ذاتها ملامح واقعنا اليوم:

ـ تطبيلٌ للرداءة

ـ خيانةٌ للقيم

ـ ترفيعٌ للتافهين

ـ إسكاتٌ للصادقين

إنها مرآة عميقة تُرينا بشاعة واقعٍ اختلّ فيه معيار الفضيلة.

يتأثر الشاعر بشل ملحوظ بأسلوب معروف الرصافي ومحمد مهدي الجواهري في الصدح بالحقيقة ولو كانت مُرّة، وفي الالتزام بقضية الإنسان لا السلطة. فهو يمتلك نبرة احتجاج قريبة من التيار النهضوي العراقي، المفعم بالحكمة والتحدي. كما أنه يقارب أسلوب أحمد مطر لاحقًا في نبرة السخرية من الواقع وفضح الزيف المغلّف بلغة متقنة.

يستخدم الشاعر مفردات قريبة من السواد الشعبي، مثل "اللخناء" و"النطيحة"، لكنه يرفعها بأسلوبه الفخمٍ ببلاغة سامقة، وهذا مزيجٌ فريد من العامية الفصيحة، إن جاز التعبير، التي تمنح النص عمقًا مزدوجًا بين بساطة المعنى وقوة اللفظ.

قصائد كهذه ليست ترفًا أدبيًا، بل ضرورة وعي. إنها صفارة إنذار توقظ النائمين من غفوتهم، وتعيد التذكير بأن الصمت على الفساد خيانة:

كفى صمتًا على آثام قومٍ

أذلّونا وناموا بارتياحِ

القصيدة تنبهنا أن المجد لا يُهدى، والكرامة لا تأتي بلا جهد، والحرية لا تُمنح في خطاباتٍ بل تُنتزع بالوعي:

وأنّ المجد لا يوهبْ لقومٍ

ولا طيرٌ يطيرُ بلا جناحِ

هذه الخاتمة البليغة تختصر الحكمة العميقة في العمل، في السعي، في رفض الخنوع والاذلال.

هذه القصيدة تُعدّ وثيقة أدبية وفكرية تأريخية تُعيد صياغة الصراع الأزلي بين الحق والباطل، بين الفضيلة والرذيلة، بلغةٍ بليغةٍ جزلة، ونَفَسٍ حزينٍ صادق. فيها تأريخ لواقعٍ لم يمت، وإن تغيرت أسماؤه، وتحذيرٌ من استمراء الصمت، ودعوةٌ للاستفاقة من سباتٍ طويل.

في زمنٍ تتلاشى فيه الحدود بين الانحطاط والتطور، تأتي مثل هذه النصوص لتُعيد بناء وعيٍ كاد ينهار، وتُضيء طريقًا لمن يريد أن يرى.

***

سعاد الراعي

2025.10.01

ما إن شرعت في قراءة رواية المولدي فروج حكاية وشم التي حملها اليّ من تونس مشكورا الصديق عبد الحميد س، حتى تذكرت رأيا للكاتب ينتقد فيه النقاد التونسيين ويصفهم بأنصاف النّقّاد ويتهمهم بعدم القدرة على فهم رواياته باعتبار أنها حمّالة أفكار يشحنها صاحبها بكثير من المعارف العلمية والفلسفية وحتى الجمعية. فهؤلاء النقّاد الجامعيّون خاصة الذين يتربعون على عرش النّقد والتحكم في الجوائز الوطنية لا يبحثون في النص الروائي الا عما يتصل باللغة (اللباس الشكلي للنص) من بلاغة وصياغة واستعارة وعبارة ولا يهتمّون بمضمون النص الذي جاءت من أجله الرواية والذي يصرّ المولدي فرّوج في أغلب نصوصه على الاهتمام به قبل اهتمامه بالشكل دون أن يهمل جمالية النص. فللفكرة جماليتها التي تستمدّها من رشاقتها وقيمتها. وقد نعذر للمولدي فرّوج هذا القدر من النرجسية والتعالي عندما يتحدّث عن نصوصه السّردية فنحن نعرفه جدّ متواضع في حياته وكذا في شعره. ونجد له عذرا واقيا عندما نجده لا يعمّم رأيه على النّقّاد كلهم بل يستثني المبدعين منهم. وعلى أي حال هو رأي نختلف معه ونحترمه.

نعود الى الرواية التي يبدو أنّها لم تأخذ حظها من النقد، وإن قدّم لها الأستاذ الدكتور أحمد السماوي بهذا القول...." ويُردّ هذا التنازع الذي نشهده بين ملاحِظ يتسقّط الأخبار لا يفرّط في أيّ منها ومخبرٍ يحدّ من هذا الاندفاع ما دام الإدراك، مهما يَقْوَ، يظلّ قاصرًا عن الإحاطة بالمدرَك تمامًا، إلى توتّر العلاقة بينهما باستمرار. ولذلك تأتي لعبة الخفاء والتجلّي لتربك المرويّ له في الملفوظ أو القارئ. ولكنّها تسمح، رغم ذلك، بالإحاطة شبه التامّة بوضع هذا الطبيب في هذه البيئة الأمازيغيّة المحافظة."

رواية حكاية وشم ليست كالروايات التاريخية التي تبحث في التاريخ كمادة تستمدّ نفسها من الزمان والمكان وانما هي قراءة استشرافية للتاريخ-المستقبل للشخصية التونسية. وذلك في استعراض جميل لما يحمله الوشم من رمز عند الامازيغي الساكن الأول في البلاد التونسية. الحكاية ليست بالبساطة الساذجة بل إن دلالة الوشم على جبين مايا دلالة عميقة ودقيقة، شاملة، وكاملة. أصاب الكاتب في اختيار اسم أمازيغي لهذه الدكتورة في اختصاص التاريخ، التي تعتزّ بالوشم المنقوش على جبينها وترى فيه شرف انتمائها الى الامازيغ وتفتخر بأنها تحمل على الجبين ثقافة أجدادها الثرية وتعتز بذلك. غير انها تصاب بخيبة أمل عندما تتحول هذه العلامة على الجبين من وشم يحيل على شرف الانتماء الى مدعاة للسخرية ورميا لصاحبتها بالتخلّف، فماذا ستفعل هذه الدكتورة؟ تقرر إزالة الوشم لتبقي على عشقها للثقافة الامازيغية لتكون تونسية بحق كما تقول، ولتنتصر لبلاد عانت من الاحتلال والفتوحات أم تتحمّل الاهانات والسّخرية؟. ان هذه الرواية بحث جميل ومشوّق في الثقافة التونسية الاصيلة وفي الحضارات التي مرت بها البلاد وصولا الى علاقات تونس الحديثة بالعرب والغرب. ولعل ما يثري الرواية هو كثرة الشخصيات واختلافها وإن اتسمت بعضها بازدواجية صريحة فهذا الطبيب الفرنسي يدعى ليكون جاسوسا لفرنسا في تونس الحديثة فيصطدم بالمبادئ الإنسانية التي اقسم على احترامها. وهذا الطبيب التونسي يصطدم هو أيضا بالوشم الذي يسعى الى ازالته من جبين مايا التي أحبّها، وهذا السائق الذي أنهى خدمته في صلب الأمن ثم يدعى الى العمل في المستشفى ليكون جاسوسا هو الاخر مختصّا في الإيقاع بأشقائنا الوافدين الى تونس. وهذا حمار الدكتور الفرنسي يتعلم هو بدوره الجوسسة ويدمن عليها كما أدمن على شرب الخمر. ولعل طرافة الحمار قد اضافت الى الرّواية القدر الكبير من الحبكة والتّشويق والسخرية.

لقد نجح المولدي فرّوج في نسج الاحداث التاريخية التي مرّت بها تونس القديمة والحديثة وصياغة نص روائي ممتاز وشحنه بالخيال دون الهروب من الواقع الذي فرض نفسه على النصّ. على النقاد أن يتهافتوا على هذه الرواية إن هم فعلا يسعون الى الاهتمام بالنصوص ذات قيمة، بعيدا عن الأخذ في الاعتبار بمواقف هذا الكاتب او ذاك من الحركة النقدية في تونس.

لذلك أوصي التونسيين بقراءة رواية حكاية وشم ليعرفوا أنفسهم بعمق ويتعرّفوا على بعض من فصول تاريخ تونس التي أخفتها الأحداث والمؤسسات والبرامج الثقافية والتعليمية.

***

الياس قعلول - كاتب تونسي مقيم في المهجر

في المجموعة القصصية (حقيبة الأمنيات) لمحمد جبر حسن

تتناول هذه المجموعة القصصية، عوالم مختلفة ومتناقضة في نفس الوقت، تسلط الضوء على عوالم العتمة في واقع هش وجاف، تنبت فيه ثعابين الهواجس القلق والاحباط، تصب مجاريها في معاناة الإنسان وحرمانه من تحقيق الأمنيات التي يتطلع اليها، أو التي تلهب في داخل شعور الذات، في واقع غير عادل في معاييره وموازينه، السرد يملك رؤية في المعنى والرمز الدال في مدلولاته، في حكايات ذات إيقاع في مفردات الوجود، التي فقدت بوصلتها، ووضعت الإنسان في مهب الريح، ان يغوص في الفانتازيا الواقع، أو يصارع عوالم كافكا في تهميش الانسان، وجعل حياته هامشية في الخيبة والانهزام، والمجموعة القصصية تدخلنا بمفهود السرد الواسع في تناوله وطرحه، يتجاوز الحكايات التقليدية، تخلق في طياتها ابتكار في صياغة الشكل والمضمون، تصاحبها رؤية فكرية دالة، تحركها وتسيرها في المعنى والمغزى، والتي تناقش ذهنية القارئ، في التفكير والتأمل، في مسألة في غاية الاهمية، هي محاصرة الانسان في شرنقة ضيقة جداً، وتصبح الامنيات بحكم المستحيل، أو تلعب بها الريح من كل جانب وصوب، رغم ان الحقيبة مليئة بالامنيات والطموحات، وان مفهوم الحقيبة يعني الانسان مهما كان مسحوقاً ومعدماً في شظف العيش لايخلو من الامنيات بالجملة، لكنها تجد جداراً مانعاً لا يسمح بعبورها، يعني روحية الإنسان تعيش على الامل المعلق، رغم انه يغوص في الاحباط الاحباط والخيبة، ويجد نفسه يغوص في العجز والفشل، إزاء متغيرات التي تخلقها الحروب العبثية والإرهاب الشمولي (أن للحيطان أذان) ويمكن ان تكون جريمة يفقد الانسان حياته، اذا اخترق هذه الحواجز، أو أنه بلا شك يضيع في زنازين الموت، هذه المأساة الوجودية، التي تتناولها بعمق هذه النصوص السردية، وهي تتناول مسائل جوهرية في الحياة والوجود، والامنيات لا تجد موضع قدم، في واقع يتاجر في التناقضات الصارخة، لا يمكن للمرء مجاراتها. في واقع فانتازي او كافكاوي، يتناول الكاتب في صدق إحساسه دون مجاملة، في هذه العناوين أو الأشياء في حياة الإنسان، أو في قطار العمر في السيرة الذاتية، للذين رحلوا، وظلوا أحياء في عقولنا وقلوبنا. الى الذين اخذوا قلوبنا وتركوا فينا الشوق والذكريات. كما جاء في الإهداء. يعني نحن في حكايات واقعية في واقع فنتازي، يختلط فيه الخيال والواقع، الوعي واللاوعي، البراعة في السرد هي تلقائية المنسابة المتدفقة، ولغتها الشفافة والسلسة، بحيث تجعل القارئ يعيد قراءتها مرات ومرات دون أن يشعر بالملل، بل يشعر بتعاطف الشديد، وحزن ووجع لهذه الشخوص المسحوقة من الأرض والسماء، تتوجع في ألم من الاخفاقات في تحقيق الأمنيات، التي دخلت في شرنقة المستحيل، بل تغرق في بحر الحياة الهائج و المتلاطم حتى تتفتت، في وطن تحول الى صحراء تذر فيه الرمال، و تربته غير صالحة للأمنيات... نوجز بعض أبعاد الرموز الدالة في بعض النصوص القصصية، رغم أن المجموعة القصصية، احتوت على 45 نصاً سردياً على صفحات 199 صفحة. وكل نص يحمل دلالات رمزية عميقة:

1 - نص: حقيبة الامنيات

الذي يحمل عنوان المجموعة القصصية. يدل أنه لايمكن تحقيق الأمنيات في أرض صحراء قاحلة ارضها رملية لا ينبت فيها عشب الامنيات، بل هي في حكم المستحيل، رغم انها حقيبة يعني عدد غير محدود من الأمنيات، لكنها تبقى مغلقة في واقع هش، وحياة هامشية لحياة المسحوقين. منسيون من الأرض والسماء رغم كدحهم ومعاناتهم القاسية، مثل هذا الرجل الخمسيني البائس والمحروم (سعيد) هذا التناقض الصارخ بين اسمه وحياته الشقية والجافة التي يتجرع سقمها كل يوم، يسكن في غرفة في فندق قديم متهالك، لا تدخله الشمس، إلا من خلال ثقوب شباك النافذة، يعاني لقمة العيش المر، فقد قدمه اليمنى جراء انفجار لغم في حروب الوطن العبثية، يحمل حقيبة الأمنيات أينما ذهب، يعاقر الخمرة ليواسي معاناته القاسية، وعندما فقدت الحقيبة، شعر أن حياته انتهت، ولم يعد له قيمة وجودية، فأنهى حياته بالانتحار، يعني الانسان بلا أمنيات موت بطيء وفعلي.

2- نص: حارس الأرواح المنسية

وطئت قدميه في أرض الغربة، رجل خمسيني حمل العراق معه بالذكريات والصور الحياتية العالقة في ذهنه، يعتمد في حياته على راتب الرعاية الاجتماعية، ولكن طلب منه أن يعمل في المقبرة في صيانة قبور الموتى لكنه اصطدم بالمفاجأة بأن بعض القبور تحمل أسماء موتى عراقيون ومنهم صديقه العزيز ابن محلته، فعمل على صيانة هذه القبور ووضع الزهور حولها وتنظيفها، كأنه واجب اخلاقي تجاه أبناء الوطن المغتربين، وسمي حارس الارواح المنسية حتى موته.

3 - نص: هدايا

انطفأت الأنوار وخففت ضوء الشموع، وغادر المدعوين الى الاحتفال بعيد الميلاد، وتركوا بقاياهم مكدسة في الصالة، بقايا الطعام والحلوى والمعجنات، والصحون، شعر بالتعب واخذ غفوة من النوم، تراءى له ضوء ينبثق من خلف ستارة النافذة، وكانت المفاجأة، راى وجه ابيه مبتسماً يتوجه اليه وهو يقدم ساعته اليدوية ويقول له (هذه هديتي لك) وبعدها تتقدم امه وهي تنزع من قلادتها ذات ثماني عشرة ليرة ذهبية، وتقدم له ليرة ذهبية واحدة وتقول له (هذه هديتي لك) يعني الذين رحلوا وأحدثوا شرحاً من الشوق والحنان في القلب، يظلون حاضرون في كل مناسبة.

4 - نص: غربة أخرى

وهي ترمز الى الذين قدموا عصارة جهدهم للوطن ورحلوا، ولكنهم وكرموا في اقامة نصب تذكاري لهم، ومنهم الشاعر (بدر شاكر السياب) لينزل من تمثاله ليتفقد أحوال الوطن والبصرة والناس بعد غيابه الطويل، ويأخذ سيارة تاكسي ويتجول في مدينته البصرة، يصطدم كأنه في مدينة غريبة عنه، ومكان غريب لم يألفه في حياته السابقة، ويتساءل أين البصرة والعشار والشناشيل؟ لماذا تمتلئ الشوارع والطرقات، باللافتات السوداء وصور الشهداء المعلقة في كل زاوية، اين استشهدوا؟ ولماذا هذه الأعلام الملونة الكثيرة، اين علم العراق؟، ولماذا هذه البنايات الإسمنتية، أين النخيل، ولماذا ولماذا ولماذا؟ يشعر بالحزن والجزع من الأهوال التي شاهدها، وما آلت إليها البصرة والعراق، ويعطي للسائق السيارة ورقة فيها ابيات شعرية بدلاً عن الأجرة. يقول فيها:

إني لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون

أيخون إنسان بلاده؟

إن خان معنى ان يكون

فكيف يمكن أن يكون؟

الشمس اجمل في بلادي من سواها، والظلام

حتى الظلام هناك أجمل

فهو يحتضن العراق.

5 -نص: اكتشاف

منذ فترة ليست بالقليلة، لكنه لم يعرف مدتها بالضبط، عندما يقوم من نومه في كل صباح، يشعر أن بعض اغراض البيت البسيطة ورخيصة الثمن تختفي، ولكن بمرور الايام اخذت اغراض البيت تختفي اكثر، حتى وصل الأمر بالأشياء الثمينة وباهظة الثمن، بدأ الخوف والهلع يدخل قلبه وهواجسه، حتى وصلت الامور، بأن غرفة النوم سرقت او اختفت بالكامل، حتى زوجته اختفت، وكانت نائمة في نفس السرير معه، وتناهى اليه صوت زوجته تدعوه إلى الاقتراب منها، وحين اقترب واشارت الى اطار الصورة القديمة، وحين تطلع فيها، وجد فيها فراغاً سحيقة ليس لها نهاية !! يعني السرقة تبدأ بأشياء صغيرة لا تثير الانتباه، أو لم نعير لها اهمية حتى تكبر حتى تنهب البيوت والاوطان.

6 - نص: فم مغلق

تعود ان يبتعد عن جميع الناس، وينزوي في عزلة تامة عن الكل، ان يعيش وحده لا يتكلم قط، مهما كانت الاسباب، يلوذ بالصمت والسكوت التام، مسترشداً بتعاليم والديه: (-اسكت... كلامك ليس هذا وقته) او (اسكت كلامك ليس محله.. اسكت لا تتكلم حتى لا يأخذك زوار الفجر يأخذوننا معك.. أسكت إن للحيطان آذان.. اسكت... اسكت)، حتى الرعب والخوف دخل قلبه وعقله، ويلوذ بالصمت كأنه اخرس، ولكن بعد سنوات وجدوا اسمه في سجلات احدى الدوائر الامنية. هذا يدل عن حجم إرهاب الدولة.

7 - نص: قادم الأيام

منذ طفولته وهو يرى أمه تبكي على كل شيء الصغيرة والكبيرة، كأنها رضعت من البكاء والدموع، منذ طفولتها وكبرت معها بالحزن والدموع، ومثل الامهات المتشحات بالثياب السوداء، ولا تبدلها مهما كأن الزمن، وحين سألها مرة عن سبب هذا البكاء الدائم في تساقط الدموع، قالت له بحزن (- اخاف عليك وعلى اخوتك في قادم الايام) لم يفهم معنى عبارتها، ولكن زاد بكائها وحزنها اكثر، عندما زادت النعوش القرابين للوطن، وادرك معنى الحزن والدموع، حين جلبوا جثمان شقيقه ملفوفاً بالعلم العراقي ذو النجمات الثلاث، عرف لماذا تخاف أمه عليهم في قادم الأيام، هذا الحزن العراقي نتيجة ويلات الحروب التي لم تتوقف في تاريخ العراق منذ الازل.

8 - نص: الصوت

وقع في حيرة عويصة، واخذت تنتابه الوساوس الخطيرة، بظنونه بأنه يشك بزوجته، انها تخونه وان اولاده الاربع ليس منه، نتيجة الفحص والتحليل، بأنه مريض لا يمكن أن ينجب اطفال، وبدفع من أهله، بان يقدم على قتلها بدون تردد، لانها تخونه، وان شرفه ملطخ بالعار له والى عائلته، ويدفعونه ان يغسل العار بدمها (أقتلها... أقتلها.. سوف لا يلومك أحد، الكل يعلم بخيانتها إلا أنت) وذهب الى المستشفى مرة اخرى، حتى يتأكد من نتيجة الفحص والتحليل لتكون حجة رسمية في يدييه حين يشرع بقتلها، وعندما وصل الى المستشفى اخبره الموظف المختص، بأنه أخذ نتيجة فحص وتحليل شخص آخر خطأ، نتيجة تشابه الأسماء، وأعطاه نتيجة الفحص والتحليل، بأنه سليم ليس لديه مرض. يعني في التسرع ندامة.

***

جمعة عبد الله

 

دراسة نقدية في قصيدة "همس التصدع" للشاعرة د. مرشدة جاويش

تعد قصيدة «همس التصدع» للشاعرة مرشدة جاويش نصاً شعريا معاصراً يندرج ضمن تيارات الحداثة العربية، إذ تتسم بالانفتاح على التجربة الذاتية واستكشاف أشكال التعبير اللغوي الجديدة. تمتاز اللغة الشعرية في النص بالثراء التصويري والحساسية الرمزية، بما يتيح للقصيدة أن تعمل على تفكيك تجارب الوعي والذاكرة وتقديم رؤية فنية للعلاقات بين الذات والمعنى. كما يبرز النص تصادماً بين الفقد والوجود وبين حضور اللغة وغموضها ليخلق فضاء شعورياً تأملياً يعكس التوترات الداخلية للنص والشاعرة على حد سواء.

في هذا الإطار، تشكل القصيدة تجربة نقدية بحد ذاتها فهي لا تكتفي بسرد شعوري فحسب بل تعيد إنتاج المعنى عبر البناء اللغوي والصوري الذي يمارس لعبة التصدع والتجزئة، مما يجعلها نصاً جديراً بالتحليل من منظور الحداثة الأدبية والنظرية النقدية المعاصرة.

المقاربة العالمية.. إليوت والتفكك البنائي

تتقاطع قصيدة «همس التصدع» مع الاتجاه الحداثي في الشعر الغربي والشرقي من حيث استدعاء شظايا الوعي والذاكرة كأساس للبناء الشعري. وهي تقترب من نصوص Eliot إليوت، خاصة(The West Land) "الأرض الخراب" في استخدام التقطيع السردي والانتقالات المفاجئة بين الصور واللغات الرمزية. هذا التفكك يعكس هشاشة الذات والوجود ويخلق إحساسا بالفراغ النفسي والضياع الزمني.

ماندلشتام واستحضار الذاكرة

في سياق (Mandelstam) ماندِلشتام، يظهر البعد التأملي في تذكر الماضي واستحضار الأماكن والرموز كأداة لإعادة تشكيل الهوية الشعرية بما يعكس تجربة قصيدة «همس التصدع» في التعامل مع «بقايا الموت» و«الشظايا الذهنية» كمساحة للتجربة الذاتية والوعي المتفكك.

أدونيس والتجربة الحداثية العربية

أما في الشعر العربي المعاصر، فإن تجربة Adonis في الجمع بين التقاليد الرمزية والقصيدة الحداثية المعاصرة تبرز دور اللغة في تفكيك التجربة التاريخية والذاتية وهو ما يتوازى مع النص قيد الدراسة إذ يعيد إنتاج المعنى عبر لعبة الصور والرموز التي تعكس صراع الذات مع الذاكرة والغياب.

باختصار، تظهر القصيدة التقاء ثلاثة أبعاد: التفكك البنائي واستحضار الذاكرة لإعادة بناء الهوية، ولعب اللغة والرموز في تأصيل التجربة الحداثية العربية ما يجعلها نموذجاً شعرياً حداثياً متنوع الأبعاد وموصولاً بالخطوط النقدية العالمية.

البنية الافتتاحية والصور الاستعارية في تشكيل دلالة التفكك

القصيدة تبدأ بنداء: «أيُّهَا العائِدُ مِنْ جُرْحِ المَدى» — هذا افتتاح رمزي: عائد من امتداد/مسافة جرحٍ غير محاط بزمن محدد. الاستعارات المُتصاعدة (الهواء/الهَباء، الحِبر/الدَّواة، القلم/الارتجاف، الظلّ/الضياع) تبني اقتصاداً بصرياً يدور حول التفكّك والخراب الداخلي:

«والدَّواةُ نَفِقَتْ / لا تُجيدُ الإنْبِثاقَ» — الموت/نفوق الأداة كإعلان عن عجز اللغة أو عن انقطاع وسيلة التعبير.

التكرار البنائي للأسئلة «مَنْ لَكَ؟... كَمْ كَتَبْتَ؟» يخلق شعوراً بالمساءلة الداخلية وبالفراغ الإجابي (absence) الذي لا يجاب عنه.

القصيدة عموما تتبنى حرية الشكل (شعر حمال الأوجه: الشطر الطويل، الانقطاع المفاجئ، تداخل السرد والصور) ما يجعلها نصاً حداثياً في الشكل والروح...

تركيبة الحداثة: التصدع كمنهج جمالي

القصيدة تنتج «تصدعاً» لا كمجرد صورة بل كنمط بنائي: تراكم صور ذائبة، تقطّعاتٍ لغويّة، وكلمات «ترتدّ لغزًا» كما تقول: «وَالكَلِمَةُ كُلَّما اقْتَرَبْتَ ارْتَدَّتْ لُغْزاً». هذا التصدع يتوافق مع خاصيات الحداثة الأدبية: رفض الإحاطة وتبرم من السرد الكامل، وإبراز الشظايا كوسائل إنتاج للمعنى. يمكن أن نقرأ حركة النص بين الصرخة والهمس (عنوانه نفسه "همس") كمناخ حداثيّ ينافس الضجيج التقليدي.

هنا يُذكّرنا ذلك بتأكيد تي. س. إليوت على الإحساس التاريخيّ والبعد التراكمِيّ للتقليد بوصفه طريقة لكتابة القصيدة الحديثة: الشاعر يعمل داخل شبكة من آثار سابقة وبذا ينشأ معنى مضاعف ينأى عن العاطفة الفردية الخالصة....

الصمت، المؤلف، والقارئ: من هو المتكلم الحقيقي؟

تتموضع القصيدة بين الإفصاح والإخفاء حيث يظهر المخاطب ("العائد") وتبرز "الرؤى كالوشوم"، و"النبوءة" التي "سقطت من عين أنثى / أجهضها التوق". هذا التفاعل بين الكشف والتغطية يفتح الباب لتأويلات حول موت المؤلف وولادة القارئ. إن انحناء النص على نفسه وعودة الكلمة إلى الغموض يدفع نحو قراءة برثائية تفترض أن المعنى لا ينبغي ربطه بهوية مؤلف واحدة بل يتيح قراءات متعددة تولد معاني جديدة.

وفق رؤية رولان بارت، "ميلاد القارئ يفدى بموت المؤلف"، أي أن تحرير النص من مرجعيات الشخص التاريخي للمؤلف يتيح للقارئ مساحة لإعادة إنتاج المعنى. تطبيق هذا على قصيدة «همس التصدع» يظهر أن النص لا يقدم إجابات جاهزة بل يدعو القارئ ليعيد تركيب أنقاض المعنى بنفسه، ليصبح شريكاً فاعلاً في صناعة التجربة التأويلية. بهذا، تتحقق في النص استراتيجية حداثية واضحة حيث الغموض والتشظي البنائي يفتحان المجال أمام القارئ لتجاوز المقاصد الفردية للمؤلف وتوليد دلالات متعددة بما يتوافق مع مقاربات الحداثة وما بعد الحداثة في الشعر.

التفكيك والسرد المهزوم: دريدا والتأجيل الدلالي

الكلمات التي " ترتدّ لغزًا" و"المَعنى يتَهاوَى في جَوْفِ الصَّدى" تشير إلى لعبة الحضور/الغياب في النص اي المعنى يتأخر ويتشظى ويترك أثراً وهو ما يقارب مفهوم دريدا حول différance: المعنى لا يحدث كحضور نهائي بل ينتج عبر الفارق والتأجيل وعبر أثر دائم من الحضور والغياب. قراءة القصيدة عبر عدسة التفكيك تبرز كيف أن الصمت (نفوق الدواة، ارتجاف القلم) ليس فراغاً محايداً بل عنصراً إنتاجياً للمعنى ذاته.

الصدمة والذاكرة: الهوة بين السرد والهوية (بول رِيكور/الهوية السردية)

الخطوط «تُعيدُ قَلبَكَ مِن بَقايا المَوتِ / تَسعى رَغْمَ اليَأْسِ» تعبّر عن إعادة تركيب للذات من ركام الذكرى. بول ريكور يربط بين السرد والهوية, فالقصيدة تبدو كمحاولة سرد ذاتي غير مكتمل لإعادة بناء الذات بعد جرح امتد. ريكور يؤكد أن الحكي يتيح للهوية أن تشكل وتعاد صياغتها من خلال القصة. بهذا تصبح القصيدة فعل سرد لتشكيل هوية جديدة داخل هشاشة الذاكرة.

قلق التأثير والنبوة المجهضة (هارولد بلوم)

القصيدة تشير إلى فشل النبوءة: "النُّبُوءَةُ / سَقَطَتْ مِنْ عَيْنِ أُنْثى / أَجْهَضَها التَّوْقُ / قَبْلَ اكْتِمالِ المَعْنَى". هنا ثمة وعود معنى لا تنجز — وضع يمكن تأويله عبر مفهوم هارولد بلوم عن "قلق التأثير" حيث يسعى الشاعر/النص إلى امتلاك أصالة ما لكنه يواجه ظلاً من الإرث ومن توق للمعنى الذي يطغى ويهمش. النص في محاولته أن يكون "حلماً" ("كُنْ حُلْماً / ولا تَعُدْ...") يختار الانسحاب من المنافسة على المعنى أو إعادة تعريفه.

الفن كمقاومة للهيمنة (ثيودور أدورنو)(Theodor Adorno).

في مشهد شعري يتحدث عن النفوق والانكسار والالتباس يظهر إصرار على أن الفن يحتفظ بخاصية الاستقلال (أو على الأقل بالمقاومة) ضد عمليات التشييء والاستلاب. أدورنو ناقش كيف أن الفن الحديث قد يملك "قدراً من الحقيقة" في مقاومته لصياغات الصناعة الثقافية. فالنص يرفض تقديم أجوبة جاهزة أو تحويل الألم إلى خطاب مريح.

أدورنو يرى أن الفن الحديث يقاوم الثقافة السائدة بتمسكه بالغموض والتنافر الجمالي.

إن القصيدة تحافظ على استقلاليتها عبر إصرارها على إبقاء السؤال مفتوحا وهو ما يرسخ بعدها النقدي المقاوم.

الأدوات البلاغية

الأسلوب: لغة متقطعة/ تركيب أسئلي /واستخدام المضارع الدائم والقرائن الزمنية (المساء، الظل) لخلق أحاسيس تأملية.

المجازات: الاستعارة المخلصة (الدواة/نفوقها)، الصورة المتبددة (الوشم على كف الهجير)، والتشخيص (الرؤى تنبت، الظل رفيق).

الصوت: تبدل بين المخاطَب والمخاطِب مع حضور لجهة راوية نصف غائبة — هذا ما يعطي النص توتراً بين القول والسكوت.

الأيقونات الحداثية: حطام، بقايا، صمت، وهمس — جميعها عناصر بنائية تؤكد انتماء النص لتيار الحداثة/ما بعد الحداثة.

تكشف قصيدة «همس التصدع» عن نص حداثي متكامل يعبر عن التمزق والغياب عبر صور الانكسار والفراغ. فهي تستدعي مرجعيات عالمية (إليوت، ماندلشتام) وعربية (أدونيس)، كما تنفتح على أطر نظرية متنوعة (دريدا، ريكور، بارت، بلوم، أدورنو). هذا التداخل بين النص الشعري والخطابات النقدية يبرز قدرة القصيدة على استيعاب التجارب الفكرية العالمية وإعادة إنتاجها داخل سياقها العربي.

إن قوة النص تكمن في كونه مفتوحا على قراءات متعددة: فهو سجل جرح شخصي وتجسيد لعجز اللغة وفضاء مقاوم لأي سرد نهائي. ومن خلال ذلك يمنح القارئ دورا فاعلاً في إنتاج المعنى، بما يتفق مع نظريات النقد المعاصر. هكذا تصبح القصيدة نصا حداثياً نقدياً بامتياز يزاوج بين تفكك البناء وجمالية الغموض، ويؤكد أن الشعر لا يزال قادراً على مقاومة التشييء عبر الحفاظ على مسافة تأملية وجمالية.

***

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله

..................

هَمْسُ التَصَدُّع

أيُّهَا العائِدُ مِنْ جُرْحِ المَدى

كَما يَعودُ الهَباءُ إلى مَهْبِهِ

لا مِدادٌ يُواسِيكَ

ولا صَدى يُعَزِّي في مَآثِمِ البَوْحِ...

مَنْ لَكَ؟

والرُّؤى كالوُشُومِ

على كَفِّ الهَجِيرِ

تَنْبُتُ في فَلاةِ الأُمْنِيّاتِ

كَمْ كَتَبْتَ؟

والرِّياحُ تَمْحُو ما كُتِبَ

والدَّواةُ نَفِقَتْ

لا تُجيدُ الإنْبِثاقَ

المَعنى يَتَهَاوَى في جَوْفِ الصَّدى

والكَلِمَةُ كُلَّما اقْتَرَبْتَ ارْتَدَّتْ لُغْزاً

وحِبْرُكَ رَكَدَ بَيْنَ أَطْرافِ السُّطورِ

وَارْتَجَفَ قَلَمكَ على حَافَةِ الأُفوْل

فأنتَ في رُكامِ الضّياعِ

تُعيدُ قَلبَكَ مِن بَقايا المَوتِ

تَسعى رَغْمَ اليَأْسِ

لِتُضيءَ في ظِلالِ العَدَمِ

أيُّهَا التائِهُ في كُحْلِ الذِّكرى

كُنْ حُلْماً

ولا تَعُدْ...

فالظِلُّ الَّذي كانَ رَفيقَ خُطاكَ

قَدْ تَناسَلَ في ضَوْءِ غَيْرِكَ

والنُّبُوءَةُ

سَقَطَتْ مِنْ عَيْنِ أُنْثى

أَجْهَضَها التَّوْقُ

قَبْلَ اكْتِمالِ المَعْنَى

وَإذِ المَساءُ يَتَثَاءَبُ في حَناياكَ

تَعالَ

اقْرأْ خُرافاتِكَ

على جُدْرانِكَ

واسْتَعِذْ

مِنْ ماضٍ

كانَ يَمْحوكَ

وأنتَ تَظُنُّ أَنَّهُ يَكْتُبُكَ

***

مرشدة جاويش

ونحن ننتهي من قراءة المجموعة الشعرية الجديدة "هل ينتهي الكلام؟" الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العراقيّة عام 2025 للشاعر العراقي خالد الحلِّي المقيم في أستراليا، يتجلى أمامنا بوضوح ان الشاعر يشتغل في أغلب قصائدها التسع والسبعين على ثيمة واحدة، ألا وهي خلخلة اليقين عبر سؤال الشعر المتشكّك، والذي أطلق عليه الشاعر بالكلام الذي لا ينتهي عبر تساؤل بالأداة الاستفهامية هل؟

انتهاء الكلام يعني السكوت ومن ثم الموت، والتسليم للأقدار الخفيّة التي تحرّك الموجودات بعلاقاتها المختلفة المتشابكة التي لا يقبل بها الشاعر المشاكس بطبيعته.

تبدأ قصيدة خالد الحلي بمدخل بسيط، لحالة إنسانيّة تعبيرية واضحة من سلوكيات الحياة لتنتهي بسؤال فلسفي معقّد يبحث عن جواب شاف، يغيب أغلب الأحيان في القصائد التي تكون نهاياتها حزينة، فيها من الخسارة أكثر من الانتصار الذي تسعى له الكتابة بعناصرها الجمالية التي تزعم امتلاكها لأدوات التغيير المعرفيّة، ربما لأن الكتابة التي يؤسس لها طويلاً عبر أشعاره هي نوع من التراجيديا الشخصيّة التي أصابته وأصابت بيئته وعالمه، وجعلته يسعى إلى اعادة ترميمها عبر سرديّة شعريّة عاطفية، تكون أناه حاضرة فيها تحاور المرأة المفترضة والحبيبة البعيدة في حقب حياته المختلفة، والتي يكشف من خلالها عن حيوات متعددة لم تكتمل، بل سرعان ما تنطفيء، كلّما وصلت إلى توهجاتها، كما في قصيدته التي تحمل عنوان: "أيامٌ يسربلها الغبار"، والتي يقول فيها:

حِينَ يلُمُّ اللّيلُ بقاياهُ،

ويرمي فوقَ رمادِ الأيّامْ

يوماً آخرَ من أيّامِ حياتي

تَتَمَلْمَلُ باكيةً في بئرٍ مهجورْ

سَنَواتٌ ودُهورْ

تَصْحُو، وتنامْ

تتساءلُ في اليقظةِ

عَنْ أعوامٍ تختزلُ الأحلامْ

تتساءلُ في النومِ،

عَنْ الفجوةِ بين الواقعِ والأوهامْ

عَنْ مقبرةٍ لا تُدفنُ فيها إلا الأزهارْ

عَنْ ألغازٍ يغزِلُها الحاضرُ  

ليلاً ونهارْ

عَنْ أسرارٍ يَكْتُمُها الماضي 

مُنْذُ عُصورْ  

وتقولُ بقلبٍ مَكْسُورْ

يؤلمني أنْ تتراكمَ أيّامي القتلى

ما زلت أشيِّعُ كلّ صباحٍ يوماً

الأيّامُ تضيقْ

لَمْ تتركْ بُشْرى لحبيبٍ

أو لصَدِيقْ

هَلْ مِنْ معجزةٍ

تغدو فيها الأيّامُ شهورْ

تتدفق خيراً وعطورْ

هَلْ مِنْ زمنٍ

لا يَكْتُمُ لغزاً أو أسْرارْ ؟

كلمة يسربل في المعجم العربي تعني يلبس" السربال"، وهو ما يغطي الجسم من ثياب أو درع ونحوهما. وسربال الشاعر هنا، هو الغبار الذي يغطي أيامه دليلاً على توقفها وعدم حركتها، ربما لأنها تتشابه بعدم فاعليتها وجدواها، إذ يرى إن المأساة الخفيّة التي تغلفها، تجعلها تضمحل وتتلاشى، حاملة معها أسرارها وألغازها، دون أن تفصح عن شيء يجعل الشاعر يصل إلى جوهرها الفعلي باعتبارها صيرورة حياتية، يستطيع أن يبتهج بها حدّ أن لا يفرط بها أو يسعى لدفنها وكأنها جثث تتراكم على بعضها، وهذه ليست عدميّة سوداويّة تدّل على يأس عميق من جدوى الوجود والعيش فيه، بل احتجاج كبير على "مقبرة لا تدفن فيها إلا الأزهار" كما يصفها الشاعر في هذا المقطع من القصيدة المذكورة أعلاه،

إن حساسيته المفرطة تجاه الواقع المعاش كشاعر تجعله لا يفرق بين أيامه التي شاءت لها بوصلة القدر أن تنام في مكان يتكرّر برتابته الخالية تماما من التحفيز الذهني، رغم أن روحه تواقة للخلق الجمالي الذي يملك أدواته بكفاءة عالية، لكن الصدمة تولّد الاحباط الذي يتمدّد بغرزه في الجسد بطيئا مثل سكين تقطع العظم لتصل إلى العمق لتعلن النهاية، وهذه القصيدة الحزينة المتسائلة هي نموذجٌ لا يختلف عن باقي القصائد التي ترصد حالات مشابهة لها، تؤشر لعمق القطيعة بين الكائن والوجود والذي يحاول الشاعر فيها أن يجد معنى واضحًا أو خفيًّا لهذا الخراب الذي لا يتوقّف.

لكن في قصيدة مختلفة بعنوان "دع سوانا يسألون"، نجد الشاعر يقول:

كَمْ سَألنا؟

كَمْ سَنَسْألْ؟

دونَ أنْ يأتي جوابْ     

جلُّ ما راودنا مِنْ أسْئلةْ

ظلَّ مُهْمَلْ

خلّفَتْهُ القافلةْ

هَلْ سَنَبقى نتأمّلْ

سارِحِينْ

في ضَبابِ الإحتمالْ

غارِقِينْ

نتحرّى عَنْ نُجومٍ آفلةْ

عَنْ سِنينْ

هَرَبتْ منّا،

وما عُدْنا نراها

عَنْ زمانٍ مُبهَمٍ سوفَ يجيءْ

قُلتِ لي، والحزنُ يَنْهَلْ

مِنْ صدى صَوْتِكِ   

أنّاتِ عذابْ

هَلْ سنبقى نحنُ نَسْألْ

وكلانا

لَمْ يَذُقْ طَعْمَ الجوابْ

بعدَ أعوامِ اِرتِقابٍ وعذابْ 

كَمْ سَألنا؟

كَمْ سَنَسْألْ؟

هَلْ سنبقى وحدنا  

سائلينْ

دَعْ سِوانا

يَسْألونْ

معنا

علّهمْ لا يَيْأسونْ

مِثْلنَا  

في هذه القصيدة يعلن الشاعر عجزه عن الوصول إلى الحقيقة التي يسعى إليها بسؤاله الدائم، ليس لأنه غير مؤهل لمعرفتها، بل بقبول الواقع الظاهري للأشياء، والتآلف معها، ليس وحده فقط، بل مع المرأة القرينة التي يحاول أن يجعل منها مرآة عاكسة لذاته التي يخلق حوارا دائمًا معها، ولأول مرّة يستدعي تدخل الآخر لمقاسمته السؤال بعد أن أصابه اليأس التام.

إن الاغتراب الذي يعاني منه الشاعر في هذا العالم، ليس ترفًا معرفيًا أو ترفعًا برجوازيًا، بل إلتصاق كبير بالطبيعة وعدم القبول بمغادرتها، إنها الفطرة الأولى التي تعجز كل العلوم الحديثة أن تنزعها منه، بكل تمظهراتها العلميّة وحداثتها التكنولوجية.

خالد الحلي شاعر عراقي ظل وفيًا لقصيدته الموزونة التي تدّل عليه وحده، ببساطتها وخفة مفرداتها، بعاطفيتها وابتعادها عن التقليد والتعقيد. منجزه الإبداعي الشعري بدأ في وقت مبكر من عمره، ولا غرابة، في بلده العراق، بلد الشعر حيث الكبار السياب ونازك والبياتي وسعدي يوسف وآخرون.

*** 

عقيل منقوش

 

من ديستويفسكي إلى رجاء البوعلي

يُعَدُّ المنهج الفينومينولوجي (الظاهراتي) الذي صاغه الفيلسوف الألماني إدموند هوسرل من أهم المناهج الفلسفية التي أحدثت انعطافاً في مسار الفكر الغربي الحديث. جوهره قائم على العودة إلى "الأشياء ذاتها" عبر تعليق الأحكام المسبقة وتحرير الظواهر من أغلفة التفسير الميتافيزيقي أو الاجتماعي، والولوج إليها من خلال التجربة الحسية والوعي المباشر. لكنّ اللافت في هذا المنهج أنّه لم يبقَ حبيس الدرس الفلسفي، بل تمدّد إلى ميادين الأدب والفن، ليُصبح أداة حيوية لفهم الإنسان في انفعالاته وأزماته وتحوّلاته الداخلية.

لقد كان فيودور ديستويفسكي أحد أبرز الروائيين الذين جسّدوا بعمق هذا المنهج قبل أن يتبلور كمفهوم فلسفي. ففي روايته المراهق نلمح ملامح تحليل ظاهراتي خالص، حيث يغدو السرد فضاءً لاستبطان الوعي البشري بأدقّ تحولاته. لا يتعامل ديستويفسكي مع أبطاله ككائنات خارجية بل كعوالم داخلية تتكشّف من خلال الحضور المباشر للوعي القَلِق، المتردد، والممزّق بين الرغبة والواجب، بين الأنا والآخر. وهنا يلتقي الفن الروائي مع الفينومينولوجيا في كونها "علم التجربة الداخلية" بامتياز.

وعلى نحوٍ موازٍ، نجد أنّ الأدب العربي المعاصر أخذ يستلهم هذا المنهج وإن بطرائق متفرّقة. في المجموعة القصصية «عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي» للروائية السعودية رجاء البوعلي، يتبدّى أثر الفلسفة الظاهراتية واضحاً في محاولة الكاتبة استعادة التجربة الإنسانية من الداخل، لا بوصفها حكاية خارجية بل باعتبارها "وعيًا يعيش لحظته". فالقصة عندها لا تكتفي برسم الأحداث، بل تسعى إلى إعادة بناء التجربة الحسيّة والشعورية كما تُعاش في لحظتها الأولى، لتصبح الحكاية ضرباً من "التأمل" الذي يستنطق ما يتوارى خلف سطح الظواهر.

وقد أشار الناقد غاستون باشلار في كتابه جماليات المكان إلى أنّ الأدب العظيم هو ذاك الذي يمنحنا "إقامة جديدة في العالم"، أي يعيد صياغة إدراكنا لأبسط الأشياء وأقربها إلى حواسنا. وهذا بالضبط ما تتيحه الفينومينولوجيا حين تتسرب إلى بنية السرد: إنها لا تبحث عن المعنى في "الحدث الكبير"، بل في التفاصيل المألوفة التي يُعاد إدراكها من زاوية جديدة.

في التراث العربي يمكن أن نجد صدى لهذا المنحى في كتابات نجيب محفوظ، لاسيما في اللص والكلاب حيث يصبح وعي سعيد مهران بالمدينة والمطاردات والأصوات الخارجية انعكاساً داخلياً لصراعه النفسي. محفوظ، مثل ديستويفسكي، لا يصف الخارج إلا باعتباره مرآة للداخل، وهو بذلك يقارب الروح الفينومينولوجية دون أن يُصرّح بها.

إنّ حضور هذا المنهج في الأدب يعكس حاجة الإنسان الحديثة إلى استعادة ذاته المبعثرة في عالم تغلب عليه السرعة والسطحية. الأدب هنا يصبح مختبراً للوعي، ومكاناً لمساءلة التجربة الإنسانية بأدواتها الأولى: الإحساس، الإدراك، والتأمل. وإذا كان هوسرل قد أراد عبر منهجه تأسيس "علم صارم" للوعي، فإن الأدباء من ديستويفسكي إلى رجاء البوعلي قد جعلوا من هذا العلم فنّاً صارماً يقتنص اللحظة الإنسانية في شفافيتها وارتباكها، ليحوّلها إلى لغة خالدة.

وهكذا، يتّضح أنّ الفينومينولوجيا ليست مجرد فلسفة أكاديمية، بل هي روح تسري في الأدب وتمنحه بعداً جديداً: بعداً يجعل من النص مرآةً لذواتنا، ومن القراءة رحلةً إلى أعماقنا، حيث تصبح الحكاية وسيلة لفهم الحياة ذاتها لا مجرد سردٍ لأحداثها.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

(حكاية الأصمعيِّ مع الخليفة: نموذجًا)

حدَّثنا (ذو القُروح) في المساق السابق عن حكاية الأبيات المنسوبة إلى (الأصمعي، ـ216هـ= 831م)، التي تتردَّد عادةً على منابر الوُعَّاظ والمتظارفين، بعنوان شطر المنظومة الأوَّل «صوتُ صفير البُلبلِ»!  وأشار إلى أنَّ أوَّل من سوَّقها على الناس ناظمٌ مِصْريٌّ صُوفيٌّ، عاش في عصر المماليك، خلال القرنَين الثامن والتاسع الهجريَّين، وكان مغرمًا بالغرائب والنوادر،  اسمه (شمس الدِّين محمَّد بن حسن بن علي النواجي، ـ859هـ= 1455م. قال: ولا يَبعُد أن تكون حكاية الأصمعي تلك ومنظومة «صفير البُلبل» من صناعة النواجي نفسه، أو صناعة مَن على شاكلته من مروِّجي النوادر والأقاصيص. وأضاف أنَّ تلك هي طبيعة النوادر أصلًا، بوصفها جنسًا أدبيًّا.  فمن المعلوم أنَّ فنَّ النوادر- منذ نوادر الورَّاق الأوَّل (الجاحظ)، على سبيل النموذج الأقدم والأشهر- لم تكن بروايات عن وقائع تاريخيَّة بالضرورة، بل هي أقاصيص متخيَّلة مؤلَّفة، في معظمها إنْ لم يكن برُمَّتها، لأغراض من الفكاهة والإدهاش والقَصِّ وإيصال بعض الرسائل الاجتماعيَّة. والحقُّ أنَّ (النواجي) لم يُسنِد تلك الحكاية، ولم يزعم لها عَزْوًا، وإنَّما صدَّرها بالقول: «(ومن لطائف ما اتَّفق) أنَّ بعض الخلفاء...».  وكأنَّما هذه النادرة على غرار نوادر (الجاحظ) عن «البخلاء»؛ فقد جاءت حول بُخل أحد الخلفاء- لم يُسمِّه، وإنْ تطوَّع لاحقوه بتسميته بـ(المنصور) أو (هارون)- وأنَّه كان بخيلًا في العطاء، لا يكافئ الشُّعراء، متنصِّلًا من ذلك باتهام الشَّاعر في أصالة قصيدته، بحُجَّة أنها نصٌّ معروفٌ محفوظ، لا جديد فيه. وأردفَ:

ـ وقد كان الخليفة خارقًا في حِفظه، كما زعم الحاكي، يحفظ القصيدة لسماعها أوَّل مرَّة، بل لديه مملوكٌ يحفظها لسماعها للمرَّة الثانية، وجارية تحفظها للمرَّة الثالثة! فكان يرفض مكافأة الشَّاعر بدعوَى أنَّ قصيدته معروفةٌ محفوظةٌ وليست من إنشائه. حتى جاءه (الأصمعيُّ) بما لا يستطيع حِفظه؛ لتفاهته أصلًا وعبثيَّته! قالوا: «ورجع [أي الخليفة] عمَّا كان يعامل به الشُّعراء، وأجراهم على عوائد الملوك.»(1) 

ـ وهنا مربط النادرة ومغزاها؛ فلكلِّ داءٍ دواءٌ يُستطبُّ به. 

ـ وإذا كانت سهولة الحِفظ دليل عدم أصالة النصِّ، فثمَّة ما يتعذَّر حِفظه لا لأنَّه أصيل، بل لأنَّه لا يحتكم إلى منطق اللُّغة والعقل ليُحفَظ.  هذا ما يبدو من مغزًى لهذه النادرة.  غير أنَّ من لا يُميِّز النوادر القصصيَّة من الحقائق التوثيقيَّة، ولا يفرِّق بين الأخبار الأدبيَّة والأخبار التاريخيَّة، يذهب إلى تصديق تاريخيَّة ما هو من نسج الخيال، أو في المقابل إلى إنكار ما هو محض مجازٍ أدبيٍّ؛ بتُهمة مخالفته حقائق التاريخ والواقع والقِيَم.  وهذا أمرٌ شائعٌ بين العوامِّ، في تلقِّي فنون السَّرد بخاصَّة، حتى لترَى في عصرنا أنَّ بعض القرَّاء يتلقَّون ما يكتبه الروائي، مثلًا، على أنَّه قِصَّة حياته الحقيقيَّة، أو أنَّه جزء من سيرته الذاتيَّة!  وتنبني على هذا الكثير من الأوهام والأحكام. 

ـ وماذا عمَّا ضمَّنه (النواجي) من نَظْمٍ نسبه إلى (الأصمعي)؟

ـ أغلب الظنِّ أنه من نَظْم عصره، العصر المملوكي، إنْ لم يكن مِن نَظْمه هو. وهذا ماثل في الطابع المعهود من التلاعب بالألفاظ، والعزف على الأصوات لإقامة الوزن.

ـ مع أن الأبيات أرجوزة، جاءت على (حمار الشُّعراء) في سهولة النَّظْم.

ـ حتى إنَّ «بستان» تتحول إلى «بسستتان»: «في بسستتانٍ حسنٍ/ بالزَّهر والسروللي»!  وربما عدَّل النصَّ ورثةُ هذه الملهاة، لتبدو أقل ركاكة، إلى: «في وسط بستانٍ حلي/ بالزَّهر والسرور لي»!  وهكذا من هذا الهذيان، الذي قد يُعجِب الأطفال والأغرار وأشباههما، ممن يظنُّون الشِّعر صفيرًا، والعبقريَّة الأدبيَّة هذرًا صوتيًّا، وضربًا من المخرقة اللفظيَّة وألعاب الحُواة من النظَّامين.

ـ ومن هؤلاء بطل هذه النادرة المزعوم، (الخليفة) نفسه؛ الذي أعجبته الأبيات، وأعجزته، وأرغمته على دفع المكافأة، بوزن الرقعة التي كُتب عليها النص!

ـ مع زعمهم أنَّ القصيدة كانت مكتوبة على عمودٍ رخامي؛ «فلم يَسَع الخليفة إلَّا أن أعطاه زِنتَها ذهبًا، فنفد ما في خزانة الملك من المال.»  وتلك عاقبة البخل وخاتمة البخلاء! 

ـ تلك، إذن، محض نادرة!

ـ نعم، بما يعنيه هذا المصطلح من معنى، لا يحتمل أكثر من مدلوله الأجناسي الأدبي.  تحكي عن بخيلٍ ذي سُلطان، يُحِبُّ أن يُحمَد بما لا يفعل، وأن يُمدَح، بلا مقابل. وهو يعشق المديح، وإنْ بكلامٍ بارد، بلا معنى، كصوت صفير البُلبل.  ولذا فإن ناظم الأبيات قد تعمَّد، كما ترى، العبث بالكلمات والأصوات، ليُظهِر سطحيَّة الخليفة؛ الذي يُعجِبه المديح مهما كان صفيرًا، صِفرًا من القِيَم اللفظيَّة والمعنويَّة. ليقع في النهاية في شَرِّ أعماله، من البُخل، وحُبِّ المديح المجَّاني، مع الجهل بطبيعة الشِّعر. 

ـ وهذه المنقصة الأخيرة (الجهل بطبيعة الشِّعر) قد أوقعت- عبر العصور، إلى جانب الخليفة - ما لا يُحصَى من الجهلة، ممَّن يروون أرجوزة «صوت صفير البُلبل»، ويتبارون في حِفظها، وإنشادها، على أنها آيةٌ من آيات المهارات الشِّعريَّة واللُّغويَّة الأصمعيَّة! 

ـ وبذا فربما وجدَ أنصار الشِّعر المتنصِّل اليوم من أصول القصيدة العَرَبيَّة في تلك الأبيات حُجَّةً على مقدار ما يمكن أن تزيِّفه الأوزان والقوافي من معرفةٍ بحقيقة الشِّعر، سواءً لدَى مَن يَنشد التقليديَّ المحفوظَ أو مَن يَنشد الأصالة والابتكار؛ فكلاهما يقع، والحالة هذه، في اللفظيَّة والشكلانيَّة.(2)

ـ والشاهد هاهنا؟

ـ هي شواهد: أولها، أنَّ في تراثنا من الأعلام من أصبحوا نماذج رمزيَّة، وشخصيَّات سرديَّة، توضع على ألسنتها الأقاويل، بجهل، أو بنحل، أو لأسباب فنِّـيَّة. 

وثانيها، أنَّ جمهرة التلقِّي كثيرًا ما تقع في حبائل الألعاب السَّرديَّة؛ فلا تميز الخطاب الأدبيَّ من الخطاب التاريخي، ولا الأقنعة، وأساليب التوظيف الحكائي، من الرواية بهدف النقل والتوثيق.  وتزداد المعضلة التباسًا عامًّا من حيث ظلَّ تراثنا العَرَبي- في كثير منه، بما في ذلك ما يُلبَس لَبُوْس النقل التاريخي- سرديَّات شفويَّة، وإنْ دُوِّنت، وأحاديث مجالس، لا سبيل إلى تفكيكها، لمعرفة صحيحها من سقيمها، أو منحولها، أو متخيَّلها، بغير آلةٍ نقديَّة، تمتلك زمام الوعي اللُّغوي، والذوق الأدبي، مع العِلم الدقيق بالسياقات من التاريخ والثقافة.

وثالثها، أنه كثيرًا ما ينخدع الناس عن حقيقة الشِّعر بالنَّظْم، وزنًا أو لُغة. صحيح أنَّ هاتين أداتان شِعريَّتان، بل هما من مكوِّنات الشِّعر العَرَبي، لكن وجودهما في ذاته ليس هو الشِّعر.(3) ولذلك فإنَّ قول (عبدالقاهر الجرجاني)(4): إنِّ النَّظْم ليس «إلَّا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه (عِلم النحو)»، قولٌ كثيرًا ما يُؤخَذ على ظاهره، في الشِّعر خاصَّة. من حيث كان النَّظْم في تراثنا العَرَبي من خصائص النصِّ الأدبي عمومًا، من شِعر ونثر. فأنت حين تقرأ نصًّا نثريًّا لـ(أبي حيَّان التوحيدي)، على سبيل المثال، تُدرِك أنَّ الرَّجُل كان يَنْظِم نثرًا، كما يَنْظِم الشاعر شِعرًا. ذلك أنه لم يكن من نصٍّ أدبيٍّ عَرَبيٍّ، يستأهل هذا الوصف، يخلو من النَّظْم، وإلَّا لم يعُد نصًّا أدبيًّا، بل كلامًا استهلاكيًّا يوميًّا. وهذا ما انحلَّ زمامه في العصر الحديث، في النثر بدءًا، فبات بلا نَظْم، ثمَّ استفحل الاستخفاف بموروث الأساليب العَرَبيَّة، لدَى أجيالٍ أوطأَ من أنْ يحملوا عِبْءَ ذلك الرصيد من الموروث، حتى أراد من أراد- من غير العَرَب، ثقافةً أو انتماءً- أن يشملوا بتنازلاتهم النَّظْم في الشِّعر أيضًا؛ استسهالًا، أوَّلًا، وتبعيَّة، ثانيًا، لما في آداب أخرى، ظنًّا ساذجًا أنَّ نصوص تلك الآداب بلا نَظْمٍ البتَّة، يوائم لُغاتها وثقافاتها. فإذا الأدب العربي المعاصر يقع في ثلاث آفات: سلوك الطريق الأسهل، نهجًا طُفوليًّا، غير ناضج تربويًّا،  وثانيها، التقليد الأعمى للآخَر. وهو نزوعٌ غريزيٌّ لدَى الإنسان، إنْ لم يكافحه، طغَى عليه. وذلك ما لا يُعهَد في مخلوقات الله الأخرى، سِوَى في بعضها، كالقرود والببغاوات. فأنت لا تجد طائرًا يقلِّد في غنائه طائرًا آخَر، من غير جنسه، وإنْ استطاع ذلك. وثالثة الأثافي من تلك الآفات: توقُّف نمو الأدب العَرَبي عندما أُنجِز في العصر العباسيِّ مَشرقًا أو الأندلسي مَغربًا. لأنَّ العَرَبيَّ لم يعُد يعي ضرورة تطوير ذلك النصِّ الأدبيِّ العَرَبيِّ وتجديده من خلال مادَّته الخاصَّة، بل استسهل أن يقفز عليه، ليتحوَّل إلى ببغاء، مقلِّدًا هديل الآخَرين، أحسنَ التقليدَ أو أساء.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.............................

(1)  النواجي، (1938)، كتاب حَلَبة الكُمَيت في الأدب والنوادر المتعلِّقة بالخمريَّات، (القاهرة: المكتبة العلامية)، 90.

(2) إذا كان هناك من يَعُدُّ كلَّ قديمٍ تقليديٍّ صوابًا وأصيلًا جميلًا، فهناك مغالطةٌ على العكس، تُطلِقه نَبْزًا بالتخلُّف والاجترار.

(3)  وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإنَّ من أغرب الغرائب في السنوات الأخيرة أن تجد بعض الصحف تنشر نصوصًا لمن كانوا يكتبون قصيدة التفعيلة منذ سنين طويلة، وقد جعلوا يدَّعون كتابة القصيدة التناظريَّة، فيكتبون هذرهم على عمودَين، كأنه قصيدة موزونة مقفَّاة، وبعض أسطرها بلا وزن. وإذا كان في هذا جهلٌ عجيبٌ من الكاتب بعَروض الشِّعر، فإنَّ فيه استخفافًا من ناشر مثل ذلك الهراء بالقارئ والشِّعر معًا. والأدهى أن يتواتر ذلك في مناسبات وطنيَّة؛ ليضاف إلى الاستخفاف بقواعد الشِّعر الاستخفاف بالوطن، وما يعنيه أصلًا من القِيَم اللُّغويَّة والأدبيَّة والتراثيَّة.

(4)  (1984)، دلائل الإعجاز، قرأه وعلَّق عليه: أبو فهر محمود محمَّد شاكر، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 55، 81.

بين السيميائيات ونظرية التلقي

2// الدِكّاكُ أَرائِكَ المَنامْ

والسَّماءُ تَقطُرُ ياقوتا

المقدمة: قصيدة "حَيُّ ابنِ سكران" ليست مجرد نص شعري يعبر عن الحزن أو الغربة، بل هي نسيج دلالي معقد، تتقاطع فيه الرموز التاريخية والدينية والأسطورية، وتتداخل فيه الأصوات (الذات الشاعرة، المخاطَب، الشخصيات التاريخية، القارئ)، ويُبنى على فجوات نصية متعمدة تُجبر القارئ على المشاركة في إنتاج المعنى. وهذا ما يجعل تحليلها وفق منهجي السيميائيات ونظرية التلقي ضرورة منهجية، لا اختيارًا تقنيًا فقط(1).

الفصل الأول

إن معالجة القصيدة، بطبيعتها، ستكون وفق:

1. المنهج السيميائي (العلامة، الرمز، الطبقات الدلالية، التناص).

2. نظرية التلقي (أفق التوقع، المسافة الجمالية، القارئ الضمني، الفجوات النصية).

ليس هذا خيارًا تقنيًا فحسب، بل ضرورة منهجية لفك شفراتها المتعددة.

أولًا: التحليل السيميائي - العلامة، الرمز، الطبقات الدلالية، التناص

1. العنوان: "حَيُّ ابنِ سكران" - العلامة والرمز

- علامة لسانية: اسم علم مركب، غير مألوف تاريخيًا هو اختراع شعري.

- دلالة أولى (ظاهرية): شخصية متخيلة، ربما رمز للشاعر أو للإنسان المهمش.

- دلالة ثانية (تناصية): تلاعب باسم "حَيُّ بن يقظان"، الشخصية الفلسفية الصوفية التي ظهرت في رسائل ابن طفيل وابن سينا رمز الإنسان الذي يصل إلى الحقيقة بالعقل والتجربة دون وحي.

- التلاعب هنا ذكي: "سُكران" مقابل "يقظان" تحويل من اليقظة الفلسفية إلى السُكر الوجودي، أو السُكر بالألم، أو حتى السُكر بالإحباط.

والعنوان يُشكّل أول عتبة دلالية. هو علامة لسانية مركبة، لكنه في جوهره رمز تناصي مُحوَّل من "حي بن يقظان" لابن طفيل والتي يُعتقد أن فكرتها جاءت من "الرجل العائم" لابن سينا - الشخصية الفلسفية التي ترمز إلى اليقظة العقلية. التحوير إلى "سُكران" يعكس انقلابًا وجوديًا، حيث تداخلت الشخصية مع رمز آخر مضمر هو شخصية "آسال" بوجودها المادي، العارف بالدين، الناسك العابد: من اليقظة إلى السُكر، من الوضوح إلى الغياب، من الحكمة إلى الألم.

يقول رولان بارت الناقد السيميولوجي الفرنسي في هذا السياق:

"العلامة لا تشير إلى مرجع خارجي، بل تُنتج دلالتها من خلال شبكة العلاقات داخل النص وخارجه"(2).

وهذا ما يحدث تمامًا في العنوان: "حي ابن سكران" لا يشير إلى شخص حقيقي، بل إلى حالة /حالة الإنسان المعاصر الذي يعي معاناته لكنه عاجز عن الخروج منها، فيعيش هذيانه وتوهانه وحيدًا، يقارع مصيره القدري.

2. الرموز الأساسية في النص

أ. الريح / العاصفة

"جنون الريح" تشخيص للطبيعة كعدو عاتٍ وغادر.

"تقتلع فسائل المُنى" تدمير الأمل في جذوره، حيث لا تبقي نسلًا يُرتقب منه بصيص نور.

الطبقة الدلالية: الزمن/المجتمع/القدر كقوة لا ترحم، تُجهض كل محاولة للنهوض.

وهذا يتوافق مع ما يذهب إليه أمبرتو إيكو السيميولوجي والروائي الإيطالي الذي يقول حول الرمز:

"الرمز ليس مجرد إشارة، بل هو حامل لطبقات دلالية متراكمة، تتطلب من القارئ أن يفككها عبر المعرفة الثقافية والاجتماعية"(3)

ب. الطريق / المفترق

- رمز للبحث، التيه، الاختيار، الغياب.

- "الدروب أكلتنا خطى" نحن لم نأكل الطريق، بل الطريق أكلنا / انعكاس العلاقة بين الإنسان والمصير.

- "جالس عند مفترق الطرق" موقف انتظاري وجودي، قريب من أساطير "هرقل عند المفترق" أو "أوديب".

الطبقة الدلالية: العجز عن الاختيار، أو غياب الخيارات ذاتها.

والجلوس عند المفترق موقف وجودي مألوف في التراث الأدبي والرمزي.

يقول بول ريكور:

"المكان في النص الأدبي ليس خلفية، بل هو فاعل دلالي يُنتج معنى التيه، الاختيار، أو العجز عن الاختيار"(4).

ج. الوقت

- ليس زمنًا خطيًا، بل كيان آكل، قاتل، سجين:

- "الوقت يأكلني"

- "سجين أنا في رئة المنفى"

- "اتسع الوقت صار مدى من ضجيج"

الرمز هنا مادي: الوقت ليس مجرد فكرة، بل جسد يلتهم، يضيق، يتوسع تجسيد للقلق الوجودي. وهو تجسيد للزمن كقوة آكلة تنتهب الأعمار دون رحمة ولا من يصدها.

يقول غاستون باشلار الفيلسوف الفينومينولوجي الفرنسي:

"الزمن في الشعر ليس تسلسلاً، بل هو كثافة، جرح، أو سجن يُعاش ولا يُحسب"(5).

د. الشخصيات التاريخية (التناص المباشر)

- بشار بن برد: شاعر معتزل، مكفوف، اتُهم بالزندقة رمز للمثقف المضطهد.

- الحلاج: "يُقاد إلى مقصلة... ليُقطع رأس الحقيقة" توظيف سياسي ديني عميق. الحقيقة / رأس يُقطع.

- علي بن أبي طالب: "ملأنا قلبه قيحًا" تحوير ديني مؤلم، اتهام جماعي بالتآمر على المقدس.

- حي بن يقظان / جزيرة الواق واق / آسال: تناص فلسفي وأسطوري إشارة إلى عوالم الخيال الفلسفي والروحاني التي هُجرت.

الطبقة الدلالية العليا: النص يُعيد كتابة التاريخ كمسلسل من القمع والخيانات، حيث يُقتل المفكر، يُخان الإمام، يُهمل الحكيم.

استدعاء شخصيات من قبيل "الحلاج" و"علي" و"بشار بن برد" ليس تزيينًا، بل إعادة تأويل للتاريخ وتدوير لوقائعه لمطابقة محصلاتها مع حوادث معاصرة. ولا يفوتنا إمكانية إضمار روح مينيبية في النص، باعتباره يورد إشارات أو أسماء من التاريخ يعيد القارئ من خلالها التفكير في قول مارك توين:

"التاريخ قد لا يعيد نفسه، ولكنه يتشابه كثيرًا".

ومع قناعتنا بأن عبارة "التاريخ يعيد نفسه" ليست صحيحة تمامًا في دورات دون مدة الدورة الكونية، ولا يشتمل قولنا للتكرار على ماورائيات على نقيض تفسير نيتشه فإن التكرارات تقع نتيجة ظروف يمكن التحقق منها وسلاسل سببية تعود إلى قوانين طبيعية. على العموم، نحن نستحضر هنا مقولة كارل ماركس:

"إن التاريخ يعيد نفسه مرتين: مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة".

ورغم الإيحاءات الرمزية بالطبقة العليا أو العميقة، والتناص الظاهر أو الغاطس، والعلامات بدلالاتها في نص الشاعر شلال عنوز، فإنها أقرب بالإشارة إلى هذا الفهم المستبطن.

تقول جوليا كريستيفا:

"التناص هو عملية امتصاص نص لآخر، وإعادة إنتاجه في سياق جديد، ليُنتج معنى مغايرًا غالبًا ما يكون ثوريًا أو نقديًا"(6).

التناص: آلية ترميزية تعيد تشكيل التاريخ عبر حوار النصوص

فالتناص هنا ليس زينة، بل آلية بناء المعنى. النص يُقيم حوارًا مع:

أ. التناص الديني والتاريخي

كربلاء، علي، الحلاج كلها رموز للظلم التاريخي ضد الحقيقة والعدل.

"قطع رأس الشمس في كربلاء" تشبيه علي بالشمس (كما في الشعر الشيعي) ثم قطع رأسها / تدمير النور.

ب. التناص الفلسفي والأدبي

"حي بن يقظان" مشروع التنوير العقلي العربي، الذي يتحول هنا إلى "حي ابن سكران" انهيار المشروع.

"جزيرة الواق واق" من أساطير "ألف ليلة" عالم الخيال الذي لم يعد موجودًا.

"آسال" ربما إشارة إلى "آسال" في قصة "حي بن يقظان" لابن طفيل، أو تحريف لـ "سال" أو "آسيا" لكنه يظل رمزًا للرفيق في الغربة الفلسفية.

ج. التناص الثقافي العام

"عنترياتنا الراقصة في الفراغ" إشارة إلى البطولات الوهمية، المبالغ فيها، التي لا تسمن ولا تغني.

"نرقص في متاهات السواد" تناص بصري مع ثقافة الموت والكآبة.

وظيفة التناص: خلق شبكة دلالية تربط الحاضر بالماضي، وتقول: المعاناة اليوم ليست جديدة، بل هي استمرار لسلسلة من الخيانات والقمع.

ثانيًا: نظرية التلقي- القارئ، الفجوات، المسافة الجمالية

1. أفق التوقع

القارئ العربي، حين يقرأ عنوان "حي ابن سكران"، يتوقع:

١- نصًا فلسفيًا (بسبب "حي بن يقظان").

٢ - نصًا صوفيًا أو وجوديًا.

٣ - ربما نصًا تاريخيًا.

- يتوقع السكران هو والد حي ولا يتنبه لإثبات الألف في ابن وهو موضوعة ذات قيمة دلالية لابد للقارئ من تبينها .

لكن ما يجده:

- انقلاب على التوقع: بدل (اليقظة) سُكر. بدل (الحكمة) وجع بدل الخلاص (انتظار بلا نهاية).

- خيبة متعمدة: "الكوّة مغلقة... والسعاة لم يأتوا بعد" لا رسالة، لا خلاص، لا إجابة.

هذا الانقلاب يُحدث صدمة تلقي، تدفع القارئ لإعادة القراءة، وإعادة التفكير في العلاقة بين الأمل والواقع.

حين يقرأ القارئ النص، يتوقع نصًا فلسفيًا - لكنه يواجه نصًا موجوعًا، مكسورًا، مكتظًا بدلالات موحية تشير إلى مأساة الإنسان الفرد والبشرية في واقع بعينه أو في مصير جمعي عام.

يقول هانس روبرت ياوس:

"أفق التوقع هو الإطار المعرفي والجمالي الذي يحمله القارئ إلى النص؛ وانقلاب هذا الأفق هو ما يُحدث المتعة الجمالية أو الصدمة الفكرية"(7).

2. المسافة الجمالية

- عالم القارئ (الذي يعيش في عالم مادي، ربما متسارع، مشغول).

- عالم النص (عالم بطيء، متأمل، موجوع، ميتافيزيقي).

هذه المسافة:

- مفيدة: لأنها تُخرج القارئ من روتينه، وتفرض عليه التأمل.

- خطرة: لأنها قد تُشعره بالغربة عن النص، خاصة إذا لم يكن مهيأً ثقافيًا للتعرف على الرموز (كالحلاج، بشار، آسال...).

جازف شلال عنوز: فقد وضع نفسه حيال اختيار صعب فإما أن يربح قارئًا مشاركًا، أو يخسر قارئًا عابرًا. فالنص يخلق مسافة بين عالم القارئ المادي وعالمه الميتافيزيقي في مفارقة تكتم قسوة الحقيقة الصادمة.

يقول فولفغانغ إيزر:

"النص الأدبي لا يُفهم إلا عندما يُدرك القارئ أنه مدعو للعبور من عالمه إلى عالم النص وهذه المسافة هي ما يصنع الأدب"(8).

3. سوء فهم "القارئ الضمني"

أ- بعض النقاد يخلطون بين "القارئ الضمني" و"القارئ الحقيقي".

ب- في هذه القصيدة، القارئ الضمني هو من يعرف الفلسفة الإسلامية، الأدب العباسي، التاريخ الشيعي... بينما القارئ الحقيقي قد لا يعرف شيئًا وهنا تنشأ أزمة تواصل.

ج- النقد العربي نادرًا ما يعالج هذه الأزمة وكأنه يفترض أن كل قارئ "نموذج".

4. إهمال "البعد الأخلاقي" في نظرية التلقي

- نظرية التلقي الألمانية (ياوس، إيزر) تركّز على الجمالي والبنائي، لكن النص العربي خاصة السياسي أو الوجودي لا يمكن فصله عن البعد الأخلاقي.

- في "حي ابن سكران"، هناك اتهام أخلاقي صريح: "نحن نقتل أنفسنا لئلا نكون" هذا لا يمكن تمريره كجمالية فقط.

5. القارئ الضمني

لنص موجه لقارئ مثقف واعٍ: يعرف التراث، الفلسفة، التاريخ الإسلامي، الأدب العربي.

أ- قارئ متأمل: مستعد للجلوس مع الألم، وليس الهروب منه.

ب- قارئ مشارك: لأن النص مليء بالفجوات يجب عليه أن يملأها.

مثال:

"هل رأيتَ حيَّ بن يقظان وأنت تركض عارياً بلا وطن؟"

لا إجابة في النص. الجواب على عاتق القارئ: هل نحن اليوم عراة فعلاً؟ هل فقدنا الوطن الداخلي قبل الخارجي؟

وجهة النص خيار صعب كما نعتقد - اصطدم به الشاعر: فهو لمن يعاني من تقليب النظر في وقائع الحياة ومتغيراتها القدرية، من امتلاكه بخلفية معلوماتية ثرية ومعرفة بالتاريخ وشخوصه.

يقول إيزر أيضًا:

"القارئ الضمني ليس كائنًا حقيقيًا، بل هو بنية نصية مجموعة من التوقعات والمهارات التي يفترضها النص من متلقيه"(9).

6. الفجوات النصية

الفجوات في النص ليست نقصًا، بل استراتيجية.

أمثلة:

أ- من هو "حي ابن سكران"؟ لا يُعرف. الفجوة تدفع القارئ لتعريفه: هل هو الشاعر؟ الإنسان العربي؟ الضمير الجمعي؟

ب-هل وصلت الرسالة؟ لا. "الكوّة مغلقة". الفجوة تخلق التوتر.

ج-من هو الرفيق الذي يغادر؟ لا اسم، لا تفاصيل. فقط: "حتى يرحل بائعو الوطن". الفجوة تفتح المجال لكل تأويل سياسي أو أخلاقي.

د-هل سيعود حي ابن سكران؟ لا إجابة. فقط: "ما زلت أنتظر". الفجوة تجعل الأمل معلقًا وهذا جوهر التجربة الوجودية.

وظيفة الفجوة: تنشيط القارئ، تحويله من متلقٍّ إلى مشارك، ومن مراقب إلى مُنتج للمعنى.

"هل رأيتَ حيَّ بن يقظان؟" سؤال بلا جواب.

يقول إيزر:

"الفجوة النصية ليست نقصًا، بل دعوة للقارئ كي يملأها وهي الآلية التي يصبح بها القارئ شريكًا في إنتاج المعنى"(10).

ثالثًا: الإشكالات التطبيقية في الدرس النقدي العربي

تطبيق المناهج الغربية (كالسيميائيات ونظرية التلقي) على النصوص العربية خاصة الشعرية يواجه عدة إشكالات:

1. الخلط بين التناص والإشارة

كثير من النقاد العرب يتعاملون مع أي إشارة تاريخية أو أدبية على أنها "تناص"، بينما التناص الحقيقي يتطلب حوارًا واعيًا بين النصوص، وليس مجرد استحضار.

في هذه القصيدة، التناص واعٍ ومُخطط: تحويل "حي بن يقظان" إلى "حي ابن سكران" هذا تناص استراتيجي، وليس مجرد ذكر مع الأخذ بالدلالة التي احدثتها الأف التي اثبتت والتي تنفي الأبوة البايولوحية لسكران وليكون هذا الحي كائن هو ذاته السكران مع التأكيد

تُفرّق جوليا كريستيفا:

"ليس كل استشهاد تناصًا. التناص الحقيقي هو عندما يدخل نص في حوار مع آخر، فيُعيد تشكيله أو يُعارضه أو يُعيد تأويله"(11).

2. إغفال البعد الثقافي في تحليل العلامة

السيميائيات الغربية (خاصة عند بارت وغريماس) تفترض قارئًا غربيًا، لكن العلامات في هذا النص (كربلاء، الحلاج، بشار) لها حمولة ثقافية ودينية لا يمكن تفكيكها بمعزل عن السياق العربي الإسلامي.

كثير من الدراسات العربية تطبق "السيميائيات" بشكل ميكانيكي، دون التوقف عند خصوصية الرمز العربي.

يحذر إيكو:

"العلامة لا تحمل معنى مطلقًا بل تحمل ما يمنحه إياها السياق الثقافي للمتلقي"(12).

3. التعامل مع الفجوة كعيب وليس كاستراتيجية

كثير من النقاد العرب خاصة التقليديين يرون أن "عدم اكتمال المعنى" عيب في النص.

لكن في هذا النص، الفجوة جوهرية: فالانتظار، الغياب، اللاجواب هي موضوع القصيدة نفسها.

يقول إيزر:

"الفجوة هي جوهر النص الأدبي. لأنها تُجبر القارئ على التفكير، لا على الاستهلاك"(13).

الخاتمة:

القصيدة كمشروع وجودي (بين السيمياء والتلقي)

"حي ابن سكران" ليست قصيدة حزن، بل مشروع فكري وجودي:

- سيميائيًا: تبني عالمها عبر شبكة من العلامات (الريح، الطريق، الوقت، الشخصيات) التي تتحول إلى رموز للاستلاب، القمع، الانتظار.

- تناصيًا: تعيد كتابة التاريخ كمسرح للخيانة، وتُسقطه على الحاضر.

- تلقيًا: تُجهد القارئ، تُربكه، تُفاجئه، ثم تدعوه للمشاركة في سد الفجوات وهو ما يجعله "شريكًا في الألم".

والشاعر - بفطنته - لا يعطي حلولاً، بل يطرح أسئلة:

أ-"هل رأيته في جزر العجائب؟"

ب-"هل عثرت عليه يشرب حليب الأمان؟"

ج-"هل رأيتَهما يصارعان قلق الاغتراب؟"

هذه الأسئلة لا تُجاب، بل تُعاش. وهذا جوهر الشعر الحقيقي.

ملاحظة أخيرة: لماذا "حي ابن سكران" وليس غيره؟

لأن "السكر" هنا ليس ضد "اليقظة" فقط، بل ضد "الموت" أيضًا للأحياء.

هو "حيّ" موجود، واعٍ، يتألم لكنه "سُكران" - ذاهل عن ذاته، غير قادر على الخروج من دائرة الألم.

إنه الإنسان العربي المعاصر: واعٍ بكارثته، عاجز عن تغييرها، ينتظر ربما دون جدوى - رسالة لن تأتي، وقطارًا لن يعود.

"حي ابن سكران" مشروع فكري وجودي يُعيد صياغة التاريخ كمسلسل من الخيانات، ويُسقطه على الحاضر. وهو لا يُجيب، بل يُسائل وهذا جوهر الشعر الحقيقي.

"وما زلتُ أُصلي عند مسلّة الوقت... علّ الغيث يهطل ويرحل أرق الجفاف"

حتى الصلاة هنا طلب رحيل للألم، لا خلاص منه.

***

د. سعد محمد مهدي غلام

................................

الهوامش / مراجع الفصل الأول

(1) تيري إيغلتون، مقدمة في النظرية الأدبية، ترجمة: هاشم صالح، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، 1996، ص 107.

(2) رولان بارت، نظام العلامات، ترجمة: محمد الجرّاح، منشورات عويدات، بيروت، 1981، ص 45.

(3) أمبرتو إيكو، نظرية التأويل، ترجمة: محمد برادة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثالثة، 1998، ص 89.

(4) بول ريكور، الزمن والسرد - الجزء الأول، ترجمة: طه عبد الرحمن، تحرير: المركز الثقافي العربي، 1995، ص 112.

(5) غاستون باشلار، جدلية الزمن، ترجمة: جورج طعمة، دار التنوير، بيروت، 1990، ص 73.

(6) جوليا كريستيفا، الثورة الشعرية، ترجمة: محمد برادة، دار التنوير، بيروت، 1985، ص 65.

(7) هانس روبرت ياوس،

جماليات التلقي، ترجمة: عبد الله الغذامي، عالم المعرفة، الكويت، العدد 145، 1990، ص 33.

(8) فولفغانغ إيزر، فعل القراءة - نظرية جمالية في التلقي، ترجمة: عبد الله الغذامي، عالم المعرفة، الكويت، العدد 146، 1990، ص 55.

(9) فولفغانغ إيزر، النص والقارئ، ترجمة: محمد برادة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1993، ص 41.

(10) فولفغانغ إيزر، فعل القراءة - نظرية جمالية في التلقي، مرجع سابق، ص 67.

(11) جوليا كريستيفا، الثورة الشعرية، مرجع سابق، ص 72.

(12) أمبرتو إيكو، نظرية التأويل، مرجع سابق، ص 103.

(13) فولفغانغ إيزر، فعل القراءة - نظرية جمالية في التلقي، مرجع سابق، ص 89.

نافذة على الذّاكرة والهويّة

لقد شدّني كتاب "في بعض تجلّيات السّيرة الفلسطينيّة- قراءات" للأديب محمود شقير، فأفضت في دراسة نقديّة مطوّلة عنه، ضمّنتها في كتابي "نفحات من النّقد"، الّذي صدر حديثا عن نادي حيفا الثّقافيّ ودار الشّامل للنّشر والتّوزيع، وخلال مشاركتي في أمسية إشهار الكتاب في نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ (18.09.2025)، قمت بعرض مقتطفات منها، لكنّني هنا انشرها كاملة؛ لتكون متاحة بين أيدي القرّاء والمهتمّين.

السّيرة، نافذة على الرّوح والتّاريخ:

يجمِع النّقّاد على أنّ كتابة السّيرة، سواء كانت ذاتيّة أم غيريّة، تمثّل ركنا أساسيّا في صرح الأدب، فهي لا تقتصر على سرد الأحداث، بل تتجاوز ذلك؛ لتصبح شاهدا حيّا على التّاريخ والذّاكرة الجمعيّة، من خلالها تتجلّى التّحوّلات الاجتماعيّة والثّقافيّة، وتُسمَعُ أصوات قد لا يجد لها التّاريخ الرّسميّ مكانا، كاشفة عن دوافعها وصراعاتها، وتاركة القارئ يتأمّل في قضايا الوجود والهويّة والحبّ والفقد، فهي مرآة تعكس تجربة الإنسان بكلّ تعقيداتها، وتُسهِم في فهم الذّات والآخر، وتتيح فرصة للتعلّم من تجارب السّابقين وأخطائهم، وتقدّم نماذج للصّمود والمثابرة، معززةً بذلك التّفكير النّقديّ في مسارات الحياة.

كما تبرز السّيرة تداخل الأدب بالواقع، فعلى الرّغم ممّا يكتنفها من صياغات فنّيّة، إلّا أنّها تتغلغل في أحداث حقيقيّة، مُظهِرةً قدرة اللّغة على تشكيل الواقع وإعادة تفسيره، وهي وسيلة فعّالة للتّعبير عن الهويّة والخصوصيّة، ومقاومة أي ّمحاولة للطّمس أو التّهميش، لتؤكّد بذلك على ثراء التّجربة الإنسانيّة وتنوّعها.

يُعَدّ فيليب لوجون من أهمّ المنظّرين في مجال السّيرة الذّاتيّة، فأطروحته الأساسيّة تدور حول الميثاق الأوتوبيوغرافي، حيث يرى أنّ هناك عقدا ضمنيّا بين الكاتب والقارئ في السّيرة الذّاتيّة، يلتزم فيه الكاتب بتقديم سرد صادق وموثوق عن حياته، ويتوقّع القارئ هذا الصّدق.

لقد أيقن العديد من الدّارسين أمثال جيمس أولني، وجورج غوسدورف، وسيرج دوبروفسكي، وغيرهم، أنّ السّيرة هي إعادة تشكيل للأنا، تستند إلى معطيات الذّاكرة، وتتجلّى في كيفيّة تصوير الكاتب لذاته بأبعادها المتعدّدة.

في كتاب الأديب محمود شقير، "في بعض تجليّات السّيرة الفلسطينيّة- قراءات"، نجد هذا الفهم العميق يتجلّى في تحليلاته الواعية، حيث يُسلّط الضّوء على فرادة السّيرة الفلسطينيّة، وتشابكها مع الذّاكرة الجمعيّة وتاريخ النّضال؛ ليعيد صياغة الذّات في سياق يجمع بين الشّخصيّ والوطنيّ، مقدّما بذلك نموذجا فريدا، يزاوج بين الحكي الفرديّ ومآسي شعب بأكمله.

صدر هذا الكتاب عن نادي حيفا الثّقافيّ ودار الشّامل للنّشر والتّوزيع، وهو يقع في ثلاثمئة وتسع وأربعين صفحة من القطع الكبير، وهو رحلة آسرة وغوص عميق في لجج السّيرة الفلسطينيّة، تتجاوز حدود الوثيقة الصّمّاء؛ لتغدو منبرا شامخا للصّمود وبوتقة تتّقد بالإبداع، وشاهدا ساطعا على العلاقة الّتي لا تنفصم بين الإنسان والأرض.

"في بعض تجلّيات السّيرة الفلسطينيّة".. نافذة على الذّاكرة والوجدان:

يهدف هذا الكتاب التّوثيقيّ إلى تعزيز حضور السّيرة في حياة النّاس، فهو يبرز الأدب الفلسطينيّ كشاهدٍ حيّ على تحوّلات الزّمن، يروي قيَم التّفاؤل ويعكس أبعاد المأساة، ويؤكّد أنّ مدينة القدس، هي رمز متجذّر في الوجدان الفلسطينيّ، تظلّ نورا يُبصَرُ به الدّروب.

يقدّم تحليلا لباقةٍ من السِّيَر الذّاتيّة والغيّريّة واليوميّات والمراسلات لشخصيّات بارزة، متوغّلا ببراعة في هذه النّصوص، كاشفا كيف تتجلّى فيها مختلف منعطفات التّاريخ الفلسطينيّ المعاصر، بدءا من فجائع النّكبة والنّكسة، وصولا إلى أدقّ تفاصيل الحياة اليوميّة.

يتوقّف الكاتب عند الأعمال الّتي تناولت القدس، يحكي بعمقٍ وشغفٍ عن علاقته برموز ثقافيّة ووطنيّة وسياسيّة، ويتساءل في افتتاحيته بأسلوب بلاغيّ عميق عن مدى حاجتنا إلى كتب السّيرة، سواء كانت ذاتيّة أو غيّريّة، وإلى إبراز تجلّيات المكان الفلسطينيّ وسماته، مجيبا بقناعة أنّ هذه الحاجة ملحّة للغاية، لا سيما في ظلّ محاولات طمس تاريخنا، يرى أنّ السِّيَر الّتي يكتبها الفلسطينيون على اختلاف توجّهاتهم الفكريّة والسّياسيّة، تكتسب أهمّيّة بالغة، فهي تجسّد العلاقة الوثيقة بين الإنسان وأرضه، وتعزّز الانتماء الوطنيّ من خلال تفاصيل الحياة اليوميّة الّتي يصعب تجاهلها أو إنكارها.

يتناول الكتاب عدّة محاور رئيسية، منها: أهمّيّة السّيرة الذّاتيّة والغيريّة الفلسطينيّة، وسيرة الكاتب الذّاتيّة وعلاقته بالمكان.

يستعرض شقير تجربته الشّخصيّة مع كتابة السّيرة، موضّحا كيف أسهمت تجربته في المنفى وعودته إلى القدس في تشكيل رؤيته لأهمّيّة توثيق السّيرة، مشيرا إلى أنّ بعض كتب السّيرة، تناولت الرّسائل بشكل مباشر أو غير مباشر، مساهمةً بذلك في تحفيز الكتّاب والمثقّفين على تدوين تجاربهم. وعلى الرّغم من هذا الجهد، يقرّ الكاتب بتواضع، أنّه لم يُحِط بكلّ ما كُتِبَ في فنّ السّيرة الفلسطينيّة، داعيا إلى إثراء هذا المجال الحيويّ بمزيد من الكتابات الأصيلة، مشيرا إلى وجود أعمال متميّزة أخرى لم يتناولها، سواء كانت سِيرا ذاتيّة أو غيريّة لأدباء ومفكّرين، أو كتبا عن المكان الفلسطينيّ، أو مذكّرات.

هذا الإقرار يؤكّد أنّ الحاجة لا تزال قائمة إلى المزيد من الكتابة عن السّيرة بشتّى تجليّاتها، وذلك لتعزيز الوعي بالهويّة والحفاظ على الذّاكرة الجماعيّة.

رحلة من المكان إلى الذّاكرة:

يستعرض شقير رحلته الأدبيّة والشّخصيّة الّتي شكّلت أساس كتاباته السِيَريّة. يبدأ سرده بالعودة إلى عام (1995م) حين اقترح عليه الشّاعر محمود درويش، أثناء إعادة إصدار مجلّة "الكرمل" في رام الله، أن يكتب نصّا عن مدينة القدس من منطلق كونه مواطنا مقدسيّا.

تطوّر هذا النّصّ ليصبح كتاب "ظلّ آخر للمدينة"، الّذي يروي سيرة القدس من منظور شقير الخاصّ، وعلاقته بالمدينة منذ طفولته، فيبرز ارتباطه الوثيق بالقدس، الّذي لم ينقطع عنها إلّا عندما تمّ إبعاده عام (1975م) إلى لبنان، حيث قضى ثمانية عشر عاما في المنفى قبل أن يعود إليها عام (1993م).

هذه التّجربة الحياتيّة شكّلت دافعا قويّا له ليؤمن بضرورة كتابة السِّيَر الذّاتيّة والغيريّة، وتسجيل العلاقة المتجذّرة بين الفلسطينيين ومكانهم. لم تقتصر تجربته في السّيرة على القدس وحدها، بل تجلّت علاقته بالمكان والزّمان في عدّة مؤلّفات، ففي كتاب "مدن فاتنة وهواء طائش"، تناول علاقته بالقدس ورام الله وثلاث عشرة مدينة أخرى حول العالم.

أمّا في "مرايا الغياب.. يوميّات الحزن والسّياسة"، فقد كتب فيه عن علاقته بشقيقته الرّاحلة أمينة، وبقادة سياسيين كبار مثل: سليمان النّجاب وبشير البرغوثي، والأديب الأردنيّ مؤنس الرزّاز.

كما أصدر "قالت لنا القدس" عام (2010م)، و"مديح لمرايا البلاد" عام (2012م)، وكلاهما يعكسان جوانب من حياته الشّخصيّة وعلاقته بالقدس، ويكشف عن ولعه بقراءة كتب السّيرة، سواء لكتّاب فلسطينيين أو عرب أو أجانب، مثل: معين بسيسو، رضوى عاشور، بابلو نيرودا، وذلك لما تحمله من صدق وتفاصيل شخصيّة، لكنّه يعرب عن عدم استساغته لأسلوب بعض الكتّاب الّذين يدخلون عنصر الخيال في سيَرِهم الذّاتيّة، مثل ربعي المدهون، مؤكّدا أنّ السّيرة الّتي يتخلّلها الخيال تتحوّل إلى سيرة روائيَّة أو رواية سيريَّة، كما هي الحال في رواية إبراهيم نصر الله "طفولتي حتّى الآن".

في هذا السّياق، يوضّح الكاتب أنّ رباعيّته الرّوائيّة الّتي حملت أسماء مثل: "فرس العائلة" و"مديح لنساء العائلة"، ليست سيرة ذاتيّة لعائلته بالمعنى الحرفيّ، بل هي أعمال روائيّة استفادت من بعض تجارب عائلته، لكنّها احتوت شخصيّات وتجارب متخيّلة.

السّيرة، وتعزيز حضورها:

لم يكتفِ شقير بكتابة سيرته الخاصّة، بل أسهم أيضا في إعداد كتب سيريّة مخصّصة للفتيات والفتيان عن مدن فلسطينيّة، كما أعدّ كتبا عن شخصيّات أدبيّة وفنّيّة بارزة، مثل الشّاعرة فدوى طوقان والأديب غسّان كنفاني، والفنّان إسماعيل شمّوط وزوجته الفنّانة تمام الأكحل، وتعمّق في توثيق حياة شخصيّات سياسيّة من خلال كتب اعتمدت على شهادات معارفهم، مثل: سليمان النّجاب، فائق ورّاد، غسّان حرب، فؤاد نصّار، ونعيم الأشهب. هذا الاهتمام، يؤّكد حرصه على تعزيز حضور فنّ السّيرة في الثّقافة العربيّة.

مع تقدّمه في العمر، رأى أنّ الشّيخوخة تتيح له كتابة سيرته الذّاتيّة بشكل مباشر وموسّع دون حرج، فبدأ بكتابة سيرة أدبيّة بعنوان "أنا والكتابة.. من ألف باء اللّغة إلى بحر الكلمات"، سرد فيها علاقته بالكتابة، وَتَوَّج هذه الرّحلة بكتابيّ سيرته الذّاتيّة: "تلك الأمكنة" و"تلك الأزمنة".

في "تلك الأمكنة" يصف تفاصيل حياته، مستخدما مقولة "أكتبُ لعلّ العالم يصبح أجمل، ولعلّ الشّر يكون أقل" (ص13)؛ كمنهج لحياته وكتاباته، مع حرصه الشّديد على الاستفادة من تقنيّات السّرد الرّوائيّ وتوخّي الصّدق في الكتابة وعدم المبالغة في مديح الذّات. أمّا في "تلك الأزمنة"، فقد استكمل ما لم يظهر من سيرته، متطلّعا إلى بلوغه الثّمانين، رافضا اليأس الّذي قد يصاحب هذا العمر، ومنحازا إلى الفرح والحياة.

يَختتمُ هذا القسم بالإشارة إلى كتاب سيرته الذّاتية القادم "هامش أخير"، الّذي يتناول علاقته النّاضجة بالكتابة، وتفاصيل حياته اليوميّة في زمن الشّيخوخة.

هذا الجزء من الكتاب يقدّم نافذة فريدة على الالتزام العميق بفنّ السّيرة كوسيلة لتوثيق تجربته الشّخصيّة، وأداة قويّة للحفاظ على الذّاكرة الجمعيّة وتعزيز الانتماء.

محمود درويش.. الغياب وإرث الإبداع:

يتناول الكاتب غياب الشّاعر محمود درويش، مسلّطا الضّوء على الأسباب الّتي أدّت إلى وفاته والأثر العميق لرحيله، عاكسا العلاقة الشّخصيّة العميقة الّتي كانت تربطه به، مبرزا مكانة درويش الأيقونيّة والأثر الشّامل لغيابه الّذي ترك فراغا هائلا لم يقتصر عليه شخصيّا، بل امتدّ ليشمل كلّ ما كان يحيط به من تفاصيل الحياة اليوميّة، وأنّ العزاء الوحيد في هذا الرّحيل يكمن في إرثه الإبداعيّ الخالد في الوجدان الفلسطينيّ والعربّي. يقول (ص18): " غاب محمود في لحظة قاسية مؤلمة، وليس ثمَّة من عزاء إلّا فيما تركه من إرث إبداعيّ مدهش خلَّاق". يكتب عن أوّل لقاء له بدرويش عام (1975م) في بيروت، لافتا إلى تزامن تاريخ ميلادهما (ص20): "ولدته أمّه في البروة/ عكّا بتاريخ 13 / 3 / 1941، وولدتني أمّي في القدس بتاريخ 15 / 3 / 1941، وعملنا معا في الاتّحاد العام للكتّاب والصّحافيّين الفلسطينيّين، حيث كان هو رئيسا للاتّحاد وكنت أنا عضوا في الأمانة العامّة، وعملنا معا في لجنة جوائز فلسطين للآداب والفنون والعلوم الإنسانيّة، حيث كان هو رئيسا للّجنة وكنت أنا أمينا للسّرِّ فيها".

يشير إلى فرصة لقائهما الضّائعة في حيفا عام (1968م)، مفسّرا كيف أنّ أعمال درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وغيرهم من شعراء الدّاخل، شكّلت صدمة إيجابيّة للوعي العربيّ، بِشِعرِها المتمرّد الّذي يجسّد المقاومة والتّشبّث بالأرض والهويّة، ويوضّح كيف أنّ درويش بعد لقائهما في بيروت، كان قد قطع شوطا متقدّما في مسيرته الشّعريّة، الّتي صقلها وطوّرها لتصل إلى الذّروة، ما جعله من أبرز شعراء العصر، متمكّنا من التّعبير عن القضيّة برؤية تتجاوز المباشرة والتّنميط، متمرّدا على المفاهيم المتزمّتة الّتي سعت لحصره في إطار معيّن، فظلّ وفيّا لتجربته الشّعريّة، ومخلصا لقضيّته الفلسطينيّة بأبعادها المأساويّة والإنسانيّة.

شقير والقدس.. وشائج المكان والعودة:

يتناول هذا القسم العلاقة الوجدانيّة العميقة الّتي تربطه بمسقط رأسه القدس، مستعرضا رحلته بين المدن الفلسطينيّة والعالميّة، مبرزا أثر المكان في تشكيل تجربته الحياتيّة والأدبيّة، مقدّما صورة حيّة لرحلته الشّخصيّة والمهنيّة، وكيف تداخلت هذه الرّحلة مع عشقه للمدن الفلسطينيّة، خاصّة القدس التّي تمثّل جذوره وهويّته. يُفرِد مساحة خاصّة لمدينة رام الله الّتي يصف مكانتها في قلبه، ويتحدّث عن عمَّان، بيروت، تونس، القاهرة، دمشق، الدّار البيضاء، براغ، فيينّا، لندن، باريس، نيويورك، وأيوا الأمريكيّة الّتي شارك فيها عام (1998م) في برنامج الكتابة الدّوليّ، مع ثمانية عشر كاتبا وكاتبة من العالم، وكانت الكوريّة "هان كانغ" الّتي فازت بجائزة نوبل للآداب لعام (2024م) مشاركة معهم في ذلك البرنامج (ص25). وبعد عودته إلى القدس، بعد غياب قسريّ دام ثماني عشرة سنة، عمل محرّرا، ثمّ رئيس تحرير لصحيفة "الطَّليعة" المقدسيّة الأسبوعيّة، وانضمّ إلى وزارة الثّقافة لمدة عشر سنوات، متنقّلا يوميّا بين القدس ومقرّ الوزارة في رام الله. كانت تلك السّنوات حافلة بالأنشطة الثّقافيّة داخل البلاد وخارجها، مع مواظبته على كتابة القصص.

يقول: إنّ رام الله وبيت لحم، بعد القدس، هما مدينتان تتميّزان بالتّعايش المسيحيّ الإسلاميّ والانفتاح على الحياة العصريّة، مع وجود النّوادي والمقاهي المشتركة، ويعرب عن سعادته بزيارة مدن فلسطين وقراها، تلك الّتي ألهمته قصصه الأولى مثل "خبز الآخرين"،  ثمّ يصف روتينه اليوميّ المفعم بالكتابة والقراءة المتنوّعة ومشاهدة الأفلام العالميّة، يعيش بتفاؤل وإقبال على الحياة، معلنا عن قناعته بالبقاء في الوطن وعدم السّفر، بعد أن زار أكثر من أربعين بلدا. أمّا القدس، فهي بالنّسبة له المدينة الأولى الّتي "أبهجته وعذّبته"، هي معلمته في التعدّديّة والتّسامح ومنها تَشكّل وعيه، وبعد الإبعاد المرير عاد إليها ليثبت جذوره فيها حتّى النّهاية. يقول (ص31): "لم تبهجني مدينة مثل القدس، ولم تعذِّبني مدينة مثلها".

يروي كيف كان يرتاد المكتبات في القدس ويترجم بعض القصص القصيرة، ويلقي الضّوء على حضور القضيّة في الرّواية العربيّة، مستشهدا بأعمال لروائيّين عرب، على رأسهم اللّبنانيّ الياس خوري، الّذي عكست رواياته "باب الشّمس" وثلاثيته "أولاد الغيتو" تفاصيل القضيّة ببراعة، ويشيد بالرّوائيّ الجزائريّ واسيني الأعرج وروايته "سوناتا لأشباح القدس"، والعراقيّ علي بدر وروايته "مصابيح أورشليم" الّتي اعتمدت على سيرة إدوارد سعيد لتفكيك رواية الآخر، ويضيف إليهم الأردنيّ إلياس فركوح في "غريق المرايا"، والعراقيّ زهير الجزائريّ في "المغارة والسّهل" الّتي تناولت المقاومة بعد نكسة (1967م)، ثمّ يعتذر عن أيّ تقصير في استعراض كلّ الأعمال الرّوائيّة، فهناك المزيد من الرّوايات المخلصة للدّفاع عن قضيّتنا وشعبنا.

تأثير "هيمنغواي" على محمود شقير.. أسلوب حياة:

يعبّر شقير عن إعجابه العميق بإرنست هيمنجواي منذ قراءاته الأولى في الثّانية والعشرين من عمره، فقد أسره أسلوبه السّهل الممتنع، وطريقته الماكرة في التّخفّي خلف النّص. هذا التّأثّر تزامن مع فترة ازدهار ثقافيّ في القدس خلال السّتينيات، حيث انخرط في مجلّة "الأفق الجديد" الّتي عرّفته بالأدب العالميّ المترجم.

أيضا، من خلال مجلّة الآداب اللّبنانيّة، تعرّف على الكثير من الكتب، يقول (ص35): "تعرَّفت جرَّاء ذلك إلى كتب هيمنجواي، جون شتاينبك، ألبير كامو، جان بول سارتر، أرسكين كالدويل، كولن ويلسون وآخرين". وتحوّل إعجابه بكتب هيمنغواي إلى شغف بالغ، ما دفعه لترجمة قصصه.

لم يتوقّف التّأثّر عند الأدب، بل امتدّ ليشمل حياته اليوميّة، فصار يرتاد المقاهي مع رفاقه، محاكاةً لهيمنغواي، حاملين الكتب دائما دلالة على التزامهم الثّقافيّ.

يذكر أنّ الحركة الثّقافيّة في القدس، تأثّرت بشدّة بعد النّكسة عام (1967م)، ممّا أدّى إلى الرّكود الثّقافيّ، فلم يتمكن من معاودة التّواصل مع كتب هيمنغواي إلّا بعد إبعاده من الوطن عام (1975م).

الكتابة للقدس والحياة:

تحت عنوان "نكتب للقدس وللحياة" (ص41)، يذكر أنّه رغم انشغالاته، لبّى دعوة لزيارة مركز يبوس الثّقافيّ بالقدس، حيث التقى مجموعة من الشّباب الموهوبين في دورة الكتابة الإبداعيّة، وقد أدرك الجهد المبذول في جمعهم لتنمية مواهبهم، والرّغبة العارمة لدى هؤلاء الشّباب في اكتشاف أسرار الكتابة وصقلها بالممارسة والقراءة الجادّة. استمع إلى نصوصهم، وتيقّن أنّهم يمتلكون مواهب واعدة، يمكنها أن تتطوّر لتُقدِّم للقدس والأدب كُتّابا قادرين على حمل رسالة الوطن والحقيقة والجمال. ويكتب عن يوميّات خليل السّكاكيني، واصفا إيّاها بالصّورة الحيويّة للقدس في النّصف الأوّل من القرن العشرين، أظهرت دوره كمربٍّ وأديب ومفكّر، حيث ساهم في تحديث التّعليم ونشر الوعي، وكان بيته مركزا ثقافيّا وملتقى للأدباء.

القدس في ذاكرة الأسرى:

في هذا القسم، يسلّط الضّوء على حضور القدس كرمز محوريّ في أدب السِّيَر الذّاتيّة واليوميّات الّتي كتبها الأسرى والأسيرات، مبرزا دور هذه الكتابات في توثيق تجربتهم ومعاناة المدينة، بحيث تتحوّل إلى فعل إبداعيّ، يؤكّد على التّمسّك بالحياة والأمل.

كما يصور في سيرته لحظات اعتقاله الأولى، وكيف تحوّل المكان (المسكوبيّة) من واحة تاريخيّة إلى بناية متجّهمة. يصف السّاعات الأولى من اعتقاله عام (1969م) واقتياده ليلا من بيته، فيكتب (ص69): "القدس تنام الآن في سكون الفجر، وستصحو بعد قليل من نومها، فتعرف أنّني لم أعد قادرا على التّجوال في شوارعها وأزقّتها، فتضيف إلى أحزانها المتراكمة حزنا جديدا. أسير صامتا، متهيّبا ممّا تبيّته لي الأيّام القادمة، ويسير الضّابط صامتا".

أيّام زمان.. مقدسيّون يروون الحكاية:

في هذا الفصل، يتحدّث شقير عن حوارات أجرتها الصّحافيّة ديما نادر دعنا مع أكثر من أربعين شخصيّة من نساء ورجال القدس.

تقدّم هذه الحوارات نافذة على منعطفات التّاريخ الفلسطينيّ المعاصر، بدءا من بوادر الوعي بخطر الاحتلال والثّورات المتتالية، وصولا إلى النّكبة والنّكسة، وما أعقبهما من انتفاضات وأحداث مفصليّة.

نجد شهادات حيّة وسِيَرا متكاملة، تبرز واقع القدس عبر حياة أهلها، وتلقي الضّوء على حياة الأشخاص من خلال المدينة. ثمّ يتطرّق للباحثة نسب أديب حسين، الّتي كتبت عن دور المتاحف في الصّراع الفلسطينيّ الإسرائيليّ، مبرزة أهمّيّتها في تثبيت الرّواية والهويّة الثّقافيّة الفلسطينيّة، خصوصا في القدس.

بانوراما من الذّكريات والإبداعات:

في هذا الجزء، يستعرض أعمالا ومذكّرات وإصدارات لعدد من الكتّاب، مقدّما بانوراما غنيّة تضيء جوانب متنوّعة من التّجربة الفلسطينيّة. يشير إلى أحلام بشارات الّتي كتبت عن المطبخ الفلسطينيّ، مستعرضة مزاياه ووجباته المتنوّعة، ما يعكس عمق الارتباط بالأرض والتّراث. ينتقل بعدها إلى الأديب أسعد الأسعد، ثمّ يقدّم أسماء أخرى مثل: أسماء عيسى سلامة، أسنات كامل إبراهيم، أيمن الشّرباتي، جمال زقّوت، حسام زهدي شاهين، حنان بكير، رشيد النّجّاب، د. صافي صافي، د. عدنان شقير، وطلعت الصّفدي.

يتناول بعد ذلك الأديب جميل السّلحوت، مستعرضا سيرته الذّاتيّة "أشواك البراري" و "من بين الصّخور"، يصفها بأنّها مشاهد موجزة ومتوالية، تتّسم بالتّشويق وسلاسة اللّغة، تتدفّق من ذاكرة يقظة قادرة على تسجيل أدقّ التّفاصيل من أزمنة مختلفة. كما يذكر السّلحوت في كتاباته لسيرة غيريّة، خصّ بها ابن عمّه وشقيقه داوود.

يتحدّث بعد ذلك عن كتاب المحامي فؤاد مفيد نقّارة رئيس نادي حيفا الثّقافيّ، "صيّاد.. سمكة وصنّارة"، فيكتب (ص158): "إنّ هذا الكتاب يضيف إلى علاقة الفلسطينيّين بالبحر أفقا جديدا، ويوسّع الفضاء الّذي تشغله الثّقافة الفلسطينيّة، بحيث ترتقي مكانة فلسطين بثقافتها الإنسانيّة المتنوّعة، وتتأكّد على نحو واضح حقيقتها الحضاريّة، العصيّة على المحو أو التّجاهل أو الطّمس أو الإلغاء".

ثمّ يشير إلى الكاتب كميل أبو حنيش الّذي يتّخذ من المقالة شكلا فنّيّا؛ ليمرّر من خلالها أفكاره ورؤاه، ويتطرّق إلى رواية الشّاعر ماجد أبو غوش "عتبة الجنون"، ويذكر كذلك إسهامات د. محمّد شحادة، والكاتب محمّد صبيح عن عمّه الدّكتور محمود صبيح الّذي "جدّ فوجد" (ص176).

أسماء في الذّاكرة:

يتناول شقير علاقته بأسماء بارزة في عالم الأدب والثّقافة، سواء عبر لقاءات شخصيّة جمعته بهم، أو من خلال معرفته بمسيرتهم، يركّز على تأثير هذه الشّخصيّات في مسيرته الفكريّة والإبداعيّة، ويقدّم رؤى حول المشهد الّذي نشأ فيه وتفاعل معه. يستهل هذا القسم بالحديث عن غسّان كنفاني الّذي التقاه في بيروت عام (1965م)، مركّزا على الأثر العميق الّذي تركه كنفاني في وعيه الأدبيّ والسّياسيّ. ومرّة أخرى، يتحدّث عن محمود درويش الذّي التقاه في بيروت عام (1975م)، مبرزا الكاريزما الطّاغية الّتي تمتّع بها، والّتي تشكّلت من جمال شعره، وقدرته على الإلقاء وثقافته الواسعة، ووعيه الفكريّ المتجذّر في نزعة علمانيّة تحترم العقل والإنسان. يكتب بعد ذلك عن عبد العزيز العطّي، تيسير العاروري، حسن مصطفى، راجح السّلفيتي، د. حنّا ميخائيل، خليل السَّكاكيني، حنّا فارس مخول، أحمد سعد، عزّت الغزّاوي، على الخليلي، محمّد أديب العامري، محمّد جوهر، زهدي شاهين، سلمان ناطور، شادية الأشهب، عاطف سعد، وغيرهم.

رسائل ومراسلات.. توثيق للتّواصل الإنسانيّ:

يستعرض شقير كتبا مختارة من أدب الرّسائل، مؤكّدا أنّ الرّسالة، هي شكل حيويّ للتّعبير والتّواصل الإنسانيّ، مستهلّا حديثه عن كتاب "رسائل كسرت القيد" لأسامة الأشقر، مبرزا فيض العذوبة والشّوق الّذي يغمر رسائله الموجّهة إلى حبيبته، يقول عن هذه الرّسائل(ص270): "تفيض عذوبة وشوقا، وتفيض حكمة وبُعد نظر حين يحاور من خلالها الحياة ومنطقها وتجليّاتها، وتمتلئ سخرية وتهكّما حين يتحدّث عن الأوضاع العربيّة المزرية".

يتطرّق لكتاب د. حسن عبد الله "كلمات على جدار اللّيل"، الّذي كُرِّس لدراسة رسائل الأسيرات والأسرى، وأثرها على حياتهم داخل السّجون.

ينتقل بعد ذلك إلى رسائل جميل السّلحوت وصباح بشير، فيكتب (ص275): "الرّسائل مكتوبة بلغة سلسة لا تعقيد فيها ولا غموض، فيها تشويق للقارئ بالنّظر إلى أنّها تأخذ من فنّ السِّيرة الذّاتيّة قسطا، ومن أدب الرّحلات قسطا آخر، ومن السَّرد الأدبيّ القسط الأوفر، وهي تحمل في طيّاتها دعوة صريحة إلى نبذ التّعصّب والتّزمّت والمغالاة في التّمسّك بالعادات البالية وبالتّقاليد الّتي لم تعد مناسبة للعصر الّذي نعيش فيه".

ثمّ يصل إلى رسائل سليمان النجَّاب (ص277)، الذّي حرص على إكثار المراسلات لوالديه وأشقّائه وشقيقاته، وحتّى للأطفال الصّغار في عائلته، وكان يهدف بذلك إلى طمأنة والديه على صحّته والاطمئنان عليهما.

يتناول بعد ذلك، رسائل عمر صبري كتمتو وروز شعبان، ويعود للحديث عن نسب أديب حسين و"مراسلات أبيها"، الّتي جمعت بين رسائل عجاج نويهض وأديب حسين، إلى جانب مراسلات بيان نويهض الحوت ونسب أديب حسين.

في رسالة مؤثّرة (ص285)، يعبّر شقير لحفيدته أصيل سلامة، النّازحة من رفح إلى خانيونس، عن شوقه لاستئناف تبادل الرّسائل الورقيّة الّتي تعطّلت بسبب الحصار، ويعدها باستقبال حافل في بيته بجبل المكبر وفي القدس.

أصداء وتأمّلات:

يُضَمِّن شقير مقالا بقلم الكاتبة سامية عيسى (ص289)، يسلّط الضّوء على كتابه "أكثر من حبّ" الّذي يجمع رسائله المتبادلة مع الرّوائيّة حزامة حبايب، حيث تشير عيسى إلى أنّ هذه المراسلات تتعمّق في هموم الحياة اليوميّة، وتكشف عن الصّعوبات الّتي تؤثّر في الطمّوحات الإبداعيّة، تقدّم نصوصا أدبيّة رفيعة المستوى، وتدفع القارئ إلى التّأثّر والتّأمّل في المشترك الإنسانيّ، مضيئة ما خفي في الذّوات ومبدّدة غموضها.

ثمّ يلحق مقالا بقلم صباح بشير (ص296)، تصف فيه شقير بـ "عميد الأدباء"، محتفية بنَيّله جائزة فلسطين العالميّة للآداب. تُبرِز المقالة تجذّر القدس في أعمال شقير كرمز للصّمود، وتشيد بأسلوبه في القصّة القصيرة، وقدرته على مزج الأجناس الأدبيّة، وتُختَتم بالتأكيد على أنّه "مدرسة أدبيّة" ملهمة.

نقرأ بعد ذلك رسالة مؤثّرة من قمر عبد الرّحمن، موجّهة إليه، تثني فيها على قدرته على تجاوز الأحزان بالكتابة، واعتبارها وسيلة لتساقط الألم وتخفيف الخسائر.

بعدها، نجد مقالا بقلم راسم المدهون (ص304) بعنوان: "حياة في القصص"، يشير فيه إلى قصّة شقير الشّهيرة "خبز الآخرين" كنموذج لقراءته الواعية؛ لواقع النّكبة وامتزاجها بالحياة اليوميّة، مبرزا تأثّره بتشيخوف. عقب ذلك، يُختَتم الكتاب بحوارين أُجريا مع الكاتب مؤخّرا.

الختام.. السّيرة نبض الوطن وذاكرته الخالدة:

في نهاية رحلتنا مع الأديب محمود شقير، يتجلّى لنا هذا العمل بوصفه مرآة صادقة لنُضجِ تجربة أدبيّة رفيعة، خاض غمارها ببراعة واقتدار، فكلماته المترعة بالعفويّة والصّدق، تنساب كجدول رقراق، ترسم ببراعة المدن والشّخوص والأحداث، محافظة على عتبة الصّدق والواقعيّة الّتي لا يساوم عليها.

كما يتّسع هذا العمل؛ ليمتدّ على رحاب الذّاكرة الفلسطينيّة، ناسجا صفحات تتضافر فيها متانة البحث وعذوبة السّرد، مقدّما إلينا بانوراما ثريّة من النّصوص الّتي تتحوّل بين يديه؛ لشهادات خالدة على صمود شعب وابداعه، وتأكيد لا يلين على ارتباطه العميق بالأرض والتّاريخ.

أمّا عن أسلوبه، فهو فصيح عذب مشوّق، يحمل القارئ في تيار من الأفكار والمشاعر، لا يطغى عليه الجانب الفكريّ المجرّد، ولا يبتعد عن رصانة المعرفة؛ بل يقدّم توليفة فريدة تلهم القارئ، تثري فكره وتعمّق وجدانه، هو السّهل الممتنع، كالنّهر الّذي تخفي مياهه الصّافية عمقًا لا تدركه العيون من أول نظرة، إنّه البناء المحكم المتماسك الّذي يبهرك بجماله، دون أن تحيط بسرّ صنعته.

يكمن سرّه في هذه الوداعة المتقنة، فكلماته تحافظ على رونقها، وتنساب كالنّسيم العذب؛ لتلامس القلب والفكر. هذا الأسلوب الفريد هو ما نلمسه في حروف أستاذنا الكبير محمود شقير، فسطوره تدعونا لنرى من خلالها عمق الوطن ونكبته، وعطر الأرض، دون أن يثقل علينا بتكلّف أو ادعاء.

إنّه يقدّم الحكمة والألم والحبّ في ثوب من السّلاسة، يعلّمنا أنّ أقوى الكلمات هي أبسطها، وأنّ أجمل المعاني هي أوضحها، وأنّ الأدب الحقيقيّ يتجلّى في قدرته على تحويل العاديّ إلى خارق، والمألوف إلى ملهم.

من هنا، يُعَدّ هذا العمل الأدبيّ والتّوثيقيّ المتكامل إضافة نوعيّة للمكتبة العربيّة، فهو يعزّز حضور السّيرة في الثّقافة الفلسطينيّة، ويؤكّد أنّ الذّاكرة درع لا ينكسر، يدعو إلى مواصلة الحياة، ويوثّق كلّ ما هو إنسانيّ في وجه التّحدّيات الجسام، ليظلّ الأدب شاهدا على الحقيقة، ودليلا ساطعا للأجيال القادمة.

***

صباح بشير

 

بين التجربة العربية والغربية

منذ أن وضع فردينان دو سوسير أسس السيميولوجيا (Semiology) بوصفها "علم العلامات في حياة المجتمع"، وتطورت لاحقاً مع تشارلز ساندرس بيرس تحت مسمّى السيميوطيقا (Semiotics)، أصبح هذا العلم إطاراً تحليلياً مركزياً لفهم الأدب والفن واللغة. فالأدب، بصفته فعلاً لغوياً وجمالياً، لا ينفكّ عن كونه شبكة علامات تُحيل إلى معانٍ وتُنتج دلالات. وفي السياق العربي، ازداد الاهتمام بالسيميولوجيا منذ السبعينات، حين بدأ النقد العربي ينفتح على المناهج الغربية البنيوية وما بعدها، محاولاً استثمار هذا الجهاز النظري في قراءة النصوص الكلاسيكية والحديثة.

أولاً: السيميولوجيا بين النظرية الغربية والأفق العربي

١. في الفكر الغربي، سوسير أسّس لنظرية العلامة (Sign) بوصفها اتحاد دال (Signifier) ومدلول (Signified). هذا النموذج منح النقد الأدبي إمكانية مقاربة النص كنسق من العلاقات، لا كمجموعة معانٍ جاهزة.

رولان بارت وسّع مفهوم العلامة ليشمل الثقافة، معتبراً الأدب نظاماً دلالياً يضاعف المعنى عبر الأساطير والرموز والإيحاءات. في كتابه مبادئ في علم الأدلة ولذة النص، جعل من النص فضاءً مفتوحاً للقراءة والتفكيك.

أمبرتو إيكو نظر إلى الأدب كحقل مفتوح للقراءات الممكنة، حيث العلامات لا تتحدد بدلالة واحدة بل تُنتج "حقلاً دلالياً" يتجدد مع كل قارئ.

٢. في الفكر العربي:

مع دخول المناهج البنيوية والسيميائية إلى الجامعات العربية (خصوصاً في المغرب ومصر ولبنان)، بدأت تطبيقات على الشعر الجاهلي، الشعر الصوفي، والنصوص الحداثية.

صلاح فضل في كتبه مثل بلاغة الخطاب وعلم النص، حاول تكييف السيميولوجيا لتصبح أداة لفهم النص العربي في مستوياته الدلالية والجمالية.

يوسف وغليسي، عبد الملك مرتاض، وغيرهما اشتغلوا على السيميولوجيا في قراءة السرد العربي، معتبرين أن النص السردي شبكة علامات: الأسماء، الأمكنة، الأزمنة، والأحداث كلها علامات لها مستويات دلالية متراكبة.

ثانياً: علاقة السيميولوجيا بالأدب العربي

١. النص الشعري العربي:

الشعر العربي القديم، بما يحمله من صور وتشبيهات واستعارات، يتيح مجالاً خصباً للتحليل السيميائي. فمثلاً:

بيت المتنبي:

 "إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ *** فلا تقنعْ بمـا دونَ النجـومِ"

يمكن قراءته سيميائياً باعتباره نظام علامات: النجوم هنا دالّ كوني على الرفعة والعلو، يتحول في السياق إلى مدلول رمزي على المجد والطموح.

وفي الشعر الصوفي (ابن الفارض، الحلاج، النفّري)، نجد علامات متراكبة: الخمر ليست مجرد سائل، بل رمز للمعرفة الإلهية والوجد الصوفي، مما يجعل النص فضاءً للتأويل السيميائي المتعدد.

٢. النص السردي العربي:

في ألف ليلة وليلة، تتحول الشخصيات (شهرزاد، شهريار) إلى علامات تتجاوز بعدها الحكائي لتصير رموزاً للسلطة والأنثى والمعرفة.

- في الرواية العربية الحديثة (نجيب محفوظ، الطيب صالح، إدوار الخراط)، يمكن النظر إلى المكان كشخصية سيميائية: القاهرة ليست مجرد فضاء جغرافي بل علامة دلالية على التوتر بين الحداثة والتقليد.

ثالثاً: علاقة السيميولوجيا بالأدب الغربي

١. النصوص الكلاسيكية

في الإلياذة والأوديسة، الأبطال (أخيل، أوديسيوس) علامات على قيم البطولة والمغامرة الإنسانية، فيما البحر علامة سيميائية على المجهول والمصير.

٢. النصوص الحديثة:

جيمس جويس في عوليس جعل النص متاهة علامات تحيل إلى الأساطير الكلاسيكية، الديانة، والواقع الاجتماعي لمدينة دبلن.

-فرانز كافكا في المسخ: شخصية غريغور تتحول إلى علامة وجودية كبرى، تجسد الاغتراب واللاجدوى.

- ت. س. إليوت في الأرض الخراب: النص شبكة من علامات ثقافية، تاريخية، ودينية تتفاعل لإنتاج معنى يعبّر عن الانهيار الروحي في الغرب الحديث.

رابعاً: البُعد الجمالي والرمزي

السيميولوجيا لا تقف عند حدود الوصف، بل تتجاوز إلى تحليل البنية الرمزية:

كل نص أدبي يقدّم طبقة أولى مباشرة من المعنى، وطبقات أخرى إيحائية تشتغل عبر الرموز الثقافية.

وظيفة الناقد السيميائي كشف هذه الطبقات، وإظهار كيف يُعيد النص تشكيل الواقع عبر شبكات علامات.

خامساً: شهادات وأفكار نقّاد

يقول رولان بارت: "النص شبكة من الاقتباسات، والكاتب ليس سوى ناسجٍ للعلامات".

يرى صلاح فضل أن "النص العربي لا يكتمل معناه إلا إذا أُخذ بوصفه نسقاً دلالياً متعدداً، يشتغل على مستويات: الصوت، الإيقاع، الصورة، الرمز".

ويؤكد أمبرتو إيكو أن الأدب يظل فضاءً لانهائياً لتوليد المعنى: "النص الجيد هو الذي يسمح بعدد أكبر من القراءات".

سادساً: نماذج تطبيقية

1. قصيدة السياب "أنشودة المطر":

المطر علامة طبيعية، لكنه يتحول إلى رمز للخصب والانبعاث.

العراق علامة مكانية، لكنه يتجسد رمزاً للوطن الممزق والمأمول.

- التحليل السيميائي يكشف كيف يتراكم البعد السياسي والميتافيزيقي في صورة المطر.

2. رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح:

شخصية مصطفى سعيد علامة على التوتر الحضاري بين الشرق والغرب.

- النيل علامة مزدوجة: طبيعة وحياة، لكنه أيضاً رمز للذاكرة الجماعية والهوية.

3. رواية "الحرافيش" لنجيب محفوظ:

الحارة علامة كبرى على المجتمع المصري بمرور العصور.

الشخصيات علامات أدوارية تُعاد صياغتها لتكشف جدلية القوة والضعف.

سابعاً: الخلاصة

إنّ علاقة السيميولوجيا بالأدب ليست علاقة منهج بالنص فقط، بل علاقة "علامة" بالوجود الإنساني ذاته. فالأدب العربي، من المعلقات إلى الرواية الحديثة، يتأسس على نسق إشاري متشابك يحتاج إلى عدسة سيميولوجية لفك رموزه. والأدب الغربي، من الملاحم الكلاسيكية إلى نصوص ما بعد الحداثة، يثبت أن العلامة هي اللغة العميقة للثقافة.

وعليه، فإن توظيف السيميولوجيا في النقد الأدبي العربي والغربي يكشف عن وحدة التجربة الإنسانية في إنتاج العلامات وتعدد طرائق قراءتها، ويمنحنا وعياً بأن النص الأدبي ليس مجرد كلام جميل، بل بنية من العلامات التي تحيا فينا وتعيد تشكيل وعينا بالعالم.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

(أصوات من تشيرنوبيل) و(الحرب لا وجه لها)

أُعلن في عام 2015، عن منح جائزة نوبل في الأدب للكاتبة والصحفية البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش، وهو قرار أكاديمي وثقافي استثنائي، لأنه لم يكرّم روائية أو شاعرة تقليدية، بل كاتبة أختارت طريقًا فريدًا في الكتابة؛ طريق التوثيق الشفاهي وتسجيل الأصوات الحقيقية لضحايا الحروب والكوارث، ليقدم شهادات حيّة عن وجع الإنسان العادي تحت وطأة التأريخ المأساوي. الكاتبة اليكسييفيتش، تستعرض أهم محطات مسيرتها الأدبية، ونحن نسعى لأكتشاف أسلوبها وأثرها في الأدب العالمي، ونغوص في الأبعاد الفنية والدلالات العميقة التي تحويها أعمالها، مع التركيز على أشهر كتباتها: (أصوات من تشيرنوبيل) و(الحرب لا وجه لها).

أسلوب سردي غير تقليدي

تُعدّ أعمال سفيتلانا أليكسييفيتش بمثابة وثائق إنسانية حيّة تخلد تجارب الناجين من الكوارث والحروب، بعيدًا عن سرديات الانتصار الرسمية أو التحليلات السياسية الباردة. أسلوبها الأدبي الفريد يقوم على جمع شهادات حيّة من أناس عاديين، نجوا أو تأثروا بشدة من الأحداث الكبرى، وتوظيف هذه المقابلات كشكل سردي مركزي في كتاباتها.

في (أصوات من تشيرنوبيل)"، على سبيل المثال، لا نجد رواية تأريخية بالمعنى التقليدي، بل مجموعة من الشهادات التي تتوزع على صفحات الكتاب، تؤدي دور الشخصيات المختلفة في نص يشبه المسرحية الكورالية. كل شهادة تحمل طابعًا شخصيًا وعاطفيًا قويًا، لكنها في ذات الوقت تمثل نقطة في شبكة أوسع من الألم الجمعي.

هذه التقنية تجعل النص متعدد الأصوات ومتعدد الأبعاد، حيث لا تتبلور الحقيقة من خلال بطل مركزي أو راوي واحد، بل من خلال مداخلات متتالية لأفراد متنوعين، بينهم رجال إطفاء، مهندسون، نساء، أطفال، وحتى جنود. ويتضح أن الهدف ليس فقط سرد الوقائع، بل إظهار الوجه الإنساني للأحداث الكبرى. إنّ الأثر الذي أحدثته سفيتلانا أليكسييفيتش يتجاوز حدود الأدب في بيلاروسيا وروسيا البيضاء، ليصل إلى قلب الأدب العالمي، ويعيد تشكيل مفهوم الكتابة عن الحرب والكوارث. ففي وقت تتسابق فيه الروايات لتقديم سرديات بطولية أو ملحمية، أختارت أليكسييفيتش أن توثق المعاناة بصوت الناس العاديين، الذين لا تجدهم عادة في كتب التاريخ.

هذا التوجه فتح آفاقًا جديدة للأدب الواقعي، حيث أصبح للأدب دور توثيقي مهم في كشف الحقيقة الإنسانية، خاصة في المجتمعات التي تعاني من الكوارث الاجتماعية أو السياسية. وبذلك، أصبح عملها مصدرًا مهمًا لفهم التأريخ المعاصر من خلال تجارب الناس العاديين، وهو أمر لم يكن مألوفًا سابقًا في الأدب العالمي. بالإضافة إلى ذلك، فإن أسلوبها في كتابة الأدب الشفهي ألهم عددًا كبيرًا من الأدباء والصحفيين في العالم، وأصبح نموذجًا لكتابة أدبية تسعى إلى توثيق (الصوت الآخر) والمهمش، وهو ما يبرز مكانة أليكسييفيتش كواحدة من رواد هذا النوع الأدبي.

الأبعاد الفنية بين التوثيق والدراما

من الناحية الفنية، تتميز أعمال أليكسييفيتش بتداخل عناصر الأدب والوثائق التأريخية، مع توظيف دقيق للغة الشفوية والمباشرة. فنصوصها ليست سردًا جافًا، بل تحمل أبعادًا درامية وأدبية توصل القارئ إلى مستوى عالٍ من التعاطف والتأمل. تستخدم أليكسييفيتش في كتاباتها تقنية تكرار بعض العبارات والمواقف، ما يعكس الحلقات المتكررة للألم والمعاناة التي يعايشها الناجون. كما تستثمر الفوارق اللغوية بين المتحدثين، مثل اللهجات واللكنة، مما يمنح النص ملمسًا واقعيًا وإنسانيًا.

تكمن عبقريتها أيضًا في قدرتها على تحويل سرديات فردية إلى تجربة جماعية، بحيث لا تُحكى قصة واحدة فقط، بل تخلق نسيجًا من الأصوات المتداخلة التي تتيح للقارئ أن يشعر بثقل التأريخ وتأثيره النفسي والاجتماعي العميق.

ذاكرة الألم وصمت السلطة

تحت السطح الإنساني والدرامي في أعمال أليكسييفيتش، تنبثق دلالات عميقة تتعلق بالذاكرة الجمعية والهوية الإنسانية. فكتاباتها تشكل دراسة عميقة لظاهرة النسيان والمقاومة عبر الحكي، إذ تُظهر كيف يحاول الإنسان أن يحفظ جراحه ويعيد بناء ذاته من خلال الكلام، وكيف أن الصمت الرسمي والدولة غالبًا ما تحاول كتم الحقيقة أو تحريفها.

في (أصوات من تشيرنوبيل)، تتداخل دلالات الكارثة النووية مع تساؤلات عن طبيعة الحضارة الحديثة، وتحذيرات من مخاطر التقدم العلمي بلا ضوابط أخلاقية، وهي بذلك تفتح نقاشًا فلسفيًا عن مسؤولية الإنسان تجاه التكنولوجيا والطبيعة. إنه عمل فني وإنساني استثنائي. إذ لا تكتفي الكاتبة بسرد كارثة انفجار المفاعل النووي في عام 1986، بل تقدم موسوعة حيًة من المعاناة البشرية التي خلفها الحادث، بما في ذلك العواقب الصحية والاجتماعية والنفسية والبيئية.

تجمع الكاتبة بين أصوات الضحايا، والناجين، والعاملين في عمليات الإطفاء والإخلاء، والباحثين، وصناع القرار، لتخلق بذلك لوحة معقدة ومتعددة الأوجه عن مأساة لم تشهدها البشرية من قبل. وبذلك، يشكل الكتاب شهادة نادرة على خطورة التكنولوجيات النووية، وعلى هشاشة الأنظمة السياسية التي تغض الطرف عن حقيقة الكارثة. النص لا يحمل فقط أبعادًا تاريخية، بل يطرح أسئلة إنسانية عميقة حول الألم والخسارة والذاكرة، مما يجعله يتجاوز حدود الوطن إلى مشهد عالمي.

الحرب لا وجه لها

في عملها الآخر المهم (الحرب لا وجه لها)، تواصل أليكسييفيتش استكشافها للوجع الإنساني، هذه المرة من خلال الحرب العالمية الثانية التي لا تزال تترك أثرها على مجتمعات ما بعد فترة الاتحاد السوفيتي. إذ يقدم الكتاب شهادات لجنود سابقين ونساء وأطفال عايشوا الحرب، موضحًا بشكل مؤلم أن الحروب لا تترك سوى خسائر إنسانية لا تندمل، وأن الروايات الرسمية التي تمجد الانتصارات تخفي الحقيقة القاسية. في هذا العمل، يكشف أسلوبها عن الألم النفسي، فقدان الإنسانية، والعزلة التي يشعر بها الناجون، ويؤكد على أن الحرب ليست مجرد تأريخ، بل تجربة إنسانية متجذرة في ذاكرة الأفراد والجماعات. فتبرز الدلالات الأشد عمقًا عن وجه الحرب الحقيقي، الذي لا يظهر في الأرقام الرسمية أو الصور البطولية، بل في وجوه الجرحى، وفي دموع النساء اللاتي فقدن أحبائهن، وفي الصدمات النفسية التي لا تنتهي. إن الكتاب يكشف كيف أن الحرب ليست مجرد أحداث عسكرية، بل تجربة إنسانية مأساوية تدمر النفوس والعلاقات الاجتماعية.

أثرها الإنساني والثقافي

لا يمكن إنكار الأثر العميق الذي تركته أعمال أليكسييفيتش على القارئ والناقد على حد سواء. فبفضلها، أصبحت أصوات (المهمّشين) مسموعة، وأضحى للأدب دور في كشف الحقيقة والتعاطف مع الضحايا بدلًا من تغليب سرديات القوة والسياسة.

وأصبحت أليكسييفيتش رمزًا عالميًا للكتابة الملتزمة، التي لا تهدف إلى الترف الأدبي فقط، بل تسعى إلى خدمة الذاكرة الإنسانية، وتحفيز المجتمع على مواجهة مآسيه، والإعتراف بها كجزء من هويته التأريخية. فالكاتبة تقدم نموذجًا فريدًا للأدب الحديث؛ حيث تجتمع فيه مهنية الصحفي والروائي والشاعر لتخلق سردًا إنسانيًا متميزًا، وأعمالها ليست فقط وثائق تأريخية أو سرديات شخصية، بل هي تجربة إنسانية جماعية تمس عمق الوجدان البشري.

إنّ جائزة نوبل التي نالتها، تعكس هذا الدور الإستثنائي، وتسلط الضوء على أهمية الأدب كمرآة تعكس واقع الإنسان في أحلك لحظاته، وتعيد صياغة التأريخ من وجهة نظر من عاشوه، ليصبح صوتهم خالدًا في الذاكرة الإنسانية، وبهذا تكون أليكسييفيتش قد أسهمت في بناء جسر بين الماضي والحاضر، وبين الفرد والمجتمع، وبين الألم والذاكرة، لتظل شهادتها دائمًا واحدة من أهم نوافذ الأدب الإنساني المعاصر.

***

د. عصام البرّام

للكاتب عادل الجريدي

قصص قصيرة جدا بطعم الحنين والشجن والقلق وشؤون الكائن في اقامته الفاخرة والموحشة في آن بعالم مربك..

يظل السرد عموما فنا قديما قدم الانسان مشيرا الى كيانه ووجوده وحاجاته وشؤونه وشجونه ومنه القص كخطاب ناقل به موضوع ووصف وأحداث وشخوص.. ليتطور ذلك عبر المراحل التي تخطتها البشرية بما فيها من تطورات واستحداثات وخيبات ونكسات.. ومن هنا كان لهذه السيرة من الخطاب التجدد والابتكارضمن تعدد الخصائص والأساليب في الابلغ والقول..

ومن هنا وفي سياقات القص وبعد القصة القصيرة بدت معالم وخصائص ما اصطلح عليه بالقصة القصيرة كنوع سردي له من الابداعية والمميزات ما جعل النسق يتصاعد في التعاطي معه لرشاقة الشكل والاقتراب كثيرا من الشعر حيث التكثيف والجرأة والمباغتة وسعة التخييل والخيال.. وكانت لهذه التجربة في الكتابة حكاية مع الكاتب العالمي أرنست همنغواي حيث شهدت سنة 1925 نصا من ست كلمات كالتالي " للبيع… حذاء طفل لم يلبس قط ".. وهناك أراء أخرى للدارسين والنقاد تشير الى أسماء لها صلة بهذا النوع السردي على غرار " ناتالي ساروت” الفرنسية التي سمتها بالانفعالات وقبلها " أليكس فينون " و"إدغار آلن بو" حيث أنهم لم يمهروا ما كتبوا بالقصة القصيرة جدا اشارة أو تصريحا.. ويشير البعض الى أن لهذا الجنس الكتابي حضورا في تراثنا العربي وثقافتنا القديمة وأدبنا الشفهي والمدون كتابة وذلك بالنظر لخصائصه المتصلة بالشعر كالاختزال والتكثيف والمباغتة فضلا عن الحكايات الخاطفة والمختزلة ومنها الطرائف والملح وقد أفاد هذا اللون القصصي ونعني القصة القصيرة جدا من عديد الفنون وأشكال الابداع ففيه القص والشعر والتشكيل والتأملات والمفاجأة وكسر أفق الانتظار والصورة وسعة الخيال في ضيق الحيز الكلامي.. و.. وما الى ذلك.. من المتاح الفني الابداعي الانساني.. ان القصة القصيرة جدا تجترح عالمها وكونها الفني من وحدة الحكاية وسرعة واختزال زمنها وتكثيفها وقلة شخوصها والتلميح وعدم التوسع والشرح فضلا علن عناصر الادهاش وشعرية اللوحة الاطار للقص والقفلة أو النهاية والتوهج.. نشير الى كل هذا من ناحية الاطار والنشأة لهذا الشكل في القص الذي استعاد حضوره في السنوات الأخيرة كحالة تعبيرية أدبية في السرد على غرار حالة الشعر والشعرية مع قصيدة الومضة.. انها عملية الكتابة التي تفضي في هذه الأزمنة الى مبتكرات أخرى في حقولها حيث التداخل أحيانا بين النصوص وممكنات توصيفاتها أين يأخذنا الشعر الى السرد وكذلك يفعل السرد اذ يأخذنا الى الشعر وهكذا.. وهو ما يذكرني بما جاء في مقدمة الناقد صبحي حديدي لمجموعة الشاعر الفلسطيني الراحل أمجد ناصر " حياة كسرد متقطع.. " انها الاشارة الى سؤال مهم وجزهري ومعناه الى أين تأخذنا الكتابة.. انها لعبة الأشكال والألوان والابتكار المفتوح ضمن جعرافيا واحدة أدواتها واحدة انها الكتابة لكن عناصرها وألوانها غير واحدة كان ذلك شعرا أو سردا.. هذا مهم بخصوص حكاية الكتابة وضروبها وأنماطها وأنفاسها وتلويناتها.. وهذا من علامات السلامة بالنسبة للسيدة الكتابة التي لا تخشى المغامرات والبحث والتسميات فقط يبقى الهام في الحفاظ على الابداعية.. وفقط.و في هذا التعدد في التعاطي مع نوع القصة القصيرة جدا نمضي في هذه الفسحة مع الاصدار الجديد للشاعر عادل الجريدي ونعني مجموعته القصصيّة من نوع " القصة القصيرة جدًّا" والتي مهرها ب" أخطاء جليلة" الصادرة عن دار الأدب الوجيز للنشر خلال هذه السنة 2025 ومن عناوينها العديدة نجد (موت مقصود) و(غارة) و(أزهار الحرب) و(تحت الأنقاض) و(اللقاء الأخير) و(موت سريري ) و(سكتة قلبية).

 منذ العنوان تبرز رغبة الكاتب القاص في شعرنة التعاطي مع هذه اللعبة المكتوبة في مائة من النصوص وبالتالي كيف تكون للأخطاء جلالاتها ودلالها ومقاماتها لولا رغبة الجريدي في استدعاء ما هو شعري لحظة كتابته انسجاما مع جيز من اشتراطات هذا الفن.. فن القصة القصيرة جدا..

ان قصص هذا العمل الأدبي لوحات فنية مكتوبة بها الحنين والشجن والقلق وشؤون شتى للكائن في اقامته الفاخرة والموحشة في آن بعالم مربك تتسارع متغيراته وتبدلات أحواله بأسلوبه الحاضن لهذه الكتابات يكشف عادل الجريدي عن اعتمالات بين ما هو وجداني انساني حميمي اجتماعي سياسي حضاري في سرد بسيط عميق مشوق خفيف مكثف.. ملامسا الكثير من حال الناس وحكاياتهم وأحلامهم.. في القصص كون مشاعر وأوهام وتطلعات بنى من خلالها المؤلف حكاياته القصيرة جدا حيث يجبر القارئ على النفاذ الى كنهها مستعجلا النهاية رغم القصر الشديد للنصوص.. ليكتشف بالتالي جنبا من ذاته بل جوانب من الانسان الذي تتقاذفه الانكسارات وتسعده النجاحات وفي هذا التنوع من الأحاسيس تبرز الأدوار المنسية للسلطة وأية سلطة كانت والمجتمع والناس والآخرين.. والذات.

أسلوب بين شفافية القص وسرعة نبضه وتسارع ايقاعه وتلوينات شخوصه والخلاصات وما أدراك ما الخلاصات والعبر.. انها فسحات سهلة للترعيب في التماهي مع النص وهي للجميع الطفل والشاب واليافع والكهل.. حيث يخلص القارئ الى عناوين شتى تعتصرها القصص ومنها المفارقة حيث الانسان بين زمنين وحالتين وسيل جارف من الحنين قولا بالكامن فيه من رفض للمستحدث المعيق لطبيعته وكيانه ولو باسم التطور وضرورات الأزمنة وهو الباحث في الركام عن هدوئه وأريحيته وايقاعه المطمئن زمن السقوط والتداعيات المريبة.. من ذلك الحنين لما هو مفتقد من جمال الأحوال.. وهنا تصدمنا قصة " المائدة " ص10و ترجنا رجا جميلا نستحقه :

(كنا اذا اجتمعنا حول مائدة الطعام تشتعل بيننا حرب ضروس نتزاحم في فرح طفوليو ان اشتد قتال الملاعق في قاع الاناء نضحك بشراهة فنشبع.. ومنذ أن غيرنا المائدة بأخرى فاخرة وتوزعنا على أطباق ممتلئة بالأكل.. فقدنا الاحساس بالشبع..)

من منا لم يعش هذا الاحساس العميق والدال.. انها قصة بسيطة مشتركة الأحاسيس والعواطف والذكريات تحاهها ولكنها عميقة في اشاراتها وادانتها للمعيش الانساني المكلل بالزيف والأقنعة.. انها شهادة محكية بفن القصة القصيرة جدا وجدا للنفاذ الى أعماق الذات الانسانية ووجدانها وهي التي لوثتها وسعت الى تشييئها العولمة والتسارع الواهم للأشياء.. ان التطور الانساني مهم ولكم هذا لا يجب أن ينسينا أصل الأشياء ومنها ذواتنا وبالمناسبة أذكر معنى ما قاله الشاعر الداغستاني الكبير رسول حمزاتوف (ان هذه الرحلة الطويلة لم تنسني الطريق الى بيتي أسفل الجبل)..

و في قصة (رسالة) نقرأ (علمته الغربة الاقتصاد في كل شيء فكتب بكل اختصار:

أنا بخير يا أمي.. كل ما ينقصني قطعة فرح وحذائي القديم.. ردت والدته على عجل: شجرة البيت تيبست في غياب ظلها).

تكثيف ورمزية عالية لتناول الأشياء والظواهر والسلوكيات والمواقف في أسلوب بين المرح والغرابة والدهشة والادانة.. وهكذا.

" أخطاء جليلة " للقاص الشاعر عادل الجريدي كتابة وفق نهج موغل في ايجاز سردياته المجترحة من المجتمع والناس وبكثير من الرغبة تجاه اشتراطات القص جد قصير.

***

شمس الدين العوني

يُعْتَبَرُ الكاتبُ النرويجي هنريك إبسن (1828 - 1906) مِنْ أهَمِّ كُتَّابِ المَسْرَحِ عَلى مَرِّ التاريخ، ويُعْرَف بـِ " أبو المَسْرَحِ الحديث ". تَمتازُ نَظَرْتُهُ إلى الحَياةِ بالعُمْقِ والشُّمُولِ، وَيَمْتاز مَسْرَحُهُ بِدِقَّةِ المِعمارِ والاقتصادِ معَ تَعبيرٍ شاعريٍّ دقيق.

وَصَفَ النُّقَّادُ كُلَّ مَسرحية مِنْ مَسرحيات إبسن بالقُنبلة المَوقوتة، فَكُلٌّ مِنها تُفَجِّر قضيةً مَا، وتُثير رُدودَ فِعْلٍ عنيفة، فقد اختار إبسن تَمزيقَ الأقنعةِ كُلِّهَا، وكَشْفَ الزَّيْفِ الاجتماعيِّ، داعيًا إلى الاعتدالِ والوسطية بعيدًا عن التَّطَرُّف.

انتهج إبسن المُنْعَطَفَ الواقعيَّ في أعماله، فَقَدْ تَطَرَّقَ إلى قضايا واقعية وخطيرة يُعاني مِنها المُجتمع الأوروبي، كما تَنَاوَلَ قضايا إنسانيَّة خالدة تُشْغِلُ الإنسانَ عَبْرَ العُصور، مِثْل: قَضِيَّة مَاهِيَّة الحقيقة، والفارق بَين الحَقيقةِ والواقع، أو الصِّرَاع بَين الواقعِ والمِثال، وقضية النِّفَاقِ الاجتماعيِّ، وغَيْرها مِن القضايا التي تُثيرها أعمال إبسن المَسرحية، والتي لَيْسَ بالضَّرورة أن تَضَعَ لَهَا حُلُولًا.

تَتَّسِمُ مَسْرَحِيَّاتُ إبسن بالواقعيَّةِ الدِّرَامِيَّة، وَتَناولِ القضايا الاجتماعيةِ والأخلاقيةِ المَحْظورة، مِثْل مَكَانَةِ المَرْأةِ، والزَّواجِ، والمُشكلاتِ النَّفْسِيَّة، والفَسادِ السِّياسيِّ والاقتصاديِّ، والنِّزاعِ بَيْنَ الفَرْدِ والمُجتمع. بالإضافة إلى الاهتمام العميق بالشخصيات وتطويرها النَّفْسِي والفِكْري.

اتَّبَعَ إبسن في مَسْرَحِهِ أُسلوبًا دِراميًّا مُمَيَّزًا عُرِفَ بالمَنهجِ الانقلابيِّ، بمعنى أن تبدأ المسرحية بموقف في الحاضر، ثُمَّ تتوالى أحداثٌ مِنَ الماضي في العَودةِ، لِتَنْسِجَ النِّهايةَ المَأساويَّة لأبطال المسرحية. أي إنَّ الأحداثَ الماضية تَتَكَشَّفُ تدريجيًّا لبناءِ النِّهايةِ المأساويَّة والكارثية للشَّخْصِيَّات.

تَمتاز مَسْرَحِيَّاتُ إبسن بِمُمَيِّزات واضحة، هي:

1- المَسْرَحِيَّاتُ التاريخية مِنها تبدأ بدايةً عاصفة، أمَّا المَسْرَحِيَّاتُ الاجتماعية فتبدأ هادئةً مُشَوِّقة مُعتمِدة على الحِوار الدقيق.

2- الالتزام بِوَحْدَةِ الزمان والمكان، كما وضعها اليونانيون.

3- بِناؤُها المَسْرَحِيُّ مُحْكَمٌ إحكامًا دقيقًا لا يُجَاريه فيه مُؤلِّف آخَر.

4- الحَبْكَةُ فِيها تبدأ بالقُرب مِن نُقْطة الزمان، مِمَّا يُساعد على إخضاع عناصر المسرحية الثلاثة: الزمان والمكان والكلام.

5- شخصياتها من النماذج الإنسانيَّة العالميَّة الطبيعيَّة.

وَيُعْتَبَرُ الكاتبُ الألمانيُّ بِرتولت بريخت (1898 - 1956) مِنْ أَهَمِّ كُتَّابِ المَسْرَحِ العالميِّ في القَرْنِ العِشرين. ويُعْرَف بـِ " مُؤسِّس المَسْرَحِ المَلْحَمِيِّ "، وهَذا النَّوْعُ المَسرحيُّ الفريدُ يَهْدِفُ إلى دَفْعِ الجُمهورِ للتَّفكيرِ النَّقْدِيِّ في القَضَايا الاجتماعيةِ والسِّياسيةِ بَدَلًا مِنْ إثارةِ المَشَاعِرِ وَالانغماسِ العاطفيِّ في الأحداثِ.

والمَسْرَحُ المَلْحَمِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَ نَوْعَيْن أدَبِيَّيْن هُما: الدِّراما والمَلْحَمَة، أي إنَّه يَتَضَمَّنُ شَكْلَي الأدبِ المَسْرَحِيِّ والسَّرْدِيِّ. والهَدَفُ مِنْهُ هُوَ الابتعادُ عَن تَصويرِ المَصائرِ الفرديةِ المأساويةِ المَعهودةِ مِنْ مَرحلةِ الخَيَالِ الكلاسيكيِّ وواقعِها الظاهريِّ، وتَصويرُ الصِّرَاعاتِ الاجتماعيةِ الكُبرى مِثْل الحربِ والثَّورةِ والاقتصادِ والظُّلْمِ الاجتماعيِّ، وَتَحويلُ المَسْرَحِ إلى أداةٍ لجعلِ هَذه الصِّراعات شَفَّافَةً، وَدَفْعُ الجُمهورِ لِتَغييرِ المُجتمعِ إلى الأفضلِ.

يَقُوم مَذهَبُ بريخت في المَسْرَحِ عَلى فِكْرَة أنَّ المُشَاهِدَ هُوَ العُنْصُرُ الأهَمُّ في تَكوينِ العَمَلِ المَسرحيِّ، فَمِنْ أجْلِه تُكْتَبُ المَسرحية حَتَّى تُثير لَدَيْه التَّأمُّلَ والتَّفكيرَ في الواقع، واتِّخاذ مَوْقِفٍ وَرَأيٍ مِن القَضِيَّة المُتناوَلة في العَمَلِ المَسْرَحِيِّ.

مِنْ أهَمِّ أساليبِ بريخت في كتابة المسرحيات:

1- هدم الجِدار الرابع: يُقْصَد بِه جَعْل المُشَاهِد مُشَارِكًا في العَمَلِ المَسْرحي، واعتباره العُنْصُر الأهم في كتابة المسرحية. والجِدَارُ الرابع معناه أنَّ خَشَبَةَ المسرح التي يقف عليها المُمَثِّلُون، ويقومون بأدوارهم، تُشْبِه غُرفة مِن ثلاثة جُدران، والجِدَارُ الرابع هو جِدَار وَهْمِي، وهو الذي يُقَابِل الجُمهور.

2 - التَّغْريب: يُقْصَد به تغريب الأحداث اليومية العادية، أي جَعْلها غريبة ومُثيرة للدَّهْشَة، وباعثة على التَّأمُّل والتَّفكير، مِثْل استخدام أُغْنِيَات بَيْنَ المَشَاهِد، وذلك كَنَوْعٍ مِنَ المَزْجِ بَين التَّحْريضِ والتَّسْلية، أوْ خُروج المُمَثِّلِ عَنْ دَوْرِه، لإبقاءِ الجُمهورِ في حالةٍ مِنَ الوَعْي بأنَّ مَا يُشاهده هُوَ عَرْض مَسْرحي، وَلَيْسَ واقعًا مُبَاشِرًا، مِمَّا يُشجِّع عَلى التَّحليلِ النَّقْدِيِّ.

3- المَزْج بَين الوَعْظِ والتَّسْلية، أوْ بَين التَّحريض السِّياسي والسُّخْرية الكوميدية.

4- استخدام مَشَاهِد مُتَفَرِّقَة. بَعْضُ مَسرحياته تَتَكَوَّن مِنْ مَشَاهِد مُتَفَرِّقَة، تَقَع أحداثُها في أزمنة مُختلفة، ولا يَرْبط بَيْنَها غَيْرُ الخَيْطِ العام للمَسرحية.

إنَّ إبسن وبريخت اثنان مِنْ أعْمِدَةِ المَسْرَحِ في الغرب، اشْتُهِرَ كُلٌّ مِنهما بابتكاراتِه في المَسْرَحِ الواقعيِّ والمُلْتَزِم، ويَربطهما في كثير مِنَ الأحيانِ الاهتمامُ بِمَآسِي الرَّأسماليَّةِ والظُّلْمِ الاجتماعيِّ، خاصَّةً في أعمالِهما التي تُسلِّط الضَّوْءَ عَلى قَضَايا المَرْأةِ، والظُّلْمِ المُمَارَسِ ضِدَّهَا.

وَقَدْ أسهمَ إبسن وبريخت في تَطويرِ المَسْرَحِ، حَيْثُ قَدَّمَ الأوَّلُ الواقعيةَ التي كَشَفَت الحقائقَ الاجتماعية، وَقَدَّمَ الثاني المَسْرَحَ المَلْحَمِيَّ الذي يَدْعُو إلى التَّغييرِ الاجتماعيِّ والفِكْرِيِّ.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

"لن ينقطع الوتر" للروائي والموسيقي أحمد دهيني، صدرت في طبعتها الأولى عن دار ناريمان للنشر عام 2025. رواية أراد الكاتب، متعمداً، أن تدور أحداثها في إيطاليا في القرن العشرين كما في عصر النهضة، وبالرغم من هذا الاختيار المكاني للرواية، إلا أن القارئ بين سطورها يمكنه تأويل الزمان والمكان حيثما يريد، ذلك أن القضايا المثارة فيها لا تختلف كثيراً عن تلك القضايا التي ترهقنا وتحاصرنا، مثل قضايا الفساد والرشوة وتغوّل السلطات الدينية والسياسية وغيرها من المفاهيم التي تصادر العقل لمصلحة الالتزام الأعمى.

كثيرة هي الأفكار والتساؤلات التي أوردتها الرواية على شكل رسائل مشفّرة تسمح بإسقاط مضامينها ومفاعيلها على واقعنا المَعيش ماضياً وحاضراً – ونأمل ألا ينسحب هذا على المستقبل – هذه الرسائل والإشارات وردت على لسان أكثر من شخص من شخوص الرواية، ولعل أوضحها وأكثرها جرأة ما أشارت إليه الرواية في فقرة "مسرحية صوت الله" ونسبتها إلى ألبرتو (وهو المفكر المضطهد المتمرّد على سلطة الجماعة الدينية أو الانقياد الأعمى لها).

لم يعتمد الكاتب تقنية الراوي العليم أو الصوت الواحد، بل إن الرواية شهدت تعدداً للأصوات وانتفت ما تسمى بالبطولة المطلقة لصالح بطولة جماعية تم إيكالها إلى شخوص الرواية، كلٌّ بحسب دوره وموقعه. لذا نجد تعدداً للشخصيات المؤثرة في صناعة الحدث، كما نلحظ اعتماد ما يسمى بالثنائيات كثنائية لورينزو وفيرونيكا، أو ثنائية فرنكو ولوتشيانو، وقبل هذه وتلك ثنائية ألبرتو وأماندا، إلى جانب شخصيات أخرى مثل برونو وماتيلدا وعمهما.1966 ahmad

يُحسب للكاتب أيضاً موازنته بين شخصيات روايته، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على حياديته وعدالته، فأفرد المساحة الكافية لكل شخصية دون أن يظهر تحيزه لأي منها. وما الحوار الذي جرى بين برونو وفرنكو سوى خير دليل على حيادية الكاتب الذي استطاع أن يقدم لنا حواراً نزيهاً وشفافاً بين الأخوين دون أي تدخل منه، تاركاً لكل منهما تقديم دفاعه وحججه، فحين اتهم فرنكو أخاه برونو بالفشل وأنه يلهث وراء انتصارات وهمية، وذكّره بأنه يدّعي كرهه للرأسمالية لكنه لا يجد غضاضة من الاستفادة من ثرواتها وتوزيع البعض منها على الفقراء، فإن فرنكو بالمقابل يصف نفسه أنه صادق وواضح ومتصالح مع نفسه، فلا يدّعي الفضيلة ويفعل العكس، ولا يُفصّل للمصلحة رداء الدين ولا ثوب النضال. ليجيبه برونو بأنه هو أيضاً يملك الجرأة للقيام بنقد ذاتي، لكن الشيء الثابت لديه هو مناهضة الصهيونية والدول الداعمة لها، فهو دوماً مع المظلوم ضد الظالم. لكن رد فرنكو لم يتأخر فيقول: "واهمٌ إن كنت تعتقد بشعاراتك الفارغة ستغير العالم وسياسات الدول".

نلاحظ من خلال هذه العينة من الحوارات بين النقيضين أنها أتت صادقة وصريحة وتدفع الحُجّة بالحُجّة، وربما قد تبدو الغلبة فيها لفرنكو الذي بالقطع لا تلتقي قناعاته مع قناعات الكاتب.

ولأن الكاتب – مطلق كاتب – لا بد وأن يظهر طيفه لدى شخص ما من شخوص روايته، فهذا يدفعنا للاعتقاد بأن لورينزو – أحد أبطال الرواية – فيه الشيء الكثير من أحمد دهيني الذي يلتقي معه في هوايات وهموم مشتركة وفي البحث عن أجوبة لأسئلة شائكة، كما أن عشقهما للموسيقى وشغفهما بالعزف هو أحد القواسم المشتركة بينهما. لا بل إن أحمد دهيني هو نفسه لورينزو الذي لم يستطع أباه أن يشتري له آلة موسيقية، فعمد إلى دق مسمارين في خشبة وربطهما بـ(مغيّطة مصاري). وهو نفسه الذي يهوى منذ الصغر قراءة القصص.

بالعودة إلى الرواية، وكما أسلفنا، فقد أشارت إلى المافيا الإيطالية وتغوّلها على كافة القطاعات الاقتصادية والرياضية والإعلامية، وحتى السياسية. كما أشارت إلى ظاهرة الفساد التي أصبحت أشبه ما تكون بثقافة عامة وسياسة معتمدة لدى القوى النافذة بأساليبها الملتوية، ليس أقلها الرشوة، وهذا ما تشير إليه عند التطرق لشراء المباريات الرياضية ونتائجها وأساليب الترهيب والترغيب التي يتعرض لها اللاعبون واستخدامهم للتخلص وأذية غيرهم من اللاعبين، كما حصل مع لورينزو.

استطاع الكاتب أن يجعل من قصة الحب التي نشأت بين لورينزو والفتاة الأرستقراطية فيرونيكا مدخلاً للولوج والتبحّر في الأحداث، ليطل من خلال هذه العلاقة على العنصرية والتمييز الطبقي الذي كان وما يزال سائدأً. لذا نجد فرنكو شقيق فيرونيكا يحذرها من مغبة التمادي في العلاقة الغرامية مع لورينزو، كونها تنتمي إلى عائلة عريقة وعظيمة لها تقاليدها، في حين أن لورينزو من عائلة وضيعة وإرهابية على حد زعمه.

إذا ما حاولنا التوغّل في شخصيات الرواية نجدها متنافرة ومتباعدة، وكل منها يعتنق مبادئ وقيماً لا تنسجم مع الآخر، شخصيات يمكن للقارئ وبكل سهولة أن يلصق كل منها بشخصيات معاصرة في مجتمعنا الحالي مع تغيير بسيط في الأسماء، وسنحاول في هذه القراءة الإضاءة قدر الإمكان على تلك الشخصيات أو بعضها وما تحمله من دلالات:

1- برونو: الأخ الأكبر في عائلة مارفلّينو لكل من فرنكو وفيرونيكا، يمتاز بشخصية متأرجحة تعاني من اضطرابات فكرية وعقائدية، لكن لديه ميل كبير لمساعدة الفقراء ومعارضة شديدة للرأسمالية والصهيونية، لدرجة أنه شارك في القتال ضدها عند اجتياح لبنان 1982. كما تنقّل في التزامه السياسي من اليسار بمختلف فصائله وصولاً إلى التيارات الإسلامية، ولكن ما أصابه بالخيبة أن صديقه الشاعر المناضل قُتل على يد إحدى الجماعات الإسلامية التي يؤيدها، وأن حبيبته  الصحفية بيناكا قُتلت هي الأخرى في تفجير إحدى السفارات على يد نفس الجماعة. هذان الحدثان أصابا برونو بخيبة أمل من كل تلك الأطراف التي ساندها في يوم من الأيام، ووجد أنها غارقة في مستنقع الإجرام والمصالح والنفاق، لا بل الخيانة أيضاً، فقرر العودة للمشاركة في إدارة أعمال العائلة. وفي محاولة منه للاندماج بنشاط العائلة الاقتصادي اكتشف، من خلال تدقيقه في سجلات شركة العائلة، الكثير من المخالفات الناجمة عن صفقات مشبوهة بتدبير من شقيقه فرنكو ومساعده لوتشيانو. ولكونه قارب المحظور واقترب من كهف أسرار الشركة، فقد دفع حياته ثمنأً بموافقة ضمنية من أخيه فرنكو.

2- فرنكو: الأخ الأصغر ولكنه على النقيض تماماً من برونو، فهو يطمح للوصول إلى مكانة مرموقة في عالم المال والأعمال إضافة إلى رغبته في دخول عالم السياسة، ولا يتوانى عن اللجوء إلى شتى الوسائل للوصول إلى ما يصبو إليه، فكل شيء لديه مباح طالما يحقق الغاية المرجوّة والهدف المنشود. ووجد في مؤسسة (جي-آي) السبيل الوحيد للوصول إلى القمة في الميدان الاقتصادي والسياسي.

3- لوتشيانو بروتو: من عائلة متواضعة ولكنه يمتلك قدراً كبيراً من الدهاء والذكاء، شاب انتهازي بكل ما للكلمة من معنى، تنقّل بين الأحزاب من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين لأجل تحقيق غاياته، فالغاية عنده تبرر الوسيلة. كان عضواً في المافيا التوسكانية وأصبح شخصية محورية في عالم الجريمة المنظّمة.

4- مؤسسة جينتي إنتليجينتي: هي شخصية اعتبارية من شخصيات الرواية، عبارة عن جمعية سرّيّة و مؤسسة مافياوية امتدت أذرعها لتطال كافة القطاعات الاقتصادية والرياضية والسياسية بما فيها الإعلام، وتعرف اختصاراً بـ"جي آي"، تتبنى عقيدة عنصرية قائمة على مفهوم نقاء الدم واعتبار بعض الأنساب أرقى وأرفع من بقية الأنساب وأحقّ بالقيادة، فالحكم ليس حقاً للجميع، بل هو مسؤولية تُمنح فقط لمن اختارهم الله بحكمته. وأن هناك خطة إلهية لتحديد مصائر البشر، وأن هذه المنظمة هي المكلفة من الإله بتنفيذ هذه الخطة، فأوامرها ليست قرارات بشرية، بل هي جزء من إرادة كونية عليا.

5- لورينزو: شاب يمتلك صوتاً غنائياً ويتقن العزف على آلة المندولين، ويعشق لعبة كرة القدم التي هي شغفه الأهم إلى جانب انجذابه للقراءة والأدب والسياسة. وقد ربطته علاقة حب مع فيرونيكا التي تشاركه الشغف نفسه بالثقافة والأدب.

أسهب الكاتب في الإشارة إلى فلسفة لورينزو والمبادئ التي يؤمن بها، ولعل أهم هذه المبادئ نظرته لمفهوم الإله الحق ونقده للثقافة الدينية المهيمنة آنذاك. وباختصار، تناولت الرواية – سواء على لسان لورينزو أو قبله ألبرتو كانتابيلي – الصراع بين مشروعين، وأنا أسميه الصراع بين ثقافتين: ثقافة التلقين والطاعة العمياء، وثقافة السؤال والانتقاد. إنه صراع بين عقل يستيقظ وسلطة أدركت أن يقظته تهدد عرشها. لذا نجد ألبرتو – الذي لوحق من قبل محاكم التفتيش ولم يتراجع عن أفكاره فأدين بتهمة الهرطقة – يقول: "إن الأديان حين تفقد بُعدها الإنساني تتحول إلى مؤسسات تخشى السؤال، فتُكفّر الحائر وتعذّب المفكّر". كما أن أسوأ الشرور وأكثرها قبحاً تلك التي تُرتكب باسم الله والدين، لأنها تعطي شرعية وقدسية لتلك الأفعال وتجعل من الله راعياً رسميأً لها. ويصف لورينزو ما تعرض له ألبرتو على يد محاكم التفتيش فيقول: "ما حصل لألبرتو كان نتيجة صراع بين مشروعين متضادين، مشروع يسعى لتحرير الإنسان وحثّه على التفكير، ومشروع آخر متمثل بسلطة دينية وسياسية قمعية رسّخت وجودها على إخضاع الناس وعلى اعتماد مبدأ الطاعة العمياء." (103)

إنها ثقافة التلقين – كما قلنا – التي نحن لسنا بمنأى منها، فهي تحاصرنا بإنتاجها بنية سياسية دينية تمارس الهيمنة من خلال احتكار الحقيقة وتكفير كل من يجرؤ على طرح سؤال أو المطالبة بالعدل. والغاية من ذلك هي بقاء الهيمنة وتثبيت السلطة واستغلال الناس باسم المقدّس الذي استُخدم لتأليه السلطة وليس لتأليه الإله الحق، فالإله الحق لا يخشى الفكر ولا يهاب التساؤل، الإله الحق منارة للفكر الحر. وكما يقول لورينزو: "لقد غرسوا فينا صورة لإله لا يسعه عقل ولا يطمئن له قلب ولا يرضى به ضمير." (81) كما أن فكرة الطاعة العمياء البعيدة عن المعرفة أو التفكير لا يمكن أن تكون منبثقة عن إله عظيم، بل هي فكرة لا تصدر إلا عن مستبد، وأي دعوة إلى انقياد أعمى هي دعوة إلى استعباد الإنسان. وهنا أقتبس (بتصرف) بعض ما ورد في كتاب "العقل المحاصر" للدكتور مروان الدويري، بما مفاده أنه عندما يصبح الدين يتدخل في كل شاردة وواردة في حياتنا فهذا يعني منعنا من التفكير، وهذا يعتبر انتحاراً للعقل.

في موضع آخر، وللدلالة على سطوة ما يسمى برجال الدين أو السياسة (لا فرق)، يوضح لورينزو كيف أن "الباطل يتقن ارتداء عباءة الفضيلة والقداسة ليخدع البسطاء من العامة." (60) وأن أخطر ما نواجهه هو تلك الآلهة البشرية الذين يدّعون امتلاك الحقيقة المطلقة. ويسهب الكاتب على لسان شخوص روايته بالغوص في المفهوم الحق للإيمان، فالصراع ليس بين الإيمان بالخالق من عدمه، بل هو صراع بين المفاهيم والقيم، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين العدل والظلم.

نقطة أخرى غير بعيدة عما ذكرناه تناولتها الرواية هي مسألة التعصب الأعمى، فالمتعصب يرى نفسه أرقى من سائر البشر، ولا يرى الوسيلة بميزان أخلاقي، بل يراها بعيون الغاية. والمتعصّب المؤدلج يرى نفسه أرقى من سائر البشر، ولأجل ثمرته المقدّسة لا بأس عنده أن تُحرَق بساتين من الثمر وأن يُباد الآلاف من البشر، كما أنه لا يرى الوسيلة بميزان أخلاقي بل يراها بعيون الغاية، وهنا تكمن خطورة تأليه الغاية، حيث يتحول الفرد إلى عبدٍ للنص، أعمى في تعصبه، جامدأً في فهمه.

يجاهر لورينزو بمناداته بالدولة المدنية وفصل الدين عن الدولة، لأنه حين يُزجّ بالدين في الشأن العام تصبح الدولة ساحة للاستعباد بدلًا من أن تكون فضاءً للعدالة.

لا بد من التنويه والإشارة إلى الإحساس المرهف والشاعري الذي لم يغب عن قلم الكاتب – وهو الموسيقي – خاصة في أحاديث الود والغرام بين لورينزو وفيرونيكا، يقول لورينزو مخاطباً محبوبته: "علينا أن نتعامل مع بعضنا كما يتعامل الموسيقي مع آلته الوترية، فالوتر إذا ارتخى فقد صوته، وإذا اشتدّ تمزق وانقطع، الخيار الأمثل يبقى في ضبطه بدوزان يمكنه من أن يصدح بأعذب الألحان، وأشعر الآن أنكِ وتّري ونغمي ونحن كاليد والوتر لا يكتملان إلا معاً كأغنية تعانق فيها الحرف والنغم، وأتي للحروف منتهى التمني وملهمة النغم على وتر المغني."

في إشارة إلى التناغم بين قوى المافيا والنفوذ وبين ما يسمى زوراً التيارات الإسلامية أو الجهادية، نجد أن الكثير من تلك المجموعات المتطرفة ما هي بالحقيقة سوى أدوات من صنيعة الغرب وقوى الشر لاستخدامها في تنفيذ مخططاتها القذرة، كما هي الحال مع لوتشيانو الذي لجأ إلى تحفيز المتطرفين الإسلاميين وتحريضهم على قتل لورينزو.

وكأن الكاتب يؤمن بشكل أو بآخر بتلاقي الأرواح أو بتوأمتها، فأتت قصة الحب التي جمعت لورينزو مع فيرونيكا وما رافقها من أحداث دراماتيكية بمثابة نسخة مستجدة ومشابهة لتلك القصة التي جمعت كلّاً من ألبرتو وأماندا ميديشيتي ابنة العائلة الحاكمة، ووجدنا أوجه تشابه كثيرة بين المحبين الأربعة في هاتين القصتين، فكما كان ألبرتو مناهضاً للسلطة القمعية والدينية أدت إلى ملاحقته واضطهاده وحتى اضطراره للاختباء في أحد الأكواخ، كذلك كان لورينزو يمثل بشكل أو بآخر النسخة الثانية لمسيرة ألبرتو في تمرده وإصراره على فضح المفسدين وعملياتهم من خلال مقالات يكتبها. وكما كانت أماندا السند الخفي لألبرتو ومساندته، كذلك كانت فيرونيكا حاضرة للتخفيف عن لورينزو وما يعانيه من متاعب مالية وغيرها. ويبدو أن قدر الأحرار أن تكون حياتهم ثمناً لما يؤمنون به، فقد انتهى الأمر بألبرتو أن حكم عليه بالحرق، وأيضاً لورينزو استطاع لوتشيانو أن ينتزع موافقة مؤسسة جي.آي على تصفيته.

ومهما كانت النهاية المأساوية التي أصابت الرجلين، إلا أن هذا لا يعني أن الوتر قد انقطع وأن الأمل بالتغيير قد انتفى، بل العكس، فكما يقول لورينزو: إن البحث عن الحقيقة لا يعني بالضرورة الابتعاد عن الله، بل العكس، فإن علاقتي بالله ليست قائمة على الخوف بل على الانسجام العميق مع قيم العدالة والمحبة والرحمة. لذا فما يربطني بالله هو وترٌ دائمُ النغم ولا يمكن أن ينقطع.

ختاماً، نقول للكاتب أحمد دهيني: مبارك لك هذا الإصدار، ونغبطك على جرأتك في تناول هذه الإشكاليات، على أمل ألا ينقطع الوتر ليبقى يرفدنا بالمزيد من الإبداعات.

***

عفيف قاووق - لبنان

تنويه: هذه المقالة كتبت عام ٢٠٠٧ في سياق بحثي متواصل حول إشكاليات قصيدة النثر ثم نشرت في أكثر من ملتقى أدبي كان أبرزها ملتقاي (ضوء الرنين) في نسختي ٢٠١٦ و٢٠٢١ واليوم تعود هذه الورقة لتتضمنها صفحات كتابي النقدي (أنقاض المعنى) الصادر حديثاً عن دار نوافير للطباعة والنشر،  باعتبارها إحدى الإشارات المعرفية التي تعكس خبرتي المتراكمة ورؤيتي الثقافية في مقاربة هذا الشكل الشعري المثير للجدل.

 إن ما أقدمه هنا لا يطمح لأن يكون حكماً نهائياً بل محاولة لفتح أفق للتفكير والحوار انطلاقاً من قناعتي بأن الشعر أياً كان شكله يظل سؤالاً مفتوحاً على الدهشة ومسؤولية جمالية وفكرية على حد سواء

إشكالية قصيدة النثر: بين الحرية الجمالية وسؤال الشكل

تمثل قصيدة النثر واحدة من أكثر الظواهر الشعرية إثارة للجدل في المشهد الأدبي العربي المعاصر لا لما تثيره من أسئلة حول الشكل والجنس الأدبي لكن لأنها تربك التصنيفات التقليدية وتهدد الثوابت البلاغية التي طالما استند إليها الشعر العربي في تشكيل ذائقته. لقد انبثقت قصيدة النثر من رحم الحاجة إلى حرية تعبيرية تتجاوز قيود العمود الخليلي والإيقاع المنتظم فجاءت بوصفها تمرداً على صرامة العروض لا على الشعرية ذاتها محاولة إنتاج خطاب بديل يتأسس على الكثافة اللغوية والتصعيد الصوري والانزياح الدلالي ضمن بناء مفتوح على التأويل والانفلات من النماذج المغلقة.

ومع ذلك فقد بقيت قصيدة النثر موضع التباس نقدي وجمالي إذ تطرح إشكاليتها من جهتين رئيسيتين: الأولى تتعلق بالهوية النوعية والثانية بمستوى التحقق الفني. فهل ما يكتب تحت مسمى (قصيدة نثر) هو فعل شعري حقيقي؟ وهل تمتلك هذه القصيدة أسساً جمالية خاصة تبرر انتماءها إلى الشعر لا إلى النثر المتخيل أو السرد المكثف؟

إن التأمل في بنية قصيدة النثر يكشف عن ميل إلى التحرر من الإيقاع الخارجي مع التعويض عنه بإيقاع داخلي يشتق من النص ذاته: من توزيعه وتقطيعه ونبره وتوتره المعنوي. كما تعتمد هذه القصيدة على الانزياح البلاغي وتكثيف الصورة بالإضافة إلى التناص والمفارقة والتركيب التأويلي كأدوات لصناعة الشعرية.

لكن المشكلة لا تكمن في الشكل وحده وإنما في ضعف الممارسة الكتابية أحياناً حيث باتت قصيدة النثر ملاذاً لمن لا يملكون أدوات الوزن أو لا يتقنون الصناعة الشعرية الأصيلة ما أفرز طوفاناً من الكتابات السطحية التي تشوه التجربة الحقيقية لقصيدة النثر وتغذي الاتهامات التي تلاحقها منذ نشأتها، وفي الوقت ذاته لا يمكن إنكار أن هناك تجارب شعرية عظيمة كتبت ضمن هذا الشكل مثل ما قدمه (أنسي الحاج )(وأدونيس) (ومحمد الماغوط) (وسعيد عقل) حيث استطاعوا تأسيس جمالية موازية تبرهن على أن الشعرية لا تختزل في الوزن بل تتجلى في المجاز العميق واللغة المنفلتة من أسر العادة والتركيب المدهش.

وتواجه قصيدة النثر كذلك إشكالاً نقدياً مرتبطاً بسؤال التلقي إذ أن كثيراً من القراء يعانون في التعامل مع نص لا يتيح لهم مؤشرات إيقاعية واضحة ولا يقدم خطاباً شعرياً مألوفاً ما يجعل عملية الفهم والانخراط الجمالي أكثر تعقيداً ويستدعي قارئاً مدرباً على تفكيك الإشارات النصية وتتبع الحقول الدلالية.

من هنا فإن إشكالية قصيدة النثر ليست في وجودها بل في شرط تحققها الجمالي فهي إمكانية مفتوحة للشعر وليست نفياً له لكنها تتطلب جهداً إبداعياً مضاعفاً ووعياً فنياً ينهض على ركيزة من المسؤولية الجمالية والفكرية لا على مجرد الرغبة في الكتابة بلا ضوابط.

تبقى قصيدة النثر حتى اليوم موضع جدل لا ينتهي بين مؤيد يرى فيها انبثاقاً جمالياً جديداً ومعارض يعدّها خروجاً عن جوهر الشعر وما قدمته هنا ليس أكثر من إشارة أولية أو إضاءة بسيطة على بعض ملامح الإشكالية انطلاقاً من خبرتي ورؤيتي الثقافية تاركةً المجال مفتوحاً لقراءات أعمق ومناقشات أوسع لأن قصيدة النثر لم تُغلق بعد أسئلتها بل تظل في حالة اختبار دائم للشعرية ولقدرة اللغة على أن تدهشنا من جديد.  ولذلك يمكن القول إن قصيدة النثر ليست أزمة جنس أدبي بل هي اختبار مستمر لمفهوم الشعر نفسه ولقدرة اللغة على أن تنتج دهشتها خارج المعايير الكلاسيكية. إنها ليست بديلاً عن الشعر بل انبثاق جديد له بشرط أن تبقى مخلصة لجوهر الشعرية لا لأهواء الكتابة المجانية.

***

مرشدة جاويش

 

قراءة نقدية متعددة المستويات

المقدمة: تمثل رباعية يحيى السماوي تجربة شعرية غنية تجمع بين عناصر التصوف، العاطفة، والمنفى ضمن فضاء رمزي مفتوح على احتمالات التأويل المتعددة. تُبرز القصيدة فكرة مركزية تجسد إطارًا مفاهيميًا للشوق، لتنسج نصًا مزودًا بطاقة دلالية عميقة متدرجة بين حالات الخوف، التيه، الفداء، والذهول. تسعى الدراسة إلى تحليل هذه الرباعية من خلال ستة محاور مترابطة: تفسير الأبيات، الدراسة البنيوية، التحليل البلاغي، التحليل النفسي، الدراسة السيميائية، والبُعد الوطني، وذلك بهدف استكشاف آليات إنتاج المعنى وإظهار تعددية قراءات النص ما بين الأبعاد العرفانية والوطنية.

مدخل تأويلي: بين الشوق العرفاني والحنين الوطني

«تُستهلُّ رباعيةُ يحيى السماوي بمسلمةٍ عرفانيةٍ مركزيةٍ من أبي القاسم القشيري: "الشوق هو اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب، وعلى قدر المحبة يكون الشوق" (1). تضع هذه العبارة إطارًا تأويليًا يفتح النص على قراءتين متكاملتين: الأولى عرفانية ترى في المحبوب تجلّيًا للمطلق ومسارًا للتيه والفداء، والثانية وطنية تُحيل المحبوب إلى رمز الوطن والذاكرة الجماعية. لا تتعارض هذه التعددية، بل تُنتج انسجامًا دلاليًا يجعل القارئ شريكًا في استكمال المعنى. ستسعى الدراسة، عبر أدوات سيميائية وبنيوية وبلاغية ونفسية، إلى الكشف عن هذه التقاطعات بين الديني والسياسي، والحميمي والجماعي.»

تفسير الأبيات:

بنية شعورية متصاعدة في رباعية السماوي

1. الخوف: ارتباك الذات أمام المحبوب

"أخافُ عليَّ مني لا عليه: حبيبٌ نبضُ قلبي في يَـدَيْهِ"

يفتتح الشاعر رباعيته بالخوف لا كضعف أو رهبة من الآخر، بل كارتعاش داخلي أمام قوة التعلق. الذات تخشى من نفسها أكثر مما تخشى على المحبوب؛ إذ إن «نبض القلب» أصبح في يد الآخر، أي أن جوهر الوجود بات مهددًا بالذوبان في سلطة الحضور الغائب. بهذا يُمثل الخوف المرحلة الأولى في تجربة الشوق: مرحلة التبعية الوجدانية وفقدان مركزية التحكم.

2. التيه: الضياع كمغنمة

"أنا التيهان فيه وليس تيهاً / ولكن فرط مغنمة بتيه"

يحوّل الشاعر التيه من دلالة سلبية إلى ربح روحي ومعنوي. فالتيهان في المحبوب ليس ضياعًا، بل امتلاء، إذ إن الذات إذ تفقد موقعها تكتسب معنى أعمق بالانغماس في الآخر. هذه الحالة تنفتح على البعد العرفاني، حيث الحيرة سبيل إلى الكشف، وعلى البعد الوطني حيث الغربة تخلق علاقة جديدة مع الوطن وتعيد تشكيله في الوجدان.

3. الردى: الفداء كتطهير

"ولو كان الردى يدني مشوقاً / لما بخل المشوق بأصغريه"

يبلغ الشوق هنا ذروته، حين يتحول الموت من قدرٍ مخيف إلى طريق مرغوب للوصال. استعداد الشاعر للتضحية حتى بـ «الأصغريْن» (النفس والولد، أو العينين كرمز أغلى الحواس) يكشف عن إرادة الفناء في سبيل المحبوب. المعنى يتردد بين الصوفي، حيث الفناء سبيل للبقاء في المطلق، والوطني حيث التضحية أقصى تجليات الوفاء للوطن.

4. الاسم: حضور الغائب في الذاكرة

"نظرتُ إلى اسمه فأضعتُ لُـبّي / فكيف إذا نظرتُ غـداً إليه"

تصل الرباعية إلى لحظة الذروة في استدعاء «الاسم». فمجرد التلفظ بالاسم يربك الذات، ويعيد تشكيل وعيها، ويحوّل الغياب إلى حضور روحيّ متكثف. «الاسم» هنا يتجاوز دلالته اللغوية ليصبح مفتاحًا لاستحضار المطلق في التجربة الصوفية، أو الهوية والوطن في تجربة المنفى.

خاتمة: من الخوف إلى الاسم

تتدرج الرباعية من الخوف إلى التيه إلى الفداء وصولًا إلى الاسم، في مسار وجداني متصاعد يكشف عن قوة الشوق وقدرته على إعادة تشكيل العلاقة بين الذات والمحبوب. هذه البنية الشعورية تسمح بقراءتين متوازيتين ومتكاملتين: قراءة عرفانية صوفية ترى في النص رحلة نحو الفناء في المطلق، وقراءة وطنية ترى فيه خطاب حنين منفي يعيد إنتاج الوطن عبر الغياب

الدراسة البنيوية للقصيدة

تقوم الرباعية على بنيانٍ شعريٍّ مضغوطٍ وعضويّ، تُحكمه وحدةُ موضوعٍ وعاطفةٍ واضحة تراكمية الشكل وقوامها تصاعد شعوري. بالرغم من قصر النصّ، تظهر فيه علاقة داخلية دقيقة بين التركيب والدلالة:

التدرج الدلالي: تنتقل السّردية الذهنية من حالةٍ إلى حالةٍ عبر أربعة مساراتٍ لكل بيت وحدة دلالية مستقلة، لكنها مرتبطة بمنطق تصاعدي: الخوف → التيه/الفناء → الاستعداد للفداء → الذهول/التجلّي. هذه الحركة ليست سردًا توقُّعيًا خطيًّا بقدر ما هي تصعيد وجداني يعيد تشكيل العلاقة بين الذات والمحبوب في كل لحظة.

الضمائر كأداة بنيوية: يلعب التبادل بين ضمير المتكلم (أخافُ، أنا) وضمير الغائب (عليه، فيه، إليه) دورًا مركزيًا في بنية النص؛ فهو يؤسس لحقلٍ من السيطرة والغياب: الآخر غائب لكنه مستبدّ، والذات منظورة/مأسورة. يخلق هذا التوازن نوعًا من العُقدة البنيوية التي تُنتجُ دلالة الغياب والتمثيل الرمزي للمحبوب.

الإيقاع والتوتر الداخلي: بالرغم من بساطة التفعيلات، فإنّ النصّ يحقق إيقاعًا شعوريًا عبر تكرار صورٍ لفظيةٍ وصوتيةٍ (جناس، توازي) يهيئ أرضيةً لصعود التأثير الانفعالي. التوتر هنا لاهوتيٌّ ومعنويّ؛ إذ يضبط النصّ تواتره الصوتي حتى يحافظ على اندفاع دلالي متصاعد دون أن يفقد اتساقه الموسيقي.

علاقة الأبيات ببعضها: لا تقوم العلاقة على مجرد إكمالٍ، بل على تحويلٍ: كل بيت يعيد توجيه الشعور نحو زاويةٍ جديدةٍ — تحويل الخوف إلى تيه، التيه إلى فداء، الفداء إلى تجلٍّ. هذا الأسلوب البنائي يُحاكي تجارب السالك العرفانيّ (دوران/تيه/فناء) ويجعل النصّ فضاءً لحركةٍ دلاليةٍ دائريةٍ لا خطّية.

خلاصةً، تبنى الرباعية وحدتها على التوتر البنيوي بين الصمت (الغائب) والقول (المعلن)، وعلى تكثيف لفظيٍّ ودلاليٍّ يتيح قراءةً متعددة المستويات: عرفانيةً، وطنيةً ونفسيةً، من دون حلّ هذه القراءات في بعضها، بل مع إبقائها في حالة صراعٍ ومناظرةٍ داخليةٍ تُنتجُ ثراءً نصّيًا.

التحليل البلاغي — الاستعارة، الإزاحة، والدلالة

تتمثّل قوة رباعية يحيى السماوي في طاقتها البلاغية المكثفة، التي لا تبتغي الزينة اللفظية فحسب، بل تعمل كآلة إنتاج دلالي تُعيد تشكيل العلاقة بين اللغة والمعنى عبر محاور الاستعارة والإزاحة والدلالة. فيما يلي صياغة أكاديميّة منظمة لكل محور مع الإحالة المباشرة إلى أمثلة من الرباعية.

1. الاستعارة: نحو تجسيد الوجود العاطفي.

تستغل القصيدة الاستعارة بوصفها مِلْكًا إنشائيًا لتجسيد حالات نفسية وروحية مركّبة، فلا تقتصر على تحويل واقع إلى صورة، بل تُحوِّل الصورة إلى عملية وجودية.

- في البيت الأوّل، عبارة «نبض قلبي في يديه» ليست وصفًا بدائيًّا، بل استعارة مكنية تترجم سيادة الآخر على جوهر الوجود: الحياة (النبض) تُعرض كشيء يُمسَك، ومن ثمّ تُصبح الذات في موقع تابع لا فاعل. هذه الاستعارة تُجسّد فكرة التسليم/الفناء، وتحوّل العلاقة الأحادية (ذات/عاطفة) إلى علاقة تبعية وجودية.

- في البيت الثاني، «التيهان فيه» تحوّل التيه من حالة مكانية سلبية إلى حالة اندماجية إيجابية: التيه هنا استعارة لفناءٍ مولّدٍ للربح الروحي («مغنمة»). التحوّل البلاغي يجعل من الضياع قيمة معرفية وروحية.

- استعارة «أصغريه» في البيت الثالث تعمل على تجريد العضو الحسي (العينان) إلى رمز للرؤية والوعي، فالتضحية بهما ليست فقدانًا جسديًا فقط، بل تنازل عن أدوات المعرفة والإدراك في سبيل وصال رمزي/روحي.

- في الخاتمة، «الاسم» يحتل موقع استعاريّ كقُوّةٍ مُحرِّكة تُحدث اضطرابًا معرفيًّا؛ الاسم هنا ليس لفظًا، بل كيانٌ مُفعَم بالقوة التجلّية.

2. الإزاحة: الغياب كاستراتيجية دلالي

توظّف الرباعية الإزاحة كتقنية تُغيّب الإشارة المباشرة وتُحيلها إلى دوالٍ عرضية، ما ينتج مجالًا فارغًا قابلاً للتأويل.

- غياب اسم المحبوب وتحويله إلى ضمير غائب ينتج فجوةً دلالية تتيح قراءة النصّ في أبعاد متعددة (عرفاني/وطني/شخصي)

- إزاحة مفاهيم: الوطن → المحبوب، الموت → وسيلة وصل، التيه → مغنمة. هذه الإزاحات لا تشي بخفوت المعنى بل تُعيد تشكيله، وتحوّل المفردات التقليدية إلى أدوات جديدة للحجاج الانفعالي.

-  نتيجة الإزاحة: النصّ يشتغل كشبكة احتمالات دلالية ــ كل منها مشروع قراءة متكامل ضمن النصّ نفسه.

3. الدلالة: بنية متعددة الطبقات

- الدلالة في الرباعية بنتها ليست معجمية صارمة، بل سياقية ورمزية؛ المعاني تتولّد من تلاقي الاستعارة والإزاحة والإيقاع.

- مفردات مثل «الخوف»، «التيه»، «الردى»، و«الاسم» تحمل شحنات متداخلة: نفسية، صوفية، وطنية، وجودية.

- التوتر بين الحضور والغياب يولّد دلالة تتقاطع فيها مدركات القارئ مع آليات النصّ التعبيرية، فينتج ما يمكن تسميته بـ «دلالة مُتاحة» لا «دلالة مغلقة».

- النتيجة المنهجية: القصيدة تَدعو إلى قراءة متعددة المستويات، حيث يظلّ التضاد الدلالي (مثل: التيه كمغنمة/الردى كعبور) محركًا أساسيًا لبناء المعنى..

التحليل النفسي

تجري الرباعية قراءةً نفسيّة تكشف عن انقسام داخلي في الذات بين قوة الشوق ورهبة الاحتفاظ بالحدود، وتعرض أزمة تمايز تتجه نحو الرغبة في الاندماج/الرجوع إلى حالة ما قبل التمايز. من منظور تحليلي:

- البيت الأوّل يعكس قلقًا بشأن فقدان الحدود: الخوف هنا داخلي (من الذات) وليس خارجيًا؛ علامة على تهدّم مركزية الأنا أمام محركٍ شغوفٍ (الشوق).

- البيت الثاني يعبر عن نزوع نحو الفناء الطوعي: التيه باعتباره «مغنمة» يشير إلى رغبةٍ لا واعية في التراجع عن التفرد الذاتي والاندماج بالمحبوب - حالة مشابهة للاشتياق إلى العودة إلى حالة الأمان البدائي.

- البيت الثالث يُظهِر استعدادًا لتقديم أدوات الإدراك (العينان) مقابل الوصل، وهو ما يمكن قراءته كتضحية رمزّية للرغبة في الفناء على حساب وعي الحدود.

- البيت الأخير يمثل ذروة التصدّع النفسي: الاسم كعامل يخلخل توازن الذات ويقذفها إلى حالة ذهول/فقدان تماسك معرفي.

- خلاصة نفسية: بنية الرباعية تصوّر صراعًا بين رغبة الانصهار ورغبة الحفاظ على الذات، مع تفوّق تدريجي لرغبة الالتحام التي تتخذ شكلًا تضحيِّيًّا واستباقيًّا.

الدراسة السيميائية

تقوم القراءة السيميائية للرباعية على تتبّع كيفية إنتاج العلامات للمعنى في فضاء غياب/تضمين. ملاحظات أساسية:

الضمير الغائب كعلامة محورية: الضمير لا يشير إلى شخصية محددة، بل يُعمل كدليل على الغياب والحنين؛ يحوّل النص الضمني إلى شبكة من الاحتمالات الدلالية. الاسم كعلامة طاقية: الاسم في الخاتمة يتصرف كعلامة ذات «وظيفة كفعل»— ليس مجرد رمز، بل فعل يؤثر في نفس القارئ/المتكلم.

الردى كرمز عبور: الموت هنا علامة عبور لا ماضٍ نهائيّ؛ السيمياء تعطي «الردى» وضعًا وظيفيًّا في مخطط المعنى بدلًا من كونه مفهومًا نهائيًّا.

توظيف الفراغ الدلالي: بإخفاء المدلول الصريح تتحقق القصيدة كفضاء مفتوح للتأويل، ما يوافق منطق العلامة التي تصوغ جزءًا من المعنى عبر ما لا يُقال بقدر ما تُقترح.

التقابل بين الدال والمدلول: العلاقة تُدار عبر توترات منتجة لا استبداليه؛ الدال (الكلمات) يشير إلى مدلولات متعدّدة تُبنى في لحظة القراءة.

البعد الوطني وتأويل الغياب (2)

رغم أن الرباعية لا تُصرّح باسم الوطن صراحةً، فإنها تُعيدُ تشكيله داخليًا عبر بنيةٍ رمزيةٍ مشحونةٍ بالغياب. في النصّ يتحول «المحبوب» المشار إليه بالضمير الغائب إلى إطارٍ مجازيٍّ للوطن؛ فالغياب هنا لا يقتصر على غيابٍ مكانيٍّ فحسب، بل يتحوّل إلى آلية إنتاجية للدلالة، تعمل على تكثيف الحضور العاطفي والوطني في طيف الذكرى والشوق.

تفسيرًا، يمكن قراءة عبارة «نبض قلبي في يديه» بوصفها صورةً توصَف فيها حياةُ الذات كرهينةٍ لوجود الوطن/المحبوب؛ تصبح الحيوية (النبض) مرتبطةً بحضورٍ خارجيٍّ يجعل الذات في حالة تبعية وجدانية. ومن ثم يظهر «الخوف من الذات» كدلالةٍ على توترٍ داخليٍّ أمام قوة الذاكرة والحنين التي تُقوِّض حدود الأنا في الغربة.

التيه، في هذا الإطار، يتبدّل من حالةٍ سلبيةٍ إلى «مغنمة»: الاغتراب لا يعني بالضرورة فقدانًا نهائيًّا، بل هو حالةٌ تعيد تركيب الوطن في الوجدان، وتخلق علاقةً جديدةً معه — علاقةً تقلّبُ حضورَه من شكلٍ ماديٍّ إلى شكلٍ ذهنيٍّ/عرفانيٍّ. كذلك يصير «الردى» رمزًا للتضحية الوطنية؛ فالاستعداد للتخلي عن «أصغريه» هنا ليس تنازلاً جسديًا فحسب، بل تضحياتٍ معرفيةٍ ورؤيةٍ من أجل لحظة وصال رمزية.

أخيرًا، يتحوّل «الاسم» في خاتمة الرباعية إلى علامةٍ ذا طاقةٍ رمزيةٍ قوية؛ إن مجرد استحضار الاسم يربكُ الذات ويُعيد تشكيل وعيها، فتعمل الذاكرة والحنين على إنتاج حضورٍ وطنيٍّ متكثفٍ فوقيٍّ للغائب. بذلك تُؤكّد القصيدة أن الوطن لا يُستعاد بالتصريح، بل يُعادُ إنتاجه بالحضور عبر الغياب.

القراءتان المتوازيتان للرباعية: العرفانية والوطنية

تُتيح الرباعية قراءةً مزدوجةً مُتآزِرة: الأولى عرفانية صوفية، والثانية وطنية منفية؛ لا تتعارضان، بل تتكاملان في بناء دلالي واحد متعدِّد الطبقات

القراءة العرفانية:

تُفهم الصورة الشعرية هنا في ضوء تجربة العاشق الصوفي: المحبوب يتجلى كمطلق روحي، والشوق يتحول إلى مسلك نحو الفناء والتجلّي. استدعاء القشيري في مستهل الرباعية يعطي لهذا الخطّ أساسًا مفاهيميًا: كلما ازداد اتساع المحبة ازدادُ الاهتياجُ القلبيّ. في هذا الإطار يُقرأ التيه فناءً، والردى فداءً، والاسم فعلَ ذكرٍ يخلق اضطرابًا روحيًا لدى السالك

«التعدّديةُ التأويليةُ في الرباعية لا تُفضي إلى تشتّتٍ، بل تتحوّل إلى انسجامٍ إنتاجيٍّ للمعنى.»

القراءة الوطنية المنفية:

تقرأ الرباعية بوصفها خطابَ حنينٍ إلى الوطن في حالة الغربة؛ المحبوب هنا رمزٌ للوطن، والغيابُ دلالةُ منفى وتجربة. يتحوّل الشوق إلى لحنٍ وجدانيٍّ يعيدُ إنتاج الوطن داخليًّا؛ التضحية هنا سياسية ورُمزية: الاستعداد للفناء من أجل الوطن هو تجلٍّ لالتزام وجداني يتجاوز المطالبة الإقليمية إلى استعادة منظومة الانتماء والذاكرة.

التقاطع والتكامل:

المنهج الأنسب لعرض هاتين القراءتين هو عرضهما بالتوازي مع إبراز نقاط التلاقي (التضحية، الفناء، قوة الاسم) والاختلاف في المراد (المطلق الروحي مقابل المكان/الهوية). هذه الثنائية التأويلية تجعل الرباعية نصًّا قابلًا للقراءات المتعددة دون أن تُنهك ثباته البنيوي؛ بل إنّها تمنحه ثراءً دلاليًا قائماً على قابلية العلامة للاشتغال في سياقاتٍ معرفيةٍ متباينة.

الخاتمة

تُبيّن قراءةُ هذه الرباعية على مستوياتها المختلفة أن الشعر قادرٌ على تحويل الغياب إلى حضورٍ فاعل، وعلى تحويل التوتر الداخلي إلى منطقٍ دلاليٍّ مُنتج. عبر تحليلٍ تأويليٍّ وسيميائيٍّ وبنائيٍّ ونفسيٍّ، اتضح أن النص لا يقدّم تجربةً وجدانيةً منعزلةً بل يشيّد فضاءً للالتقاء بين العرفاني والوطني: حيث يصبح الشوق مسلكًا نحو الفناء والتجلّي، وفي الوقت نفسه لحنًا لحضورٍ وطنيٍّ مكثّفٍ في ذاكرة المنفى.

الرباعية — بما فيها من استعارةٍ وإزاحةٍ ودلالةٍ — تذكّرنا بأنَّ المعنى في الشعر يُنتَج عبر التوتر بين الكلام والصمت، بين ما يُقال وما يُحجب؛ وأنّ القارئ يشاركُ فعالًا في عملية البناء التأويلي. لذا، فإن هذه القصيدة تُمثّل تجربةً تأويليةً مفتوحةً، تجعل من الشوق مكابدةً وطقسًا، ومن الغياب حضورًا أقوى من الظهور نفسه.

***

سهيل الزهاوي

........................... 

1- القشيري، أبي القاسم؛ الرسالة في علم التصوف، تحقيق: خليل منصور، دار الكتب العلمية- بيروت لبنان، سنة: [2001]، ص 307- 360

2- ادور سعيد، تأملات حول المنفى، ترجمة ثائر سعيد، دار آداب، طبعة الثانية 2007، ص: 117

قراءة «المحبوب» (وطن/إله/حبيبة)

للشاعرة د. بشرى البستاني

 الملخص: تُقدِّم هذه الدراسة قراءة سيميولوجية متعمقة لقصيدة "أنثى الرمّان وآلهة الطوفان" للشاعرة والأكاديمية د. بشرى البستاني، لا بوصفها نصًّا عاطفيًّا، بل كبنية دلالية متكاملة تُعيد تشكيل الهوية الأنثوية ضمن شبكة رمزية معقدة. من خلال منهج تحليلي تفكيكي جندري، نُظهر كيف تتحول الأهواء كالوجع، الرغبة، الخوف، الصمت، والانكسار من انفعالات ذاتية إلى علامات سيميائية فاعلة تُنتج المعنى، وتُعيد تعريف اللغة، والجسد، والوجود. وتستند الدراسة إلى مرجعيات نظرية غربية (شيفري، باشلار، ريكور، كريستيفا، هيدجر، فوكو...) ومراجع عربية (الغذامي، أبو ديب، سعدون)، لتؤكد أن القصيدة ليست تعبيرًا عن الذات، بل مشروعًا تأسيسيًّا لإعادة بناء العالم من منظور أنثوي عراقي عميق الجذور. وهكذا، لا تُقرأ الأهواء هنا كمشاعر، بل كقوى تأويلية تُعيد تشكيل الكون من جديد.

الكلمات المفتاحية:

الهوية الأنثوية، السيميولوجيا العاطفية، شعر التفعيلة، زهرة الرمان، دجلة، الجسد الأنثوي، الأهواء، الخطاب الشعري، بشرى البستاني.

المقدمة:

الأهواء كعلامات لا كعواطف (نحو سيميولوجيا للانفعال الشعري)

في قصيدة "أنثى الرمّان وآلهة الطوفان"، لا تُقدَّم المشاعر الإنسانية كالوجع، الرغبة، الخوف، النشوة، الصمت، الانتشاء، الهلاك، الخيانة، التوق، الطمأنينة كحالات نفسية عابرة أو انفعالات ذاتية ربما تعكس واقعًا نفسيًا عليلًا، بل بصفتها علامات سيميولوجية مُنتجة للمعنى، تُشكّل بنية نصية متكاملة، وتُعيد تعريف الذات الأنثوية، والكون، واللغة، والوجود. إن تشكلات الأهواء هنا لا تعبر فقط عن تجليات عوامل المرأة الأنثى في فضاء الواقع، بل تُصبح أجنحة تُحلق بها نحو نور الحقيقة المخفية، نحو ما وراء الدلالة، نحو الكينونة التي لا تُقال، بل تُعاش.

إن هذه القصيدة ليست مجرد نص شعري، بل حدث لغوي وجودي، يضعنا أمام مشكلة مركزية: كيف تتحول العواطف من حالات داخلية إلى أنظمة دلالية؟ وكيف يصير الألم هوية، والصمت استراتيجية، والرغبة طقسًا، والكسرة فعلًا تأسيسيًا؟

يقول جان ماري شيفري في كتابه لماذا الخيال؟: "الانفعال ليس حالة داخلية تُعبَّر عنها، بل نظام دلالي يُبنى داخل النص، ويُنتج علاقاته الخاصة مع الرموز، البنية، والقارئ." (1)

وهذا بالضبط ما تفعله الشاعرة بشرى البستاني: هي لا تبوح، بل تُنشئ. لا تشكو، بل تُكوّن. لا تعبر، بل تُعيد تشكيل العالم من جديد عبر شبكة من العلامات العاطفية التي تتحول إلى بنى لغوية، رمزية، وجودية.

وفي هذا السياق، يمكننا القول مع غاستون باشلار إن: "الشعر لا يُعبّر عن الانفعال، بل يُصوغه. إنه لا يُفرّغ الوجد، بل يُركّب المعنى من خلاله." (2)

لكن عند بشرى البستاني، لا يقف الأمر عند "تركيب المعنى"، بل يتعداه إلى خلق عالم جديد، حيث

١- الرمان ليس ثمرة، بل كينونة.

٢- دجلة ليس نهرًا، بل آلهة طوفان.

٣- الصمت ليس غيابًا، بل حضور معرفي.

٤- الكسرة ليست خطأ لغويًا، بل اختيار دلالي عميق.

وهذا ما يجعل قصيدتها قريبة من مشروع جوليا كريستيفا، حين تتحدث عن "الكتابة الأنثوية" باعتبارها: "فضاءً رمزيًا يُعيد تشكيل اللغة من الداخل، ويُفكك الثنائية التقليدية بين الذكر والأنثى، والمعنى واللا معنى." (4)

لكن الشاعرة العراقية لا تقف عند التفكيك، بل تذهب إلى ما بعد ذلك: إلى البناء من جديد، إلى إعادة تدوير الأبجدية، إلى إعادة تعريف الخطيئة والميلاد، إلى جعل زهرة الرمان مركز الكون.

وهنا، نرى كيف تتلاقى التجربة الشعرية مع ما يطرحه رولان بارت في "نظام العلامات" حين يقول: "النص الشعري الحديث لا يُشير إلى العالم، بل يُنتجه. إنه لا يُقلّد الواقع، بل يُعيد تشكيله من خلال اللغة." (5)

ومن هنا، فإن قراءتنا لهذه القصيدة لا يمكن أن تكون تلقائية أو عاطفية، بل يجب أن تكون قراءة سيميولوجية دقيقة، تتعامل مع كل شكل من الأشكال التالية: الكلمة، الصوت، الإيقاع، الصورة البلاغية، البنية النحوية، كعلامة ضمن شبكة دلالية متشابكة.

وقد أكد بول ريكور في "الرمزية للشر" أن: "الفعل الشعري لا يبدأ بالتعبير، بل بالتأويل. الشاعر لا يقول ما يشعر به، بل يُفسّر شعوره ليُنتجه كشيء جديد." (3)

وهذا هو بالضبط ما يحدث في "أنثى الرمّان": الشاعرة لا تعبر عن الوجع، بل تُفسره كهوية. لا تعبر عن الرغبة، بل تُعيد تعريفها كقوة كونية. لا تعبر عن الخوف، بل تُفككه كبنية داخلية للخطاب العاطفي.

وهكذا، فإن الأهواء في هذا النص لا تُقرأ كمشاعر، بل كأنظمة تأويلية فاعلة، تُعيد تشكيل العلاقة بين:

- الذات والآخر.

ب- الأنثى والذكر.

ج- الجسد والروح.

د- اللغة والوجود.

ولذلك، فإن مهمتنا في هذا المبحث هي تفكيك خمسة أهواء مركزية، ليس كحالات نفسية، بل كبنى سيميولوجية متكاملة:

1. الوجع بوصفه هوية بلاغة الوجع المؤسس.

2. الرغبة كقوة رمزية/كونية تتجاوز الجسد إلى الكون.

3. الخوف كقناعٍ للحب والنجاة المعكوسة: هندسة داخلية للعلاقة.

4. الصمت والانكسار بوصفهما استراتيجيتين أنثويتين للمعرفة والحماية.

5. الخطيئة والميلاد / تقاطع المقدس والمدنّس في الجسد الأنثوي.

قراءة هذه الأهواء لا تتم إلا من خلال ما يسميه مارتن هيدجر بـ"التفكير الأصيل"، حين يقول: "الشعر ليس تزيينًا للواقع، بل طريقة وجودية في العالم. وهو وسيلة الكشف عن الحقيقة." (6)

وهذا ما نجده في القصيدة: الشعر ليس تزيينًا، بل كشفٌ وجودي، انفراجٌ روحي، خلاصٌ لا يأتي من الآخر، بل من الذات.

 "لا احتاج من يواسيني / مادامت المعجزة ملءَ دمي"

وهكذا، ندخل إلى قلب المشروع الشعري لبشرى البستاني: أن تُعيد تشكيل العالم من منظور أنثوي، لا كهامش، بل كمركز.

المحور الأول:

الوجع بوصفه هوية (بلاغة الوجع المؤسس)

 "يقتلع شجر الحلم، يُشعل حدائق الحكمة"

 "كسرتنا الكسرة في مخاض التشكيل"

 "زهرة الرمان ملاذي، فنائي، حشري"

في هذه المقاطع الثلاثة، لا يظهر الوجع كمفعول عليه، ولا كحالة طارئة تمرّ على الذات، بل يُعاد تأطيره كـ فعل داخلي جوهري، كجزء من تكوين الهوية الأنثوية. فالوجع هنا ليس شيئًا يُقصى أو يُشفى، بل يُمنح وظيفة إبداعية مركزية: فهو ما يربط بين التجربة الجمالية (الرمان/الحكمة) وبين التهشيم (الاقتلاع/الكسر)، وهو ما يجعل المعنى واللغة والجمال يولدان من رحم الدمار.

هذا الوجع ليس انفعالاً عابراً، بل بنية تكوينية، تنتمي إلى ما يمكن أن نسميه بلاغة الوجع المؤسس ؛ أي تلك البلاغة التي لا تعبر عن الألم، بل تُنتجه كمكوّن أساسي في بناء الذات.

يقول غاستون باشلار في، "جماليات المكان": "الألم في الشعر ليس انفعالًا بل مادة بناء يُعاد تشكيله ليُنتج جمالًا من نوع جديد: جمال الجرح، جمال السقوط، جمال التمزق. إن الشاعر لا يتألم ليكتب، بل يكتب ليُعيد تشكيل ألمه كشيء جمالي." (2)

وهذا هو بالضبط ما يحدث في قصيدة "أنثى الرمّان": الشاعرة لا تحكي عن وجعها، بل تبني من خلاله عالمًا شعريًا متكاملًا، حيث يصبح الاقتلاع مصدرًا للحلم، وحيث تتحول الحدائق المشتعلة إلى محراب للحكمة.

 "يقتلع شجر الحلم، يُشعل حدائق الحكمة"

جملتان متوازيتان في البنية، لكنهما متعاكستان في الدلالة:

 الاقتلاع = تدمير.

الإشتعال = تجديد.

لكن في النسق الشعري، لا يكون الإشتعال مدمرًا، بل تطهيريًا، كما في الأديان الوثنية القديمة، حيث النار لا تُهلك، بل تُنقّي.

وهنا، نجد تشابهًا واضحًا مع ما يذهب إليه فريدريك نيتشه في ماقاله زارا Thus Spoke Zarathustra: "ما لا يقتلك يجعلك أقوى." ولكن عند بشرى البستاني، لا يكفي أن تنجو من الألم، بل يجب أن تُعيد تشكيل ذاتك من خلاله.

إن هذا التحوّل من "الوجع كمعاناة" إلى "الوجع كهوية" هو ما يجعل القصيدة نصًا وجوديًا، وليس مجرد شكاية عاطفية.

يؤكد بول ريكور في "الرمزية للشر" أن: "الألم لا يُفهم إلا عندما يُدمج في سيرة الذات، فيصير جزءًا من هويتها، لا طارئًا عليها. حينها، لا يُسأل 'لماذا أتألم؟'، بل 'كيف أُبنى من خلال ألمي؟'." (3)

وهذا هو بالضبط ما تقوم به الشاعرة:

 هي لا تسأل "لماذا أتألم؟"،

 بل تجيب: "لأنني أُخلق من جديد".

 "كسرتنا الكسرة في مخاض التشكيل"

جملة قصيرة، لكنها حاملة لطبقة دلالية عميقة. فالكسرة هنا ليست خطأ لغويًا أو ضعفًا في التركيب، بل هي فعل دلالي عميق، يشير إلى أن الانكسار هو شرط التشكل.

الكسرة، كحرف لغوي، تمثل الضعف الظاهري، لكنها في هذا السياق، تُصبح رمزًا للقوة الخفية. فهي لا تكسر الكلمة فقط، بل تفتحها على معانٍ جديدة، وتُسقط سلطة الفتحة التي كانت تُعبّر عن اليقين والعلو.

وهنا، يمكننا الاستعانة بما يطرحه كمال أبو ديب في دراساته "حول اللغة والجسد" حين يقول: "في الكتابة الأنثوية الحديثة، لا تكون اللغة أداة تعبير، بل موقع صراع. والكسرة تصبح فعل مقاومة ضد هيمنة الصوت الذكوري في البنية اللغوية." (11)

وفي هذا السياق، فإن "الكسرة" في القصيدة ليست مجرد اختيار لغوي، بل فعل تفكيكي، يُعيد توزيع السلطة داخل النص، ويجعل من الهشاشة مصدرًا للحركة.

 "زهرة الرمان ملاذي، فنائي، حشري"

هذه الجملة الثلاثية هي ذروة التحوّل: الرمان لم يعد ثمرة، بل كيانًا وجوديًا يحمل ثلاث وظائف:

- ملاذ: مكان للحماية.

- فناء: حالة للاندثار.

- حشر: يوم القيامة، يوم الجمع.

وهنا، نرى كيف يتحول الرمان إلى رمز كوني، يجمع بين الحياة والموت، بين الجمال والدم، بين الحب والخطيئة.

يقول سعيد سعدون في "الكتابة الأنثوية في الأدب العربي المعاصر": "الجسد الأنثوي في الشعر الحديث لا يُقدّم كمكان للرغبة، بل كفضاء رمزي متكامل، يحمل تاريخ الأسطورة، وذاكرة الجسد، ومشروع الخلاص." (14)

والرمان هنا هو هذا الجسد: ليس جسدًا بيولوجيًا، بل جسدًا رمزيًا، يحمل في بذوره كل ما فقدته الإنسانية، وكل ما يمكن أن تُعيد اكتشافه.

ومن هنا، فإن الوجع في القصيدة لا يُبكى عليه، ولا يُندب، بل يُحتفى به كشرط للخلق.

إنه وجد مؤسس، مثل مخاض الولادة، مثل اقتلاع الشجرة قبل زرعها من جديد، مثل إشعال النار قبل ظهور النور.

المحور الثاني:

 الرغبة كقوة رمزية-كونية (تتجاوز الجسد إلى الكون)

 "جاء دورك كي تعتنق عقيدة زهر الرمان"

 "خالصة من عناد الدم ومكابرة الوجد"

 "فاتحة ذراعيها لأفقٍ يصل الأرضَ بسماءٍ عاشرة"

في بنية هذه القصيدة، لا تُقدَّم الرغبة بوصفها توقًا جسديًا محضًا، ولا شهوة حسية تقليدية، بل كطاقة رمزية كونية تنبع من الداخل الأنثوي، وتُعاد توزيعها على الكون، واللغة، والأبجدية، والطوفان، والنار. فالرغبة هنا ليست طلبًا، بل مشروعًا وجوديًا، لا يطلب الآخر، بل يُعيد تشكيل العالم حول الذات.

الشاعرة لا تقول:

 "أريدك"،

بل تقول: "اعتِنْ بعقيدة زهر الرمان".

وهذا التحوّل من "الطلب" إلى "العقيدة" هو ما يجعل الرغبة في هذا النص ظاهرة فلسفية وروحية، لا مجرد انفعال عابر.

تقول جوليا كريستيفا في" ثورة الشعرية": "الرغبة الأنثوية لا تطلب الآخر، بل تُعيد تشكيل الكون من حوله لتُصبح مركزًا لا هامشًا. وهي لا تبحث عن اكتمالها فيه، بل تُقرره منه." (4)

وهذا بالضبط ما يحدث في القصيدة: الأنثى لا تنتظر الآخر ليكملها، بل تُنادي العالم إلى مرجعيتها الحسية-المعرفية. فالرمان لم يعد ثمرة، بل معتقدًا متجددًا، وهو ليس غذاءً للجسد، بل غذاءً للروح، وصلاة يومية، وعهدًا وجوديًا.

 "جاء دورك كي تعتنق عقيدة زهر الرمان"

جملة تشبه إعلانًا دينيًا، أو وصية ميتافيزيقية. فهي لا تدعو إلى الحب، بل إلى الاعتناق الروحي لرمز أنثوي مركزي. وهنا، نرى كيف تنتقل الرغبة من المستوى البيولوجي إلى المستوى الطقوسي.

وفي قولها:

 "لا وصية تهديها إليه غير الدخول في زهرة رمان"

نجد كيف تتحوّل الرغبة إلى شفرة شعرية تشترط التماهي الكلي مع المعنى الأنثوي حتى تتحقق المعرفة والنجاة.

هذه الرغبة ليست رغبة تقليدية، بل هي:

أ- رغبة هيدجرية: تُنتج الوجود.

ب- رغبة صوفية: تُبقي النار مشتعلة لا للخراب، بل للانبعاث.

يقول مارتن هيدجر في "الكينونة والزمان": "الرغبة ليست نقصًا، بل طريقة الوجود في العالم، طريقة إعادة تشكيل الذات والعالم معًا. إن الشاعر لا يرغب لأن شيئًا ينقصه، بل لأنه يريد أن يُظهر ما كان خفيًا." (6)

وهذا هو بالضبط ما تقوم به الشاعرة: هي لا تشعر بنقص، بل تُعلن عن وجودها الكامل، وتدعو الآخر إلى الدخول في كينونتها، لا كمتلقٍ، بل كمشارك في الخلق.

 "فاتحة ذراعيها لأفقٍ يصل الأرضَ بسماءٍ عاشرة"

الرقم "عشرة" ليس اختيارًا عرضيًا، بل هو إشارة إلى تجاوز النظام السماوي التقليدي (السبع سماوات)، إلى عالم موازٍ، إلى فضاء رمزي لا يخضع لله ierarchies الدينية أو الجندرية القائمة.

وهنا، نجد تشابهًا مع ما يطرحه ميخائيل باختين في نظريته عن -الفضاء المطلق-: "المرأة في الخطاب الشعري الحديث لا تفتح ذراعيها نحو السماء، بل تخلق سماء جديدة. وهي لا تتبع الفضاءات الموجودة، بل تُعيد تعريف الأفق." (15)

فالأنثى في القصيدة لا ترفع يديها دعاءً، بل تفتح أفقًا جديدًا، وتشكل نظامًا كونيًا بديلًا، حيث تكون هي مركز الجاذبية.

وهكذا، فإن الرغبة في هذا النص:

- لا تُستجدى.

- لا تُستجَد.

- لا تُبادل.

بل هي شرط وجودي، مثل الهواء، مثل الضوء، مثل اللغة.

يذهب عبد الله الغذامي في "الثقافة والرمز" إلى أن: "الكتابة الأنثوية في السياق العربي الحديث لا تتحدث عن الحب، بل عن الخلق. والرغبة عندها ليست شهوة، بل فعل تأسيسي لإعادة تعريف العلاقات الإنسانية من جذورها." (12)

وهذا ما نجده في القصيدة: الرغبة لا تُطلب، ولا تُمنح، بل تُعلن عنها كحقيقة واقعة، مثل الطوفان، مثل النار، مثل دجلة.

 "خالصة من عناد الدم ومكابرة الوجد"

الدم والوجد رمزان تقليديان للعاطفة يتم استبعادهما هنا. (فالرغبة) لا تنبع من "عناد الدم" (الغرائز)،

ولا من "مكابرة الوجد" (العواطف المبالغ فيها)،

بل من مكان أعمق:

من (العقل الرمزي)،

 من (الرؤية الكونية)،

من (الهوية):

 التي تعي نفسها كمركز للوجود.

المحور الثالث:

 الخوف كقناعٍ للحب والنجاة المعكوسة (هندسة داخلية للخطاب العاطفي)

 "وكانت التهلكة معه هلاكاً طافحاً بالهلاك / رملاً متحركاً يأخذها لهاوية غاربة / وموتاً بلا موت"

> "التهلكة نجاةٌ معي إن دخلتِها فتحَتِ الحصونُ أبوابها / لكن/ كانت مذعوراً بلبلابٌ يلف عنقه"

في هذه المقاطع، لا يظهر الخوف في صورته البدائية كرهبة أو تقيّة أو ضعف أمام المجهول، بل يُعاد إنتاجه بوصفه هندسة داخلية للخطاب العاطفي، تكشف بنية العلاقة بين الأنا والآخر، وبين الأنثى والرجل، وبين الذات والمطلق. فالخوف هنا ليس انفعالًا سلبيًا، بل حركة بنيوية تُعيد توزيع السلطة داخل النص.

الشاعرة تصف "التهلكة" ليس كنهاية، بل كحالة متكررة، "طافحة بالهلاك"، وكأن الدمار نفسه أصبح نظامًا وجوديًا. و"الرمْل المتحرّك" لا يبتلع، بل يحمل نحو "هاوية غاربة"، أي هاوية لا تُرى، ولا تُدرك، بل تُعاش. و"الموت بلا موت" هو تعبير عن حالة توقف جوهرية: ليست الحياة، ولا الموت، بل سكون مؤلم في الفاصل بينهما.

وهذا ما يجعل القصيدة قريبة من مشروع جاك لاكان، حين يقول في ،"مقالات في التحليل النفسي"،: "الخوف في الخطاب الشعري غالبًا ما يكون قناعًا يخفي رغبة أعمق: رغبة في التماهي، في التسليم، في الانهيار المُنتج. فالذي يخشى من الآخر، في الحقيقة، يخشى من اكتماله دونه." (7)

وفي هذا السياق، فإن "التهلكة" ليست عقوبة، بل فرصة نجاة: "التهلكة نجاةٌ معي إن دخلتِها فتحَتِ الحصونُ أبوابها"

جملة تنقض الثنائية التقليدية

بين "التهلكة" و"النجاة"،

وتفكك البنية الأخلاقية التي تجعل من الخلاص شرطًا للبقاء. هنا، النجاة لا تأتي من الهروب من التهلكة، بل من الدخول الكامل فيها. وهذا يشبه ما يطرحه فريدريك نيتشه حول "الإرادة إلى القوة"، حيث لا يمكن الوصول إلى العظمة إلا عبر التدمير الذاتي.

لكن المفارقة الكبرى تأتي في السطر التالي:

 "لكن/ كانت مذعوراً بلبلابٌ يلف عنقه"

الرجل، الذي كان يُفترض فيه أنه مصدر القوة، يصبح هو المذعور. واللبلاب، الذي يُعدّ رمزًا للحياة، يتحول إلى خنقة حول عنقه.

هذه الصورة الرمزية العميقة تكشف أن الخوف ليس خوف المرأة من الرجل، بل خوف الرجل من حرية المرأة، من استقلالها الوجودي، من قدرتها على الخلاص من خلال التهلكة.

يذهب إدوارد سعيد في "الثقافة والإمبريالية" إلى أن: "الخوف من الأنثى في الخطاب الاستعماري ليس خوفًا من جسدها، بل من قدرتها على تفكيك النظام وإعادة تشكيل العالم. فالمرأة الحرة تعني نهاية الهيمنة الذكورية، وبالتالي نهاية النظام نفسه." (8)

وهذا هو بالضبط ما يحدث في النص: الرجل لا يخشى من موت المرأة، بل يخشى من حياتها المستقلة، من خلاصها الذي لا يحتاج إليه، من نجاتها التي تتحقق عبر الدخول في زهرة الرمان:

أي في عالمها الخاص.

 "كانت مذعوراً بلبلابٌ يلف عنقه"

اللبلاب هنا ليس مجرد نبات، بل رمز للارتباط القاتل، للارتهان العاطفي، للهيمنة الناعمة التي تُمارس باسم الحب.

وقد أشار عبد الله الغذامي في، "الذاكرة الثقافية"، إلى أن: "في الخطاب الشعري العربي الحديث، يتحول الحب أحيانًا إلى شبكة من العلاقات المقلوبة: حيث يدّعي الرجل الحماية، وهو في الحقيقة محبوس. ويبدو أنه يملك، وهو في الحقيقة أسير." (13)

وهكذا، فإن الخوف في هذا النص ليس انفعالًا، بل علامة على عجز الذكورة أمام مطلق الأنثى. إنه قناع للحب الناقص، وعلامة على فقدان القدرة على احتضان الرغبة الكبرى التي تُجسدها المرأة/زهرة الرمان.

فالرجل لا يستطيع أن "يدخل في زهرة رمان"، لأنه لا يفهم أن الخلاص لا يأتي من القوة، بل من التواضع أمام الكينونة الأنثوية.

المحور الرابع:

 الصمت والانكسار (استراتيجيتان أنثويتان للمعرفة والحماية)

 "تقول / وهو في الطفولة ... تصمت، / كي تظل محفوفة بملائكة العرش"

 "لم تقل له: إنه لم يكن وطنًا لأمنه... ولذلك لم تصدق"

في بنية قصيدة "أنثى الرمّان وآلهة "، لا يُمثّل الصمت غيابًا، ولا عجزًا لغويًا أو نفسيًا، بل حضورًا عميقًا يتجاوز الفعل اللفظي، ويؤسّس لبُعد سيميائي مغاير. فالأنثى هنا لا تصمت لأنها عاجزة عن الكلام، بل لأنها تملك المعرفة الكاملة، وتمنحها فقط لمن يُتقن الإصغاء بباطنه.

الصمت، في هذا السياق، هو طقسٌ معرفي روحي، يحمي الذات من اختراق دنيوي للمقدّس، ويُعيد تعريف السلطة الأنثوية كـ صمت فاعل، لا خضوع سلبي.

يقول ميشيل فوكو في، "تأويل الذات": "الصمت في النصوص الحديثة ليس غيابًا، بل حضور استراتيجي؛ حضور يُعيد تعريف السلطة من خلال ما لا يُقال. إن القول 'لا أتكلم' قد يكون أقوى من أي خطاب." (9)

وهذا هو بالضبط ما تقوم به الشاعرة: هي لا ترفض الحديث، بل تختار التكتم كوسيلة للحفاظ على حرمة التجربة، وكطريقة لضبط التوازن بين الحقيقة والخذلان.

 "تصمت، / كي تظل محفوفة بملائكة العرش"

الصمت هنا ليس انعزالاً، بل حالة اتصال أعلى، اتصال بالسماء، بالروح، بالسرّ الذي لا يُشارك.

وقد أشار كمال أبو ديب في "الشعر الحديث: البنية والدلالة" إلى أن: "في الكتابة الأنثوية العربية المعاصرة، يصبح الصمت فعل مقاومة ضد هيمنة الخطاب الذكوري الذي يفرض نفسه بالصوت العالي. والأنثى لا تنطق إلا عندما تدرك أن صوتها لن يُحوّل إلى شعار أو أداة توظيف." (11)

وفي موقع آخر:

 "لم تقل له: إنه لم يكن وطنًا لأمنه... ولذلك لم تصدق"

الصمت هنا يصبح شكلاً من المقاومة المعرفية، طريقة لرفض الاعتراف بالسلطة الزائفة، ولضبط العلاقة مع الآخر من دون أن تفقد السيطرة على ذاتها.

المرأة لا تكذب، ولا تصرخ، ولا تندفع في الحوار، بل تلتزم الصمت، ليس استسلامًا، بل حكمة وجودية.

أما الانكسار: الذي يتجلى في مفردات مثل "الكسرة"، "الكسر"، "لا ضمّة تؤوينا" ؛ فهو ليس ضعفًا لغويًا أو شعوريًا، بل هو الجزء الجارّ من البنية:

أ- الكسرة تجرّ الألم.

ب- تُحيل المعنى إلى الداخل.

ج- وتُسقط السلطة التي كانت تستند إلى الفتح والعلو.

 "تصطرع بين فتح الكاف وكسرها / والكسرُ أقوى / فقد جرّ الأملَ والألمَ وما حولهما"

هذه الثلاثية الشعرية تمثل لحظة تحوّل جوهرية في بنية اللغة والهوية معًا. فالصراع ليس بين كلمتين، بل بين نظامين:

١- نظام الفتح: اليقين، الهيمنة، العلو.

٢- نظام الكسر: التساؤل، التواضع، الغوص.

والكسرة، رغم ظاهرها الضعيف، تنتصر: "والكسرُ أقوى" لأنها لا تُخفي، بل تُظهر، وتُعمق، وتُحدث.

تذهب جوليا كريستيفا في "ثورة الشعرية" إلى أن: "الانكسار في الكتابة الأنثوية ليس ضعفًا، بل قوة، لأنه يُعيد تشكيل اللغة من داخلها عبر الكسر، التمزق، التشتت. والكتابة لا تبدأ حيث تنتهي اللغة، بل حيث تنهار." (4)

وهنا، تتحول الكسرة إلى حرف سيميولوجي فاعل، يرمز إلى الجرح، والإرغام، والانكسار المُبدع. إنها ليست علامة على الخلل، بل على الحركة الداخلية، على الدفع نحو التشكل.

وقد أشار سعيد سعدون في "الكتابة الأنثوية" إلى أن: "الأنثى في النص الشعري المعاصر لا تُبنى من خلال التماسك، بل من خلال الشقوق. وهي لا تُعلن عن نفسها من خلال الوحدة، بل من خلال التصدع. فالانكسار عندها ليس نهاية، بل بداية." (14)

وهكذا، فإن الصمت والانكسار، في هذا النص، هما وجهان لاستراتيجية أنثوية عليا:

- لا تقف على باب الرجاء.

- ولا تطلب الاعتراف.

 بل تبني المعنى من الداخل، من الكسور، ومن ما لا يُقال.

إنها استراتيجية القوة من خلال الضعف، مثل تقليد "الكنتسوغي" الياباني، الذي لا يُخفي الكسر، بل يُضيء عليه بالذهب، ليجعل من العيب جمالًا، ومن الشقّ تحفة.

المحور الخامس:

الخطيئة والميلاد (تقاطع المقدس والمدنّس في الجسد الأنثوي)

 "قالت له ذات عذاب: / سأذهب إلى الجنة بدونك..."

 "لا وصية تهديها إليه غير الدخول في زهرة رمان."

 "أنا مريمُ السرّ / ولهم الخطيئة"

في هذه المقاطع الثلاثة، لا يُقدَّم الجسد الأنثوي بوصفه وعاءً للرغبة فحسب، بل يُبنى بوصفه نقطة التقاء بين المتضادات: الخطيئة والميلاد، الطوفان والخلاص، العتمة والنور، الإثم والمعجزة. فالجسد هنا لم يعد مكانًا للخطيئة، كما في الخطاب اللاهوتي التقليدي، بل حارسًا للحقيقة، وممرًا نحو التجلّي.

الشاعرة تعلن بصوتٍ لا يحتمل التأويل:

 "سأذهب إلى الجنة بدونك..."

جملة تنقض الثنائية القائمة بين "الأنثى/الخطيئة" و"الذكر/النجاة"، وتُعيد توزيع المقدس:

- الأنثى هي الحاملة للمعجزة.

- الآخرون، خطؤهم ليس في الجسد، بل في الجهل بنوره.

وهذا ما يجعل قصيدتها قريبة من مشروع جورج باتاي، حين يقول في" الإيروسية": "الجسد الأنثوي في الشعر الحديث لا يُقدّم كخطيئة، وإنما كفضاء للمقدس، حيث يتقاطع الإثم مع النور، والدم مع القيامة. فالأنثى ليست مصدر الشر، بل مصدر الحياة التي لا يمكن فهمها إلا من خلال الموت." (10)

وفي قولها:

 "أنا مريمُ السرّ / ولهم الخطيئة"

تُعلن الشاعرة عن انقلاب رمزي كامل على التاريخ الثقافي والديني. فـ"مريم" لم تعد مجرد أم للمسيح، بل حاملة السرّ الكوني، صاحبة المعرفة الأولية، مركز الخلق.

وقد أشار عبد الله الغذامي في "الثقافة والرمز" إلى أن: "في الكتابة الأنثوية العربية المعاصرة، تُعاد توظيف شخصيات دينية نسائية (مريم، حواء، ليلى) ليس كضحايا، بل كقائدات لمشروع معرفي جديد. والأنثى لم تعد رمزًا للسقوط، بل للصعود." (12)

وزهرة الرمان، في هذا السياق، تتحوّل إلى محراب، لا مجرد استعارة حسية. إنها فضاء طقوسي يُعاد فيه تعريف العلاقة بين الجسد، الروح، المقدس، والمدنّس.

 "لا وصية تهديها إليه غير الدخول في زهرة رمان."

الدخول في زهرة الرمان ليس فعلًا جنسيًا، بل طقسًا معرفيًا، شرطًا للنجاة، وسيلة الوصول إلى المعنى.

وهنا، نرى كيف تتلاقى التجربة الشعرية مع ما يطرحه مارتن هيدجر حول "الوجود الأصيل"، حين يقول: "الإنسان لا يصل إلى الحقيقة من خلال الفهم العقلي، بل من خلال الانغماس الوجودي في الكينونة. الدخول في الشيء هو الطريقة الوحيدة لفهمه." (6)

فالدخول في زهرة الرمان هو انغماس وجودي، ليس في الجسد، بل في المعنى الذي يحمله الجسد.

وهكذا، تتقاطع الخطيئة مع الميلاد، كما تتقاطع زهرة الرمان في نكهة دمها:

 الخطيئة هنا = وعي سابق للنظام.

 الميلاد = لغة تعيد تشكيل العالم وفق إيقاع الأنثى.

يقول سعيد سعدون في "الكتابة الأنثوية": "الأنثى في النص الشعري المعاصر لا تُولد من دون خطيئة، لأن الخطيئة هي شرط المعرفة. وهي لا تُخلص من الخطيئة، بل تُخلص من خلالها." (14)

والقصيدة تصل إلى الذروة في قوله:

 "لا احتاج من يواسيني / مادامت المعجزة ملءَ دمي / وفي دمه وعلى شفتيه بلابل تحتضر"

الخلاص ليس بالآخر، بل من خلال الذات / ذات تعرف أنها مذنبة بالنور، وتُولد من الخطأ إلى الفهم، ومن العتمة إلى شعرية المعرفة.

الدم هنا ليس دم عقاب، بل دم خلق. والبلابل على الشفاه ليست حيوانات، بل رموز للروح التي تصارع الموت.

الخاتمة:

 الأهواء بوصفها نظامًا تأويليًا وفاعلية شعرية أنثوية

في "أنثى الرمّان وآلهة الطوفان"، لا تُقدَّم الأهواء بوصفها مشاعر سطحية أو انفعالات لحظية، بل بوصفها قوى سيميولوجية تُعيد تشكيل اللغة، وتفكك السلطة، وتؤسّس لذات أنثوية كونية تمتلك اللغة، والخلق، والرؤية.

لقد رأينا عبر المحاور الخمسة أن:

أ- الوجع لا يُبكى عليه، بل يُبنى به. إنه بلاغة الوجع المؤسس، الذي يُنتج الجمال من رحم الدمار.

ب- الرغبة لا تُستجدى، بل تُستعاد كطقس للمعرفة. وهي لا تطلب، بل تُنادي العالم إلى مرجعيتها الحسية-المعرفية.

ج- الخوف لا يُدان، بل يُفكك كعلامة على عجز الآخر عن احتواء الكينونة. فالرجل يخشى خلاص المرأة، لا موتها.

د- الصمت والانكسار لا ينتميان إلى اللاكلام، بل إلى بلاغة مزدوجة من الحماية والفهم، وهما استراتيجيتان أنثويتان عليا تبنيان المعنى من الداخل.

ه- الخطيئة والميلاد لا يتعارضان، بل يشكلان قطبي الكينونة التي تعي أنها "مريم السرّ"، لا موضوع الفقد.

الشاعرة، وهي بروفيسورة في النقد الحديث، لا تكتفي بإعادة كتابة الأنثى، بل تُعيد تدوير الأبجدية، والانفعال، والطوفان، والرمز، والأسطورة ضمن شبكة شعرية سيميائية متقنة، تُصبح فيها الأهواء تجربة جمالية، تأويلية، ومعرفية في آنٍ.

هذه القصيدة لا تُقرأ، بل تُحلّ كما تُحلّ الشفرات، وتُطاف بها كما يُطاف بالرموز الكبرى، وفي قلبها: زهرة الرمان / الكلمة الأولى/ الميلاد الأخير/ المجاز الذي لا ينضب.

***

د. سعد محمد مهدي غلام

....................

قائمة المراجع:

1. شيفري، جان ماري، لماذا الخيال؟، ترجمة: عبد الله الغذامي، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2005، ص 145.

2. باشلار، غاستون، جماليات المكان، ترجمة: جورج طعمة، بيروت: دار التنوير، 1990، ص 88.

3. ريكور، بول، الرمزية للشر، ترجمة: طه عبد الرحمن، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1996، ص 212.

4. كريستيفا، جوليا، ثورة الشعرية، ترجمة: محمد برادة، بيروت: دار التنوير، 1985، ص 95 و203.

5. بارت، رولان، نظام العلامات، ترجمة: محمد الجراح، بيروت: منشورات عويدات، 1981، ص 77.

6. هيدجر، مارتن، الكينونة والزمان، ترجمة: توفيق الطويل، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987، ص 145.

7. لاكان، جاك، مقالات في التحليل النفسي، ترجمة: نبيل صبري، القاهرة: دار الشروق، 2003، ص 188.

8. سعيد، إدوارد، الثقافة والإمبريالية، ترجمة: كمال أبو ديب، بيروت: دار الآداب، 1998، ص 188.

9. فوكو، ميشيل، تأويل الذات، ترجمة: يوسف زيدان، القاهرة: دار الشروق، 2005، ص 112.

10. باتاي، جورج، الإيروسية، ترجمة: عبد الله الغذامي، بيروت: دار الساقي، 2000، ص 66.

11. أبو ديب، كمال، الشعر الحديث: البنية والدلالة، دمشق: دار الفكر، 1995.

12. الغذامي، عبد الله، الثقافة والرمز، بيروت: دار الثقافة، 2003.

13. الغذامي، عبد الله، الذاكرة الثقافية، بيروت: دار التنوير، 2001.

14. سعدون، سعيد، الكتابة الأنثوية في الأدب العربي المعاصر، بيروت: دار الثقافة، 2005.

15. باختين، ميخائيل، الشعرية الرومانسية، ترجمة: نبيل الصغير، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1992.

 

اللّون لغةً: ورد معنى اللّون في معجم لسان العرب أنّه هَيْئةٌ كالسّواد، والحُمْرةِ، ونقول: لَوَّنْتُهُ فتلوّنَ، ولَونُ كُلِّ شيءٍ ما فَصَلَ بينه وبين غيرِه، والجمع “ألوان”، وقد تَلَوّنَ، ولَوَّنَ، ولَوَّنَهُ، والألوانُ الضُّروبُ، واللّون النّوعُ، وفُلانٌ مُتَلَوِّنٌ إذا كان لا يَثْبُتُ على خُلُقٍ واحدٍ، واللّون “الدَّقْلُ”، وهو نوعٌ مِنَ النّخْلِ.

أما اللّون اصطلاحًا في مجال الأدب:

لقد حدد طبيعته ودلالاته النّقّاد العرب القُدامى والمحدثين مثل:

(الجاحظ (255ه/868م) الذي يرى "أنَّ الشّعْرَ صناعةٌ، وضَرْبٌ من النّسيج، وجنْسٌ من التّصوير". ومِثْله ابن طباطبا (322ه/934م)، الذي درس العلائق بين الفنون، فعنده "إنّ الشّاعر الحاذق كالنّسّاج الحاذق الذي يصنع الأصباغ في أحْسَنِ تقاسيم نقشه، ويُشْبِعُ كلّ صِبْغٍ منها حتى يتضاعَفَ حُسْنُه في العيان.". أمّا عبد القاهر الجرجاني (471ه/1078م)، فذكر العلاقة بين الشّعر والرّسم، قالاً: "وإنّما سبيل هذه المعاني سبيل الأصباغ التي تعمل معها الصّور والنّقوش، فأكّدَ بذلك التّقارب بين صِفِةِ الأديب المبدعِ والرّسّام، فكلاهما يقدّم عملًا حِسَّيًا. ولعلّ حازم القرطاجني (684ه/1284م) أشار بعده بِقَرْنَين إلى هذه العلاقة، فقال عن المحاكاة: "إنَّ المحاكاة كالمسموعات تجري من السّمْعِ مجرى الملوّنات من البصر”). (1).

الدلالات المجازيّة للّون في الأدب:

بداية دعونا نقف عند مسألة هامة بالنسبة للنظر في مسألة اللّون عند كل من الأديب والفنان التشكيلي.، فهناك فرق بين نظرة الفنان التشكيلي إلى اللّون وطريقة موضعته في اللوحة الفنية التشكيليّة، أو بالنسبة لتشكيله وطريقة موضعته عند الأديب في النص الأدبي شعراً أو نثراُ.

فالفنان التشكيلي يتعامل مع اللّون عبر إحساساته الملموسة للّون وشكله وطريقة توظيفه. فبالنسبة لشكل اللون عنده يأتي بصريّا، فهناك اللون الأبيض والأسود والأحمر والأخضر والأصفر وما يعرف من بقية الألوان الأخرى واشتقاقاتها أو تناسلها عبر عملية مزج الألوان مع بعضها، كما أن للون عند الفنان التشكيلي أيضاً سمات وخصائص محددة، ومن حيث خائص اللّون هناك الغامق والفاتح، والحار والبارد والدافئ. وللّون وظيفته وطريقة التعبير عنه وفقاً لشعور الفنان وعمق إحساسه وعمق تجربته والمدرسة الفنيّة التي يتكئ عليها، وكذلك وفقاً لاهتماماته الماديّة والروحيّة معا.

أما في الأدب: فاللّون صيغته الحسيّة الماديّة في الأدب، وله دلالاته عند الأديب والمتلقي معاً. فلو تتبعنا الأدب الجاهلي على سبيل المثال، لرأينا أن اللون حاضر فيه بكل أشكاله، وقد أخذ مساحةً كبيرةً من اهتمام الشعراء، إذ استمدوا موضوعاتهم اللّونيّة من البيئة، وبدا تأثير اللّون واضحا في وجدانهم، فتجلت نصوصهم ملونةً بما تطبعه عليهم الأحاسيس وهم يحاكون الواقع، ومن ذلك قول الشّاعر يصف بكاء الخنساء بقوله:

لما رأتْ عَزمي بكتْ فتورّدتْ

بيضُ الدّموع بخدها المتوردِ

*

تنهل وهي لآلئ وتعــود في

توريد خديها كَلون العسجــدِ

لقد وظف الشاعر لفظة «العسجد»، والعسجد معدن ثمين أصفر اللّون ساطع، تصنع منه الزينة والحلي، وقد وصف الشاعر به خد المرأة لمعاناً وحرارةً بصياغة لافتة للانتباه ودليلاً على الحيويّة والنشاط.(2).

سمات وخصائص ودلالات اللّونين الأسود والأبيض في الأدب:

إن مسألة اللّون عند الأديب، شاعراً كان أوقاصاً أو روائيّاً، نجدها هنا في حالة أو صيغة معنويّة أو بيانيّة، تتخذ من المفردات دلالات تشير في مضمونها إلى لونيين أساسيين في بنية النص، هما الأبيض والأسود. ولكنهما لا يحملان سمات وخصائص اللّون عند الفنان التشكيلي. وإنما لهما سماتهما وخصائصهما ودلالاتهما الايحائيّة الخاصة تماماً كما أشرنا أعلاه.

فاللّون الأسود:

هو اللّون الذي لا يوجد فيه لون ولا ضوء، ويعادل الليل والظلام، ومن أهم خصائصه أنّه لون فيه الصمت والسكون وعدم الحركة. وبالتالي هو يرمز إلى الحزن والخوف والخمول وتقليل النشاط والخفاء والغموض والسرّ والموت والوحشة والقلق. كما أن بعضهم يراه لون الجريمة والسرقة والمأتم والحداد. ويستخدم الأديب للتعبير عن دلالاته في بنية نصه مفردات وعبارات وجمل تدل على القهر والحزن والألم والجوع والاستبداد والتشرد والضياع واللامعقول. فالثوب الأسود، يدلّ على الحزن والظلم واليأس. والعلم الأحمر يدل على الثورة من أجل الحريّة والعدالة، وقطعة القماش البيضاء التي ترفع في المعارك تدل الاستسلام، وفي موضع آخر تدل على السلام والمحبة والتسامح. وكذلك يستخدم الأديب اللّون الأسود تأثّراً بمجتمعه وبيئته، أو يستخدمه من أجل خصائصه النفسيّة والدينيّة وحتى السياسيّة وفقاً لحاجة الأديب له وظيفيّاً في بنية النص.

أما اللون الأبيض:

إن للّون الأبيض كيفيّة إيجابيّة مهيّجة، ومضيئة، ولطيفة ودقيقة، والأبيض من أهمّ ميزاته وأبرز معانيه الرمزيّة، الطهارة، والعصمة، والبراءة، والفرح والانتصار. فالأبيض يرمز إلی السّلام ونهاية الحرب، فلذلك راية السلام بيضاء، علامة التسليم، ومتاركة الحرب، والصداقة وحسن التفاهم. الأبيض لون تحبّه القلوب، لأنّه يبعث الأمل ويسبّب المحبّة والودّ والطهارة والبراءة والتفاؤل.

كما ويعدّ اللّون بعمومه فی الأدب أداةً أساسيّةً للتصوير، بحيث يرتبط توظيفه بالزمان والمكان واللغة والتراث، وكذلك بإبداع الأديب وذوقه الفنّي وحالته النفسيّة ودرجة تأثره بالواقع وحياة مجتمعه وعوامل أخرى.

العلاقة بين اللون ومستويات النص البنيويّة والبلاغيّة والتعبيريّة:

إن الأعمال الأدبيّة الشعريّة منها والنثريّة، تثبت أن استخدام الألوان فيها ليس من باب المصادفة، أو الاستخدام من أجل التزيين، بل توجد هناك صلة وطيدة بين اللّون ومستويات النص البنيويّة والبلاغيّة والتعبيريّة.

إنّ الألوان التي تعتبر انعكاساً للظواهر الواقعيّة في الصور الأدبيّة تشتمل تراثاً ثقافيّاً يحتوي على بنى ثقافيّة متعددة ذات أبعاد زمكانيّة، منها الأسطوريّة والحضاريّة، إضافة لما لها من دلالات لغويّة تتجاوز دور الألوان في بعدها المادي الذي يتجلى استخدامه في الفن التشكيلي كما بينا في موقع سابق، وإنما هي تحيل إلى المعاني الإيحائيّة، لأنّها من العناصر الحيّة في بنية النصّ.

إنّ معنى الألوان لدلاليّة/ الايحائيّة تتغير بناءً على حالة الشاعر النفسيّة والموقف الذي يتحدّث فيه، وعمق ثقافته وتجربته. فالأديب يستعين في صوره الشعريّة أو النثريّة باللّون على اعتباره عنصراً هاماً في بنية النص الأدبي بشكل عام والشعري منه بشكل خاص. فاللّون في بنية القصيدة يلعب دوراً هاماً في تكوين صورها الشعريّة وفنيتها وجماليتها التي تتجلى في التشابيه والاستعارات والكنايات. وهذا التوجه في استخدام اللّون وانعكاساته الفنيّة والجماليّة وحتى الوظيفيّة نجده عند الشعراء المعاصرين بشكل واضح، حيث راحوا يهتمون في استخدام الألوان ويعطونها عناية بالغة لما فيها من تنوع دلالي أيضاً. وممّا يجدر الانتباه هو أنّ اللّون يرتبط بالعالم الذي يخلقه الشاعر ويؤثر على شعريّته وخياله. كما برزت أهمية اللّون في الثّقافات الإنسانيّة منذ القدم، فكان الأساس للكثير من جوانب الحياة الإنسانيّة، في مختلف ميادينها، فقد عبّر الإنسان باللّون عن انفعاله وقيمه، ومشاعره تجاه الآخرين، فكسا الألوان حلية الدلالة، وجعلها رموزاً متنوعةً لآماله وخيباته، وأفراحه وأحزانه، وفي نصره وهزيمته، حياته وموته، ظلامه ونوره، رحمته وقسوته.

اللون في الأدب القديم

يقوم الأدب القديم على في مستويين هما:

المستوى الأول:

وفيه تم تناول شكل اللون ذاته، وتقديم وصف له عند الظاهرة الموصوفة كما بينا في موقع سابق.

كقول الشاعر "عمر بن كلثوم" في وصف المرأة

على آثارنا بيضٌ حسانٌ

 نحاذرُ أن تقسمَ أو تهونَ

والمستوى الثاني الموضوعيّ:

وفيه يتم تأكيد الفضائل والمُثُل في الممدوحِين، أو تأكيد صفات القبح والرذيلة في المذمومين على سبيل المثال لا الحصر هنا، أو يتمثل في رسم صورة جماليّة للمرأة مثلاً من خلال إبراز محاسنها، وألوان الزّينة التي كانت تتزيّن بها. وعندما يصف الشاعر العربي القديم ممدوحة بالبياض مثلاً فإنه ينوه عن أن ممدوحه كريم. أو يصفهم بالبياض لنقائهم من العيوب لأن البياض نقيا من الوسخ . قال "زهير بن أبي سلمى" في مدح "حصن بن حذيفة" :

وأبيض فياض يداه غمامة

على معتفيه ما تغبّ فواضله

اللّون في الشعر العربي الحديث والمعاصر:

في الشعر العربي الحديث والمعاصر، يعد اللون عنصراً أساسيّاً لبناء الصورة الشعريّة، وإضفاء القيمة الفنيّة عليها، حيث يمنح الشاعر إمكانيّة التعبير عن المشاعر والأفكار بعمق أكبر، ويستخدم كرمز يحمل دلالات متنوعة قد تتداخل مع مفاهيم مثل الحياة، الموت، الفرح، الحزن، أو القوة والعزة، مما يغني النص الشعري ويجعله أكثر حيويّة وإيحاءً.

فهذا الشاعر "محمد عفيفي مطر" يستخدم مثلاً اللّوف الفضّي ويحمّله بعداً نفسيّا متمثّلاً في المعاناة والفقدان:

رأيتها تفتح في السّماء

نافذة فضّيّة

رأيت في بسمتها فراشة الدّمع

وزهرة الألم.

لقد أصبح للون جمالياته التي دفعت النقاد إلى وضع البحوث والدراسات التي تُبيّن فاعليّته، ودلالاته الجماليّة من خلال السّياق الشّعريّ، لأنّه وحده الأكثر قدرة على إظهار دلالات اللّون، ولأنّ اللّون لم يكُنْ ظاهرةً بصريّةً فحسب، وإنّما تجاوز ذلك إلى دلالةٍ جماليّةٍ وذهنيّة ونفسيّة ووجدانيّة أو اجتماعيّةً، أو ميثولوجيّه يكتسبها النّصّ الشّعري، وقد ارتبطت هذه الألوان بمجالاتٍ ثلاثة: المجال الإنسانيّ، والمجال الحيوانيّ، والأشياء الأخرى كالمكان والسّلاح والخمرة. (3).

***

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا

.........................

الهوامش:

1- (موقع المنافذ الثقافية - دلالة الألوان عند العرب واللّبنانيّين من خلال أمثالهم - غسّان حمد).

2- - (موقع صحيفة القبس الثقافي – الألوان.. رمزيتها ودلالتها في الحياة والأدب - رحاب حسين -) بتصرف.

3- (موقع المنافذ الثقافية - دلالة الألوان عند العرب واللّبنانيّين من خلال أمثالهم - غسّان حمد). بتصرف.

لإنعام الحمداني.. حسب (النهج الهيرمينوطيقي-  الأسلوبي- الرمزي- الجمالي- السيميائي مع غوص في البنى النفسية)

تُقْدِم الاستاذة إنعام الحمداني في قصيدتها هذه على فعل بلاغي ونفسي مزدوج: رفضٌ شخصيٌّ يبدو موجهًا إلى مخاطب حميم، وفي أيقونته تستدعي القصيدة أزمةَ الوجود العاطفي وتدوّيها في مساحة لغوية مُشيّدة من الصمت والنبذ والإيحاء. إن عنوانها التكراري «عذراً، عذراً، لا أحبك» يعلن منذ البداية عن موقفٍ تأبيديّ: لا هو اعتذار تهذّبِي فحسب، ولا هو تنكّر مباغت، بل هو توقّفُ حبٍّ وتحكّمٌ في نفسٍ لا تريد أن تُهان بمسرح التضحية.

-  سنعالج النص في هذه الدراسة عبر منظوراتٍ متكاملة: هيرمينوطيقية تأويلية (فهم المقروئية ودوائر المعنى)، أسلوبية (دراسة اللغة والأدوات البلاغية)، رمزية وجمالية (الصور والدلالات الجمالية)، سيميائية (أنظمة العلامات والبُنى النصّية)، ونفسية (آليات الدفاع النفسي، الإحراق والتهديم والبناء مجدداً). كما سنقارب النص في علاقته مع التقاليد الشعرية العربية الحديثة، ومع مناهج النقد الغربي.

أولاً - مقاربة هيرمينوطيقية: دائرة الفهم والتأويل:

-  من منظور هيرمينوطيقي:  (جادامر، ريكور)، القصيدة ليست مجرد رسالة بل حلقة تركيب بين معطى النصّ وأفق القارئ. العنوان التكراري هو «مدخل هرمنوطيقي» يحدّد أفق التوقع: القارئ يستعدّ لفعل اعتذار لكنه يُفاجأ بالنفي النهائي. هذه المفارقة تُعدّل أفق القراءة: ما بدأ في صورة مخاطبة عاشقة/مخاطب يتحوّل إلى محاكمة للعلاقة ذاتها.

النص يشتغل على طبقتين زمنيتين: زمن السرد (الماضي/الليالي التي مرت) وزمن القرار (الحاضر: إعلان النفي). التداخل يؤسس لحركة تأويلية حيث يصبح الفعل الشعري أداءً كلامياً  محمود الآثار: ليس فقط إخبارًا بأنّي لا أحبك، بل إلغاء لشرعية الارتباط وإعادة صياغة للذات المسرودة.

ريكور يذكر أن السرد يمتلك طاقة لإعادة ترتيب الذاكرة: هنا الشاعرة «ترمم حرفها»، أي أنها تعمل سردياً على إعادة بناء الذات عبر الصياغة الأدبية، ليست مجرد إفصاح عاطفي بل فعل وجودي/لغوي.

ثانياً - قراءة أسلوبية: لغةُ القطعِ والأساورُ والبناءُ الإيقاعيّ

1. الاقتصاد اللفظي والإفعالي:

القصيدة توظف اقتصادًا لغويًا واضحًا: جملٌ قصيرة، نفي مباشر، أفعال إنشائية ("لا أكتب لأحد يتربص": إنشائية تحمّل موقفاً). هذا الاقتصاد يقوى على تكرار الصور والعبارات (مثل "عذراً")، ما يمنح النص طاقةً إيقاعية شِعْرَيةً وانتظامًا درامياً.

2. الصور الاستعارية والمجازية:

«كل قصيدة تغتالني» - استعارة مركّبة: القصيدة بوصفها كائناً فاعلًا قادراُ على العنف تجاه الشاعرة نفسها؛ تحكي عن تنافرٍ بين فعل الكتابة وذات المؤلفة: الكتابة تؤلِمها وتغتالها وفي الوقت نفسه تُشكّل هويتها.

«جراحي تئن نازفة / تركتها هناك على قلبك شهيدة» - صياغة درامية تُحوّل الجرح الخاص إلى شاهد، والاعتراف بترك الجرح في قلب الآخر يشي بخبرة الرفض والقدح في الذاكرة المشتركة.

«أروض الليل بحكايات» - فعل ترويض يوحى بتحكم الشاعرة في سُمك الظلام، لكنها تقول "لم أمل سماعها" لأن الحكايات منقوشة "منك وإليك"؛ أي أنها حكايات تسير بين ذاتين لم تعدا تشاطران نفس اللغة.

3. الاستدلالات الصوتية والإيقاع الداخلي:

التكرار الافتتاحي للكلمة «عذراً» والضربات الصوتية الناعِدة (الهمسات الطويلة) تعطي النص طابع اعتذاري مصطنع يتفكك بسرع. وجود صور حسّية ("كوز عسلك") يقطع الرتابة ويعيد ملمساً مادّيّاً للعالم الخارجي، مقرّباً الحسية من التجربة العاطفية.

ثالثاً - الرمز والجمال: ثيمات الهوية، الكرامة، والكتابة كطقس

1. الكرامة- النفي:

النفي "لا أحبك" ليس فقط تحرراً عاطفياً؛ بل فعل ربّاني للحفاظ على الذات. هذا الموقف يُرجعنا إلى ثيمات أنثوية في الشعر الحديث: رفض التضحية الذاتية، المطالبة بحقّ الكلام والوجود. الشاعرة تقول: "لم أكن حبيبتك يوماً / لا أريد أن أنحر مثل الأضاحي" - مقارنة قوية بين التضحية الدينية/الطقسية والاحتفاظ بالذات.

2. الكتابة كطوق نجاة ومصدر ألم:

القصيدة تعرض الكتابة على أنها سيف ذو حدين: "كل قصيدة تغتالني" و"أصوّغ حرفي أساور" - الكتابة تُمزّق وتُزَيّن. إنها رثاء للذات في مواجهة اللغة: الحرف يعذب ويزيّن في آن. هذا التوتر يكشف جمالًا مزدوجًا: الأثر والجرح.

3. الزمن والذاكرة

الليالي المهجورة والصمت الهارب يتصلان بذاكرةٍ مضتْ وأدلة طريفة (أدلة طريدة لا أبالي). هنا الذاكرة ليست تقليدية بل تُروّض وتُصاغ، والشاعرة تتصرف كمؤرِّخة لجرحها.

رابعاً - سيميائية النص: نظام العلامات وبنية الدلالة:

باتباع روبرتيو مونو ونظريات اللغة السيميائية، يمكن قراءة النص كنظام من العلامات التي تتقاطع لتصنيع معنى متماسك:

١ -  العلامة (المعنى/الدال): كلمات مثل "عذراً"، "قصيدة"، "جراح"، "صمت"، "جواد" تشكل دلالات متكررة.

٢ -  القيم الاختلافية: "الصمت/الكلام"؛ "العودة/الرحيل"؛ "الحب/اللا حب"؛ هذه ثنائيات تشكّل هيكل النص.

٣ -  الوحدة المرجعية: المخاطَب غير محدد، لكن البنية تشير إلى علاقة حميمية (عاطفية ـ اجتماعية). الغموض في تحديد المخاطب يوسّع النصّ ويمنحه ٤- :بعداً كلياً: يمكن أن يكون رجلاً، تجربة حب، المجتمع، أو حتى اللغة نفسها.

سيميائياً، النص يُستَجاب عنه عبر عملية تكوين المعنى: القارئ يُكمل الفراغات، ويعمل النصّ كلغزٍ تسلط عليه الشاعرة ضوءاً جزئياً؛ لذا يظلّ التأويل مفتوحاً.

خامساً - التحليل النفسي: آليات الدفاع، الظل، والهوية المختارة:

استنادًا إلى فرويد ويونغ وبعض مفاهيم النقد النفسي الحديث:

1. آليات الدفاع:

الإنكار والنفي: "لا أحبك" كإنكارٍ واعٍ لارتباط قد يهدد استقلالية الشاعرة.

-  الإسقاط: تصوير الحبيب كفاعل يغتال أو يترك جروحاً - إسقاط للعنف الداخلي على الخارج.

-  التسامي: تحويل ألم الفقد أو الخيبة إلى فعل إبداعي (الكتابة)، رغم كونها تدّعي أن الكتابة تغتالها؛ فيها بالتالي التناقض الذاتي للدّور المُسامي: الألم يولّد الفن، والفن يعيد تشكيل الألم.

2. مفهوم "الظل":

الآخر مُمَثّل في النص بصفات قاتلة (التربّص، التسبب بالجراح)؛ هذه الصور يمكن قراءتها كظل نابع من اللاوعي الجمعي للشاعرة، أي جزء مرفوض منها تسقطه على الآخر. إعلان الرفض عملية تكامل: الشاعرة تختار أن تُخرج ذلك الظل من علاقتها وتضعه أمامها معلناً.

3. الذات والهوية:

إعلان "لم أكن حبيبتك يومًا" هو فعل تأسيسي لهويةٍ جديدة: رفض تعريف الذات عبر علاقة معطّلة. هذه إعادة تأسيس نفسية ـ أخلاقية: الاحتفاظ بالذات، رفض الذبح الرمزي، وتصعيد الكرامة.

سادساً - البُنى التناصية والسياق الأدبي:

القصيدة تتقاطع مع تقاليد الشعر العربي الحديث التي تزخر بصوتٍ أنثوي يرفض التهميش (نجد إشارات لخطاب نازك الملائكة، فدوى طوقان، وأمينة سعد الله)، كما أنها تستثمر رمزيات الحداثة (الليل، الصمت، الجسد، الجواد كعلامة حركة وحُرية). كذلك يحضر في خلفية القراءة حديث النقاد عن الكتابة الأنثوية والرفض من منطلق الكرامة الذاتية (جمال الغيطاني، أدونيس في قراءاته للنص الحديث كتعبير عن الذات الجمعية ـ إنْ كان في سياق تفاوت).

سابعاً - قراءة تفكيكية مختصرة: خطاب الإمكان والتقييد:

من زاوية تفكيكية، النص يُظهر ثنائية "القول/العدم": الشاعرة تقول «لا» لكنها في قولها هذا تفتتح فضاءً من الكلام والتماثل الذاتي. هكذا يُصبح النفي فعلًا بلاغياً وإيجابياً: نفي حبٍ يؤدي إلى ولادة صياغة نقدية للذات واللغة. لذلك، النفي هنا هو لُغةُ تمكّن وليست مجرد قطع.

خاتمة: استنتاجات نقدية:

1. القصيدة فعل وجودي ولغة مقاومة: إعلان «لا أحبك» ليس تهويناً لليأس بل اعتماد لكرامة الذات والكتابة كحتواء وتجديد.

2. الكتابة مزدوجة الأداء: تُؤلِّم الشاعرة وتُهنِّئ نفسها—القصيدة تغتال ولكنها في الغالِب تُصون.

3. الأسلوب اقتصادٌ دراميُّ مؤثر: الاقتصاد اللفظي والتكرار والاستعارات المركبة يمنحان القصيدة كثافة عاطفية وتماسكًا بلاغياً.

4. المنظور النفسي يؤكّد التحوّل: نص الرفض هو نصّ الانتقال النفسي من موقف التضحية إلى موقف الحفاظ على الذات.

5. النص هيرمينوطيقيّاً مفتوح للتأويلات: غموض المخاطب وعمومية الأوصاف يوسّع دائرة القارئ ويمنح القصيدة طاقة تأويلية متعددة.

***

بقلم: عماد خالد رحمة -  برلين

..............................

عذرًا، عذرًا، لا أحبك

اسمي لا يشبه أسماء نسائك الأربعين.

ما زال قلبي يحتفظ ببيته،

لا تسكنه كلماتك الباردة.

لا أكتب لأحد يتربص بالحرف،

فكل قصيدة تغتالني،

وجراحي تئن نازفة،

تركتها هناك على قلبك شهيدة.

*

لو علمتم كم من الليالي،

ولى الصمت هاربًا،

ونسي جلبابه،

أدلة طريدة لا أبالي.

أروض الليل بحكايات،

لم أمل سماعها،

لأنها تقص منك وإليك،

مسهدة غافية،

عيون الآسى وعيون من يحب،

جليسة.

*

أغيب بعض الوقت لأرمم حرفي،

وأصوغه أساور تُزين عنوان القصيدة.

لم أكن حبيبتك يومًا،

لا أريد أن أنحر مثل الأضاحي.

كوز عسلك المصفى أبعد من سكر وماء.

لا تستفز صمتي،

هل جربت امتطاء صهوة جوادك،

وتركت العنان للريح كيفما شاءت،

وتقول: لربما يعود؟

*

أيظن الفراق صمتًا وجبروتًا،

سيعود؟

***

إنعام الحمداني

 

"حي بن سكران" للشاعر شلال عنوز

1//الدِكّاكُ أَرائِكَ المَنامْ

والسَّماءُ تَقطُرُ ياقوتا

مقدمة: تشكّل السيميائية ومفهوما القراءة والتلقي أحد أبرز التحولات المنهجية في النقد الأدبي الحديث. ففي البداية، كانت إسهامات رولان بارت وأمبرتو إيكو وغيرهما كثيرون قد نقلت المناهج البنيوية التكوينية والدرس النقدي النسقي عمومًا إلى مرحلة جديدة، حيث أصبح التوسع في بحث الرموز والعلامات مدعاة للخروج إلى واقع حال السياق للتعرف على جذور الطبقات العميقة للرمز والتناصات ودلالة الألوان والعلامات والإشارات والتنقيط والفراغات... إلخ. وجاءت نظرية التلقي لتوسع آفاق تلقي النص، إذ انتقل الاهتمام من سلطة المؤلف إلى فاعلية القارئ. وقد أرست مدرسة كونستانس الألمانية [ياوس، إيزر] دعائم هذا التوجه عبر "جمالية التلقي"(1)(2). ورغم أن النقد الغربي وضع أطرًا متعددة لهذا الحقل، فإن النقد العربي ما زال يتأرجح بين الانطباعية والاقتباس غير المكتمل للبنيوية والسيميائية(3).

تهدف هذه الورقة إلى تقديم تمهيد نظري متين لنظرية التلقي، انطلاقًا من مفاهيمها الجوهرية: أفق التوقع، المسافة الجمالية، القارئ الضمني، الفجوات النصية، مع رصد أبرز الإشكالات التطبيقية في الدرس النقدي العربي، تمهيدًا لتطبيقها على قصيدة "حي بن سكران" - وهي قصيدة لا تُقرأ بسهولة، ولا تُستهلك بيسر، بل تفرض على القارئ أن يكون شريكًا في صناعة المعنى، مُعيدًا تركيب الرموز، ومُستنطقًا للفراغات، ومُستحضِرًا للسياقات - وهو ما يجعلها نموذجًا مثاليًا لاختبار فاعلية النظرية التلقّوية في السياق العربي.

لماذا "حي بن سكران"؟ مبررات الاختيار في ضوء الإطار النظري

لم يكن اختيار قصيدة "حي بن سكران" اعتباطيًا، بل جاء نتيجة توافق تام بين خصائص النص ومقتضيات الإطار النظري. فالقصيدة:

- تنشئ فجوات دلالية عميقة، تبدأ من العنوان ذاته الذي يُعيد تشكيل تناص فلسفي-صوفي معروف ("حي بن يقظان")، ليقلب "اليقظان" إلى "سكران"، في إشارة إلى حالة من الهذيان أو التحرر من العقلانية، مما يُربك أفق توقع القارئ.

- غنية بالعلامات والرموز المتعددة الطبقات: حيوانات، ألوان، حركات جسدية، صور متدفقة كأنها من عالم الأحلام أو الهذيان، كلها تشكل شبكة سيميائية معقدة تتطلب قارئًا فاعلًا.

- تتحدى القارئ الضمني الذي يفترضه النص: قارئ ملمّ بالتراث الصوفي، متابع للشعر الحداثي، قادر على التعامل مع التفكيك واللادلالة، ومستعد للدخول في لعبة التأويل دون البحث عن "معنى واحد".

- تنتمي إلى سياق ثقافي-اجتماعي معاصر يعج بالتحولات والهويات المتشظية، مما يجعلها صالحة للتحليل السوسيولوجي والثقافي جنبًا إلى جنب مع التحليل السيميائي والتلقّوي.

بهذا، تصبح القصيدة مختبرًا نظريًا مثاليًا لاختبار فاعلية القراءة التكاملية التي نقترحها.

إشكالية الدراسة

دراسة الرمز والاحتفاء بالقارئ تحت أي مسمّى ينبغي أن يستجيب لمواصفاته النوعية، ومهما عظم شأن القارئ في عقدتنا النقدية، فإنه لا يلغي حضور المؤلِّف. وهذا الفهم يتأتّى من قراءة تختلف عمّا ذهب إليه العديد من النقاد لفقه معنى مقاصد رولان بارت عن المؤلف مثلًا، آخذين في الاعتبار مرجعية النقد الغربي بشقَّيه الأنكلوسكسوني والفرانكوفوني، لغالب النقاد المتسيّدين لمعالجة النصوص الحداثية وما بعد الحداثية.

الشبابية في فهم المصطلح والنظريات والمناهج المتعددة أوقعت الكثير في عدم الركون لمفاهيم مستقرة، فانعكس ذلك على أن المعالجات النقدية العربية يعتريها التخبط، بل إن كثيرًا من الممارسات لم تغادر الانطباعية والنفسية الواقعية المتخشّبة التي تجاوزها أصحابها أنفسهم. وحتى من طرق البنيوية التكوينية كما يزعم بعض النقاد، فإنه لم يبارح البنيوية في شكلها البدائي. أما الأسلوبية فإن العديد ما زال في فضاء بوفون.

من ذلك: كيف يمكن لنظرية التلقي أن تُخرج القراءة العربية من دائرة الانطباعية واقتباس المفاهيم الشكلي إلى ممارسة نقدية منتجة تُفسح للنص باب التعدد والتجدد؟ وما مظاهر الإخفاق العربي في تداول هذه النظرية؟ وكيف يمكن تجاوزها من خلال قراءة تكاملية تجمع بين الخصوصية الثقافية العربية والمنجز الغربي؟

أولًا/ نظرية التلقي بين الأصل والتطور

1- أفق التوقع (ياوس): هو التراكم التاريخي والثقافي الجماعي الذي يُقاس عليه الجديد الأدبي(4).

2. المسافة الجمالية: فجوة إنتاجية بين توقع القارئ وعرض النص؛ كلما اتسعت دون انقطاع كانت القراءة أكثر تأويلًا(5).

3- القارئ الضمني (إيزر): بنية نصية تفترض كفايات معرفية وسيميائية تسمح بملء الفجوات(6).

4- الفجوات: مناطق غياب يُنجز القارئ خلالها إنتاجه المعنوي(7).

5- فعل القراءة: براكسيس تفاعلي يُنتج المعنى ويُجدده باستمرار(8).

ملاحظة منهجية: نستخدم في هذه الدراسة مصطلح "السيمو-قرائية" كاختزال لعبارة "**القراءة السيميائية التلقّوية التكاملية**"، أي تلك التي تجمع بين تحليل العلامات (سيميولوجيا النص) ودور القارئ في إنتاج المعنى (جمالية التلقي)، في إطار منهجي واحد يتجاوز التجزئة، ويُعيد تركيب النص من الداخل (علامات) والخارج (سياقات وتوقعات).

ثانيًا/ نظرية التلقي في النقد العربي - أزمة التطبيق

1- الاقتباس الشكلي دون تفعيل تحليلي.

2 -تعدد تعريفات "القارئ" بلا معيار موحد.

3- قراءة النصوص بمعزل عن أنساقها الثقافية، فاستُعيدت الاستاتيكية التي جاءت النظرية لكسرها(9).

إثراء مرجعي عربي: إلى جانب إحسان عباس، يمكن الاستعانة بدراسات نقدية عربية حديثة ساهمت في توطين نظرية التلقي أو تطوير السيميائية الشعرية، مثل:

- د. عبد الملك مرتاض في "السيميولوجيا والنص الشعري".

- د. صلاح فضل في "جماليات التلقي وتأويل النص".

- د. سعيد يقطين في "النص والخطاب والتأويل".

- د. عبد الفتاح كيليطو في "الناقد والتأويل".

هذه المراجع تمنح الدراسة بعدًا عربيًا متجددًا، وتكسر احتكار المرجعية الغربية.

ثالثًا: نحو قراءة تكاملية

يقترح البحث منهجًا يجمع:

- السيميائية (لبنيات النص وتحليل العلامات)،

- السوسيولوجيا (سياق الإنتاج والخطاب المجتمعي)،

- التحليل الثقافي (آفاق التوقع وطبقات التناص)،

- الظاهراتية (الفينومينولوجية) (وعي القارئ وتجربته الذاتية أثناء القراءة)،

فتتحول نظرية التلقي من شعار نظري إلى أداة تحليلية منتجة.

تحديد أولي للقارئ الضمني في "حي بن سكران":

يفترض النص قارئًا:

- ملمًّا بالتراث الصوفي والفلسفي (خصوصًا ابن طفيل وابن عربي).

- على دراية بالشعر الحداثي وتقنياته (التفكيك، التدفق، اللاخطية).

- قادر على التعامل مع الرمز واللادلالة.

- مستعد للدخول في حالة من "التخلي عن اليقين" والانغماس في عالم النص الهلامي.

هذا القارئ ليس "حقيقيًا"، بل هو بنية نصية يُعيد القارئ الحقيقي التشكل وفقها أثناء القراءة.

خريطة منهجية مختصرة للتطبيق العملي على القصيدة

عند الانتقال إلى التحليل، سيتم تقسيم الدراسة وفق المحاور التالية:

1- تحليل العنوان وتفكيك التناص:

- "حي بن سكران" مقابل "حي بن يقظان": تحوّل من العقل إلى الهذيان، من اليقظة إلى السُكر.

- دلالات "السكر" في التراث الصوفي والأدبي.

2- رسم أفق التوقع وقياس المسافة الجمالية:

- ما الذي يتوقعه القارئ من قصيدة بهذا العنوان؟

- كيف يُفاجئه النص؟ وأين تقع "المسافة الجمالية"؟

3- تحليل الشبكة السيميائية:

- العلامات الحيوانية، اللونية، الحركية.

- التكرارات، التقابلات، الصور المتدفقة.

- دلالات الفراغات والتنقيط والإيقاع الداخلي.

4-رصد الفجوات النصية ودور القارئ في ملئها:

- أين يصمت النص؟ وما الذي يُترك للتأويل؟

- ما الأسئلة التي يطرحها النص دون إجابة؟

5-القارئ الضمني والقارئ الحقيقي:

- من يفترضه النص؟ ومن يقرأه فعليًا؟

- هل هناك توتر بين القارئ المثالي والقارئ العادي؟

6-السياق الثقافي والسوسيولوجي:

- لماذا هذا النص الآن؟

- ما الخطاب المجتمعي أو النفسي الذي يعكسه أو يتحداه؟

خلاصة

أظهرت نظرية التلقي تحولًا جوهريًا يجعل القراءة فعلاً جدليًا بين النص والقارئ. لكن تطبيقها العربي لا يزال يعاني الاضطراب والاقتباس الشكلي؛ لذا تبدو الحاجة ملحة إلى قراءة تكاملية تجمع المنجز الغربي بالخصوصية العربية، بما يكسر الاستاتيكية ويفتح النص على تعددية القراءات وبتوظيف السيميولوجيا والبنيوية التكوينية وغيرها من المناهج.

***

د. سعد محمد مهدي غلام

....................

الهوامش

(1) هانس روبرت ياوس، نحو جمالية التلقي، ترجمة فخري صالح، عمّان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004.

(2) فولفغانغ إيزر، فعل القراءة: نظرية في جمالية التلقي، ترجمة سعيد الغانمي، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1991.

(3) إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، بيروت: دار الثقافة، 1971.

(4) ياوس، المرجع السابق، ص 45-48.

(5) إيزر، المرجع السابق، ص 87-92.

(6) أمبرتو إيكو، دور القارئ، ترجمة سعيد بنكراد، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص 33-38.

(7) ميشال ريفاتير، سيمياء الشعر، ترجمة محمد الولي، الدار البيضاء: توبقال، 1988، ص 76-79.

(8) إيزر، المرجع السابق، ص 135-142.

(9) ستانلي فيش، هل هناك نص في هذا الصف؟، ترجمة علي حاكم صالح، بغداد: دار المأمون، 2012، ص 55-62.

(10) عبد الملك مرتاض، السيميولوجيا والنص الشعري، الجزائر: دار الغرب الإسلامي، 2003.

(11) صلاح فضل، جماليات التلقي وتأويل النص، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2005.

(12) سعيد يقطين، النص والخطاب والتأويل، الدار البيضاء: افريقيا الشرق، 2007.

(13) عبد الفتاح كيليطو، الناقد والتأويل، ترجمة حسن بن صالح، الدار البيضاء: توبقال، 1993.

 

تُعد رواية "امرأة نصفها بحر" للكاتبة المصرية صابرين الصباغ، الصادرة عن دار غراب للنشر، عملاً أدبياً مركباً يغوص في أعماق النفس الإنسانية، متخذاً من مدينة الإسكندرية مسرحاً ورمزاً في آن واحد. تنتمي الرواية بوضوح إلى تيار

الواقعية السحرية (الواقعية السحرية)، حيث تنسج الكاتبة ببراعة بين واقع اجتماعي قاسٍ وعالم أسطوري فانتازي، لتقدم رؤية نقدية للمجتمع وتأملاً عميقاً في مواضيع الهوية، الحب، والخلاص. تستخدم هذه الدراسة منهجاً تكاملياً لتحليل عتبات النص، وبنية السرد، والشخصيات، وتقنيات الواقعية السحرية، وصولاً إلى فهم شامل لكيفية عمل الرواية كوحدة فنية متماسكة.

أولاً: عتبات النص - مفاتيح العالم الروائي

تعد المداخل الأولية للرواية (الغلاف، العنوان، الإهداء) بمثابة بوصلة توجه القارئ وتكثف ثيماتها الرئيسية.

الغلاف والعنوان: ازدواجية الذات

يأتي تصميم الغلاف كلوحة بصرية تجسد الصراع الداخلي للبطلة. فالفتاة التي ترتدي فستاناً أبيض تقف بين عالمين: عالم أثري صلب وعالم مائي أزرق يمتزج بملامح الإسكندرية الحديثة2. هذا التصميم يترجم بصرياً العنوان الشعري

"امرأة نصفها بحر" 3، الذي هو ليس مجرد اسم، بل استعارة تأسيسية لطبيعة المرأة المزدوجة؛ فهي تجمع بين الثبات والتقلب، الوضوح والغموض، تماماً كالبحر الذي يمثل القوة والعمق والاحتواء.

سألوني ليه مبتكبريش /وليه ماليكي السحر / قلت لهم روحوا اسألوه /برغم عمرك الطويل /ليه ما شبت يا بحر؟

تُعد هذه الكلمات بمثابة مفتاح لفهم الروح العميقة للرواية، حيث تُؤسس لعلاقة أسطورية بين المرأة والبحر.

- السؤال: يُطرح على المرأة سؤالان يتعلقان بالخلود والجاذبية: لماذا لا تكبر في السن (تتحدى الزمن)، ولماذا تحتفظ بسحرها وجاذبيتها.

- الإجابة المجازية: المرأة لا تجيب عن نفسها مباشرة، بل تحيل السائلين إلى البحر. هي بذلك تخلق مقارنة مباشرة بينها وبين البحر، فجواب سرها يكمن في سر البحر.

- سر البحر: السؤال الموجه للبحر — "ليه ما شبت يا بحر؟" — هو سؤال عن سر الأبدية والشباب الدائم رغم مرور العصور الطويلة.

باختصار، تقول المرأة إن روحها وجوهرها مثل البحر: عميقة، غامضة، لا تخضع لزمن، وتحتفظ بسحرها وقوتها إلى الأبد. هذه الأبيات تمهد للثيمة الرئيسية في الرواية وهي أن البطلة تجد في البحر نصفها الآخر ومصدر قوتها وخلودها الروحي.

الإهداء: ميثاق الانتماء

الإهداء الصريح

"إلى... مدينتي الإسكندرية" 4، التي يصفها النص بأنها "العروس التي لا تعرف شيبًا"، يؤكد أن المدينة ليست مجرد مسرح للأحداث، بل هي شخصية محورية وكيان حي. هذا الربط الوجداني ينعكس مباشرة على البطلة "أحلام" التي تجد في بحر الإسكندرية صديقها وملجأها، وتصفه بـ “عاشقي الذي ينتظرني هناك منذ بدء الخليقة.

ثانياً: الحبكة - رحلة من الواقع إلى الأسطورة

تدور أحداث الرواية حول "أحلام"، فتاة شابة تعيش في حي فقير بالإسكندرية، وتواجه ضغوطاً اجتماعية قاسية، أبرزها محاولات جارها المسن "الحاج علي" الزواج منها مستغلاً فقر عائلتها. تتأزم حياتها بعد دخولها في قصة حب خادعة تنتهي بكشف زيف حبيبها الذي يتضح أنه هو نفسه الشخص الذي اعتدى على صديقتها "سماح".

في ذروة يأسها، تحاول أحلام الانتحار، لكنها بدلاً من الموت، تسقط في بئر عميقة تقودها عبر نفق غامض إلى الإسكندرية في العصر البطلمي. هناك، تبدأ حياة جديدة وتلتقي بـ "أرتيمس"، خادم القصر الملكي، الذي تنشأ بينهما قصة حب نقية. لكن حتى هذا العالم الأسطوري لا يخلو من المأساة، حيث يُقتل أرتيمس وتُتهم أحلام بقتله. وفي لحظة محاصرتها من قبل أهل الحي الغاضبين، يأتي خلاصها النهائي من البحر نفسه، حيث يظهر الإله "بوسيدون" ليخطفها معه إلى أعماق مملكته، محققاً بذلك اتحادها الأبدي مع نصفها الآخر.

ثالثاً: الشخصيات - مرايا النفس والمجتمع

- أحلام: هي محور الرواية التي تعكس أزمة الهوية والبحث عن الخلاص. شخصيتها تتطور من البراءة والسذاجة إلى التمرد ثم الانكسار، وصولاً إلى الخلاص الأسطوري. علاقتها بالبحر هي علاقتها بذاتها العميقة والهاربة من قسوة الواقع.

- الحاج علي: يمثل السلطة الذكورية التقليدية التي ترى في المرأة مجرد سلعة يمكن شراؤها بالمال، ونظراته توصف بأنها "تلوك جسدي والشهوة تستعر داخل ويلات روحه".

- سماح: هي المرآة المأساوية لأحلام، وضحية الحب والخيانة والمجتمع الذي لا يرحم. قصتها حول "المس من الجان" هي صرخة يائسة لتغطية واقع مرير.

- أرتيمس: يمثل الحب المثالي والنقي الذي لم يكن متاحاً في عالم أحلام الواقعي. وجوده في زمن آخر يؤكد على أن هذا النوع من الحب ينتمي إلى عالم الأساطير، وموته المأساوي يعزز هذه الفكرة.

رابعاً: تقنيات السرد في الواقعية السحرية

تستخدم الرواية ببراعة تقنيات الواقعية السحرية لتصبح هذه التقنيات جزءاً لا يتجزأ من معنى النص وهدفه.

1.- الحدث العجائبي في سياق واقعي: الرواية تبني عالماً واقعياً مفصلاً ثم تزرع فيه حدثاً خارقاً وهو "السقوط عبر الزمن". هذا الانتقال من محاولة انتحار واقعية إلى رحلة فانتازية تاريخية هو السمة الجوهرية للواقعية السحرية.

2.- حيادية السرد وتطبيع الخارق: يسرد الراوي، وتتقبل الشخصية، الأحداث الخارقة كأنها جزء طبيعي من الحياة. أحلام لا تنهار أمام استحالة انتقالها عبر الزمن، بل تتكيف معه. كذلك، حواراتها مع الإله "بوسيدون" تُقدّم كلقاءات روحانية عميقة وليس كأوهام.

3.- تداخل الأزمنة والهويات: الزمن في الرواية ليس خطياً. الإسكندرية الحديثة تتداخل مع الإسكندرية البطلمية، وتصبح أحلام نفسها شخصية هجينة تعيش بهوية مزدوجة، مما يسمح للرواية باستكشاف فكرة التاريخ الحي الذي يسكن الحاضر.

4.- الرمز والأسطورة كبنية للسرد: البحر هو الرمز المحوري الذي ينظم الرواية بأكملها. هو الصديق "الكبير"، والإله "بوسيدون"، وفي النهاية هو الخلاص والمصير. الهروب إلى الماضي لم يكن سوى محطة في رحلة العودة إلى الأصل، إلى الاتحاد مع "البحر" الذي يمثل نصفها الآخر.

بالتأكيد، إليك تحليل مفصل لحبكة رواية "امرأة نصفها بحر" للكاتبة صابرين الصباغ، بناءً على النص الكامل للرواية.

تحليل حبكة رواية "امرأة نصفها بحر": رحلة من الواقعية القاسية إلى الخلاص الأسطوري

تتميز حبكة رواية "امرأة نصفها بحر" ببنيتها المزدوجة والمبتكرة، حيث تنقسم إلى جزأين رئيسيين: جزء واقعي اجتماعي يغرق في تفاصيل الألم والقهر، وجزء فانتازي أسطوري يقدم الهروب والخلاص كحل نهائي. يمكن تحليل هذه الحبكة عبر مراحلها الكلاسيكية على النحو التالي:

1. التمهيد والعرض (معرض)

- تقديم الشخصية والعالم: تُعرّفنا الرواية على بطلتها "أحلام"، فتاة شابة تعيش في حي فقير بالإسكندرية. عالمها محدود ومحكوم بالفقر والحاجة1. منذ البداية، تُؤسس الرواية لعلاقة روحانية عميقة بين أحلام والبحر، الذي تعتبره صديقها وعاشقها وملجأها الوحيد الذي تبثه همومها، وتصفه بـ "الكبير".

- بذرة الصراع: يُعرض الصراع الرئيسي مبكرًا ويتمثل في الضغط الذي تتعرض له أحلام للزواج من جارها الثري المسن، "الحاج علي"، الذي ينظر إليها بنظرات شهوانية ويرغب في شرائها بالمال مستغلاً فقر أسرتها3333. يقابل هذا التهديد حلمها بحب نقي وبريء مع جارها الشاب.

2. الأحداث الصاعدة (العمل الصاعد)

تتصاعد وتيرة الأحداث وتتعقد الصراعات لتدفع البطلة نحو حافة الانهيار:

- تصاعد الضغط الأسري: يزداد ضغط والدتها وأخيها عليها لقبول الزواج من الحاج علي، حيث يرون فيه الخلاص الوحيد من الفقر المدقع. هذا الضغط يحول بيتها إلى سجن.

- المأساة الموازية: تتشابك حبكة أحلام مع قصة صديقتها "سماح"، التي تمثل الوجه الآخر للمعاناة الأنثوية. تقع سماح ضحية لحب خائن وتحمل سفاحًا، فتضطر لاختراع قصة "المس من الجان" لتبرير حالتها أمام مجتمع لا يرحم5. هذه القصة الفرعية تعمق من الشعور بالخطر والظلم المحيط بالبطلة.

- صدمة الخيانة والقتل: تصل الأحداث إلى نقطة حرجة عندما تكتشف أحلام أن حبيبها الشاب هو نفسه من خدع صديقتها سماح وتخلى عنها. تبلغ المأساة ذروتها عندما تقدم سماح على قتل هذا الحبيب الخائن، مما يدمر عالم أحلام وآخر بقايا ثقتها في الحب والرجال.

- الانهيار ومحاولة الانتحار: بعد أن فقدت حبها وأصبحت محاصرة بخيار الزواج من رجل تمقته، تصل أحلام إلى حالة من اليأس المطلق. تقرر وضع حد لحياتها بالقفز من شرفة منزلها، في مشهد يمثل هروبها الأخير من واقعها المؤلم.

3. الذروة (الذروة)

تأتي ذروة الرواية في لحظة القفز، ولكنها لا تؤدي إلى الموت، بل إلى تحول عجائبي يقلب بنية الرواية بأكملها. هذه هي النقطة التي تنتقل فيها الحبكة من الواقعية إلى الفانتازيا:

- السقوط في البئر: بدلاً من أن تسقط في الشارع، تسقط أحلام في بئر عميقة وغامضة.

- العبور إلى زمن آخر: تقودها البئر إلى نفق طويل ومظلم، تسير فيه في رحلة رمزية نحو المجهول. في نهاية النفق، تخرج لتجد نفسها في الإسكندرية، ولكن في

العصر البطلمي. هذه اللحظة هي ذروة الحبكة ونقطة التحول التي تفصل بين عالمين، حيث يموت واقعها القديم وتولد في واقع جديد تمامًا.

4. الأحداث الهابطة (Falling Actin)

تبدأ مرحلة جديدة من القصة في هذا العالم الأسطوري، حيث تتكشف عواقب الذروة وتتشكل صراعات جديدة:

- لقاء الحب المثالي: تلتقي أحلام بـ "أرتيمس"، خادم القصر الملكي، وتنشأ بينهما قصة حب نقية ومثالية، وهو الحب الذي كانت تحلم به ولم تجده في عالمها الواقعي.

- التأقلم مع العالم الجديد: تتشابك قصة حبها مع الصراعات السياسية والمؤامرات داخل القصر البطلمي، وتضطر للتكيف مع قواعد وعادات هذا الزمن الغريب.

- تكرار المأساة: بشكل مأساوي، يتكرر نمط الفقد والخسارة، حيث يُقتل أرتيمس غدرًا، وتجد أحلام نفسها متهمة بقتله. هذا يوضح أن الظلم والخيانة ليسا حكرًا على زمنها، بل هما جزء من الطبيعة البشرية.

مستويات اللغة:

ازدواجية اللغة في "امرأة نصفها بحر": فصحى السرد وعامية الحوار

تتميز رواية "امرأة نصفها بحر" بازدواجية لغوية واضحة، حيث تعتمد الكاتبة صابرين الصباغ على مستويين مختلفين من اللغة لخدمة أغراض فنية متباينة: اللغة العربية الفصحى في السرد والوصف، واللهجة العامية المصرية في الحوار. هذا التباين يخلق بنية لغوية غنية تميز بين العالم الداخلي للشخصية والعالم الخارجي الذي تتفاعل معه.

1. فصحى السرد: لغة الشعر والوجدان

تتسم لغة السرد في الرواية بكونها لغة عربية فصحى ذات طابع شعري وبلاغي عالٍ. تستخدم الكاتبة هذه اللغة الراقية في الأجزاء الوصفية وللتعبير عن الأفكار والمشاعر الداخلية للبطلة "أحلام". تتميز هذه اللغة بالآتي:

- الكثافة الشعرية: تعج المقاطع السردية بالاستعارات والصور الفنية التي تضفي على النص عمقًا وجمالاً. على سبيل المثال، تصف أحلام نظرات الحاج علي بقولها: "ينظر إلي وجفناه كأنهما أسنان تلوك جسدي والشهوة تستعر داخل ويلات روحه". هذا الوصف يتجاوز مجرد السرد لينقل إحساسًا بالقهر والاشمئزاز.

- لغة الإحساس لا الحدث: تركز لغة السرد على نقل الحالة الشعورية أكثر من مجرد وصف الأحداث. فعندما تصف حبها تقول: "معه - له نظراته العاشقة تغير فصولي". هذه الجملة لا تروي حدثًا بقدر ما ترسم لوحة وجدانية.

هذا المستوى اللغوي الراقي يخدم في بناء العالم الداخلي لأحلام، ويجعل من تأملاتها ومناجاتها للبحر لحظات شعرية وفلسفية.

2. لغة الواقع والحياة اليومية

على النقيض تمامًا، تأتي الحوارات بين الشخصيات باللهجة العامية المصرية. هذا الاختيار الفني يهدف إلى تحقيق عدة أغراض:

- الواقعية والمصداقية: استخدام العامية يمنح الحوارات طابعًا واقعيًا ويجعل الشخصيات تبدو حقيقية وقريبة من القارئ. على سبيل المثال، عندما تسأل أحلام والدتها عن سبب تجهيزها للطعام، تأتي الإجابة بعامية بسيطة ومباشرة: "- أحلام، انهضي سنذهب إلى الحمام".

- رسم الشخصيات: تعكس لغة كل شخصية بيئتها الاجتماعية ومستواها الثقافي. حوارات الأم، وأحلام، وجيرانها تعج بتعبيرات الحياة اليومية التي ترسم ملامح عالمهم الفقير والبسيط. عندما ترفض أحلام الذهاب مع أمها، تقول بعناد طفولي: "لا، فرائحتها كريهة جدا نظفيها أنت".

- الفصل بين العالمين: يخلق التباين بين فصحى السرد وعامية الحوار فصلاً واضحًا بين عالم أحلام الداخلي الشاعري والحالم، وعالمها الخارجي القاسي والواقعي. هذا الفصل يبرز غربة الشخصية عن محيطها وصراعها الدائم بين ما تشعر به وما تعيشه.

ومن ثم يُعد التوظيف المزدوج للغة في رواية "امرأة نصفها بحر" تقنية فنية ناجحة، حيث تمنح الفصحى السرد عمقه الشعري والوجداني، بينما تمنح العامية الحوارات حيويتها وواقعيتها، مما يخلق تجربة قرائية غنية ومتعددة الأبعاد.

تستخدم رواية "امرأة نصف البحر" أسلوبا شعريا وغنائيا عميقا، حيث تتجاوز اللغة مجرد سرد القصص لتصبح عنصرا أساسيا في العمق العاطفي والموضوعي للسرد. هذه الجودة الشعرية ليست مجرد زخرفية. إنه أمر أساسي لبناء عالم الرواية، والتعبير عن الاضطراب الداخلي لبطل الرواية،

واستكشاف العلاقة العميقة بين الإنسانية والطبيعة. يستكشف التحليل أدناه الجوانب الرئيسية لهذه اللغة الشعرية مع أمثلة محددة من النص.

تستخدم رواية "امرأة نصف البحر" أسلوبا شعريا وغنائيا عميقا، حيث تتجاوز اللغة مجرد سرد القصص لتصبح عنصرا أساسيا في العمق العاطفي والموضوعي للسرد. هذه الجودة الشعرية ليست مجرد زخرفية. إنه أمر أساسي لبناء عالم الرواية، والتعبير عن الاضطراب الداخلي لبطل الرواية، واستكشاف العلاقة العميقة بين الإنسانية والطبيعة. يستكشف التحليل أدناه الجوانب الرئيسية لهذه اللغة الشعرية مع أمثلة محددة من النص.

اللغة الشعرية في "امرأة نصف البحر"

تجسيد البحر: شخصية حية

الأداة الشعرية الأبرز في الرواية هي تجسيد البحر. البحر ليس مكانا سلبيا ولكنه شخصية نشطة وحية، تشارك معها بطلة الرواية، أحلام، أعمق أسرارها وعواطفها. هذه التقنية ترفع البحر من سمة جغرافية إلى كيان أسطوري وروحي.

- البحر كصديق وعاشق: يتم تصوير علاقة أحلام بالبحر على أنها حوار حميم. تقول: "أجلس على حافته، أنظر إليه، أتحدث إليه. أستمع إلى أمواجها وهي تجيب علي، أحيانا بهمس وأحيانا أخرى بهدير ". يمنح البحر القدرة البشرية على الاستماع والاستجابة، مما يعكس وحدة أحلام العميقة وحاجتها إلى صديق مقرب غير قضائي. تزداد هذه العلاقة طابعا رومانسيا عندما تقول، "يبتسم لي .. يداعبني ويبعث بعض عاطفته على وجهي ".

- البحر كشخصية أب: خلال لحظات اليأس، يوفر البحر الراحة الأبوية. "أجلس بين يديه، يلفني بين ذراعيه الرقيقين مثل الأب العطوف". توفر هذه الصورة إحساسا بالأمان والحماية التي تفتقر إليها في واقعها القاسي.

الاستعارة والتشبيه: تجسيد المشاعر المجردة

كثيرا ما يستخدم المؤلف الاستعارات والتشبهات لإعطاء شكل ملموس للمشاعر المجردة مثل الحب والخوف والألم. هذا يجعل المشهد العاطفي للرواية حيا وواضحا.

- استعارات المعاناة: غالبا ما يتم وصف خوف أحلام وألمها باستخدام استعارات جسدية قوية. توصف النظرة المفترسة للحاج علي بأنها "فكين يمضغان جسدي"، مما يحول النظرة إلى فعل جسدي عنيف. اضطرابها العاطفي هو منظر طبيعي يجب استعماره: "الحزن يستعمر جزري".

- تشبيهات الحب والرغبة: يتم تصوير الحب بكثافة كونية وعنصرية. تصف نظرة عشيقها بأنها تغير مواسمها وحبه الصامت بأنه "صخب بهيج يضرب زوايا روحي".

- استعارات الهوية: تم تأسيس الاستعارة المركزية للرواية في عنوانها وتعزيزها طوال الوقت. المرأة هي "نصف بحر"، مما يشير إلى طبيعة مزدوجة - جزء واحد يرتكز على واقع قاسي، والآخر سائل، عميق، ولا يمكن ترويضه مثل المحيط.

الصور الحسية: عالم غني ومثير للذكريات

اللغة الشعرية غنية بالصور الحسية، وتجذب البصر والصوت واللمس لتغمر القارئ في عالم أحلام. يتضح هذا بشكل خاص في أوصافها لكل من المدينة ودولها الداخلية.

- الصور البصرية والسمعية للمدينة: الاحتفال بالعيد هو مشهد نابض بالحياة: "ساحة محطة الرمل مزينة بألوان ملابسنا، واختفت ملامحها الهادئة في صخب عال". تخلق أصوات الفرح والفوضى جوا حيويا وساحقا تقريبا.

- صور الحالات العاطفية: يتم تقديم عالم أحلام الداخلي بنفس التفاصيل الحسية. عندما تكون في حالة حب، "يمرح قلبها على أرجوحة ضلوعي، وصوت غنائها يكاد يتغلب على ضجيج الشارع". هذه الصورة المواكبة، حيث يكون للعاطفة صوت، تنقل فرحتها بقوة. عندما تكون في حالة يأس بعد خيانة عشيقها، تسأل، "كيف يمكنني محو حلمي بممحاة النسيان؟"، مما يخلق صورة ملموسة لمهمة مستحيلة.

في الختام، فإن اللغة الشعرية في "امرأة نصف البحر" ليست مجرد اختيار أسلوبي ولكنها نسيج سردها. من خلال تجسيد البحر، والنسيج الغني للاستعارات والتشبهات، والصور الحسية المثيرة للذكريات، تخلق الرواية عالما تكون فيه الحدود بين الداخلية والخارجية، الحقيقية والأسطورية، غير واضحة بشكل جميل ومخيف.

تحليل الضمائر ونوع السارد في رواية "امرأة نصفها بحر"

تعتمد رواية "امرأة نصفها بحر" على بنية سردية مركبة تتناوب فيها الضمائر وأنواع السرد، مما يخلق تجربة قرائية غنية تفصل بين العالم الداخلي الحميمي للشخصية والسياق الخارجي الأوسع. يمكن تحليل هذه البنية من خلال محورين رئيسيين:

1. السارد الأول: ضمير المتكلم ("أنا") - صوت الروح الذاتية

النوع: سارد مشارك في الأحداث (أو سارد ذاتي - Autdiegetic Narratr)

الجزء الأكبر من الرواية يُروى بضمير المتكلم "أنا"، حيث تتحدث البطلة "أحلام" بصوتها مباشرة. هذا الاختيار يجعلها هي السارد الرئيسي والمحوري في القصة.

- خصائصه ووظيفته:

- الذاتية والحميمية: يغمر هذا السرد القارئ في العالم الداخلي لأحلام، حيث نطلع مباشرة على أفكارها، ومخاوفها، وأحلامها، وصراعاتها النفسية. يخلق هذا قربًا عاطفيًا عميقًا مع الشخصية، فنشعر بمعاناتها كأنها معاناتنا.

- محدودية المعرفة: هذا السارد لا يعرف كل شيء. رؤيته مقتصرة على ما يراه ويشعر به هو فقط. نحن لا نعرف نوايا الشخصيات الأخرى إلا من خلال استنتاجات أحلام وتفسيراتها، مما يجعلنا نعيش معها حالة عدم اليقين والقلق.

- اللغة الشعرية: صوت "أنا" هو مصدر اللغة الشعرية في الرواية. مناجاتها الداخلية ووصفها لمشاعرها وعلاقتها بالبحر هي التي تمنح النص طابعه الغنائي. على سبيل المثال، قولها: "

عدت لبيتي.. قلبي يمرح فوق أرجوحة ضلوعي هو تعبير ذاتي بحت لا يمكن أن يصدر إلا عن ضمير المتكلم."1

2. السارد الثاني: ضمير الغائب ("هو/هي") - عين الكاميرا الشاملة

النوع: سارد عليم بكل شيء (أو سارد كلي المعرفة - mniscient Narratr)

بين الحين والآخر، تنتقل الرواية من صوت "أنا" إلى صوت سارد خارجي يتحدث بضمير الغائب "هو" و"هي". هذا السارد غير مشارك في الأحداث ويراقبها من الخارج.

- خصائصه ووظيفته:

- المعرفة الشاملة (العليمية): على عكس أحلام، هذا السارد يعرف كل شيء. يستطيع أن يتنقل بحرية بين الأمكنة والأزمنة، ويكشف عن أفكار ونوايا شخصيات أخرى لا تعرفها أحلام. على سبيل المثال، يصف لنا السارد ما يدور في القصر البطلمي من مؤامرات 2222، ويدخل إلى عقل الحاج علي ليكشف عن أفكاره3.

- الموضوعية وتوسيع الأفق: يقدم هذا السارد سياقًا أوسع للأحداث. فبينما تكون أحلام غارقة في مأساتها الشخصية، يرينا هذا السارد ما يحدث في محيطها: ردود أفعال أهل الحي، والمؤامرات السياسية، ومصير الشخصيات الأخرى. هذا يخلق تباينًا بين المأساة الفردية والفساد الاجتماعي الأوسع.

- ربط العوالم: يلعب السارد العليم دورًا حاسمًا في ربط الجزء الواقعي بالجزء الفانتازي من الرواية، مما يمنح الانتقال عبر الزمن مصداقية داخل عالم النص.

الخلاصة: وظيفة الازدواج السردي

إن الجمع بين السارد الذاتي (بضمير المتكلم) والسارد العليم (بضمير الغائب) هو تقنية فنية ذكية تخدم أهداف الرواية بعمق. فالضمير الأول يغمرنا في التجربة الإنسانية الفردية المؤلمة، بينما يمنحنا الضمير الثاني الرؤية الشاملة التي تضع هذه التجربة في سياقها الاجتماعي والتاريخي. هذا التناوب بين الداخل والخارج، والذاتي والموضوعي، هو ما يعطي الرواية أبعادها المتعددة، ويؤكد على ثيمتها الرئيسية: صراع الروح الفردية الحالمة (بصوت "أنا") في مواجهة واقع قاسٍ وشامل (بعين السارد العليم).

النهاية:

تأتي نهاية الرواية لتقدم حلاً أسطورياً يتناسب مع طبيعتها الفانتازية، وهو ليس عودة إلى الواقع بل تجاوز له:

- التدخل الإلهي: بينما يحيط بها أهل الحي الغاضبون لقتلها، يتدخل البحر نفسه لإنقاذها. يثور الموج وتخرج منه عربة ذهبية يجرها "أبيسدون" (بوسيدون)، إله البحر الذي كانت تناجيه1.

- الاتحاد الأبدي بالبحر: يخطفها بوسيدون من أمام أعدائها ويغوص بها في أعماق مملكته14. هذا الحل لا يعيدها إلى عالمها الأصلي، بل يحقق اتحادها الكامل مع "نصفها الآخر"، البحر، الذي كان دائمًا ملجأها ومصدر قوتها. إنها نهاية رمزية تمثل الخلاص النهائي من عالم البشر القاسي والاندماج في عالم الأسطورة والطبيعة الأبدي.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل النهاية: خلاص أسطوري أم هروب أبدي؟

تؤكد نهاية الرواية، بإنقاذ "بوسيدون" لأحلام واختفائها في أعماق البحر، على طابعها الأسطوري. يمكن تفسير هذه النهاية كخلاص رمزي وتحقيق للذات بالاتحاد مع الطبيعة والأسطورة، بعيداً عن عالم البشر القاسي. وفي الوقت نفسه، هي إقرار مرير بأن العدالة والسعادة في الواقع الذي صورته الرواية أمر مستحيل، وأن الهروب إلى عالم الخيال هو الملاذ الأخير. بذلك، تنجح رواية "امرأة نصفها بحر" في توظيف شكلها الفني (الواقعية السحرية) لخدمة مضمونها النقدي والفلسفي، مقدمةً عملاً أدبياً يترك القارئ في حالة تأمل عميقة حول طبيعة الواقع والخيال، والظلم والخلاص.

***

د. نجلاء نصير

قالوا: تدلّل! قلتُ: لا!.. الشعر كفعل مقاومة أخلاقية

الخلفية التاريخية للقصيدة*: وُلدت قصيدة «قالوا: تدلّل!» في عام 1978، في فترة سياسية عراقية مثقلة بالقمع وتقييد الحريات، حيث كانت المعارضة تتعرض لهجمات قمعية شديدة، وكان أعضاءها يُغَرى بعضهم للتنازل عن مبادئهم تحت ضغوط الأجهزة الأمنية. كتب الشاعر النص الأصلي مكوّنًا من ثمانية أبيات، (الأبيات: 1، 2، 3، 7، 8، 12، 20، 25)، ونُشرت حينها في مجلة الورود اللبنانية التي كان يصدرها الأديب المرحوم بديع شبلي. لاحقًا، ومع تغيّر الظروف السياسية في العراق وسيطرة قوى جديدة، أعاد الشاعر النظر في النص، وأضاف إليه أبياتًا جديدة، لتصبح القصيدة شهادة مزدوجة: على زمن القهر السابق، وعلى القدرة الشعرية على الصمود والمواجهة في مواجهة التغيّرات السياسية والاجتماعية. تعكس هذه التعديلات والاضافات مراحل مختلفة من الصراع مع السلطة، وتمكن القارئ من متابعة التحولات الفكرية والموقف الأخلاقي للذات الشعرية قبل وبعد التغير في العراق.

المقدمة

تهدف هذه الدراسة إلى قراءة قصيدة «قالوا: تدلّل!» للشاعر عبد الستار نورعلي من منظور مادي–بنيوي وسيميائي، مع إيلاء عناية خاصة للسياق التاريخي الذي ولدت فيه القصيدة وتحوّلاتها اللاحقة. تنطلق الدراسة من فرضية أنّ النص الشعري يتجاوز كونه تجميعًا جماليًا للمفردات، ليكون بنية صوتية ودلالية تشتغل كأداة موقف. لذلك نركّز على آليات تشكّل الهوية الشعرية في القصيدة — الإيقاع، التكرار، التوازي، التقَطيع الصوتي — وإلى جانبها على آليات الاستعارة والانزياح الدلالي التي تعيد تأويل المفردات وتُنشيء رموزًا مقاومة.

تأخذ هذه القراءة بعين الاعتبار البُعد الزمني المزدوج للنص: جذور القصيدة في أجواء القمع السياسي عام 1978 حين كُتبت النسخة الأولى، وما نَتج عن إعادة النظر والإضافة في المنفى لاحقًا، حيث اتسع مرجع «قالوا» ليشمل أقنعةً سلطوية جديدة (دينية وطبقية واجتماعية). في ضوء هذا التطور، تتحول عبارة النداء «قالوا: تدلّل!» من توجيه ترغيبي محض إلى علامةٍ لآليات ترويض متحولة، فيما تصبح «قلتُ: لا!» بفعل الصوت والوقفة يؤسّس لهويةٍ أخلاقية مقاومة تمتد عبر الأزمنة.

تنقسم الدراسة إلى محاور متكاملة تتقاطع منهجيًا: تفسير العنوان ونص القصيدة، قراءة الأبيات في ضوء ثنائية ما قبل التغيير وما بعده، تفكيك الاستعارات والانزياحات كآليات لإنتاج الذات الشعرية، تحليل البنية المادية للصوت والنبر كأدوات لتوليد التوتر الاحتجاجي، وفحص العلاقات الجدلية بين الذات، والآخر، والسلطة، والمجتمع. كما يتناول القسم السيميائي شبة العلامات الرمزية ويبيّن كيف تُشتغل هذه العلامات داخل البنية البنيوية للنص لتؤسس معنىً مقاومًا.

في نهاية المطاف، تسعى الدراسة إلى إظهار أن القصيدة ليست مجرد رد فعل تاريخي موثّق فحسب، بل نصٌّ متحوّل يُعيد صياغة مواقفه الأخلاقية والفنية عبر الزمن: من رفضٍ ظرفي إلى «لا» تأسيسية، ومن صورة شعريّة إلى فعلٍ أخلاقيٍ يبلور هويةً لا تُهرَب ولا تُشترى.

القصيدة

(قالوا: تدلّلَ!)

منْ قبلُ:

قالوا: تدلّلَ!

قلتُ: لا!

ما بالدلالِ حَيِيْتُ

المرءُ إنْ حميَ الهوى

في القارعـاتِ يفـوْتُ

لا يُصلحُ الوجهَ القناعُ

فـمُرتديـهِ مقيـْتُ

منْ رامَ وصلَ حبيبهِ

لا ينـثنـي، فيفـوْتُ

العشقُ خمرٌ صِرفُهُ

للعاشـقينَ القُـوْتُ

والتَّوقُ نشوةُ جَمرهِ

للهـائميـنِ مُـميـْتُ

صُبّوا الكؤوسَ فإنّني

في الشِّـاربينَ لَحوتُ

مَنْ يملأُ القدحَ الشَّرابَ

وعاقروهُ سكـوتُ!

لا أرتـضـي كأسـاً -

فإنّ العاتياتِ حُسِيْتُ

لمْ يروِ مِنْ ظمأي محيطٌ

هـادرٌ وصَمـوتُ

أو منْ تمنطقَ بالحروفِ

وحظُهُـنَ سُـكوتُ

فأنا البحارُ أنا السَّفائنُ

في الخضمِّ أفوتُ 3

ما كنتُ يوماً مِنْ صدىً

أو تـابـعًا فـدَنِـيْـتُ

أو خافضاً عيني لعِلجٍ

بالفُتـاتِ رُمـيْـتُ

فنساءُ أهلي الشَّامخاتُ

حليبَـهنَ سُـقيْتُ

ورجالُ بيتي الملحماتُ

تـوثـُّبٌ وثُـبـوتُ

إنّي الَّذي ذاقَ الهوا

للعـاليـاتِ قَـنُـوتُ

سيزيفُ، أحملُ صخرةً

ذراتُـها الكبـريـتُ

هذا أنا:

مِنْ كلِّ أدرانِ السِّفوحِ نَقِيْتُ

لمْ أخشَ منْ لبسَ الوقارَ

رداؤهُ الكَـهنـوتُ

أو منْ تبخترَ بالحريرِ

حـذاؤهُ الياقـوتُ

الكلُّ أصلٌ واحدٌ

مِنْ طينةٍ منحوتُ

وإلى ترابٍ عودةٌ

والباقياتُ الصِّيتُ

فلِمَ التَّكبُّـرُ والصُّدودُ!

ختامنُا مـوقوتُ

لا فرقَ بينَ العرشِ أو

مَنْ في الكفافِ يموت

تفسير العنوان والأبيات

تفسير العنوان:

يعمل العنوان «قالوا: تدلّل!» كبوابةٍ خطابية تكشف عن آلية السلطة في استمالة الأفراد: فالفعل «تدلّل» في ظاهره دلالة على التودّد أو المداعبة، لكنه في النص يُستعاد كقناع يموّه عملية ترويضٍ أوسع. صيغة «قالوا» توري بإبهامٍ الفاعل وتعمّم فعل الإغراء على «أخرى» اجتماعية أو مؤسساتية، بينما يحوّل ردُّ الشاعر «قلتُ: لا!» هذا الإغراء إلى لحظة تأسيسٍ أخلاقيّة. ومع إدخال الأبيات اللاحقة في المنفى، يتّسع مرجعُ «قالوا» ليشمل أقنعةً سلطويةً جديدة " دينيةً وطبقيةً "  فتُصبح دعوةُ «التدلّل» علامةً مزدوجةً: أداة قمعٍ مموّهة عبر الأزمنة، وُالرفضُ المؤسَّسُ معيارَ الصدق والكرامة عند الشاعر.

والأبيات

منْ قبلُ: "قالوا: تدلّل! قلتُ: لا!" — لحظة التأسيس الشعري للموقف الرافض

تعمل عبارة «من قبلُ» بوظيفتين متداخلتين: وظيفة زمنية تُحيل إلى مرحلة سابقة (ظرف القمع عام 1978) ووظيفة وجودية تُؤسِّس للموقف؛ إذ لا تعني فقط «في الماضي» بل «من الأصل» أي أنّ رفض الذات لم يكن ردَّ فعل ظرفيًّا بل هو قاعدة وجودية متجذّرة. تحويل «قالوا: تدلّل!» إلى خطابٍ سلطويٍّ مموَّهٍ بالإغراء يبرز كيف تُعرض على الشاعر (أو على مجموعاتٍ من المعارضين) إمكانية التنازل مقابل امتيازات، فيردّ الشاعر بـ«لا» الحاسمة التي لا تؤشر إلى مجرد رفض تكتيكي، بل إلى تثبيت هويةٍ أخلاقيةٍ لا تقبل الانقياد. من ثمّ، يصبح هذا البيت محورًا تأسيسيًا لقراءة القصيدة ككلّ: هو نقطة الانطلاق التي تُفسّر الإضافات اللاحقة في المنفى — حيث تتبدّل أقنعة السلطة (من القمع المباشر إلى ستر الدين والطبقية) — فتؤكد استمرارية وضعف كل محاولات الترويض أمام «لا» الأصيلة. (يمكن توثيق «قالوا» في هامش: هل تعني الأجهزة الأمنية، أم دوائر اجتماعية متواطئة، أم كلاهما؟ — انظر الأبيات المضافة التي تكشف أقنعة الكهنوت والترف.)

«ما بالدلالِ حييتُ» تُقرأ على مستويين: لغويًّا وصيغيًّا، وبينهما دلالة تأويلية مركزية. نحويًا، «ما» نافية تُعطي الجملة صبغة إنكارية تامة، و«بـلا» ظرفية تدلّ على الوسيلة أو القاعدة (أي: «بواسطة/بواسطته»)، فالمعنى الحرفيّ هو: «لم أعش بواسطة الدلال». لكن الدلالة السياقية عميقة؛ فـ«الدلال» هنا لا تُقصد بمعناه الحسي أو الغزلي فحسب، بل تُستخدم مجازًا على التملّق والانحراف عن المبدأ، والانقياد لغرائز الملاءمة أو امتلاك امتيازات على حساب الموقف.

بالتالي، يُقرّ الشاعر أن حياته ليست مبنية على «الدلال» — ليست حياةً مباحةً بالرضا أو بالمكاسب المشروطة — بل على الصدق والتمسّك بالمبدأ. هذا البيان يلازم فعل الرفض («قلتُ: لا!») ويحوّله من صيغة رفض موقفيّ عابر إلى الوجودُ لا يتحقّق في القصيدة عبر التملّق أو التسوية، بل عبر الثبات على المبدأ والمواجهة.من جهة بلاغية، تمنح صيغة النفي «ما… حييتُ» الجملة وقعًا أقوى من «لم أُدلّل» أو «لا أدلّل»؛ فهي تعلن محرَّمًا وجوديًّا، لا مجرد سلوك تكتيكي، فتؤسّس لخطٍّ أخلاقيٍ يأبى الاستسلام للترويض، ويُفسّر الإضافات اللاحقة في النصّ باعتبارها تعاملاً مع أقنعةٍ جديدةٍ للسلطة لا تغيّر جوهر الموقف الرافض.

من العشق إلى التأمل الوجودي – إعادة صياغة أكاديمية:

تمثّل هذه المقاطع من القصيدة انتقالًا دلاليًا من الرفض إلى العشق، ومن الموقف المباشر إلى التأمل الوجودي. فالعشق هنا لا يُقدَّم كعاطفة فردية عابرة، بل كقيمة كونية وأخلاقية تتخذ وظيفة تأسيسية في بناء الذات الشعرية.

من رامَ وصلَ حبيبهِ / لا ينثني، فيفوتُ

الحبيب في هذا البيت ليس صورةً غزلية تقليدية، بل رمزٌ للمبدأ الأسمى: الحرية، الصدق، أو الحق. ومن أراد بلوغ هذا المبدأ لا يجوز أن يتراجع، لأن الانثناء يعني ضياع الهدف. البيت إذن يضع الالتزام في مواجهة التخاذل، ويؤكد أن الهوية لا تُبنى إلا على الثبات.

العشقُ خمرٌ صِرفُهُ / للعاشقينَ القوتُ

يتحوّل العشق إلى خمر صافٍ، غير ممزوج، يُشرب كما تُشرب الحقيقة في صفائها، فيغدو غذاءً روحيًا للمؤمنين بالقيم العليا. هنا يرتقي الحب من كونه عاطفة وجدانية إلى أن يصبح طقسًا وجوديًا، بل جوهرًا للحياة الأخلاقية.

والتوقُ نشوةُ جمرهِ / للهائمينَ مميتُ

التوق ليس مجرّد حنين، بل هو شوق إلى المبدأ، إلى الوطن، إلى الحرية. لكنه توق مؤلم، إذ يشبه جمرًا يحرق الهائمين في دروب الالتزام. إنه موت رمزي، أو احتراق داخلي، يعبّر عن ثمن الإخلاص للقيم.

صُبّوا الكؤوسَ فإنني / في الشاربينَ لحوتُ

هنا يعلن الشاعر انخراطه الكامل في التجربة: لا يقف على مسافة منها، بل يشرب الكأس بملء إرادته. الشرب يتحوّل إلى فعل وجودي يرمز إلى التضحية والمشاركة في المعاناة المشتركة.

من يملأ القدحَ الشرابَ / وعاقروهُ سكوتُ

المفارقة في هذا البيت تكمن في أن من يملأ الكأس يقدّم التجربة، بينما من يشربها يلتزم الصمت. هذا السكوت ليس تعبيرًا عن التأمل، بل عن التواطؤ أو العجز عن الشهادة. وهنا يضع الشاعر معيارًا أخلاقيًا: الموقف لا يكتمل بالصمت، بل بالكلمة الملتزمة.

لا أرتضي كأسًا / فإنّ العاتياتِ حُسيتُ

يرفض الشاعر الكأس الممنوحة له، لأنه ذاق كأسًا أشدّ، هي المحن العاتية التي اختبرها في واقعه. إنه إعلان عن صلابة ذات مجروحة بالتجربة، لكنها أكثر نضجًا وصلادة في مواجهة السهل والزائف.

لم يروِ من ظمأي محيطٌ / هادرٌ وصموتُ

حتى المحيط بما فيه من هدير واتساع لم يستطع أن يُروي عطش الشاعر. هنا يصبح الظمأ رمزًا للبحث عن الحقيقة والمعنى، والبيت يُجسّد خيبة وجودية: لا شيء يملأ الروح إلا الموقف النبيل الصادق.

أو من تمنطقَ بالحروفِ / وحظهنّ سكوتُ

يتجه النقد نحو المثقف أو الأديب الذي يتزيّن بالبلاغة ويكتفي بالشكل، بينما يظلّ المعنى صامتًا. البيت فضحٌ للزيف الثقافي وللخطاب الذي لا يشهد للحقيقة.

خلاصة نقدية

في هذه الأبيات، يرسّخ الشاعر مفهوم العشق بوصفه قيمة وجودية وأخلاقية، ويواصل مشروعه في فضح الزيف، سواء كان زيف التجربة (الكأس المزيّفة)، أو زيف التعبير (الكلمة الفارغة). هكذا تتكوّن الهوية الشعرية كذات ملتزمة، لا تتزيّن بالمواقف، بل تعيشها بصدق، ولا تكتفي بالصمت، بل تشهد بالكلمة والفعل.

 الهوية الشعرية بين الفعل والوراثة

"فأنا البِحارُ، أنا السفائنُ / في الخضمِّ أفوتُ"

في هذا التوصيف الاستعاري يتماهى الشاعر مع رموز الحركة والعبور؛ فـ«البحّار» و«السفائن» لا يرمزان إلى ترفٍ أو ترددٍ بل إلى قدرةٍ على الانطلاقة والمجازفة. «الخضمّ» هنا رمزٌ للعمق والمخاطر، و«أفوتُ» فعل دخولٍ واشتباكٍ مع المجهول لا اجتيازٍ سطحيّ. البيت يؤسّس لذاتٍ فاعلةٍ تدخل حقل الحدث وتخطّ حواجزه بدلاً من أن تظلّ مراقبًا أو انعكاسًا للصوت الآخر.

"ما كنتُ يوماً من صدىً / أو تابعًا، فدنيتُ"

يُعلن الشاعر رفضه القاطع لأي وضعية تابعة أو انعكاسية. مصطلح «الصدى» يعبر عن التكرار الخالي من المبادرة، و«التابع» عن فقدان الاستقلالية؛ أما «فدنيتُ» فتدلّ على القرب الخاضع الذي يرفضه الشاعر. بالتالي يؤسس البيت لهوية تُعرّف نفسها عبر الأصالة والذاتية، لا عبر التقليد أو التبعية.

"أو خافضًا عيني لعلجٍ / بالفتاتِ رُميتُ"

يحوّل الشاعر موقف الاستعلاء والاحتقار إلى فعلٍ مرفوض أخلاقيًا؛ «العلج» هنا رمزٌ للغريب المتغطرس أو القاهر، و«الفتات» رمزٌ للذلّ الذي يطلبه الضعيف. رفض «خفض العين» يعني رفض الانحناء أمام القوة لقاء مزايا ضئيلة، وتعبّر الصورة عن موقفٍ قويمٍ يفضّل الكرامة على التنازل الطفيف

"فنساءُ أهلي الشامخاتُ / حليبهنّ سُقيتُ"

"ورجالُ بيتي الملحماتُ / توثّبٌ وثبوتُ"

يرسّخ الشاعر هويته بوصفها مُغروسة في إرثٍ اجتماعيٍ وأخلاقي. النساء هنا حاملاتُ الشموخ والتنشئة (الحليب رمزية للقيم والتربية)، والرجال رموزُ البطولة والفعل (الملحمة، التوثّب والثبوت). الهوية إذًا ليست فقط فعلًا فرديًّا وإنما وراثةُ قيمٍ تُغذّي الذات وتمنحها ثباتًا وقدرةً على المواجهة.

"إنّي الذي ذاقَ الهوا / للعالياتِ قَـنُوتُ"

يحوّل الشاعر مصطلحات العشق والتديّن إلى التزامٍ بالقيم العليا. «الهوا» هنا هو الشغف بالمبادئ، و«العاليات» دلالة على المثل السامية، أما «قنوت» فتعني خضوعًا طوعيًا ذو معنى روحاني/أخلاقي وليس خنوعًا مذلًّا. البيت يعبّر عن ولاءٍ أخلاقيٍ يتحمّل ثمنه باسم الصفاء والالتزام.

"سيزيفُ، أحملُ صخرةً / ذراتُها الكبريتُ"

باستحضار سيزيف يعيد الشاعر صياغة الأسطورة: الصخرة ليست مجرد عبء عبثي بل مادةُ نارٍ (كبريت) تدلّ على ألمٍ حارق وحرارةٍ اختيارية. هذا التأويل يُحوّل حمل العناء من عقاب عبثي إلى خيارٍ وجوديّ مشتعِل، حيث يصبح الصمود والمعاناة علامةً على الالتزام والقيمة.

«هذا أنا: مِنْ كلِّ أدرانِ السِّفوحِ نَقِيْتُ»

الإعلان النهائي عن الذات يأتي في صيغة تطهّرٍ ورفضٍ: الشاعر يُعلن نفيه للشوائب والانحدار، ويؤكد أن هويته بُنيت عبر التطهير من «أدران السفوح» - أي عن طريق الامتناع عن الانزلاق إلى الانحطاط الأخلاقي والاجتماعي.

خلاصة نقدية مُوجزة

تتشكّل في هذه الأبيات هوية شعرية مركّبة من فعل وراثي: فعل فردي فاعل يواكبه إرثٌ قيمِيّ يغذّيه الأصل والأسرة والمبادئ. الهوية ليست هنا مجرد موقع اعتزاز أو تزيين رمزي، بل مزيج من المغامرة (البِحار/السفائن)، والرفض الأخلاقي (ضد التبعية والذلّ)، والالتزام القيمي (الحليب/الملحمة/القنوت)، وحمل المعاناة المختارة (صخرة الكبريت). القصيدة بهذا المعنى تعرض نموذجًا للذات التي تُبنى عبر التفلت من الانعكاس والتبعية، والانغماس في تجربةٍ أخلاقيةٍ مؤلمةٍ لكنها مفضّلة على ذلّ السقوط؛ هو خطاب يربط بين الفعل الفردي والوراثة القيمية ليقدّم هويةً شعريةً صلبة ومتجذرة.

الذات النقية في مواجهة الزيف

"من كل أدران السفوح نقيتُ"

يعلن الشاعر هنا عملية تطهّرٍ أخلاقيٍّ واعية؛ فـ«السفوح» ترمز إلى بؤر الانحطاط والتواطؤ والتلوث الرمزي، بينما «النقاء» لا يفهم على أنه طهارة جسدية بل كخيار وجوديّ. إن الذات في هذا البيت تُعرّف نفسها عبر فعل الرفض والتطهير، فتصبح نقاؤها نتاج موقف لا ميراثًا بيولوجيًا، أي أنها «ذات مختارة» بوعيها ومقاومتها للانحدار.

لم أخشَ من لبس الوقار / رداؤه الكهنوت

يتجسّد الآخر هنا في هيئة الكهنوت الزائف: نوع من السلطة الدينية التي تختبئ خلف الهيبة والوقار لتبرير القمع. لا يستهدف النقد العقيدة بقدر ما يستهدف استغلال الهيبة الدينية لأغراض قهرية. يرفض الشاعر هذا الوقار المتصنع، ويعيد تعريفه على أنه يقينٌ يُعاش لا زينة تُرتدى، فتصير الذات قادرة على مواجهة الهيمنة الرمزية بصدقٍ واستقلالية:

أو من تبختر بالحرير / حذاؤه الياقوتُ

يمتد النقد ليشمل الزيف الطبقي؛ فالتبختر بالحرير والياقوت رمز للافتخار الفارغ واستعلاء الطبقات المترفة. يراهن الشاعر على أن القيم والكرامة لا تُقاس بالمظاهر، فتتشكل الذات بوصفها مقاومة مزدوجة: ضد التسلط المقدّس وضد التباهي الطبقي، ضد القناع الديني وضد الزينة الاجتماعية.

خلاصة نقدية

تتحدد الذات الشعرية في هذه المقاطع كذاتٍ نقية، صلبة، ومتمرّدة على كل أشكال الزيف — دينيًا أو طبقيًا —، إذ تُعرّف نفسها لا بما ترتديه من وقار أو ياقوت، بل بما ترفضه من قبائح. يقدّم الشاعر موقفًا أخلاقيًا صارمًا؛ تطهّرًا داخليًا ورفضًا للمظاهر، مُعيدًا بناء الكرامة كممارسة موقفية لا كمظهرٍ خارجي

 الموت بوصفه مساواة، والصيت بوصفه أثرًا

تنتقل هذه المقاطع إلى مستوى تأملي أخلاقي وفلسفي يجعل من الموت مفهوماً معادلاً ومبدِّداً للفوارق الاجتماعية، ويمنح للصيت دلالةً مبدئية كمعيارٍ لقياس قيمة الإنسان.

"الكلُّ أصلٌ واحدٌ / من طينةٍ منحوتُ"

يعلن الشاعر هنا عن وحدة الأصل البشري، مفنِّدًا التمايزات المصطنعة التي تبرر التمايز الطبقي أو الديني. كلمة «منحوت» توحي بأن الاختلافات إنما هي صورٌ سطحية قابلة للنحت والتشكيل، وليست فوارق جوهرية. بالتالي يتحوّل الموقف إلى تأسيس فلسفي للمساواة: الإنسان قبل كل شيء مادةٌ واحدة تنتهي إلى نفس المصير.

"وإلى ترابٍ عودةٌ / والباقياتُ الصِّيتُ"

يرسم البيت تصوّراً وجودياً يربط بين النهاية المادية والخلود الأخلاقي. العودة إلى التراب تشي بعجز الامتيازات أمام الموت، بينما «الباقياتُ الصيتُ» تشير إلى الأثر الأخلاقي أو السمعة النزيهة التي تبقى بعد زوال الجسد. بهذا يحوّل الشاعر مفهوم الخلود من رغبة في بقاء جسدي إلى رغبة في بقاء أثرٍ معنوي يترسّخ في الذاكرة الجمعية.

"فلِمَ التكبرُ والصُّدودُ! / ختامُنا موقوتُ"

يتخذ الشاعر هنا موقفًا نقديًا من الغرور الإنساني: «موقوت» تذكير بأن لكل بداية نهاية محددة، وأن التعالي والتكبر لا يحرمان المصير المشترك. السؤال البلاغي يفضح عبثية التفاخر ويعيد التذكير بجدوى التواضع والصدق كقيم أخلاقية مبرِّرة للكرامة الحقيقية.

لا فرقَ بينَ العرشِ أو / من في الكفافِ يموتُ

يصل النص إلى ذروة تأمّله الفلسفي في هذا التباين؛ الموت بوصفه معادلاً كونيًا يلغى الفوارق المادية ويضع الجميع على مستوًى واحد. بهذه الصورة تصبح القصيدة بيانًا إنسانيًا شاملًا يتخطى الشكليات الاجتماعية ليؤكد على وحدة المصير والكرامة الإنسانية.

خلاصة نقدية    

في هذه الأبيات يتحوّل الموت من حدث بيولوجي إلى أداة نقدية وفلسفية تفضي إلى المساواة وتفضح زيف التراتب الاجتماعي. أما الخلود فليس هنا في بقاء الجسد أو السلطان، بل في «الصيت» — أثرٌ أخلاقي ونزاهةُ فعلٍ تبقى شاهدةً على الإنسان. بذلك تختتم القصيدة بطوق تأمّل يُعيد ترتيب القيم: التواضع فضيلة، والصدق خلاص، والأثر الأخلاقي معيار الخلود..

الانزياح الدلالي والاستعارات في قصيدة «قالوا: تدلّل!» 

تُعدّ الاستعارة والانزياح الدلالي من الأدوات البنائية المحورية في قصيدة «قالوا: تدلّل!»، حيث تُستخدمان ليس فقط كوسائل بلاغية لتجميل النص، بل كأدوات تأسيسية لخلق هوية شعرية مقاومة. في ظل التغييرات التي حدثت في القصيدة بعد أن أُضيفت الأبيات الجديدة في مرحلة المنفى، أصبحت الاستعارة والانزياح محملتين بأبعاد إضافية، تتجاوز الخطاب الأيديولوجي البعثي لتشمل الأسوار الدينية والطائفية التي نشأت بعد التغيير في العراق عام 2003.

 1- الاستعارة والأنزياح الدلالي قبل التغيير

في النسخة الأصلية للقصيدة، التي كُتبت عام 1978 في العراق، كان الاستعمال الرئيسي للانزياح في النص محصورًا في محاربة القمع السلطوي. على سبيل المثال، استعارة «الخمر» التي كانت في الأصل رمزًا للمتعة، تمّت إعادة توظيفها لتصبح غذاء روحيًا» بدلًا من كماليات الحياة، ما يبرز المعاناة والالتزام بمبادئ الحرية.

أما استعارة «الصخرة» فقد كانت تمثل عبئًا ثقيلًا، لكنها بعد الانزياح الدلالي في القصيدة، صارت تشير إلى الصبر والمثابرة في مواجهة الاستبداد.

2- الاستعارة بعد التغيير

عند إضافة الأبيات في مرحلة المنفى بعد 2003، وتحديدًا بعد التغيير السياسي في العراق، بدأت الاستعارة تحمل معاني إضافية تتعلق بالهيمنة الدينية والتطرف. على سبيل المثال، استعارة «العمامة» قد تم إدخالها في الخطاب الديني بعد التغيير لتصبح رمزًا للهيمنة وقمع الحرية باسم الدين. وبتوظيف هذه الرمزية، قد تكون القصيدة قد عكست نضوج الشاعر في مواجهة سلطة جديدة تتخفى تحت غطاء ديني، مما جعل الكلمة «لا» في البداية تأخذ أبعادًا متعددة؛ فهي ليست مجرد رفض لسلطة بعثية، بل أيضًا رفض للهيمنة الطائفية.

3- الانزياح

الانزياح الدلالي في النص بعد التغير يعكس تحولًا في تركيز الشاعر من المقاومة السياسية إلى التصدي لسلطات اجتماعية ودينية جديدة. فعلى سبيل المثال الكأس، التي كانت تمثل بداية التمرد، أصبحت بعد التغيير تمثل السُكر الناتج عن التدين الزائف، أي الاستسلام للهيمنة الدينية التي حاولت في ذلك الوقت تزييف مفهوم الوطنية بالتماهي مع الدين.

الحرير والياقوت، كانا رمزين لا للترف والمال في الحقبة البعثية، أصبحا في الإضافات اللاحقة رمزًا للسلطة الطائفية التي تبخترت بغطاء ديني لتحقيق مكاسب اجتماعية وسياسية.

4- التحول في النبرة الاستعارية بعد التغييرات

في الإضافات اللاحقة، اكتسبت القصيدة أبعادًا وجدانية وجودية أعمق. الاستعارة ليست فقط أداة للتمرد ضد السلطة، بل أصبحت تجسد الرفض الدائم لمفاهيم التدجين والترويض الاجتماعي والديني.

على سبيل المثال، عبارة «من قبلُ» تُعبّر عن رفضٍ دائم الجذور، وبالتالي تكون «اللا» في بداية القصيدة ليست مجرد رد على الضغط السلطوي، بل تُصبح مبدأ وجوديًّا يتجاوز الزمان والمكان ويصبح رافضًا ليس فقط للسلطة السياسية، بل لكلّ قوى التغيير المزوّرة التي تتنكر في ثوب الدين أو الطبقة الاجتماعية.

5-  الاستعارة بين الأبعاد الثقافية والتاريخية عند مقارنة الاستعارات والأنزياحات بين الفترة الأصلية (1978) والفترة اللاحقة بعد التعديل، يُلاحظ أن التغيير قد انعكس في التوظيف الرمزي للأشياء. فكل استعارة لم تعد مجرد توظيف لفظي، بل أصبحت أداة نقض لسلطة مستمرة عبر أطر مختلفة: دينية، طبقية، وأيديولوجية.

إن إضافة أبيات جديدة بعد التعديل في المنفى جعلت كل استعارة تحمل بُعدًا تاريخيًا يربط الماضي بالحاضر، ولا سيما مفهوم الرفض الجذري الذي يظل جزءًا أساسيًا من الموقف الشعري للذات الشاعرة.

6- خلاصة التحليل الاستعاري والانزياحي بعد التغيرات:

الاستعارة والانزياح الدلالي في قصيدة «قالوا: تدلّل!» تتحوّلان من أدوات بلاغية إلى أدوات مقاومة فعلية. وبعد التعديلات التي أُدخلت على النص، أصبحت القصيدة نموذجًا شعريًا مقاومًا يتجاوز الانكسار المحلي أو السياسي ليمتد إلى فضاء أكثر عمومية، يُحارب فيه الفساد والاستبداد، سواء كان دينيًا أو اجتماعيًا. القصيدة تُؤكّد على أن التغيير الحقيقي لا يتوقف عند الثورات الجغرافية أو السياسية، بل يمتد ليشمل الوعي الشعري الذي يُسائل، يرفض، ويُعيد تشكيل الهوية الثقافية والاجتماعية.

التوتر الشعري وتكثيف طاقة الرفض:

الإيقاع، التكرار، التوازي، والتقطيع الصوتي

الإيقاع وبنية التوتر:

الإيقاع في القصيدة لا يعمل كموسيقى زخرفية فحسب، بل بوصفه إيقاع مقاومة ينبثق من تكرار النفي والرفض. كلمة «لا» في المطلع تُحدث صدمة إيقاعية: جفافها وقَطعها يكسِران انسياب الخطاب ويؤسسان لجوّ شعري مشحون بالتوتر منذ البداية. ويأخذ هذا الإيقاع الداخلي زخمه بالتتابع الفعلي للأفعال (حَييتُ، رميتُ، أبيتُ...) التي تمنح الرفض ثبوتًا صوتيًّا ودلاليًّا.

التكرار كآلية توليد التوتر:

التكرار عنصر بنيوي محوري؛ تكرار «لا» و«ما» لا يكرّر المعنى فحسب، بل يضاعف وقع النفي حتى يصبح ترسيمة صوتية تضغط على المتلقي. كل عودة إلى النفي تُعيد إنتاج حالة توتّر إيقاعي وتصعيد انفعالي. ومع الإضافات التي أدخلها الشاعر في المنفى، صار التكرار أداة لبيان استمرارية الرفض عبر زمنين: رفض السلطة السياسية في الماضي، ورفض أشكال الهيمنة الدينية والاجتماعية لاحقًا.

التوازي الإيقاعي والدلالي:

تقوم القصيدة على بنى توازنية توازي بين صدر البيت وعجزه، فتتوزع القوة الإيقاعية بشكل يحوّل الجمود إلى رفض منظّم. تراكيب مثل «ما بالدلال حييتُ» و«ما بالخضوع ارتضيتُ» ليست تماثلاً لفظيًا فحسب، بل إيقاعٌ مضادّ للسلطة؛ إذ تكمل كل جملة الأخرى في رفضٍ متجدّد، وتؤسس لإيقاعٍ جدليّ يقيم «محاكمات شعرية» متكررة لمظاهر القمع المتبدلة.

التقطيع الصوتي وبناء الانكسار:

التقطيع الصوتي هنا يكشف عن وقفاتٍ ونبراتٍ مُتعمّدة: التوقف بعد «قلتُ: لا!» أو وقع الحروف الصلبة في «رميتُ» و«أبيتُ» يشحن الأبيات بطاقة جرسية حادة. هذه الصلابة الحرفية (التاء، الباء، الراء) تعمل كإيقاعات تصادمية تترجم الصراع الداخلي للذات الشاعرة مع محيطها. إذًا، التقطيع ليس ترفًا عروضياً بل تكسيرًا متعمَّدًا للانسياب يخاطب الاضطراب النفسي والوجودي للنص.

التوتر الشعري كحصيلة وظيفية:

تتلاقح في النص عناصر الإيقاع الحادّ، والتكرار الضاغط، والتوازي البنائي، والتقطيع الصوتي لصياغة توترٍ شعريٍّ متراكم. هذا التوتر لا يظل محصورًا بصيغة احتجاج لفظية مؤقتة، بل يصبح متنًا صوتيًا يعبّر عن موقفٍ «لا» يستحكم عبر الزمن: رفضٌ لا يقبل المساومة، وتمرّدٌ لا يهدأ حدّته. ومع التغيّرات التي طالت القصيدة لاحقًا، تزايدت حدة هذا التوتر لتجسد صراعًا أعرض يمتدّ من رفض سلطة بعثية إلى رفض كلّ هيئة قمعٍ تُلبَسُ رداءً جديدًا.

خلاصة موجزة: الإيقاع والتكرار والتوازي والتقطيع الصوتي في «قالوا: تدلّل!» لا تُشكّل سطحًا موسيقيًا فقط، بل هي أدوات جمالية فعّالة تُحوّل اللغة إلى جسد مقاوم. عبر هذه الأدوات يتحوّل النفي إلى قانون وجوديّ، وتصبح الكلمة صوتًا فعلًا يقاوم الاستبداد بأشكاله المتبدلة.

الشعر بوصفه بنية مقاومة:

قراءة بنيوية في «قالوا: تدلّل!»

1- البنية الزمنية: "من قبلُ" كبنية تحوّل:

تفتتح القصيدة باستذكار لحظة ماضية: «من قبلُ: قالوا: تدلّل!».

هذا الاستهلال يُؤسّس لبنية زمنية مزدوجة:

زمن القبل: زمن الإغراء والسلطة الناعمة التي تُحاول استيعاب الذات.

زمن الآن: زمن الوعي والرفض، حيث تتشكّل الذات من جديد.

وبذلك تتحول "من قبلُ" من مجرد مؤشر زمني إلى علامة بنيوية تعيد ترتيب النص، بوصفه سردية تحوّل وصيرورة، لا مجرد لحظة احتجاجية منفصلة.

2- البنية الحوارية: بين القول والرد:

تقوم القصيدة على حوار مختزل: قالوا: تدلّل! / قلتُ: لا

"قالوا": تمثل صوتًا جماعيًا سلطويًا، يفرض التبعية عبر الإغراء.

"قلتُ": تمثل صوتًا فرديًا مقاومًا، يعيد تعريف الذات كفاعل مستقل.

هذا التوازي الصوتي يُنتج توترًا بنيويًا بين القسر والحرية، بين الترويض والرفض.

3- البنية الإنكارية: النفي بوصفه بناءً:

يتكرّر النفي في النص بصيغ متعددة: «لا أرتضي»، «لا يُصلح»، «لا فرق»، «ما بالدلال حييتُ».

هذه التكرارات لا تؤسس موقفًا سلبيًا، بل تعيد تفكيك المعايير السائدة، لتؤسس معايير بديلة. النفي هنا أداة لإعادة بناء القيمة، أي أنه يشكل استراتيجية لغوية للمقاومة داخل النص.

4- البنية الرمزية: طقوس المعاناة وعبث سيزيف

تتأسس القصيدة على شبكة رمزية كثيفة:

الخمر، الكأس، الجمر: طقوس المعاناة المختارة، لا الاستسلام.

سيزيف والصخرة: إعادة تأويل العبث كفعل مقاومة

القناع والوجه: جدلية الزيف والحقيقة في المجتمع.

هذه الرموز تتفاعل لتبني معنى يتجاوز المباشر، حيث تتحول التجربة الفردية إلى رؤية وجودية وجماعية.

5- البنية الصوتية: الإيقاع بوصفه توترًا

الإيقاع لا يقوم على العروض الخليلي، بل على:

تكرار الأصوات الحادة (ق، ت، ح).

توزيع النبرات والتقطيع الصوتي.

الانقطاع الإيقاعي المتعمد

بهذا يصبح الإيقاع تجسيدًا لاضطراب الذات ومقاومتها، ويؤكد أن التوتر الإيقاعي جزء من دلالة النص، لا مجرد زخرفة موسيقية.

6- البنية الجدلية: الذات والآخر

يتشكل النص عبر جدلية ثنائية:

الذات: رافضة، صادقة، فاعلة.

الآخر: سلطة اجتماعية/طبقية/دينية تتحول لاحقًا إلى الآخر الإنساني العام.

هذه الجدلية تُعيد تعريف الهوية لا بوصفها انتماءً اجتماعيًا جامدًا، بل موقفًا أخلاقيًا ومقاومًا.

خلاصة بنيوية:

إن قصيدة «قالوا: تدلّل!» ليست مجرد نص احتجاجي، بل هي بنية شعرية مقاومة تتجلى في تعدد المستويات: الزمنية، الحوارية، الإنكارية، الرمزية، الصوتية، والجدلية. فالشعر هنا يُعيد ترتيب العلاقة بين الذات والسلطة، بين الكلمة والموقف، بين الشعر والحياة

الذات والآخر:

تشكّل الهوية في مواجهة السلطة والمجتمع (بعد التغيّرات)

تتشكل الذات الشعرية في قصيدة «قالوا: تدلّل!» كذاتٍ رافضةٍ ومستقلةٍ ومقاومةٍ لآليات الخضوع المتعدّدة؛ لكنها لم تعد مواجهةً موجهةً إلى شكلٍ واحدٍ من السلطة فحسب، بل صارت مواجهةً تمتدّ زمنياً ومؤسساتياً لتشمل أقنعة جديدة للهيمنة بعد التغيير السياسي في العراق. الذات هنا ليست انعتاقًا فرديًا منعزلاً، بل نتاج صراع جدليّ مستمرّ مع «الآخر» المتبدّل، الذي يتجلّى في صور عدة: سلطةٌ دينية متسترّة، طبقةٌ متنفّذة متبخترة، مجتمعٌ زائفٌ يروّج للصمت، وفي المقابل إنسانٌ آخر شريك في المصير. يمكن تفصيل هذا المحور كما يلي:

1- الآخر كسلطة دينية (الكهنوت) بعد التغيّر

في البيت: «لمْ أخشَ منْ لبسَ الوقارَ / رداءهُ الكَهنوتُ» يتبدّى الآخر في صورة رجل دينٍ لا تمثّل الدين بمعناه الروحي فحسب، بل تمثّل شبكةً من نفوذٍ وسلطاتٍ تستخدم «الوقار» كقناعٍ للهيمنة. بعد تغيّر المشهد السياسي وظهور قوىٍ ارتدت العمامة تشرعن سلطتها، يتسع مدلول «الكهنوت» ليشمل استغلال الدين كمبرّر للتمييز والسيطرة. النقد هنا موجه إلى قناة السلطة الدينية الزائفة لا إلى الإيمان ذاته؛ فالذات الشعرية ترفض أن يُستخدم المقدّس ستارًا للاضطهاد، وتعيد قراءة «الوقار» كصدقٍ أخلاقيٍ لا كمظهرٍ وظيفي للهيمنة.

2- الآخر كسلطة طبقية (الترف والزينة) في ظلّ التحوّلات

في قوله: «أو منْ تبخترَ بالحريرِ / حذاؤهُ الياقوتُ» يظهر الآخر في صورة الطبقة المتنفذة التي تستثمر الثراء والرموز المادية لفرض تفوّقٍ اجتماعي. بعد التغيير السياسي، لم يزل التبدّل الطبقي جذور التفاوت؛ بل ظهرت طبقات جديدة تتباهى بزينةٍ دينية أو وطنية، فتتكرر أساليب التبختر في مظاهرٍ متبدّلة. لذلك، تصبح مقاومة الشاعر نقدًا لكل أشكال التفاخر — سواء بالحرير أو بالغطاء الديني — وتأكيدًا أن الكرامة معيار موقف لا معيار زيّ.

3- الآخر كمجتمع زائف: (القناع، الدلال، الصمت) وتوسع مرجع «قالوا» المجتمع في القصيدة يُصوَّر كحقلٍ يطالب بالتزيّن والتواطؤ: «لا يُصلحُ الوجهَ القناعُ» و«قالوا: تدلّل! قلتُ: لا!». بعد الإضافات اللاحقة، يتسع مرجع «قالوا» ليشمل ليس فقط أجهزة القمع السياسي بل عناصر اجتماعية وثقافية ودينية تضغط على الفرد ليتماهى؛ فـ«التدلّل» يتحوّل إلى أسلوب ترويض ناعم يمارَس عبر المجاملة والسكوت. الذات الشعرية هنا لا تختزل استقلالها في رفضٍ ماضٍ فقط، بل في رفض متكررٍ يتماهى مع موقفٍ أخلاقيٍ ثابت أمام كل دعوات التواطؤ.

4- الآخر كمصير مشترك (الموت، التراب، الصيت) — تأكيد إنساني بعد التحوّلات:

رغم المواقف النقدية والرفض المتواصل، تحتضن الذات الآخر الإنساني كشريكٍ في المصير: «الكلُّ أصلٌ واحدٌ / مِنْ طينةٍ منحوتُ» و«لا فرق بين العرشِ أو / من في الكفافِ يموت». هذه اللحظة التأملية، التي تبرز بقوة بعد التغيّرات، تقوّي الفكرة بأنّ الفوارق الظاهرية (سلطة، طبقة، لباس) تنهار أمام المصير الواحد؛ وهنا تتحول المقاومة من رفضٍ انتقامي إلى موقف تواضعي يُعيد تأكيد الكرامة الإنسانية كأساس للهوية.

خاتمة نقدية:

الذات الشعرية في «قالوا: تدلّل!»، بعد التغيّرات وإضافة الأبيات في المنفى، تظلّ ذاتًا مقاومةً لا انعزالية، تتشكّل في قلب صراعٍ جدليّ مع «الآخر» بأدواره المتبدّلة: السياسي، الديني، الطبقي والاجتماعي. إن ما يميّز هذه الذات هو قدرتها على الجمع بين الرفض الأخلاقي وكشف زيف السلطة، وبين الاعتراف الإنساني بالمصير المشترك. بهذا، تُحوّل القصيدة فضاءها من مجرد بيانٍ شعري ضدّ قمعٍ معيّن إلى خطابٍ أوسع يُفحَص فيه كل قناعٍ للهيمنة، ويُعاد فيه تعريف الهوية كقيمة موقفية تتجاوز الزمان والمكان

التحليل السيميائي - تفكيك العلامات وبناء المعنى الرمزي بعد التغيّرات

تهدف هذه القراءة السيميائية إلى إعادة قراءة شبكة العلامات في قصيدة «قالوا: تدلّل!» في ضوء التعديلات التي أدخلها الشاعر لاحقًا (ما بعد 2003)، وربط هذه الدلالات الجديدة بما تكشّفناه في أقسام الدراسة الأخرى (الاستعارة والانزياح، البنية المادية، الذات والآخر). سنعالج العلامات الرئيسة ودلالاتها التحويلية، ثم نوضّح كيف تُوظَّف هذه العلامات ضمن عمليّة بناء معنى مقاوم ومركّب.

1- العنوان «قالوا: تدلّل!» — علامة المدخل/الاستدعاء

الدال الظاهر: نداء للمداعبة أو المجاملة.

المدلول القابع: خطاب ترغيبٍ سلطوي/اجتماعي يُخفي رغبة ترويضية.

ما بعد التغيير: «قالوا» يتوسّع ليشمل أجهزة قمعية قديمة وأقنعة جديدة (كهنوت، طبقات متنفِّذة، زعامات دينية).

وظيفته السيميائية: يعمل كمدخل حواري تأسيسي — يحوّل «الدلال» من فعلٍ اجتماعي بريء إلى رمزٍ لآلية ترويض تُواجهها «لا» التأسيسية. يربط المبادئ/ بين مقاطع ما قبل وما بعد التغيير.

2- القناع/الوجه — رمز الزيف والصدق

 القناع (دال): الزينة، الوقار المزيف، المجاملة.

 الوجه (مدلول): الهوية الحقيقية، الصدق الأخلاقي.

 ما بعد التغيير: القناع لم يعد حكرًا على طبقةٍ واحدة؛ صار يتخذ أشكالًا دينية (الوقار الكهنوتي) واجتماعية (الحرير والياقوت)

علاقته بالأقسام الأخرى: يتقاطع مع قراءة الذات/الآخر: المواجهة ضد المجتمع الزائف تُقرأ صوتيًا (التكرار، الوقفات) وبنيويًا (التوازي بين «نساء أهلي» و«رجال بيتي»)؛ القناع موضوعٌ لكل من البنية المادية والسيمياء.

3- الخمر/الكأس/الجمر — رموز العشق، المعاناة، والالتزام

الخمر: انتقال من متعة إلى غذاء روحي (انزياح دلالي).

الكأس: وعاء التجربة الطقسية — شربٌ للصراحة/الموقف.

 الجمر: الألم المميت/التطهير.

ما بعد التغيير: الرموز تُعاد وظيفيًا لتشمل مواجهة أشكال جديدة من التسيس الديني والاجتماعي: الشرب بمعناه الطقسي يصبح مقاومة للزيف الطقوسي.

ربط منهجي: تتلاقى هذه الرموز مع الاستعارة كآلية لتشكيل الذات («أنا البِحار…») ومع البنية الصوتية عندما تتكرر صور الطقس (صُبّوا الكؤوس) لتوليد طقس شعري مقاوم.

4- سيزيف/الصخرة/الكبريت — إعادة تأويل الأسطورة

سيزيف (دال تقليدي): عبثية العمل.

في النص: الصخرة ليست حجراً عبثيًا، بل كبريت — ألمٌ ناريٌ مختار.

دلالة جديدة بعد التغيير: المثابرة تتحول من مأساة عبثٍ إلى موقف فعال له وزن أخلاقي؛ حمل الصخرة هو خيار مقاوم في وجه أقنعة الهيمنة المتجددة.

وظيفة سيميائية: الأسطورة تعطي النص بُعدًا كونيًا يربط بين تجربة شخصية (منفى وشهادة) وتجربة جماعية (مصير الشعب).

5- العرش/الكفاف/التراب/الصيت — رموز المساواة الكونية والمصير

العرش والكفاف: تفريق طبقي/مراتب اجتماعية.

التراب: المصير المشترك، النهاية الموحّدة.

الصيت: الأثر الأخلاقي الباقي.

ما بعد التغيير: يسقط النص هياكل التفوق الجديدة (سواء جاءت بزي الدكتاتورية أم بزي الدين)، ويؤكد أن معيار الخلود هو الصيت الأخلاقي لا السلطة أو الثراء.

أين يلتقي ذلك مع باقي الدراسة؟ هنا يتقاطع السيميائي مع البنيوي: التوازي التركيبي والجملي (عرش/كفاف، طينة/تراب) يجعل الخاتمة أخلاقية متأصلة.

6- آليات سيميائية ناقلة: التكرار، الصوت، والتقابل

التكرار: يعيد إنتاج العلامة حتى تصبح علامة معيشية (مثلاً: تكرار «لا» يجعلها قانونًا سلوكيًا).

العناصر الصوتية (قوافل الحروف الصلبة، الوقفات): تمنح العلامات نبرة حاسمة؛ «لا» الصوتية تصير علامة فعلية.

التوازي والتقابل: ينظم دلالة العلامات عبر أزواج رمزية (قناع/وجه، عرش/كفاف) ما يسهّل قراءة الجدلية بين الذات والآخر عبر النص.

7- العلاقة بين السيمياء والأقسام الأخرى في الدراسة

مع الاستعارة والانزياح: السيمياء تبيّن كيف تُعيد الاستعارات إسكان المفردات في حقل دلالي جديد (خمر-غذاء روحي).

مع البنية المادية: العلامات لا تعمل منفصِلة عن الإيقاع؛ الصوت والوقفات يجعلان من العلامة حدثًا وقتيًّا مع الذات والآخر: السيمياء تكشف مَنْ هم «قالوا» عبر التوسع الدلالي بعد التغيير؛ تبيّن كيف تحوّل «الآخر» عبر الزمن من جهاز قمعٍ إلى كهنوت وطبقة وزيف اجتماعي.

مع التحليل البنيوي: العلامات تعمل كعُقدٍ في بنية نصّية تُنظّم المعنى عبر تكرارٍ وتوازيٍ وتقابل

خاتمة سيميائية موجزة:

بعد التغييرات، لا تقف العلامات في «قالوا: تدلّل!» على مدلولٍ ثابتٍ واحد، بل تتحوّل إلى شبكة دينامية تربط بين زمنين ومجالات هيمنة مختلفة. السيمياء هنا ليست مجرد قراءة رمزية، بل أداة لفهم كيف يُعيد الشاعر تأطير تجربته (الماضي/المنفى) ويحوّل العلامات إلى أدوات مقاومة أخلاقية. لذا، يُنصح بوضع هذا التحليل السيميائي

بعد قسمَي الاستعارة والانزياح والبنية المادية مباشرة في الدراسة: سيعمل كجسر يوضّح كيف تُشتغل الرموز داخل الإيقاعات البنيوية وتدعم تشكيل الذات في مواجهة الآخر.

خاتمة الدراسة

في قصيدة «قالوا: تدلّل!» يعيد عبد الستار نورعلي تشكيل الذات الشعرية لتصبح فعلًا أخلاقيًا، وموقفًا سياسيًا مستقلاً، لا مجرد انفعالٍ وجداني عابر. انطلق النص من نفي تأسيسي اتخذ شكل رفضٍ قاطعٍ أمام ضغوط الترويض، ثم تفَتّح هذا الرفض عبر شبكة من الاستعارات والانزياحات الدلالية التي صاغت هوية مقاومة؛ هوية تُعرف نفسها بالفعل والصدق لا بالمظاهر والزينة. تفكَّك النصّ المعايير السائدة وأعاد بناءها عبر رموز محورية: كـ«الخمر» و«الكأس» و«الصخرة» وِسيزيف. التي تحوّلت إلى أدوات تأويلية تجسد اختيار المعاناة والالتزام بالمبدأ، فصارت الصورة الشعرية ممارسةً أخلاقية تمنح للهوية معنىً جديدًا.

من ناحيةٍ أخرى، تؤكد قراءة البنية المادية للنص (الإيقاع الحرّ، النبرات، التكرار، التوازي، والتقطيع الصوتي) أن الصوت والوقفات ليسا زينةً بل أدوات مقاومة، تشتغل على توليد توترٍ شعريٍ، يرسّخ نبرة الرفض، ويمنح الخطاب طابعًا وجوديًا مشحونًا بالصدق والاحتراق. بهذا المعنى تتحول «قالوا: تدلّل!» إلى نموذج شعري متكامل يزاوج بين العمق الرمزي والصرامة الأخلاقية، ويعيد تصور الشعر كفعلٍ مقاومٍ يخاطب الضمير، ويعيد ترتيب العلاقة بين الذات والعالم، بين الكلمة والموقف، وبين الحياة والمبدأ.

خاتمة تأويلية مقترحة:

في ضوء هذا التحليل، لا تعود (قالوا: تدلّل!) مجرد قصيدة مقاومة، بل تتحوّل إلى لحظة وعي تتجاوز زمن كتابتها الأصلي عام 1978، وتستمر في إعادة طرح سؤال الكرامة في وجه كل سلطة تُغري لتُخضع، وتُزيّن لتُدجّن. إن رفض الشاعر لا يُعبّر فقط عن موقف فردي، بل يُجسّد قلقًا وجوديًا تجاه الزيف ويُكرّس أن الكلمة الصادقة هي آخر معاقل الإنسان حين تُغلق الأبواب.

كما أنّ القصيدة لا تتوقف عند زمن السلطة البعثية، بل تمتد لتستحضر واقع العراق بعد التغيير، حيث سيطرت القوى الدينية، وارتدت العمامة لتصبح غطاءً للهيمنة، فتظل كلمة "لا" في مطلع النص مؤسسة لموقف أخلاقي وسياسي مستمر، يتجاوز اللحظة التاريخية الأولى.

القصيدة تُعيد تعريف الشعر بوصفه فعلًا أخلاقيًا حيًا، لا يُكتفى بقراءته، بل يُعاش. كل استعارة فيها ليست صورة فقط، بل تجربة، وكل انزياح ليس بلاغة فحسب، بل إعادة ترتيب للواقع، وبنية صوتية وإيقاعية تُجسّد الصراع مع الزيف والمكانة المزدوجة للذات في مواجهة الآخر والمجتمع والسلطة. بهذا، تُصبح قالوا: تدلّل! مرآة للذات التي تختار أن تحيا بلا قناع، تُقاوم بلا امتياز، وتكتب لتُخلّد موقفًا أخلاقيًا لا يُشترى.

***

سهيل الزهاوي

........................

* بقراءةٍ تاريخيةٍ ونصّيةٍ يستحضر العنوانُ في الأصل خطابَ الأجهزة الأمنية عام 1978، لكنّ الإضافات اللاحقة في المنفى توسّع دلالةَ «قالوا» لتشمل أشكالًا جديدة من الهيمنة (دينية/طبقية)، فتصير «التدلّل» رمزًا لكل أشكال الترويض والتمَيّز الاجتماعي.

 

قراءة هيرمينوطيقية تأويلية وأسلوبيّة ورمزية وسيميائية في قصيدة: «رَسائِلُ مَقْصُوفَةٌ» للنّاشِدَةِ: نبيلة الوزّاني

تبدو هذه القصيدة وكأنها صندوقُ بريد أزرق يُرسِلُ مناخه بين عوالم: عالمُ التِّقنيةِ الباردة (الميجابايت) وعالمُ البحرِ الوجدانيّ، فتنبثق من هذا التلاصقُ مفارقةٌ تلتقطها النصوصُ الحديثة: تلاقُحُ الرقميّ مع العتيق، والحَفْرُ في الذاكرةِ برمْلٍ يَبتلعه الريح. وسأحاول في ما يلي تفكيكَ النصّ بطبقاتٍ متعدّدة — هيرمينوطيقا، أسلوب، رمز، سيمياء، نفسيّ-دينيّ — لنسبر ما تحت جلد الشعر من نبضٍ وتوتّرٍ ودلالة.

1. العنوان والانتقال الهيرمينوطيقي:

«رَسائِلُ مَقْصُوفَةٌ» — في الترجمة الأولية للمعنى، العنوانُ يعلنُ حالةَ انقِطاعٍ: رسائلُ مقصوفة قدْ قُطِعَت، أو قصائدُ مقصوفة بمعنى مُحذوفة السطر الأخير. هيرمينوطيقياً، العنوان يحيل إلى قصْرٍ في التواصل؛ هو إعلان إصابةٍ في آلية البثّ بين المرسل والمستقبل. بهذا تضع الشاعرةُ القارئَ في انتظار تفسيرٍ مزدوج: هل القَصْفُ لغويّ أم وظيفيّ أم وجوديّ؟ الإجابة تتوزّع عبر النصّ: كلّها معًا.

2. الموضوع المركزي والدلالات الرمزية:

ثيمةُ الغياب والاتصال المقطوع تتكرر كنبْضةٍ مركزية: البريد الأزرق، الميغا بايت، التغطية، البحر، الرمل، الريح، المجذاف.

البريد الأزرق / الميغابايت → رمز الحداثة والتقنية، لكنه هنا مقيَّدٌ، معطّل: تقنيةٌ لا تُتيح اللقاء، هي وسيلة اتصالٍ تُعطَّل بفعل غياب "التغطية". رمزٌ للزمن المعاصر حيث تتكاثر الوسائط لكنّها قد تعجز عن التلاقي الحقيقي.

البحر → الترميز الكلاسيكي لللاشعور والعمق، مصدر الطوفان والنبذ. البحر يلفظُ ويبتلع، هو قِدْرُ الحريق النفسي ومساحة التوهان.

الرمل والريح → الذاكرةُ التي تُمحى، الكتابةُ التي يُطوِيها الزمن.

المجذاف/الجيب/الرسائل → عناصرُ فعلية تشير إلى فاعلية ذاتٍ صغيرةٍ تحاولُ الإبحار في بحرٍ واسعٍ، لكنها عاجزة.

بهذه المعادلة الرمزية تتشكل رؤيةٌ تقول: التكنولوجيا لا تغنينا عن العمق؛ والحبُّ في زمنِ الاتصالات قد يُصبِح تجربةً منقطعةً تتأرجح بين حضورٍ افتراضيّ وغيابٍ حقيقيّ.

3. البنية الأسلوبية واللغة والوزن:

القصيدة تنتمي إلى النثر الشعري/القصيدة العمودية المتمردة؛ لا تقف على قافيةٍ منتظمةٍ ولا وزنٍ تقليدي ظاهر. الخصائص الأسلوبية اللافتة:

التقطيع والكسور: شواهد مثل: "/تَبْنِيهِ لِلمَجْهولِ / وَتَطرَحُهُ مِن جَدوَلِ الأَعمَالِ/" — استعمال شرطاتٍ وشرط مائل (/) يخلق وقفًا استعاديًا، ويكسر التدفق، مضيئًا حالة الانقطاع والتقطع التي يعبر عنها الموضوع نفسه.

-التكرار والتوازي: تكرار كلمة «الرَّسائِلُ» في مطلع المقطع المحوري يعطي النصّ إيقاعًا أنشوديًا وقداسةً للمرسل؛ التوازي في الصور (موجةٍ وموحةٍ") يعزّز حالة التردّد.

-الصوتيّة والوزن الداخلي: هناك فنية في الاستعانة بالصوامت المتشابهة (تكرار الراء، الميم) التي توفّر موسيقى داخلية؛ وفي المقابل استعمال مفردات معاصرة (الميجابايت) يخلق صدامًا لغويًا مقصودًا يقرّب النصّ من واقعنا الرقمي.

-الخطاب الشِعريّ المتعدّد: النص ينتقل بين المخاطب/المخاطَب (أنتَ)، والراوية المتكلّمة (أنا)، وسردٍ تأمّليّ؛ هذا التعدد يفتح فضاءً حواريًا باختصارٍ باختزال.

-ملاحظات لغوية ونحوية وصياغية:

عبارة «المَيْجابَايْتْ»: من الأفضل لفظها/كتابتها بالعربية المعتمدة: «الميغابايت» أو «الميجابايت»، لتجنّب تشتيت القارئ.

في البيت: «تَبْنِيهِ لِلمَجْهولِ وَتَطرَحُهُ مِن جَدوَلِ الأَعمَالِ/» — تركيب «تبنيه للمجهول» يحتاج وضوحًا نحويًا: هل تبنيه لتصبح مجهولًا أم تبنيه متجهاً نحو المجهول؟ قد تكون هنا دلالةٌ على تغريب الفعل وسلبه، لكن جملةً أنضج لغويًا قد تُسهل التأويل.

السطر «أَفْتقِدُني/ أَفتَقدُكَ /» — هناك احتمال خطأ مطبعي: «أَفْتقِدُني» قراءةٌ مشتتة؛ الأصح في سياق المخاطبة: «أَفتقدُني؟ / أَفتقدُكَ؟» أو «أَفتقِدُني / أَفتقِدُكَ» (مع ضبط السؤال أو النفي). هذه الازدواجية قد تكون مقصودة لإثارة لُبسٍ بين السؤال والإقرار، لكنها أيضًا تضع قارئًا لغويًا أمام انقطاعٍ في الدلالة إن لم تُفسّر طبقيًا.

استخدام محسناتٍ بلاغيةٍ مثل الاستعارات المجازية (الرسائل كمجذاف) ناجح ويعطي النصّ بُعدًا تشبيهيًا صالحًا للتوسّع.

4. البُنى النفسية والدينية:

الهواجس النفسية في القصيدة تتبدّى في مشهدَي التوقّ والحرمان: المتكلِّمةُ شاعرةٌ تكتبُ رسائلَها في جيبها، تبتلعها الخيبة، وتذوبُ في خاتمة السطر. قراءة نفسية (فرويدية/يونغية) تكشف:

طابعُ النوستالجيا والمرثية: الحُبُّ هنا مأخوذٌ كبُنية فقدٍ تُشبه الاكْتئابَ أو الحزنَ الطويل الأمد؛ «صدرُكَ عاهةٌ مُزمِنةٌ» يصف حالةً نفسيةً كسجيّة.

الهو/الأنا/الأنا الأعلى: الذات الشاعرة تودّ الاتصال، والآخر «أنت» مُصوّر كذاتٍ تبني الحُبّ للمجهول، أي أنها تُشيِّئ الحُبّ إلى غايةٍ خارجيةٍ لا تعودُ إلى الذات. هذا يشي بوصفٍ إلازمُركزيّ للعلاقة: الآخرُ يبني لغير المتكلّمة، فيتحوّل الحبُّ إلى مشروعٍ مُغترب.

-البعد الديني/الوجودي: عبارة «تُنادمُني الوَحشَةُ» و«أَحْتسِي الخَيبةَ بِدمْعِ الحِبْرِ» تحملُ نوعًا من التشبيه الطقسي: الكتابة كطقس تطهير، الحبر كدم. هنا تلتقي الإيحاءات الصوفية (الكتابة بوصفها ممارسة تعبّدية) مع رؤيةٍ وجوديةٍ ترى في الكتابة انتفاضةً ضد سنوات الصمت.

5. السيمياء: العلامة والدالّ والمدلول

من منظور بنيّاتي-سيميائي، كلُّ عنصرٍ في النصّ يعملُ كدالٍّ على مقابلٍ مدلولي:

البريد الأزرق (دال) → العزلة في زمن الاتصالات (مدلول).

الميغا بايت (دال) → سرعة/بطء المعلومات، وفي القصيدة «الحبر مُقيَّد في بطء الميجابايت» يصنع مفارقةً ساخرة: الحبر، رمز التدوين القديم، مقيد ببطء الرقمي؛ دالٌّ على أن أدوات العبور الحديثة لا تضمن السرعة الحقيقية للالتقاء الشعوري.

الرمل/الريح (دالان) → محو الذاكرة/تفكيك الهوية.

بهذه القراءة تفقد العلامات استقلالها وتتحول إلى منظومة تشير إلى أزمة اتصال أعمق: أزمةُ التمثّلِ الذاتيّ والوجوديّ في عصرٍ يَعِجُّ بالوسائلِ ولا يَبْلُغُ المعنى.

6. المرجعيات الأدبية والفكرية الممكن استحضارها:

غائبٌ عن النص لكن مفيدٌ للمقارنة: محمود درويش في مشروعه عن الغياب والكتابة، إذ يتحول الغياب إلى فعل ومكان.

١ - هايدغر (وجود-نحو-الموت): قد نستعير فكرته لفهم الطابع الوجوديّ للقصيدة في مواجهة الفناء والفراغ.

٢ - باختين (المنثور الحواري): القصيدة كفضاءٍ متعدد الأصوات.

٣ - رولوخ/ريكو: عن السرد والهوية، فالرسائل هنا تشكل سردًا مشتتًا لهوية الراوية.

٤ - سيجموند فرويد/كارل يونغ: لقراءة مظاهر الحزن والشكوى والرموز البحرية كأيقونات للشخصيّة اللاوعية.

على الصعيد العربي: مقارباتٌ مع نجيب محفوظ أو أنساق الطابع الصوفي في الشعر المغربي (تصوّف ابن عربي في ذهابه للوحشة والذات) قد تضفي بعداً تراثيّاً.

7. أخطاء نقدية أو فرص للتقوية:

-تصحيح لغويّ بسيط: توحيد لفظة «الميجابايت» وإعادة ترتيب بعض التركيبات النحوية لتجنّب اللبس (مثالًا: «أَفْتقِدُني»).

-توطيد وحدة نصية: بعض الصور قوية لكنها تبدو متفرّقة. يمكن للمؤلفة أن تُعزّز خيطًا محوريًّا واحدًا (مثلاً: الرسائل كمَيَدانٍ أساسي) وتطوّره خطًا سرديًا متصلاً ليزداد الأثر الدرامي.

-التوسّع في الإيقاع: إدماج عباراتٍ قصيرةٍ وطويلةٍ بنيةٍ إيقاعيةٍ واضحةٍ قد يربط المشهدَ النفسيَّ بزمنٍ شعريٍّ أكثر تماسُكًا.

8. الخاتمة: قراءة تكاملية:

تقف قصيدةُ نبيلة الوزّاني هذه على مفترق الحداثة والعمق، بين البريد الأزرق وصدورٍ «عاهةٌ مُزمِنةٌ». هي قصيدةُ انتظارٍ تكتبُ عن الانقطاعِ كما لو أنه شكلٌ مُؤسَّسٌ من الوجود؛ لذا لا تكتفي بالشكوى بل تحوّل الكتابةَ—حتى لو كانت «مَقْصُوفَة»—إلى فَعلِ مقاومتها. عمليًا، النصّ ناجح في خلق مشهدٍ بصريّ-سمعيّ قوي، وفي استدعاء رموزٍ تعبر عن مأزق عصرنا: وفرةُ وسائل الاتصال مع فقرِ اللقاء الحقيقي. نقديًّا، يحتاج النصّ إلى ضبطٍ لغويٍّ ونحويٍّ طفيف، وإلى توحيد خيطٍ دراميٍّ يؤدي إلى ذروةٍ شعريّةٍ أقوى.

محاولة  لمتابعة بحثية أو تقديمية:

1. مقالة نقدية: «الرسائل في زمن الشبكات: غياب الاتصال في شعر نبيلة الوزّاني»، تضمّ مقارنةً مع قصائد درويش ونزار قبّاني حول الغياب.

2. دراسة مطوّلة: فصل في كتاب عن «التقنية والهوية في الشعر العربي المعاصر» يستخدم هذه القصيدة نموذجًا.

3. نصّ منقّح: اقتراح تعديلات لغوية نحوية لإزالة اللبس في خواصّ مثل «أَفْتقِدُني».

إنّ الشعر هنا يظلُّ «رسالة مقصوفة» بحقّ: رسالةُ إنسانٍ في زمنٍ قطعتْهُ الوسائطُ دون أن تُسدّ فراغَه. والقراءةُ الهيرمينوطيقيةُ تُعيدُ لهذه الرسالةِ أفقَ الفهمِ وتمنحها صوتًا يوصِلها من جيبٍ إلى قلبٍ، حتى لو أعادته الريحُ إلى الرمل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين.

.....................

رَسائِلُ مَقْصُوفَةٌ

فِي بَريدِكَ الأَزْرقِ

الحِبرُ مُقيَّدٌ في بُطءِ

المَيْجابَايْتْ

فَكيْفَ لِرسائِلِي

أَن تُصافِحَكَ

وَأنْتَ خَارجَ التَّغطِيةِ؟

*

صَدرُكَ

عَاهةٌ مُزمِنةٌ

كُلّما نَضجَ الحُبُّ في قَلبِكَ

تَبْنِيهِ لِلمَجْهولِ

وَتَطرَحُهُ مِن جَدوَلِ الأَعمَالِ/

*

تَعلَقُ بَينَ مَوجَةٍ وَموْجةٍ

تَشيبُ بِمِلحِ التِّيهِ

وَيَلفُظُكَ البَحرُ

تَكتُبُ وَجْهَكَ على الرَّملِ

فَيَطْويكَ الرّيحُ في جَيبِهِ /

*

الرَّسائِلُ لا زَوارِقَ لها

الحُبُّ لا شِراعَ لَهُ

وَحدَهُ الحُلْمُ

يَنكَمشُ دَاخلَ حُلمِهِ

*

الرَّسائِلُ قَلبِي

بَينَ المَدِّ وَالجَزرِ

وَأنا مُجرّدُ مِجذَافٍ

يُخاتِلُ عَجزَهُ

*

في جَيبِي حِكايَةٌ

عنْ قَصيدةِ حُبٍّ

مَضْرُوبَةٍ

وَحدَها الرّسائِلُ تَعودُ

دُونَ عُنوانِكَ

*

أَفْتقِدُني/

أَفتَقدُكَ /

لا خَطْوَ إِلّا الضَّياعُ

أَنا العَائِدةُ دُونَكَ

تُنادمُني الوَحشَةُ

أَحْتسِي الخَيبةَ بِدمْعِ الحِبْرِ

وأَذُوبُ

في خَاتِمةِ السَّطرْ ..

***

نبيلة الوزّاني / المغرب

 

تشريح اللاهوت السياسي وآليات الهيمنة الشمولية

البُعد السيميائي: الرموز والإحالات الثقافية للعنوان

يُعتبر العنوان عند النقاد العالميين المعاصرين "العتبة الأولى للتأويل" والمدخل الاستراتيجي الذي يُحدد مسار القراءة ويُوجه الأفق التفسيري للنص، حيث يرى جيرار جينيت أن عنوان المنجز الأدبي يشكل "عقداً ضمنياً" بين المؤلف والقارئ حول طبيعة التجربة الجمالية المُنتظرة، بينما يُؤكد رولان بارت أن العنوان يعمل كـ"رمز مُكثف" يحمل الشفرة الأيديولوجية والفلسفية للمنجز برمته.

عنوان "سباق الخُبز" شكل تركيباً إضافياً مكثفاً وحمل تناقضاً دلالياً جوهرياً كشف عن البنية الفكرية للنص وقدم فلسفة درندش للواقع المعيش. الكلمة الأولى "سباق" تنتمي للحقل الدلالي للحركة والتنافس والديناميكية والرياضة، بينما "الخُبز" ينتمي لحقل الحاجات الأساسية والسكون والضرورات الوجودية، مما خلق توتراً دلالياً بين المتحرك والثابت، بين الكماليات والضروريات.

البنية النحوية للمركب الإضافي تُظهر هيمنة المضاف إليه "الخُبز" على المضاف "سباق"، فالسباق يُعرّف بالخبز في اتجاه واحد، مما يكشف أن الحاجة الأساسية هي التي تُحدد طبيعة التنافس وشروطه. التعريف بـ"الـ" في "الخُبز" يُضفي عمومية وشمولية، إذ يتجاوز كونه خبزاً محدداً إلى الخبز كمفهوم وجودي مطلق.

الثنائية الضدية بين "السباق" كنشاط طوعي ممتع و"الخُبز" كضرورة إجبارية مؤلمة تكشف التناقض المأساوي: تحويل البقاء إلى لعبة، والحاجة إلى متعة، والضرورة إلى اختيار. بالنهاية جسد العنوان آلية الرأسمالية في تحويل الحاجات الإنسانية الأساسية إلى سلع تخضع لمنطق التنافس والمضاربة.

البنية الدرامية: تحليل مسار الأحداث وتطورها

يقول الناقد الألماني ثيودور أدورنو: "المسرح الحقيقي هو الذي يُحطم الوهم الجمالي ليكشف عن التناقضات الاجتماعية الخفية، ويجعل المتفرج يواجه حقيقته المؤلمة بدلاً من الهروب منها إلى عالم من الجمال المُصطنع". هذه الرؤية النقدية نجد تجسيدها الأمثل في النص المسرحي "سباق الخبز" للكاتب ماجد درندش، هذا النص الذي يُمثل عملاً فنياً أدبياً عميقاً يتجاوز الكتابة التقليدية، محولاً الفضاء المسرحي إلى نص فلسفي حي يستكشف تعقيدات الوعي الإنساني في سياق سياسي مُلغم بالمفاجآت، مُظهراً تشكل الهوية في ظل القهر حيث تتشابك الهزيمة الروحية مع التعقيدات الوجودية بأسلوب يستلهم التقنيات البريختية ويتجاوزها.

يفتتح درندش نصه المسرحي بصورة بصرية محملة بالرمزية العميقة: الرياح والصحراء، ثم طائرة تهبط، وثلاث شخصيات تنزل ببدلات أنيقة لكنهم حفاة الأقدام. هذا الافتتاح تأسيس لعالم رمزي يحمل جوهر الصراع، حيث كل عنصر يحمل شفرات نقدية متعددة، مُحققاً رؤية أدورنو في تحويل الفن إلى نقد اجتماعي يكشف التناقضات الخفية في البنية السلطوية.

الرياح والصحراء تستدعي المناخ العربي، وتتجاوز الجغرافيا لتصبح استعارة للخراب الحضاري والروحي وللتصحر الفكري كحالة وجودية تعبر عن الفراغ الثقافي، والرياح تحمل صدى التغيير المدمر، هذا التغيير الدائري المغلق. هذا المشهد الجيوسياسي يضعنا في قلب المأساة العربية، حيث الأرض جرداء مترعة بالثروات والمستقبل غامض والتغيير يأتي من الخارج عبر آلات الحرب.

صوت الطائرة عنصر محوري متعدد الدلالات كرمز للوعي الجمعي المأزوم. الطائرة قوة خارجية تأتي من السماء لِتُغير مجرى الأحداث، وفي السياق العراقي تجسد التدخل الأمريكي. هبوطها في الصحراء بدلاً من المطار يشير لطبيعة التدخل كغزو مباشر.

هنا يتجلى اللاهوت السياسي بمعناه الشمولي حيث يتحول الفضاء المسرحي لمختبر معرفي يفكك آليات إنتاج السلطة. الطائرة النازلة من السماء استعارة فلسفية تجسد تحويل السلطة إلى طقس مقدس يستمد وجوده من الادعاء بالارتباط بالمطلق العلوي.

نزول الشخصيات الثلاث ببدلات أنيقة وهم حفاة تَشَكَّلَ بدلالات عميقة. البدلات ترمز للحداثة والقوة الاقتصادية، بينما أقدامهم العارية تكشف الهشاشة والاغتراب عن الأرض. هذا التناقض يجسد الانفصال بين المظهر والجوهر، مُذكراً بالاغتراب البريختي ومتجاوزاً إياه ليصبح استعارة للانفصام السلطوي.

طاولة اللعب تظهر كعنصر مركزي غارق في الرمزية المحركة للوعي الراكد حاملاً أبعاداً أنثروبولوجية عميقة. القمار يتحول من لعبة ترفيهية إلى طقس مُقدس لتوزيع القوة والموارد يحاكي الآليات الكونية. هذا الطقس يكشف أن السلطة تعتمد على آليات سحرية لإضفاء الشرعية على قراراتها التعسفية.

في السياق العراقي العربي، طاولة القمار مركز السلطة العالمية، والشعب مجرد أطراف يُقامَر على مصيرها. الغزو الأمريكي لم يكن قراراً مدروساً وإنما مقامرة استراتيجية، فشل الرهان والثمن دفعته الشعوب فيما نجا المُقامرون.

على مستوى أعمق، تُجسد طاولة القمار ما أسماه جاك لاكان بـ"الوهم النرجسي" كل لاعب يعتقد أنه يستطيع "قراءة" اللعبة والتحكم بنتائجها، رغم أن القمار قائم على العشوائية. هذا الوهم ضرورة نفسية تُمكن اللاعب من تحمل القلق الوجودي الذي تثيره مواجهة العشوائية الكاملة.

لعبة "21" تحمل دلالة خاصة، الرقم يرمز للكمال المُفترض والرشد القانوني، رغم أنها لعبة تتطلب حساب المخاطر بدقة، مُشبهة باللعبة السياسية. هناك خط أحمر غير مرئي، تجاوزه يعني السقوط، وموقعه الدقيق يبقى مجهولاً للجميع.

الخادم يعتقد أن "الألم يُعلم" وأن قربه من الأرض كطبقة مسحوقة يجعله أكثر حكمة من الآخرين، لكنه يجهل أن المعاناة قد تُعمي بدلاً من أن تُنير.

المعتمد واهم أن "الوسطية" تعني الذكاء السياسي، لكن موقعه هذا يجعله أول ضحايا التغيير - عندما تنقلب المعادلة، الوسطيون أول من يسقط.

الواعظ الأخطر، يدّعي احتكار الحقيقة الإلهية، محولاً آراءه الشخصية لأوامر سماوية. وهمه الأكبر: أنه "وسيط الله" وليس مجرد إنسان يستغل الدين للسلطة.

الجميع "حفاة" لأنهم مجردون من الحقيقة رغم ادعاءاتهم المختلفة. هذا يُذكرنا بالمثل العراقي: "كلٌ يغني على ليلاه" كل واحد مقتنع بصحة وهمه، والواقع يسخر منهم جميعاً.

درندش يُظهر أن أخطر الأوهام هي التي تحمل بذور الحقيقة، المعاناة قد تُعلم فعلاً، والوسطية قد تكون حكيمة، والدين قد يحمل هداية، لكن تحويل هذه الإمكانيات لحقائق مطلقة هو الوهم المُدمر.

المونولوج الوجودي للواعظ يستدعي في وعينا وذاكرتنا جدلية السيد والعبد عند هيغل. عبارة "أنا تعبت كوني مطاع، أريد أن أتحرر" تجسد المفارقة الهيغلية، السيد يكتشف أن سيادته قيد، وأن طاعة الآخرين له أصبحت سجناً وجودياً.

مشهد رمي الطائرة للمؤونة المتمثلة بالأزياء والخبز يُطور مفهوم هايدغر للقذف في العالم بشكل جذري. عند هايدغر، الإنسان "مرمي" في وجود لم يختره، مع إمكانية للوجود الأصيل عبر مواجهة الوضع بوعي والاختيار الحر.

درندش يُحطم الأمل الهايدغري تماماً، مُقدماً رؤية أكثر قتامة وعمقاً. الشخصيات تتعرض للقذف المتكرر في الوجود، فضلاً عن رميها عند الولادة نراها وقد أعيد قذفها بأدوار اجتماعية بشكل متكرر وقسري. الطائرة التي ترمي المؤونة تُجسد "القذف المُتكرر القسري"، الإنسان يُعاد قذفه في أدوار جديدة كلما قررت القوى العليا ذلك.

القذف الأصلي عند هايدغر طبيعي وكوني، أما القذف المُعاد في نص درندش فاصطناعي وسياسي. الطائرة ترمي الأزياء بقرار خارجي مُتعمد، مُحولة القذف من حقيقة وجودية للتعامل معها إلى أداة سيطرة مُستمرة.

شخصيات درندش تواجه نوعاً مختلفاً من القلق، القلق من اللامعنى المُتعمد بدلاً من القلق الوجودي من العدم. العدم الذي يواجهونه عدم المعنى المُصطنع الذي تفرضه القوى الخارجية وليس عدم الموت الطبيعي. حتى الذوبان في "الناس" مُستحيل لأن الأدوار الاجتماعية نفسها عشوائية ومؤقتة ومفروضة قسراً.

الأزياء المُلقاة من السماء تُمثل "الهوية" كقطعة قماش خارجية. درندش يُظهر أن حتى العري في هذا العالم مستحيل، الطائرة سترمي عليك قناعاً جديداً حتى لو رفضت القديم.

العاصفة التي حطمت طاولة القمار دمرت المشاريع الوجودية الهايدغرية، كل بناءِ معنىً يُقلب بقرار خارجي. هذه العاصفة رياح التغيير التي اجتاحت العراق 2003، دمرت النظام السياسي العفلقي وأزاحت صدام إلى حفرة من حفر جهنم، وتجاوزت ذلك إلى تدمير البُنية الوجودية للمجتمع برمته.

يقول فرانتز فانون في كتابه "معذبو الأرض": العنف الذي تمارسه القوى الاستعمارية ليس عنفاً جسدياً فحسب، بل تدمير منهجي لكل ما يُشكل هوية الشعب المقهور، لغته وذاكرته وطرق عيشه وأحلامه. وهذا بالضبط ما شهدته بغداد وكل المدن العراقية بعد نيسان 2003، حيث تحولت العاصمة من مركز حضاري يضج بالحياة إلى مسرح دموي مفتوح على كل الاحتمالات المرعبة.

العراقيون الذين استيقظوا صباح التاسع من نيسان على أصوات وهتافات مختلفة الألوان والنبرات، كانوا مقسمين بين فرح قلق لنهاية الطاغية وحزن وجودي لوطن لاح الخراب على محياه. هم لم يفقدوا مؤسسات الدولة وحدها، بل فقدوا أيضاً "اليقين الوجودي" الذي كان يُنظم حياتهم اليومية. المواطن الذي كان يستيقظ ويذهب لعمله في وزارة التعليم أو المستشفى الحكومي، وجد نفسه فجأة بلا هوية مهنية واضحة، بلا مستقبل يُخطط له، بلا حتى شوارع آمنة يسير فيها. الأم التي كانت تُرسل ابنها للمدرسة كل صباح، باتت تُودعه كأنها تُرسله لجبهة حرب. المعلم الذي كان يُدرس التاريخ العراقي، أصبح يتساءل: أي تاريخ سيُدرس الآن؟ وأي عراق سيبقى؟

الطفل العراقي الذي كان يحفظ خريطة بلده عن ظهر قلب، استيقظ ليجد البلد مُقسماً إلى مناطق نفوذ طائفية وعرقية لا يفهمها. الجار السني الذي كان صديقاً حميماً، أصبح "الآخر" المُشكوك في ولائه، والجار الشيعي تحول من مواطن عادي إلى "حليف إيراني محتمل" في نظر البعض طبعاً!. هكذا تفتت النسيج الاجتماعي ليس تحت ضربات القنابل فقط، بل تحت ضربات الشك والخوف من الآخر المُختلف.

الأخطر من كل ذلك، أن العراقيين فقدوا "لغة مشتركة" للحديث عن المستقبل. الكلمات التي كانت تحمل معاني واضحة، الوطن، المواطنة، العدالة، التقدم - أصبحت ألفاظاً فضفاضة تحتمل تأويلات متناقضة بحسب الطائفة والحزب والمنطقة الجغرافية. وهذا تماماً ما تُجسده مسرحية درندش "سباق الخبز": عندما تتحطم طاولة القمار، لا تتحطم اللعبة السياسية فحسب، بل تتحطم أيضاً اللغة المشتركة التي كان الناس يستخدمونها لفهم عالمهم والتخطيط لمستقبلهم.

التحول من القمار للسباق انتقال من وهم السيطرة إلى يأس الهروب، من الوجود الجماعي حول طاولة الوطن الواحد للصراع الطائفي في مضمار البقاء. العراقيون الذين كانوا يجلسون حول طاولة هوية مشتركة وجدوا أنفسهم في سباق محموم على فُتات الدولة المُتهالكة.

السباق يُحطم الكينونة مع الآخرين، الآخرون يصبحون عوائق طائفية يُتجاوزون بدلاً من كونهم مواطنين يُتعايش معهم. التشكيلة البصرية الجديدة تُلغي الحوار الوطني: كل طائفة تُركز على حصتها والآخرون يختفون من مجالها البصري أو يُصبحون أعداء يُقاتلون.

توزيع البدلات والرموز التقنية كشف عن نظام سيطرة محكم الوظائف: المسبحة كأداة سيطرة روحية تُضفي شرعية دينية على القهر، والسوط كذراع تنفيذية تُحول الخطاب الأيديولوجي لواقع مؤلم، والخبز كأداة تحكم نهائية وأكثر من كونه منحة.

الخبز في يد الخادم أخطر الأدوات الثلاث. يُوهمه بأنه يملك شيئاً، ويُذكره في الوقت ذاته باستمرار، بحاجته وتبعيته. كل قضمة تُؤكد أنه يعيش على فُتات ما يُسمح له. الخبز جزرة وعصا معاً.

هذا الثالوث، الإقناع والإكراه والحاجة، يُشكل أسس كل نظام سيطرة فعال. في السياق العراقي، واضح في الأحزاب الحاكمة: الخطاب الديني أو القومي (المسبحة) يُبرر الممارسات، القوة المسلحة (السوط) تُنفذ الإرادة، والتحكم في الموارد (الخبز) يُبقي الناس ظلالاً بتبعية مهينة خلف السيد والقائد والمؤتمن والمسؤول.

الحوار بين الواعظ والمعتمد جسد انهيار الكينونة مع الآخرين. خلقَ السباق هرمية قسوة متصاعدة، والتحالف بينهما مؤقت مبني على الخوف المتبادل بدلاً من أساس وجودي أصيل.

التهديد بالغدر يُظهر الغدر كأفق وجودي دائم، حيث تنعدم الثقة والأمان، كل علاقة مبنية على توقع الخيانة. السباق يقتضي أن كل تحالف مؤقت سيُكسر عاجلاً أم آجلاً.

هذا الحوار المؤسس للأسئلة بين الواعظ والمعتمد يُجسد واقع العراق ما بعد 2003: التحالفات الطائفية المؤقتة، العنف كلغة وحيدة، والغدر كأفق دائم. العاصفة دمرت الطاولة وحولت العراقيين إلى واعظين ومعتمدين وخدم في سباق مدمر يحمل درجات متفاوتة من الخسارة الوجودية دون فائز حقيقي.

تنكشف المأساة الحقيقية للخادم في لحظة إدراك مُدمرة تقلب كل ما كان يعتقده. الخادم الذي كان يُدافع عن المعتمد "أريد حمايتك من الضرر بسببي" وهو يُلح عليه بالطلب بأن يستجيب لأوامر الواعظ بالقسوة عليه كي يجري بسرعة للحاق بالمتسابقين، يكتشف فجأة أن حتى الشفقة الضئيلة لم تكن سوى مسرحية رخيصة، وأن التظاهر بالرحمة نفسه جريمة في نظر الواعظ الذي ينتفض من أي بادرة إنسانية.

هنا تتجلى حقيقة مُرعبة أن النظام الشمولي لا يكتفي بقهر الأجساد، بل يسعى لتدمير قدرة الإنسان على التعاطف والرحمة، لأن هذه المشاعر تُهدد منطق السيطرة المطلقة. الواعظ في نص درندش يُجسد هذا المنطق الشمولي بدقة مذهلة، حيث يعتبر شفقة الخادم على المعتمد خيانة للنظام، وكأن الرحمة جريمة تستوجب العقاب.

منع الخادم من الكلام، "اخرس واصمت تحرك دون كلام"، يُحطم الشرط الأساسي للوجود الإنساني: اللغة كبيت الكينونة. يقول هايدغر في كتابه "الكينونة والزمن": "الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسكن في اللغة، وعندما تُنتزع منه لغته، يُنتزع منه جوهر إنسانيته."  عندما تُسلب اللغة، يُسلب الوجود الإنساني، الخادم يُطلب منه التحرك كآلة صامتة، كروبوت مُبرمج على الطاعة العمياء.

هذا الصمت القسري يُشبه عملية جراحية بدائية: تبدأ باستئصال اللسان وتنتهي باستئصال الروح. في اللحظة التي يُحرم فيها الإنسان من حقه في التعبير، يتحول من "ذات" إلى "موضوع"، من إنسان يملك إرادة وأحلام إلى أداة تُحرك بالأوامر. الخادم الصامت يُصبح رمزاً للشعوب المُكممة التي تُجبر على التحرك وفق إرادة الطغاة، محرومة من حق السؤال والاعتراض والحلم.

المفارقة الأكثر إيلاماً في تبرير إصرار الخادم على دعم المعتمد: "خبز عيالي من خيرك" و"أنا من خبز حلال"، يُحول استغلاله الوحشي إلى منّة يشكر عليها جلاديه. هذا "حب الخضوع" كآلية دفاع نفسية، حيث الفرد الذي فقد ذاته يجد معنى للحياة فقط من خلال خدمة من يُدمره. الخادم يتجاوز قبول قهره إلى تقديسه ويُحوله إلى شرف أخلاقي.

الخبز الحلال يُصبح مُبرراً أخلاقياً ودينياً لقبول الذل، والعبودية تتحول إلى فضيلة والقهر إلى بركة. هذا الاكتشاف المُدمر يُواجه الخادم بأنه محاط بالكذب والاستغلال ومشارك فعال في استغلال نفسه من خلال تقديس مصدر قهره وتحويل جلاديه إلى منعمين.

عبارة "خبز عيالي من خيرك" تكشف آلية السيطرة الاقتصادية، الحاجة الاقتصادية كافية لضمان خضوع المُستغَل دون الحاجة للعنف المباشر. التشويه اللغوي واضح: "خيرك" بدلاً من "استغلالك"، "خادم مطيع" بدلاً من "ضحية مُستغَلّة"، "خبز حلال" بدلاً من "عمل مُستغَل".

انهيار التحالف بين الواعظ والمعتمد يحدث بسرعة البرق. اتهام التآمر وطرد المعتمد المفاجئ يُظهر كيف يلتهم النظام أبناءه عند الشك في ولائهم المطلق. إنقاذ المعتمد بالطائرة المروحية نهاية رمزية عبقرية خلقها الدرندشي الساحر، النخب لديها دائماً خطط هروب وإنقاذ خارجية، بينما يُترك الخادم وحيداً في الصحراء.

شرب الخادم للنفط كطاقة رمزية مُدمرة، الشعوب المقهورة مُجبرة على "شرب" النفط الذي يُفترض أن يكون نعمة ويتحول للعنة تُدمر من الداخل. التحول الجذري في فلسفة الخادم من "الحلال والحرام" إلى "الضعيف يسقط والقوي يصمد" انهيار كامل للقيم الأخلاقية تحت ضغط الحاجة والقهر.

الحوار الفلسفي حول "خبز الوهم وخبز السلطة" كشف جوهر الصراع المعاصر. الواعظ يُقسم العالم لخبز مادي للفقراء ورمزي للحكام، والخادم يرد بحكمة عميقة عن "خبز برائحة النفط وخبز برائحة الجوع" مُجرداً الصراع من أقنعته الأيديولوجية.

لحظة وضع المسدس في ظهر الخادم تُمثل سقوط آخر أقنعة الحضارة والعودة للعنف الخالص. عبارة الواعظ "هكذا ينتصر الإنسان على الإنسان" تكشف الحقيقة العارية للعلاقات السياسية المبنية على القوة المحضة.

وفي ومضة عبقرية عميقة تجلى درندش من خلال طقس "إخراج الشيطان" من الخادم بقدرة سلطوية استمكانية للواعظ كان مشهداً ساخراً ومُريعاً في آن واحد، حيث يُحول الواعظ أي تساؤل أو اعتراض إلى "وسوسة شيطانية" يجب طردها. السؤال الساخر "شيطان من أي ولاية أنت وإلى أي كتلة تنتمي" يُحول الطقس الديني لمهزلة سياسية تكشف كيف أصبح كل شيء مُسيساً ومُحزباً حتى الشياطين.

اللحظة الفاصلة في النص هي عندما يتقمص المعتمد دور القاضي ويبتكر طقساً جديداً يجمع بين القمع والمسرحة والمقامرة. يأمر بتبديل ملابس الواعظ والخادم، وهو أمر يحمل دلالات عميقة تتجاوز مجرد تغيير الثياب، إنه إعادة ترتيب شاملة للأدوار والهويات في دورة أبدية من القهر المُتبادل.

هذا التبديل القسري يكشف طبيعة السلطة كلعبة، حيث الهويات والوظائف مجرد أقنعة قابلة للتبديل بأمر من السلطة العليا. عندما يصبح الخادم واعظاً بحكم تبديل الملابس، نشهد تحولاً مذهلاً في شخصيته. الخادم الذي كان يستجدي "خُبز عيالي من خيرك" يتحول فجأة لواعظ يمارس نفس آليات القمع الفكري التي كان ضحية لها.

هذا التحول يكشف حقيقة مرعبة: المُضطهَد عندما يحصل على السلطة يُعيد إنتاج أنماط القهر ذاتها التي عانى منها بدلاً من تحرير نفسه والآخرين، وأحياناً بقسوة أكبر.

الخادم الواعظ الجديد يبدأ في ممارسة نفس الخطاب الأيديولوجي والتلاعب النفسي الذي كان يُمارس عليه. ما فعله الخادم عند تقمصه للسلطة يُجسد ظاهرة نفسية عميقة أسماها علماء النفس الاجتماعي بـ"متلازمة الضحية-الجلاد" الشخص الذي يُعاني من القهر لفترة طويلة قد يُعيد إنتاج نفس آليات القهر عندما يحصل على القوة. هذا يُجسد ما أسماه فرانتز فانون "استبطان المُضطهَد لقيم المُضطهِد"، حيث الضحية تتجاوز تقليد جلادها إلى التفوق عليه في القسوة والنفاق. البدلة التي لبسها حولت كامل بنيته النفسية والفكرية، كأن الثياب قد كانت تحمل معها روح الدور وآلياته القمعية. فقد كانت أعمق أحلام الخادم تتجسد في فانتازيا انقلاب المواقع. إنه لا يحلم بالحرية، بل بأن يصبح هو المُهيمن. هذا ليس حلم تحرر، بل حلم انتقام. ألفرد أدلر في نظريته عن "عقدة النقص" يُوضح كيف أن الشخص المُهان يُطور "إرادة قوة مُضاعفة" تهدف لا لتحقيق العدالة، بل للانتقام من الذل المُتراكم.

هكذا يُقدم درندش تشريحاً دقيقاً لآليات الهيمنة المعاصرة، كاشفاً كيف تتلاعب القوى الخارجية بمصائر الشعوب عبر ألعاب معقدة من الخداع والتحولات المؤقتة التي تزيد الجوهر مرارة بدلاً من تغييره. النص نبوءة مُرعبة عن مستقبل الشعوب التي تُراهن على التغيير الخارجي بدلاً من السعي للتحرر الداخلي الحقيقي.

المقطع الختامي كان ذروة في العبقرية، فقد كشف عن الطبيعة الدورية الأبدية للقهر. عودة المعتمد كقاضي تُجسد حقيقة مُرة: النخب نفسها تعود بأقنعة جديدة. المعتمد الذي كان أداة قمع يُصبح قاضياً يحكم بالعدل المزعوم، والطائرة التي أنقذته تُصبح أداة إنزال "العدالة" من السماء.

تبديل الملابس رمزية عميقة لسياسة التدوير، نفس الوجوه تتناوب على الأدوار، الضحية تُصبح جلاداً والجلاد ضحية، أما النظام الأساسي المبني على القهر فيبقى دون تغيير. القاضي الذي يُحاكمهما على "جريمة ستحدث" يُمثل العدالة الاستباقية المُشوهة التي تُدين على النوايا المُفترضة بدلاً من الأفعال الفعلية.

الحوار الفلسفي، "بعد الجريمة يأتي دور المحكمة، وعندما يسقط البريء ملطخاً بدمائه يلتف القضاة حول جثته ليحاكموه"، يكشف فهماً عميقاً لطبيعة العدالة المقلوبة، حيث الضحية تُحاكم بعد موتها والجلاد يُبرأ قبل محاكمته.

التحول المُدمر في شخصية الخادم يكشف الطبيعة الفاسدة للسلطة نفسها. الخادم الذي كان يتوسل الرحمة يصبح أقسى، يُجبر الواعظ على الضحك والبكاء والرقص حتى الإعياء. هذا التحول يتجاوز كونه انتقاماً شخصياً إلى إظهار كيف يُحول النظام حتى ضحاياه لوحوش عند فرصة الانتقام.

مشهد إجبار الواعظ على التوسل، "سأمسح غائطك، سأتبول بدلاً عنك"، انهيار كامل للكرامة الإنسانية، تدمير منهجي للذات وتحويل الإنسان لكائن عديم الكرامة مُستعد لأي شيء مقابل لحظة راحة.

طلب ارتداء "ثوب أنثوي مغر ماجن" حيث الفستان الأحمر مع آلية موسيقية من الزغاريد كان ذروة الإذلال الجنسي والنفسي للواعظ السابق الخادم الحالي. هذا يُجسد استخدام الإذلال الجنسي كأداة قهر سياسي، وكيف تسعى السلطة لتدمير الهوية الجنسية والاجتماعية كوسيلة نهائية للسيطرة. الفستان الأحمر يُصبح رمزاً للعار المُقدس المفروض باسم العدالة.

أصوات الزغاريد وموسيقى العرس تُحول الإذلال لاحتفال، والعذاب لعيد، والقهر لطقس اجتماعي مُبارك. هذا التناقض المُريع يُظهر كيف تُحول الأنظمة الاستبدادية أسوأ جرائمها لمناسبات فرح، وكيف يُجبر الشعب على التصفيق لجلاديه والرقص على أنغام عذابه.

النهاية المفتوحة: دورة التحولات الأبدية من الجلاد إلى الضحية

العبارة الأخيرة للقاضي "استعدوا لتغيير ملابسكم، جميعكم دون استثناء" مع الظلام التدريجي نهاية مفتوحة مُرعبة. إنها تُشير إلى أن الدورة ستستمر بشكل أبدي، وأن كل من في المسرحية، بما في ذلك القاضي، سيُصبح ضحية في دورة قادمة. جميع الأطراف معرضة للتدوير، وكل الموجودين مُهددون بأن يُصبح الجلاد ضحية والضحية جلاداً، حتى من كان يشغل مقاعد الفرجة في صالة العرض مدان، ومعرض لنفس التحولات، فثمة لعنة هناك تطارد وجودنا.

هذه النهاية تُلخص جوهر المأساة العراقية والعربية: مجتمعات محكومة بدورات أبدية من العنف والانتقام، حيث الجميع يفشل في التعلم من التجربة وكسر الحلقة المُفرغة. السلطة تُفسد الجميع، والضحايا يُصبحون جلادين، والجلادين ضحايا، والنظام يُعيد إنتاج نفسه مع كل تغيير شكلي. الملابس تتغير والوجوه تتبدل، أما جوهر القهر والاستبداد فيبقى، والشعب يبقى الضحية الدائمة في كل الدورات.

حقيقة أرى أن البطولة الحقيقية والشخصية الرئيسية هي الطائرة المروحية التي تأتي وتذهب والتي تُمثل القوى الخارجية التي تُدير اللعبة عن بُعد، تُنزل العدالة المُشوهة من السماء وتُغادر تاركة الضحايا يتقاتلون فيما بينهم. والظلام التدريجي يتجاوز كونه مجرد نهاية مسرحية إلى رمز للعتمة الروحية والحضارية التي تُخيم على مجتمعات فقدت بوصلتها الأخلاقية وأصبحت تدور في فلك مُظلم من العنف والانتقام المتبادل.

درندش يُقدم رؤية تشاؤمية لكنها واقعية بشكل مؤلم، حيث ينعدم الخلاص في الأفق، ويغيب التطهير الحقيقي، ويستحيل التحرر الجذري. يبقى فقط الدوران الأبدي في حلقة مُفرغة من القهر المُتبادل، حيث الجميع ضحايا وجلادون في آن واحد، والوحوش الحقيقية هي النظام نفسه الذي يُحول البشر إلى وحوش وليست الأفراد. العبرة المُرة أن التغيير الحقيقي يتطلب تفكيك النظام برمته والبحث عن نموذج جديد يقوم على العدالة والكرامة الإنسانية، بدلاً من تبديل الأشخاص أو الملابس، وبعيداً عن دورات الانتقام الأزلية.

رد على اتهامات التقليد المباشر

أدلج البعض فرضياته غير الدقيقة بالتشويش على قيمة النص وجماله بادعاء كون درندش قد قلّد "سباق الخبز" تقليداً محضاً من مسرحية بريشت "القاعدة والاستثناء"، وهذا يكشف سوء فهم جوهري لطبيعة الإبداع الأدبي وآليات التناص الحديث، ويتجاهل الفروق الهائلة بين التناص الإبداعي الواعي والمحاكاة الأدبية الحرفية.

إن درندش، الذي يبدأ نصه بعبارة صريحة "شكراً بريشت"، يعلن تأثره بالمدرسة البريشتية بوضوح تام، ويؤكد منذ البداية أنه يمارس "ولادة نص جديد ومغاير ومختلف عن الأصل." هذا الإقرار الصريح بحد ذاته يدحض اتهام التقليد المحض لأن المقلد الحرفي يخفي مصادره ويدّعي الأصالة المطلقة، بينما المتناص الواعي يحاور التراث علناً ويطوره نقدياً.

المقارنة الدقيقة بين النصين تكشف أن التشابه السطحي في الإطار العام يُخفي اختلافات جوهرية عميقة تؤكد استقلالية رؤية درندش. بينما يقدم بريشت صراعاً خطياً كلاسيكياً ينتهي بموت الكولي كنتيجة حتمية للاستغلال الرأسمالي، فإن درندش يطور بنية دائرية معقدة تقوم على تبديل الأدوار، في دورة مستمرة تنتهي بعبارة "استعدوا لتغيير ملابسكم، جميعكم دون استثناء"، مما يكشف رؤية فلسفية مختلفة تقوم على عبثية التحول مع غياب التغيير الجوهري.

والأهم أن درندش يضيف ابتكارات تقنية ورمزية غير موجودة في نص بريشت: الطائرة المروحية كرمز للسلطة الخفية الحديثة، وتقنية التحول الليلي أثناء النوم، والمحاكمة على الجريمة المستقبلية التي تضيف بعداً كافكاوياً غائباً تماماً في نص بريشت. هذه الإضافات تتجاوز كونها مجرد تنويعات شكلية إلى تطويرات جوهرية تخدم رؤية فلسفية مختلفة تتجاوز الماركسية الكلاسيكية إلى نقد وجودي أعمق.

كما ينقل درندش المنهج البريشتي إلى سياق ثقافي عربي معاصر مختلف، فيدمج الخطاب الديني المتواطئ عبر شخصية الواعظ غير الموجودة في نص بريشت، ويوظف المرجعية الدينية والاجتماعية العربية، ويطور لغة مسرحية تجمع بين الفصحى المعاصرة والإيقاع الشعري العربي في صور أصيلة.

رمزية الخبز في نص درندش تتطور إلى منظومة دلالية مركبة تشمل خبز الحاجة وخبز السلطة وخبز الوهم، في تطوير أصيل لمفهوم الصراع الطبقي يتجاوز البعد المادي المباشر إلى أبعاد وجودية وروحية أعمق. والصراع يتوسع بدلاً من الاقتصار على العلاقة بين رأس المال والعمل، ليشمل الصراع بين السلطة الدينية والسياسية والشعب.

بينما قدم بريشت رسالة واضحة عن ضرورة الوعي الطبقي والتغيير الثوري، فإن درندش يقدم رؤية عبثية تشاؤمية تكشف استحالة التغيير الحقيقي داخل النظام. هذا التحول من التفاؤل الماركسي الثوري إلى التشاؤم الوجودي العبثي يمثل إضافة فكرية أصيلة تتجاوز المرجعية البريشتية إلى رؤية فلسفية مستقلة.

إن التناص مع بريشت في الأدب المسرحي العربي ممارسة واسعة عند ونوس وقاسم محمد وعبد الصبور وغيرهم، والتقنيات البريشتية أصبحت تراثاً مسرحياً عاماً، تماماً كما استفاد شكسبير من الكلاسيكيات وجوته من الأساطير وبريشت نفسه من شكسبير.

إن "سباق الخبز" عمل أصيل يضيف للمسرح العربي والعالمي الشيء الكثير، ويحق لدرندش أن يفخر به كإنجاز إبداعي مستقل. اتهامه بالتقليد المباشر ظلم نقدي وسوء فهم لطبيعة الإبداع الأدبي الذي يحدث في حوار مستمر مع التراث الإنساني، والعدالة تقتضي الاعتراف بأن هذا النص إضافة حقيقية للمكتبة المسرحية العربية تستحق التقدير والاحترام بدلاً من الاتهام غير المبرر.

***

بقلم: كاظم أبو جويدة

للشاعر الفلسطيني فواز طوقان

تقوم قصيدة الشاعر الفلسطيني/ الأردني فواز طوقان (ثلاثية البقاء أو الدموع أو السفر) على مجموعة من الثنائيات المهمة التي يمكن عَدُّها عتباتٍ مضيئةً أغوارَ النّص، تقودنا إلى الوقوف على عمق القضية التي تشغل الشاعر وموقفه منها.

تحضر الثنائيات Dichotomies، وهي مجموعة من المسائل المتعارضة، بشكل مكثف في القصيدة بدءا من العنوان: البقاء/ السفر، الأشواق/ ملتقى، الشرود/ الرجوع، الأصول/ الفروع، الرحيل/ اللقاء، سرية/ معلنة، مضى/ سيأتي، أتى/ مضى، الحزين/ السعيد، نبدأ/ سينتهي.. ويمكن اعتبار هذه الثنائيات ناتجة عن ثنائية بارزة ورئيسَة في متن القصيدة هي: موطني/ المنفى ؛ وقبلها ثنائية مضيئة  للقصيدة هي (الوصل/ القطيعة) في بيتين استفتح بهما الشاعر فواز طوقان قصيدته للشاعر العباسي ابن زريق البغدادي، الذي عاش حزينا وانتهى به ترحاله الطويل إلى خيبة كبيرة، وكأن الشاعر يُسقط شخصية ابن زريق  على الإنسان الفلسطيني الذي قُدِّرَ له أن يعيش مرتحلا من منفى إلى منفى ومن خيبة إلى خيبة؛ فالوطن محتلٌّ والشاعر/الإنسان الفلسطيني، مُخيَّـرٌ بين البقاء ذليلا في موطنه، لأن الوصل بوطنه المحتل يكلفه الضجر، و"طحن الرجال والعمر"، والدموع والنحيب والنشيج، والبؤس واليأس... لكن المنفى الذي يختاره الفلسطيني أو يُفْرَض عليه ليس أفضل حالا من البقاء في الوطن فهما متساويان لديه وهذا ما يجعله مقيدا بتَكرار التساؤل المحير: ما الفرق بين البقاء والسفر؟:

أتساءل...

"ترى هو الرحيل؟"

أتساءل:

"ترى هو اللقاءْ؟"

في غمرة العناق للرحيل واللقاءْ،

وهجمة الدموع والنحيب والنشيجْ

يخطر لي سؤال:

"ما الفرق بين بين لحظة الرحيلْ ..

... وبين لحظة اللقاءْ؟"

" ما الفرق... عندما تلوح في الآفاقْ

علائم الفراقْ؟

إن جدلية الوطن والمنفى هي القضية الأساس في القصيدة، وهي جدلية أوقعت الإنسان الفلسطيني في حيرة بين الصمود على أرضه وإقامة مشروع وطنيٍّ تحرُّري يسعى إلى مقاومة الاحتلال، وتقديم التضحيات الجِسام، وبين العيش في منفى ببلدان لها خصوصياتُ لجوءٍ ترْهِق الإنسان الفلسطيني الذي يعاني فيها مشكلاتٍ اجتماعية، وسياسية واقتصادية، تجعله يحمل وزرا مضاعفا يُشعره أن "القمح مُرّ في حقول الآخرين" كما قال محمود درويش.

والإنسان الفلسطيني فاقدُ الأرضِ، أضحى التّشردُ موطنَه، تتقاذفه "هوجُ الرياح" فلا استقرار له وهو "دائمُ الأشواق والضجـر" وأقسى ما يؤلمه أن يعاني في منفاه العربي الذي يُفترض فيه أن يكون الملجأ الآمن، إنه محاصر ومراقب، فهل ضاق المنفى العربي بِلاجئيه وكاد يلفظهم؟ وهل حُكِمَ على اللاجئ الفلسطيني أن يكون دائمَ السّفر بسبب (ظلم ذوي القربي)، فالوطن محتل والمنفى العربي لا يستوعبه، (فعلى أي الجانبين يميل؟).

هذا هو المنفى العربي حيث الجلاوزة يحيطون بالفرد الفلسطيني، يحاصرونه ويراقبونه ويدبِّجون عنه تقاريرَهم، فهو مصدر قلق، وهو عبء يتحيّنون فرصة الخلاص منه. لذا كان البقاء في هذا المنفى ذلا لا يطيقه الفلسطيني وعليه أن يركب "الرياح الهوج" من جديد ويختارَ له وجهة أخرى ليظل محكوما بالرحيل والخيبة باستمرار.

" أنا بائس من جند هذي الدرب... أو تلك الطريقْ

أنا يائس مستضعفٌ..

أنا فيكمُ الجسد الغريقْ

أنا من ضحايا خطة التلفيقِ

والمنفى السحيقْ

ومن جلاوزةِ السلاطينِ الذينَ تحجّروا: خشبا مسندةً

وأحلاما مفندةً

وأياما تضيقْ.

حتى مَ أنتابُ المدائنَ والسفارْ؟

هكذا يصبح اللاجئ الفلسطيني مخيرا بين ثلاثٍ: ذل البقاء، أو الدموع أو السفر، وهي (أمورٌ أحلاها مـرٌ)، لأنه يَشعر بالصَّغار والخذلان وانعدام النصير وتجاهل القضية:

ما أنتَ إلا نادلٌ في حانهمْ

متهادنٌ

متهاونٌ

متشاغلٌ بالشغلِ.. تقذفكَ القفارُ إلى القفارْ !

يا بؤس ما غنى المغني، لا استمالَ ولا استثارْ !

وكان محمود درويش قد قبض، بحدسه الشعري، على تلك الجدلية، جدلية الوطن والمنفى، حين قال بُعَيد رحيل قوات الثورة الفلسطينية عن لبنان في ثمانينيات القرن الماضي، إحدى محطات رحلة اللجوء الفلسطيني المتعثر باستمرار: "ليس لي منفى، لأقول لي وطنُ..الله يا زمنُ".

والحديث عن المنفى يستدعي بالضرورة الحديث عن الوطن، بحسب قانون التداعي، ومقولة أن النقيض يستدعي نقيضَه، ففي غمرة الإحساس بالتيه والضياع في المنفى العربي يحضر الوطن "الراحل البعيد الذي مضى ولن يعود" وليس من باب التشاؤم والانهزامية أن يُقِــرَّ الشاعر بأن الوطن لن يعود، لكن قراءته للواقع العربي المتآمر على الإنسان الفلسطيني تجعله يرى ذلك الرأي، كما يرى أن قضاءَ وقدرَ الفلسطينيين أن يعيشوا في الشتات "صدى لوطنهــم":

فكلنا صدى

للراحل البعيدْ

ذاك الذي مضى ولن يعود من غدي..

خلاصة القول إن الإنسان الفلسطيني ضحية خطة وصفها الشاعر بـــ (خطة التلفيق) ويعني بذلك أن هناك إعلاما خادعا مورس على  اللاجئين الفلسطينيين من قِبل الخطاب الرسمي العربي حين وصفهم بالمهاجرين والنازحين؛ حتى لا يقال إنهم يعيشون في منافٍ، لأن النظام الرسمي يُشيعُ أن بلاده تمثل الوطن الثاني للفلسطينيين، وأنها أرض الضيافة تحتضنهم إلى أن تنتهي حالة العدوان وتتحقق العودة؛ لكن الواقع أنها ليست كذلك إنما هي - كما وصفها الشاعر-  (المنفى السحيق)،  لأن النفي دال على القهر والحرمان من المكان والمواطنة والحرية وهـو في بعض القوانين الوضعية عقوبة؛ لذلك تبنى الشاعر فواز طوقان مصطلح المنفى بوصفه الأنسب في تشخيص الحالة الفلسطينية، وأصر على هذا الاختيار، وانحاز إلى وصف الواقع فجاء خطابه مسكونا بالألم والحنين والخيبة والغضب ونقد الأنظمة ومشحونا بحب الوطن "الراحل البعيد".

***

بقلم: ميلود لقاح

الغرائبية العارية وانقطاع الأواصر السببية

توطئة: من الممكن للقاص أن يخوض تجربة صناعة الموضوعة القصصية دون الذهاب بها إلى خوارزميات مغلفة وعارية، خصوصا إذ ا ما كان الأمر متعلقا بحكاية قصصية ذا حبكة جدلية تتوزع بين حالات فنتازية وأخرى أشبه بالغرائبية المقطوعة في الوسائل والواصلات الدلالية المبرهنة في الظاهر الموضوعي والباطن لبفني. عبر هذا الصدد سوف نتناول نموذجا من القصة القصيرة التي جاءت تحت عنوان (الغاب) للقاص موسى كريدي، حيث سنعاين من خلال مفاصلها البنائية وأطوارها الأسلوبية كيفية إخراج حكاية قصصية ذا مكونات ممزوجة بين (الخفاء = التجلي) أو أحيانا دون شك تتحول إلى مستوى متصدرا توريات وتغطيات لا تمت للرمزية بصلة ما ولا من جهة كونها إحدى عروض المسرح الإيمائي نوعا ما. موسى كريدي يرى النص القصصي عبر قصته (الغاب) ثمة مجموعة دلالات متكونة من الظلال والتشظيات الحديثة المسكوبة في مقادير من الغرائبية والفتنازيا التي لا تقدم للقارىء أية كشوفات حقيقية من أثار ومشخصات (الحكاية = الخطاب) أي إننا وجدنا قصة (الغاب) عبارة عن حدوثات تفتقر إلى الوسائل والأواصر السببية في حصيلة انتقالات وتعشيقات المكونات النصية.

ـــ دهاليز المستهل السردي وفجوات التحقق الوصلي

منذ بداية المستهل الوظائفي للنص القصصي، ومجالات الوصف تمنحنا تلك الرقعة اللاممنوحة في التحديد الجهاتي (الزمن ــ المكان ــ منظور الرؤية) أي أن الممنوع التمثيلي في عملية  التأشير النسقي، حلت في حوليات مندغمة وعلامات اللحظة المشروطة في شكها القضوي، ولدرجة أن القارىء يشعر بأن السارد المتمثل بالشخصية وكأنه في حالة حلمية ــ كابوسية ليس إلا ؟ لذا فإن الشكل المطروح بالأحوال يعكس مستويين: الأول، هو المتعلق بتلاحق الصور التي يبلورها الشكل السردي في مخيلة القارىء، وهذه الصور بدورها تترجم فيما تترجمه من فضاءات غير مكتملة دلاليا. أما المستوى الثاني: فهو المتعلق بالرؤية الغرائبية الموحدة ونقصد بها تلك البنية الاشعورية من لدن الحدوث النصي، إذ إنها بدت شديدة الإلتباس في وحدات محكومة بعابرية الرؤى الصورية الخارجة من الوعي التصويري وتمثيل المعنى، لنأخذ عدة أسطر من جمل ودوال البداية النصية للقصة ذاتها (في الفجر. بدءا من الخيط الأول للنور.. أمروني أن أقود عربة محملة بأشياء أريدها أن تكون خفية عن الأنظار. ضحكت ضحكة سوداء لفرط خوفي، وقالوا قبل أن أتحرك: ـ إياك والكشف عما في داخل العربة، فهنالك من سيطوح برأسك إن أعلنت عن حملك أو نكثن الموعد أو اتخذت سبيلا للهرب ما عليك إلا أن تصل إلى النقطة المعلومة، وتفرغ الحمولة وتعود. / 40 النص القصصي) من هنا يحق لنا القول بأن الانخراط في عملية مجهولة في محددات رؤوس المعرفات الخيوطية بدت وكأنها بالأساس ضمن عملية إنتاجية منزوعة النواة الانتمائي، وصولا إلى أن سلوك الأفراد مع الشخصية بدا وكأنه عدة خطوات في العلاقة باللازمن الوقائعي. فهي عملية محض قيودات تتعلق بخواص مخفيات غائية بصيغة الترتيب المتخيل: وإل لو عاينا دوافع الواقعة السردية جيدا، هل من الممكن أن يكون الشخصية جنديا مطمسا بأغلال تنفيذ الواجب أم هو رهينة وقعت ضمن ظروف قسرية بين أيدي عصابة مثلا ؟ الجواب أن سيان ما بين الأمرين فهناك وحدات سردية تكشف لنا كونه ذلك الأب الذي جاء باحثا عن ولده الجندي في أرض المعركة وأخرى تظهر للقارىء بأن الرجل هو من ضحايا العصابات المختصة بتهريب السلاح وأخرى تظهر إلا وكأنه محض متواليات حلمية قد جرت على أرض الوهم الكابوسي؟

1ــ الغابة ودوائر التحريفات الكابوسية:

لعل العلاقة بين زمن القصة وزمن الخطاب في دلالات قصة (الغاب) ما هي إلا جملة من العلاقات المتشابكة بين حركية متعددة لأزمنة الفعل السردي فضاءاته المتداخلة. بلا شك أن زمن العرض الأحوالي ذي ثلاث أزمنة (زمن المغامرة ــ زمن الخوف ــ زمن التلاشي الحلمي) فزمن الخطاب في النص هو الأداة التي تتخطى بها زمن المغامرة، في حين يبقى زمن الخوف ملازمة ظرفية لإنجاز تحقق ما، إنطلاقا من زمن الكشف ذاته الذي يوشك أن يكون وهما ساحقا فيما يظل زمن الحلم الحلقة الواصلة بين كل أطراف الزمن: (توقفت عند التواءة لا ستعيد تنفسي، ثم سرت.. لم أزل هكذا، حين توقفت ثانية بعد أن أهتز قرص الشمس أعلى العربة على صوت الصهيل.. وحدست لحظتئذ لأني أحمل أعتدة./ص40 النص القصصي) أن عملية (المغامرة ـ الكشف) كلاهما خاضعا لمتواليات علاقة الصيغة الترتيبية على أن القصد من ورأهما هو استجلاء خواصية الشكل الخطابي وصولا إلى النظر في مكون الاسترسال السردي الذي هو استجابة لروابط التحقق في حدود الخصوصية الاخبارية في وحدة (وحدست لحظتئذ أني أحمل أعتدة ؟).

2 ـــ الإحالات السردية وفاعلية الوصف التشكيلي:

ينعطف بنا الراوي ــ الشخصية، نحو خاصية الوصف المضغوط بجملة إيحاءات وإيماءات دالة تبين لنا حضور الصورة الظلية للشخصية ومدى تنوعها الكيفي في صور حلمية وكأنها قادمة من (إحالات السرد) الذي يستعين بغواية الاندماج بين (السياق ــ الحضور الفعلي) وصولا إلى حركيات مراوية في رقع الطين: (تجمد ظلي في الطين ثم دنا من هيكلي رأس في خوذة  وصاح بي: قف؟ كنت واقفا، تلك اللحظة بحذاء العربة، وعلى يميني يقف الحصان بلونه البني، وعرفه الأسود، أمرني المسلح أن أبرك فبركت.. سحبني من عنقي فانتصبت دون حراك.) وإذا ما استعنا بالدلالة الوصفية، يتوازى لدينا المجال بين حركية الظل وشبه مجموعة أشياء ترقد ببعثرة فوق قطع الطين للجندي. فالأرضية الفضائية المستوعبة في حدوثات المشهد هي الحوارية المتجسد ضمن إيقاعي (الظل ـ الجسد ـ خوذة ـ رأس  ـ حصان) لذا الأمر بدا أكثر تلويحا نحو منطقة تزاوج (الخيال ـ الحقيقة) أي سرعان ما بدا مستوى الملامح إمكانية تتضح إلى مستوى يتجاوز المشهد ليقوم المحكي وصفا بالكشف عن زمن الرجل الظل الذي غدا جنديا في الواقع وبعد تطورات الشخصية في كونها مجرد حالات محكومة بحوليات الظل والضوء والظلام. تنزاح البنية السردية في حوادث الشخصية إلى خيارات أحادية في دخول الغابة بعد تفتيشه من قبل الجندي ورجمه بصياح المغادرة، ولكننا بعد دخول الشخصية إلى أجواء الغابة لا نعلم مدى حدوث تلك المحكيات التي راحت تتشاكل بمسيرة كابوسية أخذت تتفرغ منها وتتوالد غرائبية لا تصلها الأسباب والروابط والوسائل بل وحتى الدلائل أيضا: (في منتصف الليل لمحت كوخا مضاء من الداخل أحيط بماء وشجرة بلوط تقف في مدخلة مثل الحارس، أومأ لي فتى وسيم في الثالثة عشر من عمره. حار نظري، هل يعني هذا أن البني محجوز هنا وأن الكوخ هذا على ما يحيط به من اخضرار وماء وزاد ليس سوى معتقل ! شككت في الأمر كله، حتى زلت بي قدماي، لم أجد ما يمنع وقوفي بإزاء الباب، لمحته، كان فتى جميل الطلعة بهيا قريب الشبه بولدي، دنا مني، انفتح الباب دنوت أكثر، أن الفتى لا يعرف أباه. / ص42 النص القصصي) بهذه الطريقة من الشد الحدثي تتصاعد سمات التوتر بين لوحات المكان الفنتازي، ولكنها فنتازيا محفوفة بزمن منظور غرائبي مدعم بروح الضيق والإشكالية المحيرة. لذا يتبين لنا بأن الجندي ما زال يجثم على وجود ذلك الأب، من ناحية كونه يحمل الأعتدة في عربته. لا شك أن الفضاء القصصي في وسط أحداث الغاب تحولت بماهية موحشة إلى إرهاصات غرائبية وكابوسية متحكمان في زوايا نظر الشخصية التي غدت رصينة حوارية بين ذلك الجندي وثمة شخصية عملاقة تظهر من وسط ظلام الغابة: (دع هذا فهو ضال في غابة ترك وراءه زوجة وثلاث بنات ودكانا لصناعة الخشب، وراح يبحث عن ولده، لم استطع كتمان بهجتي فتحت كفي فسقطت العصا بقوة عليها وتركت خطا أحمر صرخ بي: ـ أفرغ حمولتك هنا يا أبله وأترك العربة والحصان وأعبر هذا الدغل. / ص43 النص القصصي).

ـ تعليق القراءة:

انطلافا من قراءتنا لقصة (الغاب) تتبين لنا مستويات الرسم التشكيلي في مجمل ممكنات السرد في النص، تاركين آليات وتأويل النص يشقان طريقهما نحو (الممكن ـ المحتمل) خصوصا وأن مواقف القصة ضاجة بالعديد من المؤشرات الأسلوبية النوعية، وخصوصا فاعليتها على تجسيد الفنتازيا ضمن المعنى المفتوح على الغرائبي المدعوم بفكرة المعادل الموضوعي الذي راح ينتج في سياق القصة ثمة حالات قصوى من غرائبية عارية تنقصها الكثير من الملامح الواقعية لكي تكون موضوعتها أكثر وصولا إلى جوهرية القراءة النقدية التي وجدت فيها مجرد غرائبية عارية بعد انقطاع الأسباب والوسائل الأكثر تكثيفا وإيحاءا ورمزا معادلا في حدود واقعية متخيلة بطريقة أكثر استعدادا لإثبات الواقع المؤول، لا أن يهرب القاص ونصه بوسائط وتراكيب تخلو من دلالات السبب والمسبب بصورة بنائية تعكس واقعها الحي وتثري مخيالها الرصين.

***

حيدر عبد الرضا

(ألا لا ألا الا لآليء لابــــــث

ولا لا ألا الا لآليء من رحل)

- أمروء القيس-

لا يخفى على أصحاب الضمائر الحية في الوسط الثقافي الجهود الحثيثة لأحياء التراث الشعري التقليدي (العمودي) العربي، وهذا عمل جميل يشکر عليها دعاتها، لکن احيانا ونتيجة للحرص الشديد فلربما يقع البعض في غلو وافراط، فكما انه سيء ومنهي عنه في الدين والسياسة والاقتصاد... فانه منبوذ ومؤذي في صنعة الأدب كذلك، كما ورد: هلك المتنطعون. ويأتي التنطع بمعاني التعمق والغلو والتكلف.

لا داع ان نكتب عن دعمنا وحبنا لهذه المحاولات والجهود الفذة وخاصة اذا كان من قبل ناقد حريص ومتخصص و     حتى ولو كان هذا الاهتمام خارج نطاق تخصص تحصيله الدراسي، لكننا في الجهة الاخرى تحرق قلوبنا عندما نرى من عند البعض المتحمسين، تبخس الآخرين أشياءهم، فهذا يضر كثيرا بالسمعة الثقافية ومستوى الأدبي والعلمي، ومع هذا علي أن أؤكد وأقول: ياليت كل الشغفوين في ميادينهم كافحوا وأجادوا مثلما هؤلاء المجيدين عليه في دربهم .

لو أردنا أن نكون منصفين علينا وضع الأمور في أماكنها واعطاء حقها ولاننكر الجميل لأحد، سعيا في سبيل نيل الحكمة والتزين بها، ومن الطبيعي ان السب والاستهانة والتوهين لا يزيد من الطين الا بلة، والسب بغير علم ينتهي بنتائج عكسية قد لا تحمد عقباها، كما انه ليس من شيمة الأصلاء وأناس أكاديميون.

لا ينكر أحد منا فضل الشعر التقليدي وفنون بلاغته وجزالة لغته وقوة تصوره ورصانة تركيبه، بحيث لا يفهمه احيانا حتى النخبة الشعرية في عصرنا، كمعان لبعض الالفاظ المستخدمة فيها بدون الرجوع الى المعاجم، بل هنالك مفردات لا توجد حتی في المعاجم اللغة العربية قاطبة، مثل ألفاظ الصلندد وعشنصل والخ... ولو ان الجرجاني في (اعجاز البيان) يری ان الالفاظ خدم للمعاني والاعتبار في معرفة المدلول لا العبارات، لكن لعل تلك الجودة والبلاغة للقصائد الكلاسكية ترجع الى اختزال الأدب والفن في الشعر فقط والتركيز الابداعي عليه وانشغال أصحاب المواهب به بعينه وتوظيف كل طاقات الفحول له في حين كان رأس مال الشاعر اللسان لاغيره، وهكذا خلدت صفحات التأريخ أصواتا لشعراء معينين (من بين ربما مئات بل ألوف) من شعراء بحور الشعر الخليلي لم نسمع بهم أبدا، هذا الكلام ينطبق على آداب الشعوب الاخرى كذلك، اذ ان الانفتاح التدريجي للعقل والعلم أثر بشكل ايجابي على ميادين عدة، من بينها الأدب والفن واللغة بعينها، اذ انها في حركة مستمرة نحو الانفتاح والتبسيط بدلا من التعقيد، ثم الأدب في عصرنا الحديث يتوسع أفقيا وعموديا  تزامنا مع  تنوع وتوزيع الاهتمامات بين القصة والرواية والشعر والسينما والنثر والفنون السمعية والبصرية والمسرح والفنون التشكيلية....والخ، وهكذا تغيرت لغة الشعر من الاكتراث باستعمال ندرة الالفاظ وغريبها الى مصطلحات جديدة أكثر وضوحا وبمغزى أعمق وأفكار قوية ومعبرة، بالرغم من ان هنالك كلمات عفا عليها الزمن سواء في الكلام أو اللغة، فلم تعد تستخدم في سياق معين أو في العصر الحالي. مضيفا على ذلك ان لكل عصر أسلوبه اللغوي والتشكيلي، ولا عيب في هذا، كما يمكن طرح أفكار معمقة بكلمات غير معقدة أو   مألوفة. مع كل هذا وذاك ان الابداع الشعري يضيء الدروب على مر العصور ويستقطب أحاسيس العشاق وينجذب اليه قلوب المتهوسين بهذا السحر، مع عدم انكار لوجود كثير من الشعر الرديء في الضفة الاخرى، ولكل جمهوره ومتابعيه حسب مستواهم الأدبي وذائقتهم الشعرية.

ان أسلوب الشعر الحر في زماننا قد احتل حيزا واسعا على خريطة الميدان الابداعي في الجنس الشعري عالميا، له فنونه وأركانه وبنيته وهو في انفتاح مستمر مع آفاق المستقبل وله أنواع عدة، فالخروج من البحور الشعرية أو الوزن والقافية لا يعني عدم الالتزام بقواعد فنون شعرية أخرى والخروج على مسار الابداع رأسا على العقب، اذ ان التأملات الفكرية والفلسفية مع تعدد التلميح والمعان وخصوبة التخيل ورمزية اللغة والتنوع الاسلوبي وابتكار صور شعرية متجددة تعتبر من سماتها البارزة. أما من حيث المضمون فهي تتناول قضايا العصر بدلا من الاكتفاء بالبكاء على الاطلال والغزل أو وصف السفر والترحال والهجو، مع وجود الوحدة العضوية في النصوص وتوظيف الأسطورة وطرح النزعة البشرية مع تكثيف الايقاع والموسيقى واستخدام تقنيات متنوعة كالكولاج والتركيب واللعب على اللغة احيانا والغوص في عوالم الذات واللاشعور...الخ

فلا يمكن لأحد أن يجبر الآخرين على الالتزام بنمط معين من الشعر قراءة وكتابة، الا ان انتقاء هذا الصنف من الاصناف دون غيره من عند المتلقي يرجع الى عوامل عدة من بينها القريحة الشعرية عنده والتذوق الفني والثيمة الشعرية، فلا ضير ان نسبة أكثر من ٩٠% من قراء اليوم يميلون الى هذا الجنس من الشعر على الصعيد العربي والعالمي، ولايعني هذا عدم وجود قصائد رديئة جنبا الى جنب كما قد تحصل في كل حقبة تأرخية للأدب، لكنني أؤمن (ربما تتفق معي أو لاء) بأن الحداثة ليست كفرا ولا تعني رفضا للموروث، فكان من الأجدر بدلا من أن نطعن في أصحاب الاقلام الحداثوية أن نناهض ونقبح ونستنكر على الذين يمسكون بسياط الايذآء بدلا من الاقلام  لضرب أصحاب الأصوات الحرة وتكميم أفواههم وزجهم في زنازين دون وجه الحق. وبالتالي اذا لايعجبكم نص ما فلا مانع من أن تنقده بشكل أكاديمي وموضوعي كما لصاحب النص الحق في الرد والتبيان ان أراد ذلك، لكنني مطمأن بأن ألاسلوب الجارح يحتاج الى اعادة نظر جذرية وشاملة، كما ان الاعتراف بنتاجات وأبتكار الآخرين يعتبر فضيلة وليس نقصا وهو من صفات العلماء من العدل والورع، حتى ولو ان الآخرين لا يوافقونك في الفهم والتذوق الشعري والاسلوب الصياغي. كما لا استبعد ان يؤسر مشاعر المتزمت -عندما تكتشف أبعاد الاعمال الابتكارية- سحر هذه النصوص الحداثوية يوما ما، ولا عجب-.

فلأنهي كلامي بمثل رجل  يقول جدلا للآخر: لم تستخدم الجوال الذكي والحاسوب والدراجة...فانها من ثمار الحداثة وأنت تلعن الحداثة؟ فاذا به يرد: فان فكرة الدراجة مأخوذة من عربات الفراعنة وأما الأمور الاخرى ليست الا سفها وشطحات وخزعبلات لطمس أوجه حضارتنا العريقة! ومن بين تلك الأمور الاخرى أجناس الأدب الحديث والتي هي مرآة الحس الابداعي عند انسان العصر مع تعدد آفاق العلوم والاختراعات وتكاثر منصات وسائل النشر. وحري بأن الانسان بطبعه كامن فيه غريزة البحث عن الجديد والتغيير والتطور منذ الأزل.. لكنه من البديهي ان هذا الجواب للمتشدق بالحداثة لا يقنع أحدا!

ختاما لا يسعني الا ان أشكر المخلصين على سعة صدرهم لقراءة هذه الرؤوس الأقلام التي كتبتها فقط حرصا على الابداع وحبا في خدمة الكلمة الصادقة البناءة مواكبة ركب العصر.. متمنيا للجميع دوام الصحة والعافية، منتظرا المزيد من العطاء المتميز الثري في ميدان الشعر والنقد والادب، دون الازدراء والمساس بالآخرين..

***

سوران محمد

 

يُعْتَبَرُ الكاتبُ الرُّوسِيُّ أنطون تشيخوف (1860 - 1904) أعظمَ كاتب قِصَّة قصيرة في التاريخ. كَتَبَ المِئات مِنَ القصص القصيرة التي اعْتُبِرَ الكثير منها إبداعات فَنِّية كلاسيكيَّة، كَمَا أنَّ مَسْرحياته كانَ لها تأثير عظيم على دراما القَرْنِ العِشرين، وَتَعَلَّمَ مِنها الكثيرُ مِنْ كُتَّابِ المَسْرحيات المُعاصِرين.

قامَ بابتكاراتٍ إبداعيَّة أثَّرَتْ بِدَوْرِها على تطوير القِصَّة القصيرة الحديثة، وَتَتَمَثَّل أصالتُها بالاستخدامِ المُبَكِّرِ لِتِقنية تَيَّار الشُّعُورِ الإنسانيِّ الدَّاخِلِيِّ، وتَوظيفِ التفاصيلِ الدقيقة الظاهرة، وَتَجميدِ الأحداثِ الخارجيَّة في القِصَّة، لإبرازِ النَّفْسِيَّة الداخليَّة للشَّخْصِيَّات.

تَتَجَلَّى الرَّمزيةُ في أدبِهِ وقِصَصِهِ مِنْ خِلالِ استخدام عناصر حِسِّية لتمثيلِ مفاهيم مُجَرَّدَة، والتركيزِ عَلى تَعقيدِ الطبيعةِ البَشرية، وتناقضاتِ المُجتمعِ الإنسانيِّ. وتشيخوف يَسْتخدم الرُّمُوزَ للتَّعبيرِ عَن الهَشَاشَةِ الوُجوديةِ، والفَراغِ الداخليِّ للشَّخصيات في إطارٍ واقعي، وإظهارِ جَوهرِ المَشاعرِ الإنسانيةِ والأفكارِ العَميقةِ، واستكشافِ مَواضيع التَّغْيير والنِّضَالِ مِنْ أجْلِ التَّكَيُّفِ معَ المَشْهَدِ الاجتماعيِّ الجديد.

حَوَّلَ تشيخوف صُوَرَ الطبيعةِ إلى رُمُوز تَعْكِسُ مَشاعرَ الشَّخصياتِ وتَجَارِبَها، وَتَنْقُل حَالَتَهَا العاطفيَّة. وغالبًا مَا يُظْهِرُ التناقضَ بَيْنَ جَمالِ الطبيعةِ وَقَسْوَةِ المُجتمعِ الإنسانيِّ. كَمَا أنَّه حَوَّلَ السُّخريةَ إلى رَمزية أدبية لنقدِ الأعرافِ والتقاليدِ المُجتمعية.

إنَّ أدبَ تشيخوف قائم عَلى فِكرةِ البَحْثِ عَنْ مَعْنى في عَالَمٍ قاسٍ وَخَشِنٍ وَغَيْرِ مُبَالٍ، مِمَّا يَعْكِسُ ضَعْفَ الإنسانِ وَضَيَاعَه في مَتاهةِ الحَياة. واعتمدَ في أعمالِه عَلى صِدْقِ الوَصْفِ، والإيجازِ، والمَوضوعيَّة، وَتَصويرِ الأشخاصِ والأشياء بِدِقَّةٍ، وَتَجَنُّبِ الأحكامِ المُباشِرةِ أو المُبَالَغَات، مَعَ قُدرة عَلى طَرْحِ أسئلةٍ فلسفية عميقة، وَالمَزْجِ بَيْنَ الحِسِّ الكُوميديِّ والأحاسيسِ المُوجعة والساخرة، خاصَّة في تناول الأحداثِ اليوميةِ والطَّبَقَاتِ الاجتماعية، والحِرْصِ عَلى التَّأمُّلِ في المَصِيرِ البَشَرِيِّ، حَيْثُ تَنَاوَلَ تَساؤلاتٍ حَوْلَ قَدَرِ الإنسانِ، والعَدالةِ، وَقِيمةِ العَمَلِ، مِنْ خِلال قِصَص تُسَلِّط الضَّوْءَ عَلى تفاصيلِ الحَياةِ العاديَّة.

تتناولُ أعمالُ تشيخوف مواضيع عالميَّة كالحُبِّ، والمَوْتِ، والبَحْثِ عَنْ جَدوى الحَياةِ وَحَقيقةِ الوُجودِ، وَتُقَدِّمُ فهمًا عميقًا للحالةِ الإنسانيةِ، وتَعقيداتِ العلاقاتِ بَيْنَ الناسِ.

وفي قِصَصِه القصيرةِ، يَتَّخِذُ الحُبُّ أشكالًا مُتعددة، فَيَظْهَر الحُبُّ العاطفيُّ الشَّهْوَانِيُّ الذي يَسْتحوذ عَلى كُلِّ شَيْء، كَمَا يَظْهَر الحُبُّ بِمَعْناه العائليِّ الاجتماعيِّ. وَيُصَوِّرُ تشيخوف بشكلٍ مُتكرِّر التَّوَتُّرَاتِ وَالصِّرَاعَاتِ التي تَنْشَأ في العَلاقاتِ الرُّومانسيَّة، مُشَدِّدًا في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ عَلى المَشاعرِ المُعقَّدة التي قَدْ تَنْشَأ عِندَما يَكُون الشَّخْصَان عَلى صِلَةٍ وثيقة.

تَعَمَّقَ تشيخوف في مَواضيعِ الوُجودِ الإنسانيِّ، والبَحْثِ عَنْ مَعْنى للحَيَاة. واستكشفَ - مِنْ خِلالِ شَخصياتِ قِصَصِه - تَعقيداتِ الحالةِ الإنسانية، وَكِفَاحَ الإنسانِ لإيجاد مَكانِه في العَالَمِ، وَشُعُورَه بالمَلَلِ والقَلَقِ أثناءَ البَحْثِ عَنْ مَعْنى أعمق في الحَياة، والانشغالِ بالأسئلة الوُجودية عَن المَعْنى والغايةِ.

وَيَتكرَّر مَوضوعُ المَوْتِ في قِصَصِه باعتبارِه مُحَفِّزًا لِصِرَاعِ الشَّخْصياتِ الوُجوديِّ. وَمِنْ خِلالِ المَوْتِ تَظْهَرُ هَشَاشَةُ الحَياةِ، وَحتميةُ الفَنَاءِ. وَتَختلفُ نَظرةُ الشَّخصياتِ إلى المَوْتِ، فالبعضُ يَعْتبره تَحَرُّرًا مِنَ مُعاناةِ الحَياةِ وَفَرَاغِها، والبعضُ الآخَرُ يَعْتبره تَذكيرًا بِقِيمةِ الحَياةِ وَضَرورةِ عَيْشِها.

تَتَجَلَّى فلسفةُ تشيخوف الرَّمزيةُ في بَساطةِ أفكارِه، وَنَماذجِه القِصَصِيَّة، وَشُمولِه لِكُلِّ الأفرادِ في المُجتمعِ مِنْ عِلْيَةِ القَوْمِ حَتَّى قاعِ المُجتمع، كَمَا تَتَجَلَّى في المَوضوعيَّةِ الصارمة التي قَدْ تَبْدُو نَوْعًا مِنْ البُرودِ تُجَاه مَصائرِ الأبطالِ.

وَأَدَبُهُ يُعْتَبَرُ طريقًا لِمَعرفةِ الإنسانِ والمُجتمعِ والعَالَمِ والحَيَاةِ، وَطَريقةً لِقِراءةِ تاريخِ المُجتمعِ الإنسانيِّ، بِكُلِّ طَبَقَاتِهِ وَتَناقضاتِه وَصِرَاعاتِه وَمَخَاوفِه وَهَوَاجسِه. وَأَدَبُهُ لَيْسَ خَاتِمَةً مأساويةً للحَيَاةِ، وإنَّما هُوَ جُزْءٌ مِنْ التَّجْرِبَةِ الوُجودية، التي تَعْكِسُ هَشَاشَةَ الإنسانِ، وَقُوَّةَ حَيَاتِه، وَتَدْفعه إلى العَيْشِ بِعُمْقٍ معَ استغلال كُلِّ لَحْظَة، وبناءِ وَعْيٍ مَعرفيٍّ بأهميةِ الحَيَاةِ وحَتميةِ المَوْتِ.

والجَديرُ بالذِّكْرِ أنَّ تشيخوف - بِوَصْفِهِ طبيبًا - كانَ يُوَاجِهُ المَوْتَ يَوْمِيًّا، حَيْثُ اعتادَ التعاملَ معَ المَرضى الذينَ يعيشون على هَامِشِ المُجتمع، وَهَذا الاحتكاكُ المُبَاشِرُ جَعَلَه يَرى المَوْتَ حَقيقةً واقعيةً، وَفُرصةً للتأمُّلِ ومُراجعةِ الذات، وَتَذكيرًا دائمًا بِضَرورةِ العَيْشِ بِصِدْقٍ. وهَكذا، صارَ المَوْتُ في أَدَبِهِ تَجْرِبَةً وُجوديَّةً يَوْمِيَّة. وَلَمْ يُحَاوِلْ تَحويلَ المَوْتِ إلى مَأساةٍ، أوْ كارثةٍ، أوْ حَدَثٍ دِرَاميٍّ عاطفيٍّ مُفْرِط، أوْ جُزْءٍ مِنْ مَعركةٍ رُوحيَّة، أوْ جُزْءٍ مِنْ صِراعٍ داخليٍّ وُجوديٍّ. بَلْ كانَ المَوْتُ جُزْءًا مِنَ التَّدَفُّقِ الطبيعيِّ للحَياة.

واعتبرَ تشيخوف الطبيعةَ رَمزيةً أساسيَّة لِفَهْمِ المَوْتِ. ففي قِصَصِه، تَرتبط الطبيعةُ بالتَّقَلُّبَاتِ النَّفْسِيَّة والتَّحَوُّلاتِ الداخليَّة للشَّخصياتِ، وَتَتَّضِحُ الحَيَاةُ بِوَصْفِهَا وِلادةً للحُلْمِ والأمَلِ، وَيَتَّضِحُ المَوْتُ بِوَصْفِهِ تَكريسًا للعَدَمِ والفَنَاءِ.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

قدمت فرقة "لمسة فن" المغربية مؤخرا عرضا مسرحيا بعنوان «عرس القمر» ضمن جولة فنية شملت عددا من المدن المغربية، بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل – قطاع الثقافة – برسم الموسم المسرحي 2025/2026. ويأتي هذا العرض كتجربة فنية معاصرة تقوم على الاشتغال الدراماتورجي لنص الشاعر الإسباني فيديريكو غارسيا لوركا بعنوان «عرس الدم»، وهي تراجيديا مستوحاة من حادثة واقعية. يتناول النص زواجا تقليديا تنهار أركانه حين تهرب العروس مع حبيبها القديم ليوناردو، ما يؤدي إلى مواجهة دموية تنتهي بالموت. ويجمع النص بين شخصيات واقعية ورموز أسطورية، مثل القمر والموت، في لغة شعرية مشبعة بالصور والاستعارات، لتسليط الضوء على صراع الحب والتقاليد، مع حضور القدر والموت كقوى حتمية، ما يمنح العمل طابعا كونيا يتجاوز أبعاده المحلية، ويجعله علامة بارزة في المسرح الإسباني والانساني.1933 salam

انطلق المؤلف والمخرج الدكتور محمد زيطان من أرضية درامية ثرية تتجسد في ثيمتي الحب والثأر، مستفيدا من السياق الأندلسي الموشّى بالعادات والتقاليد المتوارثة، ليقدم رؤية مسرحية تعكس آثار الحرب والقمع على القيم الإنسانية والحضارية. وقد اعتمد النص على شخصيات متعددة الطباع والرغبات تدخل في صراع متنام على امتداد العرض، يتجاوز الإطار الاجتماعي ليغوص في الأبعاد النفسية والوجودية. ويبرز العمل المآسي الناتجة عن العادات المتجذرة في الوعي الجمعي، حيث تتحول المرأة إلى محور التوتر، محرومة من الاستقرار والحب، تحت وطأة قدر محتوم يلاحقها بصمت.

تميز العرض بجمالية فرجوية تراعي الطابع التراجيدي للنص، إذ صاغ المخرج رؤية بصرية وشاعرية تتقاطع فيها عناصر السينما والرقص والشعر، مع اعتماد تقنية المشاهد القصيرة والسريعة، التي تجعل الشخصيات مندفعة منذ البداية نحو مصير محتوم. وقد دعم هذا النهج سينوغرافيا اقتصادية، تمثلت في خلفية ترابية وكراس خشبية صالحة لطقوس العزاء والعرس، مصحوبة بإضاءة قاتمة وموسيقى مستوحاة من الفلامينكو، مما أضفى على المشهد أبعادا جمالية وعاطفية متكاملة.1934 salam

واتسم الأداء التمثيلي بالانسجام مع طبيعة النص الشاعرية، إذ حرص المخرج على اعتماد اللغة العربية كوسيط قادر على حمل البعد الدرامي والجمالي للعمل، مع الانفتاح على الوسائط البصرية من خلال توظيف تقنية المابينغ، لتصبح لغة الجسد والخطاب المشهدي موازية للغة النص، مضفية على العرض بعدا معاصرا يجمع بين التراثي والحداثي في آن واحد.

شارك في العرض مجموعة من الفنانين الشباب، منهم: سلمى المختاري، نهيلة نايت الحيان، ثرية بوهالي، أسامة العروسي، رضى لمنادي، أحمد بارودي، وأنس بوزكرين. وتولت صفاء علالي تصميم السينوغرافيا والملابس، وسارة السفياني مساعدة الإخراج، فيما أشرف معاد بياري على الجوانب التقنية والإضاءة، وتركت إدارة الفرقة والمحافظة العامة لخالد الخطبي. أما الدراماتورجيا والإخراج، فقد تكفل بهما محمد زيطان، الذي قدم رؤية فنية متكاملة تستند إلى خبرته وحسه الجمالي، لتجعل من «عرس القمر» تجربة مسرحية مغربية واعدة تعكس حيوية المشهد المسرحي الراهن، وتؤكد قدرة المسرح المغربي على استيعاب النصوص العالمية وتقديمها في سياق محلي متجدد.1935 salam

د. عبد السلام دخان

في المثقف اليوم