قراءات نقدية

قراءات نقدية

معظمنا يمتلك إحساسًا بالواقع، لكن ماذا لو خدعتنا حواسنا؟ هل سأظل أعرف ما هو الحقيقي إذا كنت على سبيل المثال، أعاني من ورم دماغي صغير يجعلني أعتقد أن الأشخاص من حولي هم شياطين، أو أن اليوم الجميل المشمس هو كابوس مظلم؟

فيلم (الجوكر)، "لتود فيليبس"، يتناول هذا النوع من الجنون التفارقي، إنه يؤكد على المشكلة الفلسفية المتعلقة بالحد الفاصل بين الإدراك والواقع، وتلاشي التمييز بين الشعور الداخلي والاحساس الخارجي، حيث يمكنني أن أسقط كياني الداخلي على العالم، مما يغير لونه ونغمته. إذا لم أكن أدرك أنني أفعل ذلك، فسأعيش في متاهة من الجحيم، سجن من إسقاطاتي الخاصة. لا يمكن لأحد الوصول إلى شخص يعاني هذا النوع من الجنون، فلا أحد موجود فعليًا بالنسبة له، مرآته المكسورة لا تعكس شيء، يلتهم العالم، وفي الوقت ذاته يتفكك من الداخل.

يقدم "خواكين فينيكس" شخصية "آرثر فليك"، وهو كوميدي فاشل يعاني من اضطراب نفسي يجعله يضحك في لحظات غير مناسبة. تحت ضغط سلسلة من الأحداث المؤلمة، ينزلق "فليك" إلى الجنون ويشرع في موجة من القتل، وفي هذه العملية، يتبنى شخصية (الجوكر) ويصبح رمزًا لثورة ضد الامتياز في مدينة "غوثام"، وبطلًا للثوار الذين يفشلون في إدراك عمق اضطراباته.

يعد تجسيد الجنون أمرًا صعبًا للغاية، لأنه من جهة يجب على الممثل أن يضبط عواطفه بينما يتصرف كما لو كانت غير متوازنة، ومن جهة أخرى، يجب أن تكون مبالغاته قابلة للتصديق، وإلا فإن الفيلم يصبح ميلودراما أو كاريكاتيريا. على سبيل المثال، في واحدة من أكثر المشاهد إيلاما في الفيلم، حين يخنق آرثر والدته بوسادة بينما يعبّر بجملته الحاسمة: "كنت أعتقد أن حياتي كانت مأساة، لكنني الآن أدرك أنها كوميديا". نبرة آرثر محايدة، كما لو أن أفعاله منفصلة تمامًا عن أي عاطفة. المشهد هو وصف بارد للإيماءات دون أي إشارة إلى الشعور، وكأنه الموت بقسماته الباردة شخصيا.

تجعلني براعة أداء فينيكس في تجسيد الجنون، أتذكر شخصيات الأشرار المجانين من العقود الماضية: جاك تورانس (جاك نيكولسون) في The Shining؛ بوبي بيرو (ويلم دافو) في Wild at Heart؛ جون دو (كيفن سبيسي) في Se7en.

فكرة عدم فعالية العلاج النفسي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالموضوع المركزي للجنون في فيلم (الجوكر). يشكو آرثر لطبيبته النفسية: "أنتِ لا تستمعين أبدًا"، "كل ما لدي هو أفكار سلبية". الحوار يُعتبر زائفًا، وبما أن الوصول إلى وعي الآخرين محجوب، يدخل الفرد في عالم من السوليبسية (وحدة الأنا)، حيث يصبح الألم غير قابل للتواصل. قد يكون الشخص الآخر في حالة انهيار، ومع ذلك لا تستطيع أن تراه من خلال قناعه. لذا، فإن الجوكرهو أيضًا تأمل في "الانعدام الوجودي"، وهو نوع من جنون الوجود، كما وصفه العالم النفسي "رونالد لينغ "، بقوله: "إذا كنت أفتقر إلى التعاطف، قد يبدو لي الآخر وكأنه روبوت، أو برنامج حاسوب، أو شبح. قد أشك حتى في وجود الشخص الآخر. قد أبدأ في التشكيك في وجودي الخاص، إذا لم يرني الآخر، فإنني أفشل في رؤية نفسي، وبالتالي أفشل في الوجود". إن عدم الظهور هو مشكلة اجتماعية-سياسية، حيث يشعر العديد من الأشخاص أنهم لا يمتلكون مكانًا، وأنهم بلا قيمة، وأن حياتهم لا تعني شيئًا، كما كتب آرثر في مذكراته.

هذا يقودنا إلى فكرة "لعنة الفقراء" في الفيلم، فالمجتمع الذي يعتبر فيه المال إلهًا يعادل دائمًا الفشل بالاقصاء. هناك طرق عديدة يُقضى بها على الفقراء في مثل هذا المجتمع، وإحدى هذه الطرق هي إنكار الرعاية الصحية. إن وصول آرثر إلى العلاج والأدوية يتعطل مما يفاقم في سلوكه المجنون. يمكننا حتى أن نستنتج أن مشاهد الفئران، الذي يظهر عدة مرات في الفيلم، هو رمز للجماهير الكبيرة من الفقراء، التي أطلق عليها "كارل ماركس" لقب "اللومبن بروليتاريا"، أي الطبقة ما دون أو تحت البروليتاريا.

عندما تعامل المجتمعات الأكثر تقدمًا، أفرادها الأكثر ضعفًا على أنهم "فئران"، يمكن القول إن التشاؤم يصبح تفسيرًا صالحًا للحياة، وأن التفاؤل هو الشر، كما عبر عن ذلك "آرثر شوبنهاور".

هناك مبدأ هندي يُعرف بـ tat tvam asi  ("أنت ذلك")، الذي ينص على أنه ينبغي علينا أن نحاول التعرف على نفس الجوهر في الآخر، لأننا في جوهرنا الآخر. حيث أن الفشل في التعرف على أنفسنا في الآخر يعني أن "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"، وأن الاستغلال لا ينتهي، وأن حربنا الأهلية مستمرة. إن هذه اللامبالاة تجاه الآخر هي دافع آخر متكرر خلال الفيلم، تقود إلى الدمار الشامل.

كما أن الاحتقار الواضح في مشاهد الفيلم تجاه المساكين ليس مجرد عرض لامبالاة فاشية، بل دليل على الغطرسة النيو ليبرالية. يكشف مشهد (الجوكر) عندما يرى الأغنياء وهم يستمتعون بمشاهدة فيلم "العصر الحديث" لتشارلي شابلن، وهو فيلم يتناول صعوبات الحياة خلال الكساد العظيم، عن الإحساس السادي بالتفوق لدى الطبقة الغنية، الذين يشاهدون دراما المحرومين من علو مكانتهم.

لنصل إلى مشكلة مركزية في الفكاهة، فنحن مدربون على الضحك فقط عندما يكون ذلك مناسبًا. يقول "مارتن هايدغر" في كتابه الوجود والزمان: "نستمتع ونمرح بالطريقة التي يستمتع بها الآخرون". الجوكر لديه نوعه الخاص من الفكاهة، ويضحك في الأوقات غير المناسبة، مما يثير الضغوط. يمكننا التمييز بين الضحك الزائف والضحك الصادق، أما ضحك الجوكر الفائق الزيف يصبح أصيلاً، لأنه تعبيره الخاص، غير المتأثر بالمطالب الاجتماعية. إن رؤيته للحياة ككوميديا أغمق من التراجيديا، تذكرنا بتأمل الكاتب العبثي "يوجين يونسكو" بشأن يأس الكوميديا، عندما نستمتع بمشاهدة العرض المسرحي" الملك يموت" ليونسكو، نضحك على الجانب التراجيدي من الوجود، وفي الحقيقة نحن نضحك على حياتنا وموتنا.

فالناس أشد حزنًا مما يعلنون، وأكثر حزنًا حتى مما يظنون. يقول فليك بشكل ساخر: "لم أكن سعيدًا أبدًا"، مشيرًا إلى أن لقبه في الطفولة كان "هابي".

أخيرًا، واحدة من الأفكار المركزية في الفيلم، تذكرنا بمسلسل "السيد روبوت" تلك الشخصية الانطوائية التي تشعل شعلة التمرد، يقول بطل الفيلم: "الحقيقة؟ هل أي من هذه الأشياء حقيقي؟ انظر حولك! إنه عالم مبني على الخيال. عواطف اصطناعية على شكل حبوب. حرب نفسية على هيئة إعلانات. مواد كيميائية تؤثر على العقل في هيئة أطعمة. ندوات غسل مخ في هيئة إعلام. فقاعات معزولة متحكم بها عن بعد على شكل شبكات تواصل اجتماعي. هل تريد أن تتكلم عن الواقع؟ نحن لم نعِشْ فيما يشبه الواقع منذ بداية القرن. لقد أطفأنا الواقع وأزلنا بطارياته"!

عندما يصبح آرثر الجوكر، يصبح أسوأ نسخة ممكنة من نفسه؛ لكنه يكسب العالم، أو على الأقل يتم قبول جزء منه، ويتحول إلى رمز للثورة. لكن وبإعادة صياغة مقولة "نيتشه"، فمن يقاتل الوحوش سيصبح بلا شك وحشًا.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

 

رواية (العوالم السبع) للأديب (عبد الجبار الحمدي) أنموذجاً

يرى جملة من نقاد الحداثة والكُتّاب أنّ السرد سيما (الرواية) ديوان العرب، وسجل يوثق حاضرها وماضيها بشكل فني؛ فالروية تمتلك طاقة لافتة في رسم أدق التفاصيل، سواء أكان بشكل صريح (واضح) أم غير صريح (ضمني رامز).

من هنا ذهب بعض المختصين إلى أنّ الروائي بما يمتلك من أدوات سردية يمثّل (المؤرخ الحقيقي) للحياة؛ فمنظومة السرد الروائي لها المقدرة واليد الطولة في رسم صور (التحدي، والثورة، والسياسة، والفكر، الآيديولوجيا، والتهميش، والاغتراب..الخ).

ومن الجدير بالذكر، مع تنوع توجهات الحياة وتعدد متبنياتها وتشعب سلوكيات أبنائها؛ ظهر في مجال الأدب ما يواكب هذا التنوع والتعدد، تبعاً لمنظور صاحب النص، وما يحمل من متبنى لنظريات الأدب؛ فمنهم من جسّد نظرية (الفن من أجل الحياة).

الفئة الثانية من الكتّاب كانوا الأقرب إلى ساحة (الوعي المستنير)؛ لأنّهم عدّوا أنفسهم جزءاً من المشكلة المعيشة، وفي الوقت ذاته حملوا راية التصدي والتحدي لمنغصات المجتمع بشتى أنواعها، ولعّل الثيمة السياسية أولها؛ وعليه أفرز لنا المشهد الأدبي السردي عن مظهر لمنجز روائي موسوم بـ(الرواية السياسية)؛ ومن منطلق ما ذهب إليه (جورج لوكاتش) بأنّ بطل النص الروائي كائن (إشكالي وهامشي)، يواجه واقعاً اجتماعياً ينقصه المعنى؛ فتتولد عملية البحث عنه، وقد تفشل هذه المحاولة – أحياناً-؛ فيرى بعض النقاد أنّ بطل الرواية السياسية، بطلاً إشكالياً، وهذا يعني الديناميكية السردية للشخصية وفق مبناها الفني الجمالي تتمحور حول مرتكز (الايديولوجيا)، وعلى ما يبدو في مثل هذا النوع من السرديات يُكشَف لنا مستويين من التمظهر، الأول: رؤيوية (فكرة)الكاتب في توجيه رسائل الاقناع للمتلقي ضمن تسيس الرواية، الثاني: جعل الشخصية شخصية اشكالية عبر مركزيتها في النص؛ بوصفها العمود الفقري لنسيج السرد وعلائقيتها مع عناصر القص بتولي الاضمار والاظهار –أحياناً- وقائمة بمهمة إرسال مبدا الاقناع للقارئ، ومن ثم تصدير فكرة النص تأسيساً على ذلك شهد المسرح الروائي العربي روايات مثّلت (الرواية السياسية) وبشكل صريح، لعّل من أشهرها رواية (بيروت.. بيروت) عام 1984 لصنع الله ابراهيم، ومن الجدير بالذكر هنالك روايات جاءت بالمنحى السياسي ضمن السرد التأريخي مثل (الزيني بركات) عام 1974 لجمال الغيطاني.

ومع ما تمتلك الرواية السياسة من مغامرة متشعبة، لكنّها تبقى المحاولة الأدبية التي تكشف طبيعة كاتبها من حيث التجربة وتفاعله مع الواقع المعيش، وما يتحلى به من هوية وانتماء وتحدي.

من هنا فكاتب هذا النوع من الروايات يشكل الأنموذج الأكمل (للوعي الجمالي المستنير)؛ لأنّه يجعل من نصه ناقداً لواقعه دون وجل، أو أداة تفتح نافذة الضوء المعرفي والادراكي بما يحيط بالمجتمع، كل هذا جسدته رواية (العوالم السبع) للأديب (عبد الجبار الحمدي)، تلك الرواية التي صدرت بطبعتها الأولى عام 2024 عن (إصدارات أحمد المالكي- العراق، بغداد، شارع المتنبي).

ومن وجهة نظري المتواضعة؛ وبوصفي ناقداً أكاديمياً في فن الرواية، أظنّ بأنّ هذه الرواية شقت عُباب الرواية الذيقارية (ذي قار بلدة الروائي)؛ فزاحمت جُلها؛ لما تمتلك من مزايا، لعلّ أولها البناء الفني ورد متكاملاً لا خلل فيه البتة، وثانيها جراءة البناء الموضوعي (فكرة النص)، الذي أدخلها في منطقة عدّها كثير من المختصين منطقة تتسم بالحساسية والعتمة، ألا وهي (حركة الحركات السرية التي تُدير أصابعها الخفية كافة النظم العالمية منظمة البنائين -الماسونية-)، وهذا لا يعني بأنّ النص هذا انحسر تقيماً بمنجز روائي محلياً (ذي قار)، بل أعتقد إدخالها كمنجزٍ عربياً باستحقاق لا مناص منه؛ لأنّها رواية وطنية (عربية) تتجاوز المحلية، وهذا ما يكشفه النسيج النصي بجدارة.

قبل الخوض في الدراسة النقدية لهذه الرواية السياسية بامتياز، لابدّ أن نعترف بأنّ تسيس النص الأدبي هو آيديولوجيا؛ والسبب في ذلك لأنّها بالنتيجة معتقدات مطروحة وأفكار يُحاول صاحب النص تصديرها للآخرين.

ما ذُكر سيتجلى بشكل أوضح عندما نقف على ما طرحه الحمدي في روايته محل الدراسة (العوالم السبع).

فكرة الرواية تسليط الضوء على جانب مظلم ينسج تحت الكواليس لمؤامرة كونية بدأ أصحابها أصحاب المجلس السداسي (الماسوني) بالإفصاح عنها في السنوات الأخيرة، فتناولتها العديد من المؤلفات، وأنا قرأت كثير منها، ولعلّ قسم منها في ذاكرتي (أحجار على رقعة الشطرنج، وإسرائيل بين اليهودية والصهيونية، وحكومة العالم الخفية، والصهيونية وخيوط العنكبوت، والضباب الأحمر فوق أمريكا..الخ)، اللافت في الموضوع فهم الحمدي لمستوى تعقيد هذا المنحى السياسي ودقته (المؤامرة الكونية الماسونية)، وصعوبة الاحاطة بها عند كثير من الناس، وعدم استيعاب خيوطها حتّمت على صاحب الرواية أن يدخل هذه الثيمة (الموضوع) في نص جمالي فني؛ يُسهّل الفهم لما يحصل بشكل يجذب ويجعل المتلقي في انشداد لقراءة ما يُريد ايصاله.

من هنا جاءت فكرة النص متكأ ومنذ استهلال الرواية على البنية المكانية (ملجأ اللقطاء)، ذلك المكان الذي حمل بعداً سويوكلوجيا في المجتمع (النظرة السلبية)؛ بوصف النزلاء من الأشخاص الذين تُجهل ولادتهم، وأنّهم أولاد غير شرعيين، سيما من وجدوا وهم أطفال على قوارع الطريق، جعل الروائي بداية الحدث في ملجأ بين بلدتي (مليلة وسبتة التي يسيطر عليها الاسبان وهي جزء من المغرب).

ومن ثم ومنذ الصفحة الأولى للرواية طرح تلازمية (سيكولوجية الشخصية) وعقدها لاسيما (عقدة الدونية) التي لا تنفك عن الحدث وتشعبه، وهذا ما سنجده عبر التحليل؛ من هنا يقول الراوي الممسرح، وهو الشخصية الرئيسة حنظل العسل: (لا أدري كيف؟ ولِمَ !!أو لماذا جئنا إلى الحياة بملفات رغبة مضاجعة محرمة، اقتاد الشيطان امرأة على فراشه ثم استهلك رغبة مرات ومرات.. ما مررنا نحن به، ثلة من لقطاء أو ما يدعوننا به مجهولي النسب كأننا وباء، تقيء بذور شياطين حتى يزرعها في مجتمع أغلبه أبالسة..).

من الجدير بالذكر قامت فكرة الرواية على أنّ لقطاء الملجأ يتم اعدادهم ليكونوا قياديين في مفاصل مؤامرة كونية لإفساد لشرق الأوسط، خاصة الدول العربية، ومن ثم تركيز المجلس الأعلى (المحفل الماسوني) على هذه المؤسسة؛ ليكون أشخاصها فئة مستهدفة، وهم (حنظل العسل، ومحفوظ، ومظلوم..الخ)، لكن انتخاب الشخصية الأساس التي عولت عليها التنظيمات هي (حنظل العسل)، ذلك الشخص الأسمر، وترى الدراسة هنالك عقدتين ذاتا بُعد (سويوكلوجي) هي من تحكمت بسلوكيات الشخصية الرئيسة (حنظل)، وجعلت منه أداة ناقمة على المجتمع والقانون والدين برمته:

العقدة الأولى: إنّه ابن غير شرعي ولد من مضاجعة محرمة، وأمسى من الفئات التي ينبذها المجتمع، وهذه العقدة لازمت الشخصية إلى نهاية الرواية، جعلت منه شخصية انتقامية، ففي نص عندما ألقى كلمة التخرج بحضور اللقطاء قال: (.. قدر رمى بي على أعتاب ىملجأ لا أدري لِمَ؟!! لكني أعلم جيداً من أكون، فأنا لست ذلك المخلوق الذي جاء من العتمة إلى النور المزيف.. فأنا لست الجاني ولست المذنب ولست الضحية، لكني بالتأكيد سأكون الجلاد.. إنّه زمن المخالب والأنياب بين قوسي الافتراس.. الافتراس يعني أن تكسر الأضلع العصية.. فكاليغولا كان لقيطاً، لكنّه عاش كما يريد إمبراطورا حتى وإن عُدت أيام حكمه على الأصابع، فكل واحد منا عليه أن يكون كالغيولا لكن بمعايير الموقف ومقاييس الحاجة)، ففي النص يصف حنظل عالمه المعيش على أنّه عالم (مزيف) وأنّ الكون لا يستحق الايجابية؛ من هنا تعهد لنفسه أن يكون (جلادا) وهذا ما يُعرف في السرد الروائي من حيث فضاء الزمان (بالاستشراف)، وضمن هذا الطرح يرسم صاحب النص صورة لشخصية (حنظل العسل) متكأ بذلك على البنية الواصفة التي تكشف لنا أدق متبنياته السلبية التي تصل حد الانحطاط، قاصداً بذلك المناسبة مع ما سيكشف عنه السرد بتوليه منصب عالٍ في المؤامرة التي يقودها المجلس الأعلى، يقول السارد: (يخفي حنظل كثيراً عندما يتحدث من أي منبر يتخذه موقع حديث ليقود مسألة ما يصور نفسه مثل رب دنيوي تؤول إليه كل الأمور فيطيح بالقيم التي لا يجعلها ترقب خطواته، يُسقط المعايير التي لا تعمل على المُعَرج من الخطوط.. فهو لا يؤمن بالطرق المستقيمة.. فالحياة كما يصورها لنا من وجهة نظره عاهرة، ومن يتكفل بها قوادها الذي يجعلها حبلى بالكثير من اللقطاء أمثالنا وحتى غير اللقطاء.. فعالمنا سادي، سحاقي، مثلي..).

الصراع النفسي عند شخصية (حنظل) وتربعها على عرش الحقد ومحاولة النيل من الجميع كان محوراً لافتاً في الرواية، فثيمة الانتقام من المجتمع نازع سويوكلوجي يتماهى مع بناء هذه الشخصية كلما تتطور الحدث؛ ولكون هذه الجزئية فاعلة السرد؛ نجد هذا الوصف يرد في الرواية، تارة بحوار الشخصية المباشر، وتارة على لسان الراوي غير المشارك، ففي مشهد يقول السارد غير الممسرح (لم يعهد حنظل نفسه مسالماً ويريد الخير لأحد؛ فقد كرس كل عصاراته الهضمية لتقيء كل من يريد أن يعيش في سلام، سمح للرغبة في الانتقام من مجتمع سمح لنفسه أن يعامله كخرقة مسح لفرج ملوث بدم نتن بعد مضاجعة زنا، بعدها يلف ويطوى بنفس الخرقة ثم يلقى على بباب الملجأ).

هذه العقد لازمت حنظل، وجعلت منه شخصاً يفقد معايير الجنبة الانسانية، وهذا نجده عبر تتبع المسار السردي.

العقدة الثانية: عقدة اللون الأسمر التي لازمت السرد، وقد وردت هذه العقد ضمن ما يُعرف (السرد السويوكلوجي)؛ إذ يرى النقاد بأنّ هذا النوع من السرد – غالباً- ما يكون سرداً غير معقد، ينماز بشكل واضح بالمرونة، وكثيراً ما يكشف عن عواطف الشخصية وارهاصاتها من مخاوف او دونية أو نقص، ولا يُشترط تمظهر العقد ضمن أسلوب حواري واحد (محكي نفسي، مونولوج، حوار غير مباشر، أو الحوار المباشر..الخ)، ففي هذا النص وردت تمثلات (عقدة اللون الأسود عبر (الحوار المباشر)، إذ يقول حنظل العسل، في حوار مع (فتنة) التي يكشف اسمهما فيما بعد بأنّها جزء من المؤامرة، وانّ اسمها الحقيقي (مارغريت)، وأنّ والدها الذي التقى حنظل ليس (فكرت)، بل (صموئيل)، وفي حوار داخل القصر يقول: (على مهلك يا فتنة قد أكون أسمر البشرة، لكنّي لست أسود النفس إلى هذه الدرجة، حتى وإن كنت فلا أسمح لك بمناداتي بذلك، إنّ اسمي وهو حنظل العسل، أمّا الأسود لقبت به لدكنة بشرتي، لعلي اكتسبتها من أحد الذين مارسوا الرذيلة مع العاهرة التي انجبتني أو هو لونها الذي اكتسبته عنها)الرواية: 49.، وفي نص آخر (.. سأواجه صعوبات جمة بسبب لون بشرتي بالإضافة إلى كوني لست ابن شرعي..).

ولم يقف السرد عند هذه الجزئية، بل حاول الغوص في سويوكلوجية الشخصية الرئيسة عبر تقنية الحوار، بما ينسجم مع فكرة مبدأ المؤامرة الكونية، من هنا ورد تشكل شخصية حنظل العسل نفسياً، ضمن تنوع من صاحب الحوار ممن يرتبطون بحنظل ولما تمتلك، وهذا ما نجده في مشاهد الحوارية مع الشخصية الثانوية(مظلوم)، فبعد عرضه للزواج من رؤى ابنت صاحبة المزارع، يقول له:

- لاتكن ساذجاً فأنت لا تستطيع مجاراتي، فأنا شخص شذّ عن القاعدة في تفكيري ورؤياي للأمور صدقني، وهذه المرة الأولى التي أسمح لك بها لتطلع على سري.. فالقانون غير الطبيعي يجرني نحو الالحاد والكفر؛ فأنا لا أؤمن بوجود أي شيء يمكن أن يغير من تأريخي أو يعيدني الى سيرتي الأولى قبل أن أخلق.. فأنا أريد أن أثأر من المجتمع، الناس، الدين، القانون، العدالة العبودية، الربوبية البشرية..).

وهنا تتضح النزعة المضطربة لحنظل، فعقدة الشعور بالنقص تخترق ذاته، كان يتمنى أن يرجع إلى ما قبل ولاته عسى أن يكون ابنا شرعياً؛ فبوصفه ابن حرام مجهول النسب زرعة في ذاته براكين الحقد على الدين، والقانون، والمجتمع..الخ.

هذا النوع من الشخصيات والتي صورها لنا الروائي تسير بخط متواز مع ثيمة مبدأ المؤامرة؛ لأنّها تتكأ على شخصيات ذات عقد يمكنها أن تحقق الأهداف، هذه المؤامرة يكشف عنها السرد بين الحين وآخر، ففي حاور (مظلوم) مع (رؤى) احدى صنائع (الماسونية) المتمثل بالمجلس الأعلى، يقول لها:

-.. بعدما كشف عن أسرار والدك ومدى تأثيره على أصحاب الملجأ وأعضاء مجلسهم السري تحت عنوان ملجأ..فكانت خطة رؤساء المجلس بخصوصنا دقيقة).

وفقي نص آخر ضمن مستوى الحوار بين فتنة (مارغريت)، وحنظل يقول:

-.. جهاز يزع تحت الجلد أو بداخل رأسه ليسيطروا على من يشاءون، إنّهم بشكلهم الجديد، عزيزتي فتنة تحولوا إلى مبرمجين بعقول غيرهم، أداة فاعلة لأن تغير مصائر عالم بكامله..).

تسفر المؤامرة بتوظيف هذه الشخصية للتحكم بالشرق الأوسط؛ لما تملك من صفات نفسية صنعتها ايدي خفية، تسعى لتحقيق الأهداف، فميزات ما تمتلك جعلتها المستهدف الأول من بين نزلاء الملجأ، وعليه تكفلت البنية الحوارية بين هذه الشخصية ومن تحت أمرته بما ينسجم وتطلعات المجلس السداسي وقادة الحركة الماسونية، من ضمنهم (كريس)، ومن الجدير بالذكر كشف مستوى انفتاح أعضاء المجلس على شخصية حنظل لدرجة كشفت حواراتهم عن مضامين سرية يصعب الافصاح عنها، ففي حوار موجه للشخصية الرئيسة(حنظل)، يقول أحد أعضاء المنظمة:

- سيد حنظل أنا احد أعضاء المجلس السداسي الذي يدير عملية الشرق الأوسط بعد حادثة مبنى التجارة العالمي، كنا قبل ذلك نعمل على ترويج وتسويق الدعايات والمعلومات والاخبار المفبركة على دول الشرق الأوسط.. لابد للمشروع الصهيوني أن يدخل حيز التنفيذ، فمنذ قيام دولة اسرائيل على يد هرتزل واصحاب السيادة يدرسون كيفية تقسيم العالم العربي بثروته..).

ومن ثم يتطور السرد في الرواية الملازم لبناء الشخصية، وبشكل يتوافق وعمق رؤيوية (فكرة) صاحب الرواية؛ وعليه بدأ الحدث بالتطور؛ فأخذت المنظمة تكسف أسرارها للشخصية؛ لأنّها استشعرت قمة الولاء من قبل حنظل، من هنا حاول الروائي عبد الجبار الحمدي أن يطرح متبنيات هذه الحركة ذات المؤامرة المتواشجة مع فلسفلة الشخصية السلبية، والتي رسمها صاحب النص على أنّها أمست جزء لا يتجزأ من المجلس السداسي الساعي لتدمير الشرق الاوسط، وهذا الطرح ورد ضمن مفصلين:

الأول: تحويل حنظل العسل المنتقم الملحد والناقم على الدين إلى قديس، ولُقب بـ(القديس الأول)، فيتضح ذلك عدد من المشاهد: (سيدي القديس الاول لي الشرف العظيم بأن يسند لي بمثل هذه المهمة)، وفي نص (سيدي القديس الاول يمكنك ان تمنح للسيد جرجيس هذا الامر..)،

الثاني: منح حنظل صلاحيات من قبل المحفل الماسوني (البناؤون)، وامسى هو من يخطط ويصدر القرارات التي من شأنها أن تدمر البلدان العربية تاريخها، عقدة الدونية كانت الحافز الأول الذي ينجم عنه اصدار أوامر الافساد، ففي نص مع مرافقه (كريس) يقول: (سيد كريس عليك منذ الان ان تنظم حملة واسعة كبيرة لدعم ظاهرة المثلية في العالم، خلال تظاهرات أو ندوات مستخدما الوسائل الاعلامية.. هنالك ميزانية مفتوحة بعدما تتصل بالسيد المثلي جورج فلايرون الداعم لهذه الظاهرة في تسخير شركة نتيفلكس ووالت ديزني.. في الترويج للظاهرة من خلال الافلام الكارتونية للأطفال والافلام..).

تأسيساً على ما ذُكر تتضح المهارة السردية عند الروائي الكبير (عبد الجبار الحمدي) في المقدرة الابداعية بوساطة التوليف ما بين فكرة النص القائم على تناول أهم قضية معاصرة وتداعياتها العالمية (المخطط الصهيوني للمحفل الماسوني)، وما بين الوظيفة المناطة بالشخصية الرئيسة، فأطرها بمبنى سويوكلوجي (نفسي)، لتكتمل الصورة المراد ايصالها للمتلقي؛ ومن هنا يحق لنا القوم أنّ هذه الرواية، مثلت بكل جدارة الوعي الأدبي المستنير، الذي يخرج النص من بودقة الجمال والفنية إلى المعرفية واستقراء الواقع المعيش بما يحيط به مخططات، رواية أنا شخصياً أعدّها من عيون الروايات العربية بجدارة؛ لأنّها نُسجت سردياً باحتراف منقطع النظير، وهذا بلا شك يُحيلنا إلى رؤية مفادها أن الروائي عبد الجبار الحمدي قلم سرديّ يستحق أن نطلق عليه بكل ثقة (روائياً من الطراز العالمي) دون أي مبالغة، فالحكم النقدي يُحتم عليّ القول بذلك بضرس قاطع.

***

بقلم: الناقد الأكاديمي د. محمد كتوب المياحي – العراق /ذي قار

 

رواية "الشيخ والبحر" منجز أدبي وثقافي رصين ومتكامل شكلا ومضموناً بأخذهِ بعداً عالمياً بثرائها الفكري والمعرفي الفلسفي ببنية معمارية هندسية، تقوم الرواية على محاور عدة عن الحياة والموت، والقوة والضعف، والذكاء والغباء، والتكييف والأندثاروالأرادة والخواء، والتأمل والأحباط، فهي تراجيدية تأملية فكاهية، وتبدوللناقد اللبيب في قراءة التناص السردي بأنها تراجيدية سوداء حزينة، والأرقى في ثيمات الرواية أن المؤلف الأسطورة همنغواي أوجد (التحديث) في الأ دب الأمريكي من البطل الكلاسيكي الواحد إلى ثمة حوارات متساوية من حيث العمق والشمولية خاصة مثل الموت والحياة والخيبة والفوز، لذا أكدت صحيفة " داجنزنيتر"  السويدية أن رواية " الشيخ والبحر " كانت وراء حصول همنغواي على جائزة نوبل عام 1954 .

كما أن روايتهُ الشيخ والبحر فازت قبل ذلك في عام 1953 بجائزة (بوليتزر) الأدبية العالمية، إضافة لتأييد معظم نقاد القرنين العشرين والواحد والعشرين والأعتراف بأنهُ واحد من أعظم الكتاب الذين أنجبتهم البشرية، وصاحب سبعة آلاف رسالة في مدى حياتهِ منذ 1907 حتى 1961 موته أنتحاراً، والتي وثقت تلك الرسائل بعد وفاته بكتاب تأليف ساندرا سباينر وروبرت تورجدون بعنوان " رسائل همنغواي " .

وإن همنغواي هو كاتب وصحفي أمريكي، يعتبر من أبرز الكتاب الأمريكيين في القرن العشرين أمتاز بأسلوبه البسيط المباشر الذي أثر بشكل كبير على الأدب العالمي، في مجمل كتاباته جسد معنى البسالة في الكلمة والحياة مؤكدا على (ثيمة) تمجيد قوة الأنسان وقدراته الخارقة، والتي هي القوة المطلقة للأنسان ومثابرته المتواصلة في مواجهة التحديات جعلت الرواية ترقى إلى قمة فنية من حيث العمق والرمزية والبساطة في العرض بشكل تأمل فلسفي في الصراع بين الأنسان والطبيعة،  وهوولادة 1899 – وتوفي منتحرا في 2 يوليو1961 .

حياة همنغواي كانت مليئة بالتجارب الشخصية والتي أثرت في كتاباتهِ بمشاركته في الحربين الكونيين الأولى والثانية كمراسل حربي وصحفي وصياداً بحرياً ومتسابقاً في مصارعة الثيران تلك أغنت الكاتب قوة وأصالة في السرد القصصي بواقعية حقيقية شخصية ملموسة .

أن تأثيرهُ العالمي لم يكن محصوراً في الأدب الأمريكي بل كان لهُ تأثيرعالمي واسع حيث تُرجمتْ أعمالهُ لأكثر من ثلاثين لغة ظهرت تاثيرها في سفر التراث الثقافي والعلمي العالمي .

ملخص الرواية

تعتبر الرواية من أشهر أعماله الأدبية وأكثرها أنتشارا وتأثيرا، كتبها عام 1952، والشيخ والبحررشحتْ همنغواي للحصول على جائزة نوبل، تحكي قصة صياد كوبي عجوز يدعى " سانتياغو " الذي يخوض معركة ملحمية مع سمكة  (مارتن) ضخمة يحاول أصطيادها بعد معاناة قهرية سوداوية وبعد فترة طويلة من الفشل والخيبة وصراع طويل ومرهق يتمكن العجوز من أصطياد السمكة بيد إنهُ يفقدها أثناء عودتهِ إلى الشاطيء عندما تعرض لهجوم من قبل أسماك القرش اللعينة التي قضمت معضمها .

مغزى الرواية

-الكفاح والصمود: الرواية تسلط الضوء على الصراع المستمر بين الأنسان والطبيعة وكيف يمكن للشخص من الأستمرار بالمحاولة رغم الفشل المتكرر، والرواية تجسد أن العظمة ليست بالأنتصار بل في الكفاح المستمر والدؤوب المكلل بالبسالة في مواجهة المصاعب .

- العزلة والوحدة: (سنتياغو) يعيش حياتاً لا يحكمها مفهوم الحق والباطل ولا مفهوم الأخلاق والمباديء والمثل العليا هي بالواقع تحت سيطرة القوة والضعف والذكاء والغباء والتكييف والأندثار وحيدا يواجه البحر (كعدو وصديق) في آنٍ واحد حيث هيجان البحرالمفاجأ المرعب حيث الظلمة والضياع في فوبيا عالم البحار عبر ملايين السنين من كائنات تفترس بعضها البعض .

وللأسف الشديد يا همنغواي عبرأكثر من ستين سنة عن غيابك تطورنا إلى عالم ليس فقط نفترس بعضنا البعض بل تحولنا إلى كائنات تفترس بعضها البعض ماديا ومعنويا ونفسيا وأخلاقياً وحقوقيا أيضا، أما جانب الخير فالبحر مصدر خير للبشرية لأحتوائهِ كنوزا ثمينة للعيش، البحر يعكس الحياة بكل صراعاتها ومفاجئاتها، وتظهر الرواية رغم عزلة ووحدانية (سانتياغو) وخسرانه السمكة الثرية الضخمة (مارتن)  سوف يعاود فجر اليوم التالي الأستمرارية  لحرفة الصيدالبحري المحفوفة بالمفاجئات .

- المثابرة والكرامة: أن همنغواي يبرز فكرة: أن الكرامة والمثابرة لا تتعلق بالنتيجة النهائية بل بالجهد المبذول المكلل بالشجاعة في مواجهة التحديات، وبأيجاز الرواية تمثل صورة (رمزية) للصراع البشري الأزلي مع الطبيعة والحياة والموت والأنتصار والخيبة . 

أسلوب " همنغواي " في السرد النصي للكتابة!؟

الروائي الأمريكي " آرنست همنغواي " حصل على جائزة نوبل عام 1954 بأستحقاق ما أنجزهُ، حيث وصفت اللجنة الرواية بأنها: عمل وأنجاز فني للسرد المتميز لهمنغواي، وأستندت لجنة الجائزة إلى عدة عوامل أستحقاقية لهذه الجائزة

- أسلوبه في الكتابة البساطة دون اللجوء للزخرفة بل نحو أستحضار العالم من منظور خاص وربما همنغواي عاصر زمنين نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين (1899-1961) في معايشته عصرين الكلاسيكي والحديث وخاصة في روايته الملحمية الشيخ والبحر زاوج بين الزمنين بشفافية عالية وبساطة مفعمة بالتفاصيل، وركزت على التصور الدقيق للعواطف والمواقف البشرية وهذا الأسلوب بات يعرف في عالم الأدب العالمي بـ(ا لنمط الهمنغوائي) أثر بشكل كبير على الكتابة الأدبية للقرن العشرين .

- ويمكن أعتباررواية الشيخ والبحر رواية دائرية - كما وصفها نقاد عصره وزمانه – والتي وُصفتْ بالرواية (البيكارية) نسبة للروائي الأسباني بيكارو الذي يعتمد سردهُ للكتابة بالتشرد والضياع والبؤس والخوف ومزيد من القلق والمستقبل المجهول وهو ما عاناهُ البطل في رواية الشيخ والبحر بذلك الصراع الرهيب بين الحفاظ على الصيد الثمين للسمكة الضخمة الكبيرة والثمينة (مارتن)ومقاومة العدو المزدوج (البحروالقرش) وهو سرد أدبي نصي يتغيرفيه الحدث بتغير الزمكنة .

- في أجواء الرواية الأسطورية المعتمدة على التوليف الجميل والرائع بين الواقع ومسحة من الفنتازية السحرية وبحبكة درامية أوصلنا همنغواي بالشعور بأنها ترقى لرواية تراجيدية ذات نهايات حزينة ومقلقة حيث تمكن هذا العجوز المعجزة من التأثير المباشر في تحريك خيوط اللعبة دراماتيكيا في ملامسة أحاسيس ومشاعر الذات البشرية وهو يروي وقائع حقيقية سوداوية وتحويلها بقلمه الساحر لمقاومة وأصرار وتحدي للأعداء البحر وأسماك القرش وعامل الزمن .

-إن فن كتابةُ الرواية فن من فنون الكتابة تضاف لها الموهبة ولم تتوقف على هذه الأسس لدى الروائي همنغواي بحيث أضاف لها التجديد في نقلة نوعية للأدب الأمريكي في خوض الحداثة للأدب الأمريكي ببراعة فائقة بناءً ومادة وتكنلوجية مع مقاربات في التطور السوسيولوجي الجمعي للوصول إلى إعادة بناء الأنسان الحداثوي بصيغة أممية وليست خاصة بجغرافية أمريكا فقط لكون لرافعته السردية للأدب هي (الأنسنة) .

-  مُنح همنغواي الجائزة بأستحقاقاته العلمية والمعرفية المنطقية الموضوعية بمهنية أحترافية واقعية خاضها بنفسه حيث  كان هو بطل الرواية أولا وأخيرا، وكان همنغواي مهوسا بحبه للمغامرة والسفر والمشاركة في عدد من الحروب كصحفي أو مراسل حرب والمشاركة في بعض الصراعات مما أثر بشكل مباشر على أعماله الأدبية .

- حصل همنغواي على كاريزمية واسعة من نقاد الأ دب الأمريكي والأجيال اللاحقة بعدهُ لغزارة ثقافاته الفكرية المعرفية في نتاجاته (وداعا للسلاح) رواية تحكي عن تجربة ضابط أسعاف أمريكي خلال الحرب العالمية الأولى وقصة الحب بينه وبين ممرضة بريطانية تعتبر من أشهر روايات همنغواي عن الحرب والحب، و(لمن تدق الأجراس)؟ تدور أحداثها في زمن الحرب الأهلية الأسبانية  حيث تتناول موضوعات التضحية والحياة والموت، ومنجز كتاب (الشمس تشرق أيضا) تناول حياة مجموعة من المغتربين الأمريكيين والبريطانيين في أوربا بعد الحرب الأولى وتعتبر نموذجا للأدب الذي يعبر عن الجيل الضائع .

- أسلوب همنغواي في السرد النصي الأدبي يجمع بين الحدث التأريخي والواقعية السحرية، ويبدو لنا عالم همنغواي متحف موسوعي يجمع أتجاهات النقد الأدبي بتأريخيتهِ وبنيويته الرصينة بغياب الفنتازيا في الشكل والمضمون تبدو واضحة في روايته " الشيخ والبحر " حيث تناقض الأضداد في القوة والضعف والأغتراب والتفاؤل وأحلام الديستوبيا واليوتوبيا .

- وأكد في روايته المشهورة الشيخ والبحر ثيمة الصراع الطبقي بين العجوز وعدوه الصديق (البحر) والرواية تبشربيوم جديد يستطيع فيه الأنسان أن يروض تحديات المستقبل ملوحا بالسلام العالمي لكوكبنا الجميل وللبشرية جمعاء وللآنسان بالذات لكونه أثمن رأسمال .

***

عبد الجبار نوري أبورفاه

كاتب وناقد أدب عراقي مغترب

في أكتوبر 2024

 

هدية: وضعَ الصديقُ العزيز الشاعرُ الكبيرُ (عدنان الصائغ) بينَ يديَّ (الطيبتين) – كما نعتهما- ؛ لذوقِهِ الرفيعِ- هديّتَهُ القيِّمةَ، وهي إصدارُهُ الشعريُّ الأخيرُ (ومضاتــُ... كِ) الصادر عن دارِ لندنَ للطباعة والنشر، بالاشتراكِ مع دارِ سطور عام 2024.

فلَهُ الشكرَ منْ قبلُ ومنْ بعدُ، وفائقَ التقدير؛ على هذه الهدية الثمينة، الأغلى والأغنى والأدسم.

***

يتألّفُ ديوان (ومضاتُـ... كِ) للشاعر عدنان الصائغ مِنْ ومضاتٍ شعريةٍ، وكتبٍ، ومقامات، وأبوابٍ، وغيرها، مكتوبةٍ في فتراتٍ، وأماكنَ جغرافيةٍ، ومدنٍ وبلدان مختلفةٍ، وسنواتٍ متباعدةٍ، وبعضُها مِنْ دواوينه السابقة. يجمعُ غالبيتَها الشكلُ (ومضات)، والعناوينُ التي تتكوّنُ مِنْ حروفٍ معتدلةٍ ومقلوبةٍ أحياناً تحتها، وهي الحروفُ التي تبدأ بها الكلمةُ الأولى أو لفظةٌ داخلَ النصّ. كما تتنقّلُ بين مضامينَ متنوعةٍ، منها غزلياتٌ تحملُ في أروقتها معانيَ أبعد من الذاتيات:

ل

لا يريدُ أنْ يُفارقَهما النايُ:

شفتيكِ المضمومتين عليه

أَلهذا يظلُّ يَتَأَوَّدُ

بينهما

ويَئِنُّ

*

ك

كما لو أنَّ تغنُّجاتِ نايِها

وعدٌ

متقطِّعٌ

بقبلةٍ

*

إ

إنْ تضعي

شفتيكِ على شفتيَّ

ستسمعي

ترقرقَ الخمرةِ في جداااااولِ قصائدي ورووووحي

يقووووولُ النايُ

وهناك ومضاتٌ ذاتُ أبعادٍ ودلالاتٍ وإشاراتٍ بعيدةٍ عنْ ظواهر ألفاظها، وما تعبِّرُ عنه وتصوِّرُه في تراكيبها، ومباني تلك الألفاظِ اللغوية. لكنْ إنْ عرفنا مكانَ ولادتها (كتابتها) يمكنْ لنا بتأمُّلٍ واستنطاقٍ للنصّ أنْ نصلَ الى المُبتغَى بالتأويل، والدلالةِ المختفية في ثنايا ردائها:

غ

هبطَ الغبارُ على الغبارِ

فلا غبارَ

على الغبارِ

هنا نستطيع أنْ نُخمِّنَ بما وراءَ رَمْي الشَّاعرِ بسهمِ ومضتِهِ مِنْ نَبْلِ ذِكْرِه لـ(الغبار) وتكراره، إنَّه في معرض الكتاب الدولي- القاهرة ؟! فلْنتخيَّلْ هدفَهُ، ولْندخلْ في مكامنِ التأويل، وعالم الشاعر الفسيح! الغبارُ على الكتبِ إشارةٌ، وترميزٌ عنْ أنّها عالقةٌ في رفوفِها، لم تمسْها يدٌ، ولم يفتحْها أحدٌ مُقلِّباً قارئاً، بمعنى آخر عزوفُ الناس عنِ المطالعةِ والقراءة، وأكثرُ منْ ذلك بيانُ ما آلَ إليه الناسُ في هذا الزمنِ منَ الابتعاد عن العِلْمِ والمعرفةِ وتثقيف الذات، إنّه نقدٌ، وتقديمٌ في إطارٍ فنيٍّ شعريّ لجانبٍ سلبيٍّ في عصرنا؛ لإحداثِ الأثر المطلوب.

كما قسّم الصائغ فصولَ الديوان أيضاً على كتب:

كتاب أُريدكِ

كتاب الجمال

كتاب اللغة

....وهكذا....

كتاب المدن والأسفار

وعدَّدَه على شكل مقامات:

(1)   مقام تأبَّط منفى أمام قبر ابن بطوطة

(2)   مقام Ponte Dei sospiri

The Bridge of Sighs

على جسر التنهدات؛....

صورةٌ للسجين؛ يقلّبُ في الموجِ صَفْحَاتِ  مَنْ سبقوهُ إلى

المِقْصَلَةْ

(3)   مقام مدريد....

(4)   مقام حانة مالمو

وهكذا في مقامات عديدة متواليةٍ...

ثم تأتي توالياتُ الكُتُبِ:

كتاب ثقافة التفاهة

كتاب الطُرُق

كتاب البحر...

وهكدا دواليك من الكتب والمقامات. وتحت بعضها فصولٌ، وومضاتٌ بعناوينَ مِنْ حروف، كما ذكرنا.

وبالعودة الى عنوان الديوان ورَسْمِ كتابتهِ (ومضاتُـ... كِ):

إنَّ عنوانَ أيِّ ديوانٍ، أو قصيدةٍ، أو نصٍّ أدبيٍّ- هو عَتَبَةُ الدخول إلى مَتْنِهِ، ويكونُ نصّاً موازياً للنصٍّ الأساس في البناء –كما يقولون-. وهو تهيئة المتلقي إدراكيّاً ووعياً لِما يحتويه المتنُ قبل وُلوجِه الى داخل أروقته. والعنوان، سواءً أكانَ لفظاً أم تركيباً، أم جملةً، أم علاماتٍ- هو إشارةُ إجلاءٍ (ترميز)، وخطوةٌ مرسومة منَ المؤلفِ، ودلالةُ معنىً، لِما يحتويه مضمونُ النصّ، أو  مضامينُ النصوصِ في المتن.

اسمُ الديوانِ (ومضاتُـ... كِ):- فيه تفكيكٌ لكلمة (ومضاتُكِ)، وهو تفكيكٌ مقصودٌ منَ الشّاعر؛ إنَّه بفكّهِ ارتباطَ (كاف) الخِطَابِ (كِ) الموجّه لأنثى عن (ومضاتُ)، والتفريق بينهما بثلاث نقاط، وهو ترميز وعلامة على كلام محذوف من النصّ. بمعنى أنَّ هناك كلماتٍ سابقةً على كاف الخطاب الموجَّهِ لأنثى؛ بدلالة الكسرةِ تحت الكاف (كِ). وبالتأكيد هذه المُخاطَبَةُ منَ الشاعر هي الحبيبةُ/المعشوقةُ – إنْ كانتْ شخصاً أو طيفاً روحياً صوفيَّ التجلّي والوَجْدِ.  ومِنْ خلال هذه العلاماتِ في الكلمةِ وترميزها السيميائي، ومتنِ الديوان، وما يتناوله الشاعرُ من معانٍ وأغراضٍ وأحداثٍ، يُمكِّننا مِنْ اكتشافِ الكلام المحذوف بين (ومضاتُـ) والكاف: إنَّها الأغراضُ الواردة في النصوص داخل الديوان: التاريخية، السياسية، الدينية، الأحداث الكبرى التي مرَّ بها الوطن، وما مرَّ به الشاعرُ وشاهدَهُ في رحلاتهِ الكثيرة حول العالم، وربطها ذاتياً وجَمْعياً، وفكراً، وفلسفةً، وتاريخاً، وأحداثاً عظيمةَ التأثير والنتائج (القنبلة الذرية على هيروشيما والتي سنأتي على ذكرها نموذجاً لاحقاً)، إضافةً وفي البدء جمالياً. أمّا العِشقِياتُ فقد جعلها في الأخير من خلال رمز كاف الخطاب، مع الإشارة العلاماتيةِ بإبرازه للكاف في العنوان، الى جانب بورتريه الغلاف: صورة فتاةٍ تحمل وردةً حمراءَ في يدها (رمز الحبّ). وهو من رسم الفنانة الإسبانية اميليا دياث باندا. وصورة الغلاف لأيِّ ديوان هي علامةٌ أخرى، وترميز مهم في دلالةِ العنوان، وما يحمله المتنُ مِنْ مضامين.

لكنْ يبقى التساؤل: لماذا ركَّز بالذات على الأنثى (كِ)، فما تقدّم من لفظٍ (ومضاتُ)، إشارةٌ الى أنّ الديوان يحتوى ومضاتٍ شعريّةٍ. بالنظر المُستَكشِفِ الاستقرائيِّ لكلمة (ومضات)، نستطيعُ أنْ نستنبطَ فيها التوريةَ بين معنين: الظاهر والمستتر. ومضة معناها لمعانٌ وبريقٌ خاطف، والمعنى الآخر المُستَخدَمُ شعرياً هو لقطة شعرية خاطفة قصيرة جداً؛ لإثارةِ إحساس القارئ وتذوقهِ وخطفِ اهتمامه، وترك تأثير النصّ في نفسهِ ، مثل بريقٍ يخطفُ الأبصار. وهنا استخدم الشاعر (الصائغ) الماهر التوريةَ بمعنييها: الشعري، واللمعان والبريق البصري، ولذا عمد الى إضافةِ كاف الخطاب بعدَ إبعاده عن (ومضاتـ...)، بمكرٍ فنيٍّ شعريّ، ليقول للقارئ ما يحتويه الديوان من ومضات شعريّة، ثمّ أدخلَ بالإضافةِ كاف المُخاطَبَة، فالديوان مهدىً (لها)، وفي عين الوقت فيه ومضاتٌ تتغزَّلُ بها. والدليلُ هو بورتريه الغلاف: فتاة يلمعُ – بياضاً - ويبرق جسدُها جمالاً وفتنةً وسحراً، وبيدِها وردةُ الحبِّ. إنّها لعبةُ الشاعر الفنيّة؛ لإثارةِ فضول المُتلقّي وإغرائه، ليُبحِرَ بزورقِ ذائقتِهِ في متنِ الديوان، وإنْ كانَ اسمُ (عدنان الصائغ) وحدَهُ  كافياً!

وفي مَتنِ الديوان؛ وأصرُّ على تسميتِه بديوان (تاريخ) الحروف والومضات، والأمكنة، والأزمنة، والشخصيات المذكورة في ثنايا النصوص، والموضوعات (الأغراض الشعرية). إنّه تاريخٌ ذاتيٌّ، جمعيٌّ، تسجيليٌّ، فكريٌّ، روحيٌّ، لغويٌّ، صوفيٌّ، شعريُّ المَبنى والمَعنى والصُوَر، شكلاً ومضموناً؛ ألم يقولوا قديماً بأنَّ الشعرَ ديوانُ العرب! فهذا الديوانُ هو ديوانُ (عدنان الصائغ) بقضِّهِ وقضيضِهِ. يحتاجُ الى دراسات أكاديمية ونقدية متخصصة منهجيةٍ، في كلِّ بابٍ مِنْ أبوابهِ، وفيه من السيميائيات الكثير، يمكن للباحثين استكشافها واستخراجها والإشارة إليها، وهو ما نتوقع حصوله طبعاً وبكلِّ تأكيد. وهذا ما يرمي اليه الناشرُ منْ خلال العمل على أنْ يكونَ في متناول أيدي الباحثين والمتخصّصين في أنحاء العالم كافةً، وعلى الخصوص مراكز الأبحاث العلمية والتوثيقية في بريطانيا. ويكونُ محفوظاً في المكتبات الكبرى والجامعات في بريطانيا، كما ذُكرَ في نهاية الديوان.

إنَّ المضامينَ والأغراض التي دارَ حولها الديوانُ متعددةٌ: بين الغزليات عديدة الدلالات، والروحانيات الشرقية، والنَقْديات السياسية والدينية، والمرور بالأحداث الكبيرة التي مرَّت بالوطن والأمة والعالم. ومما يُمكن الإشارةُ اليهِ نموذجاً ومثالاً مِنْ موقفٍ نقديٍّ فيه حكمةُ الناظرِ المُبصِرِ هي الومضاتُ التالياتُ:

كتاب الحياة

ح

خَبرتنا

الحياةُ وخَبرناها

مثلَ لا عبَين بَرِمَين ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يُعيدانِ اللعبةَ نفسَها

في مقهى بلا زبائن ولا أقداح ولا نرود

*

كتاب السياسة

ج

الجماهيرُ العمياءُ

قوةٌ هادرةٌ

يحرِّكُها نصٌّ

لكنْ قد يُسحقُ هذا النصُّ حينَ تمرُّ به الجماهيرُ

*

كتاب الربّ

خ

خرجَ

الإنسانْ

من عصرِ الحَجَرِ الَصوَّانْ

ليدخلَ – جَبْراً أو قَدَرَاً –

بكهوفِ الأديانْ

ولمّا يخرجْ منها للآنْ!

ألِأنَّ الدينَ سباتٌ غيبيٌّ. لا عقلَ. ولا سُؤلَ ولا برهانْ!

*

كتاب التاريخ

ت

التاريخُ؛

عندما لا تقراُهُ بجِدٍّ،

يُعيدُنا إلى سبورتِهِ، بصفعاتٍ أشدّ

*

كتاب الأرض

ل

لم تكنْ مُرَّةً هذهِ الأرضُ

لكنَّ مَنْ

مرُّوا بها

مرَّروها

*

ك

كيفَ

أصدِّقُ!

ربَّاً أو حزباً أو مخلوقاً؛

يأمرُ – [أو يتغاضى أو يرضى]- بالقتلِ!

ذكرنا سابقاً بأنّ هذا الديوانَ هو تاريخُ الشاعرِ، في ترحاله وتجواله وأسفاره في خارطة الشعر الواسعة، وعلى خارطة العالم، ليُسجّلَ لنا شعرياً ما مرَّ به منْ مضاربِ الشعر الداخلية وَحْياً وتحليقاً، ومنْ ترحاله جغرافياً باحثاً مستكشفاً فكراً وفلسفةً وروحاً وحوادثَ؛ لتكوِّنَ تجارِبَ غنيّةً، ألقتْ مرساها في وادي شعرهِ نصوصاً غنيةً بالمعرفةِ والإحساسِ ومعايشةِ المتلقي معه؛ لما اختزنه واكتنزه من روحانيات وتجليات هذه التجارب والأسفار الكثيرة والكنوز الثرية. وهنا لا بدَّ لنا أن نمرَّ على نموذج منها؛ لنغتني نحن أيضاً، ومنْ "كتاب المدن والأسفار" الذي قسّمه الى مقاماتٍ:

(8) مقام اليابان

في

هيروشيما؛

آهْ ...

سقطتْ قنبلةٌ

فتكَرْكَبتِ الأرضُ

وتهدَّلَ

وجهُ اللهْ

ديوان (ومضاتـُ... كِ) للشاعر الكبير عدنان الصائغ محيطٌ؛ في أعماقِهِ الدرُّ كامنٌ، درٌّ بألوان القوس وقزح. بإمكان الغوّاصين المحترفين الماهرين أنْ يصطادوا ما يشاؤون، ويستكشفون، ويرون؛ لتقديمها على طبقٍ برّاق من كؤوسٍ عابقاتٍ بنبيذ شهيٍّ، وثمارٍ من فاكهةِ الشعرِ الدانيةِ قطوفُها، ليقدموها للظامئين الى سَكْرةِ الشعرِ والغيابِ في عالمِه الجميل الحالم.

***

عبد الستار نورعلي - السويد

الأربعاء 25 أيلول/سبتمبر 2024

 

بقلم: إد سيمون

ترجمة : د. محمد عبد الحليم غنيم

 في الصورة أعلاه: إد سايمون يتأمل ظاهرة قتل النفس (والآخرين) باسم الأدب

***

في صباح عام 1807، استقر مهاجر ألماني شاب يدعى بيرتيل، البالغ من العمر عشرين عامًا، على ضفاف نهر هدسون الرملية في منطقة سيكاوكوس في نيو جيرسي، وقام بعناية بفتح نسخة من كتاب مواطنه يوهان وولفغانج فون غوتة، أحزان الشاب ويرثر (الذي نُشر قبل أكثر من ثلاثين عامًا) إلى الصفحة 70، حيث كان هناك مقطع تحت الخط يقول: "إنهم محمَّلون—تدق الساعة الثانية عشرة—أذهب"، وضع مسدسًا على رأسه، وضغط على الزناد.

وصف الذين اكتشفوا جثة بيرتيل بأنه "كان يرتدي ملابس أنيقة"، ربما مستوحاة من شخصية بطل كتابه المفضل، حيث كان يرتدي الأحذية عصرية، والسروال الأصفر والصدرية التي كانت ترتديها الشخصية الرئيسية في كتابه المفضل. على الأقل هذا ما تم الإبلاغ عنه عن ملابس العديد من ضحايا "تأثير فيرتر"، الذين قاموا بالانتحار على غرار بطل رواية جوته. في ألمانيا وإنجلترا، وفرنسا وأمريكا، وقعت موجة من حالات الانتحار تشبه حالة بيرتيل: رجال لم يتجاوزوا مرحلة المراهقة، ألهمتهم عملية تدمير الذات التي قام بها بطل جوته الرومانسي.

دفعت رواية "أحزان الشاب فيرتر" من جوته الذي كان يبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا عند نشرها قبل 250 عامًا، إلى قمة النجومية الأدبية. ولقد اجتاحت "حمى فيرتر" أوروبا، بدءاً من نابليون بونابرت الذي كان يحمل نسخة من الرواية في حملته على مصر إلى العطر الذي كان يُسوَّق باسمها. تتناول رواية جوته المدونة بالأسماء المبطنة النهاية المؤسفة لبطلها الشاعري، الذي يرفضه النبلاء لأنه يُعتبر عاديًا للغاية، بالإضافة إلى حبه غير المكتمل لامرأة مخطوبة لرجل آخر. كتب غوتة: "الجنس البشري ليس سوى مسألة رتيبة، معظمهم يعملون الجزء الأكبر من وقتهم من أجل مجرد البقاء".

لم يكن الخوف من "آلام الشاب فيرتر" بالضرورة من أنه سيعطيك أفكارًا خاطئة حول الدين أو الدولة... بل كان الخوف من أنه قد يصيبك بالعدوى.

تُعتبر الرواية من المكونات الأساسية للرومانسية، لأن مغامرات الشاب فيرتر تجسد العديد من السمات التي نربطها بالرومانسية - مثل الكآبة، والعاطفة، واللاعقلانية، فضلاً عن الإيمان بأن الحياة يجب أن تُعاش كما لو كانت عملاً فنياً. وقد انتهت الرواية بمثل هذه النتيجة، حيث أسفرت الانتحارات الناتجة عن ذلك عن إشارة غامضة تفيد بأن الأدب، أكثر من كونه مجرد ترفيه سطحي، هو في حد ذاته خطر، وله قوة.

ولكن على الرغم من حظرها في إيطاليا والدنمرك، حيث فرضت مدينة لايبزيج الألمانية قيوداً صارمة على الزي الرسمي الذي يرتديه فيرتر، فإن تحفة جوته لم تكن المثال الأول لاتهام الأدب بالتأثير الضار. فقد انتقد سقراط الكتابة بزعم أنها تؤدي إلى تآكل ميل البشر إلى الذاكرة (رغم أن الحكيم نفسه أعدم بتهمة إفساد شباب أثينا). كما حظر تلميذه أفلاطون الشعراء في جمهوريته المثالية، حيث لن يسمحوا "للإلهامات المعسولة بالدخول، سواء في الشعر الملحمي أو الغنائي". وفي القرن الأول الميلادي، نفى الإمبراطور أوغسطس الشاعر الروماني الشهواني الحسي الإيروتيكي إلى البحر الأسود، عقاباً له على "قصيدة وخطأ"، رغم أن هذه العبارة تُعقّد التهمة.

لكن اللغة المستخدمة في التنديد برواية جوته لم تكن تتعلق بالخيانة أو الهرطقة، بل بالعدوى. ولم يكن الخوف من "آلام الشاب فيرتر" بالضرورة من أنها قد تمنحك أفكاراً خاطئة عن الدين أو الدولة (ولو أن هذا ربما كان ضمنياً)، بل كان الخوف من أنها قد تصيبك بالعدوى، وأن تأثيرها كان وبائياً بقدر ما كان فكرياً. وكان ذلك أول ذعر أخلاقي أدبي حقيقي.

ولم نعد نفتقر إلى مثل هذه العناصر منذ ذلك الحين، حتى مع أن موسيقى الديث ميتال، وموسيقى الراب، وموسيقى مورتال كومبات، حلت محل جوته المزعج كمكان للحديث اليوم. ولا تزال الحياة الطويلة التي خلفها تأثير فيرتر تنشط الطريقة التي نفكر بها في الأدب، حتى مع "القصص المصورة والرسوم المتحركة، والمسرح الشعبي، والسينما، والموسيقى الروك، وأفلام الفيديو المزعجة، وألعاب الكمبيوتر، [و] المواد الإباحية على الإنترنت"، كما ذكر ستانلي كوهين في كتابه "شياطين الشعب والذعر الأخلاقي"، والتي حلت محل فيرتر. ويكتب كوهين أن هناك "تاريخاً طويلاً من الذعر الأخلاقي بشأن التأثيرات الضارة المزعومة للتعرض لوسائل الإعلام الشعبية والأشكال الثقافية"، حتى في حين يؤكد أن "الغموض المستمر الذي يكتنف الأدلة على مثل هذه الروابط يتم تعويضه بشكل مفرط من خلال النداءات الواثقة".

تتضمن هذه الاستدعاءات الواثقة شهادة السيناتور روبرت هندريكسون أمام لجنة فرعية تحمل اسمًا مثيرًا حول الجريمة المراهقة في عام 1953، حيث افترضت أن غلافًا مثيرًا لمجلة Crime Suspense Stories، الذي يظهر رأس امرأة مقطوع، قد يشجع على النزعات القاتلة. في الثمانينيات، اتحدت المحامية النسوية كاثرين ماكنون مع منظمة 'النساء المعنيات بأمريكا' المحافظة لتأكيد أن الإباحية تعزز ثقافة الاغتصاب. كما انتقدت تيبر جور والموارد الموسيقية للآباء في عام 1985 الفنانين برنس، وجودس بريست، وAC/DC، وTwisted Sister بسبب كلماتهم الجنسية المذلة. ومع ذلك، لم تتمكن أي دراسات تجريبية حتى الآن من إثبات وجود رابط قاطع بين ما تمثله وسائل الإعلام وما قد يدفع قراءها إلى القيام به.

ومع ذلك، هناك بعض الأمثلة المروعة المستندة إلى الشهادات الشخصية. خلال أواخر القرن التاسع عشر، كانت الروايات المعروفة باسم "بيني دريدفل"، المطبوعة على ورق أصفر رخيص، تُستخدم في كثير من الأحيان كأدلة في محاكمات القتل. فقد وُجّهت أصابع الاتهام إلى روايات مثل سر قلعة كوسي ومغامرة بوبي كوكني الكبرى—وهي أعمال رخيصة، سيئة الكتابة، ومنتجة بشكل جماعي، غالبًا ما تتاجر بالجرائم الحقيقية—في قضية قتل إميلي كومبز على يد ابنيها قبل سن البلوغ في لندن عام 1895. كما اتُهمت روايات أحزان الشاب فيرتر أيضًا بالتحريض على الانتحار، مثل حالة طفل في الثانية عشرة من عمره في برايتون عام 1892 ومزارع في وارويكشير عام 1894. وقد خلص حكم هيئة المحلفين في تلك القضية الأولى إلى أن وفاة الصبي كانت نتيجة لـ "روايات رخيصة"، وهو تقييم أكثر قسوة مما ناله غوته. ورغم أن الأدب التقليدي قد تراجع أمام السينما والرسوم الهزلية وألعاب الفيديو والموسيقى المسجلة، إلا أن الكتب ما زالت تُظهر، على ما يبدو، قوة مغناطيسية وسحرية في إقناع قرائها بارتكاب ما لا يُمكن تصوره."

تقول إحدى الشخصيات في رواية الجامع للروائي الإنجليزي جون فاولز، التي صدرت في عام 1963: 'الفن قاسٍ. يمكنك أن تفلت من جريمة قتل بالكلمات.' لقد حاول العديد من قراء الجامع، وهي قصة مؤلمة حول طالبة فن تم اختطافها وتعذيبها جنسيًا على يد مطارد، أن يفروا من جريمة القتل في الواقع أيضًا. فقد وُجدت نسخ من الجامع بحوزة القتلة المحترفين روبرت بيرديلا جونيور في عام 1985 (مذنب بارتكاب ست جرائم قتل في أنحاء مدينة كانساس)،وكريستوفر وايلدر في عام 1984 (الذي ارتكب ما لا يقل عن ثمانية جرائم قتل في أستراليا)، وليونارد ليك وتشارلز إنج، اللذان وصفا رواية فاولز بأنها "فلسفتهما"، حيث أطلقا اسم المرأة المختطفة في الكتاب على عمليتهما (حيث اغتصبا وعذبا وشوها وقتلا خمسة وعشرين امرأة ورجلاً في كاليفورنيا).

إن رواية بريت إيستون إليس الشهيرة "سايكو أمريكي" التي صدرت عام 1991، والتي تدور أحداثها حول رجل الأعمال باتريك بيتمان الذي يقتل الناس بسهولة بقدر ما يتلاعب في صفقات الدمج والاستحواذ، يمكن تفسيرها بحق على أنها محاكاة ساخرة لتجاوزات السوق الحرة في الثمانينيات. وبأسلوبها المقزز في تصوير التجارب الحية، وُجدت "سايكو أمريكي" أيضًا على رفوف القاتل الجماعي الأسترالي ويد فرانكوم والقاتل الكندي بول برناردو. يقول بيتمان: "أشعر بألم مستمر وحاد ولا أتمنى عالماً أفضل لأي شخص. في الواقع، أريد أن يلحق الألم بالآخرين"، ويبدو أن بعض القراء في رواية "سايكو أمريكي" قد وجدوا في هذه الكلمات صدىً قويًا يلامس أعماقهم.

لقد دعا بعض المؤلفين في مناسبات عديدة إلى سحب أعمالهم، حيث يشعرون بالصدمة عندما يكتشفون أن إحدى رواياتهم كانت موجودة على منضدة سرير قاتل سادي. فقد استلهمت ستة من حوادث إطلاق النار في المدارس جزئيًا من رواية ستيفن كينج الغضب التي صدرت عام 1977، مما دفع الكاتب للمطالبة بسحبها من الطباعة، وقد استجاب الناشر لذلك. كما وصف أنتوني بورجس روايته برتقالة آلية، وهي دراسة ذكية ومزعجة للسلطوية والعنف، بأنها "مقززة"، بينما ضغط ستانلي كوبريك، مخرج التكيف السينمائي، على سحب الفيلم من دور السينما البريطانية بعد تقارير عن عمليات سطو واغتصاب واقتحامات للمنازل وجرائم قتل مستنسخة.

لا ينبغي أن نعتقد أن العقلانية أو السذاجة لها علاقة بتبريرات الوعي المريض للفظائع، فبعد كل شيء، كانت رواية ج. د. سالينجر المؤثرة حول فقدان البراءة في الحارس في حقل الشوفان هي التي ألهمت مارك ديفيد تشابمان لاغتيال جون لينون أمام مبنى الداكوتا في إحدى أمسيات نيويورك الباردة عام 1980. وكان ذلك بعد اثني عشر عامًا فقط من تفسير تشارلز مانسون لكلمات لينون في الألبوم الأبيض على أنها تعليمات للقتل.

إن رؤية الكتب على أنها غير قادرة على إحداث الخطر هو بمثابة فهم أنها غير قادرة على ممارسة أي سلطة على الإطلاق.

يقول القاتل والمغتصب أليكس في رواية "البرتقالة الآلية": " لا داعي لأن تأخذ الأمر إلى أبعد من ذلك، يا سيدي' وهو يتوسل بينما تُربط جفونه للخلف ويُجبر على مشاهدة مقاطع فيديو مروعة من قبل الأطباء النفسيين. 'لقد أثبت لي أن كل هذا العنف المفرط والقتل خاطئ، خاطئ، وخاطئ بشكل فظيع. لقد تعلمت الدرس، سيدي.' ما الذي ألهم أليكس لارتكاب الاغتصاب والقتل في "البرتقالة الآلية" - بيتهوفن، فاجنر؟ هل أثرت رواية بورجيس على المراهق ريتشارد بالمر لقتل متشرد في بلتشلي بإنجلترا عام 1972، كما زعمت صحيفة الديلي ميل؟ ماذا عن رواية ""سايكو أمريكي" أو "الغضب" أو "الجامع "؟ هذه الأسئلة ليست قانونية فقط، بل تتعلق أيضًا بالأدب والفلسفة، وحتى اللاهوت.

تدعي النزعة الرقابية أن الأدب يمكن أن يكون له تأثير ضار، بينما ترفض الروح الإنسانية والليبرالية هذه الرؤية، متمسكة بالموقف العقلاني الذي يقول إن 'الكتب وحدها' ليست مسؤولة عن أي جريمة. بشكل عام، هذا هو الموقف الذي أميل إلى الاتفاق معه، ولكنني أتذكر بعد ذلك عدد الوفيات التي كان الكتاب المقدس مسؤولاً عنها.

من العدل تمامًا عند فحص الكتب التي قرأها قاتل ألا نربط بالضرورة بينها وبين سلوكه؛ فمن المحتمل أن جميع هؤلاء القتلة الذين يمتلكون نسخًا من (الجامع أو سايكو أمريكي) كانوا سيظلون قتلة حتى لو لم يكن لديهم بطاقات مكتبة. تكتب نيكي دي فيليبس في موسوعة أكسفورد للأبحاث في علم الإجرام والعدالة الجنائية أن "الرابط السببي بين التعرض للوسائط وسلوكيات الجرائم العنيفة لم يتم التحقق منه بعد"، بينما يستنتج مكاي روبرت ستيفنز من جامعة بريجهام يونج أن الدراسات "فشلت في العثور على تأثير كبير لقراءة الأدب العنيف على الإدراكات العدوانية."

ولكن لو كنت في موقف بيرجيس أو فاولز أو كينج، مدركاً أن حياة البشر قد اختصرت بسبب جمل كتبتها، وأن البشر قد أُبيدوا بأساليب قاسية بسبب قصص نسجتها، فكم من العزاء قد تجده في موسوعة أكسفورد للأبحاث في علم الجريمة والعدالة الجنائية؟ الحقيقة هي أننا نتوقع ونرغب وندعي أن الأدب قادر على تغيير الحياة—وهو ما أعتقد أنه صحيح. لماذا يجب أن يكون هذا فقط عندما يتعلق الأمر بتغيير الحياة نحو الأفضل؟

إن السياسة الثقافية تنخرط عادة في ساحة من المواقف المانوية وسوء النية. وعندما يتعلق الأمر بمعضلة ما إذا كان من الممكن ترجمة الكلمات القبيحة إلى أفعال أكثر قبحاً، فإن المحافظين عادة ما يكونون أكثر من سعداء بإخراج قلم الرقيب الأسود، في حين يدافع الليبراليون تاريخياً حتى عن وسائل الإعلام المسيئة باعتبارها "مجرد ألعاب فيديو"، و"مجرد موسيقى"، و"مجرد كتب". وأنا أتمسك بقوة بالإيمان بحرية التعبير، ليس لأن اللغة ليست خطيرة أبداً، بل لأنها حق إنساني لا يمكن المساس به. ولكن القول بأن الكتب لا ينبغي أن تُحظر لأنها "مجرد كتب" يبدو لي وكأنه ينزع الشرعية عن فكرة الأدب ذاتها.

إننا نتمنى أن تكون الكتب بمثابة الفأس التي تكسر البحر المتجمد في داخلنا، والأداة التي تقطع قمم رؤوسنا. نلجأ إلى الأدب من أجل الانتقال الروحي، والتحول الجوهري، والتغيير. إن النظر إلى الكتب باعتبارها عاجزة عن الخطر يعني فهمها باعتبارها عاجزة عن ممارسة أي سلطة على الإطلاق، وهذا استنتاج لا أستطيع أن أقبله. لقد كتب جوته، وهو يائس من فكرة أولئك الذين انتحروا، أن هؤلاء التعساء "اعتقدوا أنهم يجب أن يحولوا الشعر إلى واقع."

لا ينبغي للشاعر أن يتفاجأ، لأن انتحار كارل فيلهلم جيروزالم* الذي قدم النموذج لفيرتر كان مفيدًا للغاية. فعلى الطاولة بجوار سرير الرجل الميت كانت هناك نسخة من مأساة جوتهولد ليسينج "إميليا جالوتي"، مع استحضارها لحياة "معذبة بسبب العواطف غير المحققة". مثل العديد من أتباع فيرتر،غادر جيروزاليم هذا العالم بسبب الوقوع في كتاب..

***

.........................

الكاتب : إد سيمون / Ed Simon عضو هيئة التدريس المتخصص في العلوم الإنسانية العامة بقسم اللغة الإنجليزية في جامعة كارنيجي ميلون، وكاتب دائم في Lit Hub، ورئيس تحرير مجلة Belt. كتابه الأخير Devil's Contract: The History of the Faustian Bargain هو أول سرد شامل وشعبي لهذا الموضوع.

* كارل فيلهلم جيروزالم (Karl Wilhelm Jerusalem) كان شاعراً وفيلسوفاً ألمانيا، وقد وُلِد عام 1747 وتوفي عام 1772. يُعتبر جيروزالم شخصية ملهمة ومؤثرة في الأدب الألماني، خاصةً لأنه كان النموذج الحقيقي لشخصية فيرتر في رواية آلام الشاب فيرتر لجوهان فولفجانج فون جوته.

 

قراءة وتحليل لرواية الجيب "المقهى" للأديب قصي الشيخ عسكر

***

تنبيه

* ان قراءة ملخصات الرواية قد لا تغني عن قراءة نص الرواية (الرابط ادناه)

* ان ورود كلمة "قصة" في السياق لا يعني سوى اني عمدت الى قراءة فصول الرواية الخمسة كقصص منفصلة.. تسهيلًا لمتابعة قراءتي التحليلية والتقيمية والنقدية لمفاصلها / ولربما للقارئ ايضا.. دون الاخلال بسياقها العام..

* اضفت فصلًا ختاميًا لتناول شخصية محمود المنقذ

................

مدخل

في مجتمعٍ يئن تحت وطأة القمع السياسي، تُصبح القصص والروايات السياسية أكثر من مجرد حكايات تُروى، فهي نبض الوعي الذي يتسلل عبر الجدران السميكة للسلطة القمعية. هذه الروايات وتلك القصص، التي تحمل في طياتها آلام الأفراد وأحلام الشعوب، تتحول إلى مرآة تعكس حقيقة الظلم، وتفضح أوجه الاستبداد المخفية خلف أقنعة القوة.

إنها صرخات مكبوتة تجد في الكلمات طريقًا للهرب، ومن خلالها يُبَعث الوعي الاجتماعي من جديد، كأمواج لا تعرف الهدوء، تضرب سواحل الصمت المستسلم، وتثير تساؤلات عميقة في النفوس حول العدالة، الحرية، والكرامة. في ظل هذه القصص، تُضاء الزوايا المعتمة من التاريخ الجماعي، ليظهر جليًا أن القمع ليس قدرًا محتومًا، وأن الشعوب قادرة على استعادة صوتها.

كل قصة سياسية في هذا السياق تصبح بذرة تمرد، تزرع الشك في نفوس الناس إزاء شرعية الظلم، وتثير العزيمة لإعادة صياغة مصيرهم بعيدًا عن قبضة الاستبداد. إن الوعي الذي يولد من رحم هذه القصص لا يتوقف عند الرفض، بل يتجلى في العمل، في الصمود، وفي تحويل الألم إلى ثورة تقود إلى فجر جديد حيث يُعيد الشعب كتابة تاريخه بيده. والرواية التي بين أيدينا (" المقهى": للروائي المهجري/ قصي عسكر) تنحو هذا المنحى.. ولكن بأسلوب يقربنا من معناتنا ويبعدنا اليها بطريقته تتميز بالإدهاش.

* ملخص مكثف للرواية

يروي النص قصة "محمد العابد" الذي يجد نفسه فجأة متهمًا ضمن قائمة مشبوهين في مؤامرة لا علاقة له بها. يعيش في حالة من الشك والخوف، محاصرًا بين الرغبة في إثبات براءته وعجزه عن الهروب من مصير مشؤوم يلاحقه. مع تصاعد الضغوط والاضطرابات السياسية، يتخذ قرار الهروب كخيار وحيد، بحثًا عن خلاصه عبر لقاء السيد "محمود المنقذ" الشخصية الغامضة. في النهاية، يهرب تاركًا عائلته تواجه مصيرها وحدها.

يعيش البطل في غرفة متواضعة بمزرعة دواجن صهره، محاصرًا بصراع داخلي بين ما وصله عن براءته من اتهام خاطئ، وخوفه من خيانة صهره "ممدوح". وسط هواجس الهروب، يجد أن الواقع المشوه لا يترك مجالًا للخطأ. مع تعمق الصراع، يصبح الهروب عبر "محمود المنقذ" أمله الوحيد.

يلجأ البطل إلى منزل صديقه "نجاح" هربًا من المطاردة السياسية ورغبة بلقاء "محمود المنقذ"، لكنه يواجه توترًا بسبب أخت صديقه، "بدرية"، التي تبدي انجذابًا غير لائق نحوه. رغم صراعه الداخلي بين الانجذاب وحسه الأخلاقي، يتورط في لحظة ضعف معها. يتمكن نجاح من ترتيب خطة الهروب، تاركًا البطل في حالة ارتباك.

يكتشف الراوي أن "محمود المنقذ"، الذي تخيله قويًا، ليس سوى سائقًا نحيف يقوده إلى مخبأ آمن. تحت تعليمات محمود، يتقمص الراوي دور الأعمى بهوية جديدة، محاولًا الاندماج في مجتمع العميان. خلال عزلة المخبأ، يسترجع الراوي ذكريات علاقته ببدرية ويعيش أوهامًا متداخلة مع الواقع، في ظل تعليمات صارمة للحفاظ على سلامته.

في عالم من الظلام، يتقمص الراوي دور الأعمى ويستكشف الموسيقى عبر حواسه الداخلية. ينفذ اللحن إلى أعماقه، ليضيء عتمته الداخلية أثناء وجوده في مقهى مظلم. تتكامل أنغام المغني المجهول مع تأملات الراوي في الحياة. يتفاعل مع أصدقائه الجدد، "خليل والمغنية"، ليكتشف ملامح جديدة للوجود، حيث يصبح الصوت رفيقًا ومرشدًا في رحلة اكتشاف الذات وسط النغمات.

***

الفصل الاول

* الهروب من مصير مجهول

يصور الكاتب ببراعة سردية حياة رجل يتعرض لمحنة وجودية وسياسية، حيث يجد نفسه فجأة في قائمة المشبوهين، متورطاً في مؤامرة ضد السلطة القائمة لا علاقة له بها. عبر وصف متوتر ومكثف، يرسم الكاتب صورة "محمد العابد"، الرجل الذي كان يعيش في حياد، محاولاً الابتعاد عن مشاكل السياسة وصراعاتها، ولكنه يجد نفسه محاصراً في دوامة الشك والخوف.

بينما كان يجلس "محمد العابد" مع عائلته، يستمع إلى المذياع الذي يعلن عن محاولة انقلاب فاشلة، يتفاجأ بذكر اسمه ضمن قائمة المشبوهين.. يسقط عليه الخبر كالصاعقة، حيث يجد نفسه محاصرًا بين تصديق الواقع الذي يفاجئه وكذبه. انه يعلم جيدًا أن ذكر اسمه ليس مجرد خطأ، بل هو مصير مشؤوم قد يجرفه إلى الهاوية.

الشك والخوف يتسللان إلى قلب عائلته، فتنطلق التساؤلات من حوله: هل هو المتهم حقًا؟ أم أن الأمر التبس على السلطات؟ وبينما يحاول الراوي إثبات براءته لعائلته ولذاته من أي جريمة، مع ادراكه أن البراءة وحدها لن تنقذه من شرك التهم الموجهة إليه. وفي لحظة حرجة، يكشف عن قلقه المتزايد من الأوضاع المحيطة به، فتدور في ذهنه فكرة واحدة: الهروب..

الهروب هو الخيار الوحيد امامه، من مصير مروع يلاحقه في بلد يعج بالفوضى والاضطرابات. لذا يتحدث الراوي عن رغبته الوحيدة: أن يلتقي السيد "محمود المنقذ"، الرجل الغامض الذي صار رمزًا للخلاص، والذي تتناقله الألسن كالأمل الأخير للهاربين من جحيم السلطة. السيد محمود، سواء كان حقيقة أم خيالًا، أصبح طوق النجاة الوحيد في عين الراوي، الذي يرى فيه الأمل للهرب من مطاردة لا ذنب له فيها.. إنه قرار صعب، لكنه يرى أن البقاء والمواجهة ليستا سوى طريقين يؤديان إلى الهلاك. فلا نجاة إلا في الهروب، ولا خلاص إلا عبر طريق مجهول يقوده نحو مصير غير مؤكد.

مع تصاعد الأحداث، يقرر الراوي الهروب إلى منزل صهره أو صديقه، ولكن حتى هذه الخطة تشوبها الشكوك. يتردد بين البقاء في مأمن نسبي لدى صهره صاحب النفوذ أو اللجوء إلى صديقه، لكن عقله المثقل بالهموم والقلق يدفعه نحو اتخاذ قرار سريع. يختار الهرب إلى المجهول، رافضًا فكرة تسليم نفسه للسلطات. فهو يعلم أن براءته لن تُسمع وسط الصخب والفوضى.

في نهاية المطاف، يخرج الراوي من الباب الخلفي للمنزل، تاركًا وراءه كل شيء.. وبعد هروبه، تصل الشرطة برفقة كلب مدرب للبحث عنه، إلا أنه كان قد غادر بالفعل، تاركًا خلفه عائلته تواجه العاصفة وحدها.

* قراءة وتحليل

1. الصراع مع السلطة:

الرواية تصور علاقة مضطربة بين الفرد والسلطة. بطل القصة، "محمد العابد"، يجد نفسه في مواجهة غير مباشرة مع النظام السياسي الحاكم بعد أن أُدرج اسمه ضمن قائمة المشتبه بهم في محاولة انقلاب أو حركة معادية. يظهر الصراع السياسي من خلال استخدام السلطة للمفردات القديمة مثل "زمرة حاقدة" و"خفافيش الظلام"، مما يعكس محاولاتها للحفاظ على السيطرة باستخدام القمع والترهيب. يثير هذا الموقف السؤال حول الحريات الفردية والممارسات الاستبدادية، حيث يصبح الأفراد المتهمون بلا ذنب ضحايا لآلة السلطة. تكشف القصة عن البارانويا التي تسيطر على المجتمع في ظل تلك الظروف السياسية الصارمة.

2. التشكيك في العلاقات البشرية:

العلاقات الاجتماعية هنا هشة وملتبسة، حيث يرى "محمد العابد" أنه، حتى الصداقة قد تصبح دليلاً ضده في أعين النظام. الرواية تستعرض حالة من الارتياب الاجتماعي، إذ يمكن للعلاقات الاجتماعية أن تشكل تهديدًا للفرد في مجتمع مضطرب. الانتماء الاجتماعي يصبح في هذه الحالة عبئًا وليس مصدرًا للدعم، وهو ما يجعل البطل يتردد بين الولاء لأصدقائه وخوفه من السلطة. يبرز هنا التضارب بين المفاهيم الجماعية للفرد والعائلة، وبين العزلة التي تفرضها الظروف السياسية والاجتماعية.

3. الهروب والبحث عن النجاة:

الرواية تصور حالة من التوتر والقلق التي تصيب الفرد حين يشعر بأن حياته في خطر. الهروب يصبح الملاذ الأخير لمحمد العابد، فهو يشعر بأن خيار البقاء يضعه في مواجهة الموت المحتمل. هذه المشاعر تترجم إلى حالة من الانعزال والاضطراب الداخلي، حيث يتردد البطل بين الرغبة في الدفاع عن براءته ومحاولة إيجاد مخرج سريع. القصة تطرح سؤالًا عن جدوى المقاومة الشخصية أمام سلطة أكبر وأقوى، وهل يستطيع الإنسان الدفاع عن نفسه في مواجهة نظام غير عادل؟

4. الحقيقة والوهم:

يطرح هذا الجزء من الرواية تساؤلات حول الحدود بين الحقيقة والوهم. في ظل الظروف القاسية، يصبح البحث عن المنقذ وهمًا يطارد البطل، كما يتسرب الوهم أيضًا في تفسيراته للأحداث من حوله. على الرغم من الشكوك التي تراوده حول وجود السيد "محمود المنقذ"، يظل البطل متشبثًا بفكرة الخلاص عبر هذا الشخص. هنا يظهر الجانب الفكري في القصة، إذ يعكس واقعًا معقدًا يتداخل فيه الوهم مع الحقيقة، واليقين مع الشك، ويصبح الهروب نحو المجهول بمثابة الملاذ الأخير للبطل، حتى لو كان وهميًا.

5. المنقذ والمطارِد:

يمثل السيد "محمود المنقذ" رمزًا للخلاص والأمل، بينما يمثل النظام الذي يلاحق "محمد العابد" رمزًا للقمع والمطاردة. كلا الرمزين يتصارعان في نفس البطل، حيث يحاول العثور على مخرج وسط مطاردة غير مبررة. المنقذ يمثل الوهم الجميل الذي يتيح للإنسان الشعور بالأمان، فيما تمثل السلطة رمزا للرعب والخطر الذي يطارد الفرد بلا هوادة. هذا التصادم بين الرمزين يعكس التوترات العميقة في المجتمع الذي يتداخل فيه الأمل والخوف.

6. مسألة الحرية والاختيار:

الرواية تثير الأسئلة حول مفهوم الحرية. هل يملك الفرد حقًا حرية الاختيار في ظل القمع والاستبداد؟ "محمد العابد"، رغم براءته، يجد نفسه مضطرًا لاتخاذ قرار الهروب حفاظًا على حياته، وهذا ما يجعله يواجه سؤالًا وجوديًا: هل الهروب هو الخيار الصحيح؟ انه يشير الى صعوبة اتخاذ القرارات في عالم لا يترك للفرد مساحة للاختيار الحقيقي، إذ يصبح الهروب هو الخيار الوحيد المتاح، مما يجعله في النهاية قرارًا قسريًا، وليس حريةً حقيقية.

7. تواطؤ الإعلام

تتناول الرواية، دور الإعلام كأداة للسلطة في تضخيم الأحداث وخلق حالة من الهلع بين المواطنين. يظهر النقد بشكل واضح من خلال وصف المذيع الذي يعلن أسماء المتهمين بنبرة حماسية، ما يعكس دور الإعلام في ترويج المعلومات التي تخدم مصلحة السلطة وتزيد من حالة الخوف والارتباك. يشير النص إلى أن الإعلام ليس وسيلة لنقل الحقيقة، بل أداة سياسية تُستخدم لتعزيز سيطرة النظام على الأفراد، مما يعكس تواطؤ الإعلام في نشر الخوف وزعزعة الثقة بين المواطنين

8. البناء الدرامي والتشويق:

ان الرواية تتسم ببناء سردي مشوق يعتمد على تصاعد التوتر من خلال سرد متدرج للأحداث. بدايةً من حالة الهدوء التي تعيشها الأسرة، وصولًا إلى المفاجأة الكبيرة حين يسمع البطل اسمه ضمن قائمة المشتبه بهم، يتطور السرد بشكل تصاعدي ليبني حالة من القلق والترقب. الأسلوب الأدبي يعتمد على الوصف النفسي العميق، واستخدام الجمل المتقطعة التي تعبر عن حالة التوتر الداخلي للبطل. كما أن استخدام الرموز مثل المنقذ والهرب، يمنح القصة أبعادًا أعمق تتجاوز مجرد السرد الظاهري.

9. توظيف القلق النفسي لخدمة المعنى الفلسفي والسياسي:

الجوانب المختلفة للقصة تتداخل بسلاسة لتشكل رؤية شاملة عن الإنسان في ظل القمع. القلق النفسي الناتج عن المطاردة السياسية يعزز فكرة غياب الحرية والاختيار الحقيقي. كذلك، العلاقات الاجتماعية المتوترة تعكس انهيار الثقة بين الأفراد تحت وطأة التهديد المستمر. كل هذه العناصر مترابطة، حيث يوظف الكاتب القلق النفسي لبناء حوار فلسفي حول الحرية والوهم، ويطرح تساؤلات حول العلاقة بين الفرد والسلطة في سياق اجتماعي وسياسي مضطرب.

في النهاية، القصة تبرز عالمًا مليئًا بالشك والخوف، حيث يصبح الهروب هو الخيار الوحيد للبقاء، حتى وإن كان وهمًا..

***

الفصل الثاني

* بين الهروب والاتهام الخاطئ

في المزرعة، يجد البطل نفسه في غرفة متواضعة ملحقة بقسم تطل على مزرعة تربية الدواجن، بعيدًا عن فخامة منزل أخته. حيث استقبله صهره "ممدوح الراضي"، بتجهم واتهام، الامر الذي فجرّ الماضي المؤلم الممتد إلى الحاضر، والمرتبط برفضه الاندماج في مشاريع صهره ولومه على انخراطه في تنظيم سري يسعى لقلب الأوضاع في البلد.

ليال يقضيها البطل في غرفة مراقبة الدواجن، حيث سطوع الأنوار الكاذب يوهم الدجاج بوجود نهار دائم، فترى الدجاجات تلتهم الحبوب بنهم لا يشبع، مجسدةً لحظة التوهان والانفصال عن الواقع.

الصراع الداخلي يحتدم في نفسه، بين هواجس الهروب وخوفه من خيانة صهره، وبين تطلعاته للهروب بوساطة "محمود المنقذ". تتبدل مشاعر البطل من الانكسار إلى التردد، قبل أن يكتشف أن خطأً بسيطًا في الاسم جعله متهماً رغم براءته.

في النهاية، يجد نفسه مجبراً على مواصلة التفكير في الهروب، تاركًا وراءه أسئلة عميقة عن البراءة والذنب، في واقع لا يتسع للخطأ ولا يعترف به. فالهروب يصبح الخلاص الوحيد، وعليه ان يجد من يوصله الى السيد "محمود المنقذ".. ولم يجد سوى صديقه "نجاح" الذي سيتحمل معه ثقل هذا العبء.

* قراءة وتحليل

1. الاستبداد والحكومة:

في بداية القصة، نواجه صراعًا بين الشخصية الرئيسية والحكومة التي تمثل السلطة القمعية. الصهر "ممدوح الراضي" يعكس قوة الدولة التي ترفض أي محاولة لتغيير النظام، ويظهر موقفًا متغطرسًا تجاه البطل. هذا الصراع السياسي يطرح تساؤلات حول قوة السلطة المركزية وتضييقها على الحريات والحقوق الفردية، حيث أن الحكومة تُصور ككيان لا يعترف بالخطأ، مما يعكس فلسفة الأنظمة الاستبدادية التي ترفض تحمل المسؤولية أو الاعتراف بأخطائها.

2. قوة الأعراف والضغوط العائلية:

نرى هنا كيف تهيمن الأعراف العائلية على حياة الأفراد وتوجهاتهم. البطل مجبر على اللجوء إلى صهره رغم رفضه السابق للزواج من أخته، مما يعكس ضغوط المجتمع التقليدي حيث العلاقات العائلية تلعب دورًا كبيرًا في تحديد المصائر. هنا، البطل لا يملك خيارًا سوى الاستسلام للواقع الاجتماعي الذي يفرضه عليه محيطه. الأسرة تبدو حصنًا هشًا أمام السلطة السياسية، ولكنها أيضًا وسيلة للبقاء والحماية المؤقتة.

3. القلق والبحث عن الأمان:

القصة تكشف عن قلق وجودي عميق يعاني منه البطل. الشعور بالخطر والاضطهاد يطارد الشخصية الرئيسية، مما يدفعه إلى البحث عن مأوى ومهرب من الملاحقة. حالة التوتر تظهر من خلال مراقبة الدجاج والنوم المضطرب، مما يعكس اضطرابًا داخليًا عميقًا. الرمز النفسي للدجاج الذي لا ينام يعبر عن قلق البطل المستمر وشعوره بأنه مراقب ومطارد بلا نهاية.

4. ضوء الدجاج المخادع:

ان "ضوء الدجاج المخادع" يمكن ان يكون انعكاسا لخداع النظام والسلطة، حيث يوحي النور الكاذب للدجاج بأن النهار مستمر، فيمنعه من الراحة. هذا النور المخادع يرمز إلى الأوهام التي تصنعها السلطة للبشر لإبقائهم منشغلين وغير قادرين على رؤية الحقيقة. هنا، الضوء هو أداة للسيطرة مثلما يُستخدم الإعلام أو الخطاب السياسي في المجتمعات المستبدة لخداع الناس وإبقائهم في حالة من السبات الذهني.

5. الحرية والاستعباد:

تتناول القصة مفهوم الحرية والاستعباد. الدجاج الذي يلتهم الطعام باستمرار دون أن يدرك أنه محبوس يعكس الحالة البشرية في ظل السلطة، حيث يسلب الأفراد حريتهم بينما هم مشغولون بتلبية حاجات أساسية. كما أن الثعلب الجشع الذي يسعى للقتل بلا هوادة يرمز إلى السلطة المطلقة التي لا تعرف الشبع ولا التوقف، مما يثير تساؤلات حول طبيعة السلطة والجشع الذي يرافقها.

6. الصراع مع الذات والآخر:

من الناحية الفكرية، نجد البطل في حالة صراع داخلي بين مبادئه الشخصية وواقعه الاجتماعي. رفضه للعمل مع صهره أو الدخول في مشاريع مشبوهة يعكس صراعه مع التنازلات التي يفرضها النظام. لكن في الوقت نفسه، يضطر إلى قبول المساعدة، مما يثير تساؤلات حول مدى قدرة الإنسان على التمسك بمبادئه في مواجهة القوى الأكبر.

7. الرمز واللغة البصرية:

على المستوى الأدبي، تُستخدم اللغة بمهارة لخلق جو من التوتر والانعزال. العناصر البصرية مثل "الأفق الواسع"، "الضوء المخادع"، و"الدجاج الذي لا ينام" تعزز الشعور بالعزلة النفسية التي يعاني منها البطل. السرد الأدبي متداخل بين الوصف الحسي والتأمل النفسي، مما يخلق تجربة أدبية غنية بالرموز والتعابير الشعرية.

8. الهروب كحل نهائي:

في النهاية، الهروب هو الخيار الوحيد المتبقي للبطل، وهو يرمز إلى الفشل في مواجهة النظام الاجتماعي والسياسي. هنا تتداخل الفلسفة السياسية والاجتماعية مع التحليل النفسي والفكري لتبرز أن الهروب هو محاولة يائسة للبقاء خارج منظومة الظلم والقمع، لكنه أيضًا يعبر عن استحالة التغلب على قوة السلطة في هذه الظروف.

ان ترابط هذه المحاور يعكس واقعًا مأساويًا للأفراد في ظل أنظمة قمعية، حيث يظل الهروب هو الخيار الوحيد أمام الفرد المنعزل والمطارد.

***

الفصل الثالث

* بين الهروب والإغراء

حينما غادر منزل صهره لم يجد سوى بيت صديقه القديم "نجاح" مأوى مؤقتًا.. ورغم الترحيب الكبير الذي يلقاه من صديقه، يتجدد شعوره بالتوتر بسبب أخته "بدرية"، التي سبق وأن أبعدته عن زيارة البيت بسبب نظراتها وتصرفاتها غير اللائقة تجاهه. البطل الذي يحمل أعباء المطاردة السياسية، يعاني من صراع داخلي بين انجذابه المتردد لبدرية وحسه الأخلاقي الذي يحاول منعه من الوقوع في الخطأ، خاصة وأنه لا يريد أن يخون صديقه مع اخته بدرية..

بدرية، التي تتمتع بشخصية جريئة وصريحة، تستمر في إبداء رغبتها في البطل وتعرض عليه الهروب معه خارج البلاد، لكنها تفاجئه بجرأتها وطلبها المهر بشكل غير تقليدي. في لحظة ضعف، ينصاع البطل جزئياً لها ويقبلها، لكن صوت الباب يجعلهما يستفيقان من هذه اللحظة المحرجة.

"نجاح" ينقذ الموقف، الذي يدخل مباشرة فيما عاد به.. لإخبار البطل بأن خطة هروبه إلى الخارج جاهزة، والفضل يعود لمساعدة صهره الذي رتب له موعدا مع "محمود المنقذ".

رغم ارتباك البطل وشكه في أن "نجاح" قد لاحظ شيئًا ما، إلا أن النهاية تترك المشاعر متأرجحة بين الالتزام بالواجب الأخلاقي والخوف من تداعيات ما حدث، وسط تأكيد "بدرية" على التواصل في المستقبل.

* قراءة وتحليل

1. المطاردة والهروب كحتمية:

في بداية القصة، يتجلى الصراع السياسي الذي يطارد البطل، حيث يجد نفسه في مرمى السلطة دون رحمة. السلطة هنا ترمز إلى قوة سياسية قمعية لا تعترف بأخطائها ولا تسامح، مما يدفع الشخصية إلى الهروب كحتمية للبقاء. يعكس هذا المشهد حالة اللايقين واليأس التي يشعر بها الفرد المعارض في ظل نظام ديكتاتوري، ويعزز من فكرة انعدام الأمان الشخصي والسياسي في هذه البيئة.

2. الصداقة وثقل العلاقات الاجتماعية:

ينتقل السرد إلى تفاصيل علاقته مع صديقه نجاح، حيث يظهر التضاد بين العلاقة الشخصية والعلاقات الاجتماعية. "نجاح" هنا يمثل صديقا متفهما وهادئا، لكنه غير مدرك للعواصف الخفية التي تهز أركان علاقة البطل بأسرته، خاصة اخته بدرية. تبرز هذه النقطة الجانب الاجتماعي المعقد في المجتمعات المحافظة، حيث تؤثر سمعة العائلة والأخلاق العامة في علاقات الأفراد، وتتحكم في مصائرهم بطريقة خفية وقوية.

3. "بدرية" كمرآة للرغبات المكبوتة:

بدرية، شقيقة نجاح، تلعب دوراً رمزياً معقداً، فهي ليست مجرد شخصية ثانوية، بل تمثل الجسد والرغبات المكبوتة في نفس البطل. "بدرية" بجرأتها ووضوحها تمثل قوة مدمرة وشرسة تحاول اختراق قشرة المجتمع المحافظة، وهي في الوقت ذاته تعبير عن تناقضات البطل الداخلية. إنها الرمز للحرية الجنسية المكبوتة داخل مجتمع لا يتقبل مثل هذه الجرأة، وتزيد من تعقيد مشاعر البطل تجاه صديقه وذاته.

4. الصراع بين الواجب والرغبة:

تنشأ هنا مسألة أخلاقية مهمة، حيث يشعر البطل بضرورة الحفاظ على صداقته مع نجاح، لكنه يجد نفسه في صراع مع رغبته المكبوتة تجاه "بدرية". التوتر بين الواجب الأخلاقي والعلاقات العاطفية والرغبة الجسدية يمثل صراعاً نفسياً شديداً. "بدرية" تعبر عن رغبة لا تعرف الحدود، تتحدى القيم الاجتماعية السائدة، وتجعل البطل يشعر بالضعف والخوف من الانجراف نحو الممنوع.

5. الضعف والحرية:

في لحظة مهمة، يشعر البطل أنه غير قادر على مقاومة رغباته ولا يستطيع تبرير ضعفه أمام "بدرية". هذه اللحظة تطرح تساؤلات فلسفية حول ماهية الحرية والإرادة البشرية. هل نحن مسيرون برغباتنا، أم أن بإمكاننا التصرف بحرية كاملة؟ البطل يختبر هنا حدود حريته، حيث يدرك أن الهروب من "بدرية" قد يكون السبيل الوحيد للنجاة من ذاته. انه صراع ذاتي بأبعاد وجودية.

6. المرأة كقوة مدمرة ومنقذة:

"بدرية" تتجسد في هذا السرد كرمز للمرأة التي تحمل في داخلها تناقضات المجتمع، فهي في الوقت نفسه رمز للحب والجنس، وأيضاً للتمرد والهدم. تمثل "بدرية" القوة النسائية التي لا تتقبل الانكسار، والتي تعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية حولها، وتدفع البطل إلى اختبار نفسه أخلاقياً وفكرياً.

7. الأدب وتمازج الشخصيات/ اللغة المزدوجة:

أخيراً، تأتي هذه القصة لتُظهر البراعة في المزج بين السرد الأدبي العالي والرمزية العميقة. كل شخصية تمتزج ببعضها، إذ أن "نجاح" يمثل الاستقرار الاجتماعي الذي يتصدع تحت وطأة رغبات "بدرية" العنيفة، بينما يتأرجح البطل بين الرغبة والخوف، بين الضعف والقوة، وبين الهروب والانجراف.

8. اللايقين المصيري:

في النهاية، يكون المصير غير واضح، حيث لا يجد البطل نفسه هارباً فقط من السلطة السياسية، بل من ذاته ومن علاقاته المعقدة. تشكل النهاية حالة من الغموض والضياع النفسي، وهو ما يعكس بشكل عميق الحالة الإنسانية أمام الظروف السياسية والاجتماعية القاسية.

***

الفصل الرابع

* الوهم والحقيقة في مخبأ "محمود المنقذ"

يروي النص تجربة الراوي الأولى مع "محمود المنقذ"، الشخصية التي كان يتوقعها مختلفة تمامًا عن الواقع. الراوي، الذي كان يتخيل محمودًا كرجل قوي وضخم، يتفاجأ حين يراه كسائق سيارة أجرة نحيف وصغير الحجم. يقوده محمود إلى مخبأ آمن، ويطالبه بالتصرف كأعمى، مع توجيهات صارمة تعتمد على السمع لا البصر. الراوي يستجيب لتعليمات محمود، ويبدأ في تقمص دور الأعمى، حيث يرتدي نظارة سوداء ويعتمد على عصا.

في المخبأ، يتلقى الراوي تعليمات أخرى من محمود حول الحياة اليومية في هذا المكان، ومنها تجنب تشغيل الأضواء ليلاً، وتجنب لفت الانتباه، والاندماج في مجتمع العميان الموجود أسفل المخبأ. يمنحه محمود أيضًا هوية جديدة باسم "ضيف الله سرحان"، مع نصائح حول التعامل مع الآخرين، بما في ذلك كلمة سر خاصة لضمان سلامته.

تتوالى الأحداث حيث ينعزل الراوي في الغرفة، ويتأمل الحياة من نافذة المخبأ، ويستغرق في ذكريات الماضي، بما في ذلك علاقته ببدرية، الفتاة التي أحبها ولكن كانت لها جوانب قوية ومسيطرة. يعود إلى الحاضر ليرى مشهدًا خياليًا حيث تتعرى "بدرية" في السوق، ولكن عندما يرفع نظارته، يكتشف أن المشهد كان وهميًا، ويعود إلى واقعه في عزلة المخبأ.

* قراءة وتحليل

1. السلطة والتحكم:

الرواية تعكس بنية السلطة التي تعتمد على الإخفاء والتضليل في سبيل التحكم في الأفراد. شخصية "السيد محمود المنقذ" تمثل نوعاً من القادة الذين يسيطرون على الآخرين من خلال التلاعب بهم وإعطائهم شعوراً زائفاً بالأمان. فالتأكيد المتكرر على العمى والتجاهل يعكس رمزية السلطة التي تفرض الحجب على الحقيقة والواقع السياسي، حيث يتعين على الناس الاعتماد على "السمع" لا الرؤية. هذه السيطرة على الحواس تعكس بيئة سياسية خانقة، حيث يتم توجيه الناس دون رؤيتهم الكاملة للعالم من حولهم.

2. العمى الجماعي والخضوع:

العلاقة بين الفرد والمجتمع تتضح هنا عبر مفهوم "مقهى العميان"، حيث يتحول المجتمع إلى جماعة من العميان، تتجمع في مكان مغلق، معزولة عن الواقع الخارجي. تشير هذه الرمزية إلى حالة الخضوع الجماعي، حيث يتم توجيه الجميع دون وعي حقيقي. الشخصية الرئيسية تحاكي العمى حتى لا تكون شاذة عن هذا النمط الاجتماعي، مما يعكس الامتثال الكامل للقيود الاجتماعية التي تفرضها الظروف السياسية، إذ يجد الفرد نفسه جزءاً من نظام يعزله عن ذاته وعن الآخرين.

3. العمى الداخلي والصراع الذاتي:

تمثل القصة صراعاً داخلياً بين الرغبة في التحرر والخوف من المخاطر التي قد تواجه البطل. تجسّد شخصية "المنقذ" الظاهرية عملاقًا مهيبًا، لكنها تتقلص إلى مجرد سائق تاكسي، وهو ما يعكس فشل الأوهام المرتبطة بالقادة أو الشخصيات التي يتوقع الناس أن تكون قوية. الصراع النفسي بين الاعتماد على "السمع" بدلًا من "الرؤية" يعكس فقدان الثقة في الحواس الخاصة، والاعتماد على الآخرين في اتخاذ القرارات الشخصية.

4. الحقيقة والوهم:

تسلط القصة الضوء على التوتر بين الوهم والحقيقة. النظارة القاتمة التي يعطى البطل إياها تمثل عجز الفرد عن رؤية الواقع كما هو، وهي إشارة إلى الطرق التي يُعزل بها الفرد عن الحقيقة في المجتمعات القمعية. الفكر الذي يبثه "المنقذ" هو فكر النجاة من خلال الخضوع للقيود والتوجيهات، مما يطرح تساؤلات حول مدى إمكانية إدراك الفرد لحقيقته الذاتية.

5. العمى كرمز للجهل والاستسلام:

العمى هو الرمز الأساسي في القصة. يستخدم "المنقذ" العمى كوسيلة لحماية البطل، لكنه في الوقت نفسه يجسّد رمزية الجهل والاستسلام، حيث يطلب من البطل ألا يعتمد على عينيه. العمى هنا ليس فقط بصرياً، بل يمثل انقطاعاً عن الفهم والإدراك الكاملين. بقاء البطل في هذا الوضع يرمز إلى حالة التسليم للظروف المحيطة به، والانقياد وراء رموز السلطة دون تفاعل واعٍ.

6. الخلاص والحرية المشروطة:

ان التساؤلات العميقة التي تتجلى في القصة حول معنى الخلاص والحرية ازاحة فلسفية ذكية يقوم بها القاص. والسؤال الادق هنا هو: هل يمكن للمرء أن يكون حراً إذا كان أعمى؟ الحرية التي يعد بها "المنقذ" مشروطة بالعمى والطاعة، وهي حرية وهمية. هذه المفارقة الفلسفية تدفع القارئ للتفكير في ماهية الحرية الحقيقية، وعما إذا كانت تعتمد على الوعي الكامل أم على الانصياع والتكيف مع القيود.

7. الواقعية الرمزية والتشويق:

القصة تستخدم لغة رمزية عميقة الدلالة وهي تصف العالم من خلال عيني البطل الذي يرتدي النظارة القاتمة. استخدام الأبيض والأسود، غياب الألوان، والصور المرتبطة بالعمى تعزز الجو المشوق والغامض الذي يسيطر على السرد. الحبكة تتطور ببطء، مما يزيد من حالة التشويق، حيث ينتقل البطل من مرحلة الاعتماد على "المنقذ" إلى نوع من التأمل في مصيره الشخصي. الحوار المكثف بين الشخصيات يعمّق الصراع الداخلي ويضفي أبعادًا جديدة على القصة.

* الترابط بين الظواهر:

تتداخل هذه الأبعاد جميعها لتقدم رؤية شاملة عن المجتمع المقموع، حيث السياسة تتداخل مع العمى الاجتماعي والنفسي. القصة تحاكي رحلة البحث عن الذات والحرية ضمن عالم مظلم، حيث يعتمد البطل على السمع والخيال بدلاً من الرؤية المباشرة، مما يعزز من رمزية العمى كحالة ذهنية واجتماعية تنتشر في أرجاء المجتمع.

***

الفصل الخامس

* سيمفونية في متاهة الظلام

في متاهة الظلام، يخطو الراوي وهو يتقمص دور الأعمى متلمساً الطريق بصمت ووجل.. متلمساً خطواته إلى عالم الموسيقى التي لا يرى ألوانها، بل يراها بأذنه. مع كل هبوط على الدرج، تنفذ الموسيقى إلى أعماقه، وكأنها تنير عتمته الداخلية. في المقهى المغمور بالظلام، تتكامل معزوفات الحياة مع صرخات الأمل، والمغني الذي لا يُعرف يصدر لحنه كنبع شجي يروي ظمأ الروح. يتلمس "ضيف الله سرحان" خيوط موسيقى القدر، فيحاكي عالم العميان حيث ينصهر السمع في سحر الأنغام، ويتناول كأس الشاي دون سكر، كرمز لمشقة اكتشاف الذات وسط النغمات. في الحوارات مع "خليل والمغنية"، تتكشف ملامح جديدة عن الوجود، حيث يتلاقى الجمال والإلهام في عالم يقود فيه الصوت كل شيء، وينبض الحياة رغم العمى.

في هذا النص الذي يشبه سيمفونية متقنة من الأحاسيس والتجارب، نعيش مع الحواس الداخلية لعالم غارق في الظلام، حيث يكون الصوت هو الرفيق الوحيد والمرشد في دروب الليل

إنها قصة عن الخوف من المجهول، وعن اليأس الذي يحول الوهم إلى حقيقة، وعن التمسك بأمل واهن في عالم يضج بالفوضى.

النص الذي بين أيدينا يعد سردًا فلسفيًا نفسيًا، يتناول أزمة وجودية وفكرية يعانيها الراوي في إطار اجتماعي وسياسي متوتر. فهو يمزج بين الواقع والخيال، وبين الحقائق المتعارف عليها والأوهام التي يختلقها الفرد في محاولة للهروب من أزماته النفسية والاجتماعية.

* قراءة وتحليل

1. الصراع بين البصر والعمى:

فتح الكاتب هذا الجزء بتلميح واضح عن الصراع النفسي بين الرغبة في استكشاف الواقع والخوف من مواجهته. بطل القصة، الذي يتخذ من العصا والنظارة رمزين، يعاني من عدم القدرة على مواجهة العالم بعينيه، مما يجعله يعتمد على حواسه الأخرى، خاصة السمع. هذا التردد بين استخدام العينين أو التخلي عنهما يعكس قلقاً وجودياً حول القدرة على التعامل مع الحقائق الصادمة للعالم. تزداد قوة هذا الصراع النفسي مع تقدم الرواية، حيث يصبح الغناء رمزًا للخلاص أو الانغماس في عالم آخر يتجاوز القيود الحسية.

2. العمى كواقع مجتمعي:

يمثل المقهى في القصة مجتمعا بديلاً، حيث الجميع عميان. هذا العالم يعكس المجتمع الكبير ولكن بقوانينه الخاصة؛ حيث الحواس الأخرى، خاصة السمع، تتفوق على البصر. النظام الاجتماعي في المقهى يشير إلى تساوي الناس بغض النظر عن قيودهم، ولكن هناك تميّزات خفية بين الأدوار (المغني، العازف، المستمع). هذا البعد يعكس عالماً يُقدَّر فيه الأداء الفني والحسي أكثر من القدرة الجسدية، ويعيد صياغة فكرة العدالة الاجتماعية في سياق مختلف.

3. العمى كنور داخلي:

العمى في القصة يتجاوز المعنى الحرفي ليمثل النور الداخلي أو البصيرة. الشخصية التي تتردد بين عالم المبصرين والعميان تبحث عن "النور الداخلي" الذي يمثل قدرة الإنسان على الفهم والإدراك بعيدا عن الحواس الخارجية. هذا ما يُظهره التحول الذي يمر به البطل عندما يقرر في النهاية الانغماس في مجتمع العميان والاستغناء عن حاسة البصر. هذا الرمز يمثل رحلة البطل نحو الإيمان بأن الإدراك الحقيقي لا يرتبط بالعينين.

4. الوجودية وخيارات الحرية:

تتطرق الرواية في هذا الجزء إلى مسألة الحرية في اختيار الهوية. البطل يختار أن يعيش وسط العميان، برغم قدرته على البصر. هذا الخيار يعكس رؤية فلسفية عميقة تتعلق بالوجودية؛ فالفرد ليس مقيداً بما يُفرض عليه، بل له الحرية في اختيار العالم الذي يناسبه. قرار البطل في النهاية بأن يرتدي النظارة ولا يخلعها يبرز فلسفة الوجودية، حيث الإنسان هو من يحدد معنى حياته من خلال اختياراته الذاتية.

5. التجريبية في السرد:

تعتمد الرواية على التجريب الأدبي حيث يُمزج بين الحوار الداخلي والمشهد الخارجي بشكل ديناميكي. الوصف الدقيق للمكان، من الميل إلى الحوار بين الشخصيات، يُبني في ذهن القارئ إحساسا بالانسجام بين الأحداث. استخدام الرمزية في الأشياء البسيطة مثل العصا والنظارات يعزز من التداخل بين مستويات القصة الظاهرة والمخفية. الأدب هنا لا يسعى فقط لسرد احداث بل لفتح حوار مع القارئ حول الواقع والتصور الذاتي.

6. الفن كوسيلة للتحرر:

الفن، سواء كان غناءً أو عزفًا، يتجلى كوسيلة للهروب من قيود الواقع الحسي، وفي الوقت ذاته وسيلة للتحرر الداخلي. الشخصيات في المقهى لا تغنّي فقط للتسلية، بل للتحرر من قيود الوجود المادي. التحول الذي يمر به البطل يعكس هذه الفكرة حيث يجد نفسه متورطًا في عالم من الفن الذي يمحو الحواجز الحسية. الفن في الرواية يصبح قمة التجربة الإنسانية، حيث يتمكن الفرد من تجاوز كل حدود الحواس.

7. البحث عن الذات عبر الحواس والفن:

تتلاحم هذه الأبعاد في القصة لتعكس بحث الفرد عن ذاته عبر الحواس والفن. يبدأ البطل بصراع نفسي واجتماعي بين العالمين (المبصر والعمى)، ثم يتعمق في البحث عن الحقيقة الرمزية من خلال استخدام الفن كوسيلة للتحرر. هذا البحث يتطور في النهاية إلى فلسفة حرية الاختيار وتحديد الهوية، حيث يختار البطل في النهاية أن يعيش ضمن مجتمعه الجديد تاركًا خلفه العالم القديم، مؤمنًا بأن البصيرة الداخلية أقوى من أي قدرة جسدية.

فصل ختامي

وددت ان اناقش هنا شخصية "محمود المنقذ" في الرواية، والتي تعد شخصية محورية تحمل أبعاداً رمزية متعددة، دينياً، اجتماعياً، وسياسياً، وهي تتجلى بعمق عبر النصوص التي تم تقديمها. لنسلط الضوء على هذه الأبعاد.

1. البعد الديني:

"محمود المنقذ" يرمز إلى الشخصية المسيحانية، التي تشبه في تصورها الديني صورة المخلِّص مسيحًا كان او مهديًا الذي ينتظره الناس ليخلصهم من معاناتهم وظلمهم.

هذه الشخصية تمثل الأمل الروحي الذي يتعلق به الفرد في أوقات اليأس والضياع، حيث يبحث البطل، "محمد العابد"، عن هذا المنقذ كطوق نجاة من محنته. في السياقات الدينية، المنقذ هو الذي يحمل الخلاص، ويمنح الرجاء، لكن النص يعرض هذه الشخصية بشيء من الغموض والتعددية، مما يعكس الشكوك التي قد تحوم حول مثل هذه الأدوار المخلِّصة في حياة البشر.

2. البعد الاجتماعي:

"محمود المنقذ" يمثل تلك الشخصية الاجتماعية، التي تأتي لتقدم حلاً أو مخرجاً من أزمة ما، شخص يجسد الدور الذي يتطلع إليه المجتمع في أوقات الشدة. لكن المفارقة هنا هي أن المنقذ يظهر بأوجه مختلفة، مما يعكس الطبيعة المتقلبة للمجتمع نفسه وعدم استقراره على حقيقة واحدة. هذه الشخصية تجسد أيضاً القوة التي يسعى الأفراد في المجتمع إلى الارتباط بها للحصول على الدعم أو الحماية، لكن النص يوحي بأن هذا الاعتماد على "المنقذ" هو في كثير من الأحيان سراب، حيث تتغير الوجوه والأدوار بينما يبقى المجتمع أسير مشكلاته.

3. البعد السياسي:

من الناحية السياسية، "محمود المنقذ" يرمز إلى السلطة أو النظام الذي يعد بالإنقاذ والحل، ولكنه في الوقت ذاته يبقى غامضاً ومتحولاً. في هذا السياق، المنقذ يمثل القوة السياسية التي تملك قرار النجاة أو الهلاك، وهو ما يضع الفرد في موقف ضعف وخضوع دائمين، معلقاً آماله على تلك القوة الخارجية. هنا، يصبح المنقذ رمزاً للنظام السلطوي الذي يحكم بالترهيب والترغيب، ويمسك بزمام الأمور بوعود قد تكون فارغة.

4. البعد الرمزي:

رمزياً، "محمود المنقذ" يتجاوز كونه مجرد شخصية ليصبح تجسيداً للأمل المتذبذب والحقائق المتغيرة في عالم لا يمكن الوثوق به. وجود المنقذ بأشكال وأسماء مختلفة في النص يشير إلى أن النجاة نفسها قد تكون متقلبة وموضع شك، وأن الحقيقة ليست مطلقة بل نسبية، تتغير بتغير الظروف والأشخاص. من هنا، يرتبط هذا الرمز بفكرة الهروب من الواقع كوسيلة للبقاء، حيث يصبح المنقذ ليس شخصاً بعينه، بل فكرة مجردة تدفع الأفراد إلى المضي قدماً، رغم عدم اليقين المحيط بهم.

5. التأثير النفسي على البطل:

إن وجود "محمود المنقذ" كشخصية متغيرة ومتعددة الأوجه يؤثر بعمق على الحالة النفسية للبطل. يعيش "محمد العابد" في توتر دائم بين الرغبة في الهروب وبين الإيمان بأن المنقذ سيأتي، ولكن عدم الثقة بهذه الشخصية المتغيرة يزيد من قلقه واضطرابه. في النهاية، يقرر البطل التمسك بموقفه وعدم الهروب، مما يعكس فقدانه الثقة في المنقذ وفي فكرة الخلاص الخارجي، مفضلاً مواجهة مصيره بنفسه.

6. الخلاصة:

شخصية "محمود المنقذ" هي أكثر من مجرد شخصية في النص؛ إنها رمز معقد يعبر عن الحيرة والاضطراب والبحث عن الخلاص في عالم مليء بالتحولات واللايقين. تمثل هذه الشخصية الأمل المعلق على شخصيات أو قوى خارجية، سواء كانت دينية، اجتماعية، أو سياسية، لكنها في الوقت ذاته تعكس الوهم الذي يمكن أن يتحول إليه هذا الأمل في غياب الثقة أو الاستقرار.

***

طاق الحلفي – شاعر وناقد

............................

رابط القصة:

https://www.almothaqaf.com/nesos/976900

مؤاخذة منهجية: أحملُ بعض جرأتي في كفّي وأخرى في حرفي لأهجم على صديقي عبدالرحمن بوطيب في بيانه الموجز والشاهر في وجوهنا إشارة تتعقّبُ العنوان وتقول (استرجاعات من ذاكرة رجل تربية وتعليم: 1972 / 2024).

وقد كان يكفيهِ من ذلك عنوان النص (كنتُ معلّما) لنفهم أن الأمر يتعلّق ببعض السيرة الذاتية. وقد يقول قائلٌ إنه لا ضيرَ في ذلك البيان المُصغّر. وأقول إنه الضيرُ كلّهُ عندما يوجّهنا المؤلّفُ توجيهاً مثل هذا، ويذكّرنا في كل محطة بعام التدبيج وسنَةِ التحبير، ويضعنا في الحدث وكأنه يخشى علينا انفلاتَ أزِمّتِهِ من بين أيدينا. فهو يرسم لنا ممراتٍ في القراءة كأنها المعالمُ من حيثُ لا نحتاجُ إلى معالمَ إلا ما اتّفق من شفْراتٍ ضمنيةٍ نستخلصُها من غضون اللغة وفي غضُونها.

القارئُ أو المتلقي كائنٌ أدبيٌّ زئبقيٌّ ومحتال، يمتلكُ من ممكنات التأويل ما يغنيهِ عن بيان أو شيئاً يشبه البيان. وأظنّ هذه المؤاخذة المنهجية لا تفسدُ للودّ قضية بين قارئٍ يُقدّرُ مقروءه...

1- شيءٌ يشبهُ التوطئة:

لا يهمّنا ما قال القاصّ في هذه الإضمامة القصصية المنسابة في مكر الحكي والتخييل، فذاكَ موكولٌ لأول قراءة عابرة تبحث في غير جهدٍ عن مادةٍ متْنيةٍ تفرح وتُسرّ لما وقع وتهشُّ له، بقدر ما يهمنا كيف قال. إن القول في ذاتهِ ممكنٌ أدبيٌّ مُتاح لأن المؤلّف كفانا شر قتال ذلكم المتن، وإنما يشغلنا تنظيم القول وكيف تمّ القول، وآليات اشتغال القول...

2- علبةُ الزمن:

قد يصحّح لي أحدٌ بأنني كنت أروم القول باللعبة فانفلت من أصابعي زرٌّ فرسم العلبة بدل اللعبة. أنا واعٍ كل الوعيِ بأنها العلبة التي أريدها. والزمن في منظوري علبة كونية كبيرة تختزن تفاصيلها الفيزيائية، ولكنها لا تختزن تفاصيلها الميتافيزيائية، حيث يتحوّل القاص إلى حاوٍ ماهرٍ في إدارة مخيالِ العلبة وما فيه من أنماط الزمن وأضربه.

و أول مثالٍ على ذلك: صوغُ القاص ثنائيةَ الزمن في كثافةٍ سردية تلقي بالقارئ في تاريخ الذاتِ. وهو التاريخُ الّذي يقتضي منّا متابعةً مطوّلة قاضية بالتتبع الكرونولوجي لمجريات الأحداث. وهذا أمرٌ متجاوزٌ في أدبيات السرد الحداثي. من هنا امتطاء القاص علبة الزمن ليختار منها ثنائيةً مصوغةً في إبداعٍ سرديٍّ يحترم القارئ وذكاءه.

قال السارد: (و هو في طفولته)

ثمّ أردفَ بعدَ سبعةِ أسطرٍ هي التاريخُ الممتد قائلا: (اليومَ وقد شاب منه الرأس)

مقطعان سرديانِ في غاية البساطة المتنية، ولكنهما في غاية المكر السرديّ. ووسمناهُ بالمكر لأن السارد يعي كل الوعيِ أن المتلقي نوعان: مستمتعٌ قشوريٌّ ومتعمّق نبّاش. وكلاهما يطلبُ اختزالاً في مقام التأريخ للذات. ولو كان الأمر متعلقاً برواية في لبوسٍ شامل لكان الأمر مختلفا...

ملحوظة: (طرحتُ مقولة الشامل وقصدتُ المطوّل نظرا لأن هذا المعيار المرتبط بالحجم أصبح متجاوزا)

السردُ هنا مدركٌ لعتمة العلبة الزمنية، من هنا قفز القاصّ على مرحلتين متباعدتين أشد التباعد، استطاع أن يقرّبهما أشدّ القرب. من الطفولة إلى الشيب. حتّى لكأن المتلقي يدرك تقلّص العلبة الكبيرة في لحظتيْنِ مفارِقتيْن. والمقولةُ المُقلّصة لشساعة العلبة وعتماتها كانت هي السؤال. في مرحلة الطفولة كان السؤالُ تلقياً وفي مرحلة الشيب أصبح وجوديا. وبين القطبيْنِ انسابتِ القصةُ والتأريخُ لها انسيابَ تنسيبٍ لا انسيابَ تحقيب، إذ الهيمنةُ في العلبة هيَ لمسارٍ وليس لصيرورة. وهنا نفهم لمَ تقلّصت أزمنة الشيب فيما استطالت أزمنة الطفولة وطالتْ. أنظر معي في المقطع الأول والمطلعيِّ: سطرانِ من الحكي في مقابل سبعةِ أسطر. ولعلّ قارئاً ناقداً موضوعياً لا يبخس هذا المستوى المورفولوجي والطباعي حقّه في الحضور وتشكيل الدلالة، والتحكم في عمليات السرد...

3- سيمياء الإرادة:

يخدع السرد في هذا النص الحكائي القارئ عبر إيهامه بصيرورة تمرحل الأحداث وتفاعل القوى الفاعلة معها في توجّهٍ خطّيٍّ يُهديكَ رأسَ الخيط كما يهديكَ ذيله. والأمر هنا أعمق من هذه الخطيّة المباشرة، وفيها يتبدى الساردُ مُنْهِياً قولهُ لنبدأ قولَنا في تنظيمِ المقول. وما يحوّل السردَ من مباشرتِهِ إلى ذكاء انسيابه هو توسّل الساردِ بمقولة الإرادة، يطرحُها كبؤرة حكيٍ تلمّ شتاتَ التأريخ السّيريّ لتبتعد الكتابة من عمليات الرصد الزمني لأحداث معيّنة إلى كتابة تبئّرُ المعنى في عمق الدلالة اجتِناءً لحكيٍ يتجاوزُ دغدغة عواطف القارئ ومداعبة منطقة الإعجاب فيه.

يُمسك الساردُ بفعل الإرادة عبر بوّابتيْنِ:

- التماهِي بمقولة الأب:

و فيها يمارسُ الساردُ صناعةَ الظلّ في مفهومِه المرجعيّ المفسّر لنسق الابن العاطفي والنفسي والاجتماعي. الفرعُ لا يأتي من فراغ، والأب أصلٌ. ونحلّلها في جدولة مصغّرة تحكي مصداقيةَ أو بعض مصداقيةِ الحضور:

الابن\ الظل - مرجعُها - الأب\ الجسد.

الابن\ الفرع – مرجعها - الأب\ الأصل

الابن\ الامتداد – مرجعها –الأب\ النواة أو البذرة

الابن\ الراهن – مرجعها – الأب\ التاريخ

التاريخ بالمعنى السيري الفردي هنا لا يتكرر، ولا يفيد التبعية أو الإلغاء، كما سيعتقد بعض القراء، بقدر ما يذهبُ فيه السارد مذهب تأكيد القيمة،  ونقصد قيمة الصبر والنضال والعصامية في كلا البؤرتيْن، سواء تعلّق الأمر بالاب أم بالابن. القيمة ولو تكررت فإنها تتعالى على فكرة الكساد وانتهاء الصلاحية لأنها تدخل في مقولات المطلق الحامل للقدرة على تجاوز الزمن.

و في الصورة المحكية الآتية دليل على ذلك، وهي صورة محكيةٌ مشبعةٌ بقيم القوة والإرادة... قال السارد على لسان الأب (الولد المريض يشفى ويشتغل. الأبواب كلها مفتوحة أمامه بما ملكت يمينه من مفاتيح، لقد حاز الابتدائية الساحرة، وحتى تلك الإعدادية، وزاد فوقها ثلاث سنوات ثانوية، أكيد أنه عندما يبل سيصير مديراً كبيراً، سيصير رئيس مصلحة محترماً، سيصير قائداً، سيصير كوميسيراً، ويصير ضابطاً، أو يصير محامياً مشهوراً يمكن أن يصبح قاضياً مهيب الجناح بعد بضع من سنين.)

- المفارَقة لمقولة الأب:

لا يسقط السارد في عملية النسخ، وهو يسرد حكيهُ السيري. بقدر ما يحاول طبع صيرورة الابن بالأصالة في الوجود وبالدينامية الماتحة قوّتها من عصاميةٍ متفردةٍ تعالتْ على مقولات الفشل والمرض والتحبيط الاجتماعي. واستعاضت ذلك بقوة نادرةٍ في التحدي. عبّر عنها هيدغر في قوله (حيثُما ثمّة حياة، ثمّة إرادة اقتدار)1 باعتبار هذه الإرادة في مجال حكْيِ السارد هنا هي ماهية الوجود الأكثر عمقا.

الابن متصل ومفارق في نفس الآن لمقولة الأب الذي يرفض بنعومة حريريةٍ أن يقيم في جبّتِه. هو لا يكرر صورةً سبقته في الوجود وأمدّتْه ببعض أسباب الحياة. له حياة خاصّة يطبعها مزاج خاص جدّا وأحلام أكثر خصوصية في صمت... (حتى تلك المباريات الداخلية للترقي في الأسلاك التعليمية لم يُحَضّر لأي منها حرفاً، وكان يترقى بالمباريات والتكوين، لم يترقَّ بأقدميةٍ طوال مساره.) والكلام هنا، ولو استشهد بطروحات هيدغر ونيتشه إلا أنه لا ينزع كما نزعا إلى الاقتدار الذاهب مذاهب الاكتمال والكمال. الاقتدار المرجو في غضون المحكي في هذا الخطاب السيري هو فطريٌّ أكثر من أي اعتبار آخر، ويقيمُ متجذّراً في نسغِ الإنسان المغربي الذي اكتوى بأقدار المرض المتجاوز للعطب الجسدي إلى العطب في التنشئة.

4- تركيب:

لا نريد القول في المحكي بقدر ما نريد القول في تنظيم القول، واقتصرنا على مبدأيْن لا يُفهمُ من إدراجهما أننا أحطنا بالمقروء السيري في هذا المقام الخاطف. وهما مبدأ الزمن في بعض تجلّيه ومبدأ الإرادة في بعض إشراقها. وكان تركيزنا على قوّتين فاعلتينِ في سياق هذا المبحث المتواضع، هما الأب بالدرجة الثانية والابن بالدرجة الأولى نظرا لتبئيره لا كشخصية تمتص السرد من نواحيه المختلفة، ولكن كخيط فنّي يشد لحمات هذا المقطع السيري الذي يحمل في طيّاته جينات الجنس الروائي باقتدار.

المتن الحكائي:

كنت معلماً

استرجاعات من ذاكرة رجل تربية وتعليم: 1972 / 2024.

عبد الرحمن بوطيب / المغرب.

استرجاع بدايات: 1972.

وهو في طفولته لم يكن جوابه على سؤال معلماته ومعلميه عن طموحاته العملية في المستقبل واضحةً في ذهنه، لم يُطرح التساؤل بينه وبين أفراد أسرته من قبل ولا من بعد، الكبار كانوا مشغولين بقوت الصغار زمن شدة وفقر، وهو كان يدرس وينجح فقط.

تجنباً لأي إحراج بين الأصدقاء، واتقاءً لنظرات الاستفهام المحتملة من المعلمات والمعلمين كان يرمي الإجابةَ بما يعن له على طرف من لسانه دون سابق تخطيط أو استعداد...

طبيب، مدير، مهندس... ويرتفع سقف أحلام لم تكن أحلاماً، لم تكن أهدافاً، لم تكن مشاريع بناء إنسان، كانت مجرد هروب من إحراج عدم الإجابة على سؤال.

اليوم وقد شاب منه الرأس وتقوس الظهر وتلف النظر، اليوم يقشعر بدنه كلما تذكر مواقف السؤال، ماذا كان سيحصل لو جاء بعد الجواب سؤال آخر من نار:

لماذا هذا الاختيار؟

من حسن حظه، أو من سوء طالعه، لم تتناسل الأسئلة كما كان ينبغي أن يكون عليه المقام التواصلي.

هل كانت المعلمات، وهل كان المعلمون يطرحون سؤالاً من باب تمرير حوار مصنوع خارج أدمغتهم ينقلونه من كتاب المعلم في ديداكتيكية التمهير على المحادثة دون تمحيص، ومن غير تصرف ممكن؟

أهي سلطة المفتش الذي كان يفتش عن كل هفوة أو نقيصة أحسن تفتيش؟

رحم الله سادتنا المفتشين لأنهم لم يطرحوا في دروسهم المعدة سلفاً للمعلمات والمعلمين سؤالَ...

لماذا؟

وقد صار معلماً، وما كانت له مهنةً منتظَرة يوماً في جواب على سؤال.

كان تلميذاً وكفى، وذات مرض قاهر ما بقي تلميذاً، أضحى عاطلاً عن دراسة وعمل.

حدث ذلك وهو مقبل على اجتياز امتحانات البكالوريا، وما ترشح لاجتيازها، صار زبونَ طبيب وصيدلي وهو في السابعة عشرة من عمره.

المرحوم والده ما عاد يفكر إلا في صحة ولد ضاعت منه الصحة، الأرزاق بيد الله، والترقي الاجتماعي يسير السُّلّم، الشهادة الابتدائية مفتاح صالح لفتح أبواب كثيرة، كَمْ مديرٍ كبير سَيَّرَ مصلحات عديدة بكفاءة وإدارة رشيدة وهو يفخر بأنه حاصل على تلك الشهادة السحرية، وحتى المرحوم الوالد بقليل حظ من بركة مسيد في الدوار صار مستخدماً محترماً في البنك.

الولد المريض يشفى ويشتغل. الأبواب كلها مفتوحة أمامه بما ملكت يمينه من مفاتيح، لقد حاز الابتدائية الساحرة، وحتى تلك الإعدادية، وزاد فوقها ثلاث سنوات ثانوية، أكيد أنه عندما يبل سيصير مديراً كبيراً، سيصير رئيس مصلحة محترماً، سيصير قائداً، سيصير كوميسيراً، ويصير ضابطاً، أو يصير محامياً مشهوراً يمكن أن يصبح قاضياً مهيب الجناح بعد بضع من سنين.

قالت الوالدة، وليس لها رأي ينفذ، يمكن أن يصير أستاذاً أو معلماً للصغار، هي أسهل وأحسن، الولد صغير، وصحته لا تحتمل مقاعد القيادة، حتى العذراوات من بنات الدرب يختطفن المعلمين، يفتخرن بأن رب بيتهن معلم، والجيران سيحبونه يحترمونه ويشاورونه في الصغيرة والكبيرة، خصوصاً إذا كان معلماً للعربية، هي درجة تجعل منه بين الناس مكانةَ الفقيه، ليس كصاحبه معلم الفرنسية، ذاك المسيو المغربي الناطق دوماً بلغة مستعمر رحل وترك لسانه يرطن بين الناس.

المريض لا يقرر، لا يشاور، لا يخطط، لا ينتظر إلا ساعة طلاق بائن بينونة كبرى مع طبيب وصيدلي.

هي ثلاث سنوات عجاف، لم تمطر السماء فيها بحرف ولا كلمة ولا جملة ولا شهادة جديدة تفتح أبواب كلية من كليات جامعة العاصمة.

الحال مستمر على حالته، لا جديد تحت قبة السماء.

لا زال الحال على حالته،

ثلاث سنوات لم تأكل أيامَها ولياليها هنيئة مريئة.

الثواني، الدقائق، الساعات، الأيام، الشهور، السنوات الثلاث تزحف على بطنها في متاهات فراغ، متاهات مشارف ضياع،

النهارات قد تنام، الليالي تفتح عيونَها واسعةً لا تسبل جفناً على جفن إلا والناس تصحو من رقادها للرحلة المتبعة في يوم جديد،

"شلة" أصدقاء الدرب تصغر وتكبر، تلهو وترجع ذات صحو إلى جِدٍّ ليس من ورائه طائل، ليلهم ليال تلتهم الليالي، المنحدرات في طريقهم تعلو سقف المرتفعات، والمزالق كثيرات تتربص بهم،

الأسر مشغولة بتعب نهار يرقد مع الدجاج عشية كل يوم طويل،

البيت السعيد الذي قد تتأخر نومته إلى جناح مكسور من ليل هو البيت الذي مَنَّ الله على صاحبه بفائض من مال حلال متحصل من عمل ببنك، اقتنى به مذياعاً يملأ الدرب بأصوات ما تجود به محطات لا يستهوي الوالدَ منها إلا محطة القاهرة ومحطة لندن،

لاقط موجات الراديو الهوائية له تصميمٌ فريدُ نوعِه، كهربائي الحي أعد اللوازم تحت طلب صديقه البنكي يمكن أن ينفعه عند رغبته في توفير قليل من مال في البنك،

هوائي المذياع عمودان خشبيان رفيعان متينان تم تثبيت كل منهما على جدار مقابل للجدار الآخر، المسافة بين الجدارين تمتد على جسد طول المنزل العاري من سقف، الأسلاك النحاسية تمتد مشدودة إلى العمودين بأحجار عازلة عجيبة النوع والشكل، خيط الوصل مع المذياع ينام على ظهر الحائط المجاور لغرفة الوالد، يسير إلى أن يصل فتحة التوصيل بظهر المذياع الخشبي الرفيع من صنع ألماني ممتاز، تحفة فنية مذهلة،

يسافر الوالد كل ليلة بعد عرق نهار مع أخبار يحملها المذياع العجيب ترصد توترات إقليمية ودولية، كان البنكي قد عاش ويلات حربين كونيتين اكتوى بنار حارقة منهما في عز شبابه،

"لندن" تأتي بأخبار لا تناقش، هي الحقيقة، هكذا كان يقول... وتأتي سهرات السيدة من صوت العرب بالقاهرة، وتطول السهرة، وفي الفجر ذاك الفقيه العالم يفسر ما تيسرت تلاوتُه للمقرئ الأصيل من ذكر حكيم،

لا نوم مع الدجاج، والولد المريض لا ينام إلا وصاحب المذياع يتوضأ لصلاة فجر جديد.

هل كان يحلم وقتها أن يكون معلماً تغمزه جميلات الدرب وتبتسمن في وجهه؟

لا يتذكر اليوم أنه حلم بأن يصير معلماً... هو الآن عجوز لا يعتقد أنه كانت له أحلام،

كان يأكل وينام... ينام نهاراً، ويأكل ليلاً، ويتسكع مع "الشلة" إلى مطلع فجر،

كان يحفظ أنغاماً من العندليب الأسمر المعذب، وآهات من فيروز الهامسة بسحر لا ينضب، وكثير من أغنيات جادت بها أشرطة أفلام هندية في قاعات سينما شعبية لا تمنع التدخين، ولا تحرم شباباً مسافراً وراء أوهام حب هندي تتراقص على شاشة ليست ناصعة البياض من ترديد غناء لا تُفهم منه حروف ولا كلمات.

وتزحف الثواني والسنوات العجاف.

صدفة وجد نفسه معلماً.

لم يكن يحلم... ها قد صار معلماً.

كانت "الشلة" الليلية تبدأ السهرة داخل مقهى كان لا يستقبل الزبائن نهاراً، لم تكن له رخصة، كان يفتح الباب في وجههم مساء بعد انتهاء وقت العمل الرسمي، لم يكن أغلب رواد مقهى الدرب يهتمون لأمر الرخصة، المقاهي المرخصة بعيدة نوعاً ما، والسهرة قد تطول إلى جوف الليل، ساهمت التلفزة التي بدأ بثها الأول في الستينات على مَدِّ زمن الغرق بين لعبة ورق ولعبة بليار التباري على بطولات لا بطولة فيها، دوامة من كرات بيضاء تتسابق نحو الشباك، الريالات تنزلق إلى جوف الصندوق، الحماس لا ينقطع، الجيوب تفرغ، وكثيراً ما كانت تجرى بطولات أخرى في السر والعلن، رهان على مشروبات، رهان على تذاكر سينما، رهان على... نقود.

لم يكن من المراهنين على نقود لا يملك منها فائضاً عن واجب قهوة ساخنة أو مشروب بارد، وكان لاعباً ماهراً يتسابق الأصدقاء للعب جنبه في مباريات الثنائيات... كيف أصبح ماهراً؟ هو لا يعرف، ولم يحلم يوماً أو ليلة بأن يصبح لاعباً ماهراً... أو معلماً.

وهو اليوم عجوز، لا زال يحن إلى تلك اللعبة، لا زال يتقنها كأنه يلعبها الآن في مقهى ليست له رخصة، هي مهارات لا تشيخ، وعشق لا يرتفع.

لا يرغب اليوم في التعريف بأفراد "الشلة"، منهم من قضى نحبه مرحوماً، منهم من كان على ملة ثوريين وانتقل خلسة إلى ضفة أخرى يرهبها كل من كان يفكر في أمر محظور، ومنهم من فشل وراكم المشاكل، ومنهم من نجح وراكم الأموال، ومنهم من صار مثقفاً ولو خارج الديار،

ومنهم من صار... معلماً،

وما كان قد اختار.

كيف حدث ما حدث؟

حكاية كان لا يخفيها عن محيطه من أهل وأصدقاء وغرباء كلما دعا إلى تذكرها داع.

تلك الليلة من شهر أكتوبر من سنة اثنتين وسبعين وتسعمائة وألف، ليلة خريفية جمعت الشلة في مقهى بلا رخصة، ورق اللعب لا يستقر له حال، القهوة السوداء الرخيصة، ربما كانت هي أيضاً بلا رخصة، تجري من الشفاه إلى بطون فارغة، دخان يتصاعد ويهبط، نشرة أخبار بالعربية، نشرة أخبار بالفرنسية...

دشن، ترأس، زار، استقبل...

ركن المفتي،

كارتون،

وقليل من فرجة درامية.

اقترب منه صديقه المفضل "ع"... ألصق الشفة بالأذن:

"- هذا الأسبوع ستنظم مباراة للمعلمين المؤقتين.

- تمزح؟

- الإعلان منشور على جدار المدرسة الابتدائية.

- أعانهم الله.

- نجتازها.

- اضحك على نفسك.

- نتسلى.

- الليلة ورق وقهوة رخيصة، وغداً قهوة رخيصة وورق.

- لن أترشح وحدي.

- لا تهمني مباراتك، وزّع الورق يا معلم".

صدقاً، لم يكن يحب خلط الأمور كما يخلط أوراق اللعب بمهارة، لكل حادث حديث، لا يتذكر من عَلّمَهُ الفصلَ بين الأمور.

لم يعر اهتماماً لطلب صديقه "ع" وهو يلعب، وفي عمقه لم يكن رافضاً.

ما كان هدفه أن يصبح معلماً، أو أستاذاً، أو مديراً، أو مفتشاً، هو لا يعرف عن هذه المهن بأنها ليست مهنة، ليست مصدر رزق، ليست عملاً، ليست وظيفة، ليست رقم تأجير...

لم يؤمن بأنها أسمى من ذلك إلا يوم أدرك الفرق بين المهنة و... الرسالة.

تغاضى عن عرض صديقه، وفي عمقه أحب أن يكسر الروتين، الوالد يريد له مهنة أرقى مستوى من زاوية نظره إلى واقع الحال، كم مرة حدثه عبر الوالدة عن منصب محترم يريده له في أسلاك وزارة المالية، قطاع الجمارك.

لا يدري إلى اليوم، وقد رحل الوالد بسره، ما الذي كان يحكم رغبة ذاك الرجل البنكي الذي راكم في أعماقه وجع تجارب فقر ونضال ومقاومة استعمار... رجل صلب قوي خبر الحياة في زمن صعب ووقف على رجلين ثابتتين في أرض غير مستوية... هل كان الرجل البنكي معجباً بأحد أصدقائه في أسلاك الدولة؟ هل كان معجباً بلباس رسمي يحترمه الناس، وقد يخافون صرامته؟ هل كان يرى في الأمر ما لا يراه العجوز الآن من لا استعداد لديه ليكون من رجال السلطة على مكانتهم المحترمة؟

قبل أخيراً دعوة صديقه المفضل لاجتياز مباراة التعليم... أحبَّ أن يخوض تجربة تكسير الروتين، وبينه وبين نفسه، لو طرح عليه سؤال معلماته ومعلميه الآن لأجاب بأنه يفضل التعليم على غيره من الوظائف الكبيرة وكانت متاحة مشرعة الأبواب في وجهه... ربما كان يهوى العطل الصغرى والعطلة الصيفية الكبرى التي كان يتمتع بها زمن التمدرس،

هل كان يحن إلى طاولة وسبورة؟

- ما الوثائق المطلوبة؟

- شهادة مدرسية بمستوى الثانوي، شهادة ميلاد، وبطاقة.

- كلها متوفرة، نتوكل على الله، نقضي نصف نهار دون نوم نحن في حاجة إليه... متى المباراة؟

- بداية الأسبوع القادم.

- وعليه.

علاقة غريبة له مع الامتحانات، لا يتذكر يوماً منذ طفولته جلس فيه إلى أوراق يراجع استعداداً لامتحان،

كان يذهب إلى قاعة امتحان...، يتلقى الاختبارات... يجيب دون سابق إعداد... وينجح.

حتى تلك المباريات الداخلية للترقي في الأسلاك التعليمية لم يُحَضّر لأي منها حرفاً، وكان يترقى بالمباريات والتكوين، لم يترقَّ بأقدميةٍ طوال مساره.

أجمل ما فيه أنه ما سأل يوماً عن نتيجة امتحان أو مباراة خاض غمارها، كان دوماً آخر من يعلم، وكان يُرَتَّبُ في المراتب الأولى،

حتى تلك الشهادة السحرية الابتدائية ما سمع بنشر نتائجها إلا بعد يومين من إعلانها وهو يلعب مقابلة كرة قدم.

كثيرة هي الامتحانات والمباريات، اجتاز منها العديد وهو يترقى من معلم إلى أستاذ السلك الأول الإعدادي، إلى أستاذ السلك الثاني الثانوي.

نهل تكوينه في مركز تكوين المعلمين والمعلمات، والمركز التربوي الجهوي، والمدرسة العليا للأساتذة... هكذا بانسيابية لم يخطط لها يوماً.

عرف امتحانات قبول، امتحانات مرور، امتحانات تخرج، وكثيراً من محطات تقويم، ومباريات ترقية داخلية... كلها مرت بنجاح، دون تحضير مسبق.

وكانت مباراة المعلمين المؤقتين أولَ محطة، تَرشّحَ بتحريض من صديقه "ع" المفضل لتخصص اللغة العربية... صديقه المفضل "ع"، كان صاحبَ الفكرة، وكان صاحب الفضل عليه في ولوج عالم صار به وله إنساناً آخر لم يحلم بأن يكونه، ولم يخطط ليصيره.

اجتازا المباراة في ظرف ثلاث ساعات،

نص للشكل، أسئلة فهم، أسئلة لغة، وإنشاء.

لا يتذكر اليوم الموضوع، ما يتذكره هو...

أنه كان من الناجحين،

وكان صديقه من الراسبين...

وها قد صار معلماً.

لعبة قدر؟

ربما...

(للاسترجاعات امتدادات)

***

نور الدين حنيف

......................

1-Heidegger-Le mot de Nietzsche- Gallimard-1962- p281

 

كتب الناقد الادبي البارز فاضل ثامر في كتابه "الصوت الاخر" الصادر عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد عام 1992، في تقديمه، بدلا عن المقدمة: لقد اصبح من الضروري جدا للناقد العربي ان يعيد النظر في منطلقاته النقدية التي اعتاد عليها وان يسعى لاعادة تشكيل رؤياه النقدية في ضوء جديد.

 واشار في تقديم كتابه: المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي، الصادر عن دار المدى، بغداد، عام 2000 " ان رؤيتي النقدية تندرج ضمن مسعى نقدي عربي يحرص على المزاوجة بين المنظورين الجمالي والاجتماعي في خطاب السرد العربي الحديث، وهو يمثل مواصلة لتجربتي النقدية خلال اكثر من ثلاثة عقود".

خلال مراحل عمره الادبي، وتجربته النقدية، وقد نشر كتابه النقدي الاول، مشتركا، عام 1971، ومنذاك استمر الناقد في تطوير ادواته وخطابه النقدي، بفهم واضح ووعي منهجي، تصاعدا نحو المشاركة في استخدام مصطلحات له في اطار المنهج النقدي الادبي، الذي اختاره وواصله موضحا ذلك في كتابه المبنى الميتا - سردي في الرواية، الصادر عن دار المدى، بغداد عام 2013 في قراءات نقدية لعشرات الروايات والروائيين، في ضوء العنوان والتحليل النقدي والممارسة الادبية.

ويبدو ان نزعة ما وراء السرد او ما وراء الرواية (او الميتا سرد) meta-narration هي ايضا جزء من انفجار " الميتا" وتناسلها الذي شمل جميع العلوم والمعارف الاجتماعية والفكرية. كما عرّف الناقد عنوانه "فالميتا سرد، في الجوهر، هو وعي ذاتي مقصود بالكتابة القصصية او الروائية يتمثل احيانا في الاشتغال على انجاز عمل كتابي او البحث عن مخطوطة او مذكرات مفقودة وغالبا ما يكشف فيها الراوي او البطل عن انشغالات فنية بشروط الكتابة مثل انهماك الراوي بتلمس طبيعة الكتابة الروائية ")ص.(8

اكد الناقد ان هذا النزوع قاد في المعارف الانسانية الى توليد سلسلة من المفاهيم والمصطلحات الجديدة التي راحت تنضوي تحت لافتة مصطلح شامل هو "الظاهرة الذاتية" auto-phenomenon . واضاف كما هو معروف حديثا في الدراسات النقدية وان كنت شخصيا افضل ان اجترح له مصطلحا اشمل يعبر عن ذلك هو مصطلح auto-reference اي "المرجعية  الذاتية" (ص8). وكتب في الموضوع ونشر عنه نظريا مستمرا منذ عقود من الزمن، الا انه كما افاد انه يفحص النماذج الروائية العربية التي استفادت من هذا الضرب السردي، "واكتب عنها دراسات نقدية تطبيقية وتحليلية مستقلة من دون ان الزم نفسي بكتابة كتاب اكاديمي او منهجي منضبط لتجليات الميتا- سرد في الرواية العربية" (ص9).

تابع الناقد من خلال ذلك ما رصده في الروايات العربية ودرس بمنهجه وتحليله لسرديتها وتبنيها او كتابها للميتا سرد فيها. مطورا نظرته النقدية وخطابه الثقافي في النقد والتقييم والاشارة الى موضوعه واجتراحه للمفهوم النقدي الشامل وتطوير ادواته في منحى الروايات التي درسها في هذا الكتاب وغيره من الكتب المتميزة له.

  تفرد الناقد فاضل ثامر من خلال هذا الكتاب وباقي اصداراته النقدية  ومقالاته ودراساته في جدية التطبيق النقدي لابرز ما في المشهد الثقافي، ولا سيما الروائي منه، وباهتمام في قراءة ومتابعة فنية وثقافية يشهد له فيها ويسجل له رصده وتحليلاته النقدية الادبية في اطار منهجه الثقافي الذي تقدم معه زمنيا، وفي توصيف وتحليل وتقويم المنتج الابداعي العربي.

 وبخصوص موضوعه اكد من البداية، انه "من المهم ان ندرك ان هذا اللون من "الميتا" يفترض القبول بالعقد الافتراضي بين المؤلف والقاريء على عد هذا النص لعبة كتابية صرف" (ص8) وسجل انه تفحص النماذج الروائية العربية التي راحت تستفيد من هذا الضرب السردي، وكتب عنها دراسات نقدية تطبيقية وتحليلية مستقلة. واضاف "وكتابي النقدي هذا احتفاء بانجازات السرد العربي بقدر ما هو فحص لأحد مظاهر تجلياته ما بعد الحداثية واعني به المظهر الميتا سردي فيه" (ص10).

في عناوين دراساته ومقالاته توضيح واثبات للهدف من الكتاب وما سبق ذكره. وفيه تبرز متابعات الناقد الجديرة بالملاحظة وطاقته النقدية في قراءة هذه النصوص السردية وشبكات ارتباطاتها النصية او التاريخية او التقارب والتباعد عن نصوص مشابهة او سابقة لها. مؤكدا على قدرات سردية وامكانات فنية لدى كتاب الروايات التي درسها، وناقدا لها واساليبها بما يقدم منهجا وبحثا وطاقة مشتركة بين الروائي والناقد، وبين النص السردي والدراسة التحليلية.

من اول مقالة في الكتاب بعنوان: (الميتا- سرد) ونرجسية الكتابة السردية، سلط الضوء على روايات عدة أستخدم روائيها هذا الاسلوب، وحللها بمنهجه النقدي، بدء من رواية "سابع ايام الخلق" للروائي عبد الخالق الركابي، واعلان الراوي عن نيته كتابة تاريخ اسرته وعشيرته التي ينتمي اليها، مواصلا كتابة مخطوطة السيد نور التي ظهرت في رواية سابقة له بعنوان "الراووق"، ورواية القاص محمد خضير "كراسة كانون" ورواية "رغوة السحاب" للقاص محمد عبد الوهاب، والتقنيات الفنية التي اتبعها كتابها، وكذلك في القصة القصيرة الطويلة، "تيمور الحزين" للقاص احمد خلف الذي نسج فيها ثنائية سردية قائمة على سردين؛ معاصر وتاريخي من خلال قراءة وفحص مخطوطة تراثية، سبق للقاص ان قدم بواكير تجربة مقاربة في روايته "الخراب الجميل"، كما حصل مع الروائي غائب طعمة فرمان وروايته "ظلال على النافذة "، وجبرا ابراهيم جبرا وروايته "صراخ في ليل طويل" وانغماس بطلها بكتابة تاريخ اسرة فلسطينية ارستقراطية عريقة من خلال اكداس من المخطوطات والرسائل والاوراق العائلية، ومثله بطلة القاصة لطفية الدليمي في "عالم النساء الوحيدات" بفحص وقراءة مذكرات الانسة "م" التي شكلت نصا سرديا داخل النص الأصلي، وكذا عند القاص فؤاد التكرلي في "همس مبهم"  ورواية "اوتار القصب" لمحسن الموسوي، ورواية "بابا سارتر" للقاص علي بدر، الذي انهمك بطلها بكتابة سيرة حياة فيلسوف عراقي وجودي افتراضي وتخيلي. وهناك طبعا نماذج عديدة في الرواية العربية تنحو مثل هذا المنحى التجريبي في الكتابة السردية.

اثار هذا اللون من التجريب في فضاء البنية السردية اعتراضات وتحفظات كونه وافدا جديدا يعتمد بشكلٍ أساسي على "إنشغال ذاتي من قبل المؤلف بهموم وآليات الكتابة السردية. اذ نجد الروائي او القاص منهمكا بشكل واع وقصدي بكتابة مخطوطة او سيرة او نص سردي آخر داخل نصه الروائي أو القصصي"(ص14). وواصل الناقد نقاشه عن المصطلح والمفهوم وانشغال النقاد والمنظرين والروائيين طيلة اكثر من (ثلاثة عقود) وتحديدا منذ منتصف ستينات القرن الماضي بفحص وتحليل وتقييم هذا اللون الجديد من الرواية، مفصلا المصطلحات التي تناولت ودرسها النقاد، خاتما بما رآه الكاتب انغريد كرستنسن في خاتمة كتابه بالاشارة الى أن كاتب (ما وراء الرواية) مع انه يحاول توفير خلاص فردي له ولقارئه، فهو لا يستطيع ان يظل بعيدا عن تحمل مسؤولياته العامة (ص33). اي ان الروائي يخطط او يضع مخططا لمشروع الرواية، فيكتب اكثر من نص سردي في الرواية، رواية داخل رواية، تتداخل فيها النصوص السردية، وتجمع الرواية، عتبات: العنوان الرئيسي او ما يسجل على الغلاف او الاشارات التقديمية مع اساليب روائية متعددة، ونصوص مكتوبة بروح الرواية او بلغة السارد، المتكلم، او الشاهد الثاني، والابطال الثانويين المكملين للرواية، الملحمة، النصوص المتداخلة او المركبة. لينتهي بالاخير بانتاج استراتيجية سردية حديثة او ما بعد الحداثة، يشغل القاريء بها ويشده اليها.

لاحظ الناقد ان كثيرا من الروائيين والقصاصين العرب قد كشفوا عن وعي كامل بشروط الكتابة الميتاسردية او الميتاروائية في وقت مبكر نسبيا وربما قبل ان يطلعوا على الاطروحات النظرية لهذا اللون السردي (ص57). واستفادوا من تجربة الادب العالمي في توظيف شخصية المهرج او البهلول او المجنون لتمرير بعض الاحكام والافكار التي لا يمكن للانسان العادي ان يعبر عنها ولقول ما يمكن قوله مثل المسكوت عنه لاعتبارات سياسية واجتماعية ودينية، وقد عبر الاديب هانس كرستيان اندرسن في واحدة من قصصه العميقة ونعني بها "ملابس الامبراطور" عن مسكوت عنه سياسي عندما قال ان الامبراطور كان عاريا. كما وجدنا ان مسرحيا كبيرا مثل شكسبير يوظف في الكثير من مسرحياته شخصية المهرج او البهلول، كما هو الحال مثلا في مسرحية "الملك لير". (ص ص 54-55). مشيرا الى روايات مؤنس الرزاز، وامين معلوف، وامتدادا في رواية "بنات الرياض" للروائية رجاء عبد الله الصانع، ورواية "امراة القارورة" للروائي سليم مطر، مؤكدا على قدرات مزاوجة موفقة بين مستويات السرد الواقعي الحديث ومستويات السرد الواقعي السحري او الايهامي وبافادة واضحة من المبنى الميتا سردي في الرواية الحديثة (ص82). نماذج او شهادات لما درسه في الروايات الاخرى التي ضمها الكتاب.

كما حلل رواية "في انتظار فرج الله القهار" للروائي سعدي المالح بانطوائها على مستويات سردية متنوعة وتحفل ببنية سردية بوليفونية (تعددية)من خلال تخلي الروائي، او راويه الضمني عن سلطته الاوتوقراطية واحالة السرد الى الشخصيات ذاتها من خلال سرد داخلي مبؤور تفصح فيه الشخصيات عن منولوجات او حوارات ثنائية (ص91). منتهيا الى ان هذه الرواية عراقية "بحق تتحدث بفنية عالية عن الوجع العراقي وعن هذا النسيج الاجتماعي الاثني واللغوي المتنوع والثقافي الفسيفسائي المتباين للمجتمع العراقي"(ص104). وراى الناقد فاضل ثامر في التحقيق الصحفي بنية ميتا سردية، في رواية الروائي علي بدر "الركض وراء الذئاب"، وكذا هو الحال في رواياته الاخرى، التي "هي بدرجة محسوسة روايات ميتا سردية حيث القصدية الواضحة في الكتابة؛ ثمة نصوص ووثائق وحقائق ولقاءات وتسجيلات تتراكم لتشكل المتن السردي الذي يخلقه بمهارة علي بدر ويشكله بسهولة خادعة" (ص106).

دراساته للعديد من الروايات توضح منهجيته في التاكيد على اساليبها السردية ومقارباتها الميتا سردية وقدرات الروائيين فيها. فاشار الى توظيف الروائي شاكر الانباري في روايته "بلاد سعيدة" عنصر المفارقة منذ العتبة الاولى للنص المتمثل في العنوان "بلاد سعيدة"، فالنص الروائي هو صورة شبه قاتمة ودموية للعراق خلال ما يقرب من أربع سنوات من عمر الزلزال الذي ضرب النسيج الاجتماعي العراقي، ولا صلة له بالواقع اليومي المنسوج بمرارة. واضاف ان المؤلف وزع بمهارة مكونات سيرته الذاتية على شخصياته الروائية (ص118)، وان الرواية مكتوبة بنفس واحد ومتواصل وكانها منولوج طويل او جملة نحوية واحدة لا تقطيع حقيقي فيها ولا تمفصلات زمانية أو مكانية فيها والأحداث تتناسل في حركة لولبية متصاعدة (ص124). وواصل في تحليله لرواية "المنعطف" للروائي مجيد حنون وثيماتها المركزية وتشظيها وجرأة مؤلفها فيها، واتخاذه نسقا سرديا دائريا يبدا من النهاية، ومشاركة رواتها في صناعة الحدث الروائي.

كما وضع الناقد في دراساته وتحليله للسرديات وملاحظاته الادبية النقدية خاتمة لقراءته النقدية يخلص فيها الى موقع الروائي والرواية من البنية الميتا سردية، من جهة، والمشهد الثقافي العراقي او العربي، من جهة اخرى. كما كتب في خاتمة تفكيكه لرواية عبد الله صخي "خلف السدة" بانه يقدم شهادة حارة وحية عن حقبة خطيرة من تاريخ الشعب العراقي والى حد ما عن حياة جيل الروائي، وبذا تتحول الرواية الى نمط خاص وغير مباشر للمبنى الميتا سردي في الرواية (ص146). وكذلك مع دراسته لرواية "تقاطع ازمنة"، للقاص محمود الظاهر، ومع الملاحظات النقدية "فهذه الرواية تؤكد لنا قدرة المؤلف على التواصل والبحث والتحديد والاجتهاد في ظروف متبدلة زمنا ومكانيا"( ص158). وكذلك مع رواية موسى كريدي الوحيدة "نهاية صيف"، المنشورة في بغداد عام 1995، "هي نبوءة بنهاية الداهية/ الطاغية، وهي شهادة شجاعة لكاتب عراقي في زمن كان فيه الكلام الشجاع مصادرا"(ص169). كما ذكر ذلك عن رواية مجيد حنون.

في دراسته لرواية القاص والروائي احمد خلف "الحلم العظيم" كشف عن جوهر ميتاروائي او ميتاسردي منذ بدايتها (ص171). وبعد تحليلها وملاحظاته النقدية حول بناء الشخصية الاشكالية لبطلها وتطور دوره فيها اكد الناقد آن الروائي دخل لعبة ما وراء السرد او الميتاسردية بدراية ومهارة "وهو يصنع لنا عوالمه السردية المدهشة"،(ص180). وكذلك عن رواية الدكتور محسن الموسوي، اوتار القصب، التي خلق مؤلفها رواية ميتاروائية اكثر من ميله لكتابة رواية تقليدية (ص184)،  ورغم فتنة النص المتفرع ثبت الناقد ان الرواية "بوصفها ميتارواية تلفت بشكل خاص الى تقنيتها، وهي تميز بالادراك الذاتي لشكلها البنيوي" (ص184). ولاحظ ذلك ايضا في رواية الناقد والروائي عباس عبد جاسم، "السواد الاخضر الصافي".

استعاد الناقد مع رواية القاص والروائي فهد الاسدي "الصليب حلب بن غريبة" مساحة ثقافية وفنية تاريخية، وتتبعه انشغال الروائي بموضوع الرواية وتقديمه باكثر من نص، وصولا الى نشره بعنوان الرواية، التي وجد فيها تطويرا للوعي القائم الى الوعي الممكن، كما وضعه في عنوان دراسته، ومثيرا رايه في الرواية من الناحية الفنية والسردية، وبعض التساؤلات حول الطريقة التي اعتمدها الروائي في توظيف "اللغة"! الشعبية والريفية ومحاولة تفصيلها، او الابقاء على مفردات شعبية مثل (الهوسات) الشعبية وغيرها، (…) وكذلك بعض الاشكاليات الخاصة بطريقته في تحقيق لون من التناوب السردي في المنظورات ووجهات النظر الخاصة بالشخصيات الروائية الرئيسة (ص198). خاتما ان الرواية كتابة من نوع جديد، كتابة سردية بالتاكيد لجوانب من تاريخنا الاجتماعي والسياسي ومن نضالات جماهير الفلاحين العراقيين في النصف الاول من القرن العشرين (ص199).

توقف الناقد فاضل ثامر، اضافة الى الاساليب التي تفنن بها الروائيون، الى المواضيع الرئيسية في اعمالهم السردية، والدلالات الفنية وحتى الرمزية فيها. فمثلا درس الهوية السردية للمدينة في روايتي محمد خضير " بصرياثا: صورة مدينة"، ورواية مهدي عيسى الصقر "المقامة البصرية العصرية: حكاية مدينة"، مسهبا في تفاصيل النظرية وروادها، مركزا على انشغال الروائيين في الزمن والتحرك عبر امتداد زمني وتاريخي افقيا وعموديا، وعلى مساحة طبوغرافية ومكانية عريضة،(ص209). وكذلك درس مخطوطة العائلة والميراث الميتاسردي في رواية عبد الخالق الركابي "الراووق"، وعدد من. رواياته الاخرى، خاتما "الروائي عبد الخالق الركابي في ثلاثيته الروائية او رباعيته الميتاسردية وفّق الى حد كبير في تحقيق فهم عميق واستثنائي اللعبة السردية عموما ولاسرار وشروط اللعبة الميتاسردية " (ص260). وشهادة شخصية مهمة عن تجربة دامية في اللعبة الميتاسردية في رواية "قشور الباذنجان" لعبد الستار ناصر، مسجلا "بنية الرواية تعتمد على لعبة ميتاسردية ماكرة،لا تخلو من بعض عناصر القص البوليسي القائم على التوتر ، وعلى الرغبة في الكشف عن المجهول والغامض، ويتم فيها السرد من خلال سلسلة من المنولوغات الداخلية"(ص293). ومثله رحلة افتراضية ميتاسردية في تخوم المجهول في رواية حميد المختار "صحراء نيسابور"، التي اعتبرها الناقد " مغامرة روائية فريدة غير مسبوقة في الرواية العراقية، يمكن ان تقارن فقط ببعض نصوص القاص جمعة اللامي الاخيرة وبشكل خاص "مجنون زينب" و"عيون  زينب" (ص303).وتوقف عند لغة الموروث الشفاهي ولغة السرد الحديث في رواية جهاد مجيد "حكايات دومة الجندل"، وروايات اخرى لروائيين عراقيين  ضمن منظور تجريبي حداثي، ومنحى ميتاسردي، واعتماد الرواية هذه على مجموعة من المخطوطات المدونة والمرويات الشفاهية لتكوين متن نصي متكامل متمحور حول دومة الجندل (ص307). وما اثاره فاضل العزاوي في روايته "الأسلاف" في اتكاله على المخطوطة كنص سردي مستقل وتوظيفها في النصوص الميتاسردية، واقامته "حوارا وتعالقا نادرا بين ما هو واقعي وغرائبي وبين ما هو خيالي وما هو حسي بطريقة مليئة بالسخرية والكوميديا السوداء التي تسخر من كل ما هو قبيح ومعاد للحياة والحرية ، لكنها في الوقت ذاته لا تفقد الأمل ابدا"(ص326). وما قراه في رواية لطفية الدليمي "سيدات زحل " ومعاناة المرأة الكبيرة في اصعب سنوات المحنة في العراق، وشهادتها الحارة والصادقة والصارخة فيها كاضافة مهمة في سفر الروائية السردي. وصناعة الطاغية في الميتا سرد، في رواية زهير الجزائري "الخائف والمخيف" وغيرها، ليشرح صناعة الطاغية والمجتمع الذي يسحقه الطغيان.  ودرس بتان رواية جمعة اللامي "مجنون زينب" مرورا بإبداعاته القصصية ورمزية زينب فيها، مؤكدا "رواية "مجنون زينب" جزء من لعبة ميتا سردية ماكرة يتقن شروطها المؤلف وياخذنا فيها الى تخوم ميتافيزيقية وعرفانية نورانية لكنه لا ينسى ان يعود بنا ثانية الى قاع الواقع اجتماعيا  وفكريا وسياسيا"(ص347). كما حلل او فكك نقديا عددا من روايات روائيين عرب، وجد فيهم نماذج للميتا سرد، كصنع الله ابراهيم، ويوسف زيدان وعلوية صبح، وحسن حميد، ومحمد الأشعري وربيع جابر وواسيني الاعرج وغيرهم ايضا.

في فصل الختام للكتاب، من 450 صفحة من القطع المتوسط، وعلى الغلاف الاخير منه، يذيل الناقد فاضل ثامر في استذكار لعدد من كتاب القصة في العراق الذين تمكنوا من التجريب واستخدام لعبة الميتا سرد في قصص لهم منشورة في مجموعات قصصية، كعبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وعبد الرحمن الربيعي ويوسف الحيدري وخضير عبد الامير مع اسماء درس رواياتها واشار اليها، وهو يستعرض معها منهجه النقدي ومصطلح الميتا سرد الذي اعتبره تطورا فنيا في السرد العربي، وتواصل تطبيقيا مع استخدامه واساليبه والتفنن في لعبته وصناعة رواية، ميتا سردية، بتحليل ونقد ودراسة ناقد متابع ومتقدم معها، كما سجل منحنيات منهجه وتطوره نقديا وثقافيا في كتبه التي نشرها وتشهد له، قامة نقدية حداثية.

***

كاظم الموسوي

بقلم: سلمى الورداني

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

تتحدث سلمى الورداني عن القصص الخيالية والعلاقات الأفلاطونية الدائمة والنهايات السعيدة التي تخلو من  الرجال.

***

الحكاية الخيالية الحقيقية، التي لم تُكتب قط، هي أنه بمجرد أن يناسب الحذاء الزجاجي، ينتهي النوم الطويل، ويتغير قانون البلاد، فتخرج سندريلا والجميلة النائمة وياسمين لتناول الغداء يتحدثن عن وظائفهن، ويناقشن هواياتهن، ويتبادلن الملاحظات حول حياتهن الجنسية ودوراتهن الشهرية..

بعد عقود، وبعد أن طلقن جميعاً أمراءهن لأنهم، لنكن صادقين، لم يكونوا ليشاركوا في أعمال المنزل أو تربية الأطفال، وبعد سلسلة من العشاق والشركاء والعلاقات التي جاءت وذهبت من حياتهن، ما زلن يجتمعن كل أسبوع، لتكون صداقتهن هي العلاقة الحقيقية الثابتة والمستمرة في حياتهن. لو كانت تلك القصة قد حُكِيت لنا، لو كانت تلك هي الحكايات الخيالية التي استهلكناها كأطفال، لكان من الممكن أن تكون الحياة مختلفة تماماً اليوم

لقد شكلت قصة العلاقات الرومانسية، والرجال الجذابين، والزواج، والأطفال عالمنا. وقد ساعدت هذه القصص النساء على عبور عتبات الزواج، وأبقتهن في علاقاتهن الزوجية، وساهمت في زيادة عدد سكان العالم. ومع ذلك، فإن قصة الصداقة النسائية، التي يمكن القول إنها العمود الفقري لتلك الزيجات والأطفال، هي واحدة من القصص التي أهملنا روايتها، وبهذا فقد أسأنا إلى النساء بشكل كبير.

بالطبع، لقد تناولنا الصداقة النسائية في الثقافة الشعبية، ولكن غالبًا ما تُروى كحل مؤقت قبل أن تصبح المرأة زوجة وأمًا. إنها الشيء الذي تستمتع به الشابة في العشرينيات من عمرها قبل أن تبدأ الأعمال الجادة في الحياة، وتصبح الصديقات اللائى كانت تخرج معهن مجرد ترف لا يمكن للأم تحمله.

كانت إليزابيث بينيت وشارلوت لوكاس صديقتين مقربتين حتى حل دارسي وكولينز محل صداقتهما، ورغم أنني أود أن أصنف رواية "كبرياء وتحامل" على أنها رواية عن الأصدقاء، إلا أنها ليست كذلك. وكثيراً ما يُستشهد بمذكرات بريدجيت جونز كمثال للصداقة في الأدب، ولكن فكرة أن بريدجيت تهتم بأي شيء بقدر اهتمامها بالعثور على "الشخص المناسب " فكرة سخيفة بكل صراحة.

لقد تناولنا الصداقة النسائية في الثقافة الشعبية، لكن غالبًا ما تُروى كحل مؤقت قبل أن تصبح المرأة زوجة وأمًا.

بالطبع، فإن كل فيلم كرتوني من إنتاج ديزني، وكل كتاب من تأليف صوفي كينسيلا، وكل فيلم من أفلام نيكولاس سباركس يتحدث عن نقطة جانبية تتعلق بالصديق الموثوق الذي تحتاج إليه كل فتاة، ولكنها في نهاية المطاف تعمل كمؤشر للطقس، يوجه جيوش النساء والفتيات نحو الزواج.

هناك استثناءات نادرة. لقد علمتني لوسي مود مونتجمريعن جمال الصداقات النسائية وأظهرت لي كيف يمكن أن تبدو. علاقة آن وديانا هي القصة الحقيقية للحب في تلك السلسلة، بينما يُعد جيلبرت اهتمامًا ثانويًا بالحب.عندما انتهيت لأول مرة من رواية آن في المرتفعات الخضراء لأول مرة، مزقت ورقة من دفتر ملاحظاتي وكتبت نفس الكلمات التي كتبتها آن إلى ديانا:

عندما يسدل الشفق ستائره،

وتثبتها بنجمة،

تذكري أن لديك صديقة،

حتى لو كانت بعيدًا.

ذهبت فورًا إلى منزل أعز صديقاتي وألقيت الرسالة في صندوق بريدها. بالمثل، فإن العلاقة بين "يا-يا" في رواية ريبيكا ويلز هي القلب النابض للكتاب . أما الأزواج فهم مجرد فكرة ثانوية، يتم ذكرهم من حين لآخر ولكنهم لم يحظوا قط بمركز الصدارة.

لقد روت هذه الكتب قصة الصداقة بين النساء، وبهذا علمتني كيف أظهر أمام صديقاتي. ولكنني نتاج بيئتي، وفي مقابل كل مثال على الصداقة بين النساء، كنت أستهلك عشرين مثالاً عن الحب الرومانسي؛ ومثلي كمثل العديد من النساء الأخريات، وقعت في رغبة الحصول على حكاية خرافية تتضمن ماسة كبيرة، وزفافًا أبيض، وحلم ما سيكون عليه أطفالي يومًا ما.

وبعد مرور بضعة أيام على تحطم قلبي وعلاقة مسيئة، وجدت نفسي عازبة في المدينة، أتخيل وأعيد بناء حياة جديدة تمامًا لنفسي. كانت هذه الحياة ممكنة بفضل النساء الرائعات اللواتي كن بجانبي. النساء اللواتي حملنني بعد كل خيبة أمل، ومسحن الدموع من وجهي، وأطعمنني عندما لم أكن آكل، وأكدن لي أنه تحت أي ظرف من الظروف، لم يكن ذلك خطئي.

هن اللواتي ذهبن معي إلى الفراش عندما لم أستطع الخروج منه، وبكين معي عندما أجهشت بالبكاء، واحتفلن بالوظائف والترقيات وتأكدن من وصولي إلى كل وجهة بأمان. كانت صديقاتي أكثر دعمًا وثباتًا وحبًا ورومانسية من أي رجل في حياتي.

لقد كنت مصرة على أن هذه القصة لن تنتهي خلف الكواليس، بل ستكون واحدة من أسعد النهايات التي عرفتها على الإطلاق: إنهاء اليوم برفقة صديقاتك، تضحكين، تتحدثين، تبكين، تمزحين.

ليس من المفاجئ أنه عندما كتبت روايتي "هذه الأشياء المستحيلة"، كنت أرغب في كتابة قصة تكون بمثابة رسالة حب للصداقة النسائية. كنت أعلم أنه بغض النظر عن الشخصيات التي تقع في الحب أو تتزوج، فإن القصة الحقيقية للحب ستكون بين النساء. كنت مصممة على أن هذه القصة  لن تنتهي خلف الكواليس، بل ستكون واحدة من أسعد النهايات التي عرفتها: إنهاء اليوم برفقة صديقاتك، تضحكين، تتحدثن، تبكين، وتمزحين.

بصفتي راوية قصص، فأنا مدركة تمامًا لكيفية جعل قرائي يشعرون، ورغم أن إنهاء رواية بشريط تقليدي وكعكة زفاف قد يبدو جيدًا للحظة، لا أستطيع تحمل فكرة أن امرأة ما في مكان ما في العالم ستشعر بخيبة أمل أو بالفشل في حياتها لأنها لم تجد رجلًا أو لم تنجب طفلًا بعد. لن أكون السبب في شعورها بالفشل لعدم تحقيق معيار اجتماعي عفا عليه الزمن، ولنكن صادقين، ليس كافيا لنصف ما تُقدمه الصداقات النسائية.

لذا، أكتب قصصًا مختلفة. قصص عن النساء وجمال الصداقات النسائية الدائم. نساء يرغبن في المزيد من حياتهن بدلاً من قضاء أيامهن في الجدال حول من كانت آخر من أفرغ غسالة الصحون. أكتب نهايات سعيدة لا تتضمن الرجال.

أحكي قصة أتمنى أن تبدأ في تشكيل ممارساتنا الثقافية ومعاييرنا، وتذكير النساء بأن أعظم حب في حياتهن لن يكون الرجل الذي تزوجتيه أو الذي يجب أن تحصلي عليه، بل النساء اللواتي كن بجانبك طوال الوقت.

***

..................

* رواية هذه الأشياء المستحيلة تأليف سلمى الورداني

* الكاتبة: سلمى الورداني كاتبة وشاعرة ومذيعة في بي بي سي. كإمرأة نصف مصرية ونصف إيرلندية، تركز أعمالها على سرد قصص النساء، خاصة النساء ذوات البشرة الملونة، اللاتي تم تجاهلهن لفترة طويلة. وهي مؤلفة كتاب "هذه الأشياء المستحيلة" وساهمت في مختارات "لا يتعلق الأمر بالنقاب"، كما ظهرت كتاباتها أيضًا في هافينجتون بوست وميترو. كما ألقت محاضرتين في مؤتمر تيدكس.

 

في نص: ماذا لو أوقفت

ماذا لو أوقفت

كما وقفتي الزمان هنا

أوكما وقفة

برج إيفل

فأستعيد كل أزمنة

تسربت كنهر "السين "

من تحت جسور

السنين؟!

قد أحكي صمتا

أو بالميكروفون

فتسمعني "سيدة باريس "

فتأتيني  إسمرالدا

بالخبر اليقين

تبخر مع قفزات

زمان أحدب

ضل طريقه

بين نسيان وحنين…

وقفتي هنا

تعلن بالصمت

ونظراتي

الماوراء العين

أن البعد

وبين البين

شاسعان

كفضاء القيامة

وهكذا نظل

إلى حين …

***

نص الشاعرة المغربية: سعاد عبيد الله[1]

***

حينما يكون الشاعر في اوج توهجه الإحساسي، فذاك ناتج عن تماس طاقي بين نورونات بالفص الأيمن للمخ الخاص بكل ما هو عاطفي وفني وإبداعي كما تخبرنا الأبحاث العلمية. هنا تتحرك الطاقة الإبداعية بين النورونات لتطعم الشاعر خيالا جامحا، نتيجة لتفاعله مع حالة ما فتتلقفه اللغة لتجعل منه رموزا أكثر تعبيرية من لغة متداولة على مستوى الصفر. لهذا يقال بأن الشعر هو أقصى درجة التعبير اللغوي. أما عن كيف طفح هذا التوهج؟ ولماذا في هذه اللحظة بالذات؟ هو ما سوف نحاول تحسسه، ما دمنا في عالم الإحساس من خلال مقاربتنا الثقافية لهذا النص للشاعرة سعاد عبيد الله من المغرب.

القصيدة، تبدو لنا كأنها مستنيرة بشتى شهب تناص متعدد لا يمكن إغفاله، وهي تأخذ من الزمان مركبة لتعبر بنا كل مناحي متعة القراءة. ما علينا إلا اكتساح النص والاستمتاع بتفجيرات الشهب الشاعرية.

الشهاب الأول: وقفة الشاعرة على جسر على نهر السين بباريس  حيث يظهر برج إيفل، هذا ما نفهمه من خلال النص. وأول ما يمكن استحضاره هو هذا التناص مع قصيدة: "البحيرة"[2] للشاعر الفرنسي ألفونس دو لامارتين حيث يقول في أحد الأبيات:

"يا أيها الزمن، أرجئ رحلتك، أيتها الساعات المناسبة!

أرجئي انسيابك:

دعينا نتذوق الملذات السريعة

لأجمل أيام لنا!"

وهي الفكرة التي نجدها عند الشاعرة في قولها: "ماذا لو أوقفت/ كما وقفتي/ الزمانَ هنا/ أو كما/ وقفة برج إيفل...". هي رغبة في إطالة هذا الاستمتاع بالجو الباريسي. استمتاع مستحق تريده أن يطول كما تعبر عنه بجملة اعتراضية تشبيهية: "كما وقفتي...أو كما وقفة برج إيفل". استمتاع جعلها تمتح من ثقافتها المزدوجة وتستحضر كذلك، عن وعي أو لا وعي شاعرا فرنسيا آخر، وهو أبولينير.

الشهاب الثاني: دائما في نفس السياق ومن نفس المكان، نلمس تفاعل الشاعرة مع نص"جسر ميرابو"[3] للشاعر ابولينير. فنستحضر بطبيعة الحال فكرة "هروب الزمان" كما تنساب مياه نهر السين. وهو ما نجده عند شاعرتنا حيث تنطلق من الاحتمال الذي أشرنا إليه سابقا، والذي نلمس فيه ذلك التناص مع قصيدة "البحيرة": "ماذا لو أوقفت الزمان هنا" كما وقفتها هي فوق جسر على نهر السين، "لتعيد أزمنة تسربت تحت جسر السنين". إلا أن هذا التناص، ليس تناصا متطابقا. فهو تناص استعاري إذا صح التعبير، حيث استعارت فكرة انسياب الزمان الذي نجده كذلك عند أبولينير. إلا أنها تربكنا بهذه الصورة الرائعة حينما جعلت من السنين، ما يعني سنين العمر، جسرا، انسابت من تحته أزمنة تمنت الشاعرة لو رجعت. ما يؤدي بنا إلى القول بأن الشاعرة تتأسف على أزمنة مرت في حياتها، ربما هي الأجدر بهذه اللحظة، على جسر فوق نهر السين. وربما كانت قد غيرت مسيرة حياتها. هو حنين إلى ماض ربما لم يأخذ من حقه في الحياة، فتريد إحياءه على الأقل بهذا الإحساس المر. هكذا يصبح التناص إبداعا وتفردا في التخيل غذى صورتها بمخزون ثقافي يؤدي مهمة التعبير، هي المتشبعة بالأدب الفرنسي، في لحظة وقوف وتأمل من فوق جسر باريسي، كما فعل ذات زمان الشاعر أبولينير، وبالقرب من برج إيفل. وهنا نجد الشهاب الثالث.

الشهاب الثالث: بالقرب من برج إيفل، ودائما مع الثقافة الفرنسية، ومع الشاعر ابولينير، نستحضر تشبيهه لهذا البرج الذي يرمز إلى الحداثة والتطور الحضاري الناتج عن الثورة الصناعية، بالراعية التي تحرس جسورها/غنمها وهي تثغو، حيث يقول في قصيدته:[4]Zone

" وفي النهاية متعبة أنت من هذا الزمن القديم

أيتها الراعية، يا برج إيفل، الجسور تثغو هذا الصباح

لقد سئمت من العيش على نمط حياة الإغريق والرومان القديمة".

هكذا قد نتصور، في تناص مبهر، ثِغاء "جسور السنين" التي شهدت تسرب أزمنة كم كانت الشاعرة في حاجة إليها الآن، وهي تتأمل برج إيفل من على جسر على السين، تماما  كما تصور الشاعر أبولينير ثغاء الجسور بسبب الحياة التي أصبحت أكثر نشاطا وحيوية بفضل التطور الصناعي وتحسن حياة الإنسان حينها بعد ثورة صناعية وفكرية، أمام "عيني" راعية واقفة تحرس هذه الحياة المزدهرة. تستحضر إذن الشاعرة كل هذا متأسفة في قرارة نفسها على تخلف عالمها الذي ينعت بالعالم الثالث والذي لم يعرف مثل هذه القفزة النوعية.

الشهاب الرابع: بالقرب دائما من برج إيفل، تستحضر الشاعرة أيضا رائعة الروائي والشاعر فيكتور هيجو " سيدة باريس"[5]، لأن هذا الطلل التاريخي غير بعيد عن نهر السين. لهذا تناصت مع هذه الرواية التاريخية، كذلك باستحضارها الشخصيتان البارزتان: إسمرالدا بالإسم، وكازيمودو عند استعمالها كلمة: "الزمن الأحدب". إلا أن هذا التناص أصبح إبداعا رائعا حيث الأحدب في القصيدة هو الزمن الذي تجعله يقفز تماما كأحدب كنيسة سيدة باريس، زمان الشاعرة وعالمها الذي ضل طريقه بين نسيان وحنين، فظل يقفز كالبهلوان.

الشهاب الخامس: زيادة على التناص مع رائعة فيكتور هيجو باستحضارها إسمرالدا، هناك تناص مع قصة بلقيس وسليمان. وهو ما نستشفه في قول الشاعرة:

" فتأتيني  إسمرالدا

بالخبر اليقين"

حيث توصل النبي سليمان ب"الخبر اليقين" من فم الهدهد، الذي أخبره بسبب غيابه لأنه فوجئ بوجود قوم في «سبأ» يسجدون للشمس من دون الله، ولهم ملكة على عرش عظيم[6]. أما شاعرتنا فتوصلت ب"الخبر اليقين" من فم شخصية رواية فيكتور هيجو، إسمرالدا، إلا أن هذا الخبر "تبخر مع قفزات الزمن الأحدب". فأي خبر أو درس أخذته الشاعرة من شخصية روائية، فتبخر؟ لفك هذه الشيفرة والاستمتاع بهذا الشهاب اللامع، ما علينا إلا أن نرجع إلى إسمرالدا ونبحث عنه من خلال شخصيتها كما تبدو في الرواية. إنها شابة من أصول غجرية. وهي تدل على الجمال وعلى البراءة  والسذاجة أمام عنف الحياة كما تدل على النبل الروحي. إلا أنها تعرضت للظلم في وقت كانت فيه الكنيسة تحت سيطرة الإكليروس، خلال ما يسمى بالعصور الظلامية. قد تكون أخبرت شاعرتنا بظلم الحياة، ولو براقة كما تبدو هناك بباريس، والتي تمثل تلك الحداثة وليدة الفكر المتنور الذي واجه الإكليروس. حداثة تلهف من ورائها شعوب من جنوب البحر الأبيض. لكن هل تحقق العدل؟ قد نستشف من "الخبر اليقين" بأن الحياة ما زالت ظالمة، ما زالت مظلمة رغم نور الحداثة، أو ربما بسبب هذا النور المظلم. هكذا تبدو الشاعرة في تأمل وحيرة. هي الآتية من عالم المظلومين المقهورين بسبب تلك الحداثة التي ورطت الغرب في حروب على المستضعفين، خاصة وأن الشاعرة تتابع بأسى ما يحدث في غزة، وفي فلسطين من مجازر ضد الأطفال وكل المستضعفين. وربما تلك الحياة هي التي يمثلها الزمان الأحدب الذي يقفز بين النسيان والحنين. ما يوحي بتردد بين نسيان تلك الصورة التي كانت تبدو إيجابية للحداثة، والحنين إليها رغم مساوئها لأنها بعيدة المنال. بُعدٌ وفوارق بين عالمها وهذا العالم الذي توجد به، تعبر عنهما بوضوح في المقطع الأخير:

وقفتي هنا

تعلن بالصمت

ونظراتي

الماوراء العين

أن البعد

وبين البين

شاسعان

كفضاء القيامة

وهكذا نظل

إلى حين …

هكذا تعيش بوعي هذا التردد. فمن جهة رغم ما توصلت إليه باريس، التي تمثل الغرب بصفة عامة، من حداثة انبهرت بنورها كل الشعوب التواقة إلى التقدم التكنولوجي والعلمي والسياسي، فإن الظلم ما يزال مستشرٍ بسبب هذا العالم الغربي، الذي بنى حداثته على جثث المظلومين، وما إسمرالدا والأحدب إلا شخصيتان ترمزان إلى تلك الشعوب المضطهدة عبر الزمان، بالنسبة للشاعرة، وهي تستحضرهما، في هذه اللحظة التاريخية بالذات، انطلاقا من ثقافتها. فإسمرالدا ترمز بعرقها الغجري إلى هذه الشعوب، خاصة في سياق ما يعرف "بالإسلاموفوبيا" التي تشعل نارها طبقة سياسية متطرفة، كما يرمز كازيمودو الأحدب، ولو في صورة "زمان"، هو أيضا إلى تهميش هذه الشعوب التي قد تعتبر معاقة ومتأخرة زمانيا، من كل النواحي: العلمية والتكنولوجية والسياسية والفكرية إلخ... إنه الزمان الأحدب فعلا. فهل نظل إلى حين...كما ورد في النص؟ ومتى يحن الحين؟ أم ترانا ننتظر القيامة كما يوحي النص في حديثه عن "شساعة فضاء القيامة"؟

كخاتمة:

باختيارنا مقاربة هذا النص ثقافيا، أردنا التأكيد على أن الإبداع الذي ينطلق من مثاقفة إيجابية، يثير انتباه المتلقي الحذق. إنه إبداع يجعل هذا المتلقي يستمتع بين ضفاف الثقافات، كما فعلت الشاعرة سعاد عبيد الله هنا. لقد زادت في منسوب متعتنا وهي تسرح بنا من ثقافة إلى أخرى. واستطاعت بلغتها البسيطة المتسمة بالسهل الممتنع أن تعبر بذكاء عن أحاسيسها؛ وبطريقة دقيقة، بتفاعلها مع بعض النصوص لكتاب فرنسيين تأثرت بهم هي الدارسة للأدب الفرنسي، حققت كذلك إشباع رغبة هذا المتلقي الحذق.

***

محمد العرجوني

......................

[1] منشور على صفحتها بالفيس بوك بتاريخ:16-9-2024

[2] Méditations poétiques , Alphonse de Lamartine, 1820

[3] Le pont Mirabeau dans Alcool 1913

[4] Zone dans Alcool 1913

[5] Notre dame de Paris de Victor Hugo, 1831.

[6] سورة النمل

في رواية "الصرخة الصامتة" للروائي الياباني كنزابوروأوي 

توطئة: يقول الكاتب والروائي الياباني "كانزابوروأوي": عندما كنتُ طفلا وعدتُ أمي بأن أحصل على جائزة نوبل بالفيزياء، بعد 20 سنة من الوعد لوالدتي فزتُ بها وقلتُ لها: أنظري لقد حققتُ الوعد وفزتُ بجائزة نوبل، فقالت والدتي لا هذا ليس وعد، انت وعدتني بأن تفوز بجائزة نوبل بالفيزياء بل أنت فزت بالأدب ---!؟ .

الروائي الياباني "كانزا بورو أوي" ولادة سنة 1935 الحائز بجائزة نوبل للأدب عام 1994عن روايته " الصرخة الصامتة " وهي رواية فلسفية ذات منحى وجودي وأوجاع جيل ما بعد الحرب الكونية الأولى وصراع فكري بين الريف الياباني والمدينة والتأثير المتبادل بينهما، ووضع الماضي في الحديقة الخلفية والسير بخطا ثابتة لمواكبة النهضة الحداثوية الرقمية للعالم الغربي وأمريكا، من أنجازاته الأدبية:

- كتاب رواية الصرخة الصامتة

- كتاب علمنا كيف نتجاوز جنوننا

- وكتاب أستيقظ أيها الأنسان الجديد

تلقب اليابان أحياناً ب" كوكب اليابان " بسبب التقدم التكنلوجي الكبير والتغيير الثقافي االذي تتمتع به، اللقب يعكس أنطباع الناس عن اليابان بأنها بلد منفرد ومختلف تماما عن بقية العالم بوصفهِ كوكبا منفصلا ربما لهذه الأسباب:

التطور التكنلوجي:

يعد اليابان واحداً من الدول الرائدة في مجال الأبحاث والقفزة الرقمية الفائقة السرعة في مجالات الروبوتات وا لألكترونيات والأتصالات، وريادة الفضاء، وأمتلاك اليابان ثقافات متميزة ومنفردة كفنون القتال الكاراتي والجودو، وفنون الزينة مثل " المانغا والأنيمي وطقوس الشاي، وقد لمع نجمها في السنوات الأخيرة في مجال الأبتكار والأبداع، وثقافة المواطنة في كونترول أنضباطي في التعاملات الشخصية وثقافة سياحية متنيزة في تقبل السواح بأبتسامته وتحيته المتميزة وبسبب التقدم الكبير الذي حققتهُ في العديد من المجالات كالتكنلوجية، الأقتصاد، كالبنية التحتية والفوقية والتعليم، ويعزى اللقب إلى الثقافة اليابانية الفريدة من نوعها والتي تجمع بين الحداثة والتقاليد بطريقة سحرية أستثنائية، وتتميز بالأنضباط الأخلاقي والقيمي وتقديس الوطن وحب العمل والتفاني بالأخلاص، كل ذلك تبدو وكأنها عالم منفصل عن بيقية العالم .

النص:

تصنيف الرواية من الأدب العالمي، هي واحدة من أشهر أعمال الكاتب الياباني " كينزابوروأوي " تم نشرها لأول مرة عام 1967، في هذه الرواية يتناول (أوي) موضوعات معقدة تتعلق بالهوية الفردية والجماعية لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ، والرواية تقدم نقدا أجتماعيا وثقافيا للواقع الياباني في تلك الحقبة مستعرضا التغيرات والتحديات التي واجهتها البلاد الخارجية والداخلية حيث الصراع بين التقاليد والحداثة، ومسألة الأغتراب الروحي والمادي، والتشوهات السوسيولوجية للمجتمع الياباني الذي ذاق ويلات الحرب ولا زال يدفع فاتورتها الثقيلة حتى الأن جيلا بعد جيل وكأنما هي اليابان مسؤولة عن الحرب الكونية !؟.، تفهم الكاتب والروائي (أوي) العالم من حول جغرافية اليابان وسط ظروف قاسية ومحبطة، بيد أن براعة (أوي) بأستخدامه الترميزية في طرح تساؤلات فلسفية عن الحياة والموت والأنسنة والعدمية السوداوية، مما يجعل من الرواية (تأملية) واعدة عميقة تتجاوز مجرد سرد للأحداث، وتعتبر رواية " كينزا " من أرقى أشكال التعبير اللغوي في تجسيد ما يجيش في أعماق اللاوعي للجيل الياباني ما بعد الحرب من المشاعر والأحاسيس الوجدانية وتناقضاتها وربما أرهاصاتها من حب وكراهية وحركة وسبات ورفض وأستكانة وقبح وجمال، وتدور تلك الأشارات حول محورالأنسان الذي هو في قائمة الأحياء ضمن فضاءات كوكب اليابان تلك التسمية المجازية، وقد لمستُ الواقعية السحرية في سرديات الكاتب للرواية بأجمل صورها وهو يتحدث عن مستلبات المرعبة ما بعد الحرب ببراعة حسية (عقم الحروب وعبثيتها) في تدوير الخسائر البشرية بملايين قتلى وجرحى وأسرى ومفقودين ومرضى نفسيين ومعوقين، وطرح الكاتب (أوي) سؤالا بصيغة رافضة ومحتجة هل كانت تلك الحرب ضرورية؟ وهل أستبقت زمنها؟ حينها رفع الروائي القدير راية التحدي والكفاح من أجل التغيير بموصول غرائبي تحت وابل من زخات الأوجاع والأستلاابات الروحية والمادية بأنسياقية نحو الواقعية والأنطلوجية الرقمية الحداثوية ببرمجيات نهضة شاملة للشعب الياباني .

ملخص الرواية

تدور أحداث الرواية حول شخصيتين رئيسيتين هما " ميتسو " و"تاكا" وهما أخوان يعيشان حالة من الأغتراب والصراع الداخلي بعد وفاة والديهما وأنتهاء الحرب يعود ميتسو إلى قريته الأصلية التي كانت مركزا لتجارته، ويجد حياتهُ وحياة اخيه أصبحتا مليئتين بالتناقضات والفراغ نجحت شخصية (أوي) في الأندماج بين حقائق البيئة والتطور التكنلوجي الفائق السرعة للمدينة – وقصد بها العاصمة طوكيو – بدراسة (جيمورفولوجية ) سكاناً وبيئة وأمتدادا حداثوياعموديا مفاجئا في السكن متقن ومدروس في تشخيص المستقبل الأستراتيجي للأجيال القادمة، وكان ذلك أنجازا أسلوبيا غنيا للكاتب من خلال المهارة الدقيقة والرائعة فى سرد أحداث جيل ما بعد الحرب بأسلوب الفكاهة السوداوية، وتتطور الأحداث عندما يكتشف الأخوان وجود تمرد محلي قديم في قريتهم، ويتمحور الصراع حول محاولتهم فهم ماضيهم والتعامل مع الحاضر الذي أصبح مغرقا بالفساد والأنحلال، فكانت مهمة (أوي) ليست سهلة بل شائكة ومعقدة لكونها أفرازات الصراع الطبقي بتناقضاته بين الهوية والموت والحياة سلسلة أضداده، بيد إن حنكة وبراعة الكاتب نجح في معالجة (ثيمات) الرواية الهوية والموت والعزلة والتغيير الأجتماعي القادم حالا.

السمات الأدبية للرواية

تعد الرواية عملا فنيا مليئا بالرمزية والوجود والمعاناة والأنسانية يتميز أسلوب الكاتب بالسرد المعقد وأستخدام عناصر الواقعية السحرية تعكس الرواية التوترات الداخلية والخارجية للشخصيات، وهي تجربة تأملية في الوجود بواقعية سحرية ومألات المستقبل بفكاهية سوداوية، تعتبر الرواية " الصرخة الصامتة " واحدة من الأعمال الأدبية المهمة التي أثرت في فضاءات الأدب الياباني الحديث، حصلت على أشادة نقدية واسعة وساهمت في ترسيخ مكانة "أوي" كواحد من أبرز الأدباء اليابانيين حيت تراه عالما نفسانيا في تحليل التوترات النفسية والأجتماعية في سياق ما بعد الحرب، وتراهُ في الرواية كعالما أنثروبولوجيا حيث غوصه ِ في أعماق سوسيولوجية المجتمع الياباني وينتزع جائزة نوبل عام1994 في الأد ب عن روايته " الصرخة الصامتة ".

الأفكار الرئيسة في الرواية

-الأغتراب مفهوم ثيمة الأغتراب بارزة ومهمة ربما هو أحد رافعات الرواية بتحريك خيوط شخوص الرواية نحو العزلة عن الجماعة بسبب تعقيدات الهوية الفردية والمجتمعية في اليابان بعد الحرب الكونية الثانية المتمثلة بحياة الشقيقين ميتسو وتاكاشي، أتجه الكاتب ببراعة أسطورية بمفهوم الأغتراب بمنحى وجودي مصيري ماراً بمطحنة الصراع الطبقي صراع القيم وحب البقاء والوجود، وصوَر للقاريء حالة البؤس والتردي للشعب الياباني وهو خارج توا من ماكنة الحرب العبثية حاملا ثمة أمراض نفسية وجسدية وتصفير المعنويات بشعور عميق بالأغتراب والعزلة ودفع فاتورة الحرب الثقيلة في هيروشيما وناكازاكي بالأبادة النووية بمئات الآلاف من البشر وتدمير البنى التحتية في المدن الرئيسة هيروشيما وناكازاكي والعاصمة طوكيو، وكأن اليابان هي المسؤولة عن أشعال فتيل الحرب، فكان " أوي " موفقا وناجحا في مواجهة تحديات التحديث والعصرنة .

- النقد الأجتماعي:

الرواية قدمت نقدا عميقا للمجتمع الياباني بسود اوية مأساوية في ظل الحرب، وضرورة خلق فرص السلام للتعامل الأيجابي مع القيم التقليدية والتحولات الحديثة .

- البحث عن الهوية التي تؤكد معنى لحياة هادئة خالية من تجار الحروب .

- هموم شخصية في مواكبة التطورات الحداثوية للعالم الغربي وأمريكا، والبحث عن الهوية الجديدة، وأستيعاب خسائر الحرب ومواجهة تحديات العصرنة الحداثوية، ترجمها بحنكته وبراعته الأدبية بمنجزيه التاليين الرائعين: كتاب علمنا كيف نتجاوز جنوننا – وكتاب أستيقظ أيها الأنسان الجديد .

***

عبد الجبار نوري - كاتب وناقد أدب عراقي مغترب

أيلول- سبتمبر2024

 

الجو العام: تتعدد ضروب الأدب العربي بتعدد أغراضه فقد وصل لنا من العصر الجاهلي عدة أنواع من الأدب العربي شعرا ونثرا ومنها: المنافرات والمعارضات والسجع والشعر أما ما يخص مفهومالمعارضات فتعرف بنظم شعرٍ موافق لشعرٍ آخر في موضوع معين، حيث يلتزم نظم الشعر الآخر في قافيته، وبحره، وموضوعه التزاماً تامّاً يحرص فيه الشاعر على مضاهاة الشاعر المعَارَض في شعره إن لم يتفوق عليه، وقد يلجأ الشاعر إلى هذا النوع من الشعر عندما يرى في شعر غيره من الشعراء ما يمتاز به من فصاحة، وروعة صياغة، أو صور معبرة، وغيرها من أمور تثير في نفسه العجب.

وأروع ما وصل لنا من الأدب الجاهلي من معارضات هي معارضة الزير سالم أبو ليلى المهلهل الى قصيدة الحارث بن عباد تقريبا ل 10 قبل عام الفيل حيث أرتبطت بقصة مؤلمه جدا في حرب البسوس عندما أرسل ابن عباد وهو رجل فارس وحكيم من بني بكر بن وائل أبنه بجير بوفد صلح في محاولة لأنهاء الحرب بين بكر وتغلب لكن الزير سالم قتله فقط لأنّه من بكر بن وائل بل تمادى وتشفى بقتله عندما قال له بوء بشسع نعل كليب !! فثارت ثائرة أبوه وكل بكر من ورائه من سابقة قتل رسول فقال أبوه يرثيه بقصيدة زيّنت صدر الأدب العربي منذ ذلك الزمان اسمها النعامة نسبة الى فرسه الكريمة:

قل لأمّ الأغرّ تبكي بجيرا - - ما أتى الماء من روؤس الجبال

قرّبا مربط النعامة مني -- - لبجير فداه عمي وخالي

قرّبا مربط النعامة مني - - لا نبيع الرجال بيع النعال

فردّ عليه الزير سالم بمعارضة أسمها المشّهر نسبة الى حصانه فقال:

قرّبا مربط المشهر مني - - قرّباه وقربا سربالي

قربا مربط المشهر مني - - لكليب الذي أشاب قذالي

قرّبا مربط المشهر مني - - أنّ قولي مطابق لفعالي

اما في العصر الحديث فالمعارضات كثيرة جدا منها معارضة الجواهري لقصيدة المتنبي والتي قالها في مصر لهجاء ملكها كافر الأخشيدي

عيد بأية حال عدت يا عيدُ – - بما مضى أم لأمر فيك تجديدُ

فقال الجواهري في مصر أيضا وذات الموضوع في هجاء جمال عبد الناصر

ما زلت يا مصر والأيام ترديدُ - - يسومك الخسف كافر وأخشيدُ

و معارضات أحمد شوقي معروفة وكثيرة وأهمها معارضته لقصيدة

يا ليل الصب متى غده - - أ قيام الساعة موعده

للحصري

عارضها شوقي ب مضناك جفاه مرقده - - وبكاه ورحّم عوده

السرقات الشعرية لا تعتبر معارضات لأنها لم تستوف شروط المعارضة التي تصاغ على ذات الوزن والقافية والموضوع بل أهمّ من كل ذلك ان يعلن الشاعر رسميا بأنّ قصيدته هي معارضة لقصيدة شاعر آخر ولا يكتم الأمر ويقوم بسرقة صوره وطريقة صياغته وموضوعته ولا يصل الأمر الى توظيف تقنيات شعره وتتبع كل اساليبه في القصيدة الأصل لأنّ هذا يعتبر سرقة واضحة وليست معارضة.

فعلى سبيل المثال لا تعتبر قصيدة نزار قباني البائيّة في دمشق معارضة لقصيدة الجواهري البائيّة في رثاء أبي العلاء المعري حتى وان كان كلاهما من ذات البحر البسيط وذات القافية البائيّة مع ألف الأطلاق والسبب لأن التيمة لا تتطابق في القصيدتين وحتى وان كان مكان ألقائهما واحد وهو دمشق لكن التيمة مختلفة تماما فقصيدة الجواهري كانت في موضوعة أبي العلاء المعري أما تيمة نزار قباني فكانت في دمشق وأنتمائها وحبه لها وبالتالي لا يمكن أسقاط مفهوم المعارضة على القصيدتين بأيّ شكل من الأشكال

يقول الجواهري:

قفْ بالمعرّةِ وأمسحْ خدَّها الترَبا    

 وأستوحي مَنْ طبّبْ الدنيا بما وَهبا

أمّا نزار فيقول:

فرشْتُ فوق ثراكِ الطاهرِ الهُدُبا        

فيا دمشُقّ لماذا نبدأ العتبا

دلالة العنوان للقصيدتين

انّ موضوع هذه الدراسة هو سرقات عبد الرزاق عبد الواحد من شعر الجواهري من قصيدة الجواهري آمنت بالحسين والتي صاغ عبد الرزاق قصيدته في رحاب الحسين على منوالها

كلا القصيدتين من ذات البحر وهو المتقارب وبذات الموضوع التيمة وهو الأمام الحسين غير أنّ قصيدة الجواهري ذات قافية عينّية وقصيدة عبد الرزاق ميمية

وما أظّها صدفة بل محاولة من عبد الرزاق للمراوغة والأيهام وأبعاد مفهوم السرقة عنه حيث عمد السارق الى توظيف قصيدة الجواهري الأخرى في رثاء أخيه والتي كانت أيضا على ذات النسج وذات التيمة الرثاء وذات البحر المتقارب وذات القافية الميمية غير أنّه نظمها في رثاء أخيه الشهيد جعفر وهي التي وظّفها عبد الرزاق في قصيدته حيث عمد الى أستغلال ثلاث قصائد دفعة واحدة للجواهري فقد أخذ القافية والبحر من قصيدة أخي جعفر وأخذ البحر والتيمة، الأمام الحسين، والصور من قصيدته آمنت بالحسين وأخذ الديباجة الأستهلالية في المقاطع من قصيدة المقصورة والتي كانت أيضا على ذات البحر المتقارب وقام بتوظيفها كلها دفعة واحدة عبر عنصريّ الأيهام والمراوغة لتضليل القارئ والناقد معا

لكن بمجرد تتبع دقيق لأبيات القصائد الأربع سوف نجد تلك السرقات التي عمد أليها عبد الرزاق حيث أستخدم السارق ثلاث قصائد للجواهري وظفها مرة واحدة في قصيدته وكل هذه القصائد من بحر واحد هو المتقارب وهي:

أستخدم الجواهري لفظة سلامٌ في قصيدته المقصورة 5 مرات

بينما أستخدم عبد الرزاق لفظة سلامٌ في قصيدته في رحاب الحسين 11 مرة

المقطع الأول

يقول الجواهري في مطلع قصيدته آمنت بالحسين مبتداً بجملة أبتدائية اسميّة محذوفة المسند اليه (فداء لمثواك)

ليحوّرها عبد الرزاق الى جملة أبتدائية أسمية محذوفة المسند ايضا

(سلام لمثواك)

في عجز البيت الثاني لتفادي التطابق في المطلع فقد حوّر فداءٌ على وزن فعولن الى سلامٌ مأخوذة من قصيدة المقصورة ووظفها في قصيدته في رحاب الحسين فقد جمع ديباجتين للجواهري وهما قصيدته المقصورة والتي كرر بها اللفظ سلامٌ خمس مرّات ليوظفها عبد الرزاق مع قافية قصيدة الجواهري في أخي جعفر الميمية المضمومة بينما أبتعد عبد الرزاق في قافيته قليلا ليجعلها ميمية مكسورة وكما أسلفت يستخدم عنصريّ الأيهام والتضليل بتوظيفه لثلاث قصائد جواهرية تعتمد على وزن واحد هو المتقارب ليوظفها في قصيدته الميمية في رثاء الأمام الحسين من باب الخداع السيميائي وهذا يدلّ على أن الرجل لا يستطيع نظم شئ الا على قوالب جواهريّة جاهزة بتغير الخلطة اللفظية والديباجة لكل قصيدة تم توظيها وكأنّ قصيدته بدت خليط من عصارة شعرية الجواهري لكن جاءت بدرجة أقل بكثير لأنّ ديباجات شعر الجواهري وألفاظه أقوى وأكثر عمق وبلاغة وصياغته لجملته محكمة البناء بينما بدت صياغة عبد الرزاق مثل هاوي مقلد حيث الركاكة وضعف الصياغة والصور المنقولة والأفكار المسروقة فلا تحسب له أيّة نقطة لأنّ قصيدته جاءت من حيث الألفاظ والصور والتراكيب والفكرة والتيمة وأقتفاء التقليد لدرجة التطابق في صور وابيات كثيرة بدت كل هذه كمن يحاول ان يسرق لوحة مشهورة فيعمد الى أستخدام ألوان مختلفة لذات الفكرة والموضوع والوجوه التي بدت في اللوحة الأصل بأستخدام مفهوم الذكاء الأصطناعي ولكن جاء عبر عاملي اللغة والخيال.

المقطع الثاني

ينتقل الجواهري في المقطع الثاني من قصيدته الى مخاطبة الحسين بأستخدام حرف النداء ياء مرتين اذ يقول:

فيا ايُّها الوِتْرُ في الخالِدينَ

فذّاً، إلى الآنَ لم يُشْفَع

ويا عِظَةَ الطامحينَ العِظامِ

للاهينَ عن غَدِهمْ قُنَّع

تعاليتَ مِن مُفْزِعِ للحتُوفِ

وبُورك قبرُكَ مِن مَفْزَع

تلوذُ الدُّهورُ فمِنْ سُجَّد

على جانبيه. ومِنْ رُكَّع

و هذا المقطع يخاطب الجواهري الحسين بصفاته الراقية مثل الوتر، فذا، عظة، مفزع، وهي محاولة لأظهار خصال المرثيّ التي تظهر مكانته في قومه وفي أتباعه وكيف صار عضة للطامحين وتحوّل قبره الى مزار للمؤمنين اذ يعمد الجواهري الى وصف المرثي بقوله مستخدما حرف النداء الياء ويا عضة الطامحين العظام

وهكذا يتنقل عبد الرزاق الى ذات المعطى فيقول في هذا المقطع فيما يخص نسب الحسين المقطع الثاني ليستخدم

ويا سيّدي يا أعَزَّ الرجال

يا مُشرَعاً قَطُّ لم يُعجَمِ

ويا بنَ الذي سيفُهُ ما يَزال

إذا قيلَ يا ذا الفَقارِ احسِمِ

تُحِسُّ مروءَ ةَ مليونِ سيفٍ

سَرَتْ بين كَفِّكَ والمَحْزَمِ !

لاحظ كيف عمد عبد الرزاق الى أستخدام حرف النداء الياء وكيف قام بأقتفاء أثر الجواهري في وصف الحسين ب أعزّ، ومشرعا، ويا ابن الذي، وهذا أقتفاء لفظي بل سيميائي لمقاطع قصيدة الجواهري وكأنّ الرجل لا يستيطع أن يصوغ قصيدته بلا تتبع أثر الجواهري لفظيا او صياغة او فكرة.

المقطع الثالث

لاحظ قول الجواهري في هذه المقطع:

وجَدْتُكَ في صورةٍ لـم أُرَعْ          

بِأَعْظَـمَ منهـا ولا أرْوَعِ

*

وماذا! أأرْوَعُ مِنْ أنْ يَكُون        

لَحْمُكَ وَقْفَاً علي المِبْضَـعِ

*

وأنْ تَتَّقِي - دونَ ما تَرْتَئـِي          

ضميرَكَ بالأُسَّـلِ الشُّـرَّعِ

و لاحظ كيف تتبع عبد الرزاق أبيات الجواهري وقام بأعادة صياغتها مع أستبدال بعض الألفاظ مستخدما مفهوم الخداع اللفظي حيث يقول:

وإنَّكَ مُعْتَصَمُ الخائفين

يا مَن مِن الذَّبح ِ لم يُعصَمِ

وخُضْتَ وقد ضُفِرَ الموتُ ضَفْراً

فَما فيهِ للرّوحِ مِن مَخْرَمِ

وَما دارَ حَولَكَ بَل أنتَ دُرتَ

على الموتِ في زَرَدٍ مُحكَمِ

أ لَستَ الذي قالَ للباترات

خُذيني..وللنَّفسِ لا تُهزَمي؟

وطافَ بأولادِهِ والسيوف

عليهم سوارٌ على مِعصَمِ

فَضَجَّتْ بأضْلُعِهِ الكبرياء

وصاحَ على موتِهِ: أقدِمِ !

مرّة أخرى يستخدم الجواهري الأختصار البلاغي في وصف صورة الأمام ومقتله وكيف وظّف الجواهري مفردتي ،ضميرك، و,الأسل، أي انّ الحسين سرعان ما أختار الموت دون ان يبيع ضميره وهذه الرماح تنهال عليه دون ان يتزحح من موقفه وظل صامدا ولم يبع ضميره

لكننا نرى الصورة التي قلبها عبد الرزاق مستخدما ذات الفكرة من الجواهري في وصف تصدي الأمام الحسين الى موته المحقق فعمد الى أستبدال الأسل وهي الرماح الى الباترات وهي السيوف ومرة أخرى يلتجأ الى عاملي الأيهام والمراوغة للتغطية على سرقة فكرة الصورة التي رسمها الجواهري حول الكيفية التي تصدى بها الأمام الحسين للموت فحوّل صورة الجواهري في

لَحْمُكَ وَقْفَاً علي المِبْضَـعِ

الى:

وَما دارَ حَولَكَ بَل أنتَ دُرتَ

على الموتِ في زَرَدٍ مُحكَمِ

و هكذا وكأنّ عبد الرزاق لا يستيطع ان يصوغ قصيدتة دون تتبع الى كل أبيات وصور الجواهري وأعادة صياغتها وأستبدال ألفاظ وأعادة رسم الصورة بألفاظ أخرى مثل على سبيل المثال كيف بدل الأسل ب الباترات وهكذا.

المقطع الرابع

سَلامٌ عليكَ حَبيبَ النَّبيِّ

وَبُرْعُمَهُ..طِبْتَ من بُرعُمِ

*

حَمَلتَ أعَزَّ صفاتِ النَّبيِّ

وفُزْتَ بمعيارِهِ الأقوَمِ

وهكذا قد صاغ هذا المقطع على منوال قول الجواهري الذي يتطرق به الى نسب الحسين وكيف كانت أمّه فاطمة الزهراء البتول ويكفي ذكر أسمها ليعرف الآخر من تكون أنّه بضعة من نبي الله محمد ص أما أبوه فهو الأمام علي والذي وصف الشاعر ب البطين

يابنَ البتـولِ وحَسْبِي بِهَا

ضَمَاناً علي كُلِّ ما أَدَّعِـي

*

ويابنَ التي لم يَضَعْ مِثْلُها

كمِثْلِكِ حَمْـلاً ولم تُرْضِـعِ

*

ويابنَ البَطِيـنِ بلا بِطْنَـةٍ 

ويابنَ الفتي الحاسـرِ الأنْـزَعِ

*

ويا غُصْنَ "هاشِـمَ" لم يَنْفَتِحْ

بأزْهَـرَ منـكَ ولم يُفْـرِعِ

كل ما فعل هو انه لم ينسبه الى البتول او البطين أبيه الأمام علي او جده هاشم من باب التضليل بل أستخدم الرسول حيث قال حبيب الرسول وبرعمه في محاولة للأبتعاد عن صورة الجواهري في نسب الأمام الحسين

المقطع الخامس

في مقطع آخر من القصيدة يقول به عبد الرزاق في قصيدته في رحاب الحسين:

سلامٌ على آلِكَ الحوَّمِ

حَوالَيكَ في ذلك المَضرَمِ

وَهُم يَدفعونَ بِعُري الصدور

عن صدرِكَ الطاهرِ الأرحَمِ

ويَحتضنونَ بكِبْرِ النَّبِّيين

ما غاصَ فيهم من الأسهُمِ

و هذا المقطع تتبع الى مقطع الجواهري الذي يتحدث عن آل بيت الحسين بقوله

وأن تُطْعِمَ الموتَ خيرَ البنينَ

مِنَ "الأَكْهَلِيـنَ" إلي الرُّضَّـعِ

*

وخيرَ بني "الأمِّ" مِن هاشِمٍ

وخيرَ بني " الأب " مِنْ تُبَّـعِ

ثم ينتقل عبد الرزاق الى مقطع آخر يصف به كيف يصدّ أصحاب الحسين السهام بصورهم العارية وهو أيضا مأخوذ من صورة للجواهري بذات المعنى فيقول:

وَهُم يَدفعونَ بِعُري الصدور

عن صدرِكَ الطاهرِ الأرحَمِ

و هذه الصور مأخوذة من صورة الجواهري التي يصف بها كيف تصدى أصحاب الحسين للسهام بصدورهم ليكونوا وقاءا للأمام بصدورهم وأذرعهم

وخيرَ الصِّحابِ بخيرِ الصُّدُورِ

كَانُـوا وِقَـاءَكُ ، والأذْرَعِ

و في مقطع أخرى يصف أبا الأمام الحسين الأمام علي فيقول:

ويا بنَ الذي سيفُهُ ما يَزال

إذا قيلَ يا ذا الفَقارِ احسِمِ

عليُّ..عليَّ الهُدى والجهاد

عَظُمتَ لدى اللهِ من مُسلمِ

و هذا أيضا قد صيغ على منوال قول الجواهري في أبي الأمام الحسين الأمام علي وأستخدم ذات حرف النداء الياء في بيت الجواهري بقوله الملاحظ كيف أستخدم حرف النداء مرّتين تماما كما فعل الجواهري

ويابنَ البَطِيـنِ بلا بِطْنَـةٍ

 ويابنَ الفتى الحاسـرِ الأنْـزَعِ

حيث يستفيض عبد الرزاق في تفكيك صدر هذا البيت في وصف حالة الفقر التي كان عليها الأمام علي والتي أختصرها الجواهري بصدر بيت فقط حيث عملت البلاغة الى أيصال الصورة كاملة دون أستفاضة مثلما فعل عبد الرزاق أذ يقول:

وَيا أكرَمَ الناسِ بَعدَ النَّبيّ

وَجهاً..وأغنى امريءٍ مُعدَمِ !

مَلَكتَ الحياتَين دُنيا وأ ُخرى

وليسَ بِبَيتِكَ من درهمِ !

فِدىً لِخشوعِكَ من ناطقٍ

فِداءٌ لِجوعِكَ من أبْكَمِ !

حيث كان بيت الجواهري أكثر بلاغة وأروع من حيث الصياغة سواءا من حيث جزالة اللفظ ودلالة المعنى بينما أحتاج عبد الرزاق الى كل هذه الأبيات ليلحق بصدر بيت واحد للجواهري وهنا يكمن الفرق في الشعرية وقوة الشاعرية بين الأصل والتقليد.

الأختلاف الوحيد في القصيدتين

في نهاية قصيدة عبد الرزاق والتي كتبها وألقيت ١٩٩٥ ليوظف موضوع الحصار بهدف التقرب الى السلطة التي كان لسان حالها وشاعر الطاغية الأول حيث وظف مغزى الشكوى وإن كانت موجهة من السلطة ليشرح فيها خذلان العرب للعراق وهكذا لا يتورع شاعر السلطة من أستخدام موضوع الحسين المقدس الى خدمة مولاه وسيّده الصنم المقبور لكي ينال المزيد من عطاياه ومكرماته حيث يقول:

لَئِن ضَجَّ من حولكَ الظالمون

فإنّا وُكِلنا إلى الأظلَمِ

وإن خانَكَ الصَّحبُ والأصفياء

فقد خانَنا مَن لهُ نَنتَمي!

بَنو عَمِّنا..أهلُنا الأقرَبون

واحِدُهُم صارَ كالأرْقَمِ !

تَدورُ علينا عيونُ الذِّئاب

فَنَحتارُ من أيِّها نَحتَمي!

لهذا وَقفنا عُراةَ الجراح

كباراً على لؤمِها الألأمِ

و في هذا المقطع فقط وجدت الأختلاف بين القصيدتين حيث لجأ اليه عبد الرزاق للمراغة عن سرقاته ولأظهار ان قصيدته من بنات أفكاره من جهة وأخرى للتقرب والتودد الى سيّدة الصنم ليستزيد من عطاياه على حساب جثث الشعب العراقي الصابر المبتلى.

عوالم القصيدة

أثتبنا في هذا التحليل ان عبد الرزاق قد حشد ثلاث قصائد دفعة واحدة من قصائد الجواهري ووظفها معا في قصيدته في رحاب الحسين وهذه القصائدة هي:

1 - آمنت بالحسين أخذ منها البحر المتقارب والتيمة الحسين

2 - أخي جعفر أخذ منها البحر المتقارب والقافية الميمة والموضوع الرثاء

3 - المقصورة وأخذ منها البحر المتقارب والديباجة وتكرار مفردة سلامٌ

أن أهم ما يستقف القارئ هي الظواهر السيميائية اللغوية في القصيدتين لما لها من دور يمكن أستخدامها كعلامات سيميائية لأساليب لغوية متنوعة تم توظفيها بشكل فني لتخدم الغرض العام للفكرة والقصيدة وهي الثبوت والدوام- والإيمان بالحسين وموقف اصحاب الحسين وتصوير المأساة في الطف.

ويشكل التكرار ظاهرة واضحة برزت من خلال التراكم الكمي الذي عمل على ايجاد التماسك بين مفاصل النص وأصبح الظاهرة المهيمنة وجعل القصيدتين ترتفعان بالإيقاع الداخلي وقد ورد التكرار في القصيدة بأشكال أخرى مثل تكرار حرف الجر (من) في قصيدة الجواهري والمقاطع الصوتية وكذلك لقصيدة عبد الرزاق حيث كرر اللفظ سلامٌ أحدى عشر مرة وبدا كمن يريد ان يلقي التحية او الوداع الأخير

***

د. رسول عدنان

شاعر وناقد عراقي

 

في ثنايا الزّمن، يتلاشى الوقت كحلم عابر، بينما يظلّ الإنسان الفلسطينيّ في قلب المعاناة، يبحث عن الحياة قبل أن يرحل خفيفا؛ كقارب يعاند الموج.

وحده الفلسطينيّ يتقن فنّ التّحليق من الموت إلى الحياة، باحثا عن خلاصه وسط ضبابيّة المشهد، وإنسانيّة الإنسان، يمرّ في "ممرّات هشّة"، سائرا في دروب الحياة، لتصبح الكتابة عنها طوق نجاة، ونافذة يطلّ منها على أمل يصبو إليه.

"ممرّات هشّة"، رواية للأديب عاطف أبو سيف، يسردها علينا بخيوط الذّاكرة والذّكريات، محوّلا إيّاها إلى رحلة وجوديّة مؤرّقة، تتجسّد بين طيّاتها صرخة الرّوح المتلهّفة للخلاص، المتحدّية لقيود الزّمان والمكان، الباحثة عن معنىً أعمق في لحظة استيعاب حقيقة الحياة والموت.

العنوان "ممرّات هشّة".. كرمز، تحليل، ودلالات:

تتجاوز هذه الرّواية حدود السّرد التّقليديّ، فهي رحلة داخل الذّات، العنوان ذاته، "ممرّات هشّة" يفتح آفاقا للتّأويل، يرمز إلى الصّراع الدّاخليّ الّذي يعيشه الإنسان في ظلّ التحدّيات بين رغباته ومخاوفه، وبين آماله وإحباطاته. وبذلك، فهو يعبّر عن جوهر الرّواية بشكل مختصر وواضح، ملخّصا فكرتها الرّئيسية بعبارة بسيطة.

كلمة "ممرّات" تشير إلى المسارات الحياتيّة الّتي يسير فيها الإنسان، تلك الممرّات والدّروب المتعرّجة التّي قد تكون شائكة أحيانا، متشعّبة ومعقّدة. هذه الممرّات ليست ثابتة، بل هي في حالة تغيّر مستمرّ، تتأثّر بالظّروف المحيطة والقرارات الشّخصيّة.

أمّا "هشّة" فهي صفة، تعكس هشاشة الحياة البشريّة وعدم استقرارها، وقدرتها على التّبدّل والتّغيّر والانهيار في أيّ لحظة، إذ يمكن لأحداث صغيرة أن تغيّر مجرى الأمور بشكل جذريّ.

الأحداث، بين الذّكريات والواقع:

تقع هذه الرّواية في مئتين وثلاثين صفحة، وفي عشرين عنوانا مختلفا، يبدأ السّرد فيها بخبر موت "زهدي" الثمّانينيّ زوج السّيّدة "هدى" الثمّانينيّة، ناظرة مدرسة الإناث في المخيّم سابقا، فتتشابك الأقدار وتتقاطع المسارات في حكايتها بعد رحيل زوجها فجأة، وهو جالس في دكّان الحارة في المخيّم.

يقع الخيار على الجار الشّاب؛ ليحمل لها ذلك النّبأ المفجع، فتكون صدمتها كالسّهم الّذي اخترق قلبها، بعد أن فقدته في لحظة غير متوقّعة، فقد خرج صباح ذلك اليوم ولم يخبرها بمغادرته، ولم يودّعها بنظرة أو كلمة، ذلك النّهار الأخير من عمره، خلا من تلويحة وداعٍ أو همسة حبّ أخيرة.

تُعيد الصّفحات إحياء ذكريات عزيزة عليها، منذ أن تلاقى قلبها قبل ستّين عاما بزوجها زهدي، حين كانا طالبين يافعين في رحاب الجامعة، فنما الحبّ بينهما كزهرة فوّاحة، وأثمر بالزّواج والأبناء والأحفاد، وبعد موته، تحوّل هذا الحبّ إلى نهر جارف من الذّكريات.

أمّا الجار الشّاب، صيّاد السّمك الأربعينيّ، فشرد في متاهات الذّاكرة بحثا عن ذكريات تعيد إليه دفء الماضي، فلم يجد سوى فتات متناثرة.

ظلّ يعيش على ذكرى حبيبته "ياسمين"، تلك الفتاة الّتي سكنت قلبه منذ أن التقيا في نابولي، ورغم غيابها لسنوات طوال، منذ أن افترقا بسبب رفض والدها له، إلّا أنّها بقيَت عالقة في ذاكرته.

أخذ يرافق السيّدة هدى في وحدتها، ليغدو جليسها في منزلها الّذي تعتني فيه بالحديقة وما فيها من أشتال وأشجار، وفاءً لزوجها الغائب. ومع السّطور نستكشف صفحات حياتها، من طفولة بريئة إلى أيّام الدّراسة الجامعيّة، ثمّ قصّة حبّها لزهدي الّتي توِّجَت بالزّواج، فتتشابك هذه الممرّات وتتقاطع مع أخرى؛ لتأخذنا في رحلة إلى أسرتيهما، بين دروب الذّاكرة وأزقّة الحنين، وإلى يافا البعيدة في الذّاكرة، حين لجأت أسرتا هدى وزهدي إلى المخيّم، هربا من النّكبة وويلاتها.

في رحيل أسرة زهدي، "حملت النّكبة العائلة على قارب متهالك جنوبا، فظلّ البيت المجاور للبحر يطلّ بحزن على أصحابه وهم يغادرون أكنافه، تركت الأمّ النّوافذ مشرّعة على الشّارع، والسّتائر تتطاير مثل أوشحة الحزن، وظلّ القارب يصارع الغرق لينجو" (ص 107).

أمّا أسرة هدى، فبعد النّكبة "توزّعت بين شمال وجنوب، وبين حدود وحدود، والرّيح رمت البلاد بعصفها، وبعثرت الأحلام والأمنيات" (ص34).

الذّاكرة: نافذة على الماضي والحاضر، وأداة لبناء المكان:

إنّها لحقيقة مُسلّم بها أنّ الذّاكرة، وإن كانت سِجِلًّا للأيّام، إلا أنّها ليست كتابا مفتوحا يطالعه المرء متى يشاء، وكما يقول النّاقد الفرنسيّ "جورج ماي"، فإنّ الذّاكرة تخون صاحبها أحيانا، فهي انتقائيّة في طبعها، تختار ما تبقي وما تهمل.

لقد انتقى أبطال الرّواية من خزائن ذكرياتهم حكايات مختارة، كجواهر ثمينة ليشاركوها مع القارئ في رحلة بين طيّات الزّمن، حيث تتراقص الأحداث والمشاعر، وتتداخل الأحلام بالواقع في لوحة مفعمة بالحياة، تلاشت فيها الحدود بين الحقيقة والخيال، وتوحّد فيها الكاتب والقارئ معا، في رحلة استكشافيّة مشتركة، يواجهان فيها الحزن، الّذي خيّم على أروقة الرّواية كرفيق وفيّ، وكظلّ ثقيل يتهادى مع الألم، الّذي تجلّت ملامحه في عينيّ "هدى"، وفي تنهّداتها المنكسرة، وفي صمتها الّذي حمل في طيّاته ألف حكاية، فتشكّلت ذكرياتها كشظايا متناثرة؛ لترسم صورة مبهمة لماضٍ جميل، يذكّرها بالفرقة والفقدان، يتراوح بين أطيافه الأمل وهمسات اليأس، وصدى ضحكة ماضية.

حدّدت هذه المشاعر والإشارات الدّالّة ملامح الحدث، وشيّدت أركان المكان الرّوائيّ بحلّة نابضة؛ لتنبع منه القصص، متدفّقة من سرداب الماضي البعيد، ومن حاضر المخيّم، الّذي ظلّ بلا اسمٍ حتّى النّهاية، كأنّه مسرح لحياة تجاوزت حدود الزّمان والمكان، تقاطعت فيه الوقائع وقصص نموّه العشوائيّ، حيث كبرت البيوت دون حدود، لتعكس أحلام وآمال كلّ من لجأ إليه. وشيئا فشيئا، أخذ التّغيير والتّوسّع يطاله في كلّ مكان، بعد وفود السّكان إليه من عشرات القرى والمدن، ليشكّلوا معا حارة جديدة بهويّة جديدة، وتجمّعا بشريّا كبيرا، فالحارة أصبحت حارات، كلّ حارة منها تضمّ بين جدرانها أناسا مختلفين، اجتمعوا من شتّى بقاع الوطن في هذا المكان، الّذي أصبح موئلا لآمالهم وأحلامهم.

يقول الكاتب: "أمّا المخيّم فهو "قصّة مختلفة، لا وصف لها في تكوينات التّجمّعات البشريّة" (ص36). ويقول (ص35): "تحوّلت الخيام إلى بيوت مغطّاة بالقرميد، ثم بالإسبست والزّينكو، بعد ذلك صارت بنايات من طابقين أو ثلاثة".

في خضمّ الحدث، تجسّدت الحياة الغزّاويّة كحلم عائد من غياهب الذّاكرة، بمقاهيها الصّاخبة، ومطاعمها وبيوتها المتراصّة، أزقّتها المتعرّجة، أحياؤها النّابضة، وشوارعها الّتي شهدت على نبض الحياة فيها، كلّها تكشّفت كلوحة زاهية من الألوان والأحاسيس، تداخلت فيها الأزمنة وقصص الهجرة والنّكبة واللّجوء. ويبقى البحر بموجاته المتلاطمة، رمزا للتّغير والقدر المحتّم، وبين ثنايا النّصّ، نستنشق نسيم شاطئه في صيفه الحارّ، ونصغي إلى حكايات المصطافين الّتي تعلو فوق هدير الأمواج، وفي كلّ زاوية تتجلّى بساطة الحياة.

حياة بعيدة عن التّرف، قريبة من الطّبيعة والقناعة والرضا. وخلف هذه الصّورة، تختبئ جراح عميقة وآلام دفينة، ومع ذلك، ظلّ النّاس يتشبّثون بالحياة والأمل.

من هنا، حضرت عمليّة التّذكّر بين الصّفحات كموتيفٍ رئيسيّ متكرّر، لتحوّل النّصّ إلى جولة في أعماق شخوص العمل وعلاقتهم بالزّمن، فنستشعر تأثير الماضي عليهم وعلى حاضرهم ومستقبلهم، بل وحتّى على أحلامهم وتطلّعاتهم.

تكمن أهمّية هذا الموتيف في قدرته على ربط الماضي بالحاضر، فهو يمنح الفرصة؛ لفهم كيف شكّلت التّجارب الماضية المكان وشخوص العمل، فنتعرّف على الجوانب الخفيّة لهم، دوافعهم ومخاوفهم وآمالهم، ونتأمّل رحلتهم عبر الزّمن.

كما أنّ السّرد الذاتيّ والحوار، واستخدام تقنيّة الاسترجاع (Flashback)، سمحت للذّكريات المتعلّقة بالمكان بالظّهور والاندماج في نسيج السّرد، الأمر الذي ساهم بإضافة طبقات من العمق إلى النّصّ، ما أضفى عليه واقعيّة ملموسة، حين التَحمت الذكّريات مع الأمكنة في لوحة متكاملة، وخلقت إحساسا بالتّدفّق الزّمنيّ، دون أن يشعر القارئ بأيّ خلل أو انقطاع في الأنسجة الزّمنيّة.

الذّاكرة والهويّة الفرديّة والجماعيّة:

يُظهِر الكاتب كيف أنّ أحداث النّكبة لا تزال تلقي بظلالها على حياتنا في الحاضر، وكيف أنّ الصّدمة الجماعيّة لا تزال تؤثّر على الأجيال اللّاحقة، يقول: "النّكبة صبغت كلّ شيء بلونها" (ص38).

تتشابك الذّكريات المؤلمة مع مشاعر الحنين إلى الماضي المسلوب، والشّجن على ما فات، مماّ يضفي على النّص بُعدا عاطفيّا مؤثّرا يلامس أعماق القارئ، ويؤكِّد على دور الذّاكرة الفرديّة والجماعيّة في تشكيل الهويّة، وتتداخل خيوط الماضي بالحاضر في نسيج سرديّ متقن، ليصبح فعل التّذكّر بمثابة نافذة على الأحداث، ومحرّكا أساسيّا لها، منه تتفرّع جميع عناصر العمل، فكلّ ذكرى، مهما بدت ضئيلة، تحمل في طيّاتها قوّة كامنة، تعيد الماضي إلى الحياة في ضوء الحاضر، وتفتح نافذة جديدة على الحقيقة، الّتي تحمل في أعماقها حكايات أجيال بأكملها، وتشهد على أحداث تاريخيّة مهمّة عاشها الأجداد.

إنّ مفهوم الذّاكرة، من أكثر المفاهيم الاجتماعيّة تشعّبا، نظرا إلى المجالات المختلفة الّتي يتّصل بها، فهو يتداخل مع العلم النّفسيّ في دراسة الوعي واللّاوعي، ومع الفلسفة في تحليل مفهوم الهويّة والوجود، ومع السّياسة في تشكيل الذّاكرة الجماعيّة وتأثيرها على الهويّات القوميّة. والذاكرة هي حجر الزاوية في المشروع الرّوائيّ المعاصر، فقد أدرك الرّوائيون العرب أهميّتها في بناء الرّواية، وظّفوها في معالجة القضايا الّتي تشغل بال المجتمعات العربيّة، ومن خلال تقنيّات السّرد المختلفة، قدّموا صورا متعدّدة للحياة العربيّة.

لقد حملت روايات كبار الأدباء العرب، من أمثال نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف وغسّان كنفاني، رضوى عاشور والطّاهر وطّار، أمين معلوف وصنع الله إبراهيم وغيرهم، هموم أمّتنا وأحداثها الفارقة، كالنّكبة والنّكسة والثّورة النّاصريّة، لتؤرّخ لتجاربنا الجماعيّة وتخلّدها في الوجدان، كما سلّطت الضّوء على مشاكل الإنسان العربيّ وتطلّعاته، وعبّرت عن آماله وآلامه، وأرّخت أيضا للتّحوّلات الاجتماعيّة والسّياسيّة الّتي شهدتها المنطقة.

يؤكّد د. فيصل درّاج أنّ الذّاكرة والهويّة تشكّلان وحدة واحدة مترابطة بشكل وثيق في الأدب الفلسطينيّ الّذي يعكس التّجربة الفلسطينيّة بكلّ تفاصيلها، تلك الّتي يمثّل فيها التّذكّر أكثر من مجرّد استرجاع للأحداث، فهو وسيلة لمقاومة النّسيان والمحو، والحفاظ على الهويّة الجماعيّة.

كما تكشف الرّواية العربيّة عن عمق ارتباطها بالمجتمع، فهي مرآة عاكسة لقضاياه وهمومه، وتوثيق حيّ لتجاربه المتراكمة، وقد نجحت في أن تكون صوتا للمهمّشين والمظلومين.

إنَّ للأدب وقعا عظيما في صياغة ذاكرة الأمم، فهو قادر على تأكيد واقعها وتاريخها، يكشف عن مواطن انتصاراتها وهزائمها، ويسلّط الضّوء على حركتها عبر الزّمن.

في " ممرّات هشّة"، عملت الذّكريات على تشكيل شخوص الرّواية وصقلها، مكّنت القارئ من فهم كيف ساهمت التّجارب السّابقة في تكوينهم الحاليّ، وكيف أصبحت هذه الذّكريات جزءا لا يتجزّأ من هويّتهم.

يقول الكاتب (ص38): "الماضي جدار الزّمن السّميك، نعبره فقط بالتّذكّر. يقول أيضا: "الذّاكرة شمعة تضيء طريق بحثنا عنه، لكنّها تلسعنا بشدّة، وتحرقنا في الكثير من الاحيان".

يشبّه الذاكرة بـ"صنبور يفتح تلقائيّا، نظنّه مغلقا للأبد، فجأة ودون أن ننتبه، تخرج من فوّهته مياه الماضي(ص45).  ثمّ يصف تأثير الذّكريات علينا قائلا: "نتألّم وقد نسعد وقد نبكي، وقد نبتسم، ولكن في كلّ الحالات، لا نفعل أكثر من الإصرار على هذا الرّبط بين الماضي والحاضر"(ص46).

يؤكّد على قوّة الذّكريات وألمها، فيقول: "الذّاكرة توجع.. مرّات مش لازم نتذكّر"(ص108)، ولأنّ الذّكريات موجعة، فهي "في نهاية المطاف تحدث غصّة في الرّوح"(ص92)، أو "تحدث رجفة في الرّوح" كما ورد (ص56).

كما يظهر أهميّتها في الحفاظ على الهويّة الجماعيّة، فيقول(ص95): "التعلّق بالتّفاصيل جزء من حرب الدّفاع عن تخوم الماضي".

يضيف عن الذّكريات الإنسانيّة بشكل عامّ: "إنّها تكبر وتنمو، تتداخل وتتباعد، لكنّها تظلّ أليفة مع ذلك"(ص100).

هكذا، انغمس المؤلّف في بحر السّرد، مستخدما أدواته المتنوّعة؛ كفرشاة فنّانٍ تلوّن لوحته، موظّفا تقنيّة التّذكّر كآلة للزّمن، تنقلنا من حاضر الحكاية إلى ماضيها، لتكشف لنا أسرار شخوصه وأعماقها، ففي خضمّ الأحداث، تتجمّد اللّحظة؛ لتضيء بضوء الماضي، وكأنّها بوصلة تشير إلى انعكاسات الزّمن على وجوه الأبطال، مؤّكدا أنّ "الماضي هو الزّمن الوحيد المحقّق والأكيد"، وأنّ "الشّيء الوحيد الأقدر على إحياء هذا الماضي هو الذّاكرة"، يقول: "نحن نتذكّر، إذن.. نحن نحيي الماضي من رقادِهِ الأبديّ ولو للحظات، إنّها اللّحظات الّتي يتّسع بها منظور الحاضر، ليمتدّ عميقا في الزّمن"(ص105).

إذن، فالذّاكرة في هذا النّص ليست مجرّد أداة سرديّة، بل هي رحلة ذاتيّة، تتغلغل في خبايا النّفس البشريّة وتكشف عن حقيقة هويّتها، فهي "شيء لا نتقصّده، وحين تغزونا لا تطرق الباب، نجد أنفسنا نتذكّر فحسب"(ص 113).

غياب اسم الشّاب والمخيّم.. مفتاح للعمق:

تثير مسألة ذكر اسم المكان والشّخصيّة في العمل الرّوائيّ جدلا بين النّقّاد والباحثين. ففي حين يرى بعضهم أنّ تحديد المكان والشّخصيّة مهمّ لبناء الرّواية وتماسكها، يرى آخرون أنّ إغفالهما قد يكون اختيارا فنّيّا مقصودا، يخدم غايات سرديّة محدّدة.

يساهم ذكر اسم المكان والشّخصيّة في بناء العالم الرّوائيّ، ويساهم أيضا في خلق تصوّر له، وتصوّر لتطوّره التّاريخيّ والاجتماعيّ والثّقافيّ، ممّا يمنح القارئ إطارا مرجعيّا ملموسا، يساعده في تصوّر الأحداث والشّخصيّات في سياقها، والتّعرّف عليها، الأمر الّذي يعزّز انغماسه في القراءة، ويسهّل عليه تصوّر المشهد وتتبّع الأحداث والتّفاعل معها.

قد تحمل أسماء الشّخصيّات دلالات ومعانٍ رمزيّة معيّنة تعكس أدوارهم، وتعزّز الموضوعات والأفكار الرئيسيّة في الرّواية، وقد ترتبط بأصولهم العرقيّة أو الثّقافيّة أو الاجتماعيّة، ما يضيف عمقا للعمل ويخلق انطباعات أوليّة يستخدمها الكاتب لتوجيه توقّعات القارئ أو مفاجأته.

لقد غاب اسم الشّاب الجار والمخيّم في هذا العمل، ما يشير إلى توجّه سرديّ سعى الكاتب من خلاله إلى تحقيق أهداف فنّيّة معيّنة.

يقول (ص77): "صحيح فأنتم حتّى اللّحظة لا تعرفون شيئا عن الجار الشّاب، لو ذهبتم لكلّ محرّكات البحث على الإنترنت، فلن تصادفوا قبالة اسمه أيّ مادّة أو معلومة".

قد يبدو هذا الغياب للوهلة الأولى غريبا، إلّا أنّه قد يحمل في طيّاته دلالات عميقة، ويفتح آفاقا واسعة أمام المتلقّي للتّأويل والقراءة، فقد يرى نفسه في شخصيّات الرّواية وأحداثها، مهما اختلف الزّمان واختلفت الأماكن، وذلك ما يقدّم تجربة إنسانيّة عامّة وجامعة، تتجاوز حدود الزّمان والمكان، وتتجاوز الحدود الثّقافيّة والاجتماعيّة.

هذا الغياب المقصود، يضفي جوّا من الغموض والفضول، وهو بمثابة تحدٍّ للكاتب والقارئ معا، فهو يدفع القارئ إلى التّفكير والتأمّل، ويفتح له الآفاق للتّحليل والتّفسير، يدعوه إلى المشاركة في عمليّة بناء المعنى، وإلى التّركيز على العلاقات بين الشّخصيّات والأحداث وعلى حالة الشّاب النّفسية.

في الواقع، لم يقتصر غياب الأسماء على اسم الشّاب الجار والمخيّم فحسب، بل امتدّ ليشمل العديد من الشّخوص الّتي ظهرت، فقد لجأ الكاتب إلى تكرار صفات وخصائص مميّزة لهذه الشّخصيات، بدلا من ذكر أسمائها الصّريحة، فمثلا ذكر "الرّجل ذو الكرش البرميل" الّذي تحدّث عنه لاحقا بشكل أكبر، ثمّ "الجارة ممطوطة الطّول"، و"الفتاة معدودة الزّهرات في سلّة الأربعينيّات"، وتلك أمثلة على هذا الأسلوب.

هذا التّكرار المتعمّد يهدف إلى ترسيخ صورة واضحة للشخصيّة في ذهن المتلقّي ويجعله يتذكّرها بسهولة، دون الحاجة إلى ذكر اسم محدّد، وبشكل عام، فغياب اسم البطل أو المكان ليس نقصا، بل هو خيار فنّيّ مقصود، يهدف إلى تحقيق أهداف سرديّة محدّدة.

من الأمثلة المهمّة على ذلك، رواية "شرق المتوسّط" لعبد الرّحمن منيف، الّتي صدرت عام (م1975)، والّتي يحيك فيها سجّادة من الكلمات، وقصّة معاناة شعب بأكمله، دون أن يذكر أسماء أو أماكن، وكأنّه يقول، إنّ القضية أكبر من الأفراد والأماكن، إنّها قضية إنسانيّة شاملة.

خواطر تأمّليّة في شؤون الحياة:

كما يغوص النّصّ في أعماق النّفس البشريّة، مستعرضا مجموعة متنوّعة من التّجارب الإنسانيّة، يستكشف موضوع الوحدة (ص20)، مؤكّدا أنها "فكرة تعيش فينا بسبب إصرارنا على الفراغ الّذي نتوهّم وجوده".

يتحدّث عن الموت (ص23): "صراعنا مع الموت، نشكّ فيه، نستبعده نتخيّل أنّه مستحيل، لكنّه يأتي في النّهاية". ويتطرق إلى أهميّة الأمل والإصرار على الحياة (ص25): "نستجمع قوّتنا ونواصل السّير، ذلك الشّعور الخفيّ باليقين هو ما يدفعنا للاستمرار".

لا يقتصر النّصّ على هذه المواضيع، بل يتناول أيضا نظرة المجتمع لكبار السّنّ (ص43)، حيث يقول: "الجميع ينظرون لك في مثل هذا السنّ بوصفك شيئا من الماضي الجميل الّذي لم يعودوا يعيشون فيه، ومجرّد حضورك يذكّرهم به، ويجعلهم لا يقاومون الحنين لاستعادته".

كذلك يسلّط الضّوء على موضوع الصّداقة والعلاقات الانسانيّة لكبار السّنّ، يوضّح كيف تتغيّر هذه العلاقات مع مرور الزّمن، فيكتب (ص66):

"في سنّ معيّنة يتساقط أصدقاؤك مثل ورق الشّجر في الخريف، وقد يأتي وقت لا تجد فيه صديقا تتشارك معه لحظات الطّفولة والشّباب، فتصبح تلك اللّحظات من شريط العمر يتيمة، لا تسكن إلّا في أعشاش ذاكرتك".

ثمّ يتحدّث عن التّكيّف مع التّغيير (ص56) فيقول: "أن نتكيّف لا يعني أن ننسى، أن نقفز خارج الزّمن، أن نطوي صفحات الكتاب الّذي نقرأ". وفي (ص56): "مع الوقت تصير العادات جزءا من التّفاصيل المفضّلة، وتصير تقليدا نحرص عليه".

يطرح بعد ذلك رؤية فلسفيّة حول الزّمن (ص90): "البشر صنعوا الوقت وصاروا ضحايا لما صنعوه، اللّيل والنّهار هما استمرار لنفس الشّيء، لا شيء حاضر ولا شيء ماضٍ".

وبعد، يمثّل هذا النّصّ مرآة تعكس انشغالات الإنسان بأسئلة الوجود الكبرى، يقدّم رؤىً تساعدنا على فهم أنفسنا والعالم من حولنا، يفتح أمامنا آفاقا جديدة للتّفكير والتّأمّل، يدعونا إلى إعادة النّظر في قيَمنا وأولويّاتنا، وعدم الاكتفاء بالإجابات الجاهزة، بلّ إلى البحث المستمرّ عن المعنى، يذكّرنا بأهميّة التّفكير النّقديّ والتّساؤل الدّائم، ويشجّعنا على الانخراط في حوار داخليّ عميق، لنكون أكثر وعيا بأنفسنا وانفتاحا على العالم من حولنا.

***

صباح بشير

.....................

- ورقة مقدّمة إلى نادي حيفا الثّقافيّ بتاريخ (19.09.2024)

 

صدرت رواية (غابة همرباكر) للكاتب والصديق كريم عباس حسن عن دار أكودي للثقافة عام 2024م، وبواقع (145) من الحجم المتوسط، وزين غلاف الرواية بلوحة للفنانة الدنماركية (ArtByBettina). والرواية تعتبر الرابعة بعد أن صدر له ثلاثة روايات، هي: (مصير بلقيس عام 2020م، والبطريق الحالم عام 2021م، وقاموس الخلاص عام 2022م).

والصديق كريم عباس حسن من مواليد العراق- الديوانية عام 1951م، أكمل دراسته الابتدائية والثانوية فيها وحصل على شهادة الدبلوم في معهد الزراعة- بغداد عام 1976م، وشهادة معهد التربية في مملكة الدنمارك عام 1996م، وهو مقيم حالياً في الدنمارك منذ عام 1985م، والمتزوج من امرأة دنماركية تعرَّف عليها من خلال العمل في المعهد التربوي وعلم النفس، وله منها أبنتان وحفيدتين.

ومن خلال التواصل مع الروائي كريم عباس حسن عبر الماسنجر والواتساب يذكر لي أن كل رواية كتبها يخوض فيها امتحان جديد يكمن ذلك في سحر الكتابة والمفردات التي يستخدمها من خلال تجربته في هذا المجال، فيتحدى نفسه في كل مرة وينجح في ذلك، وكان للحوار مع الراحل حميد العقابي الدور في تطوير ادوات الصديق كريم عباس. فهو يكتب من أجل أن ينجز مشروعه الروائي، وهو أجمل أحلامه وآماله. فكان يتخذ من أحد أماكن منزله مكاناً لخلوته ليوظب ادوات الكتابة وفق مفاهيمه الفلسفية واليسارية، ويعالج من خلال ابطاله الحالات النفسية والاجتماعية التي يمر بها أبطال رواياته.

تعد غابة همرباكر (Hammer Bakker) أحد أهم عشرة غابات في الدنمارك، وتدور احداث رواية الصديق كريم عباس حسن في تلك الغابة وفي القرية القريبة منها (فودسكو)، للفترة من عام 1985 ولغاية عام 2023م من خلال اللقاءات في بار المصباح (Lygten Bar). وكان بطل الرواية (أندرياس) الحاصل على الشهادة الجامعية في قسم الهندسة الكهربائية في مدينة البورج، ومن هواياته ممارسة رياضة الجري في أوقات فراغه، ثم في نادي البورج للساحة والميدان، إضافة إلى التجوال في غابة همرباكر، وما حدثت من جريمة قتل بحق مونيكا في تلك الغابة، فالأحداث تدور عن الدواعي للقتل والبحث عن القاتل من خلال توظيف عناصر وأفراد تلك الرواية منها (بائعة العسل)؛ والحديث عن واقع حال المجتمع الدنماركي المسالم والمستقر دون ازمات تمر به.

عندما يستنطق بطل روايته (كارولينا) في ص15 قائلاً: (شعور منفصل تماماً عن الوجود، أقرب إلى الشحنات الموجبة أو السالبة، ربما هو شعور بشيء من السعادة المجهولة!... علمتني هذه السقطة- الغيبوبية أن الموت جميل، إذا كان يشبه الإغماء! لكن لا بأس سأنتظره دون خوف منه وسوف أحاول أن أعيش بشكل أفضل، دون التعجل في الذهاب إلى الإغماءة الأخيرة بتعمد، هي قادمة لا محال!).

تنقلنا صور الرواية من خلال الأحداث عن حياة المجتمع الدنماركي برؤية عميقة، وأنا كنت قريباً ومطلعاً على ذلك المجتمع الراقي من خلال العيش فيه للفترة من عام 2001م ولغاية عام 2004م، فكان الروائي دقيقاً في نقل الصور الحقيقية والواسعة عن ذلك المجتمع الذي نال السعادة من خلال رقي تاريخه وأدبه وسلوكيات أفراده والمقيمين على مملكته العريقة. وما جذبني من عنوان الرواية (Hammer Bakker)، وقد كان لدور الروائي السردي الرائع لينقلك خلال الأحداث الزمكانية دون ملل.

والروائي كريم عباس حسن يمتلك الأدوات الفنية للرواية التي تتعلق بالجانب الاجتماعي والإنساني والنفسي والأخلاقي والفلسفي والسياسي للمجتمع الذي عاش فيه منذ عام 1985م وأخلص له ليعتبر نفسه ضمن مواطنيه، وقد اعتمد على اسلوب الاسترجاع للأحداث من خلال السرد وربطها بالحاضر. فمن خلال اطلاعي على رواياته الأربعة أجد أن الروائي قد نجح في استخدام أدب السرد كتقنية أدبية روائية، مستغلاً أدواته الفنية في وضع لمساته الأخيرة في رواياته.

ثم ينقلنا الروائي إلى حال الأشخاص الذين كان يعطف عليهم الروائي منها (ماريا) التي تسكن على (طرف الغابة من جهة فودسكو، حيث تقع الكنيسة على بعد أقل من أربعمئة متر من سكنها) ص17. وينقلنا الروائي في ص69 إلى حال ايزابيلا والنقاش المفعم بين أفراد الرواية حسب التقييم الشخصي  لترتيب القيم وفق الترتيب: (الحرية، الحب، السعادة، الأمان)، ويستنطق الروائي ايزابيلا في ص76 حول ذلك الترتيب: (يبقى السؤال يعيد نفسه، هل الشعب الدنماركي يعد من أسعد الشعوب؟ كمحاولة للإجابة الشخصية، كان بإمكاني أن أجيب: نعم بقناعة كاملة، إننا سعداء، أنا لا ينقصني شيء، بيني وبين ذاتي شخصياً أعتقد أن مفهوم السعادة هو فردي ونسبي في آن واحد، مفهوم السعادة، هي كلمة ذات قيمة تتعلق بحالة الفرد النفسية، يحصّلها كنتيجة نجاح، فوز، لقاء مفاجئ لشخص عزيز، اشباع رغبة أو تنفيذ حاجة).

وفي ص120 ينقلنا الروائي إلى ترتيب الهرم وفق القيم الأربعة؛ (السعادة، الأمان، والحب والحرية)، حسب أهميتها بالنسبة (لأندرياس وكارولينا)، فيبدأ الحوار على أيهما أهم، ويتم الترتيب في ص121 وفق الأولوية (الأمان، الحرية، الحب، السعادة). فالحوارات بين شخصيات الرواية (أندرياس وكارولينا) و( كارولينا وغوستاف) عكست انساقاً ثقافية فضلاً أخبار مجلة القرية المحلية لاستخدام فن السيرة في الرواية والحراك السردي. فالرواية عبرت عن عمل أدبي جميل برؤيا بصرية نافذة، وسلطت الضوء على مرحلة تاريخية في مملكة الدنمارك، فأضفى الروائي عليها جمالاً وقوة من خلال عطاءه الأدبي في الابداع. أما الجوانب السلبية فقد أظهر الروائي جانب الجنس المنحرف والشذوذ في المجتمع الدنماركي وفكرة الزواج المثلي. إلا أن الروائي تمكن من عصرنة حركة الشخصيات في تفكيرهم من خلال الأحداث والحداثة.

***

نبيل عبد الامير الربيعي

من الصعب تحديد إجابة واضحة، عن سؤال يلاحق أرواح وعقول المشتغلين بالشعر، وفضاءات تأثيرة النفسي والوجداني ،هل القصيدة هي التي تلاحق خطوات الجمال المكونة لموجودات ذائقة التلقي العامة؟

أم  تراه الشاعرالذي يعمد الى البشّ المهيب وسط بحور الجمال ليقدم لمتلقيه ما يهز الوجدانية القرائية العامة ويثريها؟ وعلى ماذا يعتمد الامران،،مادام الكثير مما نتابعه من مايسمى تحت باب الوعيد والتهديد شعراً، أوَلم  تزل القاعدة الفقهية الشعرية الإرثية قائمة (إذا الشعر لم يهززك عند سماعه  ..فليس خليقا أن يُقال له شعرُ) يبدو أن الأزمنة التي الحقت بالشعر ضررا كبيرا ، عمدت وبرغبة من ظنّ أنه دخل وادي عبقر واخذ له صاحباً من الجن ملقناً،هي التي القت بالشعر الى طرق تهلكةٍ جعلت

الكثير من يبدو مثل أنثى هرمة تعمدت العري ساعة تشاء دون حساب دقيق لتأثيرات هذه اللحظات وقوة صمودها في ذاكرة الإشتهاء والتمني، قواعد الاشتغال اختلفت تحت ضغوطات الوعي والايمان بمفاهيم التجديد و قيم البناءات التي تحتاج الى صور ومؤثرات يجب أن لاتظل جالسة داخل دوائر الاعتياد والمألوف،وهذا ما يقوم به الشاعر المغترب يحيى السماوي، الروح المتشظية بين طفولة مليئة بسموم صحارى السماوة، ومتغيرات أيامها العجيبة غير القادرة على الاستقرار والسكينة، وبين تفحص الأرث الشعري العراقي والعربي بقديمه وحديثه، والامتلاء الى حد التخمة  بمفرداته الصورية العميقة التأثير وبين أمواج المدارس القائمة على المغايرة سواء كانت عراقية أمتدت الى ربوع الشعر العربي او عالمية جاءتنا محرضة فأخذ منها يحيى السماوي ما يرغب ويريد،وبهذا صارت روحه الشعرية عميقة تحاول ولوج الدروب الفلسفية التي تبدو احياناً ثقيلة الوطء على النص الشعري، لكنها وبارادة الشاعر تحاول منحه صفة  الكمال والرفعة معاً، لهذا أجد في ما يكتبه يحيى السماوي من شعر مغايرة جاذبة تغرد خارج اسراب ما اعتمد النقد على تسميته أجيالاً او مدارس، من الصعب جداً أن اضع نصوص السماوي، عند ضفاف الشعر الستيني الذي أثار الكثير من الازمات داخل النفس الشعري العام،وأجد ثمة صعوبة أكثر أن آخذ بمايكتبه يحيى السماوي لا أجلسة وسط ضجيج وهتافات وانهزامات وحروب ومدائح القصيدة السبعينية وما تلاها، الفطنة القرائية تحتم أن أهمس أن السماوي، يمشي مع الجميع  دون الاتفاق على مساراتهم وبخطوات بعيدة عنهم ومنفردة ومتفردة أيضاً، وهذا ما جعل نصوص السماوي، تقدم وجودها الثري لمتلقٍ خاص جداً، يعرف ويفهم كيفيات الوجود النصي وما يريد الشاعر ويرغب بأيصاله الى متلقيه، لهذا نجد ثمة حضور مهم للشاعر وسط الجمع الشعرية العراقية والعربية، لكنه ودون عقد وببساطة متناهية الوضوح لا ينتمي حتى من خلال إشارة بسيطة لهذا الجمع الصاخب والمضطرب والمستسهل لمهمة الشعر وتأثيراته!!

القصيدة:

(لـغـايـةٍ فـي نـفـس سـادن الـمـئـذنـة…)

شــاخَ الـزّمـانُ ولـم نـزلْ طِـفـلـيـن ِ

نـبـتـكـرُ الوسـيـلـة َ والـدُّمـى فـي لـهْـوِنـا ..

حـيـنـا ً أكـُـرُّ عـلـيـكِ بـالـقـُـبُـلات ِ ..

أحـيـانـا ً أشــدُّكِ لـلـضـلـوع ِ بـلـعْـبَـة ِ "الـشـُّرطـيِّ والـلـصِّ الـمُـخـاتِـل ِ" ..

و"الأمـيـرة ِ فـي بـلادِ الـجـن ِّ"

و" الـطـفـل ِ الـعـصِـيِّ عـلـى الـفِـطـامْ "

*

فـأشــمُّ وردَ الـيـاسـمـيـن ..

وأرضـعُ الـتـُّـوتَ الـخـضـيـبَ

مُـمـسِّـدا ً مـا بـيـن صـدركِ والـحِـزامْ

*

و" لـغـايـة ٍ فـي نـفـس يـحـيـاكِ "

الـمُـضـرَّج ِ بـالـتـبـتـُّـل ِ والـصّـبـابـةِ والـهـيـامْ  :

*

أســتـلُّ حـنـجـرتـي  وأفـتـعِـلُ الـخِـصـامْ

*

تـبـكـيـنَ ..

يـبـكـي الـمـاءُ ..

يـبـكـي الـشـِّـعـرُ ..

يـبـكـي الـعـنـدلـيـبُ ..

وتـسـتـحـي مـن عـطـرهـا الأزهـارُ ..

تـطـردنـي الـحـدائـقُ والـحـقـولُ ..

ويُـعـلِـنُ الأضـرابَ عـن تـحـلـيـقـِهِ  سِــربُ الـحَـمـامْ

*

يـغـتـاظ ُ كـأسـي مـن فـمـي  ...

ويـفـرُّ قِـنـديـلـي إذا نـاديـتـُـهُ

لِـيـنـشَّ عـن غـزلان ِ مـرعـى مـقـلـتِـيْ ذئــبَ الـظـلامْ!

*

حـتـى الـحـروفُ تـصـيـرُ أشــواكـا ً بـحـنـجـرتـي

فـيـجـرحـنـي الـكـلامْ

*

بـعـضُ الـعِـتـابِ ضـرورة ٌ لـلـحـبِّ

مـثـلُ ضـرورةِ الـمِـلـح ِ الـقـلـيـل ِ لِـيُـسـتـطـابَ بـهِ الـطـعـامْ

*

تـبـكـيـن .. تـشـتـعـل الـحـرائـقُ ..

أسـتـغـيـث ُ بـمـاءِ عـفـوك ِ ..

تـضـحـكـيـن ..

فـتـخـشـعُ الأوتـارُ فـي مـحـرابِ حـنـجـرتـي ..

فـأرسـم بـالـتـبـتـُّـل ِ والـنـدى شـكـلا ً جـديـدا ً لـلـعـبـيـر ِ

كـأنْ يـكـون لـه شــذاكِ عـلـى وسـادتِـكِ الـحـريـر!

وتـخـلـع الـصـحـراءُ ثـوبَ الـرَّمـل ِ

تـلـبـسُ بُـردة ً خـضـراءَ مـثـلَ قـمـيـص ِ نـومِـكِ ..

والـمـديـنـة ُ تـرتـدي فـرحـي ..

تـُبـايـعـنـي الـسَّـواحـلُ سـنـدبـادا ً..

والـمـآذنُ سـادِنـا ً..

فـأنـا وأنــتِ : الـلـيـلُ والـبـدرُ الـتـمـامْ

*

هـيّـأتُ مـا يـكـفـي مـن الـحـطـبِ ..

اسْـجـري الـتـنـُّـورَ ..

بـيْ جـوعٌ لـخـبـزكِ ..

واسْـــقِــنـي كـأســيـن ِ مـن قـُبَـل ٍ

وزِقـّـا ً مـن نـدى زهـر الـقـرنـفـل ِ لا الـمُـدامْ

*

لِـلـمُـسـتـجـيـر ِ مـن الـحـرائـق ِ عُـذرُهُ

لـو مَـدَّ صـحـنَ يـديـهِ يـسـتـجـدي الـغـمـامْ

*

غـيـثـا ً ..

ويـبـسـط ُ جـفـنـَـهُ لـسـمـاحَـة ِ الـوَسَــن ِ الـبـتـولـيِّ

الـعـصـيُّ عـلـى سُـهـادِ عـيـونِـهِ ريـشُ الـمَــنــامْ

*

هـيّـأتُ مـا يـكـفـي مـن الـنـَّـزق ِ الـجـمـيـل ِ ..

ومـن مـجـون ٍ نـاسِــكِ الـلـذاتِ فـي عَـرفِ الـصَّـبـابـةِ والـهـيـامْ

*

هـيّـأتُ مـا بـيْ مـن جـنـون ِ الـمـوج ِ طـال بـهِ الـسُّـكـونُ ..

فـهـيِّـئـي مـافـي وجـاقِـكِ مـن ضـرامْ

*

أضْـمَـرْتُ طـيـشــا ً تـحتَ ثـوبِ بـراءةِ الـصَّـيّـادِ

يـنـثـرُ قـمـحَـهُ حـولَ الـمـصـيـدةِ لـلـحَـمـامْ

*

هـيّـأتُ لـلـتـنـُّـور ِ أمـسـي فـاحـرقِـيـهِ ..

وطـهِّـريـنـي مـن ذنـوبِ لـذاذة ِ الـعـشـق ِ الـحـرام

*

لأنـامَ مـقـرورَ الـسَّـريـرة ِ والـسَّـريـر ِ

مُـخـلـَّـدا ً فـي جـنـَّـة ٍ أنـهـارُهـا الــقـُـبُـلاتُ ..

والـحـورُ الـمـلائِـكُ أنـتِ ..

والـغـلـمـانُ أزهـارُ الـسَّـفـرجـل ِ والـخُـزامْ

***

القاص - شوقي كريم

 

فيلم عن مهاجر هندي يرعى الماعز يثير جدلاً في الخليج

بقلم: سوربهي جوبتا و أمل السعيدي

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

أثار اقتباس كتاب شعبي خلافًا بين المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان – كما أثار تساؤلات حول الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال.

في عام 2008، نشر الكاتب المالايالمي بنيامين، المعروف باسم بنيامين، روايته الأولى " أدوجيفيتام " والتي تُرجمت لاحقاً إلى الإنجليزية بعنوان "أيام الماعز"، مما كشف الصورة المثالية للحلم الخليجي للعديد من سكان جنوب الهند.

بدأت في السبعينيات، شهدت ولاية كيرالا في جنوب الهند "فورة الخليج" حيث هاجر الناس إلى المنطقة بشكل جماعي بحثاً عن العمل. في الخيال الشعبي، كان "رجل الخليج"، وهو كيرالي يعيش في أحد الدول العربية الخليجية، شخصاً ثرياً. كان الخليج أرضاً حيث يحقق الناس طموحاتهم الاقتصادية. ومع ذلك، دمرت "أيام الماعز" هذا السرد بشكل فردي. سرد بنيامين قصة نجيب محمد، عامل يومي في كيرالا هاجر إلى السعودية في أوائل التسعينيات بحثاً عن فرص أفضل، لكنه انتهى في ظروف مشابهة للعبودية في مزرعة ماعز في وسط الصحراء. كانت هذه المرة الأولى التي يركز فيها كاتب على معاناة عمال المهاجرين في الخليج في الأدب المالايالمي.

أصبحت دراما البقاء حديث الساعة وحققت مبيعات ضخمة. منذ ذلك الحين، شهدت النسخة الأصلية المالايالمية أكثر من 100 إعادة طبع وتمت ترجمتها إلى العديد من اللغات، بما في ذلك العربية والإنجليزية والنيبالية والعديد من اللغات الهندية الأخرى. فاز بنيامين بجائزة أكاديمية كيرالا للأدب في عام 2009، وتم ترشيح الترجمة لجائزة مان آسيوي الأدبية في عام 2012 وجائزة دي إس سي للأدب الجنوب آسيوي في عام 2013 — وهي تكريمات مرموقة.

من قرية كولانادا في كيرالا، عاش بنيامين في البحرين لأكثر من عقدين، حيث عمل كمهندس وبدأ مسيرته الأدبية هناك. "كنت صغيراً جداً عندما انتقلت إلى البحرين. كنت أعمل ثماني ساعات وكان لدي 16 ساعة أخرى فارغة، لذلك بدأت أقرأ. استمر هذا الأمر لمدة سبع إلى ثماني سنوات. كنت أكتب أيضاً رسائل لأصدقائي، لذا بدأت أتواصل مع عملية الكتابة"، كما قال لصحيفة "ذا إنديان إكسبرس" في عام 2018، عندما فاز بجائزة جاي سي بي للأدب عن روايته "أيام الياسمين" — وهي رواية مستوحاة من ثورة الياسمين في تونس.

حول "أيام الماعز"، قال: "كانت تجربة مغترب، قابلته بالصدفة. فكرت أنه يجب أن أحكي تلك القصة لأن العديد منا يفكر فقط في مجد دول الخليج ولكن هناك جانب آخر لهذه القصة أيضاً — وهو معاناة الكثيرين. هناك قصص سعيدة، ولكن هناك أيضاً قصص حزينة."

ومع ذلك، كانت شهرة الرواية محدودة بالأوساط الأدبية حتى قام المخرج المرموق بليسي إيب توماس، المعروف باسم بليسي، بتحويلها إلى فيلم بعنوان " "أدوجيفيتام - حياة الماعز"". قام الممثل الشهير براثفيراج سوكوماران بدور محمد. أصبح الفيلم المنتظر بشدة واحداً من أعلى الأفلام تحقيقاً للإيرادات في السينما المالايالمية عند عُرض في مارس. مؤخراً، فاز الفيلم بعدة جوائز رفيعة في جوائز فيلم ولاية كيرالا — الأكثر طلباً في السينما المالايالمية — بما في ذلك أفضل مخرج، أفضل سيناريو مقتبس وأفضل ممثل.

بينما كان فريق العمل يستمتع بنجاحه، نشأ جدل غير متوقع حول الفيلم في الخليج، حيث تدور أحداث الفيلم. تعرض الممثل العماني طالب البلوشي لانتقادات شديدة لدوره كـ"كفيل"، وهو صاحب عمل قاسي احتجز المهاجر الهندي في ظروف غير إنسانية وعذبه. اعتبر كثيرون في السعودية أن الفيلم قدم صورة غير عادلة عن البلد وعمم الصور النمطية عن العرب، واصفًا إياهم بـ"الهمج". كما كانت هناك تكهنات حول ما إذا كان البلوشي قد تم وضعه على قائمة سوداء من دخول السعودية، وما إذا كان الفيلم قد تم دعمه من قبل دول خليجية أو عربية أخرى بهدف تقويض السعودية. وقد تصدر الفيلم وسائل التواصل الاجتماعي، مع هاشتاجات مثل #طرد_العمال_الهندوس، #حياة_الماعز_لا_تمثلنا و #السعودية_خط_أحمر — وهو هاشتاج وطني يعني أن النقد للمجتمع السعودي غير مبرر.

في أعقاب هذه الجدل، أصدر بليسي بياناً قال فيه: "لقد حاول الفيلم بلا هوادة تسليط الضوء على نبل الروح البشرية حتى في قلب شخص قاسي. ... حاولت تقديم هذه الرسالة بشكل مستمر طوال الفيلم ولم أقصد أبداً جرح مشاعر أي فرد أو عرق أو بلد أضاف المخرج أن الفيلم حاول "تصوير التعاطف والرحمة لدى الشعب العربي من خلال شخصية الرجل الطيب الذي ينقذ نجيب... كما تم تصوير موظفي المطعم والأشخاص في مركز الاحتجاز ونقطة تفتيش أرباب على أنهم نماذج للطف والرحمة والتعاطف".

في ظل الشائعات حول رعاة الفيلم، كرر بليسي أنه أخرج وكتب الفيلم وأنه تم إنتاجه بواسطة شركة "Visual Romance"، التي تُعد "المالك الوحيد والمساهم فيها." وأضاف: "لا توجد أي فرد أو شركة أخرى لها أي دور، مهما كان، في إنتاج الفيلم."

وقف البلوشي أيضًا إلى جانب الفيلم وقراره بالتمثيل فيه. قال لـ "نيو لاينز" إنه وجد السيناريو مكتوبًا بشكل احترافي، وأنه كممثل كان يسعى للتطور وتجربة شخصيات مختلفة. وأضاف أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يلعب فيها مثل هذا الدور، بل إنه قدم شخصيات أكثر "شدّة" في الدراما العمانية. أشار البلوشي إلى أنه توقع رد الفعل ولكن اعتمد على جودة السيناريو لجذب الانتباه إلى أن الوضع الذي يتم تصويره هو حالة فريدة. ويعتقد أن الردود السلبية قد تكون مدفوعة من قبل المتصيدين عبر الإنترنت الذين يحاولون إثارة النزاع بين الهند ودول الخليج العربي.

وفي بيان نشر على مواقع التواصل الاجتماعي، اعتذر الممثل الأردني عاكف نجم "للشعب    السعودي"، قائلاً إنه عندما وافق على التمثيل في الفيلم، لم يقرأ سوى الجزء الخاص بدوره في السيناريو، والذي يعتقد أنه يصور السعوديين في ضوء إيجابي. وقال: "لقد فوجئت كما فوجئ الآخرون عندما شاهدت الفيلم"، مضيفًا أنه لم يكن ليشارك فيه أبدًا لو كان يعرف قصته الكاملة.

وفقًا لمصدر  تحدث لـ "نيو لاينز"، تلقى مركز الاتصال الحكومي في سلطنة عمان، وهو هيئة رسمية تابعة لوزارة الإعلام مسؤولة عن مراقبة وتحليل المحتوى الإعلامي ووسائل التواصل الاجتماعي، أوامر من "جهات عليا" في وقت سابق من هذا الأسبوع تقضي بتوجيه جميع وسائل الإعلام الخاصة وحسابات الأخبار الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي بعدم مناقشة الفيلم والرواية.

أثار الفيلم جدلاً حاداً في وسائل الإعلام العمانية، حيث دعم البعض البلوشي وانتقده آخرون. وفي مقال له في صحيفة عمان ديلي الصادرة عن وزارة الإعلام العمانية، أعرب الكاتب والإعلامي العماني سليمان المعمري عن تعاطفه مع البلوشي، وتساءل عن شرعية الانتقادات، بحجة أنها لم تكن موجهة إلى العمل الفني والأداء. ومع ذلك، قال المعمري لنيو لاينز إنه لم يتلق من قبل هذا الكم من الإهانات التي وجهت إليه بعد نشر المقال على موقع إكس (تويتر سابقًا).

ودافع بدر العبري، عضو مجلس إدارة النادي الثقافي العماني، وهو مؤسسة حكومية، قائلا إن الهجوم الحالي على وسائل التواصل الاجتماعي استهدف ليس فقط البلوشي ولكن عمان نفسها. وأضاف العبري: "لم يكن معظم العمانيين على علم بالرواية في البداية، ولا بالفيلم لاحقاً. لولا هذه الضجة، لما لاحظوها على نطاق واسع. فكيف يمكن تجاهل كل هذا الكتابة والدعم والإنتاج والإخراج والتصوير، والتركيز فقط على عمان؟ لا يمكن تفسير هذا إلا بمحاولة خلق صراع وهمي بين دول الخليج."     وقال عبدالله الغذامي، الناقد الأكاديمي السعودي المعروف، في مقابلة على قناة العربية إنه لم يشاهد الفيلم، وأكد أن الأخطاء يمكن أن تحدث في أي مجتمع وأنه لا يوجد مجتمع "نقي". لكنه رأى أن رد الفعل العام على الفيلم كان مشروعًا ويعكس وطنية الناس. على سبيل المثال، عبر الشيخ السعودي البارز عائض القرني عن استيائه من الفيلم، مشيرًا إلى سمعة البلاد كوجهة للحجاج المسلمين وكرمها تجاه المغتربين، واصفًا صناع الفيلم بالحاقدين.

عندما يصبح فيلم ما موضوعًا لتدقيق مكثف على وسائل التواصل الاجتماعي، غالبًا ما تُثار تساؤلات حول صحة القصة. لقد واجه بنيامين هذه الأسئلة من قبل؛ فعندما نُشرت روايته"أدوجيفيثام"  لأول مرة ككتاب، اتهم بالسرقة الأدبية بشأن أجزاء منها، وهي اتهامات نفاها. في ذلك الوقت، أُثيرت أيضًا أسئلة حول الحريات الإبداعية التي اتخذها أثناء تصويره لقصة حقيقية.

في السعودية، اتهم الروائي السعودي عبدالرحمن الدليج صناع الفيلم بتلفيق العديد من الأحداث، وزعم أنه يعرف القصة الحقيقية كما تم تداولها في التجمعات المحلية في أوائل التسعينيات. بينما لم يذكر بنيامين أو الفيلم أسماء الأماكن، ادعى الدليج أن القصة حدثت قبل حوالي 30 عامًا في منطقة حفر الباطن، وهي محافظة في شمال شرق السعودية، وأن العامل بقي مع الرجل الذي ادعى أنه كفيله لمدة خمس سنوات.

وفقًا لقصة متداولة على نطاق واسع، والتي رواها أيضًا الديلج، طالب العامل بمستحقاته بعد سنوات من العمل في ظروف شبيهة بالعبودية، لكن الكفيل رفض دفع الأجر أو السماح له بالعودة إلى الهند أو حتى الاقتراب من أقرب طريق معبد للهروب من الصحراء. فقام العامل بضرب الكفيل بقطعة حديد، مما أدى إلى مقتله قبل أن يفر. أصبحت قصة القتل حديث المنطقة، وتعاطف السكان المحليون مع العامل الموقوف وجمعوا التبرعات قبل التوجه إلى عائلة الكفيل القتيل ليغفروا للعامل الهندي. وعندما أدرك أبناء الكفيل الراحل أنه كان على خطأ، رفضوا قبول المال، وتنازلوا عن حقهم في القصاص، وطلبوا بدلاً من ذلك أن يتم منح المبلغ الكبير (170,000 ريال سعودي، أو 45,000 دولار) للعامل الهندي تعويضًا عن سنوات خدمته. تنتهي القصة الشعبية نهاية سعيدة: يتأثر العامل الهندي بتضامن المجتمع المحلي، بما في ذلك أطفال الكفيل، ويعلن إسلامه. ومع ذلك، فإن هذا القتل المزعوم لا يظهر في الكتاب أو الفيلم.

وادعى الديلج أن الفيلم بدلاً من ذلك يصور السعوديين على أنهم همج، بقصد تشويه سمعة الشعب السعودي وبلدهم.

في الهند أيضًا، أُثيرت تساؤلات حول الشخصيات التي استلهم منها بنيامين روايته ""أدوجيفيتام ولم يكن الشخص الحقيقي وراء شخصية محمد، الذي ألهمت قصته بنيامين لكتابة "أدوجيفيتام"، معروفًا للعامة في الهند حتى عام 2018. ولكن منذ ذلك الحين، كان هناك اهتمام عميق وأجرى محمد بعض المقابلات التي تم تداولها على نطاق واسع حيث شارك روايته لما حدث له.

روى محمد كيف باع أرضه للحصول على التأشيرة، وأن وكيله أخبره أن الوظيفة كانت العمل كبائع في سوبر ماركت.وكانت زوجته حاملاً في شهرها الثامن في ذلك الوقت. وقال محمد لصحيفة "نيوز مينوت" في عام 2018: "من المطار، كانت رحلة تستغرق يومين وبدا أنها لا تنتهي أبدًا. ومن ذلك نفسه، أدركت أنها كانت فخًا". وأوضح أن وظيفته كانت رعي 700 عنزة يملكها صاحب العمل، الذي كان يراقبه من خلال المنظار للتأكد من أنه لا يحاول الهروب. "لم يشعر بأي ندم حتى عندما رآني أبكي وكان يضربني. كنت مضطرًا لأكل خبز الكوبوس القديم. كنت أستخدم حليب الماعز لترطيب الكوبوس وأكله." وزعم أن صاحب عمله لم يسمح لمحمد باستخدام أي ماء للاستحمام أو تنظيف نفسه، ولم يكن لديه سوى ثوب بسيط واحد يرتديه.

قال محمد إنه هرب ذات ليلة عندما غادر أصحاب العمل إلى حفل زفاف عائلي ولم ينظر إلى الوراء. وأضاف أنه تلقى عرضًا من رجل عربي ليقله إلى الرياض. بعد ذلك، طلب المساعدة من الجالية الهندية المحلية وقدم نفسه للنظام القانوني السعودي.

عند عودته إلى الهند، استأنف محمد عمله كعامل يومي، لكنه عاد إلى الخليج بعد عامين عندما حصل على تأشيرة مجانية من صهره في البحرين.

لم يكن هذا الجزء من قصة محمد موجودًا في الفيلم؛ إذ قال بلسي إنه استند فقط إلى 43 صفحة من الرواية. بالنسبة للمشاهدين السعوديين، فإن الفيلم، رغم كونه نال إشادة نقدية في كيرالا، هو مجرد تصوير جزئي لمجتمع السعودية في التسعينيات. وبالنسبة للكيراليين، الذين أصبحت ولايتهم غنية بفضل الهجرة إلى الخليج، فإن القصة أيضًا جزئية. ومع ذلك، فقد أسرت خيال الكثيرين، لأنها تسلط الضوء على جزء غير مروي ولكن مهم من تاريخ طويل للهجرة إلى الخليج المتألق.

(تمت)

***

..............................

1- سوربي جوبتا: محررة شؤون جنوب آسيا في مجلة نيولاينز. وهي أيضًا واحدة من زملاء لي العالميين لعام 2022، بالشراكة مع مركز بوليتسر لتغطية الأزمات. قبل ذلك، عملت كاتبة في صحيفة إنديان إكسبريس، وهي صحيفة يومية وطنية رائدة في الهند، تكتب عن الثقافة والسياسة والإنترنت. ولدت سوربي ونشأت في نيودلهي، وتقيم حاليًا في مدينة نيويورك.

2- أمل السعيدي: كاتبة عمانية  محررة وصحافية ومقدمة برامج صوتية مقيمة في سلطنة عُمان. تكتب عن الأدب وتهتم بالنسوية في الخليج العربي.

 

مسرحية من تأليف بابا عماد

وإخراج أحمد نجم

***

قدم فريق دريم اكس بالتعاون مع مديرية تربية محافظة واسط وإنتاج فرع نقابة الفنانين عرض مسرحية (الحُر) الساعة الثامنة مساء يوم الثلاثاء 17/ 9/ 2024 على مسرح قاعة النشاط المدرسي في مدينة واسط العراقية، زمن العرض خمس وأربعون دقيقة.

منذ نشأة المسرح وهو يستلهم حكايات وأحداث وشخصيات من الأسطورة والتراث والتاريخ، والشواهد على ذلك كثيرة، منها (أوديب وگلگامش  ومكبث والحلاج والمتنبي …)

شخصية (الحُر)

عنوان العرض ومحوره الأساسي شخصية (الحر بن يزيد الرياحي) التاريخية، وهو من أبرز رجالات الكوفة وأحد أمراء الجيش في واقعة كربلاء، وقد ارسله (عبيد الله بن زياد) لمواجهة (الحسين بن علي) ولكنه رأى في نوايا ابن زياد الظلم والقتال الجائر مما دعاه تحويل موقفه من المواجهة إلى الموالاة وطلب التوبة، قال له الحسين (عليه السلام) لما التحق معه (انت الحر في الدنيا والاخرة) وقد أثار موقفه الكثير من الأدباء فكتبوا عنه القصائد والمسرحيات، منهم من عرض موقفه التاريخي كما هو، ومنهم من اقتبس الموقف وتعاطى معه برؤية متحركة مع الزمن واسقاطات معاصرة.285 alhor

صورة السينوغرافيا

تشكل المنظر بصورته الاولية من حبال بلون حمراء تمتد من أعلى المسرح  وتنزل إلى مقدمة ارضية القاعة وسواء كانت دلالة الحبال ايقونية فهي قيود او دلالة اشارة فهي تذهب بالمتلقي الى سيلان دماء، ام دلالة رمزية فإن التواءاتها تدل على مجموعة هائلة من الأفاعي. يضاف إلى الحبال  قماش يتدلى من أعلى سقف المسرح ويمتد إلى منتصف الخشبة، يتكون من قطعة قماش سوداء وأخرى بيضاء معقودتان (مشتبكتان بعقدة كبيرة) من الاعلى ومفترقتان على أرضية المسرح، وقد تحركت قطع القماش من وضع ساكن في بداية إلى تكوينات متحركة مع حركة الشخصيات وأصوات الموسيقى والمؤثرات الصوتية. ساد على ازياء الممثلين اللون الابيض والاسود مع تنوع التصاميم التاريخية والمعاصرة، تميل الصورة الإجمالية للسينوغرافيا إلى التجريد وتكوينات من اللونين المتضادين (الأبيض والأسود) مع شيء اثارة الترقب تكوينات جديدة متحركة بفاعلية الأداء التمثيلي.

تكوينات صورة العرض

المضمر في العرض هي الفكرة التي انجلى ضباب غموضها في نهاية المشهد الأخير، ذلك أن الانكشاف التدريجي المدروس لمجريات العرض يحتاج كفاءة فنية  حريصة على تدفق علاماتي يجعل  أبصار الجمهور شاخصة على خشبة المسرح بفعل أسلوب إخراجي في توليد الاثارة والتشويق، فقد تركب العرض من مشاهد متفرقة دون تسلسل أحداث لحكاية تقليدية، ولا ينتمي أسلوب العرض إلى نوع درامي واحد لمدرسة محددة الاتجاه ايهامي أو اللا إيهامي، التنوع سمة اسلوبية في إخراج هذا العرض، إذ اشتمل المشهد الاستهلالي على مشهد صامت، منضدة في وسط وسط خشبة المسرح تجلس خلفها على كرسي شخصية (الكاتب) تقرأ وتكتب، تفكر وتتخيل: تدور حوله مشاهد صامتة (رجل يجلد آخر ويعذبه، رجل يحقق مع آخر، تعنيف اجتماعي) جسد شخصية الكاتب/ المفكر الممثل (علي ناظم) وجعلها متماهية مع المتلقي من خلال حضورها المعاصر وتفكيرها الذي استدعى شخصية (الحر) من التاريخ إلى الزمن الحالي. تحول المشهد إلى التاريخ عندما دخلت شخصية الحر وسط جموع من الرجال المقاتلين أصحاب الموقف المتذبذب بين مواجهة (الحسين) بالسيوف وبين الانضمام إليه ونصرته، ويحسم (الحر) رأيه بمغادرة معسكر الشر، والتوجه إلى معسكر عقيدة الحرية وصناعة السلام.286 alhor

انتقل العرض إلى أجواء الواقعية النفسية الإيهامية في مشهد الحر مع أمه، لقد شعر بلحظة قلق وساورته ظنون، فاستنجد الحر بأمه لتدعيم موقفه وتقوية عزيمته وتعزيز شجاعته، ظهرت الام (لينا عبد الرزاق) التي مثلت الامهات كلها بروح ملؤها الهدوء والسكينة والوقار لتمنحه زخما وجدانيا ونورا عقليا، مع تأطير المشهد سمعيا بأغنية تراثية مسجلة وبقعة ضوء سلطت بعناية على منطقة التركيز الاولى في خشبة المسرح (وسط الوسط) مما أثار تفاعلا وجدانيا وتجاوبا من جمهور المتلقين حتى أن بعضهم علق بكلمات وصيحات الإعجاب مثل (الله … رائع) ختم المشهد بانطلاق وولادة جديدة للحر تجسدت من خلال مؤثر صوتي لطفل رضيع.

تجسد مشهد لقاء بن زياد مع الشمر بأزياء واكسسوارات معاصرة، فعل الشخصيات وانفعالهم تضمن إشارات على أنه لقاء شخصيات متنفذة وفاسدة تتآمر على المجتمع، شغل المشهد ووسط ووسط خشبة المسرح - وفي هذا تكرار وتركيز على أداء معظم المشاهد في هذه المساحة مما جعل بعض المناطق مهملة - إلا أن أداء الممثل ( علي الدخاني ) والممثل (احمد نجم) وتمتعهم بمدى من الاسترخاء وقدرتهم على إيصال فكرة ظهور هاتين الشخصيتين بالشكل المعاصر مع تضمين أنهما شخصيات قادمة من عمق التاريخ، لترسيخ وجودها في الزمن الحاضر.

(الحُر) مرة اخرى

أن تقديم شخصية (الحُر) بصورة تمتزج فيها ملامح التاريخ والمقولة المعاصرة مهمة تصدى لها الممثل (حيدر السيفاوي) بأداء اتسق صوتا وحركة، وشغلت فضاء الخشبة والصالة بحضور جمالي مؤثر، وانتقالات مشهدية وصلت ذروتها في المشهد الأخير على وفق احدى أبرز خصائص المسرح البريختي، حين عرضت صورة مغربة لشخصية (الحر) وكسرت طبيعتها المألوفة، وذلك عندما نزل الحر من خشبة المسرح إلى صالة جلوس المتفرجين، وخلع الحر عنه الأزياء التاريخية قطعة تليها قطعة اخرى، ووزع بعضها على عدد من المتفرجين، وظهر بزي أقرب إلى التصميم المعاصر، وذهب إلى وسط الصالة موجها خطابا مباشرا إلى الجمهور وألقى بصوت حماسي خطبة مفادها (أن الحرية موقف)

حرص المخرج (أحمد نجم) على ترسيخ فكرة اهمية احتواء ومشاركة جميع الوان الطيف المجتمعي من خلال مفردة الكوفية والشماغ وأغطية الرأس المتنوعة الاشكال والالوان دلالة اشتراك الجميع في السعي لامتلاك حرية الموقف والاتجاه إلى الفعل الحقيقي.287 alhor

عرّف (باتريس بافي) وحدة الفعل في معجم المسرح بقوله " يكون الفعل الدرامي واحداً (او موحدا) عندما تنتظم كل الاحداث الثانوية مربوطة منطقيا بجذع الحكاية المشترك " واستنادا إلى ذلك استخدم الاخراج السيوف السوط وقطع الاقمشة وتحولات الضوء والظل وتنوعات المؤثرات الصوتية وحوار الشخصيات وتكوينات أجساد مجموعة الممثلين في إنشاء فضاء متحرك دال على مضمون المشاهد يؤطرها جماليا، وبانت وحدة الفعل الفنية والفكرية لعرض الحر بإيقاع منسجم ومتماسك، قدم علاماته بكثافة ووضوح مع الابتعاد عن الترهل والذهاب إلى حساب الزمن وتصميم الفضاء بدقة.

ينتهي العرض بتسليط على شخصية الكاتب - كما ظهر في المشهد الأول - في منتصف المسرح ويختم المسرحية بتمزيق الأوراق والتحريض باتجاه اللحاق بركب حرية (الحُر) وجميع الاحرار في كل مكان وكل زمان.

إشارة أخيرة

يتضمن عرض مسرحية (الحر)  دلالة هامة على ان المسرح في محافظة واسط معافى بوجود المثابرين على العمل والحريصين على التواصل مع مستجدات الفنون في العالم.

***

حبيب ظاهر حبيب

بدأت في نهاية القرن ال (19) ظاهرة سفر الأثرياء من الأرجنتين إلى اليابان وغيرها من الدول الآسيوية، ومنهم رجال أعمال وأصحاب مصالح ، إستقدموا الايدي العاملة الماهرة للعمل في مصانعهم ومشاريعهم في الأرجنتين. ثم حصلت موجات هجرة صغيرة من اليابان إلى الأرجنتين، لتنتشر المتاجر والمحال اليابانية في شوارع (بوينس آيرس) العاصمة، ولتظهر الاعمال الفنية اليابانية المختلفة في المعارض والفعاليات والأنشطة الثقافية، ولينتهي الأمر بتأسيس متحف وطني للفنون الشرقية بالتنسيق مع الحكومة الأرجنتينية. كما تم إنشاء حديقة يابانية الطراز في حي (باليرمو) الراقي. وقد شهد عام 1938 انشاء أول مدرسة لتعليم اللغة اليابانية، مع ظهور أندية وجمعيات ومراكز اجتماعية وثقافية وفنية عديدة. وكانت هذه بعض مظاهر الثقافة اليابانية المنتشرة في الأرجنتين في تلك الفترة الزمنية. أما الهايكو الأرجنتيني فقد بدأت بواكيره الأولى بالظهور في العقد الثالث من القرن الماضي، وعلى يد الشاعر المجدد والصحفي والقاص والناقد الادبي والسفير الثقافي (ليوبولدو أنطونيو لوغونيس) (1874 – 1938) الذي يعتبر من الأوائل الذين استفادوا من الشعر الحر الاسباني، وأحد رواد الادب الخيالي والخيال العلمي في الأرجنتين. وهذا ما ذهب اليه الباحث (ديفيد باردو) من جامعة (كانساس) من خلال بحثه القيم بعنوان (لوغونيس والهايكو) المنشور في (العدد 2، المجلد 23 – 1994) من مجلة (تشاسكي – مجلة أدب أمريكا اللاتينية). ومن مؤلفات (ليوبولدو) (الجبال الذهبية 1897، أوقات السحر في الحديقة، التقويم العاطفي 1909، أغنيات عصرية 1910، تاريخ سارمينتو 1911، والبيت الريفي 1928).

 وأيضا (خورخيه لويس بورخيس) (1899 – 1986). قاص وناقد وشاعر كبير غزير الإنتاج. ومن أبرز كتاب القرن العشرين ومن أكثرهم إبداعا وتأثيرا. كتب في مختلف الأصناف والأغراض الأدبية. من أعماله (الألف، كتاب الرمل، صنعة الشعر، خيالات، مكتبة بابل، والمتاهات). ترجمت مؤلفاته إلى عدة لغات مثل الأنكليزية والسويدية والفرنسية والدنماركية والإيطالية والألمانية والبرتغالية والعربية. كان متأثرا بالثقافة اليابانية وقد زار اليابان في عام 1979. وذلك بحسب الكاتبة والباحثة في الهايكو الارجنتيني (ليتيسيا سيسيليا سافيدرا). وقد تناول (كويتشي هاجيموتو) هذا الجانب من خلال مقالته (بورخيس واليابان) المنشورة في العدد (2، المجلد 44 / 2015) من مجلة (تشانسي) المعنية بالأدب في أمريكا اللاتينية. نشر قصائد الهايكو التي الفها في كتابه (السيفرا 1981). ترجم له (نورمان توماس دي جيوفاني) (17) قصيدة هايكو إلى الإنكليزية. ألهم (غابرييل غارسيا ماركيز وإيتالو كالفينو وأمبرتو إيكو) وغيرهم. حاصل على جائزة (فورمنتور) العالمية للأدب مشتركة مع (صمويل بيكيت). ترجم له إلى العربية (سعيد الغانمي – كتاب الرمل، مزوار الادريسي – الأعمال القصصية الكاملة، محمد أبو العطا – الألف، صالح علماني – صنعة الشعر، عبدالسلام الباشا – حكايات، د. حسن حلمي – خورخي لويس بورخيس: مختارات من شعره، حسن ناصر – سداسيات بابل) وغيرهم.  

ومن الرواد الأوائل أيضا الشاعر(أريستيدس غاندولفي هيريرو) المعروف باسم (ألفارو يونكي) (1889 – 1982) الذي نشر في عام 1966 (100 هايكو وسونيتة). وأيضا (إدواردو غونزاليس لانوزا) (1900 – 1984) وهو من أصول اسبانية وقد أسس مع (خورخي لويس بورخيس) مجلة أدبية. أما (ستيلا ماريس أكونيا زوكي) أستاذة الادب الشرقي في (المعهد العالي للغات) فهي مهتمة بنشر الهايكو في الارجنتين، وقد نظمت عدة ندوات وورش عمل للتعريف بالهايكو والترويج له. ومن النجوم اللامعة في سماء الهايكو الأرجنتيني: (نيري ال. مينديارا) و(كارلوس سبينيدي) (1928 – 2015) و(ماريا سانتامارينا) و(كارلوس أوسكار أنتوغنازي) و(أنطونيو ليبوناتي) و(أليسيا سيسبيس). ونقدم النبذ المختصرة عن بعض الشعراء والشاعرات: (خورخي لويس بورخيس): من أبرز كتاب القرن العشرين. كتب في مختلف الأصناف والأغراض الأدبية. من أعماله (الألف، كتاب الرمل، صنعة الشعر). ترجمت مؤلفاته إلى عدة لغات مثل الأنكليزية والسويدية والفرنسية والدنماركية والإيطالية والألمانية والبرتغالية والعربية. (جوليا جوزمان): شاعرة هايكو ومترجمة ومصورة في العقد السادس من العمر، ومن قرطبة الأرجنتينية. تدرس الادب الإنكليزي. تكتب الهايكو منذ عام 2007. شاركت في الكثير من ورش العمل الخاصة بالهايكو في جميع أنحاء البلاد. نشرت مع زوجها مجموعة هايكو بعنوان (أنيكو وأكيرو). لديهما مدونة بعنوان (هايكوكوياسان). حائزة على الجائزة الأولى لأفضل مجموعة هايكو في المسابقة الدولية الثانية للهايكو (ميديلين – كولومبيا 2014). ساهمت في تأسيس مجموعة قرطبة للهايكو. (كارلوس أوسكار أنتوغنازي): كاتب وقاص ومصور وشاعر. ولد عام 1963. ترجمت أعماله إلى الإنكليزية والإيطالية. ونشرت في مختارات منشورة في المكسيك واسبانيا والولايات المتحدة الامريكية والارجنتين. (أنطونيو ليبوناتي): روائي وقاص وشاعر هايكو. ولد عام 1937 (سان مارتين). نشر ضمن مجموعة شعرية مشتركة. شارك في مسابقات شعرية وطنية ومنح عدة جوائز أدبية. معروف أيضا باسم (سيزار بيانكي). نشرت قصصه الفائزة في مختارات مسابقة (بريميوس ديل ترين) 2003 في اسبانيا. (كارين روزنكرانز): ولدت عام 1971 في بوينس آيرس. حاصلة على شهادة في الاتصالات. كتبت اول قصيدة هايكو في عام 2011. (كريستينا نويمي غيرينغيلي): شاعرة وأكاديمية. ولدت عام 1954. عملت في التدريس. شاركت في الاجتماع الدولي للهايكو / 9 في عام 2016. توفت في عام 2017 بعد صراع طويل مع المرض. (خورخي ألبرتو جيالورنزي): شاعر هايكو ومصور ومهندس معماري ومحرر. ولد عام 1947، يعيش في (بوينس آيرس). ساهم في تأسيس مجموعة قرطبة للهايكو. صدر له (أنيكو وأكيرو 2009) و(هيليتشوس إن لا كورنيزا 2016). 

ساندرا إيديث بيريز: شاعرة ورسامة. بدأت بكتابة الهايكو في نهاية عام 2002. درست على يد الأستاذ (أليكس غونسالفيس مينديز). مدرسة متقاعدة. تنشر في الصحف والمجلات الرقمية المعنية بالهايكو. تقول (ينبغي أن يشعر المرء وكأنه شجرة ليرسم شجرة، أو زهرة ليرسم زهرة). (خوان كارلوس دوريلين): شاعر وقاص. ولد في (كاميلو ألداو). بدأت اهتماماته بالأدب منذ أيام الدراسة الثانوية. نشر أول مجموعة شعرية في عام 1967. شارك في عدة مسابقات شعرية. نال جائزة الشعر الوطنية الثالثة المقامة في (سان رافائيل). نشر مجموعة قصصية في عام 2019 وفيها إشارات بينة إلى الهايكو. (ماريا روساليا جيلا): شاعرة وأكاديمية. منحت في عام 1983 الجائزة الوطنية في الشعر. تأثرت بالأستاذ (فينسينتي هايا). نشرت (آثار أقدام الفراغ). لها قصائد منشورة ضمن مجاميع شعرية مشتركة.

نماذج من الهايكو الأرجنتيني (مترجمة عن الإنكليزية)

1 - جوليا جوزمان

الانقلاب الشتوي*

الأجنحة الشفافة

لليراع

*

هدوء الخريف...

ثمة بطة تسبح

في المنشورات الخاصة بالجرار

*

ضوء القمر

 أجتاز عتبة الباب -

عطر الجدة يفوح في الارجاء

*

جرس الباب –

ينسج العنكبوت

أحبولته

*

تعليق التقويم الجديد

اليوم الأول في العام

أتذكر أبي

*

الشروق الأول للشمس

يسقط الضوء

على وجه الطفل

*

ندى الصباح

طريق الزهور البرية

الأحمر والبنفسجي

*

يوم الاحد في الربيع

صمت العصافير

بعد توقف المطر

*

فجرا في الصيف –

ما برح نجم البحر يتحرك

فوق يدي

*

رقصة التانغو –

تنتقل الفراشة

من زهرة إلى أخرى

*

تشرق الشمس على الشرفة –

تتفتح أزهار الصبار

في أبعاد مختلفة

*

وقت التجمع –

ثرثرة الببغاوات

العائدة لأوكارها

*

اليراعات

يرسم النهر طريقه

المساء الصيفي

*

القيادة في المنطقة الجبلية...

تتحرك ظلال

الغمام

*

صباح خريفي غائم –

ساحت دموع الطفل متدحرجة

متدحرجة

*

مرحبا بك –

يتخطى ضوء القمر الخريفي

دواسة باب المدخل

*

جفاف -

 آثار الشلال

فقط

*

تساقط نجمة

في بلدة وسط الصحراء

لا أحد يتمنى أمنية

*

غابات شبت فيها النيران

رحيل الطيور

إلى المدينة

*

كوفيد 19

مشاريع

معلقة

*

السكينة...

فقط قلبي الذي ينبض

بجانب النهر

***

2 – خورخي ألبرتو جيالورنزي

الإمساك باللص –

باب أمامي

و مخرج آخر...

*

محرقة الجثث –

ثمة ممسحة أرجل فوق كومة الحطب

على ضفة الغانج**

*

ألوان موسم الخريف...

القمر على وشك الاكتمال

فوق الغصن

*

إنهيارات أرضية

ثمة طائر يغرد

وسط البيوت المهدمة

*

ما من طعام...

تنزل الدموع من وجه الفتاة

قطرة تلو قطرة

*

قحط –

الناس يشاركون الحمام

في ينبوع الساحة

*

يلتقط الأطفال المواد البلاستيكية

من الساحل

ثمة سلحفاة نافقة...

*

يرفرف الكتكوت الصغير

على حافة النهر الجاف –

يفتح منقاره على نحو أكثر

*

إنحسار المطر لأشهر –

يرسم الطفل في المرآة القذرة

دائرة

*

ترفرف...

ألوان الخريف

موزعة على رصيف الشارع

*

الغيوم الداكنة –

المظهر المفقود

لبركة الماء القديمة

*

يوم الأصدقاء –

أسمع أغنية

الرفراف

*

يسافر صديقي

متعطرا برائحة الورد...

أحدق في السماء

*

معرض فني –

تقدم الفتاة زهرة

إلى التمثال

*

تبيع البذور

المحمية من الشمس..

صرخة طفل

***

3 – خورخي لويس بورخيس

(لقد كنت أستعد بطريقة ما للمفاجأة الكاملة التي تمثلها اليابان – خورخيه لويس بورخيس)

أهذا هو أم لا

الحلم الذي نسيته

قبل أن يحل الفجر؟

*

منذ ذلك اليوم وبعده

لم أحرك القطع

على لوحة الشطرنج مطلقا

*

ثمة ظل

ممتد ومنعزل

تحت القمر

*

إنها اليد

التي لمست بها شعرك

ذات مرة

*

القمر الجديد،

هي الأخرى تسترق النظر

من باب آخر

*

أهي إمبراطورية الضوء

الذي لا ينطفىء

أو يراعة؟

*

لا تسعدني

أزهار اللوز اليوم

فهي تشبهك تماما

*

في الظلمة الحالكة

الكتب، الصور، حلقة المفاتيح

مرتبطة بمصيري

*

ينبلج الصبح

في البيداء ويملأ السماء

هل يعلم أحد؟

***

بنيامين يوخنا دانيال

...............................

* الانقلاب الشتوي: ظاهرة فلكية، حصلت آخر مرة في 23 ك 1 / 1903 ميلادية.

** الغانج: نهر كبير، يخترق شمال الهند، منهيا في بنغلادش. أقيمت على ضفافه عواصم إقليمية وامبراطورية لأهميته وقدسيته.

1 – Result of the autumnal kukai ‘ Drop leaves by Mangolian …. https: // shortformpoetryofmangolia. blogspot. com

2 – Asahi Haikuist Network / David McMurray. https: // www. asahi. com

3 – World Haiku Series 2020 (69) Haiku by M. Julia Guzman. https: // akitahaiku. com

4 – Julia Guzman. https: // akitahaiku. com

5 – Haiku Dialogue – Ad Astra – distant suns. https: // thehaikufoundation. org

6 – Haikuniverse – haiku by Jorge Alberto Giallorenzi …. https: // m. facebook.com

7 – World Haiku Series 2022 (51) Haiku by Jorge Alberto …. https: // akitahaiku. com

8 – Borges And Japan. https: // www. jstor.org

9 – Jorge Luis Borges. 17 haiku، On salvation by …. https: // terebess. hu

10 – 7 Haikus by Jorge Luis Borges. https: // www. faena. com

11 – Haiku – Page 58. https: // akitahaiku. com

 12 – World Haiku Series 2019 (84 haiku by Julia Guzman. https: // akitahaiku. com

 13 – World Haiku Series 2022 (52 haiku by Julia Guzman. https: // akitahaiku. com

 14 – haiku by Julia Guzman، https: // haikufoundation. com

 15 – Haiku in English: April 6، 2024 – The Mainichi – Julia Guzman. https: // mainichi. jp

 16 – Haiku in English: Sept 19، 2023 – The Mainichi – Julia Guzman. https: // mainichi. jp

 17 – Tag: Haiku by Jorge Alberto Giallorenzi. https: // akitahaiku. com

 18 - Jorge Alberto Giallorenzi.https: // charlottedigregio. wordpress. com

 19 – haiku by Jorge Alberto Giallorenzi. https: // haikuniveers. com

 20 – The Mambo - Jorge Alberto Giallorenzi. https: // africahaikunetwork. wordpress. com

 21 – World Haiku 2022 No. 18 - Jorge Alberto Giallorenzi. https: // www. cyberwit. net

 22 – 7 Haikus by Jorge Luis Borges. https: // www. faena. com

23 – Jorge Luis Borges، 17 Haiku. On salvation. https: // terebess. hu

 24 – Jorge Luis Borges – Poems by the Famous Poet. https: // allpoetry. com

 25 – Jorge Luis Borges – The Poetry Foundation. https: // www. poetryfoundation. org

 26 – Borges and Japan. https: // www. jstor. org

 27 – 17 Haiku / Jorge Luis Borges. https: // erdincdurukan. blogspot. com

28 - Journey by Leopoldo Lugones – Poems. https: // poets. org

 

مدخل: مفهوم نظريّة الأدب: تُعرف نظريّة الأدب بأنّها "مجموعة من الآراء، والأفكار الواضحة والمتسقة والعميقة والمترابطة والمستندة إلى نظريّة في المعرفة أو فلسفة محددة، تهتم بالبحث في نشأة الأدب، وطبيعته ووظيفته، وهي تدرس الظاهرة الأدبيّة بعامة من هذه الزوايا في سبيل استنباط وتأصيل مفاهيم عامّة تبين حقيقة الأدب وآثاره"، فنظريّة الأدب هي التي تشكل الخلفيّة النظريّة لمناهج النقد الأدبي عموما, ولكن يجب التأكيد على أن كل نظريّة أو منهج نقدي أدبي له فلسفة محددة ورؤى ومبادئ متسقة، فليس كلّ الآراء التي تتناول الأدب أو جوانب منه بالدراسة تعدّ نظريّة للأدب، (1).

ارتباط الأدب بالواقع:

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر سادت نزعة أدبيّة تدعو إلى ربط الأدب بالحياة أو المجتمع, واصطلح على تسميتها بالأدب الواقعي، وكانت أبرز تلك الجهود ما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي "هِيبُولِيتْ تِين" الذي حاول إخضاع الأدب والفن إلى أسس ماديّة مستقاة من المجتمع تعكس حقائق مؤكدة ومحددة، حيث يرى أن الأعمال الأدبيّة ينبغي أن تفهم على أن هنالك ثلاثة عوامل تؤثر في الأدب وهي: (الجنس - البيئة- الزمن).

فبالنسبة للجنس/ العرق: فهو يكتسب الخصائص المميزة له من البيئة الطبيعيّة والعادات والتقاليد المتوارثة والأحداث التاريخيّة التي مرت بها هذه الأجناس .فضلاً عن الدوافع والرغبات الدفينة التي تلعب دوراً هاماً فى صياغة الفعل الإنساني وتطويره.

وبالنسبة للعصر: وهو العامل الثاني الذى يحدد شكل ومضمون الأدب ـ كما أشار "تين" ـ فقد قصد به الأفكار والمفاهيم الإنسانيّة المسيطرة على روح العصر المنتج للعمل الأدبي.

وأخيرا يأتي دور البيئة: كعامل أساس فى تحديد شكل ومضمون الأجناس الأدبيّة. وتعني البيئة أشياء كثيرة كالمناخ والجغرافيا الطبيعيّة والنظم الاجتماعيّة التي تحتضنها هذه البيئة .

كما كانت هناك محاولة الأديب الروسي "تولستوي" الداعيّة إلى فن يسعد الجماهير الفقيرة على وجه الخصوص, منطلقاً من وعيه بأهميّة العلاقة بين الأدب والقراء عامة دون تمييز طبقي.

لقد  كانت تلك الأفكار السابقة بشكل عام, تعتبر إرهاصاً أوليّاً للاهتمام بالعلاقة بين الأدب والمجتمع في الدراسات الأدبيّة من جهة، وتركيزاً على وظيفة الأدب من جهة ثانيّة.(2).

وما "نظريّة الانعكاس" في النقد الأدبي كما سيمر معنا لا حقاً, إلا إحدى هذه النظريات النقديّة التي أثبتت أن للأدب فعاليته الاجتماعيّة والتاريخيّة والسياسيّة والفلسفيّة والأخلاقيّة وغير ذلك من قضايا المحيط الخارجي التي تؤثر في الأدب وتتأثر به. وبالتالي فوظيفة الأدب وفق هذا المنهج أو النظريّة, ليست المتعة الجماليّة أو المهارة اللغويّة فحسب, بل إن الأديب يسعى لمشاركة المتلقي له في تجربته وهمومه وقضاياه وقضايا مجتمعه المصيريّة بشكل يؤدي إلى تغيير وجهات نظر المتلقي ذاته. والهدف من كل ذلك هو خلق نوع من الاتساق الفكري والشعوري من خلال الأدب في الموقف الجماعي بين أفراد الكتل أو الطبقات الاجتماعيّة بطريقة غير مباشرة.

نظريّة أو منهج الانعكاس:

هي إحدى النظريات في النقد الأدبي الحديث، وتعتمد في الكثير من أطروحتها وبشل مباشرًا على أطروحات مبادئ  الماركسيّة في التحليل السوسيولوجي للظواهر بشكل عام ومنها قضايا الفن والأدب بشكل خاص، ويظهر من تسميتها (نظريّة الانعكاس) أنها تنظر إلى الأدب بأنه يعكس قضايا المجتمع الذي يتحدث عنه، فتجعل الأدب مرآة للواقع وللمجتمع. وتعتمد نظريّة الانعكاس, الفكر المادي التاريخي الجدلي الذي يقر بأن الأدب انعكاس للواقع الاجتماعي، ولكن هذا الانعكاس ليس آليًّا ولا متوازيًا ولا بسيطًا أو ساذجاً، كما يفهمه فيورباخ مثلاً في رؤيته للانعكاس عندما يقول: (إن الواقع يفرز الفكر كما يفرز الجلد مادة الأملاح). وإنما الانعكاس في حقيقة أمره هو عمليّة تفاعليّة معقدة بين الفكر والواقع, أي بين الأدب والواقع، فقد تكون الأعمال الأدبيّة الممثلة للواقع ممتثلة لهذا الواقع وتصالحيّة معه، أو تكون رؤية تجاوزيّه تسعى لتغيير العلاقات المجتمعيّة وهدمها؛ لبناء مجتمع أفضل.(. أو بتعبير آخر إن نظريّة الانعكاس تنظر إلى الأدب على أنه فعاليّة اجتماعيّة، وهو تجربة إنسانيّة هدفها من الأدب - في هذه النظرية  - هو مشاركة الأديب بهذه التجربة التي يعرضها في عمله الأدبي، بحيث يؤثر في المتلقي، وشعوره؛ لكي يسهم في تغيير واقعه الاجتماعي نحو الأفضل. (3).

جورج لوكاش رائد نظريّة الانعكاس:

هو فيلسوف وكاتب وناقد ماركسي ولد في بودابست عاصمة المجر. يعدّه معظم الدارسين مؤسس الماركسيّة  بصيغتها الغربيّة في مقابل صيغتها في الاتحاد السوفياتي آنذاك. لقد أسهم طرح عدّة أفكار جوهريّة في النظريّة الماركسيّة منها «التشيؤ» و«الوعي الطبقي» وهي تندرج تحت النظريّة والفلسفّة الماركسيّة. وكان نقده الأدبي مؤثراً في مدرسة الواقعيّة الأدبيّة وفي الرواية بشكل عام باعتبارها نوعاً أدبياً.(4).

يعتبر "جورج لوكاش" في الحقيقة من أشهر الذين تبنوا الرؤية الماركسيّة وطوروا فيها في مسألة الانعكاس, وهو الذي تعمق في العديد من المصطلحات والمفاهيم الماركسيّة إضافة إلى (التشيء والوعي الطبقي" فقد اشتغل مثلاً على: (البنيّة الفوقيّة، والبنيّة التحتيّة)، بالإضافة إلى أنه تحدث عن (الوحدة الشاملة), التي تعني أن الأدب لا يعكس الانطباعات الأوليّة للحس، ولا يكتفي بتصوير مظاهر الواقع، إنّما يصور عمقه وعلاقاته التي تُظهر وحدته الشاملة. كما اهتم "لوكاتش" بمفهوم "النموذج" الذي حاول من خلاله أن يطور دلالة الانعكاس، والنموذج يعني شخصيّة من الشخصيات التي تعد رمزًاً بصفة أو بأخرى مثل: سيزيف، والسندباد، وهاملت، وغيرها بحيث يستخدمها الأدباء بطرق مختلفة في الأدب فتصبح الشخصيّة رمزًا في الإطار العالمي. مثلما اهتم أيضًا بمبدأ (الالتزام) الذي يعد أحد المنطلقات الأساسيّة في نظريّة الانعكاس عنده، وهو علامة دالة على الفن الواقعي الاشتراكي الذي يتبناه، ويمثل مفهوم الالتزام موقفًا إيجابيًّا أو سلبيًّا من الوقائع في زمن الكاتب. وكما يعدّ الالتزام أيضاً مفهومًاً حديثًاً في حقلي الأدب والنقد, إذ ظهر في العقود الأولى من القرن العشرين، التي شهدت تغيرات اجتماعيّة، وسياسيّة، واقتصاديّة بارزة ،شكلت منعطفات حادة في حياة الشعوب مثل: الحرب الكونية الأولى، والثورة الاشتراكيّة، والحرب الكونيّة الثانيّة, حيث تركت آثاراً مهمة في نظريّة الأدب والنقد، ويشكل الالتزام فلسفة جديدة للأدب، ويتصل بالواقع وعلاقاته المختلفة. (5).

علاقة نظريّة الانعكاس بالمنهج الاجتماعي:

إن الفكرة التي تقول بأن الأدب يعكس المجتمع ويصور الواقع الاجتماعي ليست بالفكرة الجديدة, بل هي قديمة ويعتبر "أفلاطون" من الأوائل الذين قالوا فيها بإشارته إلى مفهوم ( "المرآة التي توضع أمام الطبيعة لتمثل فكرة انعكاس الحياة فى الأدب. وكما استخدم "أرسطو" أيضا مفهوم المحاكاة حيث أكد على "أن الفنون بصفة عامة تعد محاكاة للواقع" وأصبحت هذه الفكرة مألوفة بعد ذلك في النقد الأدبي ابتداءً من عصر "شيشرون" الرومانى حيث استخدم مصطلح " مرآة العادات " أي أن الاعمال الفنيّة والأدبيّة تصور العادات والتقاليد المجتمعيّة" واستخدم هذا المفهوم أيضا "شكسبير" " المرآة والانعكاس " فى مسرحه حيث كان يؤكد على واقعية الفن الذى يجب أن يكون ـ على حد تعبيره ـ انعكاساً للحياة لا تحريفاً لها.). (6).

أما في تاريخنا الحديث والمعاصر, يمكن تعريف المنهج الاجتماعي وفقاً لنظريّة الانعكاس التي جاء بها: "جورج لوكاش" في النقد الأدبي الحديث بأنه: منهج نقدي دعت إليه الفلسفة الاشتراكيّة في الفهم الماركسي، ويهتم المنهج بدراسة المجتمع، كما يهتم بتتبع الأعمال الأدبيّة التي تصور المجتمع بخيره وشره، وتدعو إلى تقدمه وتنميته. ويمكن القول إنّ النقد الاجتماعي تأسس على مقولات وقوانين الفلسفة الماركسيّة كما أشرنا أعلاه, التي تفسر العلاقة بين الواقع الاجتماعي والأدب برؤى وأشكال مختلفة وفقاً لموقف الأديب ذاته، فيمكن أن ينظر النقد إلى النص الأدبي بوصفه وثيقة تحاكي المجتمع، ويمكن أن ينظر في طبيعة العلاقات الاجتماعيّة, ليرى إذا كان العمل الأدبي يعكس هذه البنية أو يشوهها. ويمكن أن يربط بين الأديب وعمله الاجتماعي، أي بما حمله هذا العمل من مضامين اجتماعيّة، وبالتالي الوصول إلى حالة تأثير الأدب في المجتمع، ومن هذا يمكن الملاحظة بأن الناقد الأدبي قد يحلل النص الأدبي بطرق متعدّدة، وهذا يفتح مجالات واسعة في التحليل النقدي للأدب، وقد يجمع بعضها في تحليله للنص الأدبي للوصول إلى غايته.(7).

ما أهم سمات وخصائص نظريّة الانعكاس:

1- من خلال عرضنا السابق لنظريّة الانعكاس وعلاقتها بالمنهج الاجتماعي الذي يعمل على ربط الواقع بالفكر ومنه الأدب موضوع بحثنا في الأساس, نجد أنها – نظريّة الانعكاس - استندت على الفلسفة الماديّة الجدليّة والماديّة التاريخيّة بعكس الكثير من النظريات السابقة التي استندت على المثاليّة, وما يمثله من حدس, ورؤى ذاتية. وهذه الفلسفة الواقعيّة الماديّة ترى بأن الوجود الاجتماعي أسبق من الوعي, وأنه هو الذي يحدد أشكال ذلك الوعي. وهذا ما يميز هذا المنهج أو النظرية بحيويّتها وقدرتها على الاستمرار وتطور مفاهيمها بشكل مستمر, كونها ترتبط بالواقع وحركته وتطوره المستمرين, وبكونها تهتم أيضاً بكافة جوانب الظاهرة الأدبيّة.

2-  تنطلق الفلسفة الماديّة الجدليّة والتاريخيّة من أن الوجود الاجتماعي يقوم على بنائين أكدهما "ماركس" في كتابه (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) وكذلك "لوكاش" هما: البناء التحتي الذي يقصد به (قوى وعلاقات الانتاج), الذي يفرز أو يحدد البناء الفوقي الذي يعني (الوعي) بكل تجلياته السياسيّة والقانونيّة والفنيّة والأدبيّة والفلسفيّة وغير ذلك. وإن العلاقة بين البنائين علاقة جدليّة ذات تأثير متبادل. وإن أي تغيير في البناء التحتيّ يستدعي تغييراً في البناء الفوقي بالضرورة, ولكن ليس بشكل ميكانيكي, كقولنا: إن الفكر يعكس الواقع كما تعكس المرآة الشيء, وإنما هناك علاقة جدليّة معقدة من التأثير المتبادل بين البنائين, بحيث كل منها يؤثر في الآخر في السياق العام لسيرورة وصيرورة الأحداث .

3 - وعلى اعتبار الأدب شكل من أشكال الوعي, وهو من تجليات البناء الفوقي, فإن كل تغير اقتصادي واجتماعي, أو ما سميناه بالبناء التحتي, يستتبع تغيراً في الرؤية لمفهوم المجتمع واللغة والأدب, وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تغير في الأشكال الأدبيّة من حيث الموضوعات والأساليب والأهداف، وهذا ما يؤكد بأن الأدب انعكاس للواقع الاجتماعي بكل مستوياته. يضاف إلى ذلك تأكيدنا بأن الأدب ذاته قادر أن يؤثر بالواقع ويحوله عبر حوامل اجتماعيّة تأثرت بدورها بهذا الأدب. فعلاقة التأثير هنا  بين الأدب والواقع علاقة جدليّة. يقول "مارس في هذا الاتجاه: (أن الأدب والفن هما سلاح الطبقة, ففي المجتمع المنقسم إلى طبقات يعكس الأدب والفن بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة معنويات طبقة معينة، وآرائها السياسية وذوقها الجمالي." (8).

4- لقد ارتبط بنظريّة الانعكاس مفهُومَ الالتزام بقضايا المجتمع وتنميته والرفع من سويته على كافة المستويات. وهذا الالتزام يتطلب من الأديب التعمق في تحليل العلاقات الاجتماعيّة وتبيان تناقضاتها وصراعاتها الداخليّة والخارجية وأسبابها وطرق معالجتها. من منطلق الالتزام بقضايا الفرد والمجتمع, التي يعيشها الأديب ذاته أو تحيط به. فالتزام الأديب يقصد به أن يكون أدبه هادفاً يحمل رسالةً تتفق مع قناعاته والمبادئ التي يحملها أو ينتمي إليها, وهي مبادئ إنسانيّة ثوريّة وتقدميّة تنتصر للطبقات الكادحة المسحوقة ورفع الظلم والقهر والتشيء والاستلاب عنها بالضرورة. وعلى هذا الأساس يمثل الأديب عضواً في الجماعة, وهذا ما جعل "لوكاش" يسميه بـ (المثقف العضوي)، وهو المثقف الذي تحمل أعماله الأدبيّة  قناعاته ومبادئه التي تعبر عن طموحات الطبقة التي ينتمي إليها, وهي هنا القوى العاملة المسحوقة كما بينا أعلاه، وبالتالي فهو يسعى عبر علاقته وفهمه للواقع, أن يكشف الخلل في الواقع, وليقدم رؤية جديدة أكثر انسجاما من خلال عمله الأدبي, قصيدة كانت أو رواية.. إذن فالأديب في هذه النظريّة هو الأداة التي يُعبِّر من خلالها عن نفسه أولاً, وعن انتمائه الطبقي ثانياً. فطالما أن الأديب عضو في جماعة أو طبقة, فإن مشكلاته الخاصة هي جزء من مشكلات المجتمع, وهو حين يعبر عن هذه المشكلات يمزج الخاص بالعام والفردي بالجماعي ليعطي لتجربته شرط التواصل مع القراء. وهذا ما أكده عالم الاجتماع الفرنسي (إميل دور كايم" بأن الأدب  ظاهرة اجتماعيّة، وإنه إنتاج نسبى يخضع لظروف الزمان والمكان، وهو عمل له أصول خاصة به وله مدارسه ولا يبنى على مخاطر العبقريّة الفرديّة فحسب، وإنما هو اجتماعي أيضا من ناحية أنه يتطلب جمهوراً يعجب به ويقدره). (9).

5- أما على مستوى اللغة, فالأديب يتعامل معها من منطلق أنها ظاهرة اجتماعيّة، وليس كما عرفها "دي سوسير" وكل من تبنى رؤيته في مناهج النقد الأدبي لما بعد الحداثة كالبنيويّة والتفكيكيّة وغيرها, على أنها نظامً مجردً من العلامات، ويتأسس هذا النظام على العلاقات التي ترتبط بها العلامات لتشكل نظامًاً أو بنيةً، وهي علاقات يشترك فيها كلُّ أعضاء الجماعة اللغويّة، وتمثل المخزون الذهنيَّ لهم.

إن الأديب وفق نظريّة الانعكاس مقيد بمستوى لغوي معين يحدده الوضع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي للمرحلة التي يعيش فيها الأديب. وهذا الوضع ذاته هو الذي يفرض في نظريّة الانعكاس اعتبار المتلقي أو القارئ أيضاً ليس مجرد متلق للعمل الأدبي فحسب, بل ومشارك فيه بشكل غير مباشر في عمليّة الإبداع الفنيّة باعتباره جزءا ًمن المجتمع الذي يستقي منه الأديب مادته. وعلى هذا الأساس يصبح الأدب فعاليّة اجتماعيّة يشارك فيها القارئ والمتلقي معاً.

لا شك أن الأدب كما يقرر الناقد الأدبي التشيكي الأمريكي "رينيه ويليك" أنه: (نظام اجتماعي يصطنع اللغة وسيطاً له، واللغة إبداع اجتماعي, وإذا كان الأدب يمثل الحياة, فإن الحياة ذاتها حقيقة اجتماعيّة. فالكاتب المسرحي حينما يصور لنا كائنا إنسانيّاً كاملاً فهو لا يعيد تصوير الإنسان فقط بل يعيد تصوير المجتمع الذى ينتمى إليه هذا الإنسان. وهذا المجتمع ليس إلا ذرة من الكون, ومن ثمة فالفن الذى خلق هذا الإنسان يعكس لنا الكون كله.). (10). ومن الكتاب والأدباء العرب الذين أكدوا على أهميّة ربط الأدب والفن بالواقع هناك على سبيل المثال لا الحصر"طه حسين" و"أحمد أمين في كتابه النقد الأدبي"  و"لويس عوض" وغيرهم.

إن وظيفة الأدب إذن ليست المتعة الجماليّة أو المهارة اللغويّة فحسب, بل إن الأدب يسعى لمشاركتنا في التجربة الأدبيّة التي ينتجها الأديب بشكل يؤدي إلى تغيير وجهات نظرنا وأفكارنا. والهدف من كل ذلك هو خلق نوع من الاتساق الفكري والشعوري في الموقف الجماعي بين أفراد الطبقة الاجتماعية بطريقة غير مباشرة من خلال الأدب ذاته.

إن وظيفة الأدب في نظريّة الانعكاس تتمثل في التنوير والتحفيز لفهم الحياة بطريقة أعمق، وبالتالي تحريك الإنسان ليساهم في تغيير واقعه الاجتماعي نحو الأفضل.(11).

تأثير المنهج الاجتماعي أو نظرية الانعكاس على النقاد العرب:

يعد المنهج الاجتماعي أو نظرية الانعكاس هو المنهج الوحيد الذي كتب فيه النقاد العرب بإسهاب وعمق, إن كان لدى الكتاب الليبراليين، كـ "سلامة موسى" و"محمد منذور "، حيث ربط "سلامة موسى" التقدم بالفكر الغربي، ورفض التراث العربي القديم والنقاد الذين يدرسون هذه النصوص القديمة، وأشاد بالأدب الإنجليزي لاتصاله بالحياة الغربيّة وتأثره بها. فهو ينتقد أسلوب العيش أكثر مما ينتقد أسلوب الكتاب، وهذا خلافا لما نجده عند طبقة الأدباء التقليديين الذين يصبون اهتمامهم على الأسلوب الكتابي أكثر من أسلوب العيش. فالأديب على حد قوله: في هذا المقام يعنى مثلا بأسلوب الجاحظ ولا يعنى بحياة الفلاح المصري، ولا يكتب عن مصر ونكباتها، فأدبه سلفي يجعله يعيش في عزلة، وهو هنا يشبه أدباء العرب في عصره بأدباء القرون الوسطى في أوروبا، تصوره هذا طبعا يرجع إلى توجهه اليساري وهو من المؤيدين للاشتراكيّة الدوليّة.

أما "محمد مندور" فقد نفى أن يكون الأدب مجرد وسيلة للترويح عن النفس فحسب, بل جعله في خدمة القضايا الاجتماعيّة، ويعتبر أن النقد الذي يهتم بالمضمون يجب أن يتجاوز الموضوع إلى المضمون، وما يفرغه الأديب من أفكار وأحاسيس في عمله. فالأدب والفن للحياة والمجتمع، لأن الأدب أصبح يستعمل لتطوير المجتمع، كما اهتم "مندور" بالجانب الجمالي والفني للأعمال الأدبيّة، فالأدب هو انعكاسات لحالات شعوريّة وانطباعيّة. وهو هنا يشير إلى أن الأدب - باهتمامه بالقضايا الاجتماعية - يكون ناقصاً إذا لم تكن هناك صياغة فنيّة وجماليّة لذلك الأدب, فالأدب بغير هذه القيم يفقد عنده طابعه المميز وفاعليته. إن النقد عنده يحمل وظيفة خلاقة. وغير بعيد عن هذا نجده ينتقد النزعة التاريخيّة في الأدب بحيث دعا إلى عدم الوقوف عندها حتى لا نصبح كمن يجمع المواد الأوليّة ولا يقيم البناء. (12).

هذا وهناك العديد من النقاد العرب الذين تأثروا بالمنهج الاجتماعي ونظريّة الانعكاس مثل الناقد المصري" محمود أمين العالم" - الناقد العراقي "فاضل ثامر"- الناقد السعودي " عبدالله الغذامي" والناقد العراقي " بشير الحاجم" – والناقد اللبناني " محمد دكروب" – والناقد اللبناني "حسين مروة". (13).

نقد نظرية المنهج الاجتماعي, أو نظرية الانعكاس:

يعتبر دعاة نظرية "الفن للفن"  من تيار ما بعد الحداثة من أهم الذين وقفوا ضد نظرية المنهج الاجتماعي أو نظريّة الانعكاس. معتبرين أن الفن ليس دوره هو الارتباط بقضايا الناس والتعبير عنها في الأدب أو الفن التشكيلي أو المسرح بشكل عام, وإنما يذهب دعاة هذه النظرية الى أن الفن فعاليّة انسانيّة ذاتيّة لها قوانينها الذاتيّة التي لا ترتبط بأي قانون اجتماعي أو أخلاقي. فالفن عند هؤلاء يكفي نفسه بنفسه ولا هدف له إلا ذاته, اذ ليس للفن والأدب غاية أو وظيفة اجتماعيّة أو أخلاقية, فوظيفتهما الوحيدة - إن كانت لهما وظيفة - هي اثارة الجمال.(14). وهذا ينافي الوظيفة التي تقول بها النظريّة الاجتماعيّة التي تعتبر الأدب والفن بشكل عام, هما مجموعة متنوعة من الأنشطة البشريّة الذهنيّة والعمليّة, تتوزع بين إنشاء أعمال بصريّة أو سمعيّة أو حركيّة، للتعبير عن مواقف المؤلف أو الفنان أو الأديب المفاهيميّة والمهاراتيّة الإبداعيّة من الحياة بشكل عام, أو من محيط حياته المعيشة بشكل خاص، والمقصود من كل ذلك أن تكون هذه الأعمال الابداعيّة موضع تقدير لجمالها و قوتها العاطفيّة والبعد الإنساني فيها ومدى تأثيرها على المتلقي.(15).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

............................

الهوامش:

1- (شكري الماضي (1993)، في نظريّة الأدب (الطبعة الأولى)، بيروت: دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، صفحة 12.). بتصرف.

2- (موقع جامعة سعيدة – الدكتور مولاي الطاهر. مقياس نظريّة الأدب/ نظرية الانعكاس - المحاضرة الرابعة.). بتصرف. كذلك (يراجع موقع الحوار المتمدن -  نظرية الانعكاس ....ما لها وما عليها. ابراهيم حجاج.) بتصرف.

3- (شكري الماضي (2005)، في نظرية الأدب (الطبعة الأولى)، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، صفحة 73. بتصرّف.).

4- (الويكيبيديا . بتصرف.

5- (موقع سطور - شرح نظرية الانعكاس في الأدب -  حنين معالي). بتصرف.

6- (موقع الحوار المتمدن - نظرية الانعكاس ....ما لها وما عليها. ابراهيم حجاج).

7- ).( صالح زياد (2016)، آفاق النظرية الأدبية: من المحاكاة إلى التفكيكية (الطبعة الأولى)، تونس: دار التنوير للطبعة والنشر، صفحة 67. بتصرّف.).

8- (موقع الحوار المتمدن - نظرية الانعكاس ....ما لها وما عليها. ابراهيم حجاج).

9- المرجع نفسه

10- المرجع نفسه.

11- (لاستزادة في معرفة أبرز سمات وخصائص ومبادئ نظرية الانعكاس يراجع - موقع جامعة سعيدة – الدكتور مولاي الطاهر. مقياس نظرية الأدب نظرية الانعكاس المحاضرة الرابعة).

12- (موقع قناة المعرفة والعلم -المنهج الاجتماعي (رواده - عناصره - ملامحه)-. بتصرف.

13- (لمعرفة المزيد عن النقد العربي ومدى ارتباطه بالمنهج الاجتماعي يراجع - https://www.alkhaleej.ae/– ملحق صحيفة الخليج - النقد الأدبي في الوطن العربي تحت المجهر - توقف عند مرحلة إبداعية سابقة).

14- (لمعرفة نظرية "الفن من أجل الفن" التي عبرت عن أفكار نقاد ما بعد الحداثة – راجع دراستنا في موقع – نشرة المحرر- "الفن من أجل الفن قراءة فكرية للمفهوم"( Art for Art’s Sake) *الكاتب - Christopher L. C. E  Witcombe : ترجمة :د. عدنان عويّد).

15- للاستزادة في معرفة الدور الحقيقي للأدب والفن في المجتمع - راجع دراستنا - التحليل السوسيولوجي للفن والأدب / د. عدنان عويّد – موقع الأردن العربي -).

تطورت القصيدة المعاصرة تطورا ملحوظاً، ولعل أهم سمات ذلك التطور هو بناؤها المتميز، وكما هو معروف ان اساليب بناء الصورة الكلية تنوعت وتعددت لعل ابرز تلك الاساليب والتي كان هدفها الرئيس هو تحقيق الوحدة الموضوعية للصورة: القصصي، الدرامي، الرمزي، الاسطوري، الدائري، والمكثف .بين يدي بعض مجاميع الشاعر جنان السعدي حيث احاول ان اقف عند بناءه للصورة الكلية:

بناء القصصي:

استهل مجموعته الشعرية  (بين عامين)1 قصيدة بعنوان (تلك امرأة لن تتكرر) حيث يتبين كيف بنى الشاعر قصيدته بأسلوب قصصي سردي

زهرة الكاردينيا التي قطفتها البارحة َ

تشبه امرأةً ساحرةً

عرفتها منذُ صباي

استفاد الشاعر من ذلك الاسلوب تقنية الارتداد محلولا ان يجسد رؤيته وأفكاره وتجربته كما يبرز الارتداد في مقطع لنفس القصيدة

قلبتُ أوراقَ ذاكرتي

ورقة ً ورقة

رأيت جمعاً من النساء

يرقصنَ .. يضحكنَ .. يبكينَ

سمرٌ وشقراوات

إنصهرن في واحدة

بالكاد أضحت تشبهها

وهي ارتدادات تحاول أن تجسد التجربة وتربطها بالماضي المخزون في الذاكرة، ليصل بنا الى النهاية التي تمثل اللحظة الراهنة التي بدأ منها .

لم يقتصر بناء الصورة الكلية بالأسلوب القصصي  على تجربة الشاعر في هذه القصيدة بل نراه في قصائد اخرى من مجموعته (بين عامين ) كما في قصيدة (الريل ينعى حمد) حيث نراه جلياً من عتبة العنوان التي توحي الى القص وان هناك ثمة حكاية:

كثيراً ما يكذب الموت ويهزم

فقد هزمه الحسين حين داست أضلاعه ُ خيول التتار المؤسلمة

وكذِبَ حين ادّعى موت الجواهري والنّواب

سرق أجسادهم بخفّةِ لصٍّ محترفٍ

وهذا حقٌ خلدتهُ مسيرةُ آدم

لكن الريلَ وحمد لم يمتْ

فالشاعر يتأمل ويقارن بأسلوب قصصي، نرى فيه الاحداث تنمو في داخل الصورة الكلية الى نهاية القصيدة في جميع مقاطعها تتعاضد في بناء الصورة ابتداء من المقطع الاول حتى المقطع الاخير الذي يقول الشاعر فيه:

كم جمعنا ملح دموع النواب

وجمعنا زهور حديقته دواوين

فكانت تراثاً.. وكانت وطناً

البناء الدرامي:

من اهم الاساليب التي استخدمه الشاعر لإقامة صوره هو الاسلوب الدرامي الذي يعد من اهم سماته الحوار الذي هو شكل من أشكال الصراع فالحوار انواع في داخل القصيدة قد يكون الحوار بين شخصيتين وقد يكون الحوار داخلي عبر منولوج يكون بين الشاعر ونفسه وهي محاولة منه في تحقيق الوحدة العضوية للصورة الكلية واعطائها مزيدا من الحيوية ولكي ينجح في التعبير عن قيمه الفكرية والعاطفية، ومن الصور الشعرية التي كتبها الشاعر في قصيدة حوار ساخن ص84  مجموعة نرى الشاعر يقيم صورتها على الاسلوب الدرامي ..يقول:

قالت

لي حجاب

مذ بان للجمع جن

كمطلوب للقضاء

بمنديل لففت الشعر

لفا على لف

ان في الشعر  يا هذا

من الاغراء

نار توقد الفتن

قلت مدهوشا

آنستي

قطعة بلور تلك أم لحم ودم

وفي نص له بعنوان (شبل علي) من مجموعته (آخر الشموع)

قالوا يا شبلَ علي

سيوف البغي لا تُعَد

وحكمُ السيفِ لا يطاق

قلت صبراً

النفس والروح للدين فداء

والدمُ والطهورُ للإصلاحِ مُراق

فالشاعر يحاول ان يجسد صورته الشعرية  بأسلوب السرد القصصي والحوار فانه قد استطاع أن يوظف الصورة الجزئية في نمو ذلك الصراع الدرامي وانه ساعدت الشاعر على تركيز الفكرة فضلا عن انها ضمنت الوحدة العضوية للصورة الكلية

البناء الرمزي:

الرمز بالمفهوم المعاصر، يقوم على الايحاء لا الوضوح فقد يلجأ الشعراء الى الرمز للأسباب قد ترجع الشعور بالعجز عن التصريح والخوف، والخوف من التصريح الذي يجر الى التعرض للأذى وقد يكون السبب الحقيقي يكاد ان يكون سببا فنيا، يكمن في رغبة الشاعر في الايجاز والتلميح والايحاء .

ولأهمية الرمز فقد استغله الشاعر جنان السعدي في بناء الكثير من صوره الشعرية   ففي  قصيدة له (إله سومري) من مجموعته الشعرية  (بين عامين) وهي قصيدة تقوم على صورة كلية ذات بناء رمزي:

في جيبي إله سومري

ان جعت لن آكل زنده

فأنا لست من قريش أو فزارة

كل ما في الامر حين أهرب للأمام

بسوط سومري يركلني كي لا أعود

علّمني العوم بمجذافين

قال زُق كالنحلة رحيق الزهور

التحف نور الآلهة

سومر يا شبه إله

أرهقنا الناعور

صرنا ندور

الطريق موحش وعرٌ

بأشواك.. حوافر خيلٍ وصخور

تتميز هذه القصيدة بتوظيف رمزي كثيف يغوص في أعماق التاريخ والحضارة السومرية، ليخرج بقراءات معاصرة تحمل في طياتها الكثير من المعاني والدلالات. يمكننا تحليل هذا التوظيف من خلال عدة محاور:

1. الإله السومري كرمز للهوية والمقاومة:

يشير الشاعر إلى الإله السومري كرمز لهوية ضائعة، يحملها في جيبه ككنز ثمين. هذه الهوية ترمز إلى جذور عميقة تمتد إلى حضارة عريقة، ولكنها في الوقت نفسه تحمل في طياتها الكثير من الألم والمعاناة.

المقاومة والصمود: الإله السومري يمثل رمزاً للمقاومة والصمود في وجه الظلم والقهر.

2. سومر كرمز للماضي والحاضر:

يستحضر الشاعر صورًا من الحضارة السومرية، مثل الناعور والآلهة، ليعبر عن حنينه إلى ماضي مجيد.

3. الرمزية الدينية:

تظهر الآلهة السومرية في القصيدة كرمز للقوة والسلطة، ولكنها في الوقت نفسه تحمل في طياتها الكثير من الغموض والتناقض، ويتساءل الشاعر عن معنى الوجود والمعاناة، ويبحث عن إجابات في الديانات القديمة.

4. الرمزية الطبيعية:

يرمز الماء إلى الحياة والخصوبة، في حين يرمز الناعور إلى العمل الشاق والتعب،

وترمز الصحراء إلى الفراغ والوحشة، في حين ترمز الحيوانات إلى القوة والعنف.

5. الرمزية الاجتماعية:

يشير الشاعر إلى الفرق بين قريش وفزارة، ليؤكد على وجود تفاوت اجتماعي منذ القدم.

حيث يصف الشاعر الواقع الذي يعيش فيه بأنه واقع مليء بالظلم والاستبداد، حيث يتم قمع الحريات وفرض الأوامر.

البناء الاسطوري

وكان لأعمال السعدي اهمية كبيرة في الاهتمام بالجانب الاسطوري كون العامل المشترك بين الاسطورة والشعر هو الخيال وفي محاولة اعطاء القصيدة عمقا أكثر من عمقها الظاهر والوصول الى معان جديدة من خلال الاسطورة و ما لها من تأثير في بناء الصورة وما يتناسب مع تجربته الشعرية ما جعل الشاعر يلجأ اليها بوصفها أداة فنية ايحائية نجد هذا البناء في قصيدته (ياهذا ) من مجموعته الشعرية (قوس قزح)

يا هذا

غادرت عشتار بكل قواي

كراهبة بل كصوفية في أعلى كهوف الرغبات

التحف الثعبان كعصا موسى

عسى أن يلتقف ما في الفؤادِ من نبض مُتيـم بهواكَ

عسى أن يُطفىء ناراً تستعر كلّ حينٍ

ارحلْ .....عد

ارحلْ ......عد

حتماً ستعود بكلِ تفاصيلكَ

وتعود كالأمس تمسح تضاريساً كنتَ احتويتها

هي زوبعة في فنجان يغلي

إذ لا مقام لعشتار إلاّ في إيوان كلكامش

البعد الأسطوري في قصيدة "يا هذا"

تتميز قصيدة "يا هذا" بطابع أسطوري قوي، حيث تستدعي الشاعر أساطير سومر وبابل لتشخيص تجربته الإنسانية العميقة. يمكننا رصد هذا البعد الأسطوري من خلال عدة عناصر:

عشتار وكلكامش:

عشتار: تمثل عشتار هنا رمزاً للحب والشهوة والجمال، وهي إلهة بابلية مهمة. اختيار الشاعر لعشتار ليس اعتباطياً، بل هو يحمل دلالات عميقة ترتبط بالصراع الداخلي بين الرغبة والتقوى.

كلكامش: شخصية أسطورية أخرى، يمثل كلكامش البطل الفائق القوة والحكمة. ربط عشتار بكلكامش يعكس رغبة الشاعر في التخلص من عبودية الحب والشهوة والانتقال إلى مستوى أعلى من الوعي.

الرموز الأسطورية:

الثعبان: يرمز الثعبان في العديد من الحضارات إلى الحكمة والمعرفة، ولكنه يرتبط أيضاً بالخطيئة والفساد. في هذه القصيدة، يمثل الثعبان أداة للخلاص من الشهوات.

عصا موسى: إشارة إلى قصة موسى في التوراة، حيث تحولت عصاه إلى ثعبان. هذا الرمز يعزز الفكرة الأسطورية ويضيف عمقاً دلالياً للقصيدة.

يسعى الشاعر إلى إيجاد معنى للحياة، تماماً كما يسعى الأبطال الأسطوريون إلى تحقيق الخلود أو المعرفة المطلقة يستخدم الشاعر لغة شعرية رفيعة، مليئة بالصور البيانية والاستعارات، مما يخلق أجواء أسطورية.

الأحداث التي تصفها القصيدة تحمل في طياتها الكثير من الغرابة والرمزية، مما يجعلها تبدو وكأنها مستوحاة من عالم الأساطير.

البناء الدائري:

المقصود في هذا البناء أن تبدأ القصيدة بموقف ما أو بلحظة نفسية معينة، ثم يعود اليها الشاعر وهذا البناء يضمن للصورة الكلية ان تتحرك ضمن اطار دائري وقد جاء هذا البناء في قصيدة للشاعر جنان السعدي بعنوان (إليك)ص71 من مجموعته الشعرية (قوس قزح)

خذ ما شئت

دعني

بصمت اداعبُ أمالي

أمشط جدائلها

أرشُ مفاتنها عطري

أبوحُ لها

حروفي أنثرها

كريشِ حمامةٍ بيضاء

بهمسٍ أناغيها

خذ ما شئت

دعني

الملمُ بقايا أفكاري

حطامَ أيامي

لوحةً أرسمها سهواً

أودع أملاً ضائعاً

أضع النقاط على حروف بأسي

خذ ما شئتَ

وهكذا يتضح ان البناء الدائري هو أحد الابنية الذي اعتمد عليه الشاعر في بناء صورته الكلية للإيحاء بفكرة أو رؤية.

البناء المكثف

اقصد بهذا البناء أن تكون القصيدة مكثفة في صورة كلية كما في النصوص الوجيزة والوميض الشعري  للشاعر السعدي كما نراه جليا  في مجموعته (مملكة ام عناد) الصادرة عن دار المتن 2023  في عنونة قصائده (هرولة، وصية معمم، حفلة شواء، المسؤول، الحفرة، أبواب، الاكرم،الكأس، سباق) ومن نماذج هذا البناء في قصيدة النثر التي من اهم سماتها كما تقول سوزان بيرنار ففي نصه الوجيز(سباق) يقول فيه:

يوماً

سابقت ُ ظلّي

أدهشني

كلاعب صالات مغلقةٍ

أو كالسياسي

ما بعد سقوط الصنمِ

فقد نرى في هذا النص  التكثيف والتركيز وتلافي الاستطراد والتفصيلات التفسيرية  حيث الاقتصاد من أهم خواصها  .

وهكذا يتبين لنا أن الصورة في شعر جنان السعدي قد استفادت في بنائها من ست أبنية وهي البناء القصصي والبناء الدرامي والبناء الرمزي والبناء الاسطوري والبناء الدائري والبناء المكثف.

ولم يكن الشاعر من هدفه الا تجسيد الرؤية في شكل إيحاءً وتأثيراً وتشويقاً وتحقيقاً لوحدة القصيدة العضوية وزيادة لثرائها الدلالي .

***

طالب عمران – كاتب وناقد عراقي

........................

المصادر

1- السعدي، جنان/ زفير ساخن، بغداد، عن دار المتن 2019  .

2- السعدي، جنان / آخر الشموع، بغداد،  دار المتن، 2023.

3- السعدي، جنان / قوس قزح، بغداد، منشورات اتحاد الادباء والكتاب في العراق، 2022.

4- السعدي، جنان/ مملكة ام عناد، دار المتن 2023.

 

متوحش هذا العالم، لا ندري، كم شخص صرخ وأعلن عن هذا التّوحّش، هل هي صرخة وجع، أم * صرخة إنذار، أم صرخة يأس..؟

وما سبب هذا الصّراخ؟

كأنّي بهذه الصّرخة تصدر من عمق الأعماق، كأنّها انفجار، انفجار أحاسيس مكبوتة، انفجار من هول ما كبتَت النّفس من مظالم وما عاينت من جرائم، انفجار وجع تراكم وتكدّس لعقود طويلة...

ألهذا الحدّ صار العالم متوحّشا؟ أم هو منذ البدء متوحش، إلاّ أنّ حبّ الإنسان للحياة وأمله في شروق غد أفضل، جعله يغضّ الطّرف عن أشياء عديدة، متناسيا السّلبيّات، سعيا لتحقيق شيء من الإيجابيات...

متوحّش هذا العالم، هكذا أطلقت الأدبية ريم عيساوي صرختها المدويّة، كضربة مدفع، كقنبلة ذريّة، * في لفظة واحدة، وزفرة واحدة، لا نقاط، ولا فواصل بين المفردات، ولا حاجة لتكرار الصّراخ، الفعل قد أدّى معناه، وبلغ صداه، من المدى إلى المدى ، دويّ الصّرخة خرق كلّ الأجواء وعبر كلّ الحدود ، فلا جغرافيا تحدّه ولا حواجز توقفه هي صرخة عبرت القارات، تجاوزت المحيطات لتصل الشرق بالغرب، والشمال بالجنوب،...

!!! متوحّش هذا العالم*

صرخة واحدة تنهيها الكاتبة بثلاثة نقاط تعجّب وربّما استنكار واستغراب لما يحدث في عالم الإنسانية..

هذا هو عنوان الرّواية الذي اختارته الأستاذة ريم العيساوي بعد أن كانت اختارت عنوانا آخر لها في البداية وهو "عندما تستيقظ الذاكرة" ، لكنّها تقول إنها عدلت عن ذلك العنوان بسبب اقتحام بعض الذّكريات وبعض الأحداث على عالم الرواية، وأكدت ذلك بتاريخ  محدد هو عشرين ديسمبر 2020.. ص  10..

هكذا غيّرت الكاتبة فجأة فكرة عنوان روايتها منذ الشّروع في الكتابة، لأنْها تكتب بوعي، وباقتناع، ولغاية، جميعنا نعلم أن أصعب شيء في المنجزات الأدبية هو التّوفيق في اختيار العنوان المناسب للأثر.. ، فالعنوان هو العتبة الهامّة والمهمّة للمنجز الأدبي، ليكون جاذبا، مشوّقا، مغريا للقارئ كيْ يقبل على اقتناء الكتاب وقراءته، لذلك أغلب الكتاب يتركون عملية اختيار عنوان عملهم آخر مرحلة، وتأتي بعده صورة غلاف الكتاب، فهي العتبة الثانية التي يجب أن يوفّق في اختيارها المؤلف لتكون مرآة عاكسة وصدى لمحتوى الكتاب ومضمونه...

ومع ذلك أعتبر أن الكاتبة قد وفقت في اختيار العنوان واللوحة من خلال تلك الكائنات البهلوانية المتوحّشة كأنْها أشباح مخيفة لمخلوقات عجيبة، غريبة، برؤوس جماجم ومخالب حادّة ومعقّفة، وحيوانات ضارّة وخطيرة وسامّة بلون الدّماء السّائلة، أحمر يغمر المكان، سواد يغشي الفضاء، هو الليل وهو الظّلام، وهي الوحوش الضّارة التي تتحرك في الحلكة الدامسة.

الكاتبة بخيالها الشّاسع وقوّة ذاكرتها التي استرجعتها بعد فقدان دام شهرين، لا تكتب تخريفا ولا هراء ولا قصّة من قصص ألف ليلة وليلة.. وإن كانت تعرّضت في فصل من روايتها لسرد قصّة لفجر زاد وما فعله بها تجّار الإرهاب ونهايتها البائسة على يد أخيها، الذي يكتشف حقيقتها عندما رجع لليلة الثانية لينتقم منها ويسألها سبب تمنّعها عنه وصدّه بقوّة، وليقضي ليلة ماجنة معها...

الكاتبة لا تهذي، هي تستعرض ملحمة في العناء والعذاب من سيرتها الذّاتية، وقد اختارت بطلة *  روايتها سوسن، لتسرد على لسانها قصّتها المليئة بالمرار والوجع، ولم تبتئس ولم تكتئبْ ولم تستسلم للمآسي، كانت تشحذ عزيمتها بالصّبر، تحصّن نفسها بالإيمان والقرآن وهذا نجده في كلّ فصول رواياتها وهذا يدلّ على تشبّثها بدينها، وعلى تكوينها الاجتماعي، من خلال إيمانها أن آيات الله علاج وشفاء، لذلك نجدها كل مرّة تلوذ من عالمها المتوحّش إلى عالم التْحصين بالقرآن،

فالكتابة عالمها المثاليّ، مستقبلها الوردي، بممارستها تتخلّص من كوابيسها، إذ تسكب أوجاعها فتسيل مآسيها فوق الورق، ودموعها تجفّ مع الحبر، فتتخلص من همومها وتمضي في الحياة، حاملة آمالها أحلامها ومحبرتها وأقلامها لتسجّل ذكريات لم تمح من ذاكرتها لها تاريخها وحفرت على جدار قلبها، وتحاول التْخلّص منها بتدوينها في ثوب حكاية ، حكاية يتلقّاها القارئ بشغف فتتداخل في ذهنه الشّكوك حول ماهية ما يقرأ هل هو حقيقة أم خيالا.. ولعلم الجميع، لو قمنا لسرد الحقيقة بصدق وشفافيّة ستكون أبشع من الخيال مهما اجتهدنا في رسمه، وإذا وفّقنا في تصوير تفاصيل الحياة بدقّة، نكون قد أبدعنا ونجحنا في تحويل الحقيقة إلى خيال، وكتبنا عملا أدبيّا مميّزا وناجحا

لا أريد تكرار ما قيل في قراءات سابقة للرواية، لكنّي سأقف عند بعض التّفاصيل شدّتني في الرّواية،  * وشدّت انتباهي، حسب اجتهادي، الكاتبة جعلت روايتها لولبيّة، نهايتها تنفتح على بدايتها والعكس بالعكس، حين كانت بصدد سرد الأحداث، لم تلتزم بقاعدة، ولا بترتيبها في الزّمن، فهي تدخل القارئ إلى عالمها وتخرجه منه كما تشاء، ومتى تشاء، جاعلة خيوط اللّعبة في معصمها، تستطرد الذّكريات، تعود إلى صندوقها الأسود لتطلع منه ما تريد من أحداث رهيبة، وحكايات عجيبة، كانت تعرّضت لها في ماضيها القريب والبعيد، رابطة الماضي بالحاضر بكل براعة، فهي تسرد ما تريد، وتتوقّف متى تريد، أحيانا لا تكمل الحكاية كأنها تريد تشويق القارئ وترغمه على متابعتها بجعله يواصل القراءة ليصل إلى نهاية سرد حكاية تناولتها، وربما تريد تشريكه في حدث الكتابة فيساهم في رسم نهاية القصة بأسلوبه وخياله وبما لديه من ثقافة ومعلومات، وبما يشهده ويعيشه في الواقع لأنّ ما ترويه هي من صميم الوجع والواقعي هي مشاهد تكرّر عبر التاريخ، في كل حقبة من الزّمن،.. في ذات الوقت وبهكذا سرد، هي تنقطع عن مواصلة الحديث عن حادثة ترويها تتعلّق ببطلة روايتها سوسن، بالعودة إلى عالمها الواقعي، من خلال تلك الرّسائل التي تصلها من صديقتها الإعلاميّة سلمى الموصلي عبر الماسنجر، فتربط حالات التّوحش التي عايشتها بحالات التّوحش التي تحدث في سجن أبي غريب ببغداد أثناء حرب الخليج وبعده، من عمليات اغتصاب استفزازية وحيوانيّة لا يمكن وصفها إلا بالتْوحّش لأنها خالية من الرّحمة ومن الإنسانية تمارس على نساء وفتيات وصبايا قاصرات حتى الأطفال لم يسلموا من أيادي الجنود الأمريكيين والبريطانيين وحتى العراقيين أنفسهم، بسبب رغبة جامحة في الانتقام من الإسلاميين خصوصا المتديّنين والسّنيّين... جرائم مسكوت عنها في حق الإنسانية من قبل الدّول المهيمنة والمحتكرة لكل شيء اقتصادا وسياسة وتكنولوجيا، وتربية وعلما، والتي تمتلك مفاتيح حقوق الإنسان والسّلام الوهميّة المسكوبة على الورق، مجرد شعارات واهية، لعبة سياسية قذرة، تواطأت فيها أطراف عديدة، بمشاركة أيادي أبالسة عربيّة، لسحق الهويّة العربيّة وضربها عرض الحائط للاستحواذ على ثروات العراق، ونفطه، وفسفاطه باسم السلام والحريّة والديمقراطيّة وبحجّة مساندة الدّول المظلومة، المنكوبة، وكأنها وصيّ عليها... بتعلْة أن بعض حكّام العرب ظالمون وطغاة يجب سحقهم وإزالتهم بإبعادهم عن الحكم بشتّى السّبل.. ثم حالة الصّمت الرّهيب لوسائل الإعلام خوفا من تهديدات هذه السّلط السّياسيّة الحاكمة، إلى جانب خوف العائلات العراقيّة آنذاك، والتي مازالت تعيش في طقوسها وفي أجواء العشيرة والقبائل، إذ كانوا يتستْرون على مثل هذه الجرائم خشية العار والفضيحة التي أصابتهم وأصابت نساءهم، فبدل من رفع قضيّة في الشّأن وتقديم شكوى ضدّ هؤلاء المجرمين، يلوذون إلى الصّمت ويفرّون من بيوتهم فيئدون بناتهم المغتصبات ويتخلّصون منهنّ بطرق فظيعة وأكثر توحّشا، بالقتل والذّبح والرّمي بجثثهنّ تحت الأنقاض وفي الوهاد أو دفنهنّ في سكون الليل وهنّ مهزومات، مظلومات، بائسات، ضعيفات، ذليلات...

هكذا كانت الكاتبة ريم العيساوي في سردها لأحداث روايتها، مراوحة بين سيرتها الذاتية، وما تراءى لها في الماضي، وما يحدث معها في الحاضر، وهي التي كلّما هربت من مأساة تقع في مأساة أبشع من الأولى، إلى الحديث عن سيرة جماعية، بوصف تلك الأعمال الإجرامية المتوحّشة من قبل الدّول الدكتاتوريْة باسم الدّفاع عن الإنسانيّة ونشر السّلام وفضّ النّزاعات بين الدّول الجيران فتقتل البراءة وتفتك بالبشر، وتنتقم بكره وحقد دفين من العرب، بتلك الاغتصابات العدوانيّة لنساء وبنات في عقر ديارهنّ وفي مدنهنّ وبلدانهنّ وأمام أعين عائلاتهنّ مثل الأب والأخ والزّوج والجار و.. و..، بطرق غير إنسانية لإذلالهم وتنكيس رؤوسهم ولجبرهم على عدم المقاومة، ولا الدّفاع عن شرفهم، ولمدّ عنقهم لحبل المشنقة طائعين، صاغرين، وبمذلّة شنيعة،..إنّها  لعبة الكاتبة، في جرّها لنا وراءها عند سردها لروايتها بأسلوبها السّلس الشّيّق وبلغة شاعريْة ممتعة، بتقنيات وأسلوب كتابة الرّواية الحديثة، إذ جمعت كلّ الأجناس الأدبيّة فيها، شعرا، قصة، رواية، ملصقات، أشعارا، إعلانات، الانفتاح على عالم الرّقمنة والتّكنولوجيا، الماسنجر، المنصّات الافتراضيّة في اللّقاءات الأدبية، وسائل الإعلان والاتّصال والإعلام والأخبار، والتّصوير من خلال تلك الكاميرا الرّاصدة للأحداث والاهتمام بالتّفاصيل الصّغيرة قبل الكبيرة، لشدّ القارئ، وكسب شفقته، وثقته ليكون في صفّها،.. لقد تحدّثت بصدق وصراحة، من دون إساءة للّغة أو استعمال لغة إباحيْة تضمّنت عبارات أيروكيّة... بل كانت توصل المعنى بذكاء، تذكر أرقاما وإحصائيّات توهم بالحقيقة بل هي الحقيقة، رواية قابلت الذّاتي بالجمعي، الاجتماعي بالاقتصادي والسّياسي، الضّعيف بالقويّ، البسيط بالمتكبّر والمتعالي، المواطن العادي بالسّياسي، رواية سير ذاتي في ثوب سير جماعي بامتياز، وما يؤكد أن الرّواية أخذت كلّ هذه الأساليب وجمعت بين الواقع والخيال حتى أنّ القارئ يخالها واقعا وأحدثت فيه رجّة وارتجاجا في عقله وتجبره على أن يعود للتّاريخ للنّبش فيه والتثّبت في المعطيات والمعلومات المتسرّبة عبر الماسنجر عن طريق سلمى الموصلي أثناء حرب العراق، للكشف عن الحقائق التي ربما كانت مخفية عنه لأنّ الإعلام كان مرغما على التّعتيم، بقصد وبسبب الأوامر التي يتلقّاها...

تقول في ص 31

"وكشف التّقرير الأوروبي عن وجود تقرير حكومي أمريكي صدر عن فرع قوات مشاة البحرية المارينز في وزارة الدفاع الأمريكيّة يفيد حدوث عمليّات تعذيب بشعة في الفترة ما بين أكتوبر وديسمبر 2003  ويشير إلى مدى ما تعرّض له بعض الضّباط والشّهود من ضغوط لعدم تسريب أنباء التْعذيب"

وتُكثر من هذه المعلومات والتّسريبات الصّحفيّة التي تصلها من صديقتها الإعلامية سلمى الموصلي تقول إنْها كانت  تراسلها باستمرار تاركة لها هذه المعلومات الخطيرة لتساعدها في كتاباتها ولتذكّي بها روايتها

في ذات الوقت، هي فرصة لتبثّ وتنشر هذه الحقائق المؤلمة المسكوت عنها وعن سبق الإصرار

فهل يمكن القول أنّ الأديبة تكتب يوميات لأن ما تقدّمه للقارئ مؤرّخ بالتّوقيت واليوم والشّهر والسّنة وبالمكان، وبالحدث والأرقام والإحصائيّات،.غير أن الكاتبة ريم لم تكتبها في زمنها، لأنّها كانت تعيش موجة من التّغرّب والصّراعات، والضّغوطات اليوميّة والمتتالية... والرّكض في متاهات الحياة، مع التشبّث بالذّات، لأجل تحقيق نجاحات لتنتصر على الظّلم والقهر واليتم والقسوة والتّجبّر التي عانت منها

كثيرا منذ طفولتها...وصولا إلى هجرتها في الخليج وعملها بدبي، بالإمارات، فهي اليوم اختارت أن تسرد أحداثا أليمة خزّنتها في الذاكرة وكانت تعتقد أنها نسيتها ودفنتها، لكنّها ظلّت تراودها وتلاحقها... في يقظتها وفي حلمها ومنامها وتتراءى لها الكوابيس المؤرقة.... هي كوابيس مسجونة منذ عقود لحكايات عايشتها،...

ثم تعود بها الذّاكرة وهي تستفيق من غيبوبتها لذكرياتها مع والدها الذي رحل عنها وهي طفلة، لكنّه ظلّ النّور الذي تتمسّك به في كل ظلمة، تقول ص 28 مقطع من قصيدة لها بعنوان "برنس والدي":

لمن تعزف أناملي أناشيد الحياة؟

والبرنس نام واستراح من الرّحيل..

ها قد غزتني ثلوج العمر

ولفّني صمت الصّدى

وتقيّحت فيّ القروح..

وحدائقي قد أقفرت ونأت عنها الطّيور.

فلمن أغنّي والسّماء كئيبة أفلت عنها النْجوم؟

يا أبتي...!

هكذا هي رواية " متوحّش هذا العالم!!! " التي تعمّدت الكاتبة أن تسمعنا صرختها فيها، تطلعنا على * وجعها، ومعاناتها وتخبرنا عن صبرها على المكائد، من خلال القاموس اللّغوي الذي توّجته وتوخّته بدءا بالعنوان جعلت الخبر يسبق المبدأ، لأنّ التّوحّش كان الأعظم والأطغى ومازال هذا العالم منبوذ بلعنة وسخط الآلهة....

تبدو لي الرّواية دائريّة... فقد كانت البداية باستيقاظها من غيبوبة دامت شهرين..

لتكون الخاتمة.. أيضا دخولها في غيبوبة أفاقتها منها أميمة ابنة أخيها وهي تسلّمها النّسخة الأولى من روايتها...

تقول ريم العيساوي في مفتتح الرّواية بعد الميثاق والانعكاس الذي جعلته تصديرا لفصول روايتها.. وعددها أربعة، في ص 9-10:

"لاذت سوسن إلى مكتبتها محاولة مصافحة أوراقها البيضاء وإيقاظها من سبات دام شهرين، قلمها في شوق شديد إلى الرّحيل عبر الفضاء الصّامت ليحرّك الأيّام السّالفة قلمها في شوق إلى دفء أصابعها حتى يترجم مداد روحها".

وشرعت تكتب الفصل الأول من روايتها : " عندما تستيقظ الذّاكرة "

وفي نهاية الرّواية التي أراها تنفتح على البداية أو تعلن عن مواصلة الجزء الثّاني منها، بسبب ذلك الهطول من الذّكريات المسجونة في ذاكرتها، والتي تطلع للنّور إثر كلّ حادثة تبلغها فتصاب بالدّهشة ما يجعلها تدخل في غيبوبة، غيبوبة نشوة الكتابة والإبحار مع الشّخوص والأبطال الذين تصنعهم الكاتبة...

تقول في آخر الرّواية ص 194

"عدت إلى بيتي مهدودة من صدمة المفاجأة وهجرني النّوم واستبدّ بي السّهاد فاستغثت بقلمي ليسعفني " "!!!على كتابة الفصل الثاني من روايتي " متوحّش هذا العالم

"تأمّلت ملفّ رسائل سلمى أحسست بدوار عجيب واعتراني الغثيان ودخلت في غيبوبة أفاقتني منها أميمة تسلّمني النّسخة الأولى من روايتي..."

بهكذا استشهادات أختم قراءتي التي أرجو أن أكون قد وفّقت في التقاط صورة بانورامية عن رواية * الأديبة ريم عيساوي، وإن كانت قد أفاقت من غيبوبتها في مطلع الرّواية على صوت أختها والأسرة من حولها متعاطفة مع حالتها... وهي في حيرة من أمرها هل هي لحظات اليقظة أم لحظات السّبات، فهي لحظات متداخلة لا تعرف هل هي من حاضرها أم من ماضيها... فإنّها تفيق على صوت أميمة ابنة أخيها في آخر الرواية.

وهذا قد اشتغلت عليه الكاتبة بذكاء وخبرة من خلال تلك المراوحة بين الماضي وأحزانه، والحاضر بهمومه وحرصها على ابتكار عجينة من الأحداث تجمع بين اليوميّ والسّير الذاتي.. لفضح ذلك التّوحّش الذي يمارسه الإنسان على أخيه الإنسان... وما يحدث من غرائب وفظائع على كوكب الأرض التي ثقل كاهلها بجرائم وحشية لامتناهية يعجز العقل عن ذكرها…

***

سونيا عبد اللطيف

تونس 23/ 03/ 2024

فرصة ثانية

منذ تبلور الكونُ وتطوّرت الحياة وتكوّنت الأسرة وبدأ المجتمع الإنساني كان الثنائي الرّجلُ والمرأة أساسَ الكَوْن وروحَ التطوّر وأساسَ الأسرة والمجتمع، وتعاونُهما في كلّ مَجالات الحياة سَببُ النّجاح والفرح والسّعادة. وأيّ خلل في العلاقة بينهما قد يكون المُسَبّبَ في زيادة الشَّرْخ والجَفاء والبُعد وحتى القَطيعة ممّا يُدمّر الحياة المُشتركة ويجعلها مُستحيلة.

ولأنّ ما يُقاربُ ما بين الستين والثمانين بالمائة من الرجال والنساء تنحصر اهتماماتُهم في معظمها بالهموم الأُسَريّة والمُجتمعيّة والمالية والحياتية المَعيشة بعيدا عن الهموم والمَشاغل الكبيرة التي تتعلّق بالوطن والشعب والحريّة والديمقراطية والعالم الواسع فإنّه من الطبيعي أنْ تكون الحياة المعيشة الطبيعيّة لأغلب الناس تدور في نطاق البيت والأسرة والعائلة والأقارب والجيران والحارة والحيّ والبلدة ممّا يجعل التّواصل والاهتمام مُتبادَلا على مختلف وجوهه المُتَبدَّلة والمُتغيَّرَة والخاضعة لمختلف العوامل الفاعلة والمُؤثرة في المُحيط القريب.

كانت مثلُ هذه الهموم العاديّة للناس العاديين لا تُثير اهتمامَ المُبدعين من شعراء وكُتّاب، ويوجّهون اهتمامَهم إلى أبناء الطبقات العليا والحُكّام والملوك، وكما كان هذا صحيحا في تُراثنا وأدبنا هكذا أيضا في تُراث وأدب الشعوب الأخرى.

وفقط في القرن التاسع عشر بدأت الاهتمامات بالناس العاديّين وحياتهم، وإنْ كانت بالكاد تُذكَر.

كانت التحوّلاتُ في القرن العشرين حيث بدأت الهموم الذاتية تختلط بالعامّة والصغيرة بالكبيرة، لكنّ القاعدة الأساسية ظلّت على ما هي، ومعظمُ الناس العاديين يُؤْثرون الانكفاءَ على ذواتهم وهمومهم مُتجنّبين الانخراط في القضايا الكبرى، حتى في مناسبات قومية حياتيّة مَصيريّة مثل الانتخابات نجد أنَّ نسبة التصويت في الدول الديمقراطية أو القريبة منها لا تتجاوز الأربعين بالمائة لأنّ معظم الناس يهتمون بقضاياهم وهمومهم اليومية على الغالب.

وإذا كان الكثيرون من الروائيين والقَصَصيّين مزجوا الهمومَ الذاتيّة للأفراد والأسرة مع الهموم العامّة للوطن والشعب وحتى العالم لأنّه يصعبُ على الفرد في هذه السنوات الخمسين الأخيرة أنْ ينفصلَ عن محيطه ووطنه وعالمه، فإنَّ البعض يُركزون الاهتمام في هموم الفرد والأسْرة بعيدا عن كلّ الهموم الأخرى لأنّهم يرون في خوض غمار بعض القضايا والمواقف ما يُعرِّضهم للمُساءلة والمُلاحقة وحتى العقاب، والبعض يؤمن أنّ الاهتمام يجب أن يتّجهَ لبناء الفرد السليم والأسرة السليمة والعائلة المُتَحابّة المُتعاونة لأنّ في هذا يكون أساسُ النجاح ومَبْعث الفرح والسّعادة والتعلّق بالحياة للانطلاق بعيدا.

وهكذا نحن مع الكاتبة صباح بشير في روايتها الثانية "فرصة ثانية" (إصدار الشامل للنشر والتوزيع ونادي حيفا الثقافي 2024) قد آثرت السّلامةَ، واعطت اهتمامَها كلَّه للهموم الذاتية التي قد يُهملها الكثيرون لأنّها ترى في وحدة الأسْرة وتكاملها أساسَ المجتمع وركيزته ونجاحَه.

وكانت الكاتبة في روايتها الأولى "رحلة إلى ذات امرأة" قد عزلت شخصيات روايتها بعيدا عن الزمان والمكان في واقع افتراضيّ لمدينة افتراضيّة جعلتها قد تكون في كل مكان نُفكّر فيه، وفي كل زمن نختار. أمّا في روايتها هذه "فرصة ثانية" فقد حرّرت المكان وكشفته لنا لتَظهرَ مدينةُ حيفا الجميلة، ما بين البحر المتوسط وجبل الكرمل، المُتسلقة للكثير من تلاله، الحاضنةَ المثاليّة لأسْرة "فرصة ثانية" وللكاتبة التي وجدَت في حيفا راحةَ البال ومَبْعثَ الفكر وتدفّقَ الإبداع. فحيفا كانت المظلةَ الدافئة التي تتحرك فيها شخصيات الرواية وتُكسبُها مَلامحَها وتميّزها، ومثلها كان شاطئُ مدينة يافا الذي وجد فيه مصطفى وسناء المكان الآمن الهادئ البعيد عن عيون الرقباء.

أمّا الزّمَن فترَكَتْه لحاله كما نقول، لأنّ المَساسَ به قد يوقظه فلا يُبقي على شيء، مخلوقا حيّا كان أو جمادا بما يأتي به من أحداث ومفاجآت..

تطوّر الرؤية:

إضافة إلى تحديد مكان أحداث الرواية وسَكن الشخصيات "مدينة حيفا" ممّا جعل القارئ يزيد من تَقَبّله للرواية والتّعايش مع شخصيّاتها، فإن الكاتبة جدّدت في رُؤيتها لمَكانة المرأة ودورها وتأثيرها في المجتمع عمّا كانت قد دعَتْ إليه في روايتها الأولى "رحلة إلى ذات امرأة" التي وصفها الروائي محمود شقير بأنّها " رواية تفضح بؤسَ المجتمع الذكوريّ الّذي يُعيق تطوّرَنا الاجتماعيّ".

تقول الكاتبة صباح بشير في حوارها مع الكاتبة ميّادة مهنا سليمان لموقع "ديوان العرب" يوم 8.9.2024 بصراحة: "في روايتي "رحلة إلى ذات امرأة"، تناولتُ مجموعة من القضايا الاجتماعيّة والنّفسية الهامّة الّتي تواجه المرأة العربيّة بشكل خاصّ، من أبرز هذه القضايا: قضية الهويّة، حيث تسعى البطلة إلى العثور على هويّتها الحقيقيّة، في خضمّ مجتمع يحاول فرض قوالب جاهزة عليها، فتواجه صراعا بين التّقاليد الاجتماعيّة، والرّغبة في التّعبير عن ذاتها، تبحث عن حرّيّتها الشّخصيّة والقدرة على اتّخاذ قراراتها بنفسها، بعيدا عن القيود المفروضة عليها من قبل المجتمع والعائلة".

كما "وتُسلّط الرّواية الضّوء على "قضيّة العُنف" الّذي تتعرّض له المرأة، سواء كان جسَديّا أو نفسيّا، وكيف يؤثّر ذلك على حياتها ونفسيّتها، وتدعو إلى ضرورة التّغيير الاجتماعيّ والتّحرّر من القيود التقليديّة الّتي تُعيق تقدّم المرأة وتحقيقها لذاتها.

وقد ختمتُ رواية "رحلة إلى ذات امرأة" بهذه العبارة القويّة: "أغلقتُ أبواب قلبي بإحْكام وفتحتُ أبواب العقل على مصراعيها"؛ للتأكّيد على التّحوّل الجذريّ الّذي طرأ على شخصيّة البطلة في نهاية رحلتها، هذا التّغيير يعكس التّحرّر من قيود العواطف، إذ تشير عبارة "أغلقتُ أبواب قلبي بإحكام" إلى قرار البطلة بعدم السّماح للعواطف بالتّحكّم في حياتها وقراراتها بعد الآن، فقد تعلّمتْ من تجاربها السّابقة أنّ الاعتمادَ المُفرط على العواطف قد يؤدّي إلى الألم وخيبة الأمل.

أمّا عبارة "فتحت أبوابَ العقل على مصراعيها"؛ فتعبّركما تقول "عن توجّه البطلة الجديد نحو التّفكير العقلانيّ والمنطقيّ في التّعامل مع الأمور، فهي تسعى إلى بناء حياتها على أسس متينة من الوعيّ والفهم، بعيدا عن العشوائيّة.

وهي ترمز إلى وصول البطلة إلى مرحلة من النّضج والاستقلاليّة، فهي لم تعُد تلك المرأة الضعيفة الّتي تتأثّر بسهولة بآراء الآخرين، أو تتبع قلبَها بشكل أعمى، لقد أصبحت بعد التّجارب الّتي مرّت بها امرأة قويّة واثقة من نفسها، قادرة على اتّخاذ قراراتها بنفسها وتحمّل مسؤوليّتها.

وتُتابع الكاتبة كلامها قائلة: "بينما في روايتي الثّانية "فرصة ثانية"، أظهرتُ من خلال شخصيّة الطّبيب "إبراهيم" أنّ تلك الجملة: "أغلقتُ أبواب قلبي بإحكام وفتحتُ أبواب العقل على مصراعيها"، لا تدعو إلى إلغاء العواطف أو إنكار دورها في حياة الإنسان، وإنّما تؤكّد على أهميّة التّوازن بين العقل والقلب بحيث لا يتحكّم أحدُهما في الآخر بشكل مُطلَق..

هذه الكلمات تعكس رُؤية أكثر توازنا في رواية "فرصة ثانية"، حول العلاقة بين العقل والقلب، فهي لا تدعو إلى قمع العواطف، بل إلى إدارتها بشكل واعٍ ومسؤول."

فرصة ثانية

رواية "فرصة ثانية" تعرض أمامنا ثلاثَ قصص لثلاثة أزواج من أبناء الطبقة الوسطى في المجتمع تعرّضت حياتهم لخطر الانفصال والقطيعة بسبب خلافات زوجيّة عاديّة.

1.أسرة عبد الله ولبنى.

2.أسرة الدكتور إبراهيم ونهاية. وقد نُضيف إليها فترة حياة إبراهيم وزوجتيه السابقتين.

3.أسرة مصطفى وهدى. وقبلها فترة حياة مصطفى مع فاتن شقيقة هدى. وبعد موت فاتن علاقته مع سكرتيرته سناء.

ويمكن أن نضيف إلى هذه الأسر أيضا أسرة والدَي فاتن وهدى وأسرة أهل مصطفى المُكوّنة من والدته فقط لأنّ والده كان قد مات، الأسرتين اللتين تُقدّمان نموذجا ممتازا للعائلات التقليدية التي رغم أنّها انفتحت على الحياة واهتمت بدراسة أبنائها وتأمين فرص العمل لهم إلّا أنّها تُحاذر انتقادات الناس وكلامَهم، وتتمسّك ببعض المفاهيم الاجتماعية خاصّة المتعلّقة بالحفاظ على أفراد العائلة والتّضحية في سبيل الغير مثل زواج هدى من مصطفى لتعتني بابنه الرضيع يحيى ابن شقيقتها فاتن التي فارقت الحياة وهي تَلدُه في المستشفى.

وبتتبعنا لتفاصيل حياة كلّ أسرة من هذه الثلاث لم نجدها تختلف كثيرا عمّا تُواجهه غيرُها من الأسر التي نعرفُها، ولم يكن حظُّ الرجال أفضلَ من حظّ النساء.

فطبيب الأسنان إبراهيم رغم مركزه الاجتماعي ونجاحه في عمله، ووضعه الماديّ ومَحبّة مَرضاه له تزوّج مرتين وطلّق مرتين وتعرّض لعمليّة ابتزاز وتشهير من إحدى مرضاه حتى اتّخذ قرارَه الصّعب بعَدم التفكير بالزواج مرّة أخرى والبقاء حرّا يعيش حياة الشباب والرّفاهية والعزوبيّة وحده لا أحد يُعَكّر حياته.

وعبد الله نجح في دراسته وفي عمله، وتزوّج من فتاة أمِلَ معها السّعادة والحياة الرّغدة فأحبّها جدا، وأكرمها وحقّق لها كلّ ما طلبته، ولكنّه قوبل من قبلها بكل النُّكران والاستخفاف والتّعالي والرّفض والإهمال فتحمّل كلّ العذابات اليومية والإذلال حتى وصل إلى حَدّ اتّخاذ القرار الصّعب بالطلاق.

أمّا مصطفى الأكثر تقليديّا ومُقرّبا من والديه، وخاصّة من والدته بعد موت والده فقد حظي بحياة سعيدة واعتناء الوالدَين وانهاء دراسته والعمل الناجح في معرض للسيارات. وتميّز بالوسامة ومحبّة واحترام الجميع له لتعامله اللطيف مع كلّ مَنْ كان على مَقربة منه، فقد اختار الفتاة الجميلة التي أحبّ، ولكنها سرعان ما تركته وفارقت الحياة في ساعة فرحه وهي تلدُ وحيدَهما "يحيى" الذي انتظره بكلّ الشوق وملأ له حياته بعدها. ورغم حزنه الصّادق عليها أقام علاقات عاطفية وجنسية مع سكرتيرته سناء التي أوهمها، من حيث لا يشعر، بحبّه لها ورغبته في الزواج منها، ولكنه قَبِلَ بنصيحة أمّه وفضّل عليها هدى شقيقة زوجته لتكون الرّاعية لابنه رغم عدم الاقتناع بها كزوجة ورفيقة درب في الحياة، فأهملها وتعامل معها بعد الساعات الأولى من زواجهما كأخته الصغيرة فلم يقرُبها، وتركها تنام وحيدة تُعاني عذابَها ووحدتَها وضياعَها.

وكما إبراهيم كانت "نهايه" جارتُه الشابّة الأنيقة الجميلة المُثقفة مُحبّة الموسيقى والفرَح والحياة نموذجا للفتاة المتحرّرة التي تعيش وحيدة بعيدة عن ذويها التي استرعَت انتباهَه من أوّل مرّة صادفها في المِصْعَد وهو في توجّهه لداره في الطابق الثالث بينما هي تسكن في الطابق الثاني. هذه اللقاءات الصّدفة العابرة سرعان ما تحوّلت لتكون المهمّة، فزادت اللقاءات والجلسات، وتعدَّتها إلى الاعجاب واستنفار العواطف، ولقاءات الحبّ حتى كان وفاجأت إبراهيم عندما عرضت عليه الزواج فاعتذر مُؤكّدا على إيثاره الحياة التي يحياها معها على أنْ يخوض تجربة الزواج الفاشلة التي أقسم أنه لن يُعاودَها مرّة أخرى. وكان قرارُ نهايه حازما بقَطع العلاقة معه.

ومثل نهاية فعلت سناء سكرتيرة مصطفى التي اعتقدت أنّ موت فاتن زوجته فرصتُها للإيقاع به والزواج منه بعد أنْ فشلت في زواج سابق لها مُستغلّة طيبة قلب مصطفى وتعامله اللطيف معها، وكذلك جمالها وقُدرتها على اثارة مشاعره وهزّ كيانه وإيقاعه في حبّها والتعلّق بها، وبالفعل نجحت، وعاشا حياة عشق وحبّ، وفكّرا بالزواج لولا تدخُّل والدته وتوجيه انتباهه نحو هدى شقيقة زوجته فاتن بأنّها الزوجة الأفضل وأنّها الجميلة الرقيقة المُحبّة الرّاعية المُخلصة لابنه الصغير يحيى، وصِغَر سنّها وفَرْق السنين بينهما لصالحه بأنْ تكون زوجته تصغره بسنوات يعيش معها أحلى السنين ويجعل منها الزوجة التي يريد. عندها قرّرت سناء الابتعاد عنه ونسيانه.

وهدى أيضا وقعت تحت تأثير أمها التي ألحت عليها بالقبول بمصطفى زوجا لأنه الشاب الممتاز والملائم لها، وهو والد يحيي ابن شقيقتها الذي تعتني به وتُكرّس له كلّ ساعات يومها، ورغم رفض هدى الأوّل وحجّتها بأنّه يكبرُها بسنوات وهي تريد متابعة دراستها العليا إلّا أنّ ملاحقة أمّها لها ومساعدة الوالد أيضا في إقناعها أدّت إلى خضوعها وقبولها الزواج من مصطفى.

وتمّ زواج مصطفى من هدى زواجا تقليديا لم يقتنع به أيٌّ منهما، وسرعان ما اكتشفت هدى خطأها بعد اهماله لها وتعامله معها كأخته الصغرى، لا عواطف تدفعه نحوها ولا حتى التفكير بها، فقررت التمرّدَ على قيوده والتحقت بالدّراسة الجامعية وكوّنت لها الأصدقاء والصديقات ممّا أثار غيرتَه عندما سمعها تتحدّث بالهاتف مع زميل لها وتتّفق معه على موعد للقاء، فثارت شكوكُه وغضب وتابع وراقب وتأكّد، وهدى بالمقابل ثارت وغضبت وشعرت بالإهانة والتّخوين والنُّكران، فأعلنت تمرّدَها ورغبتَها في تَرْكه والعودة إلى بيت والديها متنازلة حتى عن الصغير الذي رعته وأحبته "يحيى" ابن شقيقتها فاتن.

وكان حظّ لبنى الأفضل بزواجها من عبد الله الذي أحبّها وحقّق لها كلّ ما أملت وحلمت به وأرادته، بينما هي لم تبادله أيّة مشاعر، بل وجدت فيه المُخلّصَ والمُخرِجَ لها من نير قيود والديها ومُراقبتهما والحياة البائسة الجافّة. لكنها بزواجها من عبد الله وفوزها بما أمِلَت فيه عاشت الخوف الكبير من أنْ تفقد كلّ ما تملك، فخافت على زوجها الوسيم أنْ تغويه فتاة ما ويتركها، أو أن تتغيّر مشاعرُه تجاهها وتصرّفاتُه معها فيحوّل حياتها إلى جحيم، فقرّرت أنْ تُحيطه بقيود صارمة، وتُشعره أنّه لا شيء بدونها فهي حرّة مُطلقة، وهي المُقرّرةٌ كلّ شيء في البيت حتى ماذا يلبس وماذا يأكل وماذا يسمع، ولم تُعفه من انتقاداتها المُتتابعة، حتى وجد عبد الله نفسَه في لحظة انكسار وصدمة وذهول على مفترق طرق حادّ وعليه اتّخاذ القرار إمّا أنْ يكسب حياته ويخرج من جحيم زوجته لبنى بطلاقها أو أنْ يرضى باستمرار الذلّ والهوان.

هذه المشاكل البيتية بين الأزواج قد تبدو عاديّة ومُثيرة للسّخرية والضحك، ولا تستحق كل هذا الجهد وكتابة رواية وتعرّض الأقلام النّقديّة لها، فمَنْ من كلّ المتزوجين لم تُصادفه بعضُ هذه المشاكل، ووجدَ الحلولَ لها وتغلّب عليها واستمرّ في حياته لنهاية العُمر؟ صحيح، ولكن كلّ مشكلة من هذه، مهما بدَت تافهة ومُضحكة في عين بعضنا، إلّا أنّها بالنسبة للذي أو التي يُعاني أو تُعاني منها هي مشكلة المشاكل والمُقرّرة الحاسمة في مصير الحياة الزوجية ومستقبل الأسرة.

من هنا كانت أهميّةُ هذه الرواية التي عرضت أمامنا نماذجَ من مشاكل وهموم يمرّ بها الأزواج وتكون سببا لتدمير الأسرة وتشتيتها.

أنهت الكاتبة الرواية بإنْهاء كلّ الخلافات على الوَجْه الأفضل. فكلُّ واحد عاد إلى وليفه، وتابعا الحياة معا بفرح وأمَل واقتناع، وإنْ كان بعضُ القلق والتّخوّف لا يزال يُرفرف حول كلّ منهم.

انتهت كلّ الخلافات بالتّفاهم والتنازل والتّراضي والرّغبة في استمرارية العيش المشترك باحترام متبادل ووضع الأهداف المشتركة لكل أسرة تسعى لتحقيقها.

ويقيني أن الكاتبة أرادت أنْ تؤكّد أنّه لا توجد مشكلة بدون حلّ؟ ولا يوجد خطأ يتحمّله واحد فقط من الشريكين. وأنّ الحياة مهما كانت صعبة وقاسية علينا أنْ نعرف كيف نُواجهها ونتعايش معها ونسعد بوجودنا معا فيها.

شخصيّات عادية

قيمة الرواية كما أعتقد أنّ الكاتبة نجحت في كشف شريحة واسعة من الطبقة الوسطى الميسورة والمتعلّمة التي عزلت نفسَها وحصرت اهتماماتها بنفسها وحاجيّاتها مستغلّة نجاحها المادي والمعيشيّ، شخصيّات سطحيّة هشّة لا انتماء فكري لديها ولا اهتمامات على المستويين المحلي والعالمي، مغمورة بذاتها وتُشغل تفكيرَها في قضاياها البيتيّة الصغيرة، بعيدة عن الثقافة العامّة والهموم التي تهمّ إنسان العصر التي تفرضها عليها مكانتُها الاجتماعية والمراكز التي تُشغلها مثل الدكتور إبراهيم وعبد الله وهدى الفتاة الطموحة والطالبة الجامعيّة، وانحصرت في كونها فقط شخصيّات تنتمي لمجتمعها بعاداته وتقاليده، وتحترم كلام الأكبر سنّا من أفراد الأسرة حتى ولو لم تقتنع بها كما كانت حالة لبنى مع والديها، وتعمل بالنّصيحة المُقدّمة لها كما فعل مصطفى ومثله هدى بقبول نصائح الوالدة بخصوص الزواج، ولكننا بالمقابل نجد أيضا المرأة السيِّئة التي حاولت التشهير بإبراهيم، والمرأة الباحثة عن سعادتها التي تعثّرت مثل سناء التي سَعَت وعملت لجذب مصطفى وإيقاعه في حبّها بانتهاز موت زوجته لاستمالته والزواج منه. ونجد ظاهرة جديدة دخلت على مجتمعنا العربي ولم يتقبّلها بعد بما فيه الكفاية، أنْ تعيش فتاة بمفردها بعيدا عن أسرتها وتُقيم علاقات مع شباب دون الاهتمام لكلام الناس وانتقاد العائلة كحالة نهاية وإبراهيم ممّا يدل على تنوّع المجتمع والتطوّر الذي وصله أفرادُه بحيث لكل واحد خصوصيّاته وحريّته، بينما غيره في أحياء أخرى يلتزم بالعادات والتقاليد، ويهتم لانتقادات الناس وتعليقاتهم ويخضع لسطوة الوالدين. كما هي الحال مع لبنى، ويعمل بنصائحهما كما هدى ومصطفى.

لكن الغريب الذي ينتبه إليه القارئ بدون شك، أنّه رغم الخلافات التي وصلت إلى حدّ الانفصال والطلاق بين أفراد الأسر الثلاث، ورغم علاقة الصداقة القويّة التي ربطت بين مصطفى وشقيقه عبد الله والدكتور إبراهيم، وبين لبنى وهدى، ورغم سُكنى مصطفى وهدى وعبد الله ولبنى ووالدتهما في الدار نفسها، كلّ في طابق، لم يبح أحد للآخر بمشاكله التي كادت تدمّر حياته، حتى أنّ هدى أخفت عن أمّها كل ما جرى لها مع مصطفى، وأنّها تعيش معه عذراء لا يقرُبها ويُعاملها كأخته الصغيرة.

وكانت المفاجأة للجميع بعد أن انكشفت كلّ هذه الحقائق. وفي هذا ما يُثير الغرابة والتّساؤل، ويدلّ على الحالة التي وصلها الإنسان في عصرنا بأنّه أصبح ينطوي على نفسه وهمومه ومشاكله، يهتم أنْ يَظهرَ أمام الغير بقناع مُزيّف يخدعه حتى ولو كان أقرب الناس إليه كوالدين وأشقاء وأصدقاء، على أن يكشف لهم حقيقةَ واقعه فيدفعهم ذلك للتدخّل ومتابعة أخباره والانشغال بمشاكله ممّا يُربكه ويضعه في حالة غير مريحة.

البساطة والعَفَويّة والأُلفة التي تغمرُ الروايةُ قارئها بها وهو يُتابعها تنبعُ أيضا من جماليّة اللغة وسلاستها وتغلغلها في لغة القارئ الذي يشعر وكأنّه يعيشها أو مَشاهد مُسلسل جميل يُتابعه ويشدّه مع كلّ قصّة من قصصه. كما أنّ الخلاصة التي قد يستخلصها القارئ بعد قراءته للرواية وتكون المنبهة له دائما: أنّ الحياة الزّوجيّة مهما حاول الزّوجان ستظلّ مُعرّضة للخلافات والاهتزازات والمشاكل التي قد تدفع نحو النّفور والتّباعد والانفصال والتباعد وحتى الطلاق، ولكنّها في النهاية قابلة للحلول بعد أنْ تهدأ العقول وترتاح القلوب ويستعيد الواحد مشاهدَ أيامه الحلوة مع زوجته وأولاده، ويُدرك أنّ الحياة المُشتركة تستحق الحياة والتضحية، والفرصة الثانية دائما موجودة وليس لأحد أنْ يتنكّر لها.

***

نبيه القاسم - الرامة

يذهب جمال العتابي في روايته منازل العطراني إلى واحدة من القضايا المركزية في الأيديولوجيا العراقية – تداعيات السياسية المضطربة عراقيا وما ينتج عنها من اعتقالات وقمع وسجون وتصفيات تستدعي الهروب في معظم الأحيان - يجري ذلك في أوقات غابرة بتعدد الأنظمة السياسية التي تربّعت على سدة الحكم في بلاد مثل العراق -، بدءا من النظام الملكي الذي انتهى بفاجعة قتل العائلة المالكة، مرورا بالانقلاب الأول (ثورة 14 تموز)، وصولا إلى النظام الهزيل (الأخوين عارف) ومن ثم حكم البعث الشمولي وبداية عصر العسكرتاريا. نعم، تبدأ الرواية من العام 1963 لكنها تنشئ خيطا خفيا يمتد إلى ما قبله، حيث السلطات المتعاقبة التي تحتكر الحقيقة الأيديولوجية فتقمع كل ما سواها، فتنطلق احداثها الجوهرية منذ العام 1963: (أرى الموت يجثم فوقنا، هذه البلاد ما استراحت بأعوامها، المياه معمّدة  بالدماء طوال التاريخ / الرواية 34).

نحن إذاً نقف حيال رواية كاشفة لحيثيات تاريخية بالواقعي والمتخيل منها، رواية تعمل على سبر اغوار التفكير العميق بالتاريخ، فلا تنقله بتقريرية مباشرة، إنما تعمد إلى نوع من المكاشفة والمحاكمة لتاريخ معاصر يعيش بعض أبطاله بيننا إلى اليوم، وهو الأمر الذي يجعل من هذه الرواية فرصة لاستعادة حيواتهم التي يعلوها الغبار بعد التحولات الهائلة التي غلّفت تاريخهم المغيب بفعل عوامل التعرية السياسية إذا جاز الوصف!.

تتناول هذه الرواية شخصية رئيسة "محمد الخلف" اليساري المعتقل الذي تنقذه الصدفة في الهروب من السجن مع مجموعة السجناء الهاربين في فوضى انقلاب البعثيين الأول، الانقلاب الدموي في العام 1963 فيستثمر "الخلف" تلك اللحظة ليسترجع حريته بالتواري عن الأنظار. فيتجه بداية إلى أصدقائه من معلمي الكوت ومن ثم يتسلل إلى العمق الريفي في "قرية العطراني" فتبدأ أحداث الرواية بالتدريج متضمنة (بنية الاسترجاع والتذكّر والاستعادة النشيطة لكل مراحل حياته منذ الأربعينيات). وهو أمر يكاد يكون متوارثا في دراما من هذا النوع كانت الرواية العربية – المصرية على وجه التحديد – قد حفلت بإجراءات مثلها. 

هذه الرواية ذات الحبكة المتماسكة، تنطلق من ثيمة الهروب، وهي من بديهيات العمل السياسي السري في العراق على مدى عقود طويلة. الهروب والاختفاء خشية من الوقوع في براثن السلطة. إذ إنَّ كل الأحداث منطقية، إذا ما وضعنا في حساباتنا صورة الأنظمة الغاشمة والمستبِدة. فما الذي بقي للمخيلة السردية؟ وأي أحداث ستتشكّل أمام سيرة ذاتية وثّقت حياة "الخلف" في هروبه من الألف إلى الياء؟.. سرد استقصائي يتابع بدقة متناهية عملية الهروب والاختفاء ويصارع من أجل البقاء بعيدا عن قبضة السلطة الوحشية. وأعتقد جازما أنَّ أي إضافة للمتخيل السردي في رواية العتابي لم تكن تجري في حركة البطل الرئيس، ولا في حراك الشخصيات الأخرى، إنما جرت في اسئلته الشخصية إزاء مراجعاته لموقفه الأيديولوجي من الحزب والحياة والقياس الذي يجريه على حجم التضحية واستحقاقاتها. هذه على وجه التحديد خصيصة هذه الرواية في المكاشفة الحرجة لما يتعور عمقه الباطني ورؤيته للأحداث والأماكن بعد أن هدأت عاصفة الهروب واستقرّت مجسات بصيرته، متذكرين على الدوام مرجعياته الشخصية كمناضل ومثقف وفنان تشكيلي يحدوه التأمل والتفكّر بكل ما يحيطه من متغيرات وثوابت.

المكاشفة التي نوّهنا عنها تأتي بمثابة محكمة ينصبها الخلف لنفسه فيراجع من خلالها اعترافاته الشخصية إزاء الوقائع والأحداث. فيتعزز انكساره بالعزلة وهو اليساري المؤمن بمبادئ اليسار، بل المنبهر بثقافة اليسار وتقدميته ووقوفه في مقدمة الاصطفافات الأيديولوجية التي تنتظم في بلد مثل العراق منذ تأسيسه، بل لايمكن تخيل بقعة جغرافية منه لا يحدوها الاصطراع الحزبي الذي يخوض غماره على الدوام اليسار العراقي على وجه الخصوص. أقول يتعزّز انكساره بالعزلة، فتضعف الثورة في روحه وتخفت شيئا فشيئا ويصل في نهاية المطاف أن ليس بوسعه أن يقوم بأي فعل مع أقرانه اليساريين (ص207).

وثمة ما يشير إلى العيوب النسقية التي تستتر وراء فكرة الثقافة السياسية في هذه الرواية، فتحمل بين طياتها نوعا من العثرات في هاجس التحرر الأصيل لا الدعائي الذي غالبا ما يتشكّل في روح ووجدان جماعات النزعة الثورية. هذه الثيمة ستكون مختصة بالزوجة – زوجة بطل الرواية – بوصفها واحدة من أبطال الهامش لا المتن. 

فهو وإن كان يشيد بصبر زوجته وتحمّلها للمشاق، يصطرع في نفسه حجم المحنة التي تسبب بها إلى أقرب الناس إليه. واعتقد جازما أنّ مبحثا يذهب باتجاه النسوية كهاجس حيّ في الدراسات الثقافية، سيفضح هذه الرواية ذات الانساق المضمرة الكثيرة وبمقدمتها نسق النسوية المستلبة والمقموعة التي لا تقع ضحية المجتمعات الأبوية والمحرضات القبلية والدينية وغيرها، إنما هي تصطرع أيضا مع المحنة التي يتسبب فيها أيضا دعاة الفكر الجديد والحرية من معتنقي الليبرالية والأفكار التحررية. وهذه بتقديري الشخصي واحدة من مفارقات تعضلات فكرة اليسار نفسها أسوة بما تشيعه الأفكار الأخرى اليمينية والشوفينية. حيث إنّ هذا النسق يتراجع إلى الهامش في الرواية امعانا من السارد في تعميق الهوة التي يريد لها أن تذهب باتجاه هامشية المرأة بقطع النظر عن تضحياتها وقوة حضورها في الحياة. بل إنّ تعاطفه مع الزوجة في اعترافاته المتأخرة لم تكن لتدخل في ثيمة للندم أكثر من كونها حدثا من أحداث الرواية التي تنشغل بالمراجعات الفكرية والأيديولوجية التي افرد لها الروائي جمال العتابي مساحات واسعة في منازل العطراني، الرواية التي تأخذ بيد القارئ إلى نوع من التعالق الممتاز بين هواجس التاريخ وبين الواقعي والمتحقِق منها. 

فضلا عن التجريب بمستويات السرد والذي يفلت من بين يدي العتابي فيتسبّب بالإرباك الذي سيتنبّه إليه القارئ وهو يضيع في مستويات السرد التي تتأرجح بين سارد عليم وآخر جزئي المعرفة أو العلم، وصولا إلى تعدد الرواة في سرد زواية نظر واحدة. هذا الارباك نعده من إجراءات التجريب الذي يحدث في الرواية المعاصرة في محاولة منه إلى خلخلة طرائق البناء السردي التقليدي في الرواية العربية المعاصرة. وهو ارباك يشير إلى نوع من الوعي في بناء الرواية والتعامل مع شكلها بما يضمن التجديد والمعاصرة.

بتقديري أنّ هذه واحدة من الروايات المهمة في السرد العراقي.. رواية تذهب إلى حفريات خصبة في موضوعة تهتم بالتاريخ الشخصي المعاصر الذي يخضب فكرة الحياة بكل ما هو حيوي وفاعل في حالتي التذكّر والنسيان لقضايا مصيرية صنعت تاريخ البلاد وما تزال تأثيراتها ماثلة للعيان.

***

علي سعدون - رئيس تحرير مجلة الافلام

للشاعر معتز رشدي

يبدأ ديوان الكحول، بالإهداء الى بلقيس، بينما الولد الحالم، طبع تخطيطاً غرائبياً للأب، أبرز مافيه، الإختلاف المفرط بين اليدين المسبلتين . أمّا السّيكارة المعقوفة، مع تهويمة الوجه، بالعينين الحالمتين،فتأكيد للعنوان الصادم . ثريا الغلاف السماويّ، تحتها أكثر من مئة ثريا صغرى .

المستوى الشّائع يتمركز، على مفهوم الحنين، ويحتوي على بعض النصوص: (العربة – عودة الحلزون – حياتي – عفونة – الى بلقيس في يومها – سؤال – ميليشيات – باب كلّ شيء – أبي – مطر الوزيريّة – مدينة الثورة) . يضع الشّاعر تأريخ مولده، في عربة قديمة، مع اسمه، وظلّه المتثائب . المطر يبلّل يومه، والأشياء الملحقة . فالرسائل المبلّلة إحتضنتٔ الأرض، ولم تصلْ الى اللّه ….. عودة الحلزون هي الأمل، الى قوقعته الضائعة، على شاطئ دجلة .

ترميز للمكان المفقود، إذ تتمرّى في المشهد، القوارب المقلوبة، على السّاحل الأجرد، أيّة قوقعة بين القواقع الفارغة، مسكنه الأول.. حياته المنهارة، تمشي على سلك مكهرب، بين بغداد وتورنتو: (قبضة الزلزال أقوى من السقف – تزوجت الكحول – هل يدوم زواج كهذا؟) …… ليست النافورة إلاّ إغراء مكانيّ، سواء في المنفى، أو متنزه الزوراء (ماؤها مزدحم بالضحكات). الضحك الرقراق هنا، رمز تطهيريّ لمسوح العنوان.. لماذا الزهور ذابلة، في ذكرى المكان؟، وكانّ حبّة قمح تهمسْ: (ماقلته أول مرة – قبل سنين – في شارع فلسطين: أحبّكِ) . ثلاث محطات الى الحبيبة، فدائماً يبحث الشّعراء، عن الحبّ الجارح، لأنّه سعادتهم . يقول شمس الدين التبريزيّ: الحبّ هو البهجة التي تجرح.. في نص – سؤال –، تخطيط خارجيّ لبويب، النهر الجاف، فضاء تطلّ منه مدينة الجنوب.. في محطة الميليشيات، حيث العاصمة المبتلاة، (الكلاب – المدججون – البغال – الثيران والخيول المسنة – سيرك الرعب له الكلمة الطولى: فرقعة السّياط تملأ الأسماع – رائحة الروث ملء الحياة) ….. أيّة لُقية تركها المنفيّ، بين ساحة الميدان، وباب المعظّم . للذكرى رائحة الجن، الممزوج بالنارنج، في قنينة الماء،تلك من مآثر حصانه الهرم: (كلّ طابوقة وكلّ خرابة – حتى عرقي هناك – في ظهيرة آب اللّهاب – أتمناه هنا).. في الشاكريّة، يركض خلف رشك والد معتز، طنطل خاكي، وهو رمز الدكتاتوريّة المبادة، ثم يحكي الى طفله، من مروياته عن الهور: (سحب جدّك جثّة منفوخة في الهور، فإنفجرتْ في وجهه فمات – أنا اليوم ياابي جثّة طافية).. تحت مطر الوزيريّة، معتز رشدي، أبان تسعينيات القرن الماضي، بشبابه المنتحب، كان يتمنى البقاء، في قاعة حوار، وقد انعشه السّكر، تحت ظلال الرسم: (أمّا كان بإمكاننا البقاء في القاعة حتى تلاشي الزمن).. تواتر جنائزيّ للحصار، في مدينة الثورة . (وجهُ رشگ صحراء، وعيناه سوط، الأمّ ضوضاء في المطبخ – سوى شجرة لاتثمر إلاّ عاطلين – سقطتُ منها الى المنفى).. تمتاز بعض النصوص، بالمَنتجة والحذف والتقطيع . تلك مزايا الشعر الحديث، حيث ينزاح الكلام بلاغياً . كذلك المسكوت عنه، في ثنايا المختارات، تمنح القارئ حريّة البحث . ثلاثة نصوص موضوعها، صاحب التخطيط، الأول يعاتب أمّه، والثاني آدم، ثم آدم وأباطيله . الأخير ينماز بظاهرة التكرار: (ذكريات ابناء جيلي). هناك في بعض الثريات الصغرى، لعبٌ على الضمير بأنواعه: (غيومه – تخيلوا – عن البيت وأحواله – مُدي ضفيرتك – صرخته – العويل وأقاصيه – عنها – أنا- سلطتهم – الى بلقيس في يومها – يده – من رآه – أصدقائي – نحن – ابي).. عناصر الإكولوجيا مبثوثة على البياض . اذ تُمسرح الطّبيعة بثرائها، الحيوان النبات المناخ وتعالق الأشياء: (شجرة جرداء – في الربيع – خريف دائم – سماء سوداء – غراب الخيال – براميل تتدحرج – بلّلها المطر – طائر مقتول – القواقع الفارغة – الصّدى دراجة الصّوت الهوائيّة – وصولاً الى الجذور – حصاني الهرم – ترتفع بهم الأراجيح – وحشة قارب مقلوب – الندى في الفجر – يقول العنب – الحياة قدم حافية – أطيافهم في الّليل – يتشممني كلب سائب – في الصحراء بقايا جثّة – يملؤه الشّتاء بالثلج – لأجلكِ إستدارة الأرض – عصفورة الّله وأفعاه – نافورة في ليل تورنتو – قلبه عش وفي داخله شجرة – ويشيخ بين الفؤوس – عويل كائن مجهريّ – ياوعداً في قاع نهر – قال الغصن لرماديّ – تنظرين إليّ بعين فاختة – من جبينك العالي الوضاء – ياعطراً يعاتب الوردة ياحملاً يعاتب المرعى – كصيحة في بئر – تشرق من شقّ الحائط – في ضوء مصباح شحيح – نافذتها يرشقها الحصى). ومثل هذا كثير – أيّها القارئ الحائر، كهذه المناداة التي يحبذها الشّاعر.. هناك نص يحلّق بعيداً، (قهقهة الحفاة قرب أطلال أور)، هو من تكفّل، بسرد الشعريّ، بذلك التحلّيق . لأنّه أكثر حريّة وتجديداً . يتصف بالفتنة والبوهيميّة: (شعلتها المرشوقة بالوحل – وبينهما سمائي في الإطار تتشقّق – في قراطيس سيرهنها القارئ لدى بائع الباقلاء – في حبال المطر المتيبس – أجبلَ اللّه مصائرنا من لُعاب إبليس – كان شخير الواقع يوقظنا – مسكوكة من أضراص ملوكنا الذهبيّة – ملوكنا الشاخرين في مدافن بابل).. إخترت بعض المجزوآت، الأكثر جاذبية، من ديوان الكحول . اذ تمثل البؤر المشعة، في كلّ نص،فهو المكان الأنسب، الذي يتواجد فيه العالم، حسب موريس بلانشو: (1 فكروا بالغراب، غراب الخيال أين يحطّ بعدها؟ 2 نبتتٰ في حياتي شجرة جرداء حتى في الربيع لكأنّي خريف دائم 3 في كلّ حفرة طائر مقتول في ريشه رائحة السّماء 4 كأن لامعنى لبياض من دون سوادك أيّها الغراب 5 من السّماء هذا الحبل الملتف على الرقبة إلهي: اجذبه اليّك بكلّ ما أوتيت 6 كالسّائر أرتعش الكحول حصاني الهرم أسقط منه كلّ مساء أمام الناس 7 حين أنام يعود الغائبون أطفالاً بدشاديش مقلّمة ترتفع بهم الأراجيح عالياً عالياً وتعود فارغة 8 إلهي: لاأجد من أحد سواك هذه اللّيلة انت ترى عزلتي عزلة العش في غابة تحترق 9 تلك النوافد يَطلُّ منها الشّخص نفسه في أماكن شتى طفلاً هناك أشيب الشعر هنا 10 يُشعل الظلام النار في الانسان أهذا مايسمونه الفجر؟ 11 أيّها الجسد يامرآة مهشمة أيّتها الروح ياخُطىً تبعد داميةً في الظلام 12 من بين كلّ الغيوم أقربها الى نفسي تلك التي يرسمها في دفاتره المدرسيّة 13 مرض أصاب العتبة ساكنو البيت امّا ذاهبون الى عزاء او قادمون من مقبرة 14 كيف أضعتكِ في الزخام ياعباءة أمّي 15 شَعر عانتك دوختنا صرعتنا السّرة أرواحنا ملطخة بحنانك 16 الجدار حتى الجدار يصرخ من سياط الزمن صرخته الطويلة الخرساء 17 أعلمُ أنّي في العالم والعالم ليس بيتي إنّه مستنقع يتقيح في الصيف ويتجمد 18 مَشيتك تُزيل عن روحي الشّتاء ضحكتكِ مصباح حين يغيب يبكي ظلامي 19 انتِ نائمة وأنا أحلم في الصباح تروين لي حلمي 20 جسدي هو الباب ولاباب فيا يد اللّه يد السّوأل الكبير متى تطرقين؟ 21 إنّه النبيذ من يكتب الآن؟ فيابحر خذني إليّك خذني ياعسل الشمس 22 كلّما هممنا بخلع بناطيلنا أمام شهواتهن هكذا كنا نستيقظ محاطين بقوقأة الدجاج.

***

بقلم: عادل مردان

رواية "خنجر سليمان" الإصدار الرابع عشر للروائي صبحي فحماوي الذي كعادته يُصِرُّ على الغوص في التاريخ، وتهذيبه من بعض الشوائب التي لحقته، فبعد أن أتحفنا  بمجموعة من الروايات التي تطرقت الى الجذور الكنعانية في منطقتنا العربية، ها هو في روايته التي بين أيدينا يتناول موضوعا جدليا، لا بل شائكا لتضارب الآراء ووجهات النظر التي تناولته.. عنيت به قصة سليمان الحلبي ذلك الفتى السوري القادم من حلب  إلى مصر للدراسة في الأزهر، فنجد أن اسمه وفعله ارتبطا بواقعة اغتياله للجنرال الفرنسي كليبر بخنجرٍ طويل،  صنع في غزة.

بدأ صبحي فحماوي روايته هذه بالتعليق وتفنيد ما أورده المؤرخ المصري عبــد الرحمــن الجبرتــي في كتابه «عجائــب الآثــار فــي التراجــم والأخبــار» إضافــة إلــى كتــب أخــرى التي نزعت عن سليمان صفة المجاهد البطل ووصفته بأنّه "رجل آفاقي أهوج مختــلّ الذِّمة، مُتكسِّبًا، متشرِّدًا، عائشًا بالتّحايل، ولا ينتسب إلــى وطــن» مع العلم أن سليمان الحلبي هو ابن واحد من أغنى تجار حلب، وهو طالب أزهري.

يبدو أن ما أتى به المؤرخ الجبرتي قد لاقى التأييد والتبني من قبل البعض، فأرجعوا ما قام به سليمان بقتله الجنرال الفرنسي إلى غاية شخصية بحتة، فمثلا يقول وائل جمال الدين في مقالة له على موقع بي بي سي العربية بتاريخ 13 يونيو/ حزيران 2018 أن الحلبي كان قد شكا من والي حلب إلى ضابط يعرفه جيدا يدعى أحمد أغا، وطلب منه أن يتوسط له من أجل رفع مظالم عن كاهل والده، فوافق الضابط بشرط أن يسافر الحلبي ويقتل قائد الجيش الفرنسي، ربما ثأرا لهزيمة العثمانيين في معركة هليوبوليس على يد كليبر، فوافق على ذلك الشرط دون تردد." وهذا تفسير أقل ما يقال فيه أنّه ضعيف لا يُقنع مفكراً، ولا دارس أدب أو تاريخ.

أكثرمن ذلك وتبعا لما ذكره الإعلامي السوري عبد الهادي البَّكار في مقالة له في جريدة الأوسط العدد8122 تاريخ 22/2/2001 أن الدكتور عبد المنعم الجميعي،  وهو  أُستاذ التاريخ الحديث في احدى الجامعات المصرية، طالبَ بتجريد اسم سليمان الحلبي من شرف الاستشهاد، ودعا الى وصمه بالخيانة والإفك، وبأنه كان فتى بلا دين وبلا هدف، وبأن اقدامه على قتل الجنرال انما كان مقابل اجر، وفي سبيل تحقيق مصلحة شخصية خاصة.

يبدو أن هذه المواقف والآراء قد استفزت كاتبنا  صبحي فحماوي، وحرضتهُ للبحث والتقصّي عن تاريخ سليمان الحلبي ومسيرته،  فجاءت تحفته الروائية هذه لتنصف البطل الحلبي، الذي دافع عن شعب مصر، وجعل نابليون يرتد عن مصر، كما ارتد عن أسوار عكا الفلسطينية..  ولترفع الظلم الذي ألحقه به الصحفي الجبرتي ومن يدور في فلكه، عن بطل سجله التاريخ العربي بالنور العميم.

وبالعودة الى الرواية وإذا أردنا تجنيسها نجد انها لامست العديد من الأجناس الروائية، فقد تضمنت لمحات تاريخية وبعضا من أدب السيرة، وكذلك أدب الرحلات، فضلا عن بعض الإشارات والرؤى السياسية والدينية، كما يراها الكاتب، والتي جاءت منسجمة مع مضمون الرواية، دون ان تبدو دخيلة او مقحمة إقحاما فيها.

واللافت أن الروائي بدأ روايته من حيث انتهت، بإشارته في الصفحات الأولى الى نهاية سليمان الحلبي وإعدامه حرقًا من قبل الفرنسيين، والاحتفاظ بجمجته بعد وسمها بأنها جمجمة مجرم، بينما وصفت جمجمة المجرم كليبر بأنها جمجمة بطل..أي إنهم عكسوا الآية.

قدّم صبحي فحماوي روايته بأسلوب سردي سلس، وبلغة أنيقة، وكان لافتا تدخل الرواي في أكثر من موضع، ومخاطبته القارىء بشكل مباشر.. وهذا أضفى على الرواية نوعا من الإلفة بين الراوي والقارىء، متخذًا من قضية سليمان الحلبي مناسبة لتقديم رواية بابعاد اجتماعية وتاريخية وحتّى دينية في بعض المفاصل.

تطرقت الرواية الى الوضع الإجتماعي إبان تلك الحقبة الزمنية متخذة من عائلة محمد الأمين الحلبي نموذجا، ومن جملة ما أشارت إليه هو موضوع الزيجة من امرأتين، والغيرة والمناكفة التي تنشأ بين الزوجات (الضرائر)، وكيف كانت ثريا الزوجة الفتية تتطاول علــى ضُرّتِها الحاجّــة أم ســليمان التـي أصبحت عاقرا، نظرا لكبر سنها.. محاولة  إغاظتها والتباهي بأنّها حامل للمرة الثانية فتقول: "أننـي حامل وأتوحّم، وأشــعر أنــه ُ ولد شقي لأنــه يرافسُ ِ كثيراً فــي بطنــي.. وأمــا أنــتِ يــا حاجّــة فقد قطعــتِ ِالحبــل والولادة"(33).

وفي موضع آخر يورد لنا فحماوي ما تلجأ إليه النسوة للفت النظر إلى بناتهن، بغية تزويجهن، مثلما فعلت والدة الصبيّة أسمهان، وهي تخاطب ابنتها بالقول:

"يجـب علينـا أن نتـودد إلـى أمـه أكثـر فأكثـر، وأن نقــدم لهــا هديــة ترضاهــا.. مــا رأيــك بسـُـترة أغزلهــا  لهــا بيــديّ مــن خيطــان الصــوف،  فـالأم هـي مفتـاح زوجهـا، كمـا أن الــزوج هــو مفتــاح زوجتــه«(46)."

وكما أسلفنا فالرواية تضمنت ما يمكن تسميته بأدب الرحلات وأسهبت في ذكر مواصفات الأماكن والمدن التي تسلكها القوافل من حلب  وصولا إلى مصر ومرورا ببعض المدن الفلسطينية. ولم يبخل الكاتب علينا فقدم لنا نبذة موجزة عن هذه الأماكن وتاريخ نشوئِها. وقد أتى هذا الوصف مترافقا مع خط سير القافلة المحملــة بمنتجات مــن الزيــت والصابــون والســمن البلــدي، ومرورها علــى محطــات البــلاد الســورية المعروفــة مثل معرّة النعمــان ومدن حمــاة، وحمــص ولم تغفل عن ذكر ساحة المسجد الأموي في دمشــق وأسـواقها كسـوق البزوريـة، ســوق مدحــت باشــا، سوق الحرير وأيضا سوق الخياطين(52).

بعدهـا تواصل القافلة سيرها باتجاه مرتفعـات الجـولان،  ومنهـا إلـى بحيـرة طبريـا الرقراقـة الميـاه المنسـابة مـن جبـل الشـيخ. وبعدها إلــى بيســان وينابيــع بركهــا وبحيراتهــا ثم جنوبا باتجاه مدينة أريحــا ومن معالمها ســاحة قصــر هشــام الــذي يعتبــر مــن أهــم المعالــم الســياحية فــي فلســطين،(55). لتصل إلــى القـدس حيث المسـجد الاقصـى وقبته المتلألئة، وجبــل الزيتـون.

لم يفت الكاتب من ان يتغنّي بالقدس التي تعتبر مركزا لتكامل الدينَين الإسلامي والمسيحي، والإشارة إلى بـاب العامـود أهــم الأبــواب فــي القدس وأجملهـا، ويعتبـر المدخـل الرئيـس للــمسجد الأقصى وكنيسة القيامة  وحائــط البــراق. كما يُعرج بنا على أسواق القدس ومنهـا ّ ســوق العطاريــن، وســوق اللحاميــن، وســوق القطانيــن الذيـن يبيعـون القطنيـات، وسـوق الصاغـة وسـوق الحصـر الذيـن يبيعــون المفروشــات.

ويبدو أن إنحياز الأديب صبحي فحماوي إلى التاريخ الكنعاني كان واضحا ، فلم يترك مناسبة إلا ويذكرنا بذاك التاريخ وبأن الكنعانيــين هم من أسسوا مملكــة غــزة فــي القــرن الخامــس عشــر قبــل الميــلاد وأطلقوا عليها إسم (هزاتــي) وقد احتلهـا الكثيـر مـن الغـزاة، كالمصرييـن الذيـن أسـموها (غزاتــو) واليونانيــون الذيــن كانــوا يســمونها (فــازا)، والأشــوريون الذيــن كانــوا يقولــون عنهــا (عزاتــي)  لمقاومتهـا الشـديدة، ومن معالم مدينة غزّة  وجــود قبــر هاشــم بــن عبــد منــاف الجــد الثانــي للنبــي محمــد بــن عبـد اللـه  لذلـك يطلق عليها اسم "غـزة هاشـم" كمــا أنهــا مســقط رأس الإمــام الشــافعي (74و84). كما تشير الرواية إلى أن مدينة الخليل سميت بهذا الإسم نسبة إلـى ملـك كنعانــي قديــم كان اســمه خليــل«(64).

نلحظ في هذه الرواية عمق العلاقات والصلات التي تجمع بين أقطار الوطن العربي، وأن وحدة المسار والمصير ليست مجرد شعار، بل هي ضرورة حتمية.. يقول محمد الأمين مخاطبًا ولده سليمان:  "تأكـد يـا ولـدي أنـه لـن تقــوم لســوريا الكنعانيــة ولا لمصــر أم الدنيــا قائمــة، إلاّ  بارتباطهمـا الوثيـق معـا فـي الحيـاة والزراعـة والصناعـة ً والتجــارة ومقاومــة المعتديــن عليهمــا معــا.(50). كما أن القــدس ودمشــق همــا توأمـان. وفي موضع آخر يستذكر والد سليمان قول المتنبي على شاطىء بحيرة طبريا، ووصـفه لوحـدة شـعوب الفرات والنيــل قائًلا:   وردٌ إذا ورَدَ البحيرة شاربًا..  سـمع الفـراتُ زئيـره  والنيلا. ومثلــه يــا ولــدي، نحــن نؤمــن بوحــدة الفــرات ْوالنيــل،(54).

كما اسلفنا فإن الرواية تناولت بعض الجوانب الدينية التي أتت على شكل دروس في أصول العقيدة والفقه، كما تطرقت لمسألة التقريب بين المذاهب التي على رغم تعددها تبقى واحدة موحدة تحت سقف القرآن الكريم، وهذا ما أوضحه محمد الأمين بدعوته ابنه سليمان إلى احترام  المســاجد مــن دون تحيــز إلاّ  للقــرآن الكريم ، وعدم التفريق بين المسـجد الأقصـى فـي فلسـطين، والمســجد الحــرام فــي مكــة، والمســجد الأموي في دمشــق، والمســجد الأزهــر ومســجد الحســين ومســجد الســيدة زينــب فــي القاهــرة، ومســجد كربــلاء الحســين فــي العــراق، فجميع هذه المساجد  لهــا هيبــة وإجــلال عنــد المســلمين عامــة"(60). ولم يتوان الحاج محمد الأمين بانتقاد بعض الممارسات التي يقوم بها بعض رجــال الديــن الذين يبتهجون إذا ســألهم أحدهــم  فيجيــبوا بفتــوى أو بنصيحــة، وبيــن الفتــوى والنصيحــة تدفــع لهــم مــا تســتطيع، فمعظــم رجــال الديــن يحبــون قبــض النقــود، بحجــة توصيلهــا للمحتاجيــن، بينمــا قــد يأخذونهــا لجيوبهــم،"(23).  كما أثارت الرواية مسألة جدلية وهي قضية إلزامية الحجاب للمرأة، وما ورد على لسان الطالب الأزهري عبدالله الغزي من وجهة نظر تقول "إذا كانــت المــرأة التــي تطــوف حــول الكعبــة مجبرة علـى الكشـف عـن وجههـا، فكيـف لنـا  أن نطالبهــا بتغطيــة وجههــا فــي المجتمــع،  ثــم إن تغطيــة الوجــه هــي من تعاليم اليهود الذين  يسـمونهم (حريديـم) وليست من تعاليم الإسلام فــي شــيء"(153).

في التطرق لمدينة غزة يبدو ان الروائي قد استشرف ما تشهده الآن، لذا استفاض في الإشارة إلى مدينة غزة، وأهمية كونها تمثل صلــة الوصــل بيــن بــلاد الشــام الســورية الفلســطينية وبين مصــر. وفي وصف لأريحية أهل غزة، يقول ابن غزة علي الصبّاغ:

"نحن الغزيين نصنع هذه السيوف والسكاكين والخناجر لنذكي روح المقاومة ضد المحتلين.(211). أمّا سليمان الحلبي فيصف غزّة بأنّها هـي التـي فجـرت روح الثـورة فـي داخلـه، وحرضته علــى عــدم الرضــوخ للاحتــلال وبشــاعات الفرنسيين وتصرفاتهــم، ويكمل بالقول: «منــذ أن دخلــت مدينــة غــزة، فهمــت أنهــا مدينــة مقاومــة باســلة، وأنهــا مصنــع للرجــال قبــل أن تكــون مصنعًــا للخناجــر وســكاكين المقاومــة".  ويؤكد علي الصباغ  أن أهالي غزة يمتازون بثقافة المقاومة بكل أشكالها بالقول: رِزقُ العيــال يحتــاج إلــى مقاومــة، والتعليم يحتاج إلى قهر الذات ومقاومة الكسل بالتعلم، وأما مقاومة العدو فهي التي تحتاج إلى الجهد أو الجهاد الأكبر، وأن مقاومة المحتلين هي شرف كبير لا نتنازل عنه، لتبقى كرامتنا محفوظة، ورؤوسنا مرفوعــة، لا تنحنــي إلا للــه ســبحانه، فمعظــم الشــباب هنا يرغبون بتقديم أنفسهم لمقاومة المحتلين،89.

ويبدو ان التاريخ يعيد نفسه وان الشيء بالشيء يذكر فالتنسيق الأمني مع العدو، الذي كان ولا يزال يضيق الخناق على المقاومين الفلسطينيين ويلاحقهم خدمة لمصالح خاصة، يبدو انه كان معتَمدا من زمن العثمانيين ومن بعدهم في زمن نابليون الذي نجح في تجنيد بعض شيوخ الأزهر من ضعاف النفوس - علماً أن الكثيرين من الشيوخ كانوا مناهضين للاحتلال"-  وعيّنهم ضمن لجنة إدارة البلاد، لينفــذوا« التنســيق الأمنــي» لخدمــته ويكونــوا العيــن الحارســة، والجواســيس المراقبــة للمقاومــة المصريــة،.(240). وهذا ما حصل عندما أقدم سليمان الحلبي على قتل الجنرال كليبر ذكـر هؤلاء الشـيوخ في سياق إعــلام تزويــر الحقائــق الفرنســي، أن المخــرب الغريــب عــن البــلاد ســليمان الحلبــي أراد زرع الفتنــة..  وقاموا  بتسـليم ثلاثـة مـن  أصدقــائه لكــي يتــم إعدامهــم، حفاظــا علــى أمــن وســلامة البــلاد مــن المخربيــن.

وتذكر لنا الرواية وجه آخر من أوجه التنسيق الأمني في زمن الإحتلال العثماني لمصر متمثلا بشخص مختار قرية جولس أبو محمد الذي كان شديد الحرص على خدمة سنجق غزة العثماني حيث كان يقوم باعتقال سنويا ما لا يقل عن عشرة معارضين من الثوار ويقوم بتسليمهم للحاكم العثماني. ويبدو أن ظاهرة أبو محمد لا تزال قائمة ليومنا هذا وانتجت لنا نماذج مختلفة من الأبوات وإن اختلفت الكنية.

تبرز الرواية الخبث والنفاق السياسي الذي مارسه نابليون والطلب من جنوده أن يتظاهروا وكأنهـم مســلمون مؤمنــون، واتركــوا الأمــر لنــا نحــن لدراســة دينهــم، واســتنباط بــذور فنائهــم مــن داخـل دينهـم نفسـه ونجعلــه يلتــف إلــى الــوراء، ليبقــى يعيــش فــي كهــوف وســراديب الزمــن الــذي مضــى عليــه الزمــن،  (115).

قدمت لنا الرواية صورة عن الممارسات التعسفية التي مارسها نابليون ومن بعده كليبر بحق الشعب المصري، ولم يُستثن من جور هذه الممارسات علماء الأزهر الذين كان لهم الدور الأساس في تحريض الشباب على الثورة والمقاومة  فأصدر نابليون أوامره بـالقبض علـى المشـايخ وكبـار القـوم الذيـن أيـدوا إشــعال الثــورة، وأن يؤخــذوا  إلــى شــاطئ النيــل ثــم تلقــى جثثهــم فــى ميــاه النهــر«.133.

كما تشير الى جرائم الجيش الفرنسي التي ارتكبها بحق المصريين في المواجهات التي جرت في العديد من المدن والقرى، حيث أن الفرنســيين اســتخدموا جميــع أدوات القسـوة والدمـار لكبـت الشـعور الوطنـي، والقضـاء علـى المقاومــة التي كانت أولى مواجهاتها في معركة  شبراخيت، التي سقطت بعد قتال عنيف .121 . كما ان نابليون اراد القضاءعلى الحضارة الفرعونية المصرية  طالبا من جنوده أن يدخلوا الأهرام - كبريــاء مصر- وأن ينهبوا كنوزها..  ففرنسا - كما يقول- هي الأوَلى بها من هذا الشعب المصري المنشغل بالصلاة والصــوم والحــج، وغيــر القــادر علــى المواجهــة.122.

استطاعت الرواية أن تُعرِّي نفاق وخبث نابليون وعدم احترامه لقدسية الأديان، فلم يلتفت إلى القيمة الرمزية  التي يجسدها جامع الأزهر الشريف،  فأمــر جنوده بفتــح النــار عليه، ودكّه بالمدافع الهدّامة، قبل أن يدخلوه بخيولهم، ويعيثوا فسادًا ويهشّموا خزائن الطلبة، ونهب محتوياتها. ويُسهب الكاتب في ذكر سلوكيات الجيش الفرنسي وبشاعتها  لدرجــة أن الامهــات المصريــات قمــنَّ بتشــويه وجــوه الجميلات من بناتهن، كي لا يتم اغتصابهن من قبل الفرنسيين، (151).

لم يستطع سليمان الحلبي امام كل هذا أن يقف مكتوف اليدين معبرًا عن انزعاجه بالقول: »لقـد اختنـق صـدري بهـذا الجـو المهيـن لأمتنـا العربيــة، ولا بــد مــن الانتقــام مــن كليبــر ذات نفســه. وســنكون لــه بالمرصــاد«. 166. ولهذا تربّص بالجنرال الكريه، وعندما سنحت له الفرصة، استلّ خنجره الذي أهداه له علي الصباغ من غزة، وطعنه طعنات قاتلة قبل ان يتم القبض عليه. ويحكم كما أسلفنا بالإعدام حرقا، وتتم مصادرة جمجمته ووضعها في متحف متحف الإنسان،-لاحظوا اسم المتحف-  الذي يشغل الجزء الأكبر من جناح باسي في قصر "شايو"  إلى جوار برج إيفل في فرنسا، بعد ان وُضع عليها عبارة "جمجمة مجرم".

ويبدو أن نابليون قد سبق السيء الذكر بلفور بدعوته لإقامة وطن قومي لليهود في أرض فلسطين، لينتشــر اليهــود ويســيطروا علــى الوطــن العربــي كلــه، هذه الدعوة الكريهة ليست مكرمة منه  لليهود، بل ان ما يصبو إليه هو تفريغ فرنسا وأوروبا من شرورهم،  ودعمهم لإنشــاء دولــة لهــم فــي فلســطين وســائر بقــاع الوطــن العربــي، ليكونوا  رأس حربــة في استنزاف طاقات الشرق وإضعافه والتّنعُّم بخيراته.

ختاما رواية خنجر سليمان رواية شائقة استطاع الروائي صبحي فحماوي من خلالها أن يُمرر رسائل وإشارات بالغة الأهمية تسمح للقارىء إذا اراد بإجراء بعض الإسقاطات والمقاربات على ما تشهده منطقتنا العربية خاصة في هذه الفترة العصيبة التي تمر بها .

***

عفيف قاووق –لبنان

 

عمل روائي بالغ الأهمية في المحتوى والمضمون الرمزي في شفراته السياسية، يسلط الضوء على الحقب التي تصدرت المشهد السياسي، في كل أبعاده السياسية والاجتماعية بلغة النقد السياسي، وفي اتجاه الواقعية الحديثة، أو بالأحرى الواقعية الرمزية الحديثة، في ظروف الواقع المتبدل والمتقلب، الذي فقد صوابه وبوصلته، واتجه في صوب معاكس للارادة عامة الناس والبلاد، البعد الرمزي السياسي يوجه رسالة انسانية في كل معانيها الى عامة الناس، بتسليط الضوء على هذه الحقب السياسية، التي اهتمت بصناعة الديكتاتور، بشفرات رمزية بالغة الدلالة والمعنى والمغزى في إيحاءاتها البليغة ، لكشف واقع الازمنة السياسية التي مرت بالعراق، انه مشروع روائي يمتلك المغامرة غير مألوفة، في الرصد الروائي بتقنياته الحديثة، في ابتكار الفكرة او الرؤية الفكرية بشكل خلاق وتطعيمها بالشفرات الرمزية الداله في مدلولاتها التعبيرية العميقة . فإن رواية (قاتل أبيه) صياغة وتقنية ورؤية مختلفة غير مألوف، لكنها تملك رصيد واقعي وفعلي، في الحدث الروائي يحمل المغزى، الذي قاد الى المعاناة القاسية للناس، ضمن وجودية المكان الثابت (السماوة) لجعله رمزية للعراق ككل، ان المنظور الروائي يثير احاسيس القارئ في التفكير والتأمل، وتحريك ذهنه لواقع الحال، وما جرى ويجري، اي ان عملية الخراب متواصلة لم تنقطع، يمتلك العمل الروائي سيمائية الجدل والنقاش الموضوعي الرصين، لكنه يحمل مغامرة في الطرح والتناول، في انطباعات وقناعات واقعية، اضافة الى اللغة المشوقة والمرهفة في السرد، إنها تسلط الضوء على المعاناة والحرمان بشكل صياغة معقولة ومنطقية، ضمن عقيدة النظام الحاكم الذي يؤمن في (أنا الدولة والدولة أنا) والشخوص الروائية تمثل عامة الناس المسحوقين والمعدومين، والشخصية المحورية (نوفل عرفان) هو يمثل المثقف الواعي والملتزم من عامة الناس، لقد دأب على عشقه وحبه الطاغي للأدب والفكر الثقافي والشعري العربي والعالمي، يؤمن في مقولة بودلير (لن يكون الرجل العظيم إلا اذا انتصر على أمته جمعاء) لكن ليس في غرس بذور الخير والعطاء والخصب، وإنما في غرس بذور الشر والهلاك لمعاناة البشر في البؤس والخراب، في الانزلاق الى النزوات الرعناء والحمقاء في شن الحروب العبثية المتوالية، التي قادت البلاد الى الهلاك . إن العمل الروائي ثمرة جهد متواصل يقوم به الكاتب بالتحري عن السيرة الذاتية لحياة (نوفل عرفان) من خلال بحثه الدؤوب والتقاءه مع عدة شخصيات رافقت حياة (نوفل عرفان) وبالاخص الشخصية المقربة (ساجد روضان) الذي صاحب حياة (نوفل عرفان) عن قرب وعرف أسرار حياته، لذلك يعطينا الكاتب، الضوء الكامل على هذه الشخصية التي اشتهرت بين الناس، بأنه القاتل أبيه .

ومن اجل تسليط الضوء على الشخصيات الرمزية وتحليل شفراتها الرمزية الدالة باختصار:

1 - شخصية نوفل عرفان:

الانسان المثقف الواسع الاطلاع في الأدب والشعر والرواية العالمية، احب وعشق شعر محمود البريكان وبودلير رامبو ومولر وغيرهم من الأسماء المتألقة في سماء الشعر والرواية والفن والموسيقى العالمية ، انه مثقف واعي وناضج ومدرك ركام المعاناة للناس، يحمل خزين واسع وغزير من المعارف الثقافية والادبية والشعرية، منذ صباه دأب في اقتناء وشراء الكتب، ويمتلك وعياً ناضجاً لمديات الحياة والواقع، يتعامل بحذر، رغم انه يعيش الحرمان والمعاناة، انه انسان مسحوق كغيره من الناس، تدوسه أقدام الواقع الثقيلة في معاناتها القاسية . ان حياته مليئة بالحزن والشجن، لذلك يجد مأواه الأمن من ثقل الحياة بالعزف على الناي، لكي يخمد هيجان روحه القلقة بالحزن،يواسي احباطاته المخيبة بالعزف على الناي، يزيح أثقال الحياة الوخيمة بالعزف على الناي، يجد بالعزف تهدئة جروحه النازفة كعامة الناس، الذي تتموج بشغف حزين بالشجن العراقي، اتهم بين عامة الناس وعرف بالتسمية المعروفة والمشهورة (بقاتل ابيه) لذا سيرة حياته مرتبطة بهذا الاتهام (أتعرفه ؟ / ومن لا يعرفه؟ّ / أنا لا أعرفه ؟ /من هو ؟! / يقولون عنه قاتل أبيه ؟ / ماذا ؟!) ص16 . عاش حياة مليئة بالحرمان والظلم، احب وعشق الكثير من النساء، لكنه لم يوفق، واخيراً زج في الحرب بعد هروبه، وعاد معوقاً مبتور الساق من جبهات القتال.

2 - رمزية الناي:

يمثل رمزية سمفونية الحزن والشجن العراقي منذ الأزل، والحزن مرادف لحياة العراقي كظله، يجد في عزف الناي الوسيلة الوحيدة، لتهدئة وسكينة انفعالاته من قسوة المعاناة الحياتية، فالناي الملجأ الأمن لتهدئة أزماته ومشاكله التي لا تنتهي بل تتفقس بالكثير من المعضلات، من الأخبار السيئة التي تتزاحم على رؤوس عامة الناس، صوت الناي يمثل الوجع العراقي الذي لا يهدأ ولا يكف، فهو يخاطب النفوس النبيلة في صوت الشجن، لذلك يتخذ عازف الناي (نوفل عرفان) زاوية من الجسر الذي ضرب من قبل طائرات التحالف الدولي في حرب الخليج عام 1991 .، الوقت المناسب للعزف على الناي هو في جنح الظلام، رغم ان المكان موحش لكن (الامكنة الموحشة باعثة على التطير صانعة غيوم الهواجس . الوحشة ترعب المتهجسين) ص6 . و(صوت الناي الشجي أربك منظومة رغبة ترجل أرتأيتها تمنحني سكينة يفتقدها كل من حرم من لذة الهدوء وسط جنون حياتي لحياة لا تطاق لذوي النفوس النبيلة) ص7 .

3 - شخصية ساجد روضان وشخصية الكاتب:

الاول من خلال قربه ومصاحبته المستمرة عن قرب لحياة صديقه (نوفل عرفان) استطاع ان يوصلها الى الكاتب، بمعنى ايصال الحقيقة وكشفها على الملأ، تعتبر جريمة لا تغتفر في الانظمة الطاغية، من يكشف الحقيقة عقوبته الموت والقتل والاغتيال، وهذا ما حدث في قتل (ساجد روضان) . أما شخصية الكاتب هي ايصال السيرة الحياتية وكشفها الى العلن أو النشر وهو يمثل بأن الأحداث التاريخية، لا تسقط مهما بلغ قوة الجبروت الطاغي، بمعنى هذا الثنائي احدهما يكمل الاخر . الحقيقة والتاريخ والكشف والتواصل، من خلال السعي والجهد المرهق لتحري على حقيقة قاتل أبيه (نوفل عرفان) من خلال التقاء بالكثير من الأصدقاء والشخصيات التي تعرفه عن قرب، من اجل اكمال سيرة حياة (نوفل عرفان) وتسليط الضوء عليها .

4 - رمزية شخصية عرفان: صناعة الديكتاتور

عندما تنفتح ابواب الحظ على مصراعيها بدون موعد أو سابق أنذار، يشبه التتويج للملوكية بالملك، بأن (طير السعد) حط على رأسه ونقله من حياة الفقر البائسة، الى حياة الغنى والثراء والنفوذ والجاه والسلطة، بقفزة لم يتوقعها حتى في احلامه، وصار يحكم بالمطلق بالقبضة الحديدية وحياة البذخ الفاحشة، يعني المطر الغزير للخيرات والنعم، تستهلك على نزواته الذاتية، وليس لصالح العام، ولا في البناء والتطوير والاعمار لرفاهية عائلته وأهل بلده، بل حرموا منها كلياً، في تشطي المعاناة والحرمان، استهلكت في نزواته الرعناء والجنونية في شن الحروب في وباء مرض العظمة والعبادة الفردية . ان يصبح اول المقاولين في البلد لتكريس العبادة الذات (وصار الأب من عداد الأغنياء والمتنفذين .. غنى ليس لصالح الاسرة وتطويرها وتحديثها وإنما لتحقيق نزوات متعة فردية للاب حرمان ومعاناة من الام وابنها نوفل وسهيلة) ص58 . وتسليم مقاليد البلد الى الغرباء والمقاولين الطامعين بشراهة إلى الاستحواذ على الخيرات والموارد المالية للبلد . والحروب التي شنها لم تجلب سوى الخراب والدمار، وكانت نهايته الحتمية، كما انهزمت النازية الهتلرية، وشيعت الى مثواها الاخير بالموت والعار.

5 - رمزية المملحة:

ترمز إلى بلد الرافدين، الذي يعج بالخيرات والثمار الوفيرة، من شأنها ان تسعد الناس في حياة كريمة مستقرة، ولكن منذ ان استولى (عرفان) على المملحة (السلطة)، استغلها في تمجيد نفسه بالعظمة، وسلم مقاليد البلاد الى الغرباء والمقاولين الجشعين وكانت النتيجة المأساوية، ضاع البلد والعباد (أزمة نوفل عرفان بالشعور بالحيف الكبير من سلوك أبيه الشائن تجاه العائلة . ذلك السلوك الذي أدى الى ضياع المملحة باندفاع المقاولين الطامعين وكل من هب ودب لنهبها واقتسامها) ص128 .

***

جمعة عبدالله

 

(القَبرُ الأبيَضُ المُتوسِّطُ)، لِكَرِيم صُبح

توطئةٌ: في مثل هذه الدراسة النقديَّة، لا بُدَّ من القبض على جمرة مفهوم مصطلح (المرجعيات) الثقافي والإمساك به، ومعرفة مضمون دلالاته الثقافيَّة البعيدة، والكشف عن أُس تجلِّياته ومعانيهِ وحُجُبِهِ الفكريَّةِ التأصيليَّةِ. لذا فإنَّ مفهوم المرجعيات الثقافيَّة، يعني المصادر الفكريَّة والثقافيَّة والمعرفيَّة الإبستمولوجية التي اعتمدها الكاتب فنيَّاً في إنشاء مادته الإبداعية، و(تدشينها) وتخليقها تخليقاً إنتاجيَّاً مُثمراً في الخطاب السردي الروائي أو غير الروائي الشعري الآخر.

وتشكِّل هذه المصادر موئلاً فكريَّاً ثرَّاً، وخزيناً معرفياً ثقافيَّاً قارَّاً لمادته الإبداعيَّة ونشاطه الفكري. ومنها التشكيل الفنِّي السردي الرِّوائي والقِصصي الذي يرفد الكاتب أو الرائي في مشغله التسريدي بمادته الفنيَّة، ويوجِّه الناقد المعرفي إلى أنْ يجوسَ خلالَ الدِّيارِ السرديَّةِ بتنظيره وتطبيقه المعرفي الحديث لهذه المصادر الثَّقافيَّة، والبحث عن أنساقها الظاهرة والمضمرة القريبة والبعيدة.

ومفهوم المرجعيات الثقافية يتطلَّبُ من الكاتب السارد المُثقَّف النابه الانفتاح الثقافي الواعي على كلِّ أشكال المرجعيات الأدبيَّة والثقافيَّة والعلميَّة والاجتماعية والتاريخية والجغرافية والزمانية والمكانية والروحيَّة العُرفانيَّة والفنيَّة والمعرفيَّة الأخرى. وعلى كلِّ ما له عَلاقة مُباشرةِ أو غير مُباشرةٍ بحياة وثقافة الإنسان وتراث الشعوب وفنونها العريقة المُتحضِّرة.

إنَّ الخوض بالمرجعيات الثقافية في رواية (القَبرِ الأبيضِ المتوسِّطِ) قد يقودنا في العَلاقة الخطيَّة المباشرة إلى التأصيل والتأثير السردي من جهةٍ، وإلى فاعلية المشاركة الثقافيَّة والاتِّصال المعرفي والفكري من جهةٍ أخرى؛ لكون هذه العَلاقة، هي علاقة فهمٍّ وإدراكٍ ومعرفةٍ لأخلاقيات الإنسانيَّة، بوصفها طبعاً مدنيَّا وحضاريَّاً وثقافيَّاً لا بُدَّ منه في أثر فاعلية العَلاقة التواصليَّة بينه وبينها فلسفيَّاً وإنسانيَّاً؛ للنهوض بقيم السلوك الذاتي والجمعي الاِنفتاحي التوحُّدي المشترك.

ولا بُدَّ من خلال هذه التوطئة التمهيديَّة المعرفية من معرفة الدوافع والمقصديَّات التي أوحتْ إلى ذهن الكاتب الدكتور كريم صُبح إلى التأصيل المزجي بين المرجعيات العربيَّة الثقافية التي استند إليها أولاً في توثيقه السردي في أدب الرحلات التاريخيَّة، والانفتاح نحو هُويَّة الآخر في التأثير الغربي ثانياً،والذي أخذ منه أخذاً ثقافيَّاً كبيراً في مثل هكذا عملٍ روائيٍّ سرديٍّ رِحَلِي كبير.

العمل الذي يجمع في تمظهراته الأُسلوبية بين فكرة الأدب الروائي العالمي، وأدب الرحلات السيري، والعمل الأكاديمي العلمي التاريخي التَّخصُّصي، والجغرافيّ والروحانيَّ الدينيِّ وثقافات الشعوب المعرفية الثابتة والمتحرِّكة. فضلاً عن العادات والتقاليد والأعراِف الدينية والمجتمعية السائدة. لاسِيَّما وأنَّ بطل هذه الرواية -البوليفونية المتعدِّدة الأصوات- الأُستاذ الجامعي د. وجدي زينل مقداد ليس إنساناً عاديَّاً من حيثُ؛ كونه شخصيَّة البطل الغالب المعرفيَّة والعلميَّة والفنيَّة الإبداعية القارَّة ثقافةً أدبيَّةً. فضلاً عن كونه إنساناً مثقفاً عقائدياً وآيدلوجيَّاً، ويُجيدُ باحترافيةٍ كبيرةٍ اللُّغة الروسيَّة الثانية الأُمَّ إجادة معرفيةً وأدبيةً وثقافيَّة تامَّةً، وربَّما كان أحسنَ من ابن البلد نفسه. فكلُّ هذا التأثيث الفكري والثقافي يؤهِّله معرفياً إلى أنْ يكون شخصَ الروايةِ الأوَّل الظاهر والأخير الخَفِّيِّ ظلَّاً في هندسة العمل الروائي السردي وتأثيثه فكريَّاً ومعرفيَّاً وحضارياً وآيدلوجياً وعقائدياً.

وعلى الرغم من كلِّ هذه التأثيرات والسلوكيات الثقافيَّة والقيميَّة المتنامية فكريَّاً التي اجتمعت في شخصية البطل المُثقَّف النوعي الأوحد الذي يبحث عن خلاص فكرة كتابة أوَّل روايةٍ عالميَّةٍ له تُخلِّدُهُ تاريخياً وأدبياً وسِيريَّاً وإبداعيَّاً على مرِّ الزمان كما كان يسعى كاتبه الروسي الأثير المفضَّل فيودور دوستو يفسكي؛ فإنَّها في واقع الحقيقة النسقية المضمرة انعكاسٌ مرآتيٌّ لشخصيَّة الكاتب المُثقَّف الدُّكتور كَريم صُبح الأُستاذ الأكاديمي العلمي المتخصِّص بمادة التاريخ الأمريكي الحديث.

تلك الشخصية التي نجدها تتشكَّل في شبكة فكريَّةٍ وثقافية قارَّةٍ خلف نُقَاب اللُّغةِ السرديَّة ؛ ويبدو ذلك من خلال شبه التماهي والتَّحاكي الفكري والعلمي والإنساني والأدبي الإبداعي بين شخصية البطل الأستاذ الجامعي المتقاعد الدكتور وجدي، والدكتور كريم صبح الأستاذ المُتخصِّص بالتاريخ الأمريكي، والكاتب المُحبِّ لجنس لأدب السردي الروائي والقِصصي في تقارب مُتوحدنٍ بينهما.

هَندسةُ المُدونةِ الرِّوائيَّةِ وتَأثيثُها السَّرديّ

لكلِّ عملٍ أدبيٍّ فنيٍّ وإبداعيٍّ له أُسسه، لا بُدَّ له من خُطَّةِ عملٍ تنظيمي له منهج عملي علمي يقوم عليه بانتظام، ويستقي منه روافد فروعها المتشابكة التي يمكن الإمساك بتلابيبها الخيطية المُتوحدِنة بنائيَّاً. والتي تصبُّ فروعها وخيوطها في مجرى وحدةٍ موضوعيةٍ وعضويةٍ متكاملةٍ.

والقارئ النوعي النابه الذي يتتبَّع خطوط تدوين رواية (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ)، للدكتور الأكاديمي والأديب الأُستاذ كريم صُبح، والصادرة بطبعتها الأولى عام 2024م عن دار (أوستن ماكولي) للمنشر م، م، ح، مدينة الشارقة للنشر/ الأُمارات العربيَّة المتَّحدة، وبحجم كتاب أكبر من المتوسِّط، وبكمٍّ نوعيٍّ بلغ نحو (242) صفحةً، سيلفت نظره خلال التأمُّل القرائي لطيَّات الرواية أمرانِ مهمان في هندسة البناء السردي التأثيثي لإنتاج الرواية.

الأمرُ الأوَّل يكمن في فنيَّة الأُسلوب البنائي التركيبي التعبيري للروايَّة، أي في هندسة الإعداد والتخطيط الفكري في تنفيذ وقائع أحداثها أو أجزائها البالغة الاثنين والعشرين عنواناً فرعيَّاً داخليَّاً مع مُتعلَّقاتها الترقيميَّة الثانويَّة. ومثل هذا العمل التراتبي الدقيق يتطلَّب مقدرةً فنيَّةً تسريديَّةً عاليةً وتركيزاً ذهنياً وفكرياً للإمساك بعناصر الرواية الأساسيَّة، والمحافظة على وحدة نسيجها السردي.

أمَّا الأمرُ الثاني، فيتعلَّق بضبط إيقاع فنيَّة التعبير الأُسلوبي السردي المكين الذي كُتِبَتْ به عناصر الرواية الأربعة: (الأحداث أو (الفعليًّات)،والشخصيات أو (الفواعل)،ووحدتا المكان والزمان)، فضلاً عن مراقبة وتتبع حركة الصراع المتنامي في عقدة الرواية، وفكِّ شفرات حبكتها البؤريَّة.

وهذا يشي بأنَّ د. كريم صُبح قد كتبَ أحداث الرواية بأسلوبٍ فنِّي عجائبي فيه من وقع الغرابة والإدهاش ما يميل إلى ثنائية فنتازيا الواقع الحدثي الذي أسقط فيه عقابيل واقع التاريخ المرتهن على مسار الواقع الأدبي الإبداعي والفنِّي والجمالي من أجل الوصول إلى فهم فكرة الرواية والتصديق بغرائبيتها الفجائية العجيبة التي ألقتْ بظلالها الكبيرة على مسار العمل الفنِّي السردي.

وعلى الرغم من أنَّ الرواية لا يمكن تصديق واقعتها الحَدَثيَّة بسهولةٍ؛ كونها ليست واقعيةً صرفةً بامتياز حقيقيٍّ، ولا أُسطوريةً بتصنيفٍ مخياليِّ ثابت الأثر.فهي تقع في منطقة وسطى يمكن أن نسميها بتعبيرٍ نقديٍّ فنِّي يجمع بين السرد (المخيا واقعي)؛ لما فيها من الواقع والمخايل والروحانيات الدينيَّة والفلسفيَّة والجماليَّة التي تجذب القارئ -بحبكتها الفنيَّة المتماسكة حَبكَاً وسَبكَاً لغويَّاً ودلاليَّاً مُحكماً- فى التواصل معها بكلِّ متعةٍ وإدهاشٍ حتَّى الاقتراب من نهايتها المأساويَّة التي لا تُصدَقُ فعلاً بهذا التخطيط الفكري المُدبَّر، والتكنيك السردي المُحْتَشد بكم من المفاجآت.

لقد تمكَّن الأديب الكاتب كريم صُبح من أنْ يجمع في أُسلوبيته التسريدية المزج بين الواقعية السحرية الفنتازية، والهندسة المعمارية لواقعة الحدث الموضوعية السردية بلغة فنيَّة وجماليَّةٍ فيها من الإمتاع فسحةٌ كبيرة للتأمُّل والمؤانسة وحريَّة التعبير الذي مكَّنه من توظيف عناصر الرواية الأربعة الأساسية؛ لتكونَ من أهم مرجعياتها الثقافيَّة التي جعلت من المتلقِّي أنْ يتواصل معها بتؤدةٍ وتمهلٍ وشغٍفٍ كبيرينِ. فضلاً عن مرجعيات لُغتها الأدبية والتاريخية والروحيَّة والفنيَّة والرِّحَلِيَّة.

واللَّافت الآخر للنظر في تصميم معمارية هندسة هذه الرواية أنَّ كاتبها الرائي د. كريم صُبح قد وضع في الصفحة الأولى بعد لوحة الغلاف الرئيس مُباشرةً سيرته الذاتية المُجتَزَأةَ بصورةٍ واضحةٍ كمُؤلِّفٍ للكتاب. ومثل هذا الاستباق المُتقَدِّم لم يكن معهوداً، أو حتى مألوفاً في تنظيم محتويات الكتب السردية أو الشعرية التي توضع فيه عادةً سيرة المؤلِّف الأدبيَّة في آخر الكتاب.

ولعلَّ ذلك التقديم الاستباقي للسيرة كان التفاتةً إلماعيَّةً سرديَّةً سيريَّةً إشاريةً، وربَّما أراد منه أيقونةً سيميائيَّة مهمَّةً كرسالة توثيقيةٍ يبعث بموحياتها الدلاليَّة إلى القارئ والمتلقِّي اللَّبيب بأنَّ هناك تعالقاً سيريَّاً حكائياً فكريَّاً وثقافيَّاً وأدبيَّاً وعلميَّاً بين بطل الرواية الغرائبي المتقاعد د. وجدي زينل، وبين الكاتب صُبح كأستاذين جامعيين في اختصاص علميٍّ واحد هو التاريخ الامريكي الحديث.

وكلاهما أديبٌ وروائيٌّ مثقَّف واعٍ وقديرٌ بعمله وعلمه وفنِّه وثقافته الموسوعية، يرومان كتابة فكرة روايةٍ عالميَّةٍ تخلد تاريخهما الأدبي الإبداعي لا تَخصُّصهما العلمي الأكاديمي الثابت. فالبطل د. وجدي قد هجرَ اختصاصه العلمي التاريخ،وتركهُ مُنذَ أنْ أُحِيلَ إلى التقاعد،وذهبَ برحلة سيريَّة باحثاً عن ذاته الأدبية الجمعية. في حين د. كريم صبح مازال أستاذاً حثيثاً في نهاية خدمته يُمارس اختصاصه العلمي التاريخي؛ لكنَّه يجدُ نفسه في الخروج من الذاتية الضيِّقة إلى الذاتية الجمعية المشتركة والانفتاح نحو هُويَّة الآخر في ممارسة الأدب السردي عموماً وفنِّ الرواية بشكلٍ خاصٍ.

المَرجعيَّاتُ الثقافيَّةُ لِلعتبةِ العُنوانيَّةِ

من يتأمل بخطى مُتَئِدَةٍ لوحة غلاف الرِّواية الأول ذي اللَّون السمائي الأزرق الغامق وأشكال تدرجاته اللَّونيَّة الفاتح والأبيض، تلك اللَّوحة التي تشكِّل بوضوح خلفية الصورة اللَّونيَّة الكليَّة المحتشدة بالثلوج الكثيفة والسماء الباردة، فضلاً عن وجود جبلين اثنين، أحدهما الأول يظهر في مقدمة اللَّوحة بلونٍ رماديٍّ ويميل إلى الأزرق الفاتح، والثاني يظهر في اللَّوحة الخلفية بلون أغمق من الجبل الأول بلونٍ رماديٍّ يميل إلى الأزرق الداكن أو الغامق في تشكيله اللَّوني، سَيدهِشُ نظره ويتفاجأُ لأوَّل وهلةٍ من العتبة العنوانية اللَّافتة للكِتاب (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ).

والتي هي البوابة الرئيسة الأولى ونافذة الدخول الممهِّد إلى مركز مدينة الروايَّة وإلى عمق عالمها النصي الفسيح الذي يجمع في سحر تكوينه الثنائي التضادي الأدبي ما بين كونين قائمين من تمظهرات الوجود، كونُ (يوتوبيا) المدينة السرديَّة الفاضلة للأدب بكل تجلِّياتها الجمالية، وكون (ديستوبيا) مدينة القبح الفاسدة، المُحتَشدة بفضاء فوضى عوالم الخيال الطوباوية المريرة القصيَّة المرفوضة في تأثيرها الفعلي واقعاً غيبياً اعتقادياً ومثالياً.

كلُّ هذا التأمُّل الفكري السردي المنظور في جانب ما، والعنونة الرئيسة في جانب ذهني آخر؛ كونها تُشكِّل العلامة أو الأيقونة الإشارية والسيميائية القارَّة التي يتشكّل منها بناء العمل الأدبي وتفهمُ من خلاله قصديَّات الخطاب السرديِّ وحمولاته الداخلية سواء أكان ذلك الأمر القصدي المعني بالتلميح أو بالموحيات الدلاليَّة الظاهرة المُتجلِّية، أو الخفيَّة المُستترة المضمرة الغائبة.

فحين نخوض بنجلٍّ غمار تفكيك الشفرة اللُّغوية الرمزيَّة لعنونة رواية (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّط)، سينصرف الذهن حالاً وتلقائياً في المعنى الدلالي القريب إلى التسمية الشهيرة لـ (البحر الأبيض المتوسِّط). ذلك المسطح المائي المحصور وسطاً بين ثلاث قارات عالميةٍ كبرى في سعة امتداده العريض والكبير الذي درجنا على سماعه في الحياة اليوميَّة والكتب الجغرافية المحليَّة والعالميَّة.

فما بين كلمتي (البَحْرُ والقَبْرُ) توافقاً وزنياً واحداً بالميزان الوزني (الفَعْلُ)، وصوتياً بتقفيلة حرف الراء المُتحرِّكة المَضمومة نهايةً سجيعة قصيرةً، وبينهما أيضاً اختلافٌّ حرفيٌّ في وضع (الباء، والقاف، والحاء). فقد اُستُبدِلتْ الباء في البحر قافاً بكلمة (القَبْرُ)، وحُذفتْ الحاء منهُ، وهذا هو الخيط السريُّ التعالقي للمعنى الدلالي القريب لهذه التسمية التي يمكن أنْ تكون تناصَّاً تحوليَّاً جديداً من الكاتب عن تسمية النصِّ القديم (البحرُ الأبيضُ المتوسِّطُ)،أو انزياحاً دلالياً في فنيَّة التعبير العنواني.

أمَّا المعنى الدلالي البعيد للعتبة العنوانية، فتكشف تجلِّيات السرد الروائي وأحداثه الفكرية البعيد المتوالية بأنَّ لا صلةَ البتَّةً للمعنى الدلالي القريب بعنوان الرواية الرئيس، سوى تشابه في الأسماء والمسمَّيات القريبة. لذلك لا يمتُّ بأيِّ علاقة وثيقة تُذكرُ لهُ. حتَّى وإنْ كانت هذه العلاقة إيهامً أو إبهاماً أو غموضاً فنيَّاً. وقد يكون الفرق ما بين البحر والقبر هو دلالة (الموت) الأكثر حضوراً.

فالقبر الأبيض المتوسِّط هو بؤرة الحدث الموضوعية الرئيسة الكبرى التي بُنيت عليها إشكاليات مسرودات بناء الرواية أحداثاً وشخصياتٍ وأفكاراً وتجلِّياتٍ وحمولاتٍ ثقافيةً نسقيةً خفيَّةً قريبةً وبعيدةً. فهو المعادل الموضوعي السردي الحقيقي لبطل الرواية الحقيقي وشخصيته السحريَّة العجائبية التي ظلَّت سرَّاً لذيذاً غامضاً وخفيَّاً مستتراً عتيداً يجهله القارئ في تواصله الفكري المعرفي حتَّى أواخر صفحةٍ (238) من صفحات الرواية التي فُجِعَ بنهايتها الوقعية المفتوحة.

وذلك كونه يعدُّ النسق الثقافي البعيد الخفي الذي يشكل الشبكة الفكرية القارَّة رسوخاً تحت عباءة اللُّغة المعرفية لسرديات الرواية. والتي جعلت منه الظلَّ الثاني لبطل الرواية الدكتور وجدي؛ نتيجة تعلقه بشآبيب حلمه الأدبي المنشود في البحث عن فكرة كتابة أوَّل رواية له. تلك الفكرة التي استعصت عليه ثيمتها المعرفية وانعدم استحضارها وجوداً، فكان الموت دفناً حيَّاً هو سبيلها الآخر.

كما استعصت تلك الفكرة القاهرة على نظيره العالمي وكاتبه المفضَّل فيودو دوستو يفسكي في كتابه الموعود الجزء الثاني من روايته الشهيرة (الإخوة كارامازوف) التي خطَّطَ لها بعد مضي أكثر من عشرين سنةً على أحداث شخصيات الجزء الأول. ولكن للأسف الشديد أنَّ دوستو يفسكي قد مات، ولم يحقِّق حُلمهُ الواع الأثير في إتمام الجزء الثاني من هذه الرواية المؤثِّرة حدثيَّاً.

كذلك الحال الذي حصل مع د. وجدي بطل الرواية الذي قضى ردحاً زمنياً من الأيام الشهور ومات روحيَّاً وجسديَّاً دون الوصول لنتيجةٍ في تحقيق حلمه بكتابة رواية له تخلِّده على مدى تطاول التاريخ الحديث كما خُلِّدَ دوستو يفسكي في أعماله الروائيَّةَّ العظيمة. وربَّما هو السبب الخفي العميق جداً الذي استدعاه إلى السفر لروسيا، وإلى مدينة دوستو يفسكي (بطرسبرج) بالذات، ومنه إلى جبال سيبيريا البعيدة تحت رعاية (الشامان) الروحانيَّة التي أسلم لهم روحه قبل جسده.

وجاء على لسان (إرتيم) الأُستاذ الجامعي وزميل د. وجدي، والمساعد الأول للسيِّدة المبجَّلة ذِكرُ ذلك القبر فقال عنه: "فَكِّرْ، فَكِّرْ، آهٍ، نَعم هَذَا هُوَ مَا بَحثتُ عَنهُ (القبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ)، نَعم (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّط)! هُوَ الاِسمُ الَّذي يَنطبقُ أَكثرَ مِنْ غًيرهِ عَلَى المَوضعِ الَّذي دُفِنَ تَحتَهُ زَميلِي مُتوسِّطاً السَّفحينِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّط، ص 240).

أمَّا العنوانات الفرعيَّة الثانوية الأخرى التي توزَّعت عليها مفردات أحداث الرواية ومسروداتها الحكائية، فقد بلغت (22) عنواناً فرعياً، وهي الأُخرى قُسِّمت رقميَّاً على شكل مفرداتٍ جزئيةٍ بلغت نحو (34) جزءاً من الوحدات الرقميَّة. وبذلك يصبح العدد الكلَّي لتلك العتبات الثانويَّة مع وحداتها الجزئية (56) وحدةً رقميَّةً وعنوانيَّةً.وقد تراوحت أسماء تلك العنوانات الفرعيَّة بين مسمَّياتٍ علميَّةٍ ومكانيَّةٍ وموضوعيَّةٍ وماديَّةٍ لها علاقة بمجريات واقعة الحدث الموضوعية وبمرجعياتها الثقافية.

وقد تمكن الكاتب كريم صُبح من القبض على جمرات تلك المفردات والجزئيات العنوانيَّة النارية اللَّاسعة، وأحكم الإمساك بتلابيبها الفكرية والفنية وتوجيه بوصلتها التي تصبُّ روافد خيوط نسجها السردي المحكم بالوحدة العضويَّة الكلية لواقعة الرواية الموضوعية التي هي مناط اهتمامه الأول.

ولعلَّ أول هذه العنوانات الفرعية الداخلية (عتبة التاريخ..قطيعةٌ) التي تحدث فيها الكاتب بلسان حال بطله وجدي متماهياً ومتسامياً ومتعالقاً معه فكريَّاً ومهنيَّاً في إشكالية هجرة التاريخ والتبرئ منه والابتعاد عنه نهائياً من خلال قطيعةٍ معلنةٍ لا رجعة فيها أبداً. مُنزاحاً عنه إلى عالم آخر أكثر رحابةً من فعل التاريخ، ذلك هو علم الأدب الروائي الفنِّي:

"لِمَ وَجبَ عَليهِ أنْ يَتبرَأَ مِنَ التّاريخِ؟هَلْ لأنَّهُ اِبتعدَ عَنهُ بِمقدارِ كَافٍ فِي أَعوامهِ الأربعةِ الأَخيرَةِ، أمْ أنَّه صَارَ يَنظرُ إليهِ بِصفتهِ عَدُوَّاً وَهوَ المُسالمُ طِوالَ حَياتهِ الأُولَى؟". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّط، ص 5).

فمثل هذا الخطاب الذي يعترف فيه البطل، هو إعلان قطيعته الصريحة لهذا التاريخ اعتبره عفناً، و:" ذاكرةُ أَحفادٍ وُرِثَتْ مِثلَمَا تُورَّثُ الأَراضِي والقُصورُ، وَلَيسَ وَحدَهُ، لِيذهَبَ هُوَ وَأبوهُ إِلَى الجَحيمِ، إِذنْ تُعسَاً وَبَئسمَا لَهمَا". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 5). هكذا كان إعلانه الصريح والواضح، التوبةَ والبراءةَ من التاريخ الذي احتلت كتبه صفحات مكتبته الشخصية التي ما عادت كما هي.

المَرجعياتُ الثَّقافيَّةُ لِسرديَّاتِ المُدوَّنَةِ الرِّوائيِّةِ:

من يقرأ رواية (القبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ) ويتفحَّص معانيها الدلالية وتمظهراتها السردية الطافية على سطح الخطاب النصِّي، سيجد ما فيها من آثارٍ متعدِّدةٍ لمرجعيات ومصادرٍ سرديَّةٍ مُتنوعةٍ شكَّلت المحتوى السردي للخطاب الروائي لهذه المدوَّنة. حتَّى توالت هذه المرجعيات الثقافية حضوراً، وكان أوَّل هذه المصادر ومتوالياتها الثقافية، هي المرجعيات المكانية، ثُمَّ الزمانية، ثُمَّ مرجعيات الشخصية أو (الفواعل) ومرجعيات الحدث أو (الفعليَّات) الموضوعية وتقنياتها الأخرى.

فالمرجعيات اللُّغوية التي هي الأخرى بدورها تعدَّدت إلى مرجعيات السرد التاريخي الموثق علمياً والسرد الأدبي والسِّيري الفنِّي، وسرد أدب الرِّحلات، والسَّرد الثقافي الرُّوحاني، وسرد الرموز والشخصيَّات الثقافيَّة المؤثِّرة في تخليق الإبداع الأدبي والفنِّي الجمالي، سرد الأمكنة. وسنخوض في حفرياتنا النقدية غمار البحث عن هذه المرجعيات وتتبع آثارها السرديَّة، واستنطاق نصوص شواهدها ومصادرها الثقافية واللُّغوية التي أسهمت في تصدير الخطاب السردي للرِّواية.

1-المرجعياتُ المكانيَّةُ:

يُشكِّل الفضاء المكاني عنصراً معرفيَّاً أساسيَّاً مهمَّاً من عناصر البناء الفنِّي السردي التكميلي للرواية؛ كونه يمثِّل عمليَّاً المثابة المكانية الأولى التي ينطلق منها مسار الكاتب الرائي إلى عالمه المرئي الخاص. فمن خلاله تبدأ حركة الشخصيات وتتفاعل الأحداث المرتبطة ارتباطاً فنيَّاً بوحدةٍ مكانيةٍ وزمانيَّةٍ محدَّدةٍ ما.

فالمكان يمثل نسقاً خطيَّاً مباشراً من أنساق الثقافة الحداثوية الظاهرة والمضمرة، وشكلاً فنيَّاً مائزاً من أشكال الإنتاج الإبداعي والجمالي الذي لا يمكن إغفال دوره التعريفي الكبير في إنجاح وديمومة استمرارية العمل الأدبي سرديَّاً وشعرياً وثقافياً تتابعيَّاً مُتناسقاً.

والمكان في العمل الأدبي سواء أكان شعراً أم نثراً قد يكون فضاء شعرياً أو سرديَّاً حقيقياً خفيَّاً أو مُتجلِّياً، ومثابةً عينيةً قائمةً بذاتها التأصيلي الظاهر، أو قد يكون فضاءً افتراضياً معنوياً بديلاً يحلُّ محلَّ المكان الأصلي الذي ينتمي إليه العمل، وينتسب إليه شكلاً ومضموناً. والأهمُّ من ذلك أنَّ المكان يشكِّل مرجعاً مصدريَّاً إنتاجياً مهمَّاً من مرجعيات الرواية؛ لإثراء العمل السردي واستمراره، والكشف عن تمظهراته وأنساقه القارَّة الخفيَّة.

والعنصر المكاني في رواية (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ) فضاء سرديٌّ خاصٌّ وماتعٌ له خاصياته وخطواته الفنيَّة الواثبة؛ كونه فضاءً إنتاجياً متراتباً يجمع بين عالمين متوحدنينِ شكلاً، ومختلفينِ مضموناً. وأعني عالم الداخل المحلي الذي ينتمي إليه الكاتب وظلَّه البطل السارد، وعالم الخارج العراقي الذي قامت عليه أكثر موضوعات الرواية، وانتقالاتها التحوِّلية الفنيَّة والبنائيَّة السريعة.

ويقيناً أنَّ مثل هذا المزج الفني لسرديات الرواية يتطلَّب من كاتبها الراوي العليم الهُمام مقدرةً علميةً ومعرفيةً، وفنيةً احترافيةً مَكينةً، وسعةً ثقافيةً كبيرةً مكتسبةً تؤهِّله القيام بهكذا مشروعٍ ثقافيٍّ سرديٍّ ناهضٍ، وملمٍّ بمثابات الفضاء الأجنبي المكاني الخارجي، وأنْ يكون على قدرٍ تامٍ من سيل المعرفة والعلمية بأسمائه ومسمَّياته المعرفية والفكرية والثقافية المتعدِّدة، وأن يكون خبيراً بأقانيمه وتخومه الخارجية وتضاريسه الثقافية الداخلية التي تعدُّ كفيلةً بإقناع ذهن المتلقي الواعي وإرضاء تلقي القاري الناقد النابه. وكأنَّ الكاتب كريم صُبح قد خِلقَ عمليَّاً لصنع مثل هكذا عملٍ روائيٍّ.

وحصيلة هذا العمل الإنتاجي الضخم الفكريَّة والسردية في رواية (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ) تؤكِّد ما انماز به الأديب والقاص والروائي د. كريم صًبح من ثقافة موسوعيةٍ تاريخيةٍ وحصيلة خزنيَّةٍ معرفية جغرافية زمانية وأدبيةٍ وروحيَّةٍ روحانيةٍ ثرَّةٍ واضحةٍ البيان تعضد وتساند ما نذهب إليه من آراء نقدية. وتؤكِّد في الوقت ذاتهما ما درجت عليه إمكانات صُبح السرديَّة الثقافية والمعرفية.

وربَّ عملٍّ فني سرديٍّ بحجم رواية (القبرِ الأبيضِ المُتوسِّطِ)، لا يمكن إنْ يقدِمَ عليه إلَّا ذو حظٍّ عظيمٍ من سعة الثقافة الموضوعية والمقدرة العلمية المتماسكة شكَّلاً ومضموناً، ولا يمكن أنْ يقوم بإتمام إنتاج هذا العمل السردي الشائق الكبيرإلَّا من عاش في تلك الأمكنة وخبر فضاءات شعابها، واستعلم دروبها وهضم فنونها وتراثها واستوعب ثقافاتها الداخلية والخارجية، وامتلك إجادة لغتها الأمّ التي هي أساس نواة العمل الأدبي الغربي الفنِّي المكين الناهض في تأثيره السحري.

ويتناهى إلى ظني كثيراً أنَّ الدكتور كريم صُبح على الرغم من كونه مثقفاً عضوياً ماهراً ومثابراً في الحصول على كيفية تلقي المعلومة الثقافية المعرفيَّة لم يكن قد زار هذه المدن والأوطان والمثابات الجغرافية لروسية البعيدة في حياته. وهذا ما يؤكِّده هو، فكان شغفه بها كبيراً.

ولم يتقِنْ حتَّى لُغتها الدَّوليَّة والمحليَّة الروسيَّة؛ ولكنْ سعة موهبته الفذَّة الكبيرة وميل استعداده المعرفي الثرّ المكتسب كانا لهما الدور الكبير في إنجاز هكذا عملٍ سرديٍّ دراميِّ سيريّ تاريخيٍّ روحانيٍّ شائكٍ وضخمٍ في ثيمته الموضوعية، وغرائبي في لُغة سردياته، وسحريٍّ في تأثير قناعاته الموضوعية.

وكلُّ هذه المزايا تؤكِّد ما للدكتور كريم صُح من تطلعات حُلُميةٍ ورؤىً فنيَّةٍ، وما عليه من فاعليات السرد الذي يدخل القلوب الإنسانية الرحيمة دون أخذ اِستئذانٍ من لدن صاحبها القارئ المثقَّف التوَّاق للإبحار في معطياته الثقافة السردية.

مكانيَّاً، تدور أحداث رواية (القَبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ)، وفواعلها الفعلية بين مدينة بغداد – العراق نقطة الصفر السري المكاني الأولى، ومدينة (سانت بطرسبرج) الروسيَّة التي كانت تعرف باسمها الشهير (لينين غراد) إبَّان أيام الاتحاد السوفيتي الروسي الدولة العظمى والقطب المؤثِّر وصولاً مع تنامي أو تصاعد حركة السرد المكاني في مثاباته إلى قمَّة الفضاء المكاني الهابط نزولاً إلى منطقة (سيبيريا) التي كانت جزءاً من روسيا غرب جبال الأورال، والتي عرفت بمدينة الجبال والثلوج الجغرافية القصيِّة عن أنظار العالم وموطن (الشيمان) روحيَّاً وفلكيَّاً وإنسانيَّاً وجغرافياً.

فكلُّ مدينة من هذه المثابات المكانية الثلاث لها وقع رمزيتها الثقافيَّة والحضاريَّة والعلميَّة، والسمة الأدبية التي عرفت بها. فبغداد، هي مدينة البطل د. وجدي زينل ومنبت عيشه الأرضي وتحصيله العلمي الأكاديمي والثقافي عبر امتداد يد الزمن وتطاوله عليه شخصيَّاً في تحريضه على الاغتراب والهجرة التي لم تكن حاضرةً في أجندة حسبانه الفكرية المستقبلية.

وبغداد الحضارة هي موطنه العشقي الأول ومربض بيته المنزلي الذي يألفه في الأرض:

" تَقعُ حِجرتُهُ فِي الطَّابقِ الثَّانِي فِي مَنزلٍ صَغيرٍ يَكفِي لِأُسرتهِ الصَّغيرةِ المُؤلَّفَةِ مِنْ زَوجتهِ مَرامَ، وَابنِهِ الوَحيدِ وَائلِ.. اِتَّخذَ مِنَ الحُجرةِ مَكتبَةً وَاعتزَلَ الكِتابَةِ، مَكتبهُ عِبارةٌ عَنْ مَكتبتينِ فِي الوَاقعِ. كَبيرةٌ وصَغيرةٌ.. مَلأَ رُفوفَهَا بِكُتبٍ رَتَّبَهَا تَرتيبَاً جَيِّداً، تَاريخيةٍ، وَكُتبٍ وَقصصٍ وَرِواياتٍ لِكُتَّابٍ مَرموقينَ مَحليينَ وِعَربٍ وَأجانبٍ..". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص7).

أمّا مدينة (سانت بطرسبرج) التي هي ثاني أكبر مدينة في روسيا، والتي أسسها القيصر بطرس الأكبر في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي، والتي أصبحت فيما بعد عاصمة الإمبراطورية الروسيَّة لأكثر من مائتي عامٍ كما تشير مصادر الكتب التاريخية؛ فهي بالحقيقة مدينة الكاتي فيودور دوستو يفسكي الروائيِّ الروسيِّ العالمي الكبير، والتي عاش فيها حياته الكبيرة وكتبَ فيها أكثر رواياته العظيمة، وخلَّد فيها شخوص رواياته العالمية الكثيرة.

ومدينة بطرسبرج هي أيضاً مثابة الحُلم الأدبي وموطن المجد الإبداعي الحلمي (أكونُ أو لا أكون) الذي سعى إليه د. وجدي العراقي بطل الرواية من أجل الحصول على تأثيث فكرة كتابة رواية أولى له يأمل في الحصول عليها من أعقاب روح سلفه الرائي الكبير دوستو يفسكي. وهي في واقع الأمر تعدُّ زمنياً المدينة أو المثابة المكانية الخارجية الأكثر مكوثاً وتغرُّباً وهجرةً في سفره الخارجي بعد مدينة بغداد موطنه الأصلي:

"اِستقلَّ سَيَّارةَ أُجرةٍ مِنَ المَطارِ وَتَعرَّفَ بِسائِقِهَا دِيمترِي، وَدِيمترِي الطَّويلِ القَامَةِ وَالضَخمِ الجُثَّةِ المَفتولِ العَضلاتَ هَذَا، ذُو الشَّعرِ الذَهبيِّ وَصاحبُ الوَجهِ البَشوشِ دَائِمَاً، أَدهشهُ أَنَّ السَّائِحَ الغَريبَ يَعرفُ مَا يُريدُ، فَهوَ يَتحدَّثُ بِلغتهِ كَأنَّه أَحدُ أَبناءِ مَدينتهِ، وَلَمْ يَطلبْ مِنهُ تَرشيحَ أحدِ الفَنادقِ لِيُقيمَ فِيها كَمَا يَفعلُ أغلبُ مَنْ يَجلبُهُم مِنَ المَطارِ، بَلْ حَدَّدَ وِجهتَهُ بِالضبطِ وَهوَ يَركبُ إِلَى جِوارهِ: (فُندقُ سِتيفي نِيفسكِي)، وَفِي الطَّريقِ تَوطَّدتْ عَلاقتُهُمَا، وَسألَهُ دِيمترِي وَهوَ يُقدِّمُ لَهُ سِيجارةَ (بُوند سَكنوبكي) المَحليَّةَ الصُّنعِ لِيُجربَها". (القَبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ، ص 27).

وكأنِّي بالبطل وجدي يعرف جيِّداً مدينة بطرسبرج التي قصدها بدليل استغراب ودهشة وتساؤل السائق ديمتري له قائلاً: "هَلْ تُصدِقُ أَنتَ أَولُ سَائحٍ مِنْ خَارجِ المَجموعَاتِ السِّياحيَّةِ لَا يَطلبُ مِنِّي تَرشيحَ فُندقٍ لِيقمَ فِيهِ". (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 27). ومثل هكذا معلومة ثبَّت للكاتب نحو بطله.

والمدينة الثالثة التي كان لها الأثر الكبير والبالغ فيما لت إليه أحداث الرواية المنتظمة وسرعة تحوِّلاتها الزمنية والجغرافية والمعرفية، فهي مدينة (سيبيريا) التي سمَّاها الكاتب بعتبته العنوانية (المسار العجيب). حيث معقل الشومان أصحاب القدرات السحرية العجيبة، والإمكانات الروحيَّة الغريبة التي أخذت من وجدي مأخذاً كبيراً كلفه حياته ووجوده الكووني:

"أَسمعُهُمَا دَاخلَ مَقصورتِهمَا وَهُمَا يَتناقشانِ بِشأنِ دَورِ سِيبيريَا فِي حَياةِ دُوستويفسكِي، أَنَا مِنْ نَاحيتِي أُؤيدُ رَأيَ الدُّكتورِ وَجدِي، فَمِنْ غَيرِ دُوستويِفسكِي يَجرؤُ عَلَى اِستهلالِ رِوايتِهِ بِاسمِ سِيبيريَا؟ لَكنِّي أُشيرُ هُنَا إِلَى المَلحوظةِ الآتيةِ الَّتِي سَجلتُهَا وأنَا فِي طَورِ جَمعِ المَعلوماتِ عَنهُمَا كِليهُما، أَقصدُ دُوستويفسكِي وَسِيبيريَا فَلمْ يَسبقنِي إِليهَا أَحدٌ، حًتَّى الدُّكتورُ وَجدِي نَفسُهُ: (لَمْ أَعثرْ عَلَى سَاردْ أَو جُغرافيٍّ أو سِياسيٍّ أوْ اِقتصاديٍّ أوْ مِنْ المُهتمينَ، يَفتتحُ حَديثَهُ عَنْ سِيبيريَا العِزيزةِ بِهَا هِيَ نَفسُها سِواهُ هُوَ: يَا لَه ُمِنْ دُستويفسكِي هَذَا! الَّذِي جَلبَ خَمسينِيَّاً وَأنَا مَعَهُ إِلَى بَطرسبرج ! ثُمَّ وَهُو وَالسيِّدةُ المُبجَّلُة وَأَنَا، فِي قِطارِنَا إِليهَا، سَيبيريَا الحَبيبةُ تِلكَ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِطُ، ص 130).

وتمضي أحداث الرواية المكانية بالأستاذ الجامعي المتقاعد الخمسيني العمر د. وجدي إلى أقصى منطقة من مناطقها الشاسعة، حيث مناخها الوعر وبردها القارس الذي لم يألفه البغدادي وجدي في حياته مطلقاً. لكنَّ الأقدار الحتمية ساقته إليها للحصول على مُبتغاه الحُلُمي الأول الذي لم يحققه أثيره المبدع الكبير دوستويفسكي في حياته الثقافية؛ لأسباب أقوى وأقهر من إرادته الشخصية:

"هَا قَدْ مَضَى أَكثرُ مِنْ سَاعتينِ عَلَى وُجودِي فِي المَكانِ وَهُمَا لِمْ يُظهرِا بَعدُ، أُنَقِّلُ عيَنيَّ بَينَ مَواضعِهِ كُلِّهِ، اِستقرتَا أَخيرَاً عَلَى كُتلةٍ بَيضَاءَ، وَأتساءَلُ مَا إِذَا كَانَ دُفنُ الدُّكتورِ وَجدِي تَحتَ الثَّلجِ حَياتهُ الجَديدةُ أَمْ رُقادُهُ الأخيرُ بِالفعلِ؛ فِيهِ هلاكهُ أمْ خَلاصُهُ؟ أَنَا عَلَى دِرايةٍ كاَفيةٍ بِسببِ اِختيارَ سَيِّدتِي المُبجَّلةِ لِلمكانِ مُوضعَاً لإِتمامِ (الطُّقسِ الثُّلاثِيُّ)، نَعمُ الأمرِ يَرتَبطُ بِوجودِ (الشَّجرةِ المُقَدِّسةِ)؛ لَكنْ إِلى جَانبِ ذَلكَ ثَمَةّ سَببٌ آخرَ يَتعدَّى تَأخُرَ ذَوبانِ الثَّلجِ هُنَا إِلَى مُنتصفِ فَصلِ الصَيف. (القَبرُ الأبيضُ الُمتوسِّطُ، ص 220).

هذه هي نقطة النهاية المكانية التي دُفِنَ فيها د. وجدي في رُقاده الأخير برغبته من أجل أن يعاد إلى زمن كاتبه المفضَّل الحبيب دوستويفسكي كي يتماهى مع استحضار روحه وزمنه آنذاك؛ ليخرج بحصيلة الفوز بفكرة الرواية الجديدة تكون بديلاً مُعوِّضاً عما لم يصل إليه دستويفسكي في حياته بعد عشرين عاماً في جزئه الثاني عن روايته (الإخوة كارامازوف). في هذا المعقل المكاني القصي لبعيد من أرض االشامان (سيبيريا) يُدفن د. وجدي ويصبح قبره ملاذاً مكانياً لظلِّه الروحي في أقصى منطقة معزولة عن العالم لا يقربها إلا الشامانيون من أصحاب عجائب الروحانيَّات.

2- المَرجعيَّاتُ الزَّمانيَّةُ لِلرِّوايةِ:

إذا كان الفضاء النصِّي المكاني هو المؤثِّر الأوَّلُ الذي يرتبط بأحداث الرواية التسريدية تتابعياً منتظماً، ويكشف عن تمظهرات الحدث الفعلية والفواعلية الشخصية المتضامنة بشكلٍ مباشرٍ دون غموضٍ أو انزياح فنِّي فلا أهميةٌ تُذكرُ للمكان، ولا جدوى منه إنْ لم يقترن اقتراناً شرطياً توحُديَّاً متناظراً مع ذكر زمنٍ محدَّدٍ ومعيَّنٍ ما، أو الإشارة الإيحائية إلى تاريخ حدوث واقعة الحدث الموضوعية التي أُقيم عليها تركيب البناء النصِّي للخطاب السردي أيَّاً كان نوعه قصَّةً أمْ روايةً.

لهذا أخذت المرجعيات االزمانية أهميتها الفنيَّة من خلال ارتباطها التكاملي الوثيق بعناصر الفنِّ السردي الأخرى. وتتجلَّى صورة هذه المرجعيات الزمانية بأبهى صورها عبر تنامي مسارات الحدث الفعلية التي تنطلق منها أبرز التقنيات السردية أُفقيَّاً وعموديَّاً تصاعديَّاً؛ لتأكيد فاعلية الوحدة الموضوعية زمانيَّاً، وتعضيد قوَّة رسوخها السردي التوثيقي عبر تداعي الأحداث وتوظيف تَقاناتِها الفنية بواسطة استدعاء أو استحضار تقنيتيالتقديم والتأخير (الاستباق والاسترجاع) الفنِّي الزمي الذي تتطلَّبهُ حركة المناورة التسريدية لجماليات العمل الأدبي الروائي أو القصصي الفكريَّة.

وعلى وفق ذلك المنظور الفنِّي يمكن أنْ نعدَّ المرجعيات الزمانية عنصراً مهمَّاً وفاعلاً من عناصر البناء السردي الفنِّي الموازي في ظله المُتوحدن مع مرجعيات الفضاء المكاني الهادف. فإذا كان مفهوم الزمن أو الزمان الاصطلاحي مرتبطاً كليَّاً بمعناه اللُّغوي الذي يعني انقضاء ساعات اللَّيل وتعاقب ساعات النهار في دوراتها الفلكيَّة القارَّة.

فإنَّ مفهوم الزمن بشكلٍ عامٍ يعني استمرار تقدُّم الأحداث وتسارع الفعليات إلى أجلٍ زماني غير محدَّدٍ، بدأً من تعاقب الماضي، فوصولاً للحاضر الآني المعيش، وانتهاء بأجل المستقبل الزمني الواعد؛ لذلك فإنَّ مفهوم زمن السرد الروائيِّ أو القِصصي قد يكون زمناً موضوعياً أو ثيميَّاً فكرياً، والمقصود به زمن الأحداث،زمن الشخصيات، وزمن الحكايات مصدر الأفكار السردية ومرجعها الثقافي.

ومثلما كانت الأحداث السرديَّة لرواية (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ) قد انطلقت شرارتها المكانية الأولى من مثاباتها المحدَّدة لها في بغداد، وانتهت عند أبعد نقطة لمنطقة قصيَّةٍ في جبال سيبيريا. فبالتأكيد أنَّ هذه المسرودات الموضوعية لمحتويات مضان أحداث الرواية قد بدأت فعلاً حركتها النصيَّة من بغدادَ، مثابة البطل المدنية في ثلثها الأخير الثالث من سنة (2019م) ولا أقول عامها.

إنَّها حقَّاً السنة الزمانية القاتلة المشؤومة، وما تلاها من سنين عجافٍ مازالت عالقة ذكراها الأليمة في ذهن العراقيين والعالم الكوني بأسره، وتلك هي سنون جائحة (كورونا) المميتة التي لا يمكن أنْ تنسى وقائعها التاريخية الكارثية من أذهاننا الفكرية المؤلمة على مر الزمن في تطاوله على أبناء الجامعة الإنسانية قاطبةً من البشر في بقاع المعمورة.

وعلى الرغم من أنَّ (كريم صُبح) في سردياته الروائية لم يُدوِّن لأحداث مثل هذه الواقعة الحدثية الوبائية تاريخياً، ولم يؤرخن لعواقبها الوخيمة التي ألَمَتْ بالعراقيين خصوصاً والعالم عموماً، فإنَّه اكتفى بأرخنة هذا التاريخ سلمياً وإيجابياً للحياة المدنية التي كان يمرُّ بها عندما أُحيل إلى التقاعد بناءً على طلب رغبته في تركه للوظيفة وهجره للتاريخ، وَبِدْءِ حياةٍ مدنيَّةٍ أُخرى لا علاقة لها بماضيه المهني الزمني، وهذا ما أشار إليه على لسان بطله وجدي في عتبته رقم-1- (المتقاعد):

"بَدَأَ كَسولَاً وَهوَ يَستيقظُ قَبلَ ظُهرِ آخرَ أيامٍ مِنْ عَامِنَا 2019 هَذَا، سَهَرَ اللَّياليَ لِخمسةِ شُهورٍ مَضَتْ، رَسَمَ خُطوطَاً سُودَاً بَاهتَةً تَحتَ عَينيهِ، تَحَسَّسَ بِأصابعِهِ مَكانِها الفَارغِ وَهوَ يَنظرُ فِي مَرآةٍ كَبيرةٍ يَظهرُ فِيهَا سَريرَهُمَا خَلفَهُ، حَتمّاً نَهضتْ- كَعادتِهَا دَائِمَاً- فِي وَقتٍ مُبَكِّرٍ، وَطَبعَتْ قُبلَةً عَلَى خَدِّهِ، وَأَعدَّتْ طَعَامَ الإفطارِ، وَأيقظَتْ وَائلَ وأشرفتْ عَلَى اِختيارِ زِيِّهِ المَدرسيِّ...". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 15).

بعد انقضاء هذه الفترة الزمنية التي أعقبت بحبوحة الإحالة إلى التقاعد حينما أصابه الحزن وضاقت به حِيلُ سُبل العيش والفراغ الحاصل والانكفاء الذاتي عن مكتبته الشخصية، فكل ذلك التاريخ الزمني أوحى له بالسفرِ إلى أيَّةِ دولةٍ خارج العراق، محاوِّلاً عبثاً الحصول على فكرة لروايته المنشودة التي هجست له في ذهنه في الكتابة بعد يأسه عن أول موضوع قد يخطر على باله كما يذكر ذلك في عتبته العنوانية (إيحاءٌ). الأمر السلبي الذي قد يضع حداً لفشل مهمته التي عزم السفر من أجلها إلى مدينة سانت بطرسبرج، مدينة كاتبه الشهير:

"مِنْ مَصلحَتِي طَبعَاً الإبقاءُ عَلَى فِكرةٍ لِروايةٍ مُتَّقِدَةٍ فِي ذِهنهِ، زَينتْ لَهُ فِكرةَ السَّفرِ إِلَى مَدينةِ بَطرسبرج دُونَ غَيرِهَا، سَهَّلَتْ عَليهِ أَنْ يَتخذَ قَرارَاً عَاجِلَاً بِذلكَ: ضَربتُ عَلَى وَتَرِ فِكرتِهِ المُتمرِّدةِ وَحبُّهِ لِدوستو يِفسكي، أوحيتُ لَهُ أَنَّهُ سَيعثِرُ عَلَى فِكرتِهِ هُناكَ، وَصاحبهِ دُوستو يفسكي هُوَ بِنفسهِ مَنْ سَيَدُلُّهُ عَليهِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 24، 25).

بعد وصول د. وجدي لمدينة بطرسبرج وإقامته الوجيزة بأحد فنادقها السياحية الباذخة الواقعة في (شارع نيفسكي)، ومن ثُمَّ لقائه بابنة صاحب الفندق الآنسة (تاتيانا) التي أصبحت عشيقته المحبَّبة لنفسه، والَّتي قدَّمت له خدماتٍ كثيرةً مقابل البقاء معه أكثر مُدةٍّ زمنيةٍ للمُعاشرة الحَميمية:

"اِندهَشتْ تَاتيانَا مِنْ هَذَا العِراقيِّ وَمِنْ لُغتهِ الرُّوسيَّةِ السَّليمَةِ، قَبلَ أَنْ تَنصِتْ بِاهتمامٍ إِلَى دِيمترِي وَهوَ يُحدِثُهَا عَنْ نَزيلِ فُندقِهَا الجَديدِ بَعدَ صُعودهِ إِلَى حُجرتِهِ، وَكَيفَ أنْ يَعرفَ عَنْ رُوسيَا وَعَنْ بَطرسبرج أكثرَ مِنْ مِمَا يَعرفُ هُوَ، وَرُبَّمَا حَتَّى أكثرُ مِنهَا هِيَ نَفسُهَا، وَكَيفَ جَاءَ مُسلَّحَاً بِشهادةٍ فِي التَّاريخ ِوَبشغفٍ لَا يُجَارَى فِي الأدبِ، حَتَّى أنَّه أَحصَى عَدَدَاً كَبيرَاً مِنْ أسماءِ الكُتَّابِ الرُّوسِ". (القَبرُ الأَبيضُ المُتوسِّطُ، ص29).

وقد دفعه هذا الاستقرار الزمني النسبي من عمر الإقامة في فندق تاتيانا السياحي إلى المداومة:

"عَلَى تَقسيمِ وَقتهِ بَينَ التِّجوَالِ فِي المَدينةِ وَزِيارةِ مَعالمِهَا المُهمَّةِ عَلَى وَفقِ جَدولٍ مَرِنٍ قَابلٍ لِلتغييرِ صَباحَاً، والتَّواصلِ مَعَ مَرامَ وَوائلَ هَاتفيَّاً مَساءً، وَالقراءةِ أوْ السَّهرِ مَعَ تَاتانيَا لَيلَاً و (الفودكَا) أيضَاً الَّتِي صَارتْ رَفيقتَهُ..سَاعاتِ السَّهرِ اِزدادَ مَعَهَا تَقديرُهُ وَمكانتُهُ لَدَى تَاتانيَا، حَتَّى أنَّه أَمسَى رَجلَ فُندقِهَا المَدلَّلَ، فِي صَباحهِ هذَا وَقَفَ يَنتظرُ دِيمترِي فِي بَابِ الفُندقِ؛ لِيقلَّهُ إِلَى مَعلَمٍ تَأخَّرَ فِي زِيارتهِ كَثيراً، وَزَعمَ أنَّه قَدْ يَضعُ حَدَّاً لِعجزهِ ذَاكَ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 39، 40).

هكذا سارت الأمور زمانياً مع د. وجدي في انتظار تحقيق ما كان قد عزم السفر من أجله؛ لكنَه عندما فَكَرَ بالعودة إلى العراق بعد فشله في تحقيق المرام تفاجأ بالحصار الذي فرض نفسه عليه في مدينة بطرسبرج ؛ نتيجةَ تفشي جائحة كورونا وانتشارها السريع كالنَّار في الهشيم استسلم له:

"ضُحَى أحدِ أيامِ نَيسانَ، الدُّكتورُ وَجدِي وَحدَهُ فِي صَالةِ الاِستقباَلِ، جَالسٌ عَلَى أَريكةٍ طَويلةً قُبالَةَ مَكتبِ تَاتيانَا، وَهوَ يَرتدِي كِمَامتَهُ، مَعَ أنَّ الفُندقَ أَمسَى -قَبلَ أكثرَ مِنْ أُسبوعٍ- خَاويَاً مِنْ نُزلائِهِ سِواهُ هُوَ، وَتاَتيانا بِالطبعِ، وَاثنينِ مِنْ مَساعدِيهَا ِانهمَكَا مَعهَا فِي الأيامِ الأَخيرةِ فِي إجراءاتِ إِغلاق الفُندقِ، مِنْ تَسلُّمِ مَفاتيحِ الحُجُراتِ مِنَ النُّزلاءِ ...". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 69).

وخلال فترة الحصار المضروب عليه وباء جائحة كورونا القاتلة واستسلامه في البقاء بفندق تاتانيا، التقى -خلال مكوثه القصير به- بالسيَّدة الثمانينية المبجَّلة التي تدعى (بافلوفنا)رئيسة الشامان ذات القدرات الرُّوحانيَّة العجيبة والتي اقنعته بدهائها الذكي بمسألة السفر والانتقال إلى مكان آخر في سيبيريا يحقق هدفه ويضمن له الحصول عليه؛ كون المصالح مشترطة بينهما تقتضي ذلك:

"فَكِّرْ فِي الأَمرِ مِنْ زَاويةٍ أُخرَى، أَنتَ الأَجنبَيُّ القَريبُ المُحاصرُ وَحدَكَ هُنَا، بَعيدَاً عَنْ أَهلِكَ وَذَويكَ، تَركتَ زَوجَةُ شَغوفَاً بِكَ وَاِبنَاً وَحيدَاً، مِنْ أَجلِ هَدفٍ وَاحدٍ لَا غَيرَ: أنْ تَكتبَ رِوايتَكَ الأُولَى بِفكرةٍ غَيرِ مَسبوقَةٍ عَلَى الوَرقِ، مَا يَضرُّكَ لَو اِنتقلتَ إلَى مَكانٍ آخرَ؛ لَكنَّهُ اِستثنائيٌّ وَفريدٌ بِكُلِّ مَا فِي الكلمةِ مِنْ مَعنَى، مَكانٌ يَضمنُ لَكَ تَحقيقكَ هَدفَكَ فِيهِ!". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص124).

مضت ثمانية أيام على سفر د. وجدي مع السيِّدة المبجَّلة (بافلوفنا) رئيسة الشامان التي لا يعرف خفاياها كثيراً في رحلة قطار طويلة وشاقة بين مثابات سيبيريا العديدة، وصلا لمدينة بابو شكين:

"قُرابَةُ الرَّابعةِ عَصرَاً وَصلنَا إِلَى مَحطَّةِ قَطارِ (أولان-أودي)،كُنتُ قَدْ حَزمتُ أمرِي عَلَى أنْ أَسبقَهَا النُّزولَ لِاستئجارِ مَنْ يَحملُ حَقائبَنَا وَيُوصلُها إِلَى سَيَّارةِ أُجرةٍ تَقلُّنَا إِلَى الوِجهَةِ الَّتي تُحددِّهَا، لَكنَّنِي فَوجئِتُ بِهَا تَنهضُ وَهيَ تَنهِي مُكالمةً مَعَ أحدِ مُساعدِيهَا، وَتَطلبُ مِنِّي الاِنتظارَ رَيثَمَا َيحضرُ مَنْ يَتَولَّى أمرَ الحَقائبِ، قَبلَ أنْ أستفهمَ أَكثرَعَمَّنْ هُوَ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 151).

وبعد انقضاء أكثر من أسبوع على إقامته بسيبيريا أرض الشامانيين أُتيحت لوجدي هذا البطل المغامر من أجل هدفٍ سامٍ لا يمكن التخلَّي عنه، فرصة القيام بجولة في (باراسكوفيا)؛ ليتمكَّن من زيارة البورياتين (الشامانات) منهم، وغير الشامانات، وتمكَّن من ذلك زيارة منازلهم وعوائلهم ومزارعهم واللِّقاء برجالهم ونسائهم، وحضر مناسباتهم الاجتماعية الشعبية وغيرها الرسمية.

كل هذا الزمن الذي انفقه د. وجدي في سفره الطويل الضبابي العائم بالغموض والمغامرات ولم يحصل على أيِّة بارقةِ أملٍ تُحقِّق له ما كان معقوداً عليه، إنَّها بالفعل تعدُّ مغامرةً زمكانيةً كلفته حياته بأكملها ثمناً لِحُلُمِه المنشود الذي صار شاهدةً قبرٍ أبيضَ توسَّطَ بين جبال الشامان بسيبيريا.

وبعد مضي ثمانية أشهر على فراق د. وجدي لبغداد بعيداً عن زوجته مرام وولده الوحيد وائل، يبقى السؤال الأكثر أهمية في مادة المرجعيات الزمانية المنظورة في حركة استمراريتها الزمانية الحالية، وغير المنظور، المحسوسة أو الملموسة في العودة إلى الزمن الماضي الذي عاش فيه دوستويفسكي والتماهي معه زمكانياً شكلاً ومضموناً،هل يمكن العودة إليه دون ضبط إيقاع الزمن؟ والجواب بينها (هي)، وبينه (هو) في الساعة التي تكون منضبطة على تاريخ ذلك الزمن السحيق:

"هِيَ أكُنتَ تَظنُّ أنَّهُ سَيفوتنِي ضَبطَهَا عَلَى تَاريخِ اليَومِ الَّذي تَكونُ فِيهِ هُناكَ، فِي عَصرِ السَّيِّدِ دَوستويفسكي؟ هو: وَمَا هَذَا التَّاريخُ ؟ هِيَ: 30 تَشرين الأوَّل 1821م، هَذَا هُوَ بِالضبطِ، السَّيِّد أرتيمُ هُوَ مَنْ سَيضبطُهَا لَكَ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص233).

ولا يمكن الوصول لذلك الزمن الغابر إلَّا من خلال استحضار الأرواح واستدعائها في زمنها للإجابة عما يريد الوصول إليه د. وجدي، وكيف يتم تحضير هذه الأرواح؟ فتجيب السيِّدة المبجلة:

"تُحَضَّرُ تِلقائيَّاً أوْ بِالاِستدعاء، يَمكنُ اِستدعاءُ أيِّ رُوحٍ مِنْ الأرواحِ، وَلَا يَهمُّ مَا إذَا كَانَتْ رُوحَ أَكثرِ النَّاسِ وَضاعَةً، مَهمَا كَانَ العَصرُ الِّذي عَاشتْ فِيهِ.. وَنَطلبُ مِنْهَا مَخاطبَتَنَا كِتابةً أوْ صَوتَاً، يَمكنُ أنْ تَبوحَ لَنَا بِمَا مَسموحٌ لَهَا البَوحُ بِهِ، وَهيَ تَنجذِبُ إِلَى صِفَاتِ مُستحضرِيهَا الأدبيةِ، فَالأرواحُ السَّاميَّةُ تُسعَدُ بِالاجتماعَاتِ الجِديَّةِ؛ إذْ تَجدُ نَزعةَ الخَيرِ بَينَ المُجتمعِين ورغبةً صَادقةً لَدَى مُستحضرِيهَا بَأنْ يَتعلمُوا وَيُحسِّنُوا أنفسَهُم". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسّطُ، ص 98) .

على وفق ذلك التحضير والاستدعاء الروحي أيقن الدكتور وجدي، وتأكَّد كلَّ التأكيد من استدعاء روح كاتبه وصاحبه الملهم فيودور دوستويفسكي، والتي يمكن أن تقترح عليه في كتابة فكرة رواية له وتمليها عليه بعدد صفحاتٍ تُقارب ثلاثمائة صفحةً بكلِّ سهولةٍ ويُسرٍ، ولم يبقَ سوى إيجاد الوسيط الذي يقوم بعملية الطقس وهو السيِّدة الثمانينيَّة المُبجَّلة بافلوفنا:

"حَلَّ اليَومُ المُوعودُ ولَيلُهُ زَادَ الأمرَ إِثارةً، هًا هُمَا يَدخُلانِ تِبَاعَاً إِلَى الحُجرةِ الَّتِي اِختارَاهَا مَكانَاً لِاستحضارِ رُوحِ كَاتبِهِ الهُمامِ، بِغيابِ سَاشَا الَّتِي فَضَّلَتْ إِغلاقَ بَابِ حُجرتِهَا عليها عَلَى حُضورِ لَيلةٍ مُرعِبَةٍ رُبَّما تَركتهَا نَهبَاً لِلكواليسِ مَا بَقيَ مِنْ عُمرِهَا...". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 103).

لقد فشلت كُلُّ محاولات السيِّدة المُبجَّلة في استحضار روح دوستويفسكي عبر الزمن والعصر الذي عاش فيه؛ لأن فيودور دستويفسكي كان يرفض في حياته رفضاً قاطعاً استدعاء الأرواح واستحضارها ؛ كونه لا يؤمن بذلك الأمر ولا يتمناه لكلِّ من يجرى له روحياً:

"أَظنُّ، بَلْ أنَا مُتيقِّنُ مِنْ أنَّ صَاحبِي فِي حَياتهِ رَفَضَ عَملياتِ اِستحضارِ الأَرواحِ القَائمةِ عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ فِي بَطرسبرج آنذاكَ، بَلْ اَنكرَهَا وَسَخِرَ مِنهَا عَلَى رُؤُوسِ الأَشهادِ بِطريقةٍ مَا، عَرفتُ أنَّهُ رَفَضَ بَعدَ مَماتِهِ اِستحضارَ رُوحِهِ هُوَ نَفسُهُ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطَ، ص 106).

والسؤال الذي يلقي بنفسه من القارئ النابه ومن الناقد الحصيف الواعي الثاقب لسطور الرواية. إذا كان د. وجدي يعلم برفض دوستويفسكي القاطع في حياته استحضار روحه وأروح الآخرين فلماذا قَبِلَ أن تستحضر السيِّدة المُبجَّلة بافلوفنا حياة كاتبه المفضَّل فيودور دوستويفسكي ؟! يبدو لي أنها محاولة التشبث بالأمل بأيِّ طريقةٍ، وإن كان الحصول على مبتغاه البعيد صعباً وشاقَاً.

3- المَرجعيَّاتُ الثَّقافيَّةُ لِشخصيَّاتِ الرِّوايَةِ:

إذا كانت المرجعيات الزمكانية لوحدتي الزمان والمكان المرتبطتينِ ارتباطاً تعالقيَّاً وثيقاً مع بعضهما بعضاً من بين أهم العناصر الفنية والتنكملية لعملية البناء السردي في إنتاج التخليق الروائي الحداثوي، فإنَّ المرجعيات الثقافية للشخصيات لا تقلُّ أهميةً وأثراً وحضوراً وفاعليةً في استكمال واقعة الحدث السردية وتحولاتها الفنيَّة السريعة بِدءاً من نقطة الشروع الزمكاني وانتهاءً بخواتيم العمل السردي المدهشة. وقد تكون هذه الشخصيات مستمدة من الواقع أو خياليةً مُتصوِّرةً من مرايا الواقع المخيالي الذي يمور بكل ما هو مثير للجدل ومدهش للفكر والحياة.

وبذلك تؤدِّي الشخصيات (الفواعل) دوراً مهمَّاً وكبيراً في تنامي حركة السرد واستمرار خطى فاعليته البنائية؛ كونها تمثّل ركناً أساسياً منه، والذي يتجلَّى عبر (فِعليَّات) الأحداث ووضوح الأفكار وتداعيها وتخلُّقها كحياة خاصةٍ من خلال شبكة الأنساق الثقافية القارة التي تكوِّن مادة هذا العمل السردي الروائيِّ.

ويمكن القول إنَّ الشخصيات الروائية تعدُّ بمثابة العمود الفقري للحكاية السردية الطويلة التي هي أساس تعدُّد الأفكار وتوالدها فنيَّاً؛ لأنَّ الرواية قد تبدأ بحكاية وتنتهي بفكرةٍ، أو على العكس من ذلك تبدأ بفكرة ما وتنتهي بحكايةٍ تكون مرجعاً تَفرُّعيَّاً لعدة أفكارٍ متناميةٍ مثيرةٍ ورُبَّما أكثر إدهاشاً.

والشخصيات في (الميتاسرد) الحداثوي تُكاشفُ بوضوحٍ -حركيَّاً وذهنياً- عن طريقها السارد إلى القارئ والمتلقِّي لها؛ كونها تُقدِّمُ له مشاهد من المادة الحكائية المسرودة الخام عن طريق هذه الشخصيات بمختلف أنواعها سواء أكانت المفردة أم المتعدِّدة الأصوات.

والتي يتميَّز بها كلُّ عملٍ سرديٍّ له خصائصه السردية، ومتبنياته الفكريَّة والجماليَّة التي ينماز بها عن غيره من الأعمال الروائية على مستوى السرد الواقعي أو الأسطوري المخيالي الذي يُضفي على العمل الأدبي متعةً كبيرةً وجمالاً وقبولاً معرفيَّاً في التلقِّي القرائي إلى المرسل إليه؛ كونها جزءاً كبيراً من منظومة الرسالة النصيَّة إلى القارئ أو المتلقِّي الخارجي.

والقارئ الجاد المُتتبِّع لمدونة (القبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ)، سيكتشف بنفسه الواثقة أنَّها رواية بوليفونية مُتعدِّدة الأصوات على الرغم من تركيزها على شخصيتين مُهمتين هما، وجدي وبافلوفنا؛ فإنَّ الرواية بمجملها التسريدي قد تضمَّنت تسعَ شخصياتٍ فواعلية،اثنتان منها رئيسة والشخصيات الأخرى ثانوية قد يكون دورها الفواعلي الفرعي في صنع الحدث مؤثِّراً أو غيرَ مؤثِّرٍ بحسبها.

ولكنَّ اللافت للنظر في رسم مسار هذه الشخصيات الذكوريَّة والأنثويَّة أنَّها قد توزَّعت توزيعاً عادلاً، وكان كريم صُبح قد خطَّطَ لهندسة هذه الشخصيات. فكان تقسيمها الزمكاني متساوياً ثلاثة منها في العراق، وهم: د.وجدي البطل الرئيس وزوجته مرام وابنه الوحيد وائل، وثلاثة شخصياتٍ أخرى في روسيا، وبالتحديد في مدينة دوستويفسكي (بطرسبرج) أو ما تُعرف بـ (لينين غراد) سابقاً، وهم: الشابة الثلاثينية تاتيانا ابنة صاحب الفندق ومُديرته، والتي ارتبطت بعلاقةٍ حميمةٍ مع نزيل الفندق د. وجدي، وديمتري سائق نزلاء الفندق الذي كان السبب في تَعَرُّفهِ على وجدي واصطحابه للفندق، والثالثة السيِّدة ساشا مُدبِّرة الفندق والمسؤولة عن إطعام النزلاء وخدمتهم.

وقد يرد من خلال أحداث السرد الروائي في بطرسبرج ذكر زوج السيِّدة ساشا حارس مقبرة (سوخولوف) الذي طُلِبَ منه وجدي المحافظة على الفندق إبَّانَ جائحة كورونا 2019م.

أمَّا الشخصيات الثلاث الأخيرة في منطقة سيبيريا أرض الشامان، والتي كان لها دور كبير وعجيب في إظهار القدرات الروحانية واستحضار الأرواح؛ كونهم يمثِّلون مجلس الشامان المركزي رئيساً وأعضاءً، وهم: بافلوفنا أو كما تعرف بالسيِّدة المبجَّلة الثمانينية، وهي زوج كبير الشامانات في سيبيريا، ورئيس الشامان بعد وفاة زوجها وصاحبة الصلاحيات الكبيرة في بلدتها.

وكان لهذه السيِّدة الدور الكبير والمهمِّ في سير أحداث الرواية واتِّساع رقعتها الجغرافية المكانية والزمانية والفنيَّة بهذا السمت من السرديات الغرائبية الفنتازية. ثمَّ شخصية أرتيم، المساعد الأول لرئيسة الشامان بافلوفنا، وأستاذ مادة فن الرِّواية، والأستاذُ في جامعة (أولان-أودي)، وشخصية (كيريل) التي لم يذكر اسمه كثيراً في طيَّات الروائي، فضلاً عن شخصية (أرتيوم) سكرتير المكتب الشاماني.

وقد وردت أسماء ثانوية أخرى في سيبيريا غير مؤثِّرة؛ لكن مجيئها وذكرها جاء من باب تعضيد وترصين البناء السردي لحكايات قدرات الشامان الروحانية العجيبة، ومن هذه الأسماء امرأة عجوز تُدعى السيِّدة (آرينا) من بين النساء العجائز المُتفتِّحات والمثقفات أرثو ذوكسية متدينة، وكان لها معرفة مسبقة بتاريخ قدرات الشامان، وما فقد من مخطوطات كتبِهم الرُّوحانية القديمة.

كما ذُكِرَتْ بعض أسماء الخادمات مثل، (فلاسيليسيا)، والفاتنة (اليانوشكا) التي مارست الحبَّ والمعاشرة مع وجدي إثناء إقامته في سيبيريا. كما جاء ذكر اسم صاحب الطاحونة القديمة في قرية المدينة السيِّد (ليونيد بوباتوف) الذي ذُكِرَ في عتبة (الحكايا). وتمَّ أيضاً على الهامش ذِكر شخصية الفلاح المزارع الستيني السيٍّد (إيغور كورنيلوف) صاحب المزرعة الذي التقى به وجدي. فضلاً عن لقائه بالسيدة العجوز المنحنية الظهر ذات الأصول القوقازية قرب أو بعد عبور الجسر، والتي كان لها معرفة تامة بأسرار الشامان وأصولهم الغريبة.

وليس هذا فقط من محتوى الشخصيات الروائية، بل قد ورد على خطِّ سير العمل الأدبي السردي ذكرُ أسماء لأُدباء وكُتَّابٍ وشخصياتٍ روسيَّةٍ كبيرةٍ ونافذه الشهرة مثل، (بوشكين، وغوغول، وكافكا، وتشيخوف، وغوركي، وتولستوي)، وغيرهم من الأدباء الكبار، وكما ورد ذكر اسم العالم العربي المصري الأستاذ محمَّد عيَّاد الطنطاوي الذي كان يعمل أستاذاً بإحدى الجامعات الروسيَّة.

والحديث عن شخصيات الرواية ودورها الكبير والفاعل قد يطول كثيراً، لكن لا بُدَّ من التنبيه إلى أنَّ السيَّدة مرام زوج د. وجدي وولدها وائل لم يكن لهما دور فاعل ومؤثِّر في سير أحداث الرواية، بل كان هامشياً شكلياً ورد من باب ترتيب الأحداث وبدئها من الأول، كونهما من أسرة البطل وجدي ولا بدَّ أن يكون على اتصال بهما خلال مدة سفره وغيابه عنهما لا غير ذلك:

" أنْهتْ دَرسَهَا بَاكِرَاً، اِنصرفَتْ زَميلاتُهَا إِلى قَاعاتِ الدَّرسِ جَعلَهَا تَخلُو إِلَى نَفسِهَا، وَكَانتْ بِحاجةٍ إلَى مُراجعةِ حياتِهَا مَعهُ، بَدتْ مَهمومَةً وَقَلقةً وَهيَ تَنزوِي فِي حُجرةِ المُدرِّسَاتِ، شَغَلَها رُوحَاً وَجَسدَاً، مَا عَادَ يُحدثُهَا وَلَا يُمازحُهَا مِثلَمَا كَانَ يَفعلُ، تُرَى، مَا الَّذي يَشغِلُ بَالَهُ إِلَى حَدِّ إِهمالِ وَاجباتِهِ الزَوجيَّةِّ؟". (الَقبرُالأبيضُ الُمتوسِّطُ،ص19).هكذاكانت مَرام تُحدِّثُ نفسها بعد تقاعد زوجها.

ونذهب في البحث عن الشخصيات إلى بطرسبرج، لنتعرف على شخصية (تاتيانا) ابنة صاحب الفندق التي تعرف عليها السائح العراقي د. وجدي من خلال السائق ديمتري الذي اِندهشت منه:

"وَعرَّفهُ عَلَى الإدارةِ، لَا سِيَّما ابنةُ صَاحبِ الفُندقِ.. اِندهشَتْ تَاتانيا مِنْ هَذَا العِراقيِّ وَمِنْ لُغتهِ الرُّوسيَّةِ السَّليمةِ، قَبلَ أنْ تَنصتَ بِاهتمامٍ إِلَى دِيمترِي وَهوَ يُحدِثُها عَنْ نَزيلِ فُندُقِهَا الجَديدِ بَعدَ صُعودهِ إِلَى حُجرتِهِ، وَكَيفَ أنَّهُ يَعرفُ عَنْ رُوسيَا وعَنْ بَطرسَبرج أكثرَ مِمَّا يَعرفُ هُوَ، حَتَّى أكثرَ مِنْهَا هِيَ نَفسُهَا،يدة المبجلة وَكَيفَ جَاءَ مُسلَّحَاً بِشهادةِ دُكتوراهٍ فِي التَّاريخِ وَبِشغفٍ لَا يُجَارَى فِي الأدبِ، حِتَّى أنَّه أَحصَى عَدَدَاً كَبيرَاً مِنْ أسماءِ الكُتَّابِ الرُّوسِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 29).

وفي غمرة هذا الحديث عن الشخصيات الثلاث وجدي وتاتيانا وديمتري السائق، توطدت العلاقة بين د.وجدي وصاحبة الفندق الآنسة تاتيانا حتَّى أصبحت علاقةً حميمةً لايمكن إغفالها في الرواية:

"وَلَا يَجبُ بِأيِّ حَالٍ مِنَ الأَحوالِ، أَنْ يَكسرَ كِبرياؤُهُ الشَّرقيُّ: يَدهُ اليُمنَى الَّتِي حَملتهُ دَهمَتهَا اِرتعاشاتٌ خَفيفةٌ مُستمرّةٌ وَهيَ تَقربُهُ مِنْ فَمهِ بِبطءٍ، بَدَا كَمَنْ يَتَشمَّمُ مَا فِيهِ، لَمْ يَشأْ أَنْ يَهينَ عِزتَهُ الشَّرقيَّةَ العَتيدةَ، شَرِبَ كَأسَهُ مَرَّةً وَاحدةً، نَهضتْ مِنْ مَكانِهَا مُندفعةً نَحوَهُ وَطبعتْ قُبلَةً عَلَى خًدِّهِ، اِستفزّتْ رَائحتُهُ الزَكيَّةُ أُنوثَتَهَا الثَائرةَ، دَارتْ حَولَهُ بِفرحٍ طُفوليٍّ قَبلَ أنْ تَعودَ وَتَجلسَ قُبالتَهُ، صَبَّتْ لَهُ كَأساً آخرَ وَثَالثاً، ثُمَّ فِي الرَّابعِ خَاطبتُهُ بِلهجةِ المُنتصرَةِ الوَاثقةِ مِنْ كَيدِهَا العَظيمِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 37، 38).

ونمضي قُدُماً إلى أرض سيبيريا المسار الجغرافي العجيب للتعريف بشخصية السيِّدة المبجَّلة التي حيَّرت د. وجدي باسمها (بارسكوفيا بافلوفنا)،والتعرُّف على مكانتها من خلال خطابها لوجدي:

"اِعلمْ أَنَّنِي حُزتُ المَكانتينِ بَينَ قَومِي: زَوجةُ كَبيرِ (الشَّاماناتِ)، وَكَبيرتُهم بَعدَ وَفَاتهِ، لَقبِي الوَحيدُ بَينَهُم هُوَ (السَّيِّدةُ المُبجَّلةُ)، وَتِلكَ مَسؤوليةٌ أَلقتْ أَعباءً جِسامَاً عَلَى كَاهلِي". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 116).

والحديث عن شخصية السيِّدة المبجَّلة يقودنا بالتأكيد عن شخصية (أرتيم) مساعدها الروحاني في مجلس الشامان الذي تحدَّث عنه الدكتور وجدي وعن سيرته؛ كونه يعمل أستاذاً جامعياً مختصَّاً بعلم فنِّ الرواية. ولنقرأ في هذا المضمار السردي ما تقوله السيِّدة المبجلة أو بافلوفنا لوجدي عنه:

"دُكتورُ وَجدِي هَذَا هُوَ السَّيِّد أَرتيمُ مُساعدِي الأوَّلِ، لَا أَستطيعُ القَولَ مَا إذَا بُهِتَ أَوْ دُهِشَ[...] وأَعتذرُمِنكُمَا هَالنِي وَقعُ المُفاجأةِ السَّارةِ بَالتأكيدِ..أهلاً بِكَ سَيِّدَ أرتيمَ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص221).

أما الحديث عن مساعده الثاني (كيريل) فلم يأتي بعينه مستقلاً كما هو حال دور مساعدها الأول، وإنَّما جاء عرضياً هامشياً كونه أحد أعضاء مجلس الشامان الروحاني الذي يذكر في سرد الرواية.

وربَّما هناك بعض الشخصيات الثانوية التي ذكرت في أثناء عقد مجلس الشامان، ولا جدوى من ذكرها ؛ كونها أسماءً ثانويَّةً مُساعدةً تقبع خلف كواليس الحدث السردي. لذلك أن وجود أسماء شخصيات مثل (د. وجدي وتاتيانا وبافلوفنا السيِّدة المبجَّلة وأرتيم مساعدها الأول، وربَّما ديمتري سائق سيارة الفندق هي كفيلة بأنْ تعطي صورة واضحة وناصعة عن ما قاموا به من أداء أدوار أحداث مهمة في تفعيل حركة السرد في المدن والمثابات الثلاث، (بغداد وبطرسبرج، وسيبيريا).

ولا بُدَّ من التنبيه إلى أنَّ جميع شخصيات الرواية التي تمَّ استعراضها واستدعاؤها والحديث عنها وذكرها في مشغل هذه الدراسة النقدية الثقافية، هي في الحقيقة تعدُّ مرجعيات الرواية السردية الشخصية؛ بوصفها الأنساق الثقافية الظاهرة والمتجلية بحركتها السرديَّة الكاشفة لفكرة الرواية.

في حين أنَّ النسق السردي المضمر المهمَّ لهذه السرديات الشخصيُّة الفواعلية التي لم تعد ضمن لائحة شخصيات الرواية الظاهريَّة، هي شخصية فيودور دوستويفسكي الحاضرة الخفيَّة والملازمة لأحداث الرواية من أولها حتَّى آخرها. تلك الشخصية الرمزية الموازية لشخصية د. وجدي الباحث عنها حاضراً آنياً في الزمن الماضي الغابر للوصول إلى الغاية التي هي ثيمة الرواية، وهي القناع أو (الماسك) الذي تخفَّى من ورائه كاتب الرِّواية وصانع أحداثها الأُستاذ الدكتور كريم صُبح عطية.

4-المَرجعياتُ الثَّقافيَّةُ لَأحداثِ المُدوَّنَةِ الرِّوائيَّةِ:

تعدُّ الأحداث الفعلية في السرد الروائي بمثابة الرأس إلى الجسم، وهي أشبه بالعمود الفقري الذي يقوم عليه البناء السردي الروائي بأسره. ومن خلال هذا العنصر الفنِّي المهمِّ يقوم السارد الروائي بجمع واختيار فكرته الفنيَّة والموضوعية بدقةٍ عاليةٍ جداً وعنايةٍ كبيرةٍ، وباحترافية فنيَّةٍ متأنيَّةٍ يجسِّد فيها ترتيب الأحداث الزمكانية الواقعية والمخيالية الأسطورية والغرائبية السحرية التي يتشكل منها وتنبثق خيوط نسيجه الفنِّي، وبها يكتمل بناء التعبير الفنِّي في نصِّ خطابه السردي.

وقد يستخدم الكاتب الرائي المثقَّف والمتمرِّس النابه تقانات الاستباق أو (التقديم)، والاسترجاع أو (التأخير)، والتتابع الحدثي المُنتظم فكريَّاً. وقد يضيف لهذه الأحداث المتراتبة شيئاً من مخزونه الثقافي والفكري والمعرفي الثرِّ المكتسب، وربّما يضيف شيئاً آخر من بنات مخياله الذهني والانزياحي الفنِّي البلاغي الجديد. أو قد يحذف بعض ما يراه غير مناسباً لواقعة الحدث السرديَّة.

فتراه دائماً حَذراً ويقظاً وواعياً، يسعى إلى أنْ يكون نصه الروائي في الخطاب السردي فنيَّاً مميَّزاً ومغايراً لخطِ واقع المألوف في كسر جُدُر سور الواقع الحياتي السياقي المألوف قويَّاً ومتماسكا،وهذا ما يميِّز العمل الروائي المكين عن غيره المعطوب والتالف.

ومثلما تتحدَّد العناصر الأخرى في الرواية من زمان ومكان وشخصيات ولغة تتضافر الأحداث معها كليَّاً لتعطينا صورةً بيانيةً واضحةً عن قيمة العمل السردي وتوافق عناصره الفنيَّة بشكل هادف ومقبول في الاستجابة.

ويشكِّل الحدث السردي في مرجعياته وأنساقه الثقافية الظاهرة والمضمرة الخفية في الرواية بشكل عام رأس الهرم في عملية البناء الفنِّي للرواية، فكُلَّما كان الحدث قويَّاً ومتماسكاً وفجائياً أو غرائبياً إدهاشيَّاً في سرد أحداثه، كان المردود الفنِّي والإبداعي له على قدرٍ عالٍ وكبير من الاستجابة والمقبولية والإمتاع والابتداع الذي يميِّز صاحبه كمَّاً ونوعاً وأسلوباً ولغةً وفنَّاً راقياً.

للفعل السردي أو الحدث الروائي السردي في الرواية بشكلٍ عامٍ، والرواية العربية بشكلٍ خاصٍ خصائصٌ مهمَّة في ضوء تتبع الدراسات اللسانية الحديثة؛ كونه يُعدُّ فنَّاً نثريَّاً يعتمد فعلاً سرديَّاً في الدرجة الأولى على خاصية التخييل الفنِّي أكثر من الجنس النثري السردي الآخر القصَّة.

وذلك لكون مِساحة التعبير الأدبي الفنِّي التي ينتجها الفعل السردي أكثر حُريَّةً واتِّساعاً وتَحرُّكاً لشخوصه زمانياً ومكانيَّاً. وبالأخصِّ يكون ذلك على وجه التحديد إذا كان الفعل السردي فعلاً حدثياً دراميَّاً ساخناً يعتمد كثيراً على فعلية حركية المغامرات المثيرة والغريبة التي تؤهِّله إلى توظيف الأجناس التعبيرية الأخرى السائدة من شعرٍ وقصصٍ وفنونٍ وموسيقى ونصوصٍ تاريخيةٍ وفلسفيةٍ وجماليةَ عالميةٍ وتراثيةٍ دينية وإثنيةٍ ومذهبية عقائديةٍ.

وهذا التنوِّع الشكلي للفعل الحدثي السردي هو ما نجد له أثراً أو مثيلاً راكزاً ودالاً في وقائع رواية (الفبر الأبيض المتوسِّط)، وفي أُسلوبية منتجها التخليقي د. كريم صُبح الذي منحها من روح ثقافته المعرفية الإثرائيَّة المكتسبة وموهبته الذاتية وقدرته الفنيَّة الشيء الكثير الذي يجعلها روايةً ذات طابعٍ سرديٍّ مائزٍ ومكين. وهذا ما تشي به شواهد أعماله السردية الأخرى في الانتاج الفنِّي.

فالدكتور كريم صُبح يخلق من رماد الحدث التاريخي المنطفئ شرارةَ حرائقٍ سرديةٍ مُلتهبةٍ تشتعل من جديد في وهج الواقعة الحدثية الروائية وتنتج منها أثراً لمادةٍ فكريةً وسرديةٍ مخياليَّةٍ أكثر مما هي واقعية تضفي على جماليات السرد القرائي مُتعةً وإدهاشاً ووقعاً نفسياً مؤثِّراً لا يمكن الفكاك عنها إلَّا بعد الانتهاء من قراءتها والاستمتاع بلذائذ موضوعاتها السحرية والفنيَّة الشائقة.

فالانزياح التعبيري والخيال الفنِّي والأُسطوري في العمل الروائي السردي مستلٌّ وقعه التأثيري من صميم الواقع ومن مهيمناته التي لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها تاريخيَّاً وعلميَّاً وإنسانيَّاً، فهي تعدُّ مرجعاً ثقافيَّاً من مرجعياته الأولى. وهذا ما يُميِّزُ طبيعة العمل السردي المحكم الثرِّ الرصين عن غيره الطائر والعابر لرياح الأثر السريع الغابر.

وتأسيساً على ما تقدَّم من مرجعياتٍ ثقافيةٍ مُتعدِّدةٍ، زمانيةٍ ومكانيةٍ وشخصياتٍ وأفعالٍ أخرى كلّها تنطوي تحت عباءة الحدث السردي أو ما يُعرف بالبنية الإجناسية الشديدة التعقيد، وتنسج منه شيئاً نثرياً فنيَّاً راقياً اسمه (رواية)، هي أشبه بالثوب الحريري الناعم، أو الجلباب المطرَّز القشيب الذي يرتديه الشخص الفاعل في أبهى حلةٍ له في نهايات الأشياء الجميلة.

وهذه الرواية بالأساس هي في الحقيقة نصُّ سردي تُقدَّمُ فيه سلسلة الأحداث الحقيقية الواقعية أو المخيالية غير المنظورة أي مرجعيات الأسطرة من خلال فنيَّة التعبير السردي، والتي يلتزم فيها سارد النصِّ السَّردي أو كاتب (الخطاب) بالبنية النموذجية السرديَّة في مراعاة الترتيب الزمني لوقائع الأحداث العامة التي تتعلَّق بمطالع المقدِّمة ثمَّ العرض الموضوعي وتفرعاته الداخلية والخارجية الأخرى، فَوصُوْلَاً إلى خاتمة العمل الروائي الاستكمالية، وكيف انتهت صورتها الكليَّة.

و يمرُّ الحدث السردي في حبكته وصراعه بمراحل تعقيدٍ شديدةِ الأثر في سَيْرهِ الحَدثي المَرحلي، فإنَّه يحتاج في الوقت ذاته إلى مراحل حلٍّ سريعة أوبطيئةٍ لهذا التعقيد الزمكاني الشائك. ويحتاج إلى مناوراتٍ وقُدراتٍ وردود أفعال كثيرةٍ. والخلاصة أنَّ البنية السرديَّة للأحداث هي بنية تكاملية تعتمد على ما فيها من عناصر فنيَّةٍ عامَّةٍ أو خاصَّةٍ، وخاصةً العوامل الوظائفية الثلاثة، (الرغبة والتبليغ والصراع)الحدثي التي أسَّس لها غريماس في ترسيمه بمثلثه الشهير، فضلاً عن كلِّ الفضاءات السرديَّة والأمكنة والمثابات المرتبطة بالحدث في عالم الواقع والمتخيَّل اللَّا مرئي.

ومن يتتبَّع بتأنٍّ شديدٍ أحداث وشخصيات رواية (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ)،سيجدْ كلَّ تلك المؤشِّرات البنيوية بطريقة مباشرةٍ ظاهرةٍ المرجعيات، أو غير مباشرةٍ خفيةٍ قارَّةٍ خلف نُقاب لغة السرد المكينة. ويستطيع أنْ يتلمسها ويتحسَّسها من خلال آليات التلقِّي القرائي والمعرفي الجمالي للمدونة السردية،وعلى وجه الخصوص عنداكتمال قراءة العمل الأدبي السردي والإلمام بكلِّ جوانبه الفنيَّةِ.

وفي المنظور التراثي العربي في الأثر: تُنصَبُ قُدورُ الطعام على ثلاثة أحجارٍ من الأثافي، فإنَّ رواية كريم صٌبح (القَبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ)، أُقيمت زمكانياً على ثلاث مناطق أو مدنٍ عالميةٍ هي، (بغداد، وبطرسبرج، وسيبيريا)، وهذا المثلث المكاني يعني أنَّ الأحداث السردية بدأ الصراع الحركي فيها من العراق، ثمَّ توسَّط في روسيا، وانتهى أخيراً بشاهدة القبر الأبيض المتوسِّط الثلجية في منطقة معزولةٍ قصيِّة من جبال سيبيريا ذلك (المسار العجيب)الذي ذهبت إليه واقعة الحدث السردية مُنقادةً برغبتها الحُرَّة المقدامة تجرُّ أذيالها الحركية دون هوادة أو ترددٍ يغشاها.

وذلك بحثاً عن حُلُمٍ أو أُمنيةٍ أدبيةٍ سرديةٍ روائيةٍ تُخلِّد رائيها في فكرتها المستقلّة عن حلمِ الروائي العالمي دوستويفسكي الذي مات ولم يحقِّق رغبته الكبيرة بعد عشرين عاماً على عمله الأول أو الأخير العظيم (الإخوة كارامازوف) كما مرَّ بنا. وها هو بطل كريم صُبح ونظيره المماهي د. وجدي ساقته قدما القدر إليها، لاستكمال وتحقيق هذا الحلم البعيد المنال الموءود.

فمن بغداد الحاضر والمستقبل بدأ كريم صُبح، أي صنوه ونظيره الظلِّي د. وجدي سير رحلته الأكاديمية العلمية والأدبية التي طلَّقت بالثلاث أُتون التاريخ بقطيعةٍ أسماها أشبه بالعفنة التي لا رجعة فيها؛ فكان الأديب الروائي الروسي دوستويفسكي هو هاجسه الأول ورغبته الشغوف العليا التي ما بعدها رغبة. ولتقارب ما بين الكاتب د. صبح والبطل الهُمام الغالب وجدي كبير جدَّاً:

"وَعَلَى ذِكرِ اِبنِ رُوسيَا الأَعظَمِ، فَقَدْ اِختارَ بَطلُنَا الشَّرقيُّ التَّاريخَ الأَمريكيَّ تَخصُّصَاً أكاديميَّاً، وَاِختارَ الأدبَ الرُّوسيَّ لِيشبعَ شَغفَهُ بِالقراءةِ؛ فَيندِرُ أنْ تَصدرَ قِصَّةٌ أو رِوايةٌ رُوسيَّةٌ -بِلغتهَا الأُمِّ أوْ مُترجمةٍ- مِنْ دُونَ أنْ تَجدَ نِسخةُ مِنهَا عَلَى رُفوفِ مَكتبتِهِ، حَتَّى إنّ إِعجابَهُ بِالأَدبِ الرُّوسيِّ يُمكنُ أنْ يُفسِّرَ تَركيزَهُ عَلَى تَعلُّمِ الرُّوسيَّةِ قِراءةً وَكتابَةً فِي السَّنواتِ الأربعِ الأخيرةِ، فَأجادَهَا وَصارَ لَا يَقرأُ إِلَّا بِهَا، وَلكنْ لَمْ يَكُنْ بَينَ القَصاصينَ وَالرِّوائيينَ الرُّوسِ مَنْ هُوَ قَريبٌ إِلَى نَفسِهِ إِلى حَدِّ الإِعجابِ غَيرِ المَعقولِ، أَكثرَ مِنْ دُوستويفسكي نَفسِهِ،؛ وَكثيرَاً مَا عللَّ ذَلكَ أَمامَ مُستمعيِهِ بِأنَّهُ (أَيقونَةُ السَّردِ الرُّوسيِّ)، وَ (رُوحُ الوَجعِ الكَامنةِ فِي الفَردِ الرُّوسيِّ)...". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 7).

فمثل هذه الإشارة النصيَّة تُشير موحياتها الدلالية إلى التقارب ما بين الكاتب العليم وبطله من الناحية الفكرية والعلمية والعقيدة الآيدلوجية والنفسية والحبِّ والرغبة واتقان لُغة البلد اللَّذينِ أحباه وأحبَّا دوستويفسكي كلاهما فكراً وعقيدةً وإبداعاً وسيرةً لا مناص منه في الرحلة الأدبية هذه.

إنَّ هذا التقارب الفكري والمعرفي والتماهي النفسي والتناهي العملي الظلِّي بين الكاتب المتقاعد الدكتور وجدي وظلِّه الحُلُمي الأدبي قاده إلى: "خُطوتهِ الثَّانيةِ العَتيدَةِ هِيَ العُثورُ عَلَى فِكرةٍ تَصلحُ أنْ تَكونَ أوَّلَ رِوايَّةٍ لَهُ، رِوايةٌ قَدْ تَجعلَ مِنهُ رِوائيَّاً فَحسبُ، أوْ رِوائيَّاً مَشهورَاً مِثلُ كًويلو! وَهلْ هَذَا أمرٌ هَيِّنٌ؟ ثُمَّ أيُّ مَوضوعٍ سَيختارُ؟ عَمَّنْ تَحديدَاً سَيكتبُ؟". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 17).َ

من هنا اطلقت رحلة وجدي إلى عالمه الخاص الذي طلَّقَ الجامعة من أجله واختار حياةً جديدةً: "مِن مَصلحتِي طَبعَاً الإبقاءُ عَلَى فِكرةٍ لَروايةٍ مُتَّقدةٍ فِي ذِهنهِ، زَيَّنتْ لَهُ فِكرةَ السَّفرِ إِلَى مَدينةِ بَطرسبرجَ دُونَ غَيرِهَا، سَهَّلَتْ عَليهِ أنْ يَتخذَ قَرارَاً عَاجلَاً بِذلكَ: ضَربَتُ عَلى وَتَرِ فِكرتهِ المُتمرِّدةِ وَحبِّهِ لِدوستويفسكي، أَوحيتُ لَهُ أنَّه سَيعثرُ عَلَى فِكرتِهِ هُناكَ، فَصَاحبُهٌ دُوستويفسكي هُوَ بِنفسِهِ مَنْ سَيَدُلُّهُ عًليهَا". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 24، 25).

هذه هي شرارة الفكرة التي قدحت له بذهنه وبنى عليها كّلَ أحلامه ورغائبه وآماله العِظام بأنَّ صاحبه سيحقِّق له رغبته الحلمية. على الرغم من أنَّ زوجته مرام هي التي اقترحت عليه فكرة السفر دون تحديد الدولة التي يرغب بالسفر إليها، وهو من كان صاحب القرار المقدام النهائي في اختيار مدينة (بطرسبرج)؛ لأسباب زمانية وتاريخية وأدبية؛ كونها مدينة دوستو يفسكي التي كتب فيها أعظم وأكثر رواياته، وورد ذكر هذه المدينة العظيمة الكثير في صفحات رواياته الشهيرة:

"ِاستقَّلَ سَيَّارةَ أُجرةٍ مِنْ المَطارِ وَتعرَّفَ بِسائقهَا دِيمترِي الطَّويلِ القَامَةِ وَالضَخمِ الجُثَّةِ المَفتولِ العَضلاتِ هَذَا، ذُو الشَّعرِ الذَّهبيِّ وَصَاحبِ الوَجهِ البَشوشِ دَائمَاً، أَدهشَهُ أنْ السَّائِحَ الغَريبَ يَعرفُ مَا يُريدُ، فَهوَ يَتحدَّثُ بِلغتهِ كَأنَّهُ أحدُ أَبناءِ مَدينتهِ وَلَمْ يَطلبْ مِنهُ تَرشيحَ أَحدِ الفَنادقِ لِيُقيمَ فِيهِ كَمَا يَفعلُ أَغلب مَنْ يَجلبَهُم مِنَ المَطارِ؛ بَلْ حَدَّدَ وِجهتَهُ بِالضبطِ وَهوَ يَركبُ جُوارَهُ (فُندقُ سِتيفي نيفسكِي)، وَفِي الطَّريقِ تَوَطَّدتْ عَلاقتَهُمَا،[...]". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 27).

ومن يتأمَّل هذه الدفقة السردية بين البطل العراقي وجدي والسائق ديمتري (البطرسبرجي)، سيقرأ هذه المرجعية الثقافية التي ألَّفَت بينهما صنيعة الكاتب د. كريم صُبح، وكأنَّه من أهل هذه البلدة يعرف خارطتها الجغرافية والثقافية والمكانية بشكل أكثر من هذا السائق المرشد للسائحين. وهذا يشي أنَّك أمام كاتب عجن طحين روايته بسردياته المذهلة واستلَّ من ذلك العجين المطحون خبز صنعته الفنيَّة المدهشة بأنواع شتَّى من ثمار تلك السردية المخبوزة بخميرة الماهر بسرد عجينه.

الأمر الذي منح القارئ والمتلقِّي الواعي بحبوحة التأمُّل والتَّفكُّر في طبيعة هذا السرد السيري المُحبَّب للنفس الإنسانية الأمارة برغائب الحب والاستجداد الثيمي الموضوعي الغرائبي النادر:

"اِندهَشَتْ تَاتيانَا مِنْ هَذَا العِراقيِّ وَمِنْ لُغتهٍ الرُّوسيَّةِ السَّليمةِ، قَبلَ أنْ تَنصتَ بِاهتمامٍ إِلَى دِيمترِي وَهوَ يُحدثُهَا عَنْ نَزيلِ فُندُقِهَا الجَديدِ بَعدَ صُعودهِ إِلَى حُجرتهِ، وَكَيفَ أنَّه يَعرفُ عَنْ رُوسيَا وَعَنْ بَطرسبرج أكثرَ مِمَّا يَعرفُ هُوَ؛ وَرُبَّما حَتَّى أكثرَ مِنهَا هِيَ نُفسُهَا، وَكيفَ جَاءَ مُسلَّحَاً بِشهادةِ دُكتوراهٍ فِي التَّاريخِ، وَبِشغفٍ لَا يُجارَى فِي الأَدبِ؛ حَتَّى أنَّهُ أَحصَى عَدَدَاً كَبيرَاً من أَسماءِ الكُتَّابِ الرُّوسِ". (القَبرُ الأَبيضُ المُتوسِّطُ، ص 29 ).

فمثلُ هذه المرجعيات الثقافية التي تسلَّحَ بها الدكتور وجدي واكتنز بها معرقياً وثقافياً تؤكِّد العلاقة الوشيجة بينه وبين كاتبه الدكتور كريم صُبح الذي بدأ وهج التاريخ عنده متراساً دفاعياً مُحكَمَاً في روايته الأولى (الوجه الآخر للضباب)،تلك الرواية التي استمدَّت أحداثها أيضاً من تاريخ روسيا، ومن عقيدتها الآيدلوجية، وما يمكن أنْ يكون هذا البطل (المُثقَّف) بهذا المستوى الثقافي المرجعي الواسع الكبير من العلمية والمعرفية ما لم يكن كاتبه العليم السارد من شغف بروسيا وبطرسبرج وقياصرتهما ودوستويفسكي وأدبائها الرُّوس، واهتم بما بعده في الميتا سرد الحداثوي.

إنَّ وتيرة الأحداث المتسارعة تكشف مرجعياتها عن سرِّ عَلاقةٍ وثيقةٍ بين هذا الأستاذ العراقيِّ المتقاعد وبين تاتيانا ابنة صاحب الفدق السيِّد (لِف فالنتين)، تلك العلاقة التي ليس لها مثيل في الإعجاب برجل شرقيٍّ مثلَ وجدي هذا الذي أصبح ماركة مسجلةً فارقةفي لائحة السائحين العرب:

"وَلكنْ ثَمَّةَ مَا شَغَلَ تَفكيرَهَا المُستقلَّ فِي الأيامِ الأَخيرةِ، إنَّهُ هَذَا الأُستاذُ الجَامعيُّ المُتقاعدُ، نَعم هُوَ يَكبرُهَا سِنَّاً؛ لَكنَّهُ لا يَكادُ يُشبهُ أحدَاً مِنْ نُزلاءِ فُندُقِهَا مِنْ عَربٍ وَأجانبَ، فَهوُ يَتحاشَاهُم جَميعَاً تَقريبَاَ، كَمَا يَهمُهَا لَيستْ عُزلتُهُ، فَذلكَ شَأنَهُ، لَمْ يَخفِ عَليهَا أنَّ نَزيلَ فُندُقِهَا الجَديدِ لَمْ يَطلبُ شَرابَاً كُحوليَّاً مَثلَاً، وَلمْ يَنغمسْ مَعَ نِساءٍ رُوسيَّاتٍ فِي مُتَعٍ مَألوفةٍ فِي الفَنادقِ كَفُندُقِهَا نَفسِهِ" (القَبرُ الأبيضُ الُمتوسِّطُ، ص 35).

إذن المرجعيات التي تقرؤها عن د. وجدي أنه نزيل مغاير في ثقافته وشخصيته عن الآخرين التي رسمها الكاتب له، وفارقة التميُّز والانبهار في معرفة شخصيته للآخر الذي التقت به وأحبَّها، ولا يمكن أن تعرف مثل هذه الشخصية المثقَّفة إلَّا من خلال كاتبها التي رسمها له بعنايةٍ واقتدارٍ.

اتاحت فترة بقاء البطل وجدي في مدينة بطرسبرج إليه التعرُّف على معالمها الحضارية ولثقافية والتاريخية، ومنحته فرصة زيارتها والوقوف على آثارها وقصورها وكنائسها ومعابدها. والأكثر من ذلك زيارة كل ما يمتُّ بصلةٍ إلى إرثِ صاحبه دوستويفسكي والوقوف على لُقى آثاره الأدبية؛ وذلك من خلال الرسالة التي كتبها تولستوي عنه وقرأها البطل وجدي عن صاحبه دوستويفسكي:

" بَعدَ مُوتِهِ أَدركَتْ أَنَّهُ كَانَ أقربَ إِنسانٍ إِلَى نَفسِي، وَإنْ كُنتُ لَمْ أرهُ أبدَاً، كُنتُ أَتمنَّى رُؤيتَهُ... لَكنْ هَذَا لَمْ يَحدُثْ لِسببٍ بَسيطٍ؛ إِنَّهُ ماتَ، إنَّ مُؤلَّفاتِ دُوستويفسكِي وَذكاءَهُ الحَادَ يُثيرانِ فِي دَاخلِي حَالةً مِنَ الغَيرَةِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 61).

ولم يحصل الدكتور وجدي على ضالته في بارقة الأملٍ لكتابة فكرة روايته الأولى التي انتظرها كلَّ هذه المدَّة، وتشاء ظروف جائحة كورونا عام (2019م ( فتحاصره في شهر نيسان بمدينة بطرسبرج واضطراره إلى البقاء فيها مدَّةً أكثر انتظاراً على أمل العودة لبغدادَ، التي لم يتواصل معها إلَّا بالاتصال هاتفياً مرَّةً أو مرتينِ مع زوجته مَرام وولده وائل، ولم يتحدَّث عن أثرها ببغدادَ.

بيدَ أنَّ الأمورَ تأخذ مسرىً آخر للأحداث السرديَّة، فيلتقي خلال مدَّة بقائه في الفندق بالسيِّدة المُبجَّلة بافلوفنا زوج كبير الشامانات - كما مرَّت في الحديث- في سيبيريا غيرَّتْ فكرة عودته إلى العراق، ومن ثم التوجُّه إلى بلدها سيبيريا لتحقيق رغبته ورغبتها الحقيقية؛ كونها تخفي في مرجعياتها الثقافية الفكرية والروحانية المضمرة أمراً مهمَّاً، وهو الحصول على كتاب المخطوط الشامني الأول محطُّ عنايتها الذي جاءت عنوةً من أجل العثور عليه في فندق تاتيانا، ورُبَّما الثاني.

وقد التقت بافلوفنا بالدكتور وجدي الذي سيطرت على مشاعر تفكيره من أجل قضيتها وسارت قُدُماُ في مهمَّة استحضار الأرواح لتثبت قدرتها الروحانية في استدعاء روح دوستويفسكي التي يتوق وجدي إليها من أجل بغيته الفكرية والذاتية في الوصول لعصره ليملي عليه فكرة الرواية:

" أَولُ مَرَّة تُحاولُ إِثباتَ قُدرتِهَا أمامَهُ هُوَ بِالذاتِ وَتَفشلُ عَلَى نَحوٍ مُخْزٍ، التَوترُ وَالعصبيةُ بَاديانِ عَلَى وَجهِهَا بِكُلِّ وَضُوحٍ، وخجلُها مِنهُ وَتَحرُّجُهَا أمامَهُ! الأمرُ أَفضعُ، عَادتْ إِلَى كُرسيِّهَا وَنفادُ الصَّبرِ غَالبَهَا، سَألتْهُ بِلهجةٍ أَقربَ إِلَى الصُرَاخِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 105).

فشلت كلُّ عمليات الاستحضار التي قامت بها الوسيطة الروحانية بافلوفنا لغايات بعيدةٍ؛ وذلك لكون دوستويفسكي كان لا يحبُّ استحضار الأرواح في حياته، وخاصةً في جلسات استحضار الأرواح التي يقيمها الآخرون، والتي كان يحضرها. ومع ذلك الفشل في الاستحضار فشلت فكرة الرواية التي كان يظنُّ الدكتور وجدي إمكانية الحصول عليها خلال استحضارروح صاحبه زمنياً:

"أظنُّ، بَلْ أنَا مُتيَقِّنُ مِنْ أَنَّ صَاحبِي فِي حَياتِهِ رَفضَ عَملياتِ اِستحضارِ الأَرواحِ القَائمةِ عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ فِي بَطرسبرج آنذاكَ، بَلْ اَنكرَهَا وَسَخِرَ مِنهَا عَلَى رُؤوسِ الأشهادِ، بِطريقةٍ مَا عَرِفَ أَنَّهُ رَفَضَ بَعدَ مَمَاتِهِ اِستحضارَ رُوحِهِ هُوَ نَفسُهُ[...] هَذَا هُوَ السَّببُ فِي عَدمِ حُضورِ رُوحهِ، أَلَا تَعلمُ أنَّ مَنْ لَا يُؤمنْ بِاستحضارِ الأرواحِ، لَا يُمكِنْ، بَلْ مُحالٌ اِستحضارُ رُوحِهِ مَهمَا حَاولنَا؟". ذَلكَ الأمرَ مراتٍ ومرَّات أخرى. (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّط، ص 106).

إنَّ عدم استحضار روح كاتبه العظيم، وفشل طقس الاستحضار دعا السيِّدة بافلوفنا إلى استحضار روح أُخرى لكاتب آخر له صلة وثيقة، وعلاقة مباشرةٌ به، ومع عصره مثل (كافكا السوداوي):

"لأنَّنِي أظنُّ أنَّ كَافكَا أَساءَ فِي حَياتِهِ إِلَى كَاتبِي المُفضَّلِ؛ اِتَّهمَهُ بِعدَمِ الأصالةِ فِي صَفحتينِ مِنْ كِتابهِ (رَسائلَ إِلَى مِيلينَا)، المَفروضُ أنَّه كِتَابٌ لَا يَضمُّ سِوَى رَسائلِ شَغفٍ ذَروتُهُ إِلَى حَبيبتِهِ، وَمَعَ ذَلكَ حَشَرَ كَافكَا السَّوداويُّ اِسمَ دُوستويفسكي حَشرَاً، وَتجَنَّى عَليهِ مِنْ دُونَ وَجهِ حَقٍّ؛ كِتابُهَ صَدَرَ بِالألمانيةِ أولاً؛ ثُمَّ بِانكَليزيَّةِ [ثانياً]، وَبِالعربيَّةِ ثَالثاً،عَرفتُ بِإساءتهِ مِنَ النِّسخةِ العَربيَّةِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص107).

لقد تَمَّ استحضار روح كافكا ومُزِّقَتْ الصفحتان اللَّتان أساء فيهما كافكا إلى دستويفسكي، على الرغم إنَّهما عن حبيبته ميلينا كما يُصرِّح كافكا بذلك؛ لكنْ ما في الأمر من خفاء مبطن يضمره كافكا له. وفي غمرة مضي الأحداث وتعاقبها يسأل وجدي السيِّدة المُبجَّلة، مَنْ تكون؟ فتجيب بأنَّها زوج كبير الشامانات وكبيرتهم بعد وفاته، ومهمتها تنحصر في العثور على المخطوط الثاني المكمَّل للمخطوط الأول الذي بحوزتها بأي ثمن كان،ومهما كلف الأمرذلك من عواقب وصعوبات:

"المَهمُّ أنَّ مَنصبِي حَتمَّ عَليَّ المُضِيِّ فِي البَحثِ عَنْ المَخطوطِ، أرسلتُ (شَاماناتِ) إِلَى أَماكنَ مُختلفةٍ مِنْ بِقاعِ رُوسيَا، بِدايةً مِنْ هُنَا بَطرسبرج؛ لَكنْ عَبثَاً كُلُّ هَمِّي كَانَ العُثورُ عَليهِ وَضَمِّهِ إِلَى المَخطوطِ الآخرَ الَّذي أَحوزُهُ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 117).

جرت الأمور في مرجعياته الثقافية البعيدة على مرام تفصيل السيِّدة المبجِّلة؛ لكون مصلحتها في العثور على أثر هذا المخطوط الثاني تقتضي الارتباط مع مصلحة البطل وجدي الباحث عن الفكرة الروائية ومرافقته لديارها في سيبيريا ذلك البلد العجيب الذي يحمل في طياته الغرائب والأسرار:

"- وَأينَ هِيَ دِيارُكِ؟ تَعلمينَ أنَّنِي تَحرَّجتُ مِنْ سُؤالِكِ عَنهَا، شَعرتُ أنَّكِ تَتَقَصدِينَ عَدمَ الإِشارةِ إِليهَا، عَلَى كَثرةِ أحاديثَنَا اليَوميةِ. -إنَّهَا أَرضُ العَجائبِ والغُموضِ، سِيبيريَا الحَبيبَةُ، وَمَا أدراكَ مَا هِيَ سِيبيريَا! هِيَ مِنْ جَديدٍ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 123، 124).

وتصل عجلة السرد الحكائي الروائي إلى سيبيريا الغموض؛ لنتعرَّف على كوامن مرجعياتها الثقافية بين ثنائي الرحلة (بافلوفنا ووجدي)، وهذا ما يسجِّله الكاتب الروائي العليم د. كريم صُبح في تماهيه مع بطله وتقديم محاضرته السردية التاريخية لطُّلابه إذ يقول لهم في تقريب هذا الأمر:

"أَسمعُها دَاخلَ مَقصورتِهُما وَهُمَا يَتناقشانِ بِشأنِ دَورِ سِيبيريَا فِي حَياةِ دُوستويفسكي، أنَا مِن ْنَاحيتِي أُؤيدُ رَأيَ الدُّكتورِ وَجدِي، فَمَنْ غَيرِ دُوستويفسكِي يَجرؤ عَلَى اِستهلالِ رِوايتِهِ بِاسمِ سِيبيريَا؟ لَكنَّنِي أَشيرُ هُنَا إِلَى المَخطوطةِ الأتيةِ الَّتِي سَجلتُهَا وَأنَا فِي طَورِ جَمعِ المَعلوماتِ عَيلهُمَا كِليهمَا، أَقصُد دُوستويفسكِي وَسيبيريَا، فَلمْ يَبسقنِي أَحدٌ حَتَّى الدُّكتورُ وَجدِي نَفسُهُ[...] يَا لَهُ مِنْ دُوستويفسكِي هَذَا الَّذِي جَلبَ خَمسينيَاً مَعَاً إِلَى بَطرسبرجَ ! ثُمَّ هُوَ وَالسيِّدةُ المُبجَّلةُ وَأنَا فِي قِطارِنَا إِليهَا، سِيبيريَا الحَبيبةُ تِلكَ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسطِّ، ص 130).

حقيقةً هذا التسريد الاعترافي المهمُّ هو ما أقرَّته مرجعيات الكاتب د.صبح لِطلِّابه وبيان صلته بالاثنين شخصاً ومكاناً وكأنه يلقي محاضرةً على طلابه لسرد مذكراته عن دوستويفسكي وعن سيبيريا التي ستكون مكاناً لظلِّه الحيِّ الميِّتِ واتكونَ شاهدة زمنيةً تاريخية لقبره الأبيض المتوسِّط.

وبعد مضي أكثر من ثمانية أيامٍ كاملةً بلياليها في رحلة قطار طويلةٍ مُضنية إلى أرض سيبيريا ومن ثم الوصول إليها، وبقاء وجدي أسبوعاً كاملاً بعيداً عن السيِّدة المبجلة بافلوفنا، وقيامه -على أثر غيابها الغامض واعتكافها المتتابع- بجولةٍ إلى المدينة ومشاهدة أهلها وزيارة بيوتها وقراها الريفية ومصنعها الأهلية البسيطة، واللِّا قاء بوجهائها وأُناسها العاديينَ من وذوي القدرات العجيبة.

وتصل أحداث وقع الرواية السرديَّة إلى قِمتها وتكشف عن كوامن تمظهراتها الغريبة والعجيبة التي قام بها البطل د. وجدي. إنها السفر إلى الزمن الماضي عبر عصور خلت برموزها وإبداعها:

"لَوْ سَمحتَ دَعنِي أَكونُ مُتيقنةُ مِنْ قَرارِكَ عَلَى نَحوٍ وَاضحٍ، هَلْ أَنتْ مُستعدٌ لِلعودةِ إِلَى عَصرِ دُوستويفسكِي وَتَعيشُ مَعهُ بِعددِ السَّنواتِ الَّتي عاَشهَا فِي حَياتِهِ الدُّنيويةِ مِنْ سَاعةِ وِلادتِهِ إِلى سَاعةِ مِمَاتِهِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 178).

هكذا كان ووجدي بين قاب قوسن أو أدنى من التراجع عن الطقس الذي ستُجرِّبهُ السيَّدة المبجَّلة، وليس من مفرٍّ آخر سوى القبول بفرضية إجراء الطقس الشاماني الثلاثي الذي سَيُقرِّر مصيره الروحي الذاتي في أنْ (أكونَ أو لا أكونُ) صاحب القرار الحاسم للأمركما قالها هاملت من قبله:

"لَا أَظنُّ أنَّ ثَمَّةَ هنَّاتٍ مُمَيتةً فِي الطَّقسِ الَّذي أَديناهُ، بَلْ لِرُبَّما حظّهُ العَاثرُ... عَلَى مَا يَبدو0". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 240).

هذه هي النهاية الحتمية للدكتور وجدي الذي أسلمَ روحَهُ وجسده لفكرة الرِّواية الأولى له والتي لم تكتب بعد، حتَّى استحالت الأمور إلى المكان أو الوضع الذي دُفِنَ فيهِ الدكتور وجدي بين جبال سيبيريا وثلوجها، والذي عرف بـ (لقَبُر الأبيضُ المُتوسِّطُ) وَضمَّ رفاته، بل كان ظلَّه وشاهدة قبره، إنَّه هو قتيل صاحبه المفضَّل عظيم الشأنِ دوستويفسكي الذي يعدُّ آخرَ مَرجعٍ من مرجعيات الرواية االسردية الفنتازية لعجيبة التي امتثل بها الكاتب كريم صبح من خلال شخصية بطله د. وجدي.

5- المَرجعيَاتُ اللُّغويَّةُ لِسرديَّاتِ الرِّوايَةِ:

إذا كانت المرجعيات الثقافية الأربع السابقة هي مرجعيات تصبُّ بالدرجة الأولى في خانة العناصر الفنية للرواية؛ فإنَّ المرجع الثقافي الخامس يصبُّ في خانة اللُّغة السردية بشكلٍ خاصٍ، ويميِّز أسلوبيتها التعبيرية. فمن هذا المنطلق الثقافي يُعدُّ النصُّ الروائي (القَبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ)، لِكريم صُبح بشكلٍ خاصٍ والخطاب الروائي القَصَّي بشكلٍ عامٍ بأنَّه خطابُ نصٍّ لغوي في المقام التعبيري السردي الأوَّل:

لكونه ينماز بجلال نسقه المتفرِّد ومغايرته في إيقاع أسُلوبه التعبيري الفنِّي المتناسب بين تقنيات السرد ولغة الحوار الدَّرامي السَّردي للأحداث والتوصيف والتعريف والمناجاة. ويحدث كل ذلك التمايز من خلال لغته السحرية الماتعة التي تُهيمنُ عليها لغة التشعير النثري، تلك الوظيفة اللُّغوية الجمالية التي تؤدِّي دورها الفاعل المتميِّز بين عناصر الفنِّ الروائي الأساسية الأخرى بشكلٍ لافتٍ للنظرِ غير مملٍّ أو ممقوتٍ . بل على العكس من ذلك يشعر معها القارئ بالراحة النفسية التامَّة.

وعلى وفق ذلك المنظور الثقافي سعى بجديَّةٍ الكاتب كريم صُبح في مدونته الروائية (القبرُ الأبيضُ المتوسِّط) إلى اختراق البنية التقليدية الساقية العامة للرواية وتحطيمها نسقاً مألوفاً للقارئ؛ وذلك بِدْأً من الوحداتِ الزمانيةِ والمكانيةِ والشخصيات الفواعلية والحدثية الفعلية، وانتهاءً بحلِّ عقدتها الصراعية التركيبية، لتحتفظ مقابل كلِّ تلك العناصر بعنصر المرجعيات اللُّغويَّة للرواية.

وهذا التوصيف الفنِّي التعبيري هو ما يميِّز لغة عمل سرديات مصنَّف (القَبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ) الخطابي عن غيرها من السرديات الروائية في تعدُّد بوصلة مرجعياتها اللُّغوية السرديَّة المُتشابكة صعوداً وهبوطاً وشرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وهرماً وقاعاً وعمودياً وأفقياً في كلِّ الاتجاهات.

فمن يقرأ نصوص رواية (القبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ) بعين نقديةٍ ثاقبةٍ ويتفحص بتمعنٍ سطور لُغتها السردية جيِّداً، سيعثر بوضوح ٍعلى ذلك التعدُّد اللُّغوي المتماسك بين محطَّات عناصرها الفنيَّة المتوحدنة بشكلٍ ماثلٍ بين محتويات سطورها وأحداثها التاريخية والأدبية والروحانية والسِّيريَّة.

وستقرأ خطاباً سردياً جدليَّاً يجنح في إيقاعه الأُسلوبي اللُّغوي وفي سرود مرجعياته النسقية إلى السرد التاريخي الموثَّق عالمياً، ويميل تارةً في لغته إلى السرد الأدبي والشعري الثقافي، وتارةً يميل إلى سرد أدب الرحلات العالمية، وتارةً أخرى إلى مرجعيات السرد الثقافي الروحاني، وتارةً أخيرة إلى سرد الرموز والشخصيات المؤثِّرة عالميَّاً في صناعة الأدب والشعر والفنِّ والجمال والموسيقى، فضلاً عن سرد الأماكن والمثابات والصروح الرمزية العالمية والثقافية والحضارية.

جميع تلك المسرودات الثقافية في الرواية تقع تحت عباءة اللُّغة الفكرية القارَّة سرديَّاً، والتي هي أساس كل عمل فني مُميَّز في بنيته السردية العامَّة والخاصَّة، ليس بعناصره وآلياته الفنيَّة يكتمل تَمايزاً ومُغايرةً فَحسب، وإنَّما بفنِّ جماليات إيقاع لغته التعبيرية الراكزة وأُسلوبه شكلاً ومضموناً.

فهذا يعني أنَّ لكلِّ قاصٍ أو ساردٍ له معجمه اللُّغوي التسريدي الذي يُميز بَصمته السرديَّة، فَيُقال هذا أسلوب فلانٍ من الكُتَّاب والمبدعينَ؛ لأنَّ الأُسلوب هو الكاتب كما يعبر عنه بوفون الفرنسي. فحين تبحث عن أسلوبية كريم صُبح في أعماله القصصية والروائية تجدها لغةً سرديَّةً تاريخية بامتياز؛ لكنَّها متنوِّعة مُغايرةٌ لا تشعر معها وتحديداً في هذه الرواية بأيٍّ إملالٍ أو ثقلٍ أو نفورٍ يبعدك عن مسرودات أسلوبيتها الحكائية الشائقة الماتعة فنيَّاً ونفسياً وجماليَّاً:

"أَطالَ الوُقوفَ عِندَ رُفوفِ مَكتبهِ، ألفتُهُ كُتبُها التَّاريخيَّةُ فِي أُتُونِ ثَورةٍ دَاخليَّةٍ جَعلتُهُ يَصيبُ لَعناتِهِ عَلَى التَّاريخِ، وَلِماذَا ذَلكَ كُلَّهُ؟ لَأنَّ التَّاريخَ -فِي حقيقتِهِ- عَفنٌ وَذَاكرةُ أحقادٍ وَرِثَتْ مِثلمَا تُورَّثُ الأراضِي وَالقُصورُ، وَلَيسَ هُوَ وَحدَهُ، لِيذهبَ هُوَ وَأبوهُ إلَّى الجَحيمِ، إذنْ تُعسَاً وِبِئسَاً لَهُمَا". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّط، ص 5)0

فعلى الرغم من حبَّه الأثير للتاريخ وهو اختصاصه المتفرِّد شخصياً به، فإنَّه ينتقد إسقاطات التاريخ الكبيرة وهنَّاته غير الواقعية، ويلعنه لعنةً أبديةً لما فيه من إجحاف وظلمٍ بحقِّ الإنسانية التي تُورِّث ولا تلتفت لحقوق الآخرين. فها هو كريم صُبح يورد لنا نصَّاً إشهاديَّاً عن مساوئ التاريخ، وعن أناسه السيئين في القَصاصة الثالثة من قصاصات بطله:

"إنَّ التَّاريخَ قَائمٌ كُليَّاً عَلَى هَؤلاءِ النَّاسِ السَّيئينَ الَّذينَ يُكرسونَ أُناسَاً لَحينَ فِيمَا بَعدُ" (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 9).

لم يكن الحديث عن نوازع التاريخ وإسقاطاته الكثيرة مُستقلاً بذاته في سردياته الروائية، بل قد نجد أنَّ الدكتور كريم صُبح قد يجمع ما بين تمظهرات التاريخ بأطواره الزمكانية، والأدب بأجناسه الثقافية والأدبية، كما هو الحال والمُحال الزمكاني في حديث بطله د. وجدي الذي أخذ يُصرِّحُ بـ:

"أنَّ َتوقيتَ بَطرسبرجَ مُطابقٌ لِتوقيتِ بَغدادَ، كَمَا اِكتشفَ أَيضَاً أنَّ عَاصمَةَ القَياصرةِ الرُّوسِ هِيَ مَكانُ جَميعِ الرِّواياتِ تقَريبَاً الَّتي كَتبَهَا دُوستويفسكِي، حَتَّى قِيلَ يَومَاً إنَّ (بَطرسبرجَ قَبل الثَّورةِ البَلشفيةِ هِيَ مَدينةُ دَوستويفسكي) ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّط، ص 25).

ولم يقف عند هذا، بل راح يُردِّدُ عدَد مرَّاتٍ ذكر بطرسبرج في روايات وقصص دوستويفسكي، (الشياطين، والأبله، والزوج الأبدي، و ونيتوتشكا نيزفانوفا، والوديعة وحادث مؤسف للغاية، والفقراء، وفي سردابي، والإخوة كارمازوف، وحُلم العمِ، والشبيهُ، والجارةُ، ومذكراتٌ من البيت الميِّت، ورسائلهُ).وقد ورد ذكر مدينة بطرسبرج في جميع رواياته وقصصه بنحو (584) مرَةً. فما هذا الشغف الأدبي بنتاج دستويفسكي وبتاريخ إرثه الأدبي العالمي الكبير، إنه الحبُّ الخالص له:

"يَكفِي أنَّه يَقعُ فِي شَارعِ نِيفسكي، وَلَا يَهمنِي هُنَا أنَّ الأخيرَ أكثرُ شَوارِعِ مَدينتِكُم شُهرةً، بل أنَّ أيقونتَكُم وكَاتبِي الفَريدَ دَائمَاً، أَشارَ إِلَى الشَّارِع بِاسمِهِ الصَريِحِ مِرارَاً فِي رِواياتِهِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 28).

هذا الحبُّ الفريد لكاتبه دستو يفسكي يُصاحبه تقطيرٌ مماثل لمدينة بطرسبرج ولتاريخها الطويل:

"بَعدَ مِئتِي سَنَةٍ تَمَّ تَغييرُ اِسمِهَا إِلَى (بِترو غَراد) نِسبَةً إِلَى مُؤسِّسِها بُطرسَ نَفسِهِ، اِنتَهَى عَهدُهَا بِصفتِهَا عَاصمةُ لِلدولةِ الرُّوسيَةِ وَأصبحَ اِسمُهَا (لِينين غراد) نِسبَةُ إِلَى زَعيمِ الثَّورةِ البَلشفيَّةِ لِينين، مَعَ ذَلكَ، صَاحبَ الاِنهيارَ المُدَوِّيَّ لِلاتَّحادِ السُّوفيتِي تَصويتُ أَغلبيةِ سُكَّانِ المَدينةِ عَلَى اِستعادَةِ اِسمِهَا التَّاريخِي (سَانت بِطرسبرج) ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 31).

فهذا الثراء المعرفي والحبُّ لتاريخ بطرسبرج العريق ولمسمياته المتعدِّدة يشي بأنَّ كريم صُبح (د. وجدي) هو في الحقيقة أنموذجَاً مثاليَّاً حيَّاً لصورة لأُستاذ العلمي والأكاديمي والمثقَّف الحقيقي المثابر الذي يعي ما عليه من ثقافةٍ وينظر إلى مالَهُ من واجبات تجاه هذه الثقافة المعرفية والفكرية.

إنَّ هذا الهجس التاريخي في حبِّه لكاتبه المفضَّل ولبطرسبرج، لم ينسِهِ أبداً ذكر مدينته الأُمَّ بغداد في رحلته التاريخية لبطرسبرج التي فتحت له آفاقاً تاريخية في مشروعه الثقافي الفكري الروائي:

"كَانَ وَحدَهُ تَحتَ وَطأةِ إِحساسٍ أنَّهُ إنسانٌ جَديدٌ تَرَكَ كُلَّ مَا يُثقلُهُ هُنَاكَ، فِي بَغدادِ، وَبَدَا مُستبشرَاً فِي مُحيَاهِ أَكثرُ مِنْ أَملٍ، ولَا سِيَّمَا الإمساكُ بِفكرتِهِ العَتيدةِ الَّتي عَادتْ تَطرق جُمجمتَهُ كَمَا كَانتْ تَفعلُ فِي بَغدادَ...". (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 32).

إنَّ إجادة البطل وجدي للُّغة الروسيَّة سهَّلَ له زيارة معالم روسيا وبالذات مدينة بطرسبرج التاريخية والحضارية والفكرية وأديرتها ومعابدها وكنائسها ومقابرها التاريخية العريقة التي ارتبطت بأسماء مؤسسيها من عظماء الروس ومفكريها ومبدعيها وأبطالها ورموزها التاريخيين:

"لِكنيسةِ القِديسِ الكسَندر نِيفسكي فِي بَطرسبرِج مَنزلةٌ خَاصَّةٌ فِي نَفسِي، إِذْ أنَّ مُقبرتَهَا تَحتوِي عَلَى رُفَاتِ المَرحومِ زَوجِي فيودو دوستويفسكي، وإذَا جَاءَ أَجلِي فَعسَى أَنْ أُدفنَ إِلَى جَانبِهِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 41).

هذا النصُّ التاريخي المُذكَّراتي الموثَّق معرفيَّاً والذي نقله الكاتب د. كريم صُبح ليس لبطل روايته وجدي، وليس له بالذات، وإنما منقول عن زوج دوستويفسكي الكاتبة المعروفة بـ (آنا غريغوري). ولم يكتفِ د. صُبح بنقل النصوص الأدبية والتاريخية عن دوستويفسكي وزوجته، وعن كنيسة نيفسكي، بل راح ينقل لنا نصوصاً دينيةً من مرجعياتها ومصادرها الأصلية من الكتاب المقدَّس (العهد الجديد)،النصّ الذي كان مكتوباً إلى جنبي شاهدة قبر دوستويفسكي والمنقوش عليها اسمه مع هذه العبارة المأثورة دينيَّاً:

"الحَقُّ أَقولُ لَكُم؛ مَا لَمْ تَسقطْ حَبَةُ قَمحٍ فِي الأَرضِ وَتَموتُ؛ فَإنَّهَا تَبقَى وَحدَهَا؛ لِكنْ إِنْ مَاتَتْ تَأتِي بِثَمَرٍ كَبيرٍ" . (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص42 ).

إلى جنب هذه المرجعيات اللُّغوية الثقافية، ورد ذكر موسيقار روسيا الأول بيتر تشايكوفسكي المعاصر لفيودور دوستويفسكي وصاحب سمفونيات (بُحيرة البجعِ) و، (كسارة البندق)، و (الأميرة النائمة). وذكر أسماء المسارح العالمية كمسرح (البولشوي) في موسكو التي لا تخلو من موسيقاه:

"وَقَدْ عُرِفَ مِنْ قِراءتِهِ لِلتاريخِ المُوسيقيَّ الرُّوسيِّ أنَّ عَلاقةً حًميمةً رَبطتهُ بِتلميذٍ لَهُ أَنهَى حَياتَهُ بِالانتحارِ،وَأنَّ الحادثَ يُفسِّرُ لَمسةَالحِزنِ والشَّجنِ مَثلَاً، فِي نَهايَةِ سِييمفونيَّةِ (رُوميو وجًوليت)". (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص43).

هذا الاهتمام اللُّغوي الثقافي بدقائق الأمور عن بلد كبير واسع في ثقافته ينمُّ عن أنَّ د. صُبح كان ملماً بثقافته هذا البلد ومسمياته ومحباً له؛ وإلَّا لِمَا تمكَّن من سرد وقائع ثقافاته الفنيَّة والأدبيَّة والإبداعيَّة كافةً. وفي غمرة هذا التقطير الموسيقي الثقافي هناك تقطيرٌ لغويٌّ روحاني ساير فيه الكاتب كريم صبح على لسان شخص روايته الأول وجدي التي ينقل لقارئه تصوراته الروحانيَّة عن كاتبه المفضَّل دوستويفسكي فيقول:

"ثَمَّةَ دَليلُ آخرَ أَقوَى يَعرفُهُ هُوَ كَمَا أَعرفُهُ أنَّا: دُوستويفسكِي رَفضَ اِستحضارَ زَوجهِ فِي مِمَاتِهِ كَمَا رَفضَ اِستحضارَ أَرواحِ الآخرينَ فِي حَياتِهِ، بِإشارَةٍ لَا تَقبلُ الشَّكَّ أَرسلَهَا مِنَ العَالَمِ الآخرِ إِلَى زَوجتِه آنَّا وَابنتِهَا لَوبوف: نِيقولاي فَاغنر، العَالمُ الرُّوحانِي المَعروفِ والأُستاذُ فِي (جَامعَةِ بَطرسبرجَ الإمبراطوريَّةِ)...". (القَبرُ الأَبيضُ المُتوسِّط، ص 45).

هكذا يجمع السارد بثقافته المعرفية والإبداعية شخوصه ورموزه الفكريَّة، حتَّى وصل به الاعتقاد بما نقله عن الرُّوحانيات الروسيَّة الشائعة في القرن التاسع عشر بهذا النص الرُّوحي عن كاتبه:

"يُقالُ إنَّ الأرواحَ الَّتي يُمكنُ اِستحضارَهَا، هِيَ الأرواحُ الهَائمةُ، أيْ الِّتي مَاتَ أصحابُهَا وَلَديهُم أَعمالٌ لَمْ يَنجزوهَا بَعدَ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 46).

فدلالة هذا النصُّ السردي هي إشارة واضحة لروح كاتبه الأثير الذي مات ولم ينجز جزأه الثاني من روايته (الإخوة كارامازوف) التي مضى على أحداث شخوصها عشرون عاماً متواليةً. والتي جاء وجدي لأخذ فكرتها من روح صاحبة المفضَّل دوستويفسكي الغائب جسداً والحاضر روحاً.

وقد دعاه هذا الاستحضار الرُّوحاني لكاتبه القريب إلى ذكر أسماء كُتَّاب روس مشهورين مثل، (سوخولوف وغوغول وبيلنسكي)، فضلاً عن ذكره لوصية دوستويفسكي لزوجته في أن يدفن في مقبرة (فولوكوف) بالقرب من صديقه العتيد (نيكراسوف) بعيداً عن شرِّ الأدباء الروس الذين كانوا يضمرون الشرَّ له كما كان يعتقد ويظنُّ ذلك الأمر الخفي. ولنقراً بتجلٍّ ما قاله ثقافياً (نيكراسوف) عن صديقه المفضَّل (دوستويفسكي) الذي نقله عنه العراقي بطل الرواية المِقدَام الصامد د. وجدي:

"بِالطبعِ كَتَبَ عُشرَ مَا فَكَّرَ بِهِ مِنْ رِواياتٍ، وَذَكرَ بَعضَهَا تَفصيليَّاً بِحماسٍ غَيرَ قَليلٍ، لَا حُدودِ لَديهِ لِموضوعاتٍ كَهذهِ الَّتي لَمْ يَملكْ الوَقتَ لِكتابتِهَا". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 48).

حقَّاً إنَّ مثل هذه المعلومات الثريَّة التي تَحلَّى بها الدكتور كريم صُبح في بثِّ سردياته الحكائية الفاعلة على فم ولسان بطله الهُمام د. وجدي تنمُّ عن ثقافة معرفية إبستمولوجية مكتسبة وتأصيل ثقافي ليس في مجال اختصاصه المهني التاريخي العلمي، بل في واحات الثقافة الإنسانية العالمية (تاريخيَّاً وأدبيَّاً وفنيَّاً وثقافيَّاً ومعرفيَّاً) لا تَنضبُ عن الذاكرة الحيَّة لشخصياته الحركية المتواثبة.

وقد أضفت بلغتها التسريدية المُكتنزة على وقع مدوَّنته الروائيَّة (القبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ) طابعاً فنيَّاً وجماليَّاً لافتاً لنظرِ القارئ. وقد وصل الشعور الرُّوحي الثَّقافي بالدكتور صُبح ونظيره الدكتور وجدي في تلافيف لغته التعبيرية إلى زيارة ضريح قبر كاتبه المفضَّل دوستويفسكي قد تُغريه روحيَّاً في الحصول على فكرته الذاتية في كتابة الرواية الجديدة التي عزم السفر من أجلها: "حَسنَاً، يَكمنُ الحَلُّ الوَحيدُ إمَّا فِي اِستحضارِ رُوحهِ، أَوْ فِي عَودتِي أنَا زَمنيَّاً إِلى عَصرِهِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 55).

ومن المداومة على مرجعيات التقطير المعرفي الثقافي الرُّوحي والأدبي والتاريخي ننتقل بلغة الحديث إلى لغة التسريد الصحي الطبي فيما يتعلَّق بوباء جائحة كورونا التي ألمت بالعالم بأسره وهو محاصر في بطرسبرج علَّه يفلح بفكرته الروائية الأثيرة، فراح ينقل لنا مشاهد هذا الوباء الذي داهمه فجأةً بشكل غير متأثرٍ بما حصل جَرَّاؤه من نتائج كارثيةٍ وقعت للعالم ومنها روسيا:

"الوَبَاءُ لَمْ يَنحسرْ سَريعَاً كَمَا تَوقعنَا، وَبَطرسبرجُ أَمستْ مُوبوءةً، رُبَّما بَالغنَا فِي تَوقعنَا بَعضَ الشَّيءِ، وَالمُشكلةُ فِي سُرعةِ اِنتشارهِ، وَفِي عَدمِ اِكتشافِ لُقاحٍ لَهُ حَتَّى الآنَ". (القَبرُ المُتوسّطُ، ص70).

أمَّا في مجال لغة الحديث عن الرموز الشخصيَّة التي قامت بدورٍ فاعلٍ في الرواية،يأتي الحديث عن السيِّدة المُبجَّلة بافلوفنا صاحبة القدرات الشامانية الروحانية العجيبة، والتي كان لها الدور الكبير في إقناعه بالذهاب إلى سيبيريا بلاد الصقيع والثلوج والجبال الشاهقة المخيفة لمصلحتها:

"بَارسكونيا بَافلوفنا، أوْ السَّيِّدة بَافلوفنَا، كَمَا تُحبُّ أنْ تُنادَى، ثَمانينيةٌ، مُتوسِّطةُ الطُّولَ تَميلُ إِلَى السُّمنَةِ، شَعرهَا كَثيفٌ مَا زَالَ يُصارعُ الزَّمنَ، قَصَّتهُ قَصيرةٌ وَتَغلبُ عَليهِ حُمرَةٌ خَافتةٌ، غَزَتْ التَجاعيدُ وجهَهَا؛ مَع َأنَّهُ يَشِي بِجمالٍ قَديمٍ لَا تُخطئِهُ العَينُ، يَظنُّها أنيقةً، ذَكيةً وَفِي صِحَّةٍ جَيَّدةٍ، لَمْ يَنتبهْ إِليهَا أَولَ لِقاءٍ بَينَهمَا؛ لَكنَّهُ يَجدُ شَبهَاً بَينهَا وَبَينَ تَاتشرُ...". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 81).

وينتقل الحديث السردي بلغته الأدبية المقارنة إلى ذكر المصنف الأسطوري (ألف ليلة وليلة)، وسيرة (عنترة)، وديوان معلقة (امرئ القيس)، وملحمة (كلكامش)،السومريَّة، وإلى جميع الأعمال والآثار العربية التي تَمَّ ترجمتُها من لغتها العربيَّة الأصلية إلى الروسيَّة. فضلاً عن اهتمامات البطل الأسطوري بالأدب السردي الروسي وقراءاته له والإعجاب به وبكاتبه الأثير دوستويفسكي الذي أراد أن يكون أنموذجاً أدبياً وثقافياً مغايراً لخطى مسيرته الأدبية التي انطلق أصلاً مغامراً من أجلها برغم خوفه وفشله الذي يقف حائلاً عن تحقيقها، فها هو يبحث عن مرجعه الإبداعي:

"... ألستَ تَقولُ إنَّ دُوستويفسكي هُوَ مَثلكَ الأَعلَى؟ لَقدْ عَرفَ النَّجاحَ وَالفَشلَ، وَظلَّ يَكتبُ إِلَى أَنْ وَصلَ مَا وَصَلَ إِليهِ مِنْ ذَروةِ السَّردِ... هُوَ مَرجعِي الرَّئيسُ فِي كُلَّ مَا لَهُ عَلاقةٌ مُباشرةٌ وًغيرَ مَباشرةِ بِمثلِي الأَعلَى" . (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّط، ص 84).

وتنزاحُ لُغة السرد فنِّي عند كريم صُبح إلى مسار لُغة أدب الرحلات التي تتطلَّب توصيفاً بيانياً عالياً ومحايداً ودقةً في إيراد وإطلاق المعلومات السردية عن الأمكنة التي زارها الكاتب السارد العليم في رحلته إلى سيبيريا التي يقول عنها البطل المغامر بحياته وجدي:

"مَا يَهُمُّكَ أَنْ تعَرفهُ الآنَ أَنَّ رُوسيَا تَتألَفُ مِنْ سَبعينَ قَوميَّةً، وَإحدى وَعَشرينَ جُمهوريَّةِ حُكمٍ ذَاتيٍّ ضِمنَ الِاتِّحادَ الرُّوسيَّ، اِعلمْ أنَّ مُعظمَ سُكَّان سِيبيريَا مِنْ الرُّوسِ، يَليهُم الألمانُ، ثُمَّ التُركُ وَالتوفانزَ اليَاقوتِيينَ". (القَبُر الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 134) .

ويمضي الحديث عن الرحلات قُاً دُماً عن حياة السيبيريين والمدن التي يعيشون فيها والمناطق الريفية، وقد استمرَّت رحلة الدكتور وجدي مع السيِّدة المُبجَّلة في القطار لسيبيريا البعيدة ثمانية أيام بلياليها مع أخذ استراحات قليلة متقطعة. وفي الوقت ذاته يأتي الحديث هامشياً عن الأعلام والرموز العرب من الذين ورد ذكرهم في لغة التسريد الروائي الماتعة:

"لا بأس، اعلم أن، أحد أبنائها وَيُدعَى الشَيخَ مُحّمدَ عَيادٍ الطّنَطَاوّي، دَرَسَ فِي جَامعةِ سَانتْ بَطرسبرجِ الإمبراطوريَّةِ، بَلْ عَاشَ فِي المَدينةِ مًدَّةً طَويلةً، وَرُبَّما أَرسلتْ إِليكَ قَريبَاً مًا َيهمُّكَ فِي حَياتهِ، وَلَيستْ مُعاصرَتَهَ لِدوستويفسكِي الَّتِي تَعنينَا مَعَ أنَّها لَمْ يَلتقيَا قَطُّ، بَلْ مَنضمونُ وَصِيةٍ شَاعَ أنَّه تَركَهَا لِابنهِ الوَحيدِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 180).

لم تستقرُّ لغة الكاتب السارد العليم على نهج لغوي سردي ٍّ واحدٍ، فَمَسرى طريق السرد هو ما يوجه بوصلته الفكرية إليه، ويقف في الموضع الذي يراه مناسباً لمحطات الرواية التي أوشكت على نهايتها. فبعد الحديث عن إمكانيات ايجابيات وسلبيات العيش في سيبيريا، يأتي إلى إتمام طقس استحضار الأرواح للنفاذ إلى فكرة الرواية عن طريق استدعاء واستحضار روح كاتبه الكبير دوستويفسكي التي هي آخر أمل روحي ينقذ د. وجدي من محنته الأبدية التي تورط فيها والتي لا مناص من التراجع عنها أبداً.

ففكرة استنطاق الأرواح هي ما يشغل فكر الثلاثي (وجدي وبافلوفنا وأرتيم)في إتمام مهمَّة الطقس الثلاثي الذي جاء من نصوصها الروحية المرقمة بالعلامات تعويذةٌ عَدديَّة على لسان د. وجدي:

"النَفاذُ! الَّنفاذُ! النَّفاذُ! أَرجُو وَأَلتمِسُ 3- النَّفاذُ! النَّفاذُ! مِنْ أَجلِ الخَيرِ لَا شَرٌّ لَأحدٍ 6- أَقسمُ لَا أَذيةُ لِبشَرٍ أوْ حَيوانٍ أوْ نَبَاتٍ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 202) .

وآخر ما جرى بطقس تحضير الأرواح نطق نصِّ الضمير" هُوَ...". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 242). الذي انتهى بنهاية مفتوحة للقارئ كأنَّ الرواية لها تتمة أخرى باقية؛كون د.وجدي دُفِنَ حيَّاً برغبته.

المَرجعيَّاتُ الثَّقافيَّةُ لأُسلوبيَّةِ الكَاتبِ

إنَّ أهم َّ ما يُميِّز أسلوبية الكاتب الدكتور كريم صُبح ويلفت الأنظار الذهنية الخاطفة في إيقاع معجميته السرديَّة الآسرة في نهج مدوَّنة خطابه الروائي النصِّي (القبرُ الأبيضُ المُتوسّطُ)أفكار ثيمته الموضوعية التفرُّديَّة المُكتنزة بٍسيلٍ لغويٍّ فاعلي لجمعٍ من التحشيدات الأُسلوبية ذات الوصف الحكائي البنيوي التركيبي المملوء سحراً بكمٍ نوعيٍّ من سريدات الغرائبية ذات الأثر النفسي البالغ.

والمشحونة فِعلِيَّاتُها الحَدثيةُ بإيقاعٍ أُسلوبيٍّ تأثيريٍّ عجائبيٍّ في تخليق واقعة الحدث الموضوعية التي كسرت بفنيَّة لغتها حاجز واقع المألوف السردي للقارئ، وحطَّمت أنساقه التالفة بجديد فكرتها الوسطية الإدهاشية، وحمولات موحيات مشاهدها الدراميَّة الروحانية المذهلة، وكثرة مفارقات مرجعياتها الثقافية الثرَّة الصادمة. والتي لا يمكن أنْ نضعها في مشغل النقديَّات السرديَّة الحديثة تحديداً تحت سحر الواقعية الجديدة من جانب أو في خانة البلاغة التخيُّليَّة الجديدة من جانب آخر.

فهي في واقع الحال مزيج مركبٍ سرديٍّ (مِخيَا واقعي)مُدهشٍ من خلطة هذا السياقي القديم وذاك النسقي البنيوي الجديد الَّتي لم تشهد له مثلها منابع السرديَّة في هندسة بنائها الفنِّي المعماري شكلاً ومضموناً ولفظاً ومعنىً مُوَحدَناً. وفق خطُّة منهج فكريٍّ سرديٍّ مُخطَّط له بعنايةٍ دقيقةٍ وانتظام.

والمساءلة الثقافية التي تُلقي بنفسها للقارئ في المرجعيات الأسلوبية، إذا كان التاريخ يوِّثق للماضي ويُؤرخن لأحداث الحاضر، فلماذا ترك د. وجدي -في حياته الحاضرة- التاريخَ الحديث المادي المبني على ترتيب أحداث الحاضر، وذهب إلى عالم الأدب المعنوي المضمر؟ فراح زمانياً يبحث في تاريخ روسيا الماضي ومجدها الآثر، مُنقِّباً زمكانياً بغرائبية في حِفريَّاتهِ السرديَّة واستحضاراته الرُّوحية الآسرة عن آثار صاحبه الأدبيَّة دوستويفسكي ورفاقه من الكُتَّاب المُجايلين.

أليس هناك خيطٌ سريُّ رفيعٌ مُضمرٌ يحوي فهماً عميقاً للنفس الإنسانية وتحليلاً شمولياً لها بشتى أحوالها الروحية والثقافية والاجتماعية يجمع بين رؤية د.وجدي الباحث عن تاريخ مجدٍ أدبيٍّ سرديٍّ حاضرٍ موصول بتجلِّيات الماضي،والذي هوانعكاس صوري سيميائي حقيقي لِبُغيَةِ الكاتب، وبين دوستويفسكي الكاتب العظيم والمؤلِّف الروسيِّ الخالد؟ والذي حُكِمَ عليه بالإعدام وخُفِفَ عنه في اللحظات الأخيرة نتيجةَ تضحيته الذاتية وموقفه الثقافي الثابت من انتقاد النظام السياسي الحاكم.

أليس هذا هو المطاف المرجعي التاريخي السردي الرُّوحي النسقي المضمر الأخير الذي قدَّم فيه وجدي روحه قُرباناً حيَّةً في نهاية مبكرة لحياته الأدبية في عشرينيات القرن الثاني والعشرين من أجل مجده الذاتي وطموحه الشخصي البعيد أنْ يكون في تماهيه الروائي السردي النسقي الظاهري أُنموذجاً أيقونياً موازياً لمكانة كاتبه الأثير وقدوته الفذِّ الكبير فيودور دوستويفسكي الذي نال تقدير العالم وحصل على إعجابه واحترامه في سجِّل تاريخية اسمه ورسمه الأدبي الإبداعي العالمي ؟

لكنّْ للأسف الشديد إنَّ طموح الدكتور وجدي كان أكبر بكثير من حُلمه، فهو الذي قتله كي يكون بديلاً عن فكرة الرواية التي أرد أنْ يستحصلها علامةً فارقةً من صنوه وكاتبه المثير، لكنًّها استعصت عليه فكرتها كسابقه الأصيل. ولم يبقَ من تاريخها سوى شاهدهِ قبره الأبيضِ المُتوسِّطِ.

ومن نوافل العدل والإنصاف الحَقَّي الذي لا يُجانب سواه في مشاغل مرجعيات النقد الثقافيَّة السردية تُعدُّ مُدوَّنة (القبرُ الأبيضُ المتوسِطُ) الرِّوايةَ الأكثرَ إشكاليةً وبراعةً فنيَّةً في معماريَّة إنتاجها التخليقي السردي الحديث، والذي يمكن أنْ نعدها إضافةً نوعيةً أيقونية من إضافات الفنِّ الروائي التسريدي الإبداعي المعاصر الذي يرفد مكتبة السرديَّات العربيَّة بكلِّ ماهُوَ مُدهشٌ عَجيبٌ.

***

د. جبّاَر ماجد البهادليّ / نَاقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

 

بات مسرح الشارع ظاهرة جمالية حية خلال السنوات العشر الماضية، وأقيمت عدة مهرجانات لمسرح الشارع في العراق. وتشكلت فرق مسرحية تختص بهذا النوع الدرامي تحديداً، بعد أن كانت العروض مبادرات فردية للشباب الهواة وسرعان ما تنطفي.

ويرتبط الجميل والمثير والمشوق والجديد والمتنوع، أي المُسلي والممتع من ناحية والمفيد ايضاً ليكون مصدر جاذبية العمل الفني، وعليه تتشكل وحدة بين مبدأ الفائدة ومبدأ الجمال، وأن التوازن بين جانبي الفائدة والجمال مطلب مهم، يجب أن لا يطغى جانباً على آخر.243 stage

مسرح الشارع هو المسرح المغاير اسلوبياً لكل أنواع المسرح فهو يسير برحلة بحث دائم عن ثيم مجتمعية بأسلوب ابداعي حيث التكثيف والاختزال والدهشة والاستجابة الجمالية، ويذهب الى المتلقي في مختلف الفضاءات ليقدم عروضه، وهو مسرح متحرك متنقل يذهب الى المتلقي بخلاف جميع انواع المسرح التقليدية التي يذهب المتلقي اليها وهي ساكنة ومستقرة كجزء من جغرافية المدينة، وفي الوقت نفسه يعمل مسرح الشارع على استقطاب وصناعة المتلقي، وذلك على وفق تبسيط واختصار جميع العناصر المكونة للعرض المسرحي بما يجعله منطلقاً من المجتمع وبذات الوقت يقدم الى المجتمع.

" ولد مسرح الشارع عندما انطلق من مجموعة عوامل اجتماعية ونفسية تجلت في نشأة الإنسان الأول للتعبير عن آلامه وصراعاته مع كل شيء من حوله من أجل البقاء، متوسلاً في ذلك بعناصر جمالية وحسية، ويعني ذلك أنه حول حياته عن طريق المسرح إلى فن، وهو ما يفسر جوهر المحاكاة وفقاً لارسطو بوصفها غريزة متأصلة في جميع البشر، ويطلق عليها غريزة التمسرح التي تجلت من خلال ميل الإنسان البدائي للتظاهر في كافة تعاملاته مع الطبيعة من حوله، ومع أخيه الإنسان، وكل الكائنات والموجودات "(حسام الدين مُسعد، ص 28، 2023).

عرضت مسرحيتان في شارع المتنبي / مركز بغداد للثقافة / يوم الجمعة 2024/9/6 الساعة العاشرة، والعاشرة والنصف صباحاً.

قدم تجمع فنانو العراق/ مسرحية بعنوان (دخول خاطىء) تأليف:عباس الغليمي / اخراج محمد منعم.

قدمت وزارة التربية / الكلية التربوية المفتوحة/ مركز الفلوجة / مسرحية بعنوان (ذوات متشظية) تأليف واخراج: بهاء زهير الشمري.

جاءت ثيمة العرضين متشابهة تتحدث عن موضوع واحد، تسليط الضوء على ما خلفته الحروب من دمار ونكبات وانتكاسات ونكوص، وتفتيت وتشظي للنفس البشرية، وحالة القلق والخوف من المجهول، وزج الشباب الى المحرقة، الى الموت المحتم، بحجة الدفاع عن الوطن كما تدعي الحكومات وما نجم عنها من جيل لا أمل له في الحياة.

مسرح الشارع يعتمد في موضوعاته على كل ما يُهم، ويعني الناس. ويستقي الكاتب والمخرج الأفكار والرؤى الاخراجية والجمالية حيث قدم العرضين بأطار من المتعة والمفاجأة، وما يحفز على التحريض.

شًخًصً العرضين المسرحيين (دخول خاطىء) و(ذوات متشظية) مجموعة من الشباب المؤدين اعتمدوا بساطة المفردة اللغوية للإنسان البسيط.

في المسرحية الأولى (الدخول خاطىء) وظفت موسيقى لأغنية تعبوية معروفة لدى الشارع العراقي، عًلقًت في ذهن المواطن العراقي الذي اكتوى بنار الحروب التي كانت حاضرة على الدوام في العراق اكلت الاخضر واليابس عبر تاريخ مرير مليء بالدم والموت.244 stage

جاءت عبارة (لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه على لسان الشخصيات) لكثرة انتشار الباطل والابتعاد عن طريق الحق، وانتشار الرشوة، واكل مال الحرام، وكل ما له صلة في تدمير الإنسان وابتعاده عن الحق والخير والحب والجمال والسلام.

في مسرحية (ذوات متشظية) قدم الشباب المؤدين صور من حياة مريرة ملؤها الشجن والعوز والفقر والظلم فهم خريجو جامعات باختصاصات متنوعة ومهمة يفترض أن تكون لهم مكاناً يليق بشهاداتهم وتخصصاتهم ويسهموا في بناء البلد وتقدمه كالهندسة والعلوم واختصاصات اخرى، وجدوا أنفسهم ضائعين في الشارع، حيث لا عمل لهم، ولا وظيفة مرموقة ليأخذوا دورهم في بناء الوطن.

بات الضياع واضحاً للنفس المتشظية ادى بهم الى ممارسة مهن بسيطة، لا تليق بهم وبتعليمهم لكسب لقمة العيش، فهذا بائع متجول لقناني الماء وآخر يبيع الملابس المستعملة ….

انهم انموذج من الشباب الذين دافعوا عن الوطن ورخصوا دمائهم التي روت الأرض وحمت العرض، زُج بهم في الحروب، في حين من تربع لكسب المغانم والامتيازات من هو وصولي متملق استنزف حقهم وجهدهم وحصل على كل شيء في الحياة، الوظيفة المرموقة، والعيش الرغيد والسكن الفاخر، والأولاد الذين هم في المدارس الاهلية للحصول على تعليمهم المتميز، مُدعياً هذا الوصولي انه يعرف كيف يتصرف في الحياة، والتي هي عبارة عن غابة يأكل فيها القوي الضعيف ويسلبه حقه في العيش والحصول على عمل والتمتع بحقوقه كفرد في هذا المجتمع.

وهذه هي مخرجات الحروب القذرة التي تجتاح البلدان وتمزق كل شيء في الحياة.

في مسرحية (دخول خاطيء) وظف المؤدين (سلسلة حديدية) طويلة بشكل دلالي معبر وجميل، اعطت ايحاءاً للمتلقي بدلالة السجون والقيود والظلم وتكميم الأفواه والاعتقال من كان يطالب بأبسط حقوقه، في الحصول على جواز سفر، أو الحصول على بطاقة السكن ….استثمرت في بداية ونهاية العرض، وبذا تكون مسألة تذوق ما يُعرض للجمهور يتطلب التشخيص والتحليل والاستنتاج لحصيلة ما يُقدًم من أفكار، وما يميز الفن عبر تاريخه العريق الدور الاجتماعي الذي أثر من خلاله على حياة الناس على اختلاف انتماءاتهم الطبقية ومرجعياتهم الثقافية وبمختلف مراحل الحياة الإنسانية، فهناك كبار السن، والشباب والأطفال، النساء والرجال.

جاءت لغة (الحوار) عبارة عن جمل قصيرة (تلغرافية)، حوارات قريبة من الناس بلهجة محلية معروفة ومفهومة انسجاماً من نهج تبسيط اللغة.

تسيدت لغة الجسد في كلا العرضين، وكانت حاضرة من خلال الحركة المعبرة، والايماءة الموحية بوضوح.246 stage

اللوازم في كلا العرضين كانت قليلة مقتضبة فقيرة في امكاناتها في بناء فضاء العرض، فضاء المتلقي الذي خلق حالة من توحد بين المؤدي والمتلقي، والابتعاد عن الفواصل التقليدية، واعتماد أسلوب المخاطبة المباشرة للوجدان الجمعي، وهذا ساعد المتلقي في أن يكون مشاركاً فعالاً في العرض، وخلق مجال رحب وواسع للتطور.

اعتمد العرضين على البساطة في ازياء شخصيات المؤدين الشباب، ففي مسرحية (دخول خاطئ) توشحوا باللون الاسود معناه الدلالي وتأثيره السايكوفيزياوي يمثل الليل والظلام، وثقل اللون والثبات، وكثافته.

في حين في مسرحية (ذوات متشظية) ارتدت الشخصيات لباس بلون ابيض دلالة النقاء والطهر وبراءة الشخصيات والخلود ونظافة اللون والصحة، فهو لون خفيف، متحرك.

قدم العرضين مجموعة شباب بحماس وتفاني وإخلاص لموضوع ساخن، يتناغم مع حديث الشارع، شباب يمتلكون الهمة والشجاعة والروحية المتعاونة والاندفاع في خط سيرهم باتجاه الأداء وتجسيد ما طرحوه من أفكار وقضايا ومواضيع مرحلية تهم الشارع من خلال التعبير عن قضاياهم وايجاد حلول لمشاكلهم، فهم عرضوا لنا الضغوط التي يتعرضون لها بسبب صعوبات الحياة ومشاكلها كل هذا بقصد الحصول على نتائج اجتماعية تؤثر في المجتمع من خلال المساهمة في إحداث التغيير المناسب لخدمة الفرد والمجتمع والمطالبة بالحقوق والتطرق للأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والترويحية.

***

د. فاتن الربيعي

.....................

* حسام الدين مُسعد: مسرح الشارع هنا والآن، الدار الجامعية للطباعة والنشر والترجمة، بغداد: 2023، ص 28.

 

رواية خوان رولفو بيدرو بارامو فى ترجمة جديدة إلى الإنجليزية

بقلم: دوجلاس ج. ويذرفورد

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

دوجلاس ج. ويذرفورد يتحدث عن رواية خوان رولفو بيدرو بارامو

"النص يتأرجح بين الحضور والغياب، بين الواقع واللاواقع، وحتى بين الحياة والموت."

 ***

في عام 1953، نشر خوان رولفو، الذي كان آنذاك لا يزال نسبياً غير معروف (المكسيك، 1917-1986)، مجموعة قصصية بعنوان السهل المحترق (El Llano en llamas)، والتي تتناول حياة الريف المكسيكي خلال النصف الأول من القرن العشرين. وبعد عامين، صدرت روايته بيدرو بارامو (1955). شكلت هذه الأعمال الابتكارية تحدياً للأشكال السردية التقليدية، وغيرت مسار الرواية المكسيكية واللاتينية الأمريكية، وساهمت في ظهور ما يُعرف بـ "طفرة الأدب اللاتيني الأمريكي" التي شملت شخصيات بارزة مثل كارلوس فويتس وروزاريو كاستيانيون من المكسيك، و الحاصلين على جائزة نوبل ماريو فارجاس يوسا وجابرييل جارثيا ماركيز من بيرو وكولومبيا، على الترتيب. ثم ظهرت رواية ثانية بعنوان الديك الذهبي (El gallo de oro)، على الرغم من أنها كتبت حوالي عام 1956، في عام 1980. على الرغم من هذه الأعمال القليلة نسبياً، إلا أن خوان رولفو، برؤيته الحزينة للمكسيك، أسر خيال القراء ليصبح واحداً من أكثر الكتاب احتفاءً في بلاده وكذلك في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية.

تُعد بيدرو بارامو من أبرز الروايات في تاريخ الأدب المكسيكي، وهي أيضاً أكثر الأعمال الأدبية ترجمةً من هذا البلد. وقد اشتهر جابرييل جارثيا ماركيز بمدح هذه الرواية بشكل كبير، مُعلناً أن قراءة بيدرو بارامو في منتصف الستينيات كانت المحفز الذي دفعه أخيراً لكتابة تحفته الفنية، مئة عام من العزلة (1967، Cien años de soledad). ومن المصادفات أن كلاً من بيدرو بارامو ومئة عام من العزلة سيظهران قريباً في إنتاجات تلفزيونية متوقعة على نتفليكس، ويأمل عشاق الروايتين في أن تكون العروض قوية. حالياً في مرحلة ما بعد الإنتاج، يظهر في بيدرو بارامو مدير التصوير الحاصل على ثلاث ترشيحات لجائزة الأوسكار رودريجو بريتو في أول تجربة إخراجية له، مع مانويل جارسيا-رولفو—أحد أقارب الكاتب البعيد و نجم مسلسل The Lincoln Lawyer—في الدور الرئيسي.

وُلد خوان رولفو عام 1917 في جنوب خاليسكو، وهي منطقة تأثرت بشدة بوحشية الثورة المكسيكية (1910-1917) وثورة كريستيرو (1926-1929). هذه الفترة المضطربة ساهمت في تشكيل المكسيك الحديثة ولا تزال تؤثر على المجتمع والسياسة والثقافة المعاصرة في البلاد. تأثرت سنوات رولفو الأولى بهذا العنف، إذ قُتل والده في نزاع تافه عام 1923، وكان رولفو في السادسة من عمره. لم تستطع والدته التعافي من فقدان زوجها وتوفيت في عام 1927 عن عمر يناهز 32 عاماً. كيتيم، عاش رولفو في مدرسة داخلية في جوادالاخارا، عاصمة ولاية خاليسكو، حتى سن المراهقة، عندما انتقل إلى مدينة المكسيك. رغم تنقله بين هاتين المدينتين الكبيرتين قبل أن يستقر في العاصمة، ظل رولفو متمسكاً بجاذبية البلدات الصغيرة والأرياف المكسيكية، وخاصة موطنه الأصلي، وكانت هذه المناظر الطبيعية بتاريخها القاسي في كثير من الأحيان هي ما شكل رواياته بشكل عميق.

على الرغم من أهمية بيدرو بارامو، من المحتمل أن يتفق معظم النقاد على أن الرواية لم تحظَ بالاهتمام بين القراء الناطقين بالإنجليزية الذي تستحقه. بالطبع، خوان رولفو ليس الكاتب الإسباني الوحيد الذي تم تجاهله من قبل قراء اللغة الإنجليزية، ويمكن أن يُعزى نَسْبُ رولفو النسبي إلى هذه المجموعات إلى حد ما إلى أزمة في القراءة والترجمة في تلك البلدان. وبالإضافة إلى هذه الحالة العامة من اللامبالاة تجاه الأدبيات من الثقافات الأخرى، تساءل العديد من المراقبين عما إذا كانت الترجمات الضعيفة لـ بيدرو بارامو قد ساهمت في صراع رولفو للحصول على مكانة أعلى بين قراء اللغة الإنجليزية.

تتميز كتابة رولفو بإيمانه بقدرة القراء المتفانين على اكتشاف إمكانيات تفسيرية مخفية ضمن مفاصل الرواية.

ظهرت رواية بيدرو بارامو بالإنجليزية مرتين من قبل، حيث ترجمها ليساندر كيمب عام 1959 (دار جروف) ومارجريت سايرز بيدين عام 1994 (دار جروف ودار سيربنتس تيل). ليس من نيتي التقليل من شأن المحاولات السابقة لجعل مواهب خوان رولفو السردية متاحة للقراء الناطقين بالإنجليزية. في الواقع، أكن تقديراً كبيراً للإنجازات المهنية للسابقيْن لي، وأفضل أن أرى جهودي كامتداد لعمل هؤلاء الأفراد السابقين. ليساندر كيمب (1920-1992)، الذي شغل منصب رئيس تحرير دار جامعة تكساس من 1966 إلى 1975، كان مترجماً غزير الإنتاج، وعمله على أدب الحاصل على جائزة نوبل أوكتافيو باث يستحق التقدير بشكل خاص. من جانبها، تعتبر مارجريت سايرز بيدين (1927-2020) واحدة من أبرز مترجمي الأدب اللاتيني الأمريكي، وقد عملت على أعمال شخصيات مهمة مثل كارلوس فويتس وإيزابيل الليندي، وآخرين. ويستحق كيمب وبيدن الثناء على دورهما في جعل رولفو متاحًا خارج المكسيك، ولكل منهما لحظات تبدو فيها حلولهما لنص هذا المؤلف الصعب ملهمة.

إن المثال المفضل الدال على الابتكار في الترجمات الإنجليزية السابقة لرواية بيدرو بارامو يأتي من بيدين. بعد فترة وجيزة من بدء الرواية، يُقاد أحد أبناء بيدرو بارامو المنفصلين عنه — الذي لم يُذكر اسمه بعد— نحو كومالا، البلدة التي التي هيمن عليها والده القاسي والتي تخلت عنها والدته الحامل قبل ولادته بفترة قصيرة. يسأل هذا الابن ــ الذي أصبح الآن بالغاً ــ دليله عن بيدرو بارامو: "من هو؟" في النسخة الأصلية بالإسبانية، تكون الإجابة مميزة: "Un rencor vivo" (حقد حي). تترجم بيدين هذه العبارة بمهارة إلى: "Living bile" (المرارة الحية). على الرغم من أن اختيارها ليس حرفياً بالكامل، إلا أنه يلتقط شعرية استحضار رولفو وكذلك التناقض اللافت: بارامو الذي، على الرغم من موته في هذه المرحلة من السرد، يستمر في الحياة في منطقة لا تزال تعاني بشدة من إرثه من الإساءة والكراهية.

بعد إكمال مسودتين من ترجمتي الخاصة لرواية بيدرو بارامو، عدت لقراءة نسخة بيدين. أثارني رد فعلها تجاه عبارة "Un rencor vivo" وأدركت أن محاولتي الأولية لالتقاط جمال وثقل النص الأصلي لرولفو كانت غير كافية. عدت إلى هذه العبارة كثيراً خلال الأسابيع التالية وفكّرت فيما يقرب من  عشرين بديلاً. ومع ذلك، لم أفكر أبداً في تبني كلمات بيدين في هذه الحالة. ليس فقط أنني لم أتوصل إلى هذا الاحتمال من تلقاء نفسي، بل بدا من الواضح أن تنويعها كان نتيجة لقراءة شخصية للغاية.في النهاية، استقريت على حل آمل أن يجده القراء بنفس القوة تقريبًا: "المرارة المتجسدة".

على الرغم من تقديري لجهود كيمب وبيدين، يمكنني أن أقول بثقة أن رواية بيدرو بارامو كانت تستحق ترجمة جديدة. دعني أقدم هنا مثالاً واحداً فقط. لك أن رواية رولفو تتحدى القارئ باستمرار. فهي تتحدى الفهم، حيث يشكل الارتباك والتفتت جوهر ما يبدو وكأنه عالم خيالي غير مستقر. ويتأرجح النص بين الحضور والغياب، وبين الواقع واللاواقع، وحتى بين الحياة والموت. في الوقت نفسه، يتميز أسلوب رولفو بإيمانه بقدرة القراء المتفانين على اكتشاف إمكانيات تفسيرية مخفية ضمن تفكك الرواية. أمام مصدر خيالي غني مثل هذا، أعتقد أن المترجم الناجح يجب أن يحافظ على تلك العناصر الأصلية، مهما كانت دقيقة، التي تتضمن معانٍ عميقة. من المدهش أن كيمب حذف كلمات وعبارات وحتى جمل كاملة في ترجمته. وفي الوقت نفسه، تسببت زلة في السطر الأول من ترجمة بيدين في تقويض تلك الترجمة منذ إصدارها قبل نحو ثلاثين عاماً. في بداية الرواية، يشرح ابن بارامو (الذي لم يُذكر اسمه بعد، كما ذكرنا آنفًا) سبب مجيئه إلى كومالا. وكما سيفهم القراء في النهاية، فإن المكان الذي يروي منه هذا المتحدث قصته أمر أساسي. في أحد أكثر الأسطر الافتتاحية شهرة في أي رواية أمريكية لاتينية، يعلن الراوي بضمير المتكلم: "Vine a Comala porque me dijeron que acá vivía mi padre, un tal Pedro Páramo". في ترجمة بيدن، تم استبدال الظرف "هنا" (acá) بالظرف "هناك"، مما يضع فعل سرد القصة بشكل خاطئ في مكان ما خارج مدينة كومالا المعذبة. نسختي المعدلة من هذه الجملة تُقرأ: "جئت إلى كومالا لأنني قيل لي إن والدي عاش هنا، رجل يُدعى بيدرو بارامو" .

في النهاية، كان السعي لتجسيد كل من حرفية وروح عالم رولفو الروائي أساسياً في جهودي لترجمة أحد النصوص الرائدة في أدب أمريكا اللاتينية. لقد كان من دواعي سروري أن أقدم هذه الرواية بترجمة إنجليزية جديدة، وآمل بصدق أن أكون قد وفقت في إظهار عمق وإبداع كاتب أعجب به بشدة، والذي يظل إرثه الأدبي خالداً وقيمته لا تُقاس.

(انتهى)

***

...................................

الكاتب: دوجلاس ج. ويذرفورد/ Douglas J. Weatherford: أستاذ الأدب والسينما الإسبانية في جامعة بريجهام يونج، نشر العديد من المقالات عن خوان رولفو، مع التركيز بشكل خاص على ارتباط المؤلف بالسينما. في عام 2017، أصدر ويذرفورد أول ترجمة إنجليزية لرواية رولفو الثانية، El gallo de oro (الديك الذهبي وأعمال أخرى، دار ديب فيلوم).وقد ترجم مؤخرا مجموعة قصص رولفو المعروفة: السهل المحترق (2024)، هذا بالإضافة إلى ترجمة رواية: بيدرو بارامو.

https://lithub.com/bitterness-incarnate-douglas-j-weatherford-on-juan-rulfos-pedro-paramo/

ليس أدلّ على الولوج إلى العالم الشعري، للعراقي المغترب أديب كمال الدين،  من شجرة حروفياته السامقة. مُدخلات التركيب الدلالي والتشكيل الفني في تجربته كشاعر سبعيني، منذ مجموعته الشعرية الثالثة” جيم” 1989، تأسّست على الحرف والنقطة، أصغر أنوية لغتنا العربية الجميلة. واتّخذ منهما جسوراً دلاليةً وجمالية، للتعبير عما يعتمل في ضمير الشاعر من مساءلاتٍ وجوديةٍ وهمومٍ ذاتيّة وجمعية، تشكّل بالمُجمل رؤية الشاعر للعالم.

ورأى نقّادٌ ودارسون أنّ كمال الدين ألحّ كثيراً على استخدام الحروف في تجربته الشعرية الطويلة، التي يقول عنها الشاعر بأنّ عمرها نصف قرن، لكنّه مازال مصراً على تأكيد أسلوبيّته الخاصّة عبر استلهام، إلى أبعد مدى، عوالم الحروف والنقاط، معبّراً عن صدق تجربته الشعرية في هذا المضمار. وبالإمكان القول إن الشاعر ردّ على تهمة إلحاحه على الاستثمار الحروفي  في أحد الحوارات معه: (تأمّلتُ في الحرف العربي خلال رحلةٍ شعريةٍ امتدّت أكثر من أربعة عقود ولم تزلْ متواصلة، وعبر كتابة المئات من القصائد الحروفية التي اتّخذتِ الحرف قناعاً وكاشفاً للقناع، وأداةً وكاشفةً للأداة، ولغةً خاصةً ذات رموزٍ ودلالاتٍ وإشاراتٍ تبزغ بنفسها وتبزغ باللغة ذاتها، عبر هذا كلّه أخلصتُ للحرف عبر عقودٍ من السنين حتي أصبح قَدَري الذي لازمني وسيلازمني للنهاية)، في جانبٍ آخر، التجربة الحروفية لم تأتِ اعتباطاً، بل إنّ كمال الدين أفاد من كتب التصوّف الإسلامي، متمثّلةً في كتب الفتوحات المكّية لابن عربي، وبعض شطحات الحلاج وكلماته في الطواسين وأشعاره، ومواقف النفري، وكتب أبي حيان التوحيدي.

مختارات حروفية

أديب كمال الدين، أصدر أكثر من ثلاثين مجموعة شعرية، من بينها: نون، النقطة، شجرة الحروف، الحرف والغراب، مواقف الألف، في مرآة الحرف، حرف من ماء. ومن ثمّ ضمّها في سبعة مجلّداتٍ من الأعمال الشعرية الكاملة. وخصَّص مؤخراً، بما عُرف عنه من دأبٍ واجتهاد، مجلّداً آخر لمختاراته الحروفية، صدر عام 2024 عن داري ضفاف والاختلاف. ومنه يستطيع القارئ الدقيق، تفحّص التجربة الشعرية لكمال الدين في عالم الحروف. قسّم كمال الدين كتاب مختاراته الضخم (630 صفحة) إلى أربعة أقسام: مرايا الحروف، إخوتي في الحرف، حرف السجود، حرف المتدارك وما شابه.

في البدء نقول إنّ كمال الدين يعترف نصيّاً، بأنّ كتابة قصيدةٍ قوامها الحرف والنقطة ليس بالأمر السهل، بل معاناة، أسهل منها أن يتخلّص من حياته، وذاك اعترافٌ بقدسية الكتابة ومهابتها، الكتابة الحروفيّة خاصة، وعلى ذلك أنّ استنطاق الحرف والنقطة يثريه كمال الدين بدلالاتٍ إنسانية، كما في قصيدة "أغنية إلى الإنسان" على سبيل المثال، لا الحصر، فمن الجلي أنها خطابٌ مباشرٌ إلى الإنسان وتذكيره بقيم الجمال والنقاء.

يمكن القول عامة، إنّ صياغاته الشعرية، التي تغلغلت فيها الحروفيّات، بصدقٍ فنّيٍّ واضح، كانت منطلقاً للتعبير عن القضايا الكبرى في الوجود، مثل الحياة، والموت، والحب، والكراهية، والظلم، والفقر، والطغيان. وترسّخ هذه المنطلقات إضاءة البروفيسور حسن ناظم لتجربة كمال الدين الحروفية وغناها الدلالي حين يقول (الحروف احتجاجٌ على عوالم الظلم، والضياع، والحرب، وهي خيّرة وشريرة، حيّة وميّتة، بل هي ألغازٌ ومفاتيح لفكّ المُستغلق من هذه الألغاز نفسها. الحروف أيضاً انسجامٌ وتنافر، إنّها التناقض المطلق. وهي، من جهةٍ أخرى، أدوات، ووسائل، وغايات، استعملها الشاعر ليحاول استبيان غموض العالم الداخلي، وغرابة العالم الخارجي، من دون أن يقرّر بلوغه الفهم الأخير لكلّ شيء).

هذا التطعيم بالحرف والنقطة في سائر أشعار كمال الدين هو لترسيخ أسلوبيّته الخاصة في تجربته الشعرية الطويلة، ولإغنائها جمالياً، لجهة جذور الإفادة التراثية والمعاصرة من الحرف خطيّاً وزخرفيّاً وتشكيليّاً، ومحاولة إبراز  معانٍ جديدة للحروف بحسب المعطيات الدلالية للنص. في قصيدة "عاشق الهلال والنقطة" يتداخل العشق الإنساني مع عالم الحروف لغاية التصريح بالرغبة في اختراع أبجديّةٍ جديدة، بالتعاشق مع الحروف نفسها، وكأنّها كائناتٌ حيّة:

(ينبغي للشاعرِ أن يعشق

حتّى يتعرّف إلى الشمسِ وهي تشرقُ ليلاً

وإلى الهلالِ وهو يصبحُ نوناً من غيرِ نقطة

وإلى النقطةِ وهي تصبحُ سِحْراً

يضيءُ فحمة الليل).

مخاطباته الشعرية للحروف، تسبغ على أشكالها معاني جديدةً لا حصر لها، كأنّها أشبه بالتعاويذ، فهو حين مناداتها، يروم خلق عالمٍ  جديدٍ لها، وبالتالي خلق فرادة التجربة الشعرية للشاعر ذاته، فهو يذهب بإصرار، إلى  استثمار أقصى أبعاد مغامرته الحروفية، مثلما يرى الناقد الدكتور حاتم الصكر في مقالةٍ شاملةٍ عن الشاعر (لعلّ حالة أديب كمال الدين حالة نموذجية للإصرار على استخدام الحرف، واستثمار طاقاته الروحية العميقة على مستوى الدلالة، وطاقته الجمالية على مستوى التشكيل والبنية).

يتحدّث الشاعر بحميميّةٍ وعتابٍ مع الحروف، كأنّ اكتشافها، في بدايات تجربته الشعرية، يمثّل له انفتاح مغاليق الكون، بعد معاناته الكبيرة في هذه الحياة، التي يروم من خلال الشعر، الرسوّ في مرافئ الخلاص من المعاناة. هذا التحدّث، الذي ينساب بعذوبةٍ وعفويّة، يشكّل الملمح المهم في البناء الفني لقصيدة كمال الدين:

(أين كنتِ كلّ هذه السنين؟

لماذا صعدتِ الآن إلى سطحِ أيامي

بعد أن كانَ الغموضُ يأكلك

كما يأكل سمكُ القرشِ السمكَ الصغير؟

هذه أسئلة وضعتـُها أمامَ النون

فرأيتُ الألِفَ يلقي بنفْسه في البحر

بهدوء).

في قصائد مختاراته، استثمر التناصّ مع الأنبياء في قصصهم، وكبار الكتاب في أسفارهم الإبداعية، والفنانين في آثارهم الخالدة، فضلاً عن شخصياتٍ أسطورية وتراثية. وأفرد لها القسم المعنون بـ(إخوتي في الحرف)، فأفاد كمال الدين من ملحمة كلكامش، وديستويفسكي، ولوركا، والبياتي، وعبد الحليم، وعفيفة اسكندر، وأم كلثوم، ومحمود البريكان، ونجيب محفوظ، وفيروز، وتولستوي، وحسب الشيخ جعفر، وسركون بولص وغيرهم. اعتنت اشتغالاته المعرفية مع السالف ذكرهم، بحسب حالاتٍ خاصةٍ بهم، عُرفوا بها من خلال سرديات التاريخ الأدبي عنهم، مثلاً، الشاعر يعدُّ نفسه محظوظاً، لأنَّه مسح بيديه دموع كلكامش المنهمرة حزناً على صديقه أنكيدو، وعلى فقده عشبة الخلود التي سرقتها الأفعى. وعلى هذا المنوال، يتناصّ مع ديستويفسكي بذكر أهم رواياته، ويدسّ كمال الدين معلومةً سرديةٍ بأنّه تأثّر بكتابات عملاق الرواية الروسية في سن العشرين.

استثمار سردي

بالتوغل في قصائده عن أهل الأدب والفن، نسجّل أنّ كمال الدين استثمر السرد في تبيين الثيمات المعروفة في سفرهم الإبداعي وشذرات سيرة حياتهم، ليس مع إخوة الحرف فحسب، بل معظم قصائد المختارات، مثلاً، في قصيدة عن لوركا، هناك إشارةٌ واضحةٌ على أنّ من قتله هو الجنرال فرانكو، ولوركا كشاعرٍ مناضلٍ غنّى من أجل الحرية لشعبه، إن لم يُستهدفْ من قبل فرانكو، فمن قبل أتباعه، ومن قبل كلّ الطغاة القتلة على مرّ التاريخ، وكأنّ النصّ سرديةٌ متمازجةٌ مع الأبيات العفويّة العذبة، من تاريخ استشهاده حتى بات أيقونةً نضاليةً إبداعيةً لامعةً في تاريخ الأدب العالمي. شواهد شعريةٌ لا تُحصى، ترينا الاستثمار السردي في حروفيّات كمال الدين، منها سرديّته الباذخة عن عبد الوهاب البياتي، ففيها إلماحاتٌ مختارةٌ بدقةٍ عن سيرته الشعرية الهائلة، هذا الذي بعد رحيله بفترةٍ قريبة، وُجّهت إليه سهام الشتم والهجاء مقلّلةً من قدر سيرته الشعرية:

(ثُمَّ إذ ابتلعتكَ الأرض،

أعني في اللحظةِ التي ابتلعتكَ الأرض،

شتموك

وطالتْ ألسنتهم كثيراً كثيراً

حتّى صرتَ "الشاعر الضحل" لا "الشاعر الفحل!")

وباستثمار حكاية أحد مشاهير الفن، عبد الحليم حافظ، هناك تضمينٌ مشوّقٌ لقصّة كفاحه وشقائه في الحياة وصعوده العبقري في عالم الغناء، روّض تحدياتٍ كبيرةً في حياته، ولكنّهُ روّضتهُ جرثومة البلهارزيا، وأطاحت به وهو "قمة الحب والشهرة".

صوفيّات كمال الدين

ملمحٌ بارزٌ في تجربة كمال الدين، ذلك هو استلهام مواقف وشطحات أكبر المتصوفة في التراث العربي والإسلامي، وأشهر من أفاد منهم في هذا العالم، النفري في مواقفه، ففي القسم المعنون بـ "حرف السجود" يعلن في المُفتتح أنه سيقتبس منه جملة البدء، في رحلته لإشهار كتاب الملوك، قاصداً بذلك الله سبحانه وتعالى. هنا تطويعٌ للجملة السردية، التي تتكرّر في مواقف النفري "أوقفني وقال"، والتي ستصبح هنا مواقف كمال الدين، ففيها يخاطب النفري، بوصفه الغاية والوسيلة في التضرع إلى الله، وهو تضرّعٌ تنتفي فيه المطلبيّات المادية، تشبّهاً بمواقف الزهّاد والمتصوّفة، ويحضر فيه السفر الروحاني، لتقلّد أسمى الأسماء في هذا السفر، ومع ذلك، فهي لا تنجع، فهي المُراد العَصيّ للروح التي لا تستقر إلاّ بالصعود إلى السموات العليا:

(فكيفَ ستختار نجمَك؟

أعرفُ أنّكَ ستقول: "الغريب".

لكنّ هذا لا يُجيب.

وستقول: "المَنفيّ" أو "المَحروم" أو "الضائع"

أو "المُمتَحن" أو "المُشتاق" أو "السَّجّاد"

أو "المَنسيّ" أو "المُتضرّع" أو "المُنوّن"

أو "المُتصوّف" أو "الزاهد" أو "العارف".

وكلّ هذا لا يحيط).

تتعدّد مواقف كمال الدين، كلُّ موقفٍ مُضافٌ إلى ثيمةٍ معيّنة، بحسب دلالتها، تتدفّق تهجّدات الشاعر إلى الله،  أعني ما يلي؛ موقف الألف، موقف الرحيل، موقف المهد، موقف الظلام ، موقف الوحشة، موقف الصبر، موقف الشوق، موقف الاسم، موقف الحرف، وغيرها تليها الإشارات. وباستقرائنا لمواقف كمال الدين وإشاراته، نتيقن بأنها  تمثّل تجربة الشاعر من النواحي الإنسانية والثقافية والاجتماعية أيضاً. فهي ليست ثيماتٍ استعلائيةً راكزةً في البحث عن الذات الصوفية وفنائها وتوحّدها مع الجليل الأعلى فحسب، بل نجدها تبحث في ما يحيطنا من واقع، ويشغلنا من أفكار، من الجانب المأساوي في شعرنة الموت والحرب، وآخر إيجابي في الحديث عن الحب والحياة، يتمازجان ضمن الأبعاد الحروفية والصوفية لتجربة أديب كمال الدين.

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

تعرَّفتُ على الكاتبة الرَّائعة صباح بشير، ورائعتها الإجتماعيَّة والواقعيّة، رواية "فرصة ثانية" من خلال نادي حيفا الثَّقافيِّ، منارة الأدب والثَّقافة، حين اقترح عليَّ زميلي العزيز على مقعد الدِّراسة الثَّانويَّة، الكليَّة العربيَّة الأرثوذكسيَّة، ورفيقي في الجبهة الدِّيموقراطيَّة للسَّلام والمساواة، المحبُّ والشَّغوفُ  والقارئ النَّهمُ، الاستاذ والمحامي ومدير ومؤسِّس نادي حيفا الثَّقافي، فؤاد نقَّارة، قراءتها..

فاقتَنيتُها..

لقد مُنحت هذه الرِّواية هذا الاسم، "فرصة ثانية" لأنَّها تحمل في طيَّاتها الأملَ والمُرادَ والطَّمأنينةَ، ولأنَّ الحياة لا تنتهي بفشل تجربةٍ في الحياة، عاطفيَّة أو اجتماعيَّة أو حياتيَّة..

تبدأ الرِّواية بمأساة وفاة الأمِّ، فاتن، في غرفة الولادة.. تبدأ بالموت وتنتهي بثلاثة أفراح، وحياة كريمة للمولود الجديد يحيى..

أمّا ابراهيم فقد مرَّ بتجربة عاطفيَّة فاشلة لم تثنه عن إعادة التَّجربة رغم صعوباتها وعقباتها والخوف من الفشل، فتزوَّج زواجًا ثالثًا ناجحًا بعد زواجين فاشلَين، الذَين احبطاه، وبقي بنفسيَّةٍ حزينة متشائمةٍ وآثر العيشَ لوحده وأصدقائه، لكنَّ جارته نهاية أتته مخلِّصةً لخيبَتَيهِ ومخلِصَةً له، لتكون نهايةً لبؤسه، وجد فيها بدايةً لسعادته، بعد أن كان لا "يجرؤ على التَّحليق مرَّةً أخرى" (ص 90)..

يقول ابراهيم: لو أنَّني بقيتُ مغلق القلب ممتنعًا عن الحبِّ، لما منحتني الأيَّام فرصةً ثانيةً للفرح، ففي كلِّ قلبٍ مغلقٍ، هناك مساحة واسعة للحبِّ، تنتظرُ فقط من يفتح لها الباب لإستقبال الفرص" (ص 258)..

وتقول الكاتبة صباح بشير عن ابراهيم في تجربته الثَّالثة: "انطلقَ في طريقهِ مقبلاً على مستقبلٍ يموج بالاحتمالات، عازمًا على تحويلِ جراحِهِ إلى علاماتٍ تُذكِّره بقوَّتِهِ وعزيمتِهِ، فهو يستحقُّ السَّعادةَ. قرَّر أن يفتحَ أبواب القلب والعقلِ معًا، وأن يواجّه الحياة بكلِّ ما فيها من تحدِّيات وفُرص، وينطلقُ نحو حبيبته نهاية" (ص151) التي وضَعَت نهايةً لآلامه وعذابه.. فكانت كما نقول في العامِّيَّة "الثَّالثة ثابتة".

لقد دخلتُ الرِّواية من باب غرفة الولادة، الولادة الصَّعبة التي تنتهي بوفاة الأمِّ، وولادة يحيى يتيمًا، وقلبي على قلب ابنتي مي الحبيبة في عملها، قابلة في المستشفى، فقد عشتُ معها تلك الصَّفحات الرَّائعة الأولى للرِّواية، حيث طلبَت منِّي بحماسٍ وشوقٍ، تسليفها الرِّواية بعد إتمام قراءتها، فبعد يومين بالتَّمام، أهديتها الرِّواية، محذِّرًا إيَّاها: بابا لن تستطيعي تركَها للحظةٍ، بل ستكون قراءتها متواصلة..

وعُدتُ على قراءتها مرَّةً أخرى، والمرَّة الثَّانية كانت أمتعَ من الأولى.

لقد كان يحيى محور الرِّواية، حيث أحياها يحيى في تقاربِ القلوبِ والتَّعارفِ والحبِّ والمودَّةِ التي انتهت بالسَّعادة والفرح، انتهت بالزَّواج، رغم الألم والحزنِ والفاجعة..

"اختار مصطفى اسم يحيى لمولوده، ليحملَ معنى الحياة والأملِ، الذي لا يريد له أن ينطفئ حتَّى في أحلك اللّحظاتِ، أراد أن يُعبِّرَ عن عظمة الحبِّ الذي جَمَعَ بينه وبين فاتن، وأثمر بهذا المولود، ففي لحظة فراقِها الأبديِّ عنه، لم يجد عزاءً سوى بتسميةِ ابنه يحيى، وكأنَّه بذلك يُحيي ذكرى حبيبتِهِ ويُخلِّدَ حبَّهما الأبديِّ" (ص 26). (..وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى..)

لقد بدأت الرِّواية بمأساةٍ، بموت فاتن الوالدة، وانتهت بزواج والد يحيى مصطفى لخالته أخت فاتن هُدى، التي احبَّت وأخلصَت وافتدَت حياتها لابن اختها يحيى، من أجل سعادة يحيى، وكان شاغلها الدَّائم المولود يحيى، فقد أهدت هُدى حياتها وقدَّمتها قربانًا من أجل يحيى، فلم تظلمه بل كانت له أمًّا حنونًا رؤومًا مثاليَّةً، أمًّا رقيقةً، رغم الصُّعوبات والعراقيل التي كادت أن تحول دون هذه النِّهاية الجميلة، وذلك بفضل الجميل الذي قدَّمه مصطفى للبوَّاب والخادم والعامل فيصل عنده، في معرضه لبيع السَّيَّارت، حين كشف له ألاعيب سناء التي كادت أن تدخل بين قلبين وتدسَّ السُّمَّ في عسلِهما، " استمع فيصل بذهولٍ لكلمات سناء، كلُّ كلمةٍ تكشف عمقَ خبثِها ودناءة تفكيرها، شعرَ بغضبٍ عارمٍ تجاهها، وعزم على إخبار مصطفى بما سمعه ورآه" (ص 171)..

 بفضل جميلِ ابراهيم، بانت ونبتت بذور الوفاء والامتنان والعرفان والمعروف عند فيصل.. لقد فشل كيدُ سناء، رغم إغرائها له، فظهرت رخيصةً حين قالت له: "سأكون معكَ كلَّما احتجتَ إليَّ" (ص 76).

ما أجمل أن يُردَّ الجميلُ بالجميلِ.. رحمَ الله امرئ عرف قدر نفسه، فلزِمهُ، فيعترف مصطفى أنَّه: "أنا أدرك أنَّني لستُ زوجًا مثاليًّا، فأنا أكبرُ منها سنًّا، ولستُ مثاليًّا بأيِّ شكلٍ من الأشكال" (ص141). "يا إلهي، ماذا فعلتُ بنفسي وبهدى؟ كم أنا أنانيٌّ!" (ص182). ومن ناحية ثانية يصف هدى: " أكنُّ لهدى كلَّ تقديرٍ واحترامٍ، هي إنسانةٌ رائعةٌ طيِّبةُ القلب، وأنا مقتنعٌ أنَّها ستكونُ زوجةً صالحةً، واُمًّا مثاليَّةً ليحيى، أعرف أنَّها تقدِّم تضحيةً كبيرةً بموافقتها على الزَّواجِ، لكنَّها تفعلُ ذلك بدافع الحبِّ والمسؤوليَّة فهي تحبُّ يحيى كثيرًا. (ص141).

لكنَّ هدى قرَّرت، "لم تستلم لمشاعرها السَّلبيَّة، تذكَّرت حبَّها الشَّديدَ لأختِها وقرارها بأن تصبرَ على زوجها، وتحافظَ على يحيى وبناء بيتٍ من الحبِّ على شاطئ الذِّكريات، بيت يملأه دفءُ العائلة وسعادة الأطفال" (ص 189).

﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ﴾

لقد انتصرت الكاتبة بابداعها وسلاسة سردها بعد أن زرعت شكوكًا في قلبي، حيث آلمني الأمر بأنَّ هذا الزَّواج لن يتمَّ، ممَّا دعاني أن  أحرثَ الصَّفحات، صفحة تلو اختها، إلى أن اقنعتني أنَّها انتصرت بتتمَّة هذا الزَّواج الذي أردتُه أن يكون منذ البداية، من أجل سعادة يحيى..

وهذا ما تمنَّيتُه ساعة وفاة فاتن متسائلاً عن مصير يحيى وحياته، "فحبِّي ليحيى هو امتدادٌ لحبِّي لشقيقتي ورفيقة روحي" (ص 36)، "أختي تعيشُ في هذا الطِّفلِ" (ص49).

انتصرت هدى على عجزِ ومحنة مصطفى: "سو ف أساعدك على تجاوزِ حزنكَ" (ص 191).

لقد كرِهتُ لبنى وتصرُّفاتها مع زوجها عبد الله، واستبدادها وسيطرتها العقيمة عليه بعد أن تزوَّجها حبًّا وكان متيَّمًا بها، بينما كان زواجها له هروبًا من سجن والديها البيتيِّ العنيفِ والمتزمِّتِ، الذَين تحكَّما في حرِّيَّتها حيث فرضا عليها القيود والقوانين المُتَعصِّبة والمُتشدِّدة التي تُكبِّلها بصرامة مفرطة، فوجدت في زواجها من عبد الله هروبًا من سجنها، "لذلك هربتُ من سجنهم، بزواجٍ لم يكن حبًّا حقيقيًّا، هربتُ نحو مجهولٍ رسمتُه رغبةً في الهربِ، فقد كان عبدُ الله بوَّابتي الوحيدة نحو عالمٍ جديدٍ ينبضُ بالحرِّيَّةِ والانفتاحِ، عالم يغدقُ عليَّ فيه حبَّه وعنايتَهُ واهتمامه دون حدودٍ" (ص 253)..

لقد كان عبدُ الله زوجًا مُهمَلاً هامشيًّا في حياتها "حتَّى في الفراش، لم يعُد له حقٌّ في مشاعر زوجتِهِ ولم يجرؤ على لمس جسدها أو الاقتراب منها، فأصيبَت روحه بجروحٍ غائرة" (ص 220). حيث وجدت في ذلك أن تنتقم من عبد الله، لتحلَّ عقدتها التي سحبتها معها من بيتها، بدلاً من أن تقابله الحبَّ والإخلاص والحنين، فهو لم يُفقدها حرِّيَّتها بل منحها كلَّ ما تريد، لكنَّها قابلته بكيدها العظيم ولؤمها واضطهادها واحتقارها له، بل وكانت في قمَّة السَّاديَّة معه، إلى أن انتفض عليها بتهديده لها بالطَّلاق وإخبار أهلها بذلك.

"ينفجرُ عبدُ الله غاضبًا: لا أريدك زوجةً بعد اليومِ، أنانيَّتُكِ تُنهكني، لا تُفكِّرين إلا بنفسِكِ، سأتَّصلُ بوالدك الآن، سأخبرُهُ بكلِّ ما يدور بيننا بِدقَّةٍ سأوضِّحُ له الأمورَ، فأنا لم أعد أطيقُ صبرًا أكثر من ذلك، سأذهبُ غدًا إلى المحكمةِ للبدء بإجراء الطَّلاق، أعدِّي نفسك لذلك" (ص 237).

انتفض عبدُ الله على الظُّلم والغبن والاستبداد والاستعباد والاجحاف وانتصرَ..

لقد انتهت الرِّواية بفرح عوَّضنا عن لحظات الألم والغضب: "حضر والدا هدى ووالدا لبنى، وعبدُ الله مع زوجته لبنى الحامل في شهرها الثَّامن، ومصطفى وهدى الحامل أيضًا في شهرها السَّادس، وصديقهم إبراهيم وزوجته نهاية" (ص 257).

لقد تعرَّفتُ في هذه الرِّواية على سيمفونيَّة نينوى، التي "ترجعُ إلى القرن السَّابع قبل الميلاد، عثر عليها المنقِّبون مدوَّنةً على ألواحٍ طينيَّةٍ بين خرائب نينوى القديمة، فأعادوا عزفها بعد فكِّ شفرة سلَّمها الموسيقيِّ القديم " (ص 68)، وبدأتُ أبحث عنها وأسمعها مرَّة تلو أخرى، مما أثرى معلوماتي وساهم في زيادة معرفتي بالحضارة الأشوريَّة، والحياة الآشورية والثَّقافة في أرض ما بين الرَّافدين

العزيزة، وهناك من يُناقض هذه المعلومة بقوله من أنَّها سمفونيَّة حديثة لموسيقارٍ ايرانيٍّ حسين علي زادة، واسم المعزوفة "ناي نوا" أي عزف على النَّاي على مقام النَّوا (هو مقامٌ موسيقيٍّ شرقيٍّ يتفرَّع من مقام النَّهاوند)..

شكرًا لحيفا التي احتضنت أحداث الرِّواية..

تبريكاتي القلبيَّة العطرة للكاتبة صباح بشير بصدور ثمرة قلمها "فرصة ثانية".

أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ  وَخَيْرُ جَلِيسٍ في الزَّمانِ كِتابُ.

***

د. خالد تركي

...........................

ملحوظة: صدر الكتاب بالتَّعاون بين نادي حيفا الثَّقافيِّ ودار الشَّامل للنَّشر والتَّوزيع (نابلس مقابل جامعة النَّجاح الأكاديميَّة)، من الحجم المتوسِّط، في مائتين وتسعٍ وخمسين صفحة، لوحة الغلاف الرائعة للفنَّان الفلسطينيِّ جمال بدوان، (الدكتور جمال بدوان ابن قرية عزُّون، قضاء محافظة قلقيلية، فلسطين، يعيش في أوكرانيا ويحمل جواز سفر أوكراني)، الاخراج الفنِّي سمير حنُّون (بلدة عنبتا، محافظة طولكرم، من سكَّان رام الله)..

 

دروب وجلجلة، للدكتور جورج شكيب سعادة صدرت العام 2024 في بيروت عن دار ناريمان للنشر. ينطلق الكاتب في روايته هذه من بدايات الحرب الأهلية التي شهدها لبنان أواخر القرن الماضي معرجًا على أسبابها ونتائجها كما يراها ويعتقد، وعليه لن نغوص في التطرق لما جاء في هذه الرواية من رؤية وتوثيق سياسي وتاريخي لتلك الحقبة  لأنها تبقى وجهة نظر المؤلف ابن منطقة الشوف اللبنانية الذي عايش تلك الحقبة المؤلمة من تاريخ لبنان، لذا فالنقاش لا ينتهي في هذه القضية التي لا تزال خلافية ليومنا هذا، والتأريخ للحدث السياسي والأمني يبقى وجهة نظر لدى الكثيرين. لذا سنكتفي بالتطرق إلى القضية الأساس التي تمحورت حولها الرواية وما كابدته الطفلة لميس بعد أن فقدت أهلها في بلدة الدامور في تلك الحرب والحياة المتنقلة والمضطربة التي عاشتها متنقلة من منزل منال ووائل الحيفاوي العائلة الفلسطينية التي إلتقطتها وصولًا إلى بيت عابد الحلبي وزوجته نسب وهي العائلة اللبنانية التي تبنتها.

الرواية واقعية واجتماعية بامتيازلما تثيره من قضايا ومحاور، تنطلق كما قلنا من بدايات الحرب الأهلية التي شهدها لبنان وكان من إحدى تداعياتها التهجير القسري للعائلات وتشتت أفرادها.

عنوان الرواية دروب وجُلجلة جاء معبرًا تماما عن مضمونها ومجريات أحداثها، حيث شهدنا بدل الجُلجلة إثنتان الأولى تلك التي سلكتها الطفلة لميس أو هيفا –لا فرق- بدءًا من منزل منال ووائل الحيفاوي ثم انتقالها إلى دير الراهبات في صيدا وبعده إلى الميتم في جونية تحت إسم رُلى ليستقر بها المقام طفلة متبناة في منزل عابد الحلبي وزوجته نسب؛ إضافة إلى رحلتها القسريّة إلى لندن والمهانة التي تعرضت لها هناك.

أمّا الجلجلة الثانية فكانت من نصيب ميسـا تلك الوالدة التي فقدت ابنتها وأفنت أيامها ولياليها في البحث عنها دون جدوى، إلى أن كان اللقاء الأول والأخير والإبنة على فراش الموت.

الرواية هادفة تشير إلى قضايا اجتماعية عدّة، ومن هذه القضايا التهجير القسري وتداعياته على الأسرة، وأيضا مسألة التفكك الأسري متخذة من عائلة عابد الحلبي نموذجا، كما تطرقت إلى الجانب التربوي والعلاقات الأسريّة ما بين الزوج والزوجة وما بين الأهل والأبناء، وتشير أيضا إلى مسألة شائكة تكمن في تدخل الأهل في تحديد مصائر أولادهم دون الإلتفات إلى مشاعرهم او طموحاتهم وهذا ما حصل مع عابد الحلبي وابنته المتبناة رُلى عندما أصرّ على اختيار من يراه زوجًا مناسبا لها دون الإكتراث لرأيها الرافض لمثل هذا الإختيار.

الى جانب كونها رواية اجتماعية إلا اننا نلحظ في بعض فصولها شيئا من أدب الرحلات وأدب الرسائل أيضا، ففي أدب الرحلات كانت الرحلات الداخلية إلى منطقة الشوف لنتعرف على بعض القرى والمعالم الأثرية والعمرانية والمنتزهات لتلك المنطقة من جبل لبنان، وأيضا الرحلات الخارجية كرحلة لندن والحديث عن طبيعة تلك المدينة وحدائقها كحديقة فيكتوريا وشوارعها كشارع اكسفورد وغيرها من المعالم. امّا فيما يخص أدب الرسائل فقد تمثّل في الرسائل المتبادلة بين رُلى وحبيبها شبلي الأسمر.

الرواية كتبت بأسلوب سلس وبلغة أنيقة  وبصور بلاغية وشاعرية واضحة، تضمنت العديد من الحكم والرؤى حول التربية والمواطنية والحُب أيضا، وقد اعتمد الكاتب تقنية السارد العليم  وربما بسبب هذه التقنية أتت الرواية بلغة واحدة من حيث الأسلوب والمتانة دون الإلتفات إلى الفئة العُمرية او المستوى الثقافي للشخوص، بحيث ان جميع شخصيات الرواية امتازوا بنفس المستوى من متانة اللغة وبلاغتها حتّى أن الطفلة رُلى ابنة العشر سنوات في حواراتها ونقاشاتها مع عابد وأفراد عائلته وكذلك مع الراهبات في المدرسة نجدها على صغر سنها تُحاور وتُجادل بمنطقِ وحكمة وتأتي أحيانا بشبه مطولات مدعمة بأمثال وبِحِكمٍ تفاجىء من يستمع إليها.مثلا في حوارها مع الراهبة دومنيك وشكواها من عدم فهمها لشرح معلمة الرياضيات جاء ردّها أشبه بمرافعة محكمة ومنطقية قد يعجز عن الإتيان بمثلها من هم أكبر منها سِنًّا، فهي تقول: "ألسنا شركاء مع الأستاذ في الصف؟ فإن لم نكن نحن هنا هو لا يكون" وأردفت قائلة:"كل خلل يبدأ بسيطًا فإن لم يعالج يتفاقم ويؤذي"(ص56و57).

ان بعض ما ورد على لسان رُلى طفلة العشر سنوات ومهما كانت درجة وعيّها ومستوى ذكائها لا يمكن ان تنطق به أو أن تعي كنهه، فمثلا في نقاشها مع عابد الحلبي وزوجته عندما فُرِض عليها الذهاب إلى لندن تقول ابنة الإثنتي عشر سنة:"إنّ صيانة الطفولة من مهمة الأمهات قبل أن تُخضع لأمزجة الآباء"(79)، وفي موضع آخر تقول: "إن الرفاهية مع الغربة عبء ثقيل"(81).

أمثلة كثيرة على عدم تناسب عمر الفتاة مع عميق قولها،  فبعد أن لمست تعاطفا في المطار من المسافرة  فاطمة نجدها تقول: "المحبة هي الدين الأفضل ولا دين بمعزل عن الرحمة والمحبة"(86). كما انها في حوارها مع "أمّها" نسب وفي معرض انتقادها لتصرفات عابد الحلبي تقول:"أن من يضع يده على المحراث ثم يلتفت إلى الوراء يعوجّ ثلمه ويفسد عمله"(118). كل هذه الأقوال المحكمة وغيرها كثير صدرت عن طفلة لم تتجاوز الإثني عشر سنة من عمرها. وبرأيي  لو كان خطاب رُلى مغلفا بمسحة طفولية بريئة دون إغفال مسحة الذكاء التي تتمتع بها لأتى أكثر إقناعا وانسجاما.

بالعودة إلى الرواية وبالرغم من وجاهتها لناحية القضايا المثارة فيها، إلا انه ومن وجهة نظر قد أكون مخطئا، أرى انه كان بالإمكان إختصار عدد صفحاتها دون المساس بجوهرها، فمثلا ماذا أضافت زيارة الفليبين التي استهلكت ما يقارب العشرون صفحة إلى الرواية وأحداثها.كما أن الضغوط التي مارسها عابد وزوجته على رلى لإرغامها على الزواج مرة من سيمون حداد وأخرى من الشاب الأميركي، برأيي لو تمّ الإكتفاء بذكر حالة واحدة من هاتين الحالتين كان كافيا للإشارة إلى ظاهرة  تسلط الأهل على الأبناء وفرض خياراتهم عليهم.

اللافت أيضا ان رُلى إنصاعت بسهولة لرغبة  عابد الحلبي وقبلت السفر إلى الفليبين، وهي تعلم أن هذا السفر هو سفر عقابي لإبعادها عن شبلي حبيبها، هذا الإنصياع من قبلها لم يكن مقنعًا من قبل فتاة جامعية راشدة وعلى قدر من الوعي والثقافة سيما وأن خيارات عدة كانت متاحة أمامها.

ملاحظة أخيرة نجد أنه في الصفحة 218 يعلمنا الراوي بوفاة جدّ  رُلى الذي كان سندا ومعينا لها تسترشد بحكمته وكان يتفهّمها جيدا علما أننا لم نلحظ أي مشاهد تجمعهما تؤكد ذلك، سيما وأن الجدّ كان مغيبا عن مشاهد الرواية منذ البداية.

هي ملاحظات أوردتها وطبعا لا تقلل من أهمية هذه الرواية التي لامست الواقع الاجتماعي في العديد من المفاصل، فمبارك للدكتورجورج هذا الإصدار وبالتوفيق الدائم.

***

بقلم: عفيف قاووق– لبنان

في المفهوم: عند البحث عن تحديد مفهوم المذهب أو المنهج الواقعي في الأدب، سيجد القارئ اختلافات كثيرة بين العلماء والنقاد حول  تحديد تعريف واضح له، والسبب في ذلك أن هذا المنهج تعددت تياراته واتجاهاته وصارت له مفاهيم عدّة، مثل "الواقعيّة الطبيعيّة"، و"الواقعيّة الأوربيّة الليبراليّة"، و"الواقعيّة الاشتراكيّة"، و"البنيويّة التكوينيّة"، و"نظرية الانعكاس أو النظريّة الاجتماعيّة"، و"واقعيّة أدرنو"، و"واقعية باختين"..الخ ولكن يُمكننا أن نحدد الخطوط العريضة إلى حد ما فيما يخص المذهب الواقعي بشكل عام لنقول:

إن الواقعيّة جاءت نسبة إلى الواقع، والواقع هو الموجود حقيقةً في الطبيعة والمجتمع الإنساني، وله نوعان: واقع حقيقي، وواقع فني.

فالواقع الحقيقي: إذا ما وُصِفَ، كان الوصف صادقاً لموافقته على ما هو موجود، وكأنه صورة فوتوغرافيّة عن الواقع.

أما الواقع الفني: وهو الوصف أو التعبير الذي يقوم به الأدب والفن لهذا الواقع. فهذا الواقع الفني يرتكز على رسم إبداعي لواقع ليس من الضروري أن يكون حقيقيّاً تماماً، صحيحٌ أنه يأخذ سماته من الواقع الحقيقي، لكنه يحوّر ويزيد وينقص ويعيد التشكيل بروية المبدع، الذي يصور الواقعٍ ليس نسخة مطابقة للواقع الحقيقي كما في الصيغة الأولى، وإنما هو محاكٍ له، لأنه يجري في ميدانه ويخضعُ لشروطه. والكاتب الواقعي أو الفنان هنا يبدع شخوصه ويصف ملامحها ويصوّر بيئتها كما يرى، ولكنه يتقيد بالأطر المألوفة في واقعه التي يفترض ألا تثير الغرابة والاستنكار، وبهذا تكون اللَّوحة الفنيّة التي يرسمها الفنّان قد استمدت عناصرها من الواقع الخارجي الحقيقي، إلا أنها تشكل مخيّلاً لواقع آخر هو واقع الفنان الخاصّ الذي يراه من زاويته الإبداعيّة الحرّة، فهو يتصرف بالألوان والظّلال والخطوط والأشكال والشخصيات كما يريد دون أن يبتعد عن منطق الواقع وسماته في الإنسان ومحيطه. (1).

إذن إن الواقعيّة الأدبيّة وفق هذا المعطى هي تصوير فني للإنسان والطبيعة في صفاتهما وأحوالهما وتفاعلهما، مع العناية بالجزئيات والتفصيلات المشتركة للأشياء والأشخاص والحياة اليوميّة، حتى لو كانت تفصيلاتٍ مبتذلة، وكل ذلك ضمن الإطار الواقعيّ المألوف، وإن الواقع هنا لا تُشْتَرَطُ فيهِ الأمانةُ في النسخ بل يُشْتَرَطُ فيهِ ما يُسمَّى بالصِّدْقِ الفني، وبهذا يتحوّل الكاتب إلى فنان مبدع لا إلى مجرد ناسخ.

ويُقال: إن الواقعيّة تعني المعرفة العقلانيّة للحياة، أو هي طموح العقل الإنساني وتطلعه لاكتشاف حقيقة الحياة ومعرفة خفايا العالم، وإدراك قوانين تطور المجتمعات واتجاهاتها والآليّة التي يعيشها المجتمع الإنساني.(2). وممّا هو مهم في مفهوم الواقعيّة أنّها تهتم بمعرفة الطبيعة الإنسانيّة خصوصًا، وعلاقة الإنسان الفعليّة بالعالم الواقعي المحيط به، وأنّ المنهج الواقعي أسهم في اكتشاف قوانين وحقائق جديدة للحياة أغنت وأثرت (الواقعيّة النقديّة) واتجاهاتها وأشكالها، إذ إنّ العالم كلّه يكون مادة للتصوير والتعبير، وبذلك تتسع الرؤيا وتتعمق وتكون أكثر نضجًا وصدقًا لأنها متصلة بالواقع.

وبتعبير آخر: إنّ الواقعيّة في الأدب تعني الموضوعيّة، وتصوير الحياة الواقعيّة تصويرًاً ايجابيّاً لا يخلوا بالضرورة من عناصر الخيال والتشويق والمجاز، إنما الأهم هو تسلّط اهتمامها على حياة الشعوب والمجتمعات كما هي وبنظرة موضوعيّة بعيدة عن الانطباعات الذاتيّة والحدسيّة المجردة عن الواقع، أو المشبعة بحمولة أيديولوجية مغلقة لا تعترف بحريّة الإنسان والاختلاف. ومع هذا البعد تكون مواضيع الابداع فيها أكثراً تأثيراً عند المتلقي. (3).

نشأة المنهج الواقعي في الأدب:

إن الواقع يحدّد الفكر حسب النظريّة الواقعيّة بشكل عام، والواقعيّة الاشتراكيّة، أو نظريّة الانعكاس عند جورج لوكاش بشكل خاص. ويمكننا القول دون تردد إن: كل المذاهب أو المناهج الواقعيّة الأدبيّة التي أشرنا إلى معظمها أعلاه، وُضعت بناء على أسس متعددة تتعلق بالظروف الموضوعيّة لحياة المجتمعات بالضرورة من جهة، وما يتعلق بالأديب وقدراته الإدراكيّة لواقعه وواقع مجتمعه ذاته من جهة ثانية، وبفكرة العمل الأدبي من جهة ثالثة، وربما بالنقد الأدبي نفسه من جهة رابعة. ومن المناهج التي انتشرت في العصر الحديث، وعلى أثر ظهور الآداب العالميّة كان للمنهج أو المذهب الواقعي في الأدب، نشأته الواقعيّة في  الغرب مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كرَدِّ فِعْلٍ على الرومانسيّة التي أفرطت في الخيال والأوهام والأحلام والانطواء على الذات والهروب من الواقع الاجتماعي والانزواء في الأبراج العاجيّة، وبالتالي الانصراف أو التخلي عن معالجة قضايا وشجون الإنسان جرَّاء صراعه اليومي في مجتمعه الصناعي الصاخب وسيطرة الطبقة الرأسماليّة على السلطة في عالم الغرب الرأسمالي، فجاءت الواقعيّة احتجاجاً على الرومانسيّة من الناحية الموضوعيّة، في حين جاءت كُلٌّ من "البرناسية" (الفن للفن) والرمزيّة رداً على الواقعيّة ذاتها من الوجهة الشكليّة والجماليّة.

ومما دعا إلى نشوء الواقعيّة أيضاً التقدم العلميّ والإنجازات العلميّة الهائلة لا سيما في البيولوجيا وعلم الطبيعة والوراثة، وفي الدراسات الإنسانيّة والاجتماعيّة والفلسفيّة، إضافة إلى تزايد الاهتمام بالطبقات الاجتماعيّة المختلفة بما فيها الوسطى والفقيرة والمهملة، وعدم الاقتصار على النبلاء والبورجوازيين، وبهذا فإن الواقعيّة شكلت اتجاهاً نحو الإنسان بشكله المشخص، يعتمد على صدق تصوير الواقع الفردي والاجتماعي وتمثيله.(4). إنّ نشأة المذهب الواقعي في سياقه العام وخاصة في إرهاصاته الأولى، تعود في الحقيقة  للفكر الماركسي، وقد عُرف هذا التيار في تاريخ النقد الحديث بأسماء عدّة تؤدي المعنى ذاته، منها: "النقد الاجتماعي"، أو "النقد الأيديولوجي"، أو "النقد اليساري"، أو "النقد الاشتراكي"، أو النقد "الماركسي الديالكتيكي" أي الجدلي.(5).

إنّ الحديث عن الواقعيّة كمنهج أو نظريّة باعتبارها ارتبطت بالواقع، يُقصد به، دراسة الأعمال الأدبيّة ومقاربتها نقديًا على أنّها نتاج للواقع الطبيعي أو الاجتماعي أو التاريخي، وهذه الدراسة تكون من خلال معايير وأسس مُحدّدة من قِبَل الناقد الواقعي سنحددها لا حقاً في هذه الدراسة.

إنّ نشأة المذهب الواقعي في الأدب جعلت الكثير من النقاد والمهتمين بدراسة الأدب، ينظرون إليه على أنّه النقد الصحيح والمنطقي للأعمال الأدبيّة، وكل ما عدا ذلك هو خاطئ بهذا الشكل أو ذاك، حتى أنّ هذا التيار انتقل إلى الأوساط النقديّة العربيّة في القرن العشرين على مدى عقدين كاملين وهما الخمسينات والستينات، وقد هيمن هيمنة تامة على ساحة النقد العربي، إلى أن نظر الكثيرون إليه على أنه هو النقد فقط. (ممّا يجدر ذكره أنّ هذا التيار الواقعي الذي غزا الأوساط العربيّة كان متناسبًا مع فترة التغيرات السياسيّة والاجتماعيّة والتاريخيّة في تلك المناطق بعد سيطر القوى اليساريّة على العديد من الأنظمة العربيّة، حيث حصلت تغيرات في البيئة الاجتماعيّة والتاريخيّة في العديد من دول العالم العربي، ومنها ساحتي الأدب والنقد، ووصل التيار "الواقعي الماركسي أو الاشتراكي" بصيغته الأيديولوجية الفجة إلى أغلب البلدان العربية. هذا وقد بيّن الكثير من النقاد المهتمين بهذا التيار أهميّة دراسة الأدب بالنظر إلى عوامل البيئيّة الاجتماعيّة والتاريخيّة. كما وبدأت تختلف وجهات النظر في البيئة العربيّة نفسها حول الدراسة الواقعيّة للأدب، فالبعض أراد إدخال العقائد الدينيّة ذات الطابع اليساري والعلماني في مضمونها وبالتالي دراسة الأدب واقعيًّاً بناء عليها، وبعضهم رفض النظر إلى الأعمال الأدبيّة والأدباء من ناحية عقائديّة لأن هذا من شأنه أن يؤدي إلى نوع من التعصب الديني أو الأيديولوجي الوضعي، وهو لا يتناسب مع مبادئ الواقعية التي تتجرد من الانطباعات الذاتية أو الأيديولوجيّة. (6).

مبادئ المنهج الواقعي في الأدب:

نظرا لتعدد مناهج أو تيارات المنهج الواقعي كما أشرنا في موقع سابق، فإن  مبادئ المنهج الواقعي في الأدب تحددت عبر مراحل كثيرة ومتعددة وظروف مختلفة تركت تأثيرها في تنوع هذه المبادئ، ويمكن الوقوف عند أبرز هذه المبادئ وهي:

1-  تمثيل الأشياء:

والمقصود هنا هو أن يكون الأدب ممثلًا  للأشياء أو الظواهر المراد دراستها ونقدها، أي الاحاطة بأبعادها وجوانبها وأجزائها أو تفاصيلها الدقيقة، ودرجة تفاعلها مع بعضها وأن تكون عمليّة الاحاطة بها واضحة  وصريحة ومصاغة بأسلوب سهل ومباشر وبعيداً عن الغموض والإيحاء. ورغم هذا التوجه البين والبعيد عن الغموض في النظر إلى المواضيع المراد دراستها ونقدها، إلا أن المنهج الواقعي غالباً ما يقوم من قبل متبنيه وخاصة في الغرب بـ (مزج الحوادث) اليوميّة المألوفة في حياة الناس، مع بعض الحوادث الأخرى التي تكون فيها بعض المبالغة والابتذال كالعناية بالتفصيلات الدقيقة والثانويَّة وحتى التافه منها مما يتعلَّق بوصف الملامح والأصوات والألبسة والألوان والحركات والأشياء... وكذلك التركيز على الجوانب السلبيَّة من المجتمع كالأخلاق الفاسدة والاستغلال والظلم والإجرام والإدمان. وهذا ما جعل بعض النقاد يسمي هذه الواقعية  بالمتشائمة. وفي الحقيقة لم يكن هذا ناشئاً عن التشاؤم بقدر نشوئه عن الرغبة في الرّصد والمعالجة. فالواقعيّة تؤكد عند تركيزها على المخازي وأبرزها، وبأن المجتمع المصطخب يصدر عن غاية خفيَّة وظاهرة في المجتمع وعلاقاته في آن معاً، فهي خفيَّة لأن الكاتب لا يريد إيجاد الحلّ بنفسه ولكنه يصوّر الأمور تاركاً القارئ يشاركه في البحث عن الحلّ. لأن من طبيعة المذهب الواقعيّ الاهتمام بمصير الإنسان والأخذ بيده إلى مستقبل أفضل  إمعاناً في تصوير الواقع وكأنّه حاضر.. (7).

2- اللغة البسيطة والتركيز على القضايا الإنسانيّة:

يبتعد المنهج الواقعي في النقد الأدبي خصوصاً والنقد الفلسفي والفكري بشكل عام عن الغموض والتعقيد في تناوله للمواضيع التي يدرسها، فهو يستخدم اللغة البسيطة السهلة المتداولة، والتي يمكن أن يفهمها الجميع، وذلك لما في هذه اللغة من اقتراب من الواقع وتجسيد له، ومحاكاة صادقة لتفاصيله، إضافة إلى اقتراب العمل الأدبي من حياة المجتمع. فهو منهج همه الأساس التركيز على القضايا الإنسانيّة الواقعيّة، والابتعاد عن كثير من القضايا الميتافيزيقيّة وعلاقة البشر بالقدر والغيب والجبر، فهمّ الأديب  هو تحليل شخصيات الأعمال الأدبيّة من منظور الإنسانيّة، وفي ضوء علاقتها بالواقع المحيط. (8).

3- الانتقاد الساخر والتركيز على تناقضات المجتمع:

من المعروف أن الأعمال الكوميديّة في معظمها تُحاكي الواقع وتعالج قضاياه، ومن مبادئ الواقعيّة في هذا الصدد أن يكون هناك روح السخريّة الناقدة للمجتمع ومشاكله بكل تناقضاته. فليست الحياة حزنًاً دائماً ولا فرحًاً دائمًاً، ولذلك تتّجه الأعمال الواقعيّة إلى عرض الحزن والفرح في المشهد نفسه، والبؤس والسعادة والسخريّة في اللقطة ذاتها، لكي تنقل الحياة كما هي دون تغيير. وبذلك تخفف من أعباء هذه الحياة على القارئ.(9).

4- التحليل الدقيق:

يقوم المنهج الواقعي في النقد الأدبي بتحليل النص الأدبي بشكل دقيق لفهم مفاهيمه وأفكاره، ويولي الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة أو الصغيرة  في النص الأدبي كما أشرنا أعلاه، حيث يصفها بأنها "مفاتيح القراءة" التي تساعد على فهم النص والهدف المراد منه. مثلما يركز أيضاً على المعنى، حيث ينصب الاهتمام في النقد الأدبي بشكل خاص على فهم المعنى الذي يحمله النص الأدبي في مجمله، وكيفية تأثيره على القراء. وهذا يساهم في دفع المعنى (المسكوت عنه)  للظهور، وتبيان دلالات ما هو (مضمر) في النص وعند المتلقي معاً. فالمنهج الواقعي النقدي يسعى من خلال تحليله للنص إلى فهم وتفسير المعاني والأفكار التي يحملها النص، على عكس التحليل النقدي السطحي الذي يركِّز كثيراً على المظاهر الخارجية للنص.(10).

5- التركيز على الأسلوب والعلاقات بين مفاهيم النص:

يعد الأسلوب من أهم عناصر النص الأدبي، ولذلك يركز النقد الأدبي التحليلي بشكل كبير على معرفة كيفيّة استخدام الكاتب للغة وصياغة عباراته وجمله لإيصال رسالة محددة. مثلما يهتم بالعلاقات بين المفاهيم، والأفكار التي تظهر في النص، حيث يمكن أن تساعد في فهم أكثر لمعنى النص.(11).

6- الحيويّة والمنهجيّة:

تتميز الواقعيّة بحيويتها، إذ إنّها شهدت المذهب الرومنسي، وعاصرت نشأة المذهب الطبيعي، والتاريخي والوصفي، وغيرها من المذاهب، ومع ذلك لم تفقد المنهجيّة الواقعية قدرتها على التجدد والانبعاث، واستفادت من غيرها من المذاهب التي عاصرتها، وتطورت إلى أشكال متعددة وتيارات مختلفة. وهذا ما أعطاها بعداً عالميّاً، سرعان ما أصبحت ذات خصائص عالميّة شموليّة، نتيجة لما تُنادي به من مبادئ جماليّة أساسيّة، وبذلك تجاوزت الواقعيّة  كل الحدود الإقليميّة والتاريخيّة ووصلت لكل العالم.

إن إيمان المنهج الواقعي بأن الواقع وظروف الحياة بكل معطياتها هي من يحدد طبيعة الفكر ويرسم معالمه بشكل عام، فهذا ما أعطى هذا المنهج القدرة على الاستبصار وكشف الكثير من قضايا المستقبل. إن المنهج الواقعي لا يمكن أن يقتنع بالرؤى الغامضة والضبابيّة للحياة، إنما يقوم على استبصار الغد بوضوح وصراحة وشفافيّة، وهذا الاستبصار لا يكون اعتباطيًّا، إنما بالاستناد إلى معطيات الحاضر الذي يعيشه المجتمع، وعلى تجارب الماضي التي مر بها. (12).

إن الواقعية في سياقها العام، تجاوزت حدود كونها مذهبًاً مقيدًاً بمبادئ وأسس نسبيّة مرتبطة بظروف محددة، بل أصبحت منهجًا حرًا من القيود، وخاصة في المجالين الأدبي والفني، وهذا ما ساهم في انعكاس هذه الحريّة على الأدباء الواقعيين في أعمالهم، وعلى النقاد في دراساتهم أيضًا وخاصة في المجتمع الغربي.

إنّ الحيويّة التي تميز بها المنهج الواقعي، والعالميّة التي وصل إليها جعله ينقسم إلى عدة اتجاهات، كنا قد أشرنا إليها عند حيثنا عن مفهوم المنهج الواقعي، وسنحاول الآن  الاشارة إلى أهما في هذه الدراسة وهي:

أولاً: النظريّة الواقعيّة الأوربيّة أو الليبراليّة:

وتسمى أيضاً الواقعية "المتشائمة" أو "الناقدة". والمقصود بها المذهب الواقعيّ الأصليّ الذي ساد في فرنسا وبلاد أوربا لدى معظم الكتّاب بشكله العام منذ منتصف القرن الثامن عشر، مع الاحتفاظ بالاختلافات المحليّة والفرديّة وتعدُّد الألوان ضمن التيار الواحد. وبشكل أكثر يمكننا القول تحديداً: هي الواقعيّة قبل أن تتفرع عنها الواقعيّة الطبيعيّة والواقعيّة الاشتراكيّة الجديدة.

إن للواقعيّة الأوربيّة خصائص وسمات تميزها عن المدرستين الكلاسيكيّة والرومانسيّة وتجعلُ منها نهجاً أدبيّاً ذا معالم خاصة وماهيّة مستقلّة شملت الآداب الأوربيّة أكثر من نصف قرن. وظلت آثارها باقية ومستمرةً في القرن العشرين. ويمكن إجمال هذه الخصائص والسمات فيما يلي:

1- النزول إلى الواقع الطبيعي والاجتماعي والانطلاق منه:

أي الارتباط بالإنسان في محيطه البيئيّ وتفاعله وصراعه مع المحيط الطبيعي والاجتماعي. ومن هذا الواقع يستمد الكاتب موضوعاته وحوادثه وأشخاصه وكلّ تفصيلاته. إنه ينزل إلى الأرض والبشر، ويصرف نظره عما عدا ذلك من المثاليات والخياليات والغيبيات والأساطير الخرافيّة التي لا تنطبق مع العقل والواقع. وما يهم الدراس أو الأديب، هو أمور الواقع التي يعيشها الناس ويعانونها. والمقصود بالإنسان هنا، هو الإنسان المشخّص الحيّ الذي يضطرب في سبل الحياة والمعيشة، والذي له وجود حقيقيّ، كونه  محور الأدب الواقعيّ، وليس الإنسان المثاليّ العام المجردّ الذي كان محور الأدب الكلاسيكي. ولا الإنسان المنعزل المنفرد، الهارب من المجتمع الذي كان محور الأدب الرومانسيّ.

إنّ الإنسان الواقعي هو الفرد التاريخاني في تعامله وتفاعله ضمن تيار المجتمع والتاريخ المؤثر فيه والمتأثر به، الصانع والمصنوع في آنٍ واحد. وقد يكون الفرد في المذهب الواقعي أنموذجا، لكنه أنموذج نوعيّ وليس عامّاً. إنه أنموذجٌ يضم كل الأفراد الذين هم على شاكلته، والمجتمع يتكوّن من نماذج كثيرة منها الإقطاعي والرأسمالي والعامل والفلاح والبورجوازي والتاجر والمرابي ورجل السلطة والمرأة الطيّبة... الخ. وقد حرص كتاب الرواية والمسرحيّة الواقعيون على رسم هذه النماذج وخلقها لا من العدم والخيال بل من خلال الواقع. وقد عزفت الواقعيّة الأوربيّة عن التعامل مع عالم اللامعقول كما أشرنا قبل قليل، كالتعامل مع الجنّ والأرواح والأشباح والملائكة والأساطير والأحلام والمصادفات والخوارق... لأن هذه الأمور كلها لا تعنيها في شيء، والذي يعنيها فقط هو الإنسان بلحمه ودمه وأعصابه وغرائزه ومشاعره وحاجاته ومطامحه وآلامه وأفراحه المرتبط بالأرض وما حوله من الناس وما يحيط به من الظروف الموضوعيّة. (13).

2- حياديّة المؤلف:

وهي تعني العَرْضَ والتحليل وفق واقع الشخصيّة وطبيعة الأمور وبشكلٍ موضوعيٍ، لا وفق معتقدات الكاتب ومواقفه السياسيّة أو الدينيّة أو المزاجيّة أو الفكريّة أو القيميّة أو الأيديولوجيّة بشكل عام. فالكاتب هنا شاهدٌ أمين. يدلي بشهادته حسب منطق الحوادث ومبدأ السببيّة والضرورة الحتميّة وليس كما يهوى ويريد. وهذا لا يعني أنه غير مبالٍ بما يجري حوله، بل يعني أنه لا يريد أن يفرض رأيه وميوله على القارئ. وكما أسلفنا إن الأدب الواقعيّ ليس مجانيّاً ولا عابثاً بل له غاية نبيلة غير مباشرة إذا تجرّد منها سقط في الفراغ والتفاهة والعبث والخداع الذي يقصد منه التسلية. وهذا النوع من الأدب هو أرخص الآداب وأدناها. إن الكاتب الواقعيّ يبدو حياديّاً، ولكن براعته تكمن في أنه قادر على قيادة المتلقي إلى مواقف يريدها هو بحسب قدراته في التأثير على هذا المتلقي. فالقصة تغدو مؤثره تستثير عفويّاً موقفاً من القارئ نفسيّاً أو سلوكيّاً. فالكاتب لا يأمر ولا ينهى ولكنه يضع القارئ مثلاً في موقف رفض أو قبول، وقد يثير إعجابه أمرٍ إيجابي فيقبل عليه، ويخلق عنده نوعاً من التعاطف مع النموذج البشري فإذا به يحبّه ويقدّر فيه فضائله أو يكرهه ويمقت مخازيه. إن الكاتب الواقعي لا يخاطب القارئ مباشرة بل من وراء حجاب يثير المشكلة وينسحب تاركاً الحكم للقارئ بعيداً عن الخطابة والوعظ. وحين يعمد الكاتب إلى التقرير والهيمنة تهبط قيمة أدبه.

إن الكاتب يعمل على تقوية الشخصيّة وإشعار القارئ بأنه مسؤول عن مصيره ومصير مجتمعه ومشارك للكاتب في البحث عن الأسباب والدوافع وإيجاد الحلول... نعم. قد يوحي الكاتب ويمهّد ويرهص ولكن من خلال اختياراته ووصفه وسرده.... وهذا لا يتنافى والحياد. (14)..

3- التحليل:

أي البحث عن العلل والأسباب والدوافع والنتائج فلكل ظاهرة اجتماعيّة سبب، والظاهرة الاجتماعية كالظاهرة الطبيعيّة تخضع لمبدأ السببيّة. وللظواهر المتماثلة أسباب متماثلة، وإذن فهنالك قانون أو قوانين تختفي وراء الظواهر والأسباب. والأديب الواقعيّ لا يعرض الظاهرة أو المشكلة مجرّدة، بل يبحث عن سببها ويوجّه النظر إليه ليصل بالقارئ إلى القوانين المحركة للمجتمع التي تكون من طبيعة اقتصاديّة أو سياسيّة أو دينيّة أو سلطويّة... وبهذا يزداد وعي القارئ واستبصاره وقدرته على التحليل والتأمّل والملاحظة والاستقراء، ويصبح مؤهّلاً لوعي الواقع وتفسيره وقادراً على تغييره. ولكنْ.. كيف؟ وفي أيّ اتجاه؟ هذا ما لا يقوله الكاتب.(15).

ثانياً: الواقعيّة الطبيعيّة:

مع نهاية القرن التاسع عشر، ظهر تيار للواقعيّة سمي بالواقعيّة الطبيعيّة، أو بالمذهب الطبيعي. وهو فرعٌ للواقعية الأمّ تكوّن على يد "إيميل زولا"، ولم يجر تحديد هويّته إلا في القرن العشرين. وتتميز هذه المدرسة بالخصائص الآتية:

1- المبالغة في التزام الواقع الطبيعي إلى درجة الاهتمام بالأمور القبيحة والمقرفة والوضيعة، والمكاشفة الجنسيّة، والألفاظ البذيئة، بدعوى أنّ ذلك من تصوير الواقع الحقيقيّ تصويراً علميّاً أميناً لا مواربة فيه. فلا داعي لتحريمها أو الترفع عنها.. وقد ظهرت في هذا الاتجاه الكوميديّا الطبيعيّة وما سميّ بالمسرح الحرّ، الذي كان لا يعبأ بأي نقد أو رقابة سوى حكم الجمهور، وقد بالغ في التشاؤم وعرض المخازي واستخدام اللغة المكشوفة البذيئة والعاميّة حتى أصبح ممجوجاً، وسرعان ما انسحب أمام المسرح الواقعي المتفائل.(16).

2- الإخلاص الكامل للعلم الطبيعي والفلسفة الماديّة والوضعيّة، والنأي التامّ عن الغيبيّة والمثاليّة، والتمسك بالتفاؤل والأمل، واليقين بانتصار العلم والحب وسيادة الحريّة والديموقراطيّة والعدل والأخوّة والمساواة. وتصوير العالم من الوجهة العقلانيّة الماديّة فقط. لقد ضحى هذا التيار الواقعي بالدين وحلَّ رجل العلم والتكنولوجي مكان القسّ، ولم يكتف بذلك، بل أخذ هذا التيار يهاجم الكنيسة والمنطلقات الدينيّة والسخرية منهما، ولا سيّما فيما يخصّ الجنس والمكافأة الأخرويَّة للفقراء...!

فالدين عنده معوّق للتقدم، والفقراء والعمال والفلاحون لا دينيون، والإله مات في زعمهم. وقد أضاف زولا إلى هذا النهج المعطيات الفرويديّة في التحليل النفسيّ كعقدة أوديب (عشق الولد أمَّهُ) وعقدة إليكترا (عشق البنت أباها) وكون الجنس المحرك الأساس العميق للسلوك، واكتشاف عالم الباطن اللاشعوري، كما أضاف تأثير البيئة والوراثة في تكوين الطباع وضروب السلوك. فبدت رواياته السليلة الشرعيّة للعمل التجريبي الذي تطوّر على يد كل من (الفيلسوف والمؤرخ والناقد الأدبي والفني الفرنسي إيبوليت تين - وعالم التاريخ الطبيعي البريطاني داروين-  وعالم الاجتماع والفيلسوف الاجتماعي الفرنسي، الذي أعطى لعلم الاجتماع الاسم الذي يعرف به الآن أوغست كومت - ...، و عالم اجتماع والأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس-  وفرويد...(17). هذا مع تأكيدنا بأن ليس كل ما جاء به هولاء في مجال العلم مرفوضاً، بل هناك جوانب إيجابيّة كثيرة يمكن الاتكاء عليها وتوظيفها في مجال النقد الأدبي بشكل خاص وبقية العلوم الإنسانيّة والفكريّة بشكل عام.

ثالثاً: الواقعيّة الاشتراكيّة:

وتسمَّى أيضاً الواقعيّة الجديدة. وقد نشأ هذا المذهب منذ البداية رداً على الرومانسيّة والواقعيّة الغربيّ والواقعيّة المتشائمة والطبيعيّة السطحيّة، هذا وقد نمت وانتشرت مع اتساع الدراسات الاشتراكيّة والتطبيق الاشتراكي. ولما كانت الاشتراكيّة في بعدها الفكري- (النظريّة الماركسيّة) - نظرةً فلسفيّةً واجتماعيّة تسعى لصياغة معرفة شموليّة للحياة، فقد اهتمت في أحد أنساق توجهاتها المعرفيّة بالأدب الواقعيّ، ووجهته وجهةً خاصّةً تناسبها، ووجدت فيه خير مصوّر للواقع وخير وسيلة لحليل الواقع وإعادة تركيبه، والأهم أنها وجدت فيه باعثٍاً للوعي وحافزاً إلى التغيير باتجاه التقدُّم. ومن هنا نشأت الواقعيّة الاشتراكيّة في الأدب وأصبحت مدرسةً عالميّة لها منهجها العقائدي المتميّز الذي تمّ من خلاله استخلاص مدرسةٍ نقديّة سميّت بمدرسة الواقعيّة الاشتراكيّة. وقد تبلورت معالمها في الثلاثينيات من القرن العشرين.(18).

وتتلخص سمات المدرسة الواقعيّة الاشتراكيّة في الأدب بالخصائص الآتية:

1- إنها تنطلق من الواقع الماديّ أو ما يسمى بالوجود الاجتماعي، من خلال فهمٍ عميقٍ لبنية المجتمع والعوامل الفعالة فيه، أي مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة، وما يحيط بها أو يتفاعل في داخلها من تناقضات وصراعات بين المكونات الطبقيّة لبنية المجتمع، ستفضي إلى التغيير بالضرورة. فالواقع هو الصادق الوحيد والقاعدة العلميّة الموضوعيّة. والفكر هو نتاج الواقع، وهو تعبير هادئ له، وبين الواقع والفكر علاقة جدليّة ذات تأثير متبادل، فكل طرف يؤثر في الآخر، يغنيه ويتأثر به.(19).

2- الأديب طليعة مجتمعه بما أوتي من مؤهلاتٍ فكريّة وفنيّة ووعيٍ للعالم ومؤهلاتٍ مهاراتيّة تمكّنه من التأثير في الأفكار والعقائد والقناعات والسلوك. فهو صاحب رسالة جوهريّة إيجابيّة تهدف إلى تطوير وتنمية الفرد والمجتمع معاً، لبناء مستقبلٍ أفضل لهما. فالأدباء (مهندسو النفس البشريّة)، كما الفلاسفة مهندسو البناء الاجتماعي. ولذلك لابد لهم من رؤية مستقبليّةٍ واضحة لما يجب أن يكون.

إن الأديب في المنهج الواقعي الاشتراكي، لا يكتفي في تصوير الواقع، بل لابد له من تحليله واستخلاص العوامل الفعالة الضروريّة في إعادة صياغته خدمة للإنسان، وهنا تبرز رسالة الكاتب وإعلاء شأن الإرادة الإنسانيّة ونضالها العنيد داخل بنية المجتمع الطبقيّة بغية تغيير المجتمع من أجل تحقيق العدالة والحريّة والمساواة. وعلى هذا الأساس فالواقعيّة الاشتراكيّة متفائلة، تؤمن بانتصار الإرادة الجماهيريّة التي تتجه دوماً في طريق الحق والخير وتتمكن من إعادة بناء المجتمع الجديد التقدمي.(20).

3- الواقعيّة الاشتراكيّة إنسانيَّة وعالميّة تؤمن بوحدة قضايا الشعوب ووحدة نضالها في سبيل التحرّر الاجتماعي والسياسي والثقافي. وتدين أشكال الاستعمار والاستغلال والفردية والتمييز العنصري والدينيّ والثقافة الجموديّة. وترى أن القوميّة جسرٌ إلى العالميّة، وترفض الاعتداء والتسلّط والحروب، وهي تربط بين النضال القومي والنضال الاشتراكي.

4- أما على مستوى الأسلوب والأسلوبيّة في صياغة النصوص الأدبيّة الابداعيّة، فهي لا تهملُ المقومات الفنيّة، كالمقدرة اللغويّة والأسلوبيّة وبراعة التصوير الطبيعي والنفسيّ وحرارة العاطفة، والمقومات الخاصة بكل جنسٍ أدبي. وهي تتجه إلى الجماهير في خطابها أو نصوصها الأدبيّة والفنيّة بشكل عام، ولذلك تختار اللغة السهلة المتداولة، ولا تقيم وزناً لأدب غير قادر على تحريك عواطف المتلقي وإثارة أحاسيسه إيجابيّاً. وهذا يتطلب من الأديب والفنان أن يربط ربطاً جدليّاً بين المضمون والشكل.(21). لا شك أن من أهم سلبياتها برأيي هو الموقف الآيديولوجي الجمودي في التعامل مع المختلف وتحقير أو تسفيه آرائه أو حتى محاسبته عليها في الدول التي تبنت الاشتراكيّة نظاماً سياسياً لها.

نظرية الانعكاس:

أسسها جورج لوكاش، ويريد من هذه النظرية المعرفة الحقيقيّة للواقع والحياة الاجتماعيّة، ولكي يكون هذا الانعكاس واضحًا لا بد من صياغته في قالب فني، وبذلك يخفف من صرامة التصوير الدقيق، فهو يهتم بتوضيح آليّة المجتمع للقارئ من خلال تقسيم بنية أي المجتمع إلى بنائين، بناء تحتي ويشمل قوى الانتاج وعلاقات الانتاج والعلاقة بينهما علاقة جدلية، فكلما كانت قوى الانتاج بدائيّة كانت علاقات الإنتاج بدائيّة والعكس صحيح، أما البناء الفوقي فهو الوعي أو الأيديولوجيا، وهي انعكاس للواقع أي للبناء التحتي، فكلما كان البناء التحتي متخلفاً كان الوعي متخلفاً بالضرورة والعكس صحيح أيضاً. وعلى هذا الأساس، تنطلق هذه الواقعية من فكرة أن الأدب ينبغي أن يُدرس من خلال ارتباطه بالواقع التاريخي والاجتماعي. (22).. وهذا المنهج سوف نخصص له دراسة خاصة به لتوضيح عوامل نشوئه وآلية عمله وأهم سماته وخصائصه.

المنهج البنيوي التكويني:

نادى به "لوسيان غولدمان"، الفيلسوفً وعالم الاجتماع الفرنسي، وهو من أصل يهودي روماني. جمع مبادئ البنيويّة إلى مبادئ الماركسيّة، فرأى أن الأدب يُدرس من خلال فهم عناصر العمل الأدبي، ومن ثم ربط العمل الأدبي بالبنى الفكريّة والاجتماعيّة التي ينطلق منها العمل الأدبي ودراسته في ضوء هذه المعطيات. أو بتعبير آخر، إن المنهج البنيوي التكويني يقوم على تحليل النصوص الأدبيّة من منظور اجتماعي إلى حد بعيد. أي لا ينظر للنص بانعزاليّة تامّة عن الواقع الذي أنتج فيه، بل يرى أنّ الأدب تعبير عن الواقع، وقد حاول هذا المنهج الدمج بين الشكل والمضمون، وبذلك يُمكن للدال الواحد إنتاج مدلولات مُختلفة باختلاف المُتَلقّين. (23).

واقعيّة "أدورنو":

لقد كان لـ "تيودور أدورنو" (فيلسوف وعالم اجتماع وعالم نفس وموسيقي ألماني، اشتهر بنظريَّاته النقديّة الاجتماعيّة.) وله رأي مختلف عن رواد الواقعيّة، إذ يرى أن الفن يحمل معرفة متناقضة مع العالم الحقيقي، لكن هذا لا يعني أنه ضد الواقعيّة، بل يعني أن الأدب يجب أن يكون بمثابة هزّة للرؤية الكلاسيكيّة للواقع، وخروج عما هو مألوف في الأدب الواقعي.

"ميخائيل باختين":

و(هو فيلسوف ولغوي ومنظر أدبي روسي): فرأيه في الواقعيّة لم يبتعد كثيرًا عن الشكلانيين الروس، الذين نظروا إلى اللغة على أنها أساس العمل الأدبي، إلا أنه اختلف عن الشكلانيين كونه نظر إلى اللغة والأيديولوجيا كشيء متصل بالواقع ولا يمكن فصلهما، وأن اللغة هي وسيلة للتواصل والخطاب الاجتماعي.(24).

أعلام المنهج الواقعي في النقد الأدبي:

في الأدب الغربي والروسي:

هناك أسماء كثيرة من الأدباء والنقاد ارتبطت بالمذهب الواقعي ومبادئه، وكان لها دور بارز في نشأته وإرساء مبادئ الواقعيّة، ومن أعلام المذهب الواقعي في الأدب الغربي 1- "توماس هاردي"، (روائي وشاعر إنجليزي، وكاتب واقعي من العصر الفيكتوري.). 2-  "جورج إليوت"،  (وتدعى أيضًا ماري آن أو ماريان)، والمعروفة باسمها المستعار "جورج إليوت"، هي روائيّة وشاعرة وصحفيّة ومترجمة إنجليزيّة وأحد الكتاب البارزين من العصر الفيكتوري ). 3- وهناك "جوستاف فلوبير" (روائي فرنسي، درس الحقوق ولكنه عكف على التأليف الأدبي. كان أول مؤلف مشهور له: « التربية العاطفيّة » (1843 – 1845، ثم « مدام بوفاري » 1857 التي تمتاز بواقعيتها وروعة أسلوبها)، 4- "هنري جيمس"،( روائي وناقد بريطاني من أصل أمريكي، يُعد واحدًا من أعظم أساتذة النمط القصصي، فهو مؤسس وقائد المدرسة الأدبيّة الواقعيّة؛ وهو سيد الرواية الأمريكيّة.) 5- "جاك لندن"،( مؤلِّف وصحفي وناشط اجتماعي أمريكي، ومن أوائل مؤلِّفي الأدب الروائي الذين حققوا شُهرة عالميّة وثروة طائلة من كتاباتهم الواقعيّة. ) 6- "تشارلز ديكنز"،( يُعدّ بإجماع النُّقّاد أعظم الروائيين الإنجليز في العصر الفيكتوري، ولا يزال كثيرٌ من أعماله تحتفظ بشعبيّته حتى اليوم. تميَّز أسلوبه بالدُّعابة البارعة، والسخرية اللاذعة.)،  7- "أميل زولا"،( هو كاتب وروائي فرنسي مؤثر، يمثل أهم نموذج للمدرسة الأدبيّة التي تتبع الواقعيّة الطبعانيّة أو الطبيعيّة.) . "إرنست همنغواي". روائى امريكي تميز بواقعيّة أسلوبه، وتأثر به كتاب كثر، تدور قصصه حول الصراع بين الانسان و البيئه القاسيّه مع لمحات من فلسفة العدميّه..)  وغيرهم الكثير. (25). وهناك من الكتاب الواقعيين الروس، "مكسيم غوركي"، وهو الذي استطاع أن يعكس مسائل الصراع والتناقضات بين مختلف طبقات المجتمع في روسيا، وذلك بأسلوب أدبي لافت، وبِلُغة واضحة، وفهم عميق لمسألة الإنسان والإنسانيّة. وخاصة في روايته الأم. (26).  وهناك "ميخائيل شولوخوف"، الذي تابع ما بدأه "غوركي" في مذهب الواقعيّة، وطوّره حسب متطلبات الثورة الاشتراكيّة، وقد عكس في أعماله الحياة بكل معضلاتها الجديدة التي تعترض طريق التطبيق الاشتراكي بعد الثورة. من أعماله "الدون الهادئ": وقد  نال عليها جائزة نوبل للآداب، وهي رواية ملحميّة يعكس فيها واقع الطبقة العاملة الثوريّة، وقد كان الطابع الإنساني هو المهيمن على صفحات هذه الرواية، وهي من أهم أعمال الأدب العالمي.(27).

أهم الكتاب الواقعيين العرب:

يعد "عمر الفاخوري:" أديباً ومُفكراً وناقداً لبنانيّاً، ورائدًا من روَّادِ المدرسةِ الواقعيّةِ في النقدِ الأدبيِّ الحديث، وعَلَماَ من أَعلامِ النهضةِ في القرنِ العشرين، وكانت له إسهاماتٌ جليلةٌ في التأليفِ والترجمة. عمل الفاخوري كثيرًا لتطوير الأدب الإنساني الواقعي، وقد جمع في مؤلفاته بين الأدب والنضال التحرري ضد العدوان، ولم يكن في كتاباته مقلداً لما أُلّف قبله، إنّما اتّسم بالتجديد وبث الروح الحيّة في هذه المواضيع الواقعيّة.(28). "مواهب الكيالي" من الكتّاب الاجتماعيين السوريين الذي اهتموا بقضايا المجتمع، وكرّس جزءًا كبيراً من حياته للكتابة عن آلام الشعوب، وقد تناول في بعض أعماله الروائيّة صورًا لنضال الشعب السوري ضد المستعمر الفرنسي، وكان له دور مهم في إحياء الواقعية في الأدب العربي.(29). "حنا مينة" كاتب سوري من الطبقة العماليّة الفقيرة، وقد خصّص الكثير من نتاجاته القصصيّة والروائيّة لتطوير أوضاع طبقة العمال والفلاحين، لقد كان مُجدّدًا في هذه الأعمال؛ إذ عكس معاناة تلك الطبقة والمصاعب التي تكابدها في الحياة الاجتماعيّة.(30). "سعيد حورانيّة" ينتمي عمرًا وتاريخًا إلى مرحلة الاحتلال الفرنسي لسورية، وهو بذلك عاش شبابه كله في زمن عاصف عنوانه الأبرز الكفاح من أجل الاستقلال والجلاء، ما جعل السياسة والفكر السياسي حاضرين في عقله وتفكيره وفي التزامه على المستويين الواقعي والأدبي، وظلا حاضرين كذلك طيلة حياته. اشتهر هذا الكاتب الواقعي بواقعيته الصارمة، وقد ركز أيضًا على نضال الطبقة العاملة وكفاح الفلاحين، وكان لأعماله خصائص مهمة تميّزَ بها مثل: وحدة اللغة والأسلوب الرشيق والتناسب بين الموضوع والنص.(31).

وعلى مستوى الوطن العربي أضاً هناك أ: ("الأخوان تيمور: "محمد ومحمود تيمور)" لقد تأثر الأخان تيمور بالمذهب الواقعي الذي انعكس في كتاباتهم القصصيّة والمسرحيّة، مثل: "مسرحيّة العصفور في القفص"، والمجموعة القصصية "ما تراه العيون".).(32). وهناك "نجيب محفوظ" ( الذي يعتبر أبرز أديب اعتمد الواقعيّة في أعماله الروائيّة الغزيرة، مثل: "القاهرة الجديدة"، "خان الخليلي"، "زقاق المدق"، "السراب"، "ثلاثية بين القصرين، قصر الشوق، والسكريّة"، وقد حرص محفوظ على الاحتفاظ بأسماء الأماكن، وهذا من مؤشرات الواقعيّة وكذلك الاهتمام في مشاكل الطبقتين الدنيا والوسطى اللتين شكلتا غالبية المجتمع المصري. وبعد ثورة 1952م كتب محفوظ أعمالًا واقعيّة تندرج تحت الواقعيّة النقديّة، فقد شرح المجتمع المصري، وانتقد عددًا من المظاهر السلبية، مثل: (الانتهازيّة، الخيانة، النفاق)، ومن تلك الأعمال رواية "اللص والكلاب" التي تجسد واقع ما بعد الثورة بعين ناقدة ورافضة.). (33). وهناك "عبد الرحمن الشرقاوي"، وتعد روايته الشهيرة (الأرض) مثالًا على الواقعيّة الاجتماعيّة، حيث تصور عناء واضطهاد واستغلال الفلاحين وفضح وحشية الإقطاع الزراعيّ في مصر.).(34).

هذا دون أن ننكر حضور كل من ("طه حسين" في كتابه "المعذبون في الأرض" حيث عبر فيه عن رفضه لمظاهر الظلم و الفقر كما مثل الأديب "توفيق الحكيم" في روايته "يوميات نائب في الأرياف" كما ظهرت الواقعيّة أيضا عند "يوسف إدريس" في روايته "الحزم" وعند الأديب "يحيى حقي" في مجموعته القصصيّة "هاء وطيف". ولم تعد الساحة العربيّة في المغرب العربي ودول الخليج الكثير من الروائيين العرب. كـ"مولود فرعون" من الجزائر على سبيل المثال لا الحصر.).(35).

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

...........................

الهوامش:

1- (موقع الجامعة المستنصريّة -  المذهب الواقعي – تعريف الواقعية -). بتصرف.

2- ( الرشيد بوشعير (1996)، الواقعية وتياراتها في الآداب السردية الأوربية (الطبعة 1)، دمشق: دار الأهالي، صفحة 7. بتصرّف.).

3- (موقع سطور –كوم - المذهب الواقعي في الأدب - تمت الكتابة بواسطة: إسراء أبو رنة.). بتصرف.

4- (موقع الألوكة - نشأة الواقعية - قحطان بيرقدار -). بتصرف.

5- (سعد البازعي (2004)، استقبال الآخر (الطبعة 1)، المغرب:المركز الثقافي العربي، صفحة 135.). بتصرف.

6- ( سعد البازعي (2004)، استقبال الآخر (الطبعة 1)، المغرب:المركز الثقافي العربي، صفحة 135.). بتصرف.

7- (المذهب الواقعي في الأدب -  تمت الكتابة بواسطة: إسراء أبو رنة.). بتصرف.

8- (موقع سهل - المذهب الواقعي في الأدب-  زينب عمر.). بتصرف.

9- (موقع سهل - المذهب الواقعي في الأدب-  زينب عمر.). بتصرف.

10- ( موقع إجابة - ما هي الخصائص الرئيسية للنقد الأدبي التحليلي؟ ). بتصرف – و(يرجع أيضاً: ما هو المذهب الواقعي في النقد وما هي خصائصه - كيرو البدري – جريدة لحظات نيوز). بتصرف.

11- ( موقع إجابة - ما هي الخصائص الرئيسية للنقد الأدبي التحليلي؟ ). بتصرف.

12- (صلاح فضل (1980)، منهج الواقعية في الإبداع الأدبي (الطبعة 2)، صفحة 5-6.). بتصرّف.

13- (الجامعة المستنصرية – تعريف الواقعية.) بتصرف.

14- المرجع نفسه – بتصرف.

15- المرجع نفسه – بتصرف.

16- (موقع - المرجع الالكتروني للمعلوماتيّة -الواقعية الطبيعية - عبد الرزاق الأصفر .) بتصرف.

17- المرجع نفسه - بتصرف.

18- (صلاح فضل (1980)، منهج الواقعية في الإبداع الأدبي (الطبعة 2)، صفحة 5-6. بتصرّف.). بتصرف.

19- (يوسف نور عوض - نظرية النقد الأدبي الحديث (الطبعة 1)، (1994) – القاهرة - دار الأمين، صفحة 33.). بتصرّف.

20- (عن سمات وخائص الواقعيّة الاشتراكية – يراجع – موقع المرجع الالكتروني للمعلوماتيّة. الواقعية الاشتراكية - المؤلف : عبد الرزاق الأصفر.). بتصرف،

21- (عن سمات وخائص الواقعيّة الاشتراكية – يراجع – موقع المرجع الالكتروني للمعلوماتيّة. الواقعية الاشتراكية - المؤلف : عبد الرزاق الأصفر.). بتصرف، ويراجع أيضاً - ما هو المذهب الواقعي في النقد وما هي خصائصه - كيرو البدري – جريدة لحظات نيوز).

22- (غسان السيد ووائل بركات (2003)، اتجاهات نقدية معاصرة (الطبعة 1)، صفحة 78. بتصرّف.

23- (ماجد علاء الدين (2015)، الواقعية في الأدبين الروسي والعربي (الطبعة 1)، دمشق:دار رسلان، صفحة 17-113-190.). بتصرّف.

24- ).( غسان السيد ووائل بركات (2003)، اتجاهات نقدية معاصرة (الطبعة 1)، صفحة 78. بتصرّف.

25- (موقع إجابة - من هم أبرز الكتاب الواقعيين في التاريخ) -  و(يراجع أيضاً حول التعريف بهؤلاء الكتاب الواقعيين  في الغرب – موقع الوكيبيديا) بتصرف.

26- (رواية الأم – إصدار دار التقدم – موسكو.).

27- (موقع المعرفة – ميخائيل شولوخوف – كتابات مخنارة).  بتصرف.

28- (موقع هنداوي – المساهمون – عمر الفاخوري.) بتصرف.

29-  (موقع الطريق - من سوريا إلى روسيا.. رحلة اكتشاف ”مواهب الكيالى” بشرى عبد المنعم.). بتصرف.

30- (موقع العرب - حنا مينه روح البحر التي قهرت الألم وحلمت بالسعادة – نضال قوشحة -). بتصرف.

31- (ضفة ثالثة منبر ثقافي عربي – ذكرى سعيد حورانية.. الكاتب الاجتماعي - راسم المدهون. بتصرف.

32- (موقع موضوع – رواد المدرسة الواقعية في الأدب العربي. نائلة الخطيب. ).

33- (المرجع نفسه.).

34- (المرجع نفسه).

35- (الجامعة المستنصرية – بحث عن تعريف الواقعية).

للروائي سيف المفتي

عندما فتحت صفحات رواية "ظالميا" للروائي العراقي المغترب محمد المفتي، لم أكن أتوقع أن أجد نفسي غارقة في عالم يجمع بين الرمزية الاجتماعية والسياسية، وبين سرد غني بالواقعية والحلم. الرواية لم تكن مجرد قصة عن قرية هامشية، بل كانت مرآة لمجتمعات تعاني من أزمات متشابكة تعكس واقعية قاسية. منذ اللحظة الأولى، شعرت بأنني أمام عمل أدبي يتجاوز الحدود الجغرافية ليضعني في مواجهة مع قضايا إنسانية عميقة مثل الظلم، التهميش، والصراع بين الأمل واليأس. تُعتبر "ظالميا" من الأعمال الأدبية التي تتناول مجموعة متنوعة من الموضوعات الاجتماعية والاقتصادية والدينية المتشابكة. وعلى الرغم من أن الرواية قد تبدو للوهلة الأولى كحكاية محلية تجري أحداثها في قرية صغيرة نائية عن المدن الكبرى، إلا أن الكاتب يستخدم هذا الإطار المحلي لتقديم صورة أوسع عن صراعات إنسانية ذات طابع عالمي. تتجاوز الرواية حدود الجغرافيا المحلية لتسلط الضوء على قضايا مثل الفقر والتهميش والهوية في مجتمعات تتأرجح بين الأمل والخيبة. هذا المنظور الرمزي يعمق فهم الرواية، ويضعها كبنية أدبية معقدة تستحق التحليل والنقد. في رواية "ظالميا"، يُبرز الكاتب معاناة المجتمعات المهمشة التي تكافح من أجل البقاء في ظل ظروف اقتصادية خانقة وتوترات اجتماعية متزايدة. يسرد الكاتب قصة قرية "ظالميا" وسكانها الذين يعيشون تحت وطأة الظلم الاجتماعي والاقتصادي، حيث تعكس الرواية الفجوات الطبقية الشديدة والفقر والبطالة. الشخصيات، رغم سعيها للهروب من واقعها القاسي، تجد نفسها عالقة في دوامة من الأزمات التي لا تنتهي. "ظالميا" تصبح رمزًا شاملًا للظلم الاجتماعي والاقتصادي والديني. فالقرية لا تمثل مجرد مكان جغرافي، بل هي استعارة لكل منطقة أو مجتمع يعاني من الفساد والقهر. هذا الربط بين القرية والواقع العالمي يجعل القارئ يستوعب أبعاد الرواية التي تتجاوز المحلية، لترتبط بأوضاع المجتمعات المهمشة في أي مكان في العالم. في الرواية، يتجسد الأمل في عودة شخصية "أنطوان"، الذي يمثل الحلم بالتحسن الاقتصادي والاجتماعي. إلا أن هذا الأمل سرعان ما يتلاشى، حيث تتحول وعود التغيير إلى خيبة أمل جماعية. الرواية تعرض بوضوح التناقض بين الأمل والخيبة، وتوضح كيف أن الطموحات الكبيرة تصطدم بالواقع القاسي. من خلال هذا التفكك، تعكس الرواية الصراع بين الحلم والواقع، وتطرح تساؤلات حول دور الأمل في حياة الفئات المهمشة. يمثل الصراع الطبقي والديني جزءًا جوهريًا من بنية الرواية. من الناحية الطبقية، نجد الفجوة الكبيرة بين الأثرياء والفقراء واضحة، حيث تسعى الشخصيات الثرية لتعزيز مكانتها، في حين أن الشخصيات الفقيرة تعيش على هامش المجتمع. أما على المستوى الديني، فإن الرواية لا تتجاهل التوترات بين المسلمين والمسيحيين، بل تستخدمها لفضح كيفية استغلال الدين لتعميق الفجوات الاجتماعية. الدين في "ظالميا" يظهر كعامل للتفرقة، وليس للتوحيد، ويستخدم من قبل الشخصيات كذريعة لتبرير العدوان والتمييز، مما يزيد من حدة الصراع. من خلال تناول قضايا الفقر، والصراع الديني، والخيبة الناجمة عن الوعود الاقتصادية والسياسية غير المحققة، يقدم الكاتب صورة واقعية لمجتمعات تعيش تحت ضغط هذه الأزمات. شخصية أنطوان في الرواية تمثل التناقض بين النجاح والفشل، بين الأمل والخيبة. في البداية، ينظر إليه أهل القرية على أنه المنقذ الذي سيحقق لهم التغيير الذي طالما انتظروه. رؤيته كرمز للنجاح تأتي من وضعه الاجتماعي والوعود التي قدمها لأهل القرية بتحسين أوضاعهم المعيشية. ولكن سرعان ما يبدأ هذا الأمل في التلاشي عندما تفشل وعوده في التحول إلى واقع ملموس، وتبدأ شخصيته في التحول إلى رمز للخذلان وخيبة الأمل الجماعية. هذا التناقض في شخصية أنطوان يعكس تناقضات أكبر داخل المجتمع الذي يعيش فيه، حيث تصطدم الطموحات الفردية والجماعية بالواقع القاسي والقيود الاجتماعية والاقتصادية. الرواية تسلط الضوء على الفجوة بين ما نعتقد أنه ممكن تحقيقه وبين القيود التي تمنع ذلك، مما يخلق حالة من الإحباط والخيبة بين الشخصيات، وخاصة تلك التي وضعت آمالها في شخص مثل أنطوان. هذا التحول من رمز للأمل إلى رمز للفشل يعمق الصراع بين الحلم والواقع في الرواية، ويعكس كيف يمكن أن يتحول الأمل نفسه إلى مصدر للمعاناة عندما يصطدم بواقع لا يرحم. هذه الشخصية تُظهر القيود الاجتماعية التي تحول دون تحقيق الطموحات الفردية. أما ماما ليلى، فهي تمثل الانتظار الطويل والتضحيات التي تُبذل دون جدوى، حيث تظل محاصرة بخيبات أمل عائلية وشخصية، ما يعكس الصراع الداخلي بين الواجب العائلي والاحتياجات الفردية. في النهاية الدرامية للرواية، تعود الشخصيات إلى نقطة الصفر، مما يعكس التشاؤم العميق الذي يسيطر على الرواية. بالرغم من كل المحاولات للخروج من دائرة الفقر والظلم، تبقى الشخصيات عالقة في نفس الأزمات. هذه النهاية تعكس فشل المجتمع بأكمله في تجاوز مشاكله، وتوضح أن وعود التغيير كانت مجرد وهم. الرواية تُظهر أن الصراعات الاجتماعية والدينية والاقتصادية ليس لها حل، بل تظل ثابتة، ما يخلق إحساسًا بأن المحاولات للتغيير هي دورات متكررة من الأمل والخيبة. في "ظالميا"، تتجلى القصة المحلية كمرآة تعكس الصراعات الإنسانية العالمية، حيث يتصارع الفرد والمجتمع بين الأمل والخيبة. الرواية تقدم رؤية عميقة عن الصعوبات التي تواجهها المجتمعات المهمشة، وتعكس الصراعات الطبقية والدينية التي تقسم المجتمعات. النهاية الدرامية للرواية تترك القارئ أمام إحساس قاتم بأن الصراع المستمر بلا نهاية، مما يعزز الإحساس بالتشاؤم والعبثية في محاولات تحسين الواقع. رواية "ظالميا" تُعد نموذجًا قويًا للأدب المعاصر، الذي يسلط الضوء على القضايا الإنسانية المعقدة، ويطرح أسئلة حول كيفية مواجهة الفقر والظلم والصراع الاجتماعي. إنها قصة تجمع بين الأمل واليأس، وتحفز القارئ على التفكير في دور الفرد والمجتمع في مواجهة التحديات الإنسانية. أن "ظالمايا" لا تقتصر فقط على تقديم صورة متشائمة للواقع، بل تفتح الباب أمام أسئلة أكبر حول العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبين الدين والسلطة، مما يجعلها عملاً أدبيًا يتجاوز حدود السياق المحلي ليعبر عن قضايا إنسانية عالمية.

***

زكية  خيرهم

مهرجان المسرح التجريبي بدأ في مصر منذ عام 1988 وانتظم إجراؤه على مدار سنوات طويلة منعقداً كل عام جامعاً محاولات التجريب المسرحي من أطراف العالم..

ومع أحداث يناير2011 انفرط عقده ثم عاد على استحياء عام 2014 تحت عنوان: "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي" ثم لم يكتب له الاستمرار. ودار سجال وقتذاك حول مدي جدواه في ظل أزمة تتهدد المسرح بكل أنواعه واتجاهاته؛ فالمسرح القومي يواجه أزمة تمويل، والمسرح الخاص يبحث عن جمهور، ولم يستمر إلا نوع من المسرح الكوميدي المعتمد على الإفيهات المضحكة، ما يسمي farce، وهو لا يهدف لطرح قضايا بقدر ما يهدف للتسرية والسخرية والإضحاك الصرف، وحتى هذا النوع بات قاصراً على العروض المحدودة دون ارتباطه بمواسم مسرحية لم يعد لها وجود.

أما المسرح التجريبي فهو بطبيعته لا يخاطب عموم الجمهور، فرواده جميعهم إما نقاد أو مسرحيون أو مثقفون. لأنه في الأصل مسرح موجَّه نحو تطوير آليات مسرحية كالإضاءة والإخراج والسينوجرافيا وفنون الأداء. معني هذا أنه يستنزف أموالاً دون مردود وبدون جمهور. إنه أشبه بورشة عمل مكبرة تحاول البحث عن آليات تطوير مفاهيم المسرح وأدواته، لهذا يصبح وجوده مرهوناً بالرغبة في تطوير المسرح أو انعدامها..

جزء من كل

لو أن هناك أزمة في دعم وجود المسرح التجريبي، فلأنها في قلب أزمة أكبر في المسرح بصفة عامة، في تمويله وعائداته وانتظامه وقدرته على اجتذاب جمهور حقيقي.

لقد بدأ المسرح التجريبي، أو المسرح الطليعي طبقاً للمسمي القديم، في أواخر القرن التاسع عشر مع مسرحية "الملك أوبو" لألفريد جاري، والتي أعلن من خلالها رفضه لكل طرق المسرح الكلاسيكي السائدة في الكتابة والإخراج. ثم تتابعت نماذج ومحاولات التجريب في المسرح وكان من ثمارها حدوث تطور هائل في تقنيات المسرح وتكنيك أدائه.

لقد كان الهدف الأول للمسرح التجريبي عند ظهوره إحداث ثورة تطويرية تخرج به عن دائرة الإملال والتقليد والتكرار. غير أنه صار بالتدريج تياراً وحده ينضم لتيارات المسرح وأنواعه، مما تسبب في خروجه أحياناً عن قدرته على تحقيق أي هدف، وبالتالي قدرته على الصمود والاستمرار..

وقد ظل التجريب في المسرح سابقاً مقتصراً على أروقة المعاهد المسرحية والدرامية المتخصصة، قبل أن ينفتح على التجارب العالمية من خلال المهرجان القومي الدولي، والذي أتاح امتزاج التجارب وانصهارها معاً من أجل الوصول إلى تحقيق أهدافه في تحسين آليات الدراما وأدواتها. وبرغم أن طبيعة المسرح التجريبي تحول دون قدرته على إنتاج فرق مسرحية ثابتة، لأن جمهوره من الخاصة، إلا أنه استطاع أن ينشئ فرقاً مسرحية كفرقة الخشبة المقدسة وفرقة البطل وفرقة أوبن مايند. فهل استطاعت تلك الفرق الصمود في وجه الأزمة المسرحية العامة في مصر والمنطقة؟ وهل ارتبطت أزمة المسرح القائمة بالأحداث والتوترات في المنطقة؟ ربما.

أهمية التجريب المسرحي

هناك عدة دراسات أكاديمية متخصصة استفاضت في الحديث عن أهمية التجريب في المسرح. كان من أقدمها وأهمها رسالة الدكتوراه للدكتور "سيد خاطر" والتي ركزت على ناحية الإخراج المسرحي ومفاهيم العرض المسرحي فيما يخص التجريب. ثم صدر كتاب للناقد "سيد إمام" بعنوان: (قراءة في الوعي الجمالي العربي) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ناقش فيه الكاتب جماليات المسرح التجريبي خلال عامي 88، 89. ثم قام الدكتور "أشرف زكي" بعمل دراسة ماجستير بعنوان: (دور المخرج في تأسيس حركة التجريب في المسرح المصري)، بحث من خلالها محاولات التجريب الأولية قبيل عام 88 الذي بدأت فيه الدولة تتبني تفاعلاً دولياً في التجريب المسرحي. ثم تتابعت الدراسات والمقالات المتخصصة حول موضوع التجريب الدرامي، ما يشير إلى تحول "المسرح التجريبي" إلى فرع من فروع المسرح المهمة.

ولفهم مدي أهمية التجريب المسرحي، يكفي أن ندرك أن محاولات "أنطونين أرتو" و"بيرانديللو" و"برتولت بريخت" هي نماذج من المحاولات الناجحة التي أسهمت في تغيير مفهوم الدراما تغييراً جذرياً وللأبد. تلك المحاولات التي رسخت لمفهوم إسقاط الحائط الرابع بين الجمهور والممثلين، وأرست دعائم أشكال جديدة من المسرح، لدرجة أن بعض هذه الأنواع ساهمت في تقليل تكلفة العروض المسرحية بدءاً من تصميمه المعماري البسيط، كمسرح الغرفة ومسرح العلبة، ومروراً بقلة تكاليف الديكورات والأثاث المسرحي طبقاً لمفاهيم المسرح الملحمي، وانتهاءً بتقليل الأجور المسرحية، من خلال الاستعانة بعدد أقل من الممثلين، حيث أمكن إيجاد نصوص مسرحية قوية مؤثرة ببطلين فقط، وعدد قليل من الأدوار الفرعية.

ثم هناك آثار أعمق للمسرح التجريبي على المستوى الفكري والأيدولوجي: بدأت أولاً بظهور ما سُمي بمسرح القسوة الذي أحدث أثراً مدوياً كشكل من أشكال الصدمة الثقافية ذات التأثير العميق. الغريب أن فكرة مسرح القسوة القديم، عاد للظهور متخفياً داخل عباءة تيار ما بعد الحداثة، التي استدعت القيم الشعبوية وحتى العبارات والحوارات المتدنية المنتسبة إلى الطبقات الاجتماعية الأدني. ومهما كان هذا النوع من الدراما صادماً لجمهور الكلاسيكيات، فإنه أحدث وقت ظهوره تأثيراً أدي في النهاية لتغيير مسار المسرح تغييراً هائلاً استمر حتى وقتنا هذا.

المسرحيون من المتخصصين سواء كانوا أكاديميين أو فنيين أو مخرجي دراما كلهم يدركون مدي أهمية التجريب المسرحي لتطوير تقنيات الدراما وفلسفاتها وأدواتها. لكنهم أيضاً يدركون مدي ارتباط حركة التجريب بالاقتصاد القومي من ناحية، وبالاقتصاد المسرحي على المستويين الحكومي والخاص. وهنا بالضبط تكمن إشكالية المسرح التجريبي، وربما المسرح بصفة عامة.

أمل التطوير الشامل

هناك دراسة مهمة عن التجريب الدرامي أصدرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2014 تحت عنوان: "الاتجاهات التجريبية في المسرح المصري خلال الفترة من 1988 إلى 1999) وهي دراسة أكاديمية متخصصة للدكتور حسام عطا.

خلصت تلك الدراسة إلى عدد من النتائج كان منها: ارتباط المسرح بالاقتصاد كنتيجة لارتباط المدينة بالعقل الجمعي وبآليات السوق وأنماط الاستهلاك، وبنصيب الفرد في الحداثة. أي أن هناك علاقة تبادلية بين حركة المسرح وانتعاشه وبين الإنتاج القومي والنشاط الاقتصادي.

وعلى المستوي الفكري والأيديولوجي تؤكد الدراسة انتصار الحياة اليومية بمفرداتها على الجماليات التقليدية في الفنون المرئية سواء في العالم الغربي أو في مصر. ما يعني انتصار الشعبوية على الكلاسيكية، وأن هناك قفزة للطبقات الاجتماعية الأقل على حساب الصفوة، وأن هذه القفزة جاءت تحت تأثير العولمة، وأن هذا الانضغاط ضد النخبة القديمة أدي إلى التأثير على نوعية الجمهور المتلقي للفكر الدرامي. وإذا مددنا الخط على استقامته فسوف ندرك سبب تقلص أو انعدام جمهور المسرح التجريبي حتى على مستوي النخبة المتخصصة والجمهور المثقف.

استطردت الدراسة، التي أجدها عميقة، في عرض نتائجها التي ناهزت العشرين. وهي مهمة لكل باحث أو دارس لفن الدراما. وقد أوصي كاتبها بأهمية دعم مساحة حرية الإبداع، وبالتأكيد على أهمية الاتجاهات التجريبية لدعم المسرح، وأن يتم هذا برعاية قومية حكومية في الأساس من أجل إيجاد آلية لانتظام فعاليات المسرح التجريبي. وأن يتم إدماج المشروع التجريبي مع مشروعات عامة أخري تمس الصحة والتعليم لدعم مسرح المقهورين ومسرح الشارع من أجل جذب جمهور أكبر، تماشياً مع تيارات ما بعد الحداثة وتأثيرات العولمة التي أعادت جمهور الطبقات الاجتماعية الكادحة لصدارة المشهد.

إن تطوير المسرح التجريبي وانتظامه واستمراره رهن بعملية تطوير كبري تشمل المسرح بصفة عامة، وأملي أن تتضافر جهود القطاع الخاص والحكومي والأهلي لدعم تطوير المسرح أبو الفنون. ففي تطويره فرصة لازدهار جميع تياراته وأنواعه، ومنها المسرح التجريبي.

***

عبد السلام فاروق

لعلَّ المنهج الانطباعي أو التأثري هو أقدم المناهج التي عرفها النقد، لاسيما أنَّه صاحب ظهور فنون الأدب المختلفة، وبخاصة فنون الشعر، وظل قائمًا وضروريًّا حتى اليوم، ورغم كل ما طرأ عليه يعتبر مرحلة ضرورية وأساسية وأولية في النقد، ولكنه ليس النقد كله، ولا يمكن الاكتفاء به، بل يجب أن تتبعه مرحلة أخرى تفسر وتبرر التأثرات التي نتلقاها عن العمل الأدبي بأصول ومبادئ موضوعية عامة، حتى نستطيع أن نحوّل ذوقنا الخاص الى معرفة موضوعية يقبلها الغير في ضوء الإدراك الفكري. وقبل أنْ نتحدث عن المنهج الانطباعي عند بعض النقاد في تحليل النص الأدبي، نرى من الضروري أنْ نقف عند معنى الانطباعية في النقد، وهل يمكن عدّها منهجًا أم لا؟!!!

النقد الانطباعي

عرفت الانطباعية في النقد الحديث بأنها نزعة تشكيلية، ظهرت في القرن 19، وجاءت كرد فعل، ضد الطبيعية والرمزية معًا، كتعبير عن مدركات الحس، وهي أيضًا وصف للانطباعات، التي يثيرها الموقف في النفس. أما النقد الانطباعي فهو تقديم جذاب للعمل الأدبي، انطلاقًا من تأثير العمل على الناقد ، أي أنه يعتمد أساسًا على الذوق الذي هو في الأصل ملكة تدرك بها طعوم الأشياء واصطلاحًا أداة الإدراكات التي تثير في نفس المتذوق لذة فنية تجاه العمل الأدبي.

لقد تباينت الآراء حول الانطباعية هل هي منهجًا أم لا؟، فالبعض منهم يرى أن النقد مزيج من الانطباعية والموضوعية، وهو ما ذهب إليه الناقد أحمد الشايب، ود. أحمد كمال زكي، ود. إحسان عباس، حيث اتفقوا على أن: النقد مزيج من الذاتية والموضوعية فهو مقيد بأصول علمية مقررة من جهة ومتأثر بذوق الناقد ووجهة نظره من أخرى، وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى أن يتوخى بلوغ النهاية في تجويد الصورة. ومن هنا نرى كيف ترتبط الموضوعية بالذات ارتباطًا وثيقًا، وكيف ينبغي على الناقد ألا يسهو عن التفاعل بين النفس والطبيعة من حيث أن الأدب يشكل تجربة ميدانها الأول خارج الذات. وطبقًا لهذا الرأي فإن النقد مزيج من الانطباعية والموضوعية، فهو عملية فعالية وسطية تقع دائمًا بين فعاليتين أو منطقتين، فهو الحلقة التي تتوسط الأدب والجمهور، وهو يستمد من الثقافات المختلفة ليسلّط الأضواء الكاشفة على المادة الأدبية، أي هو منطقة وسطى بين الثقافة المعرفية وفنون الأدب، وهو منطقة تطغى حدودها من جهة على العلم ومن أخرى على الفن؛ النقد قائم بين اعتبارات موضوعية وأخرى ذاتية، ولذلك كان بحكم موقعه قابلًا للتأثر والتوجيه، منفعلًا أكثر منه فاعلًا، وإذا لم يستطع أن يحفظ التوازن الضروري بين المنطقتين الواقعتين على حدَّيه تورَّط في الخطأ أو الإخفاق. وحري بنا في هذا المقام أن نسوق آراء الفريق الآخر من النقاد الذين أكدوا على ضرورة الفصل بين الانطباعية والموضوعية في النقد، وعلى عدم وجود منهجية في الانطباعية، وهو رأي دكتور عز الدين إسماعيل، والناقد طراد الكبيسي، الدكتورة بشرى موسى صالح؛ إذ ذهبوا بالقول بأنَّ الحكم الذاتي ليس حكمًا جماليًّا بالمعنى الصحيح أي لا ينصب على جمال موضوعي، بقدر ما هو مفسر لحالة المتلقي، وقد وصفوا الانطباعية بأنها أشبه بوجبة طعام خفيفة نلتهمها في حالة فقدان شهية، أو حين لا نريد أن نثقل على أنفسنا. ومع إيماننا بأن التذوق عنصر مهم في النقد، وربَّما كان أول نقد بدأه الإنسان، هو النقد الذوقي أو الجمالي إلا أن النقد تعدى هذه المرحلة مذ قرون، ذلك أننا لو اعتبرنا التذوق منهجًا نقديًّا قائمًا بذاته، لكان كل قارئ – مهما كانت درجة ثقافته وتذوقه – ناقدًا لا يصح رد مزاعمه.! ومجمل قولهم أنَّ الانطباعية ليست منهجًا بل عملية تذوق ذاتية محضة تتجلى في استجابة لا واعية قائمة على التفضيل المبهم، والاستجابة اللاواعية للنص لا تفرز وعيًا نقديًّا منهجيًّا بالضرورة، فيكوّن أو ينشىء الانطباعي نصًّا آخر يمثل طبقة ذاتية عازلة ثقيلة تغرّب النص عن باثه ومتلقيه.

النقد الموضوعي

لما كان النقد عملية فكرية موضوعها الإبداع بما فيه من تفكيك وتركيب وإضاءة وتحليل للنصوص الإبداعية في كافة الأجناس الأدبية؛

كان الأدب بحاجة إلى هذه العملية لأنَّ طبيعته المتميزة تقتضي الحديث عما فيه من خفايا ومكامن أو متغيرات ومستجدات، وبعبارة أخرى فالأدب إنتاج لغوي مفتوح، له مقومات عديدة وإمكانيات كثيرة قد تجعل منه كيانًا مستعصيًّا أو غامضًا أو مُعقَّدًا في بعض النصوص، وعلى ذلك تصبح الحاجة ماسة إلى فهمه أو تقريبه أو تفسيره أو تقويمه وهي ضمن المهام المنوطة بالنقد في الأساس، ومنها يستمد تعريفه ومشروعيته وحقيقة وجوده. فإنَّ وجود المنهج في النقد هو أمرٌ ضروري لأن تحليل العمل الأدبي دون منهجٍ واضح ٍ في نفس الناقد لهذا التحليل أمرٌ محفوفٌ بالمخاطر، حيث سيادة الأحكام والأهواء الفردية القائمة على أساس الذوق الذي يعد في رأي الانفعاليين الفيصل الفذ في وصف الأدب وتذوقه سواء أكانت نتيجة التذوق والتأثر ثابتة أم متغيرة بتغير الأوقات والبيئات. هذا لا يعني أننا لا نقبل بوجود نقد ذاتي أو يغلب عليه الذوق، ولكن نقبل به في حالة واحدة هي بدايته التي يشهد عليها التاريخ. فنحن لو تتبعنا أصول النقد في العالم قبل أرسطو نرى ثمة أموراً يغلب عليها الذوق، وظل النقد قائمًا بها حتى نهاية العصر الهومري في القرن الثامن قبل الميلاد، وعندما تطور على أيدي فلاسفة القرنين السادس والخامس لم يتحرر من الأحكام الذاتية، حتى وإنْ دعمت بالأخلاق، وظل الأمر كذلك حتى قدم أرسطو للنقد الموضوعي، واضعًا بكتاباته عن الشعر والخطابة حدًّا للنقد الذوقي والنقد الذوقي الأخلاقي. إذن نستطيع القول أنَّ وجود المنهج في النقد أدى إلى ظهور ما يعرف بالنقد الموضوعي وهو ذلك النقد الذي يقوم على منهج تدعمه أسس نظرية أو تطبيقية عامة ويتناول النصوص الأدبية، يفصّل القول فيها ويبسّط عناصرها ويبصّر بمواضع الجمال والقبح فيها، كما أن النقد ينبع من الشعر، أو النص ذاته وليس من الأديب، أي أنَّ اللغة الشعرية أو الأسلوب الشعري على سبيل المثال، هو الذي يقود الناقد من خلال التحليل والموازنة إلى حكم نقدي موضوعي وحس فني جمالي.

وخلاصة القول

إنَّ النقد الموضوعي لا يعني أنْ يستخدم الناقد ما يشاء من المناهج ويقحمها داخل النص، وإنَّما النص هو الذي يفرض على الناقد استخدام هذا المنهج أو ذاك وهنا يدخل النقد الأدبي الحياة الإنسانية حين يغدو مظهرًا مهمًا من مظاهر حركية المجتمع حيث يشارك العلوم الإنسانية الأخرى هدفها وغايتها في تحليل النفس البشرية من خلال تجاربها الأدبية المختلفة. فتصير حينئذٍ بعض الأحكام الجزافية والعابرة ضربًا من السذاجة وإنْ عدّها البعض من النقد الأدبي. إنَّ النظرة النقدية للنصوص الأدبية يجب أن تنطلق من فهم عميق للأبعاد الفنية بتعادلية موضوعية بين الذوق والمنهج وإلا فهي ضرب من النقد التأثري والذاتي الذي يطفو على سطح التجربة الشعرية ولا يحاول النفاذ إلى أعماقها. وعلى ذلك إذا كانت التأثرية نقدًا مشروعًا حسبما نرى، يبقى فيها شيئًا من الموضوعية أو المنهجية، فيما نرى أيضًا الموضوعية أو المنهجية قسطًا من التأثرية. وحسبما نرى أن هذا التضارب أو التناقض في الآراء حول الانطباعية كونها منهج من عدمه، يرجع الى ثنائية العملية النقدية كما نراها ذوقًا وإدراكًا، ويمكن النظر إلى النقد على أنه فنًّا من جانب، وعلمًا من آخر، على أنَّه لا بدَّ أنْ ينصهر الذوق والإدراك كلاهما ويتوحدا في ذات وفكر من يتصدى للنص الأدبي بالقراءة والدراسة والتحليل.

***

د. سيد فاروق

 

رؤية الهاجس وشعرية الرؤيا، الفصل الأول - المبحث (2)

توطئة: إن ما ينبغي التأكيد عليه في تجربة النص الشعري الموسوم (قارات الأوبئة) ذلك التشبث بإمكانية الربط القصدي - التراكيزي - للفعل الرمزي الداخلي الذي يشكل بذاته ذلك الاستخدام الواعي في جعل المدلول الجزئي على وفق دوال انطلاقية، اختبارية تسعى إلى تحديد غايتها الجوهرية من جراء التسيير الذي يخضع لعملية (رؤية الهاجس) الداخلي - اقترانا - بذلك الاحتدام الخارجي الذي يواجه الذات الرائية لحظة إنبثاق التلميح والاختزال في معنى (شعرية الرؤيا) واستبعادها في مجاورات دﻻلية قائمة بالفعل الذهني المضاف إلى تفاصيل العلاقات الشعرية المتحولة والبديلة في معطى الخطاب الظاهري بالصيغة المخصوصة في طبيعة واقعة التركيز الشعري انطباعا ورمزا .

- توالدات خصوصية المكان وحركية رؤية الإيحاء المتصور:

١- محورية التراصف الكنائي:

لقد استثمر الشاعر فوزي كريم عبر وحدات مقاطعه الشعرية المتوغلة في مواضع فصولية ذات دﻻﻻت منحها الشاعر بعدا دراميا فاعلا، يومئ إلى ذلك من خلال مواطن الرحيل والزوال واللاجدوى وغالبا ما تكون مشاهدا خاصة في استخلاص تجليات الحرب والحروب، لذا بدت أغلب المقاطع عبارة عن (محاور متراصفة كنائيا)مشحونة بالرؤى المكانية التي بدا عليها تعدد الاصوات وتقطيع الأجواء في أمكنة أخذت تتشرب ملامح مرجعية ذا اشباعات أفقية خاصة من تحويل الدﻻلة السياقية إلى مباغتة مشهدية بضياع مظاهر البلاد والواقع وحركة الحياة:

عند زقاق - كان القمر يشي بالفجر -

تراءى لي كلكامش

يقطف من دافلى الدار

وردتها

ثم يبيع شذاها للعطار

...

... /ص٩

تقوم شعرية المقاطع ضمن بؤرتها التشكيلية على محور (التراصف الكنائي) أو على استثمار المعادل الموضوعي (تراءى لي كلكامش -يقطف من دفلى الدار - وردتها - ثم يبيع شذاها للعطار) بل يكاد الشاعر أن يؤسس بضياع (أريج الورد)و بخاصة من جهة كلكامش الذي يشكل بذاته رمزا مرجعيا في تشييد وحدة الأوطان، فكيف به عندما يظهر لنا وهو يبيع شذا وردة الدار (البيت = الوطن) إلى دال العطار، كما وتحتل جدلية الوظيفة التشكيلية تحوﻻ في دﻻلة جملة (عند زقاق - كان القمر يشي الفجر)و غالبا ما تتشكل محددات (المكان =الظرف)موقفا داﻻ على براءة (السكون =الحركة) امتدادا نحو أداة التنقيط السطرية التي تشي بتجليات النواة المضمرة في حركية الواقع الضاج باللاجدوى والفراغ الطافح:

في ذاك اليوم ولدت . أبي يحتاط من الفيضان

و أمي في الغيبوبة. والحرب الكبرى توشك ان

تتوقف فوق المفترق الواسع للزمن المتردي

نحن الحمقى كنا نكبر

دون محاذرة، ونلوح للدفلى

في حوش الدار بحمى الفرد . /9

لعلها لقطات من مشهد يختزل الزمان العمري .. عمر الفرد المستلب في طفولته حين غدا يلوح لزهرة الدفلى التي ابتاع أريجها المحصل التاريخي إلى ذلك المعادل الموضوعي بر(العطار ؟)كما ومستوى الاستعارة هنا تعد بجزئيات التراصف الكنائي المختبئ وراء تلك التمثيلات الزمنية التي تتراوح في كفة قدرية الانطفاء الموقفي (أمي في الغيبوبة .. والحرب الكبرى .. نحن الحمقى كنا نكبر)لقد بدت مستويات الاستدلال تتعرض لمواجهة قصور الوعي، عبر مجاﻻت إشكالية من مآثم الضمير الفردي،لذا تبقى حركية الزمن تشكل بذاتها حساسية مضافة في إحصائية الشائع والضائع من تفاصيل المفروض الزمني(و نلوح للدفلى في حوش الدار بحمى الفرد)هذا المعنى الحتمي هو نتاج مؤولات الخسران بمحمولاته التي تتعدى حاصلية الرؤية الهواجسية الواحدة، بل أن المعنى ها هنا جرى في حدود تصورات التسليم بذلك الراهن المحسوس والمعاش بأقصى وحدات التأكيدات الذاتية المستوعبة .

٢- تسخير المعاذير وتمكينها في معايير الذات المستلبة:

إن الواقع الإجرائي في مؤديات الوحدات الشعرية، لم يكن سوى دوافع حسية بالتشخيص التصوري أو بذلك الافتراض للتجربة الذاتية التي تتوالد في الوجدان والذهن على هيئة تركيبات صورية مبثوثة عن ظاهرة مؤشرة في ممكنات أقوال الأنا المتكلمة:

فنحن كأفراد مختلفين يفرقنا وجه

الأبّ، ووجه الأم يوحدنا مثل الطرفاء ..

أخي معذور حين يلاحق ولعي بالاشياء فيغضب

أمي حين تلاحق وجعي من وهم لا يتحقق . /ص10

ان الشاعر يتبين عليه من خلال هذه الوحدات، كونه غدا يجتر مساحات من معوقات الذاكرة المتصلة وحدود الاواصر الأسرية، لذا تقودنا جملة (فنحن كأفراد كنا مختلفين) إلى مدى تصور صورة الاختلاف بين متاهات الأمنيات والأحلام المتصلة بكل فرد على حدة، وهذا الاختلاف ما راح يصور الذات المتكلمة على كونها بؤرة تحكمها المضادات الخارجية من النسق الاسري (يفرقنا وجه الاب، ووجه الأم يوحدنا) أي بمعنى أدق ان حالة الانشطار العائلية كواقعة يومية صارت محطات من الفراق والتوحد، ولكن الشاعر لم جعل يستوحي هذه الصورة تحديدا، لربما هناك خصائص حدوثية من شأنها باعدت وقاربت بين كفة الأم على الاب، لذا نلاحظ أيضا في جملة اللاحق (أخي معذور حين يلاحق ولعي بالاشياء فيغضب)من هنا تتضح (أزمة طفولة الشاعر) ودهشتها بعد إحصاء صوت الذات الراوية بكل حاﻻتها القلقة والمنقطعة عن أدنى حقوقها الرغبوية وصوﻻ إلى جملة (أمي حين تلاحق وجعي من وهم لا يتحقق) في هذه الجملة يتبين حقيقة اضطهاد الفرد في حيز مرحلته العمرية، وتتحول هذه البراءة الى جملة أسئلة صعبة المراس في حال تكرار جملة المناشدة الاعتذارية حتى إلى جهة خارج زمن العائلة: (معذورون: فتاة الجار - وفتيان الحلم المنهار بفعل الثورة) وﻻ أحسب من جهتي بأن الذات الفاعلة تركز صوتها الى حدود ضيقة من مرسلاتها القولية، دون تخطي ذلك القطب المركزي المعتمد معادلا موضوعيا، والمقصود به جهة أسى الحكومات، ما دام الشاعر راح يمنح لكل افراد اسرته بذلك الاعتذار وطلب الصفح، أي ان هناك قصدية مصبوبة في وجدان حاﻻت الذات، لربما هي حصيلة تراكمات سلطة باطشة أو لربما هي جملة القيود الفردية الشخصانية التي تحيط الذات بمفردها الحضوري المنكفئ.

معذورون .

سخام الوجه نذير ﻻ ينفك يشي بالليل الأليل

بالأيام لها شكل الاسلاك الشائكة.

أبي مات وأمي ماتت .

و احترقت في الدار الدفلى . /ص10

تتجلى وحشة الذات في ضوء علامات القهر والضديات الثنائية المتوالدة، لذا اصبحت حالة الحزن بوحا سوداويا فاعلا، ويصبح الدال الشعري من خلال لحظة سقوط (سخام الوجه نذير ﻻ ينفك يشي بالليل الاليل .. بالايام لها شكل الاسلاك الشائكة)كدﻻلة متراصفةفي مجرى روح الشاعر الكظيمة، لذا ينثال الواقع في تواتر محزون، فيتساوى توصيفا بمشبه (الاسلاك الشائكة) لذا تحيلنا دﻻﻻت الوحدات إلى ذلك النوع من الشعائرية بالفقد والمفقود، وتتلاشى من زمن قاموس بوح الذات كل الافعال والآمال المجدية .

- تعليق القراءة:

لعل القارئ للفصل الأول للمجموعة (قارات الأوبئة) يعاين مدى التشابه الدﻻلي بين (بداية =نهاية)وهو ما يعرف بالتدوير، ويمكن أن يمنحنا المعنى في مواضع دﻻﻻت النص إلى ذلك النحو من مقصدية الشاعر الرثائية للذات نفسها وإلى مواطن أمكنة الذاكرة وزمن اشتغال آليات دوال الفواجع الضدية التي تتعرض لها الذات الشعرية عبر موطنها الكبير والصغير (المنزل = البلاد) وصوﻻ الى حالات وصفية ضمنية راحت تختزن لأدوات الشعر علاقات وآفاق فقدانية عبر الحاﻻت والمواقف والزمكانية وفضاءات شعرية الأسى:

الموتى أكثر تعباً تحت الشمس من الأحياء

ورائحة العرق تطهر حاشية وجودي

من عفن الساعات . /ص13

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد

في قصيدة "ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ" للشاعر عبدالناصر عليوي العبيدي قراءة نقدية

إني بحبكِ واضحٌ وصريحُ

وحروفُ شعري في هواكَ تبوحُ

*

عانيتُ ما عانيتِ من ألمِ الجَوَى

لا ضوءَ في نفقِ الضياعِ يلوحُ

*

بي مثل مابكِ يا صديقةُ من هوى

همٌ يؤرقُ في الفؤادِ لحوحُ

*

حتّامَ ندفنُ في الهوى أحلامَنا

ونظلُّ في طَلَلِ البُعادِ ننوحُ

*

نَتَقَبّلُ الخيباتِ دونَ تَمَلْمُلٍ

أفلا يداوي جُرحَهُ المجروحُ

*

هل نستمرُّ على الطريقِ مع الأسى

لا بُدَّ من بعد الضّبابِ وضوحُ

*

أيقنتُ أنّ الدربَ أولُ خُطوةٍ

من بعد تِيهٍ يبدأُ التصحيحُ

*

مازلت أسعى كي أنالَ سعادتي

ما خابَ في نيلِ المُرادِ طَمُوحُ

*

حتى نطيرَ إلى ذُرَى أحلامِنا

لم تُغنِ عن قِممِ الجبالِ سفوحُ

*

قد باتَ حبكِ في الخلايا من دَمِي

ولقد أقَرَّ بذلك التّشْرِيحُ

*

هو ثابتٌ مادامَ نبضيَ عامراً

لا لنْ يزولَ وفي الأضَالعِ روحُ

*

ما غابَ صوتُك عن حدودِ مَسَامعي

قد باتَ في صمتِ الخَوَاء يصيحُ

*

قَسَمَاتُ وجهِك في مرايا غرفتي

ورَشَاشُ عِطْرِك في المكانِ يفوحُ

*

ماذا أقولُ وقد مَلكتِ حُشَاشتي

ماذا عساهُ سيفعلُ المذبوحُ

*

هيا لنعلنْ ما تكتَّمَ للملا

ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ

***

قصيدة “ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ” للشاعر عبد الناصر عليوي العبيدي تتسم بالكلاسيكية والأصالة في التعبير عن مشاعر الحب واللوعة. هذه الكلاسيكية تتجلى في عدة جوانب:

اللغة والأسلوب

الشاعر يستخدم لغة عربية فصحى تقليدية، مما يضفي على النص طابعًا كلاسيكيًا وأصيلًا. الأسلوب البلاغي والبياني يعكس تأثر الشاعر بالشعر العربي القديم، حيث يعتمد على الصور البلاغية والتشبيهات والاستعارات التي تعبر عن مشاعر الحب والألم بعمق.

الوزن والقافية

القصيدة تتبع نظام الوزن والقافية التقليدي، وقد نظمها الشاعر على بحر الكامل التام وهو مما يعزز من طابعها الكلاسيكي. حيث أن استخدام الوزن الشعري المنتظم والقافية المتناسقة يضفي على النص إيقاعًا موسيقيًا متناغمًا، يجعل القصيدة تنساب بسلاسة وتترك أثرًا موسيقيًا في ذهن القارئ.

الموضوعات

الموضوعات التي يتناولها الشاعر في القصيدة، مثل الحب واللوعة والألم، هي موضوعات تقليدية في الشعر العربي، فالعزل غرض من أغراض الشعر العربي الكلاسيكي على مر العصور والأزمان والشاعر يعبر عن هذه المشاعر بأسلوب صريح وواضح، مما يعكس الأصالة والصدق في التعبير.

التعبير عن الأصالة

الشاعر يعبر عن مشاعره بصدق ووضوح، مما يجعل النص قريبًا من القلب. الأصالة في التعبير تتجلى في استخدام الشاعر للصور البلاغية التي تعبر عن مشاعره بعمق، مثل:

“ما غابَ صوتُك عن حدودِ مَسَامعي

قد باتَ في صمتِ الخَوَاء يصيحُ”

هذه الصورة تعبر عن مدى تأثير غياب الحبيب على الشاعر، مما يعكس الأصالة والصدق في التعبير عن المشاعر.

شاعرية النص

هذه القصيدة الأصيلة للشاعر عبدالناصر عليوي العبيدي تعبر عن حالة شاعرية تصف مشاعر الحب الصادقة والواضحة. الشاعر يتحدث عن معاناته في الحب وكيف أن التلميح لم يعد يجدي نفعًا، بل يجب أن يكون الحب صريحًا وواضحًا.

وحسبما نرى أن قصيدة “ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ” للشاعر عبدالناصر عليوي العبيدي تتميز بشاعرية عالية تتجلى في استخدامه للصور البلاغية والتشبيهات والاستعارات التي تعبر عن مشاعر الحب والألم بعمق.

الشاعر يستخدم لغة واضحة وصريحة ليعبر عن مشاعره، مما يجعل النص قريبًا من القلب. على سبيل المثال، عندما يقول:

“قد باتَ حبكِ في الخلايا من دَمِي

ولقد أقَرَّ بذلك التّشْرِيحُ”

يستخدم الشاعر هنا صورة قوية لتوضيح مدى تغلغل الحب في كيانه، وكأن الحب أصبح جزءًا من دمه.

كما أن الشاعر يعبر عن الألم والمعاناة من خلال صور مثل:

“لا ضوءَ في نفقِ الضياعِ يلوحُ”

هذه الصورة تعبر عن حالة الضياع واليأس التي يشعر بها الشاعر، مما يضفي على النص عمقًا عاطفيًا.

لوعة الحب وبلاغة التعبير

لوعة الحب هي من أعمق المشاعر الإنسانية، والشاعر عبدالناصر عليوي العبيدي يعبر عنها ببلاغة فائقة في قصيدته. استخدامه للصور البلاغية والتشبيهات يجعل القارئ يشعر بعمق الألم والشوق الذي يعيشه الشاعر.

على سبيل المثال، عندما يقول:

“ما غابَ صوتُك عن حدودِ مَسَامعي

قد باتَ في صمتِ الخَوَاء يصيحُ”

هذه الصورة تعبر عن مدى تأثير غياب الحبيب على الشاعر، حيث يصبح الصمت نفسه صاخبًا بصوت الحبيب الغائب.

كما أن الشاعر يستخدم التكرار والتوازي في بعض الأبيات لتعزيز الشعور باللوعة، مثل:

“مازلت أسعى كي أنالَ سعادتي

ما خابَ في نيلِ المُرادِ طَمُوحُ”

هذا التكرار يعكس إصرار الشاعر على تحقيق سعادته رغم كل الصعوبات.

الأسلوب والموسيقى

قصيدة “ما عادَ ينفعُ في الهوى التلميحُ” تتميز بأسلوبها الرشيق والموسيقي، مما يجعلها سلسة وجذابة للقراءة. الشاعر عبدالناصر عليوي العبيدي يستخدم الوزن والقافية بشكل متقن، مما يضفي على النص إيقاعًا موسيقيًا ينساب بسلاسة.

الأسلوب

الأسلوب في هذه القصيدة يتسم بالوضوح والصراحة، حيث يعبر الشاعر عن مشاعره بشكل مباشر دون تلميح. هذا الأسلوب يعزز من قوة النص ويجعله أكثر تأثيرًا. استخدام الصور البلاغية والتشبيهات يضفي على النص عمقًا وجمالًا، مثل:

“قد باتَ حبكِ في الخلايا من دَمِي

ولقد أقَرَّ بذلك التّشْرِيحُ”

الموسيقى

الموسيقى في القصيدة تأتي من الوزن والقافية المتناسقة، مما يخلق إيقاعًا متناغمًا. الشاعر يستخدم البحر الشعري بشكل متقن، مما يجعل الأبيات تنساب بسلاسة وتترك أثرًا موسيقيًا في ذهن القارئ.

السلاسة

السلاسة في النص تأتي من استخدام الشاعر للغة بسيطة وواضحة، مما يجعل القصيدة سهلة الفهم والتفاعل معها. التكرار والتوازي في الأبيات يعزز من السلاسة ويجعل النص أكثر انسجامًا، مثل:

“مازلت أسعى كي أنالَ سعادتي

ما خابَ في نيلِ المُرادِ طَمُوحُ”

هذه العناصر مجتمعة تجعل القصيدة تجربة شعرية ممتعة ومؤثرة تجذب القارئ لقراءتها حتى النهاية وهو يعيش مع الشاعر تلك الحالة الشاعرية الفريدة التي ربما عبرت عن حالة جمعية لدى بعض القراء مما يعمق المشاركة الوجدانية بين الشاعر والنص والمتلقي.

شكرا جزيلا للشاعر على هذه القصيدة الرائعة وشكرا جزيلا للناقد الذي أضاء أركان القصيدة تفكيكا وتركيبا ولغة وأسلوبا

تحياتي لكما فقد أبدعتما شعرا ونقدا

*** 

 بقلم د. سيد فاروق - مصر

في دراسة شيقة للدكتور حاتم الصكر وهو كاتب وأكاديمي عراقي، حملت موضوعًا نقديًا صرفًا، وربما مهنياً، لكنه قريب العهد بالمناقشة والتفصيل على المستوى الثقافي، لاسيما في الجانب الأدبي، فقد اخترت المثاقفة وهي بالحقيقة مصطلح مرحل من الأنثروبولوجيا، ومن علم الاجتماع، بحيث يعود أولًا إلى الأنثروبولوجي" إليوت أوباوند" في القرن 19 من خلال الثقافة حين تكون متبادلة، والذي يسمونه أحيانًا في الغرب" التبادل الثقافي"، ولكن المصطلح استقر عندنا اليوم على أنه "المثاقفة" .

في هذه الدراسة كشف الدكتور صكر على أن هناك مناهج تطبيقية، وقد حاول أن أقرأها،، حيث يقول الدكتور حسن حنفي:" إنها وجه آخر للهيمنة الاستعمارية"، وقد وجد بعض النقاد الأعذار للدكتور " حسن حنفي" لكونه من أنصار "العولمة" و" والانفتاح على الآخر"، وله تجربة في كونه قد درس في الغرب، وارتد بنكوص عقائدي (وليس هنا مجال لمناقشة فكر حسن حنفي) ولكن يمثل نموذجًا لرفض هذه المثاقفة، حتى في التعريف البسيط وهو تبادل الثقافات بين الجماعات والأفراد على مستوى الحضارة والمدنية والأشياء الأخرى، وقد نسي الدكتور" حسن حنفي" مع الأسف أن الغرب طرف في المعادلة، وقد قام فعلًا بقراءتنا، وهذا هو المثقف التفاعلي، فأنت لا تستطيع أن تفرض، كما أننا نرفض، والدكتور حنفي يرفض أن يفرض علينا الغرب ثقافته، ونحن أيضاً بالمقابل لا نريد أن يكون لنا هيمنة على ثقافة الآخر، فنقدم أنفسنا بشكل حضاري، بحيث يكون فيه المطلب الإنساني الأول، وهو شرط المثاقفة، ثم تصبح النصوص هذه مثل البشرية، ودليل ذلك أن" ألف ليلة وليلة " لم تنتظر إلى أن يقوم أحدٌ منا ويترجمها، وإنما قام الغرب نفسه بترجمتها، ولم يشعر بأي نقص !.. نعم.. لنا اعتراضات على قراءات الغرب من قبل ألف ليلة وليلة، أو الليالي العربية كما يسمونها، لكن هذا النص لم يجد عائقًا، ولا خضع لوهم أن الثقافة الغربية تريد أن تسيطر من خلال المثاقفة، ولكن بالعكس، وأيضاً أمثلتنا الأخرى موجودة في التراث العربي الصوفي على سبيل المثال، حيث أحيا جزءًا كبيرًا منه مستشرقون معتدلون !.. نعم لنا على المستشرقين الكثير من الملاحظات على أهدافهم، وعلى استراتيجياتهم، ولكنهم بالأخير يقرؤون نصوصًا، وهذه النصوص، هي التي تقدم نفسها. وأحب هنا أن أقترح عليكم إجراءً، وذلك من خلال كتابي الأخير بعنوان" تنصيص الآخر"، حيث رأيت أن العرب قد درسوا المثاقفة من قبل، ومروا بمراحل كثيرة عليه، فبدءوا بموضوع السرقات، فالمتنبي قد قُرء بوحي المثاقفة، لكن بسوء نية، فكتب الحاكم سرقات المتنبي، وأن المتنبي ينظر لقول الحكيم أرسطو ويأتي بقول من أرسطو نثري – فلسفي بلغة أخرى ويحاكم به قولاً للمتنبي ليصل إلى أن المتنبي سرق أفكاره، ويصل به الكيد أحيانًا، ويقول:" وفي هذا القول ينظر المتنبي إلى قول الحكيم "، وسرد كثيرًا من الأشياء لا تنطبق !.

ثم يؤكد الدكتور صكر على أن هناك مشترك إنساني، فمثلًا المتنبي عندما يقول " وما الموت إلا سارق دق شخصه "، ثم يأتي أحد الغربيين من قبله فيقول إن " الموت كالسارق" فهذه لا تعد سرقة هنا، ولهذا فالموضوعات الكبرى مشتركة بين الناس جميعًا، فالجمال، والحب، والموت، والخوف، والأمل .. إلخ، فهذه موضوعات كبرى مثل المانشتات يشترك فيها البشر جميعاً .

لذلك رأينا الدكتور صكر يدخل في موضوع المثاقفة من باب تجاوز موضوع السرقات، ثم صارت في العصور الأحدث للنهضة العربية – الثقافية والأدبية تحمل اسم " التأثير والتأثر"، فهناك دائمًا مؤثر، والعرب جميعًا بشعرائهم وكتابهم وفنانيهم وقعوا تحت تأثير الغرب، وحتى صيغة المثاقفة نجد من خلالها خدمة لغوية كبيرة للصرف العربي، فالمثاقفة تعد مفاعله تقتضي وجود طرفين، وهذا يحكي الكثير من التهم ويلغيها، لأنه موازنة، فأنت تمثل طرفًا،وهناك طرف آخر، وبينكما خط المجرى الثالث، وهو النصوص، والمدونات سواء كانت بصرية، أو كتابية، أو تراثية، أو معاصرة، وغير ذلك، فالمثاقفة تقتضي وجود هذين الطرفين، بينما التأثر والتأثير يفترض وجود نقطة، أو مركز إشعاع، وهو الغرب غالبًا، ولذلك أغلب دراسات الأدب المقارن، كانت تأتي من زاوية: ماذا أخذ العرب عن الغرب فقط! .. لكن ماذا قدم العرب من ثقافة حتى يفهمه الغرب، فهذا لم يكن على جدول القائلين بمبدأ " التأثير والتأثر" .

ثم انتقل الدكتور صكر بعد ذلك من خلال درس حديث جاء من البنيوية، وهو "التناص"، وباختصار شديد فهو كما يقولون:" حياة نص قديم، أو أول في نص ثان، ويأخذ مكانة مهيمنة بحيث يُشار إليه"، فحين تقرأ قصة معينة، أو قصيدة، فتقول: هذه تعيش على فكرة موجودة في نص آخر، وهذا قد سمح بأن يخفف من فكرة موضوع السرقات ويهذبها، حيث صار بالإمكان من حديث عن عدة تناص، فهناك: تناص جملي، وتناص فردي، وتناص نوعي، وتناص بالأجناس، وهذه الأنواع من التناص جعلت الدرس النقدي يهذب أكثر، وبدأت تتضح حياة النصوص نفسها.

اليوم هناك طفرة أخيرة كما يقول الدكتور صكر في موضوع " التناص"، وهو "التنصيص"، بمعنى ألا أكتفي بأخذ جملة، أو فقرة، أو عمل معين سواء كان فنيًا أو كتابيًا، وأقول إنني عشت في تعانق نصي معه !.. لا.. من الممكن الحديث عن "تنصيص الآخر" ؛ أي أن يصبح الآخر بمدوناته نصاً، يُدرس، ويُقرأ، وهذا أيضًا سيأتينا إلى موضوع آخر، وهو ماذا تريد المثاقفة أن تفعل مع الآخر؟.

والحقيقة في نظر الدكتور صكر قد تفرعت عن مبحث المثاقفة مسألتان مهمتان: الأولى: الأنا والآخر، حيث صار إن صح الاشتقاق للأنا بثقافته ومكوناته، وقوة هذه الثقافة وإنسانيتها، والآخر، وهو المكان متغير، بمعنى أنني الآن أمثل الآخر بالنسبة للغربي والذي يشاهد هذه الندوة، ولكن بالنسبة لي أنا الأنا، وهو الآخر، ثم تفرعت عنها مسألة ثانية، وهي "هنا وهناك"، لأن الأنا مرتبطة بالزمن أولاً، وبمكان ثان، والمكان يعطي المعاصرة أكثر باعتباره يعيش هنا، فيكون " أمريكا"، أو "بريطانيا "، أي الغرب .

والقفزة الرقمية قربت أكثر، فصار بالإمكان شرط التعامل المباشر، بعد أن كانوا يشترطون في تعريف المثاقفة أن يكون هناك احتكاك وتماس مباشر، فالآن بإمكانك أن ترى معرضا عبر الانترنت، وتقرأ كتابًا مترجمًا، ومؤلفًا بلغة أخرى عبر هذه الشبكة، وبالتالي الثقافة عاشت حالة حركية، وأعتقد أنها قربت من مفهوم المثاقفة وشجعت عليه.

وهناك وجوه أخرى من المثاقفة كما يقول الدكتور صكر، منها المثاقفة الشعرية، وهناك مثاقفات يهتم بها العالم والفنان، ولكن هنا حقل عملي هو " المثاقفة الأدبية"، والذي من خلالها أخصص لها تلك المحاضرة المتواضعة وهي" المثاقفة الشعرية"، والمثاقفة الشعرية مرت بعدة مراحل، حيث نتذكر جيدًا في درس التأثير والتأثر أن الدراسات النقدية قد أهلكت القارئ بأثر" إليوت" على " بدر شاكر السياب"، وعلى الشعراء الذين جاءوا من بعده بأفكاره الريادية التي طابقت ما في نفوسهم من أفكار وهوى، وكذلك بأثر " لوركا" على " البياتي"، وفعلًا كان التشبع الروحي والثقافي عبر هذه الأسماء .

واليوم المثاقفة الشعرية وعبر درس التنصيص أي جعل الآخر نصًا تعدد ذلك، فصار من الممكن أن نقرأ الآخر،ونبحث عنه في نصوصنا دون أن نسمى هذه الأسماء بـ " اللافتات الكبرى"، أي صار التأثر بالموضوعات، والمثاقفة تتم عبر سمات كثيرة مكانية، وزمانية سيأتي المجال إلي ذكرها.

ولكن المثاقفة الشعرية المتعددة الجوانب، لا يستطيع بحث مثل هذا أن يوفيها كلها حقها، أي لابد من الأخذ في الاعتبار التأثر الروحي والذهني، ثم التناص ودروسه، والتنصيص، ثم المكان، وهنا في هذه المحاضرة أركز على جانب " المدينة"، أي كيف تثاقف الشاعر العربي ليس بكونه فردًا، أو ذات، وإنما ذات شاعرة، وهذه تسمى المكان أو " المدينة" الأخرى أو الآخر، وفي المدينة نجد أن الشعراء عادة ما ينفرون منها على نحو قريب مما يمكن تسميته " فوبيا المدن"، وهذا استقرائي السريع يكشف ذلك، فالسياب في قوله: وتلتفّ حولي دروب المدينة.. حبالًا من الطين يمضغن قلبي.. ويعطين عن جمرة فيه طينة.. حبالًا من النار يجلدن عرى الحقول الحزينة".

وينتقل الدكتور صكر إلى شاعر عربي معاصر وهو " أحمد عبد المعطي حجازي" من مصر، حيث يسمي قصيدته " المدينة بلا قلب"، وهي مدينة القاهرة والتي كتبها في عام 1965، وقد احتفى بها "رجاء النقاش" طويلًا في مقدمة الديوان واعتبرها إيذانًا بميلاد اتجاه جديد في الشعر ينضوي عنه ثوب الرومانسية المراهق دون أن يتلبس بمصطلحه البديل "الواقعية". بل هناك منظر كبير للشعر والمدينة، وهو شاعر الإسكندرية المعروف "قسطنطين كفافيس":، والذي تكلم عن المدينة وقال: "ليس ثمة سفينة ولا طريق هذه المدينة ستطاردك فهي خراب حيثما حللت"، وأعتقد أنه يمكن رؤية المدينة كما تتراءى للشعراء، فهي وحش خرافي، وأنها من باقي صلة الريفي بالمدينة، فعندما تنعدم الروابط التي يعرفها الريفي، والإنسان البسيط تصبح المدينة مكان غربة واغتراب بالنسبة له، وقد جاءت عوامل المدنية المضافة إلى الحضارة كالصناعة وغيرها، مما سنجد من شكوى الشعراء المهاجرين الأوائل عندما ذهبوا إلى نيويورك مثل المداخل، والمصانع، والشوارع السريعة، والتقنيات الموجودة في كل مكان، وهذه تزيد من شعور الشاعر بالذات في الغربة، فالشاعر بقدر ما يبدو قويًا في نصه ولغته، إلا أنه في الحقيقة إنسان ضعيف إزاء المكان، فالغربة والاغتراب انتقلت من الفلسفة وصار مجالها اليوم في الدراسات الثقافية والشعر، والسبب يرجع إلى الألفة التي يحس بها الشاعر ويفتقدها، والبراءة التي يشعر بها وهو يكتب، يلامس مدنًا وطرقًا ووجوهًا لا يعرفها، فمثلًا" أحمد عبد المعطي حجازي" يشكو من الناس، وحتى "صلاح عبد الصبور" كان يشكو من الناس أيضًا كما في قوله" الناس في بلادي جارحون كالصقور"، وهو كما نعلم جاء من قرية، والناس تصافحه في أي زقاق يمر به داخل القرية، وعندما يأتي إلى القاهرة فيشعر به وقع مصيدة بحكم كونه ريفيًا، ونفس الشيء نراه لدى السياب، حيث جاء من قرية في جنوب الجنوب إلى مدينة بغداد حيث يرى الزحام والضجيج .

وقد صدم هذا معظم المهاجرين الأوائل كما يقول الدكتور صكر، حيث كتبوا عنها أشياء حقيقة ندرسها اليوم، وهي أشبه بالنبوءات؛ فمثلًا " أمين الريحاني" عندما جاء إلى أمريكا في عام 1910، رأيناه يكتب قصائد عن نيويورك بألم وغضب مزدوج، حتى أن بعضه يصل إلى حد النبوءة، حيث تكاد تراه يستشعر بداخله ما سيحدث من بعد مثل أحداث 11 سبتمبر على سبيل المثال، فيتكلم عنها، ويقول:" نهر من الكهرباء، على ضفتيه جبال من الرخام، وغابات من الحديد.. ليل باهر، نجومه من معامل الإنسان الفانية، لا من معامل الله الأبدية، تعسًا لذا الجمال.. ساعة أولها ابتهاج، وآخرها تثاؤب.. مسرح الأهواء واللذات والأطماع، صدر جمالك.. آخر ما اخترعته المدنية من آيات الكذب والمصانعة، عين جمالك.. ضخامة تتمخض بها التجارة، فيلقبها التجار بالعظمة والفخامة.. لقد كذبوا والله وكفروا.. جمال معبودهم كدولار، صك في الليل وطلًا في النهار، تبًا لذا الجمال.. قباب هي دمامل الأرض، وأنفس تحتها هي دمامل الحياة.. وغدًا تصير أبراجك في أنفاقك، ويُدفن مجدك الكاذب تحت أنهارك، فتبكيك عندئذ نَيْنَوَى وتترحم عليك بابل" .

وهناك مقتبسات كثيرة يؤكد عليها الدكتور صكر وجهة النظر هذه، وهي أن المهاجرين الأوائل كانوا يرون مدينة مزدحمة بالمداخن، والعبيد، وبالتالي فهي مجزومة، وبدلًا من أن تنتقل الحضارة من الغرب إلى الشرق، انتقلت من الشرق إلى الغرب، إلا أن الشرق هو الذي سيكون فاعلًا حضاريًا، ويقدم للغرب هذه الحكمة التي يفتقدونها من نَيْنَوَى وبابل.

ومن الطريف أن" أدونيس " بعد سنين، أي أكثر من نصف قرن يأتي إلى نيويورك، ويكتب قصيدته الشهيرة " من أجل نيويورك" التي كتبها سنة 1971 وتتضمن رؤيا للمدينة وهي مشتعلة بالنيران، وعندما تسأله صحفية في عام 2015: هل تنبأت بما حدث لنيويورك في 11 سبتمبر، فرأيناه يقول:" هذه المدينة هي رمز للعالم الحديث تضمر رمزًا آخر هو رمز الطغيان، وبقدر ما أحببتها فقد رفضتها في ذات وجهين: الجنة والجحيم، قلت ستهب الرياح من الشرق وتهدم ناطحات السحاب، قلتها مستشرفًا ثورات الشعوب، ولم أكن أعلم أن ذلك سوف يحدث فعلًا .

ويعتقد الدكتور صكر أنه عندما يتكلم" أدونيس " عن الرياح التي تأتي من الشرق فإنه يعيد أمنية " أمين الريحاني" بأن تأتي من الشرق نَيْنَوَى وبابل، وتعيد هذا المجد الكاذب وهو ما يسميه كما يقول عن نيويورك " هو قلب خاو ومجد كاذب"، لكن مما يحسب للمهاجرين الأوائل أن محمولهم النصي لم يتضمن سياسة أو أيديولوجيا كما سنرى فيما بعد، حيث إنهم مجموعة البشر الذين جاءوا كفقراء في الغالب، مثل " جبران خليل جبران"، و"ميخائيل نعيمة"، وكل الأسر اللبنانية التي هاجرت أو السورية بالأحق جاؤوا طلبًا للعيش والرزق إلى آخره، ومن بعدها توالت الهجرات نتيجة الحروب التي صارت فيما بعد بسبب ضيق العيش.. وللحديث بقية.

***

د. محمود محمد علي - كاتب مصري

يوجد فرق بين من يأوي إلى مكتبته يجلس على كرسيه منزوياً وراء طاولته وأمامه فنجان قهوة أو كوب شاي أو كأس عصير يكتب عن آلام وأفراح ومخاوف الآخر والحروب التي أكلت الأخضر واليابس، وبين من يكون شريك تلك الآلام والأفراح وتلك المخاوف وشاهد وجع على حرب كان هو فيها يهادنها، يصارعها يداً بيد مع أيديهم يصدها بصدره وكتفه إلى كتفهم.

ما أريد قوله إن الروائية والكاتبة نارين عمر وهي تقرأ الآخر وتكتبه في روايتها " موسم النّزوح إلى الغرب " الصادرة عن دار الخليج للطباعة والنشر عام 2018 تنتمي للثاني الذي ذكرته. هي معهم تكتب لهم عنهم، تمتطي البحر، تسكن قارب الموت كما أسمته، ويقابله البلم الحامل لمشردين مثلها، تعاين الخوف في أعينهم وهو يراقص جفنيها.

تلك المقارنات الكثيرة بين شرق الوجع وغربه، بين شرق الحياة بمتناقضاتها وغرب الحياة وازدواجيتها تبدأ من النهاية، نهاية العمر حينما يكتسي شعرها بمشيب يوغر بموعد الرحيل وتجاعيد ليست سوى دلائل على كل الخبرات المكتسبة من معركة الحياة.

تتفادى عمداً ذكر أسماء شخصياتها بل حتى اسمها وهي حاملة الشيء الوحيد الذي لا يتجزأ منها ولا يفارقها إلى نهاية الرواية دفترها توأم لسانها الذي يبادلها الأدوار للبوح قليلاً عن تفاصيلها الصغيرة والسرد كثيراً عن الخطوط العريضة لموسم العبور إلى الغرب لأنها تختصر الكل فيها، وتعمم نفسها على الكل.

لا تنسى أن تخيط من المسافة الفاصلة بين شرقها وغربها برحلة الموت والحياة وتغرس في جبينها نيسان وكانون وشباط الأحداث.

تعشق نفسها بملامحها التي تشبه أمها بانحناءة، بانحدار شغف مستخدمة لغتها اللطيفة التي تجعل فكرنا دهشاً أمام الوصف وهي تعاين بحزن صامت" ضربة الجزاء المهدورة في ملعب الوطن"

ما أرغمها مع الكثيرين للنزوح من ربيعه إلى بلاد الثلج. قصص النزوح تنساب حكايات تقضم أصابعها المتعرقة ممسكة يراعها تلوذ بدفترها لتمر بكل الزوايا التي بكي فيها إنسانها الشرقي، بل وكل من صادفتهم من أجناس وبيئات مختلفة في هذا العالم المحض بفكرة الاختلاف والتشابه، منتمية إلى زمان ومكان لا تشخّصه باسم سوى بدلالة هروب من ظلم ومعارك وشيكة، بل بآلام مخاض ما قبل الإجهاض الذي لا يبشّر بولادة وصرخة انعتاق، لذلك تحمل ذاك الرحم الذي يتلوى وجعاً إلى غرب ربما تُجرى له ولادة قيصرية ليبصر الوليد نور حياة ركل رحم أمه كثيراً ليصل إليها.

حتى الريح لم تفلت من كلماتها، هي تشبّه ضرباته" بعقاب الشيوخ للتلاميذ في الكتاتيب" مكثرة من المترادفات والعطوفات للتعبير عن شيء أو شخص ما في روايتها " الأمل والانبعاث، خوفها وفزعها" بتعابير ملفتة فتقول:

"وأنا أهدّ خفافيش الخوف والجبن".

ثم تحط الرحال في قاموس المفردات الدينية وتصبغ على الحدث بما يجعل القارئ يتعرف إلى الخلفية الدينية لعائلتها ومدى تأثرها بشخصية والدها والكتب التي تناولتها وقرأتها في صباها،

الأمر الذي جعل كلماتها تنوح بنغمة ثرّة تفوح منها رائحة القبة البيضاء وشجرة الأمنيات التي تتوسط ساحتها، الدير القديم في مدينتها ومحاولتهم إلصاق قطع الفخار الصغيرة على حائطه لتحقيق أمانيهم:

"لأن أبي كان شيخ دين، يساقون إلى الكعبة ليتمّموا واجب الرجم، تضرعاً وخيفة، على جدار الدّير الحجري وأمانيهم ترتعش".

تستطيع بحنكتها ومعايشتها لكل تفاصيل الوجع أن تتحدث عن الإنسان بكل شاردة وواردة محللة نفسيته ووضعه كإنسان تسوّغ له أحياناً وتعرّيه أحايين كثيرة، فقط لتثبت طبيعته البشرية وجانبي الخير والشر فيه دون أن تنسى الاختلاف في الطبائع وحكمة التصرف أو التحامق.

البلاد التي ساوت بين الجلاد والضحية، بين المستغِل والمستغَل، بين القاتل والقتيل، بين من يستحق ومن لا يستحق. وهي تتماهى في سرد الوقائع قبيل تجهّم البحر وأثناءه وقبيل السلام على المركب وبعده وتلك الساعة الفاصلة بين الموت وشاطئ النجاة. لا تنسى أن تذكرنا بنفسها بأنها موجودة في طوابير الانتظار مع تلك الحشود التي بلغت التراقي حيث التفت الساق بالساق وجهل الكل أين المساق في يوم حشر عظيم، وهي تدَوَّن معهم على الكمبيوترات مجرد رقم.

تؤخَذ لكل واحد منهم صورة سيئة وتدفن بين الأوراق والثبوتيات ليتم مواجهتهم بتلك الصورة بعد حين، حتى لا ينسوا أنهم كانوا لاجئين وكأنّ الحبشة ستمنّ على المهاجرين بأنها فتحت حضنها لهم دون الخوض أو النظر في الخلفيات المهاجرة ، فتبدأ معركتها من جديد في الفصل والوصل بين إنسان في الشرق لا يقاد إلا بالسوط وآخر في الغرب تمّ تلقينه أن الشرقيين هم الدون وأنهم لا يفقهون لغة التحضر حتى في كيفية استخدام فرشاة الأسنان، فهي للتنظيف وليست للأكل وكأنها تتحدث عنا جميعاً نحن الذين نحمل صفة لاجئ.

لا بد وأن كل منا كان هناك في ذلك الطابور تحت تلك الخيام في انتظار الأكل الرديء والنظرة الدونية والخلاف والاختلاف والمعارك الجانبية بين الهاربين الذين يشبهون الكنة والحماية، الكنة التي كانت تُظلم صارت تَظلم والحماية التي كانت متسلطة أصبحت تجد نفسها الآن ضعيفة، مستكينة مع تبدل الظروف والأدوار، مستغربة كيف نهرب من الظلم لنظلم، من اللصوص لنسرق، من التطرف لنتطرف.

أجادت الوصف عندما شرحت كيف أن لحظة الموت والحياة واحدة تحدث في نفس الثانية، فالبلم الذي رمى بالنفير على شاطئ النجاة رمى بنفس النفير في نفس اللحظة في بطن البحر الذي كان قد صام دهراً وأفطر على أجساد من اللحم والدم:

"المسافة بين الحياة والموت بسمة ودمعة وأمنية لم تكتمل". الصفحة 154وهي تجعل مأساة آلان الكردي ذكرى تدق في منطق إنسانية الغرب وشاحنات الموت التي بخلت بهواء الرب ليتنفسه الواجمون في صمت مريب في رحلتهم الأخيرة نحو الموت الذي هربوا منه أخلاء الوفاض واشتروه بدولارات كثيرة.

لم تنسى أن تذكر كيف يبني الغربي أمجاد وطنه وكيف يبني الشرقي مجده الخاص فوق جثة الوطن وأنهار الدماء:

"في هذه البلاد لم يعد الزمان يقاس على ريختر الأوقات، لم يعد يخضع لقانون التجزئة والشتات. الزمن هنا قد يعاش دفعة واحدة في اليوم الواحد كما أيام هذه البلاد التي تعيش في الواحد منها الفصول الأربعة". الصفحة 159

نارين عمر المرأة التي تحدثت عن المرأة هنا وهناك والأمور الاشكالية بين الجهتين "الشرف والناموس، الطلاق والزواج، التربية والأطفال، الأبوة والأمومة، القوانين والحب، الذكر والأنثى، السبي والرق، الهشاشة هناك والقوة هنا، قتل النساء، ادعاء موتها انتحاراً وسقوطاً ووو.. إقحام الدين في التحليل والتحريم:

"تدرك أن شرقها لن يفلت من مخالب التخلف والانحطاط ما دامت المرأة هي الشرف والناموس، وعواطفها هي ميزان التأرجح بين الشرف واللاشرف، الناموس أو نقيضه. علة العلل عندهم أن الذكر يدرك بالفطرة أنه هو لوحده مالك الحس والشعور، سيد الحب وما يثيره من المتعة والجنون، اللهو والتعقل، وكأن الوجود من أجله فقط نفث الروح في الجسد، ألبسهما للأرض والسماء وما فيهما وعليهما".

سبب توق النساء للغرب لنيل حقوقهن وتحجيم دور الذكر أو إعادته إلى دوره الطبيعي والوحيد في حياتها:

((المرأة في هذه البلاد كائن تستمدّ كيانها من ذاتها كالنجمة التي تستمد ضوءها لا تحمل إلا وزر وجودها، لا تحمل أوزار الآخرين من الذكور والإناث....)). الصفحة 74

فهم الكاتبة لسلوك البشر والطعن فيه، والتبرير له صنع لها من رحلة لجوئها مغامرة لتكون قوية ومتصالحة مع وضعها الجديد، وضعها المتقلقل غير المستقر حسب السياسات الدولية والذي يجب أن تتماشى معه لتستطيع العيش، وأمام كل ذلك تراودها فكرة الرجوع الى الوطن. تستذكر عمتها وهي جاثية على ركبتيها تنظر في عينيها الغارقتين في يمّ عميق، تسمع حديث الموت والولادة وقصصهم العائلية والمصير القديم الجديد وجدتها وحكاياتها عن البحر وعن الخير والشر، والذي لم يختلف حتى الآن. الاختلاف الوحيد هو أنها هي أصبحت الشخصية المحورية والبطلة في حكايات جدتها وتأثير كل ذلك على شخصيتها لأن معاناتها ليست إلا جزء من معاناة شعبها ووطنها، بل معاناة كل إنسان على وجه البسيطة لذلك لم تتطرق إلى ذاتها إلا من خلال بعض الايحاءات:

الدراجة بين تلتين وهجوم الكلاب عليهم، الكلب روتو والطفلة لولو

خيبة أملها من بعض الذين أحسنت إليهم، البحيرة وتأملاتها، قربها من الجهة اليسرى الذي ينبض بحبها:

"عندما أغدو بمحاذاة كتفك الأيسر، على بعد أنفاس من الجهة اليسرى لصدرك سوف أطلق العنان للوتين كي يغازل وتيني لتمهيد الدّرب بين قلبينا في مراسيم لا يحضرها سوانا، ووتين القلبين الشّاهدان الوحيدان علينا".

أعود إلى التعابير:

"مبللة بخطايا المِلَل والأجناس،

مناسك الغربة" هذه الجمل التي تحكي الكثير الذي اختصرته في:

"الأخذ بالجملة والعطاء بالتقسيط أو منقطاً، التعامل بالمثل في كل الأحوال وإشعار الآخر بمحاسنك ومآثرك" الصفحة 133

يؤلمها ما آلت إليه حال شباب بشرها كما تسميهم:

"شبان وشابات، صبايا وصبيان كانوا يدغدغون وجنتي المدى، يحرثون تراب اليوم لثمار أفضل للغد. مضغهم المدى، ابتلعهم الغد غدراً من الخلف، ولأنهم لم يكونوا يحسبون حساباً لغدرهما، أي" الغد والمدى" حصل ما حصل". الصفحة 116

هنا حبذا لو تم الاستغناء عن كلمة "أي"

عندما تحدثت عن المدى والغد.

تحدثت عن المكان "سرخت، بن خت"،

أخوة الآخرة الأبدية، جيرانها، زهرة النرجس والريحان، الحب:

"غياب خلف لي وراءه قطرات ندى تنساب كدموعي الأخيرة فوق وجنتي النرجس والريحان التي ما تزال تحتضنها حافات شرفة دارنا لحظة فراق لم نقم له مراسيم الوداع والعاشق والمعشوق بصمت أنشدا معزوفة الهجران".

الصفحة 148

دفترها الذي لا يزال يحتفظ بأسرار وردة مهداة إليها، ونظرة متلصصة من حبيب قديم، السماء عرفت مقصد الأفق، رحيل الأم.

حاولت عدم التطرق إلى دواخلها بإسهاب، ولكن الكلمات غاصت بنا بعيداً لنسبر أغوارها ونستنتج ما نرغب به أو على الأقل ما فهمناه وهنا مكمن التشويق:

"بركة الماء لما رأتني أرنو إليها وأنا أتراقص على صفحاتها، انتحلت صفة قائد اوركسترا، بدأت تعزفني سيمفونية حنان في نبض الحنين وقطرات الماء تلثم وجنتيهم. المارون أسكرتهم مشاعر السيمفونية فتراقصوا كما شاء لهم السكر والحنين" 178

المقارنات المتعبة بين الشرق والغرب وهي تورد على لسان بطلة الرواية:

"لاحظت أنه لا اختلاف جوهرياً بين بشر شرقها وسكان الأرض السّمراء وأهل شرق الغرب، أو الشرق الغربي من حيث الطباع والطبائع. أدهشتها تصرفاتهم وسبل تعاملهم، وفوق ذلك يرونها ومن ينتمي إلى أرض وطنها من شرق التخلف والانحطاط....".

الندم على الوصول للأرض الموعودة،

وباء الحقيقة في الغرب، معاناة المتعبين وسعادة المتسلقين يكاد شخير الضمير يصم الآذان.

الأسئلة المثيرة التي طرحتها بطلة الرواية، حوار الحكمة والسذاجة،

قصائد الحب بمفردات حربية، وقد آلمها ما وصلت إليه أحوال شعبها حتى العشاق والمحبين منهم:

(تفكيك لغز قلبك أشدّ صعوبة من تفكيك أرض وطني الموبوءة بالقنابل المستهترة بهم، ليتك كنتَ أحد المقاتلين المحاصرين لمدينتي كما أنت محتل محاصر لقلبي، كنت حينها تبرعت للقتال ضد قلبك، مواجهة مشاعرك، وفي لحظة انتصار كنت أسرتك، ثمّ نفيتك إلى قلبي وفرضت الإقامة الجبرية عليك فيه".

كلمة اللعنة التي تستخدم بكثرة كلعنة الحب، لعنة الابتسامة، لعنة الحرب:

"وحدها الحرب -ألا اللعنة على الحرب- إذا حلت بأرض جعلت عاليها سافلها..." الصفحة 11 تظهر الألم الدفين لديها على نفسها وشعبها.

تحاول نارين عمر أن تشير إلى أن القدر في الكثير من الأحيان يكون من صنع البشر ليكون المتهم الأول في الكوارث التي تحل بهم:

"قدر خلقناه، نفثنا فيه من روحنا الخيّرة و الشّريرة معاً، حمّلناه مهمّة اللعب معنا أو بنا.."

لتختم روايتها قائلة:

"قبل الرحيل حوم الحلم خاصرة بلاد عشنا فيها عمر الحلم

بعد الرحيل، صرنا نعيش بلادنا في حلم عمر ربما ما عاد للعمر بقية.

***

زينب خوجة

 

في المثقف اليوم