قراءات نقدية

قراءات نقدية

للشاعر اسماعيل عزيز - العراق

قصيدة /حين يضحك الندى/ للشاعر إسماعيل عزيز هي قصيدة تتسم بالعاطفة العميقة والرمزية المكثفة، وتعبّر عن الحيرة والتأمل في الحياة والمصير، عبر صور بلاغية وتصويرية تتمحور حول التغيرات الطبيعية والوجودية. القصيدة تجمع بين الفلسفة والتجربة الشعرية، مما يجعلها تلامس مشاعر القارئ من خلال الأسلوب المتأمل الذي يعكس حالة من القلق والبحث عن معنى الحياة والوجود. نستطيع من خلال تحليل الأسلوب البلاغي لهذه القصيدة استكشاف عدة جوانب جمالية وفكرية.

1. الصور البلاغية والرمزية:

القصيدة مليئة بالصور البلاغية المعقدة التي تحاول التعبير عن مشاعر الشاعر في مواجهة الحياة وتحدياتها. تتراوح الصور بين الخيال البصري والصوتي، لتخلق مشهداً شعرياً يغمر القارئ.

/المطر الساقط فوق ربى أيامك/: بدايةً، يقدّم الشاعر المطر كرمز للتغيير والذكريات الماضية التي تمثل الماضي البعيد. المطر هنا ليس مجرد عنصر طبيعي، بل يمثل حنينًا أو تغييرات تُترك وراءها آثار تتداخل مع الزمان.

/يحمل طعم الحصرم/: إشارة إلى طعم الحزن أو الفقد، فالحصرم هو الثمر غير الناضج، مما يرمز إلى شيء غير مكتمل أو غير مُحقق بعد، وهي صورة تعبّر عن مشاعر الشاعر من خلال طعم غير مكتمل.

/فلا يجمع النهر إلا صرير العواصف/: هذه الصورة تخلق التوتر بين النهر الذي يرمز إلى التدفق والاستمرارية، والعواصف التي تمثل الصعوبات والمشاكل. يصبح النهر هنا ساحة للصراع بين الحركة السلسة والصعاب التي تواجهها الحياة.

/وفي بوابة الرمس لملمة من عزاء/: يخلق الشاعر صورة حزينة تمزج بين الموت أو الفقد والتعزية. /بوابة الرمس/ تشير إلى قبر أو مكان الظلمة والموت، بينما /لملمة من عزاء/ تدل على محاولة التخفيف من الحزن. الصورة توحي بأن الحياة والموت يتداخلان في لحظة واحدة.

2. الأسلوب السردي والتأملي:

القصيدة تعتمد على الأسلوب السردي الذي يتنقل بين الوقائع العاطفية والخيالية، ويستعرض مشاهد من الطبيعة والحياة. هناك سرد لصور متتالية تعكس تأملات الشاعر حول الحياة:

/اصغي قليلا/: هذه الجملة تأخذ القارئ إلى حالة من الاستماع والتأمل، مما يجعل النص يبدو وكأن الشاعر يوجه رسالة خاصة للمتلقي، فيحثه على التفكير في الواقع الذي يمر به.

/تلفت قليلاً/: هي دعوة إلى التنبه والوعي، ربما للبحث عن إجابة أو رؤية أفضل للأمور التي تحيط بالشاعر.

3. التكرار والتوتر الداخلي:

التكرار في القصيدة يُستخدم لتحقيق توتر داخلي بين الوجود والألم. الشاعر يكرر بعض الأسئلة والتوجهات التي تجعل القارئ يشعر بالحيرة والضياع:

/ألا تسمع؟/: تكرار السؤال هنا يخلق شعورًا بالاستفهام المستمر عن الحياة والعالم المحيط، وكأن الشاعر يحاول أن يقنع ذاته أو القارئ بالحقيقة التي يسعى إلى كشفها.

/أثقال الهموم تومض من فوق مشارفها/: هذه الصورة تبرز الوزن الثقيل للمشاعر أو الأفكار التي يواجهها الشاعر، وتستمر الصورة الحسية عبر التوتر بين الصمت والضجيج.

4. الرمزية في الكلمات:

الشاعر يعمد إلى استخدام كلمات تحمل معانٍ رمزية، مثل /الرواسي/ و/طبول حرب/. هذه الكلمات لا تشير فقط إلى مشهد طبيعي، بل تحمل دلالات عميقة تتعلق بالصراع الداخلي والتحديات التي يواجهها الفرد:

/الرواسي/: تستخدم للإشارة إلى الثبات والصمود، ولكن هذه الرواسي يتم /استقبالها/ من قبل الأعاصير، مما يشير إلى أن الثبات لا يعني بالضرورة السلام أو الاستقرار في الحياة، بل يمكن أن يتعرض للموجات العاتية من التحديات.

/زمجرة السحب كطبول حرب/: هنا يظهر الصراع بين الكائنات الطبيعية كرمز للصراع الداخلي الذي يعيشه الشاعر. طبول الحرب تشير إلى الاقتراب من لحظة الأزمة أو القرار الصعب.

5. التوازن بين الأمل والضياع:

رغم جميع الصور الحزينة والصراعات التي تعرضها القصيدة، هناك إشارات متقطعة للأمل، مثل /في كل تيه دليل/ و**/انتظر حتى يتسلل الشذا من غبار التراب/**. هذا التوازن بين الأمل والضياع يعكس حالة من اليأس، ولكنه يشير في الوقت نفسه إلى أنه حتى في أصعب اللحظات يمكن أن يجد الإنسان بصيصًا من النور.

/يتسلل الشذا من غبار التراب/: تشير هذه الصورة إلى أن الجمال أو الراحة يمكن أن تأتي من أماكن غير متوقعة، حتى من داخل المعاناة نفسها. هذه الجملة تمثل الأمل الذي يتسلل بصمت، رغم العواصف والهموم التي تسيطر على العالم الخارجي.

6. الأسلوب الصوتي:

القصيدة تحتوي على العديد من العناصر الصوتية التي تعزز الإحساس بالحدة والتوتر في النص:

/زمجرة السحب/ و**/طبول حرب/**: تستخدم هذه الأصوات القوية لخلق صورة حية للعواصف والمشاكل القادمة. هذه الأصوات تعكس حالة من التوتر والقلق المستمر في حياة الشاعر.

الخاتمة:

قصيدة /حين يضحك الندى/ هي نص شعري مليء بالصور البلاغية التي تُعبّر عن توترات النفس البشرية بين الأمل والضياع، بين الحياة والموت، بين القوة والضعف. الشاعر إسماعيل عزيز يستخدم الرمزية والتكرار ليخلق حالة من التأمل الوجودي العميق، حيث تعكس الصور الطبيعية الصراع الداخلي والتساؤلات الفلسفية التي قد يواجهها الفرد في حياته. في النهاية، تبقى القصيدة تحمل شعورًا بالبحث المستمر عن معنى وجودي وحقيقة تتسلل من تحت غبار التحديات.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

....................

حين يضحك الندى

المطر الساقط فوق ربى ايامك، يحمل طعم الحصرم، فلا يجمع النهر الا صرير العواصف، ولم يكن الندى اقل منفعة منك، ففي دجى الليل قبلة من دجى، وفي بوابة الرمس لملمة من عزاء، اليك الحديث، انت؛ اصغي قليلا، لم تكن الاغصان التي احرقت مما صفا نورها وطاب دخانها، ولا البرق في لمعانه من النوع المضيء، فاقصر خطاك، وتلفت قليلا. فهذا القطر ينتهي نهرا حتى وإن قل. ألست ترى؟ اثقال الهموم تومض من فوق مشارفها قبب المنابر كالرواسي تستقبل هوج الأعاصير، ألا تسمع ؟ زمجرة السحب كطبول حرب يرتد صداها على لمعان السفوح. ولكن في كل تيه دليل، فانتظر حتى يتسلل الشذا من غبار التراب.

***

اسماعيل عزيز- العراق

 

قصيدة /قصيدة من نور/ للشاعرة رشا السيد أحمد هي نص شعري يعبر عن لحظة من النور الداخلي والسكينة الروحية التي تتولد في القلب والروح، حيث تحاكي تجربة فنية ونفسية ذات طابع جمالي راقٍ. يمكننا تحليل القصيدة نقديًا عبر بعض النقاط الأسلوبية والجمالية التي تشكلها.

1. البنية اللغوية والصور البلاغية:

القصيدة تتميز باستخدامها للصور البلاغية بشكل مكثف، حيث تقوم الشاعرة بخلق صور مرئية سمعية ونفسية تربط القارئ بالحالة الشعورية التي تعيشها الذات الشاعرة. على سبيل المثال:

/كقصيدة دافئة في برد البعد/: هنا تستخدم الشاعرة التوصيف المزدوج بين /القصيدة/ و/البرد/، ما يجعلنا نشعر بالصراع بين البعد والدفء الذي تحمله القصيدة، وبالتالي يجسد الصراع الداخلي بين العزلة والنور الذي تطرحه.

/فرحت كفراشة سعيدة برشفة الرحيق/: تمثيل الفرح هنا بـ/الفراشة/ يدل على حالة خفيفة ورقيقة من السعادة، إذ تحاكي صورة لطيفة تعكس الطمأنينة التي تعيشها الروح.

هذه الصور الشعرية تحمل دلالات عاطفية قوية وتضفي طابعًا جماليًا يوحي بالصفاء الداخلي والحب.

2. التراكيب الاستعارية والمجازية:

القصيدة ككائن حي: استخدام الشاعرة للقصيدة ككائن حي /قصيدة دافئة/ التي /تخلل قلبي/ يُظهِر الشِعر كحالة تنبض بالحياة والروحانية. كما أنها تُفعِّل الوعي الإنساني وتحاكي تجارب عاطفية ومعرفية داخلية.

الأنوثة والروحانية: هناك تلميحات مباشرة إلى الأنوثة في الشطر: /فوقفت على رؤوس أصابعها وراحت ترقص فرحًا به/. الرقصة هنا كاستعارة تمثل البهجة الداخلية التي تفيض من الروح، بالإضافة إلى تمثيل الحركة النعمة والجمال الأنثوي.

الضوء والنور: العنصر المهيمن في القصيدة هو النور، ويظهر في جمل مثل /تخلل قلبي/ و/عزفت بموسيقى عذبة/، حيث يكون النور رمزا للسلام الداخلي والتحرر من الظلام الروحي. النور يتخلل الحياة ويرتبط بالسلام الداخلي والحب، مما يعكس الحالة الشعورية المضيئة التي تحيا بها الذات.

3. الأنماط الإيقاعية:

الإيقاع الشعري في القصيدة يشكل وحدة تناغمية بين الأفكار والعواطف. من خلال الألفاظ السلسة والتركيبات السمعية التي تنساب بسهولة، تنجح الشاعرة في خلق موسيقى داخلية تتناغم مع موضوع القصيدة. العبارات مثل /ثم عزفت بموسيقا عذبة/ توحي بتكرار النغمة الموسيقية في الطرح الشعري، ما يعزز تأثير الفكرة العاطفية وتراكمها في ذهن المتلقي.

4. المفارقة والرمزية:

القصيدة تمثل حالة من التوازن بين الضوء والظلام، النور والظلام، ولكن تظل المفارقة الوحيدة التي تظهر في النص هي الازدواجية بين البُعد القاسي والمضيء، حيث تبدأ القصيدة بالحديث عن /برد البعد/ قبل أن ينتقل النص إلى لحظة تذوب فيها هذه المسافة ويمتلئ بالضوء، كما في الجمل /عبرتني برقة إشراقته/ و/روحي وقلبي لعوالم النور السعيدة/. هذا التحول يبرز معركة بين الألم الذي قد يصاحب البعد وبين التجديد الذي يجلبه النور.

5. الحالة الفكرية والعاطفية:

القصيدة تعكس حالة من الرفعة الروحية التي تنبثق من الداخل وتضئ كل الزوايا المظلمة في النفس. تتحدث عن ذلك الانفتاح العاطفي الذي يغمرها، لتخلق حالة من التأمل والانسجام الداخلي، /لكوني قصيدة من ضياء/. هذا الإحساس بالانبعاث يُعيد الشاعرة إلى حالة من الطمأنينة حيث تتحول الروح إلى قصيدة مضيئة بفضل هذا النور الذي يملأ القلب والروح.

6. الأسلوب الشاعري:

الشاعرة استخدمت أسلوبًا معبرًا عن التفاعل بين الإنسان والعالم المحيط، ولكن الأسلوب يجسد روحًا تحلق في الفضاءات الروحية أكثر من أي شيء آخر. اللغة هنا بسيطة ورقيقة، لكنها تحمل في طياتها الكثير من العمق العاطفي والفكري.

الخاتمة:

قصيدة /قصيدة من نور/ هي بمثابة إعلان عن حالة من السمو الروحي والتصالح الداخلي، حيث يُرمَز إلى النور كإشراقة عاطفية وفكرية تغير مسار الروح وتعطيها طاقة جديدة. الشاعرة استطاعت أن تتلاعب بالكلمات لخلق صور ذهنية تبعث في القارئ شعورًا بالسلام والبهجة والتطهير الروحي، مستخدمةً الأسلوب البلاغي المتين الذي يعكس براعته في تصوير الأحاسيس الداخلية وتحويلها إلى تجربة شعرية ناعمة ومتدفقة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

..........................

قصيدة من نور

كقصيدة دافئة في برد البعد ذاك النور تخلل قلبي فجأة وعبر ردهات روحي فوقفت على رؤوس أصابعها وراحت ترقص فرحا به كفراشة سعيدة برشفة الرحيق ذات صباح ربيعي ثم عزفت بموسيقا عذبة و غنت الكون حبا بينما كانت ملكات روحي العليا تلتقط من الكون تلك الإشراقات الرائعة و تحدث داخلي تلك الومضات السعيدة فتولد بصدري كل الأفكار البراقة وهي تقول هكذا أنت مثل بدر في قبة السماء يعبرني برقة إشراقته هكذا أنت برق يحدث داخلي الانخطاف الذي ينقلني وروحي وقلبي لعوالم النور السعيدة لأكون قصيدة من ضياء.

***

سيدة المعبد - المانيا - سوريا.

6.2.2025م

 

قصيدة /قسوة الحياة/ للشاعرة شنيا عبد المجيد هي رحلة داخل أعماق الذات الإنسانية، التي تعاني من ألم الحياة وقسوتها. الشاعرة في هذه القصيدة لا تقدم مجرد سردٍ لمشاعر الحزن، بل تسلّط الضوء على التناقضات الداخلية التي يعيشها الإنسان في لحظات الشكوى والتأمل في معاناته.
من أول وهلة، تثير القصيدة سؤالاً كبيرًا عن الحياة نفسها. الشاعرة تبدأ بالتعبير عن تأثير الحياة عليها، في صورة جمل بسيطة لكنها عميقة في دلالاتها:
/شوهتني الحياة كثيراً.. / أكاد أضيع!/
هذه الجملة تعكس شعورًا بالضياع العميق، الذي يتعدى مجرد فقدان الاتجاه المكاني. الضياع هنا يعبر عن تشتت الهوية وافتقاد الذات في محيطٍ مليء بالشدائد. إن الشاعرة لا تشير إلى الجرح الجسدي فقط، بل تتحدث عن الضرر الذي لحق بها على مستوى الروح، والكيان الداخلي، الذي أصبح مهددًا بالتفتت.
اللغة الرمزية والتشبيه المتقن
من أبرز سمات القصيدة هو استخدام الشاعرة للرمزية، التي تُقدّم رؤية معقدة عن قسوة الحياة وتكرار المعاناة. في سطور مثل /الحياة مثل صخرة سيزيف، / ملتصقة بظهري/
تنقل الشاعرة إلى القارئ صورة مأساوية مأخوذة من أسطورة سيزيف اليونانية. سيزيف، الذي كان يُجبر على دفع صخرة ضخمة إلى قمة جبل، ليشاهدها تسقط كلما اقترب من القمة، هو رمز للعبث واللامعنى في محاولات الإنسان المستمرة للفرار من قدره أو إيجاد السكينة. الشاعرة، من خلال هذا التشبيه، تطرح فكرة المجهود الذي لا جدوى منه، وأنه في كل مرة يقترب الإنسان من الوصول إلى هدفه أو راحته، يجد نفسه عائدًا من حيث بدأ. تتكرر هذه الصورة في جملة
/كلما أخطو أعود للوراء/
لتؤكد شعور الشاعرة بأن محاولات التغيير والتقدم في الحياة تواجهها مقاومة غير مرئية، وتصبح خطوة إلى الأمام وكأنها رحلة بلا نهاية.
الطبيعة كمرآة للحالة النفسية
عندما تصف الشاعرة
/خوخ حديقتنا، لم يعد له طعم كما كان/
فإنها تعكس بمهارة تحوّل الداخل إلى الخارج. الطبيعة هنا لا تمثل مجرد خلفية للألم، بل هي جزء من هذا الألم ذاته. الفقدان الذي تشعر به الشاعرة لا يقتصر على البشر أو العلاقات الشخصية، بل يمتد ليشمل الأشياء والأماكن التي كانت تحمل معها معنى وجمالًا. الخوخ، الذي كان في الماضي رمزًا لبهجة بسيطة وسعادة عابرة، أصبح الآن بلا طعم، تمامًا مثل الحياة التي أصبحت باهتة وغير قابلة للاستمتاع. هذه الصورة هي واحدة من أقوى الصور في القصيدة، فهي تكشف عن استحالة إيجاد اللذة في الأشياء بعد أن فقدت الحياة معناها.
التوسل والانكسار في الدعاء
يستمر التوتر بين الألم والأمل في القصيدة عبر نداء الشاعرة لشخص آخر، الذي يبدو أنه يحمل مفتاح خلاصها أو نجاة قلبها. /خذ بيدي.. / ولا تدع الحياة تفعل بي ذلك/
هو نداء يحمل في طياته استغاثة، ويعكس الحالة التي تضع فيها الشاعرة نفسها أمام حالة من العجز التام. إن هذا النداء ليس فقط للشخص الآخر، بل هو أيضًا توسل للقدر، محاولة للبحث عن يد تمتد وسط الظلام، لتعيد التوازن، ولتوقف صراع الحياة المستمر. إن التضرع الذي تحمله هذه الكلمات يتجاوز حدود الحب الشخصي ليشمل السعي الحثيث للهروب من التدمير الداخلي. كما أن الشاعرة في هذه اللحظة تتنازل عن كامل استقلالها، مطالبة بمعونة أخرى تمنحها القوة لاستعادة توازنها.
الختام وتأملات في النطق والصمت
/فبدونك يفقد النطق لساني/
هذه الجملة الختامية تختزل المدى الذي وصل إليه الصراع الداخلي. الشاعرة تُظهر في هذه العبارة نوعًا من العجز الشامل، إذ يفقد الإنسان قدرته على التعبير عن نفسه بشكل كامل إذا غابت عن حياته تلك اليد التي كانت تسانده. النطق هنا ليس مجرد الكلام، بل هو تعبير عن الهوية والوجود. الصمت، إذن، هو فقدان القدرة على التفاعل مع الحياة كما كانت من قبل. إن الشاعرة لا تشير فقط إلى غياب الشخص الآخر، بل أيضًا إلى غياب المعنى في حياتها، إلى درجة أن الكلمات نفسها تفقد قوتها وتصبح عاجزة عن نقل ما في داخلها.
الخاتمة
هذه القصيدة هي نصٌ عميق يتناول مشاعر الفقد والضياع، ويستعرض بشفافية وصدق الحالة الإنسانية التي تلامس قسوة الحياة وضغطها. من خلال الصور الرمزية واللغة المعبرة، تنقل الشاعرة في قصيدتها إحساسًا عميقًا بالتشتت الداخلي والتعب النفسي، وتطرح تساؤلاتٍ حول معنى الوجود والتقدم في الحياة. القصيدة لا تقدم حلولًا أو إجابات، لكنها تفتح المجال للتأمل في الألم البشري، والبحث المستمر عن الخلاص، سواء في الآخر أو في الذات. إن قوة القصيدة تكمن في قدرتها على تفعيل هذا الألم وجعله يتردد في أذهاننا، ليظل حيًا في ذاكرتنا حتى بعد أن ينقضي النص.
***
بقلم: د. كريم عبد الله – العراق
.......................


  1. قسوة الحياة

    بقلم: الشاعرة شنيا عبدالمجيد/ كردستان

    ترجمة الاستاذ: علي عزيز – كردستان

  2. ***

    شوهتني الحياة كثيراً..

    أكاد أضيع!

    لساني لم یعد یغني كعادته

    أصابعي لا تفوح منها رائحة الشعر

    الحياة مثل صخرة "سيزیف" ،

    ملتصقة بظهري

    كلما اخطو اعود للوراء

    عيناي بنسمة تمتلىء بالدموع

    خوخ حديقتنا، لم یعد له طعم كما كان

    كل شيء عكس ما كان عليه

    مع كل هذا الألم والتحطم خذ بيدي..

    ولا تدع الحياة تفعل بي ذلك

    حتى تستقيم خطواتي المتعرجة

    فبدونك يفقد النطق لساني.

 

قراءة نقدية تحليلية لقصيدة: مدينة الرياح للشاعرة سينسيا روتا – ايطاليا.

المقدمة: قصيدة /مدينة الرياح/ للشاعرة الإيطالية سينسيا روتا تنتمي إلى الفضاء الشعري الذي يلتقط حالة مَشْحونة بالعاطفة والتوق، لكنها في ذات الوقت تحتفظ بكثير من الغموض والتعقيد. تتداخل فيها صورٌ حسّية مع عوالم نفسية تعكس تقاطعات الذاكرة والمكان، ما يجعل القصيدة شديدة الرقة والعمق. في هذه القصيدة، لا يُفترض بالمكان أن يكون مجرد خلفية للأحداث، بل يتحوّل إلى شخصية قادرة على التأثير في الوعي الشعري وتوجيهه نحو آفاق من الحنين والذكريات، بل وأحيانًا الألم.

المدينة بين التجسيد والتعالي:

في مطلع القصيدة، تخلق الشاعرة علاقة استعارة مكثفة بين الذات الحبيبة والمدينة. في هذا السياق، تُقدّم المدينة ككائن حي، حيث تقول:

أنتِ مثل هذه المدينة التي تأخذ أنفاسك بمجرد رؤيتها.

هنا، نجد أن المدينة تصبح حالة شعورية تعبر عن اضطراب داخلي، فهي ليست مجرد معمار أو فضاء جغرافي، بل هي تجسيد للمشاعر التي تهب حياة للأماكن، بل وتستحوذ على كل الحواس. على مستوى السطح، هذا التصوير يعكس الجمال الذي يمكن أن يبعث الحياة في الذهن، ولكنه يتعدى ذلك ليجسد علاقة الشخص بالمدينة بوصفها تجسيدًا لتلك اللحظات المفاجئة التي تدهش الذات وتدهشها، وكأنها تسلبها أنفاسها.

لكن المدينة ليست مجرد مكان للمشاعر، بل هي أيضًا وعي مستمر، تجسد عبره الرياح وهي عنصر يتحكم في حركة الشاعر ومسيرته. تأتي الرياح هنا كرمزية للمجهول، الخارج عن إرادة الشاعرة، الذي يُساقُ نحو المجهول بفعل هذه الرياح التي تدفعه وتحمله بعيدًا. تعكس الرياح في القصيدة معنى التحول المستمر، حيث لا تقف الحياة عند لحظة أو مكان معين، بل تظل تتجدد في حركة دائمة. القصيدة تُقدّم لنا مدينة لا تسكن، كما لو كانت تُحيي كل لحظة بتجددها المتواصل.

البحر: بين الاستقرار والتمرد:

الانتقال من المدينة إلى البحر في القصيدة ليس اعتباطيًا، بل يعكس تطورًا في تصوّر الشاعرة للحالة النفسية التي تمرّ بها. البحر، بما هو عنصر طبيعي مهيب، يتجسد هنا كرمز للمشاعر الجياشة والهادئة في ذات الوقت. تقول الشاعرة:

أنتِ هذا البحر / دَفْءٌ على جوانب الأرض.

 هنا، تضاف إلى البحر صورة أخرى تتعلق بالاحتضان والراحة، كما لو أن المدينة والبحر يعكسان نوعًا من التناغم الذي يجمع بين القسوة والحنان.

لكن، في المقابل، يتخذ البحر في أماكن أخرى من القصيدة بعدًا مغايرًا، وهو ما يبدو في تصويره كعنصر يثير القشعريرة ويُثير الجسد:

رؤية فاتنة عند الغروب، قشعريرة / عندما يذوب الجسد، وخزة مرحة.

هنا، البحر يزداد قوةً وحضورًا، ولكنه في ذات الوقت يثير في الشاعرة حالة من التوتر الداخلي، مما يعكس علاقة أكثر إرباكًا مع المشاعر الإنسانية المتقلبة. البحر هو المكان الذي تتنفس فيه الشاعرة بحرية، لكنه في ذات الوقت هو المكان الذي يفتح الجرح ويشعر بالنزيف العاطفي.

الرحيل والحنين:

إن فكرة الرحيل تشغل جزءًا كبيرًا من القصيدة، وهي لا تتعلق فقط بمغادرة المكان، بل هي تمثل هجرًا عاطفيًا وغيابًا إنسانيًا. تُصور الشاعرة السفن المغادرة في صورة رمزية قوية، وتقول:

أنتِ السفن المغادرة / عندما تفصلين الأسوار.

هذا الرحيل ليس مجرد حركة جسدية، بل هو إعلان عن المسافة العاطفية، وكأن المكان والإنسان يرتبطان ارتباطًا لا يُنفصل، وأن المغادرة هي نوع من الانقطاع بين الجسد والذاكرة.

الحنين في القصيدة يُصوَّر كنوع من التعذيب المستمر الذي يُجسّد شعاع الشمس الملون والمُلعون في الوقت ذاته:

أنتِ الحنين / شعاع من الشمس، ملعون، / الذي يجرح الروح أولًا.

يطوّق الحنين الشاعرة كظل لا ينفك يلاحقها. والمفارقة هنا تكمن في أن هذا الحنين ليس تعبيرًا عن اشتياق سهل ومحبب، بل هو ألم مُستمر، تتفتح أمامه الجروح، لكنه في الوقت نفسه يشعّ نورًا غامضًا، كما في

ثم يظهر مجددًا في الشوارع الخالية.

الشوارع هنا، التي تبدو مهجورة، تتحوّل إلى فضاء موحش يحضر فيه الحنين كمُتربّص لا يرحم. إنها شوارع مليئة بالغياب، الشوارع التي لا تعود إلى سابق عهدها بعد أن تخلفها الذكريات.

العزلة والصمت:

في الجزء الأخير من القصيدة، تتجسد العزلة بشكلٍ حاسم، حيث تسير الشاعرة وحيدًة بين /المباني الصامتة/، في رحلة داخلية في ظل صمتٍ غارق في التأمل:

وحيدة، أسير بين المباني الصامتة / ألوان خفية تضيء.

العزلة في هذه اللحظة تتخذ بعدًا وجوديًا، فالشاعرة لا تعاني فقط من الافتراق عن المدينة أو الحبيبة، بل تعاني من الفقد المستمر لذاتها وسط هذا الصمت. هذا الصمت الذي يتجسد في المباني الصامتة، تُشعر الشاعرة وكأن العالم الخارجي قد سكنه الفراغ، ليبقى /ألوان خفية/ هي الرفيق الوحيد، تلك الألوان التي لا تراها إلا من هو في حالة وعي داخلي شديد.

الختام:

أنّ قصيدة /مدينة الرياح/، تقدم لنا سينسيا روتا مكانًا ليس مجرد فضاء مادي، بل هو مادة حية، مليئة بالذكريات، بالصراع، وبالحنين. المدينة، في هذه القصيدة، ليست محض جغرافيا، بل هي كائن يتنفس ويؤلم ويحمل في طياته لحظات الغياب والانقطاع. والمفارقة التي تكمن في هذه القصيدة هي أن الشاعر لا يبحث عن الحلول، بل يكتفي بالتعبير عن الفوضى الداخلية التي تسكنه. في النهاية، لا تكون المدينة فقط خلفيةً للمشاعر، بل هي تشبع كل أفق داخلي، وتصبح مرآةً للروح المتحولة، تمامًا كما الرياح التي تحملنا بلا عودة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

......................

مدينة الرياح

أنتِ مثل هذه المدينة

التي تأخذ أنفاسك بمجرد رؤيتها

ساحرة على وقع الرياح

التي تدفعني وتحملني بعيدًا...

ذلك الوَلْسِ السحري الذي يحول...

أنتِ هذا البحر

دَفْءٌ على جوانب الأرض

رؤية فاتنة عند الغروب، قشعريرة

عندما يذوب الجسد، وخزة مرحة

تسقط البخار في السماء...

أنتِ السفن المغادرة

عندما تفصلين الأسوار

كلما رأيتكِ تغادرين...

أنتِ الحنين

شعاع من الشمس، ملعون،

الذي يجرح الروح أولًا

ثم يظهر مجددًا في الشوارع الخالية.

وحيدة، أسير بين المباني الصامتة

ألوان خفية تضيء

تدفئ حتى الحدّ

بينما اليوم يتغلب على الحزن.

الرائحة نفسها، الطعم المكثف.

النظرة نفسها التي لا تُدرك...

***

سينسيا روتا - ايطاليا

 

الأسلوب السردي والتعبيري: القصيدة تُعبر عن حالة من التأمل في شهر ديسمبر، مُجسدًا في صورة /العجوز/ الذي يحمل في طياته ذكريات مريرة وآمالًا ضاعت مع الزمن. الأسلوب السردي يعكس هذا التوتر بين الماضي والحاضر من خلال صراع الزمان والمكان. يُظهر الشاعر نزوعًا للتعبير عن تلك اللحظات التي تتداخل فيها مشاعر الحزن والندم والتأمل العميق.

 الصور الشعرية والرمزية:

/ديسمبر/ في القصيدة هو أكثر من مجرد شهر، بل هو شخصية متجسدة، /العجوز/، مما يضفي بعدًا إنسانيًا على الشهر الذي يرمز للزمن المتقدم. الشاعر يُصور الأجواء في ديسمبر بأنها تحمل توترات وحروبًا داخلية، مثل /يرتجف أحيانًا من أصوات الألعاب النارية/ و/يضرب السحاب بعضه/ وهي صور رمزية للمتاعب والصراعات النفسية.

التقنيات البلاغية:

يبرز في القصيدة استخدام الاستعارة والتشبيه بشكل جلي، مثل /يغيب عن ناظر الليالي أحيانًا/ و"يغني قصص ماضية في نشر وقاحتها"، حيث يعكس الشاعر بمهارة فوضى الذكريات التي تتداخل مع الواقع. كما نجد أسلوب الجناس في /ليقضم ديسمبر أظافره"/ و/ندمًا على مقعد تركه في يوم رحيله/، حيث يحمل هذا التشبيه تأثيرًا دراميًا يعزز من صورة الندم والحسرة.

 التكرار وإيقاع القصيدة:

يظهر التكرار في القصيدة مع تكرار الإشارة إلى شهر ديسمبر، مما يُعزز من حس الانتظار والرتابة في مرور الوقت. الإيقاع يأتي خفيفًا في بعض الجمل الثقيلة التي تدعو للتفكير العميق، مثل /أحيانا يصفع السحاب بعضه بعضا/، مما يضيف تأثيرًا صوتيًا على القراءة ويعكس الخضم الداخلي للأحداث.

 البُعد النفسي والتاريخي:

الشاعرة تُدخل البُعد النفسي من خلال تقديم ديسمبر كرمز للأحزان والندم والتذكير بالماضي القاسي. كما تتضمن القصيدة رمزية تاريخية، حيث يشير الشاعر إلى /الهيبة التي تركها في موسم سابق قد شوته الشمس/، مما يعكس شدة الحرارة والاحتراق التي تذكر بحروب أو أحداث صعبة، ما يضفي معنى عميقًا للمشاعر المرتبطة بهذا الشهر.

الخلاصة:

القصيدة تسلط الضوء على الحنين والندم من خلال صورة ديسمبر كرمز للعجوز الذي يحمل ذاكرة الماضي وآلامه. الأسلوب البلاغي المستخدم يحقق توازنًا بين الصور الشعرية والرمزية، مما يعزز الشعور بالزمن الضائع والندم. تُظهر القصيدة القدرة على التعبير عن الذكريات والمشاعر المتناقضة التي تخلق توترًا بين الماضي والحاضر.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

....................

ديسمبر العجوز

للآن لم يبرح ديسمبر مكانه؛ فهو يرتجف أحيانا من أصوات الألعاب النارية وينثرها في بقعة لا تكاد يلمها بؤبؤ عين الفضاء الصامت، فتثور الأغصان متمايلة بدافع الثورة على الرياح القصية المحملة آمالا شاخت من قِدْمها، وأحيانا يصفع السحاب بعضه بعضا؛ كي يفرض هيبته التي تركها في موسم سابق قد شوته الشمس على أحر من قصص ماضية في نشر وقاحتها على مرمى النجوم الخجولة والتي تغيب عن ناظر الليالي أحيانا، فليقضم ديسمبر أظافره ندما على مقعد تركه في يوم رحيله.

***

احلام البياتي

 

يقول هانز جورج غادامير، أحد أبرز المنظرين في التأويلية الفلسفية (الهرمنيوطيقا) حيث يقول في كتابه "الحقيقة والمنهج" (1960):

"إن فهم النصوص ليس مجرد إعادة بناء لمعناها الأصلي، بل هو حوار مستمر بين القارئ والنص، حيث تتجدد الدلالات وفقاً لأفق توقعات القارئ وسياقه الثقافي."

يأتي نص "أمطار الحزن" للأديب فاضل ضامد بوصفه نصاً شعرياً نثرياً مشبعاً بالإيحاءات الرمزية والاستعارات الكثيفة حيث يوظف الكاتب ثيمة المطر بوصفها عنصراً دلالياً يعكس الحزن الجمعي والتجربة الوجودية للذات في علاقتها بالتاريخ والثقافة. في هذه القراءة محاولة للكشف عن البنية الجمالية والدلالية للنص. و السعي إلى استقصاء جدلية الحزن والأمل التي تشكل جوهر الرؤية الشعرية من خلال تحليل التكرار الإيقاعي الصور الاستعارية والتفاعل النصي مع "أنشودة المطر" لبدر شاكر السيّاب.

البنية الجمالية والتقنيات الأسلوبية

يتسم النص ببنية متقطعة تعكس التوتر الشعوري حيث يعتمد الكاتب على الجمل القصيرة المشحونة عاطفياً مما يعزز الإحساس بالتدفق الوجداني المتصاعد. يتجلى ذلك في استخدام التكرار الصوتي والدلالي لبعض المفردات المركزية مثل:

"مطر، حزن، نحن"

حيث يؤدي هذا التكرار دوراً نفسياً وجمالياً.إذ لا يقتصر على الإيقاع الداخلي بل يسهم في ترسيخ الحالة الرثائية للنص.

على مستوى الأسلوب يوظف الكاتب المفارقة في تصوير المطر، إذ يتحول من كونه عنصراً طبيعياً إلى رمز مزدوج يعكس الألم والتجدد في آنٍ واحد مما يعمّق البعد التأويلي للنص ويمنحه قابلية للقراءة المتعددة. فالمطر في هذا السياق لا يغسل الأحزان بل يستدعيها ليصبح جزءًا من دورة الذاكرة والحنين.

التوظيف الرمزي والاستعاري في النص

نجد أن المطر بوصفه استعارة للحزن والتاريخ الجمعي، يُحمل المطر في النص معاني تتجاوز كونه ظاهرة طبيعية ليصبح رمزاً للحزن الممتد عبر الزمن إذ يعكس التجربة الجمعية للمعاناة. وفقاً لغاستون باشلار، فإن المطر في الأدب "يغسل الأحزان لكنه يستدعي الذاكرة العميقة للإنسان"، وهذا ما يتجلى في النص حيث يربط المطر بين الفقدان والتذكر بدلًا من أن يكون مجرد علامة على التطهير أو البدايات الجديدة.

العلاقة الجدلية بين الحزن والأمل

في فلسفة هيغل عن الجدل، يُنظر إلى التناقضات بوصفها ضرورية لنشوء تحولات جديدة حيث "لا يمكن للأمل أن يوجد دون معاناة تماماً كما يولد النور من قلب الظلام". هذه الجدلية تنعكس في النص حيث لا يُقدم الحزن كحالة ثابتة. بل كشرط ضروري لتحقق الأمل. ففي السطر الأخير من النص نجد:

"فالمطر وعد الحياة، وقصيدة العشق الأولى."

وهذا يعزز الرؤية الفلسفية التي ترى في الألم نواةً لإمكانية التجدد والبعث.

 استدعاء العصفور كرمز للأمل والتجدد

يظهر العصفور في النص كرمز للحياة والحرية لكنه محاصر في سياق شعري يجعل منه عنصراً هشاً أمام قسوة الواقع. هذه المفارقة تخلق توتراً بين التطلع إلى الأمل والشعور بالعجز، مما يعكس بنية وجدانية تتقاطع مع التجربة الإنسانية الأوسع.

التناص مع "أنشودة المطر" للسيّاب

يرى رولان بارت أن "كل نص هو نسيج من التناصات"، أي أنه لا يوجد نص مستقل تماماً عن غيره. في "أمطار الحزن"، يظهر التناص بشكل واضح مع "أنشودة المطر" للسيّاب، لكن النص لا يعيد إنتاجها بل يعيد تشكيلها وفق رؤية حداثية تتجاوز البنية الكلاسيكية.

التقاطعات والاختلافات بين النصين

في "أنشودة المطر"، يرتبط المطر بأسطورة الخلاص بينما في "أمطار الحزن"، يصبح المطر حاملًا لذاكرة الحزن والتناقضات الوجودية.

النص الجديد ينهل من روح السيّاب لكنه لا يكررها بل يعيد إنتاجها برؤية ذاتية أكثر ارتباطاً بالراهن.

هذا التفاعل النصي يمنح القراءة أبعاداً متعددة الطبقات حيث يتحرك النص بين الاستلهام والتجاوز مما يعكس مرونة الخطاب الشعري الحديث.

البعد الثقافي والسياقي للنص

ينتمي النص إلى تيار الحداثة الأدبية الذي يدمج بين النثري والشعري، حيث تتماهى الحدود بين التعبير الذاتي والرؤية الجمعية. كما أن البعد الثقافي العراقي حاضر بقوة، إذ يتقاطع مع التجربة الشعرية العراقية الحديثة التي طالما عكست أزمات الإنسان العربي والعراقي على وجه الخصوص.

النص يستحضر الذاكرة الثقافية للحزن بوصفها مكوناً أساسياً للهوية مما يجعله مفتوحاً على تأويلات تتجاوز البعد الذاتي وصولاً إلى البعد الاجتماعي والسياسي. هذا التداخل بين الفردي والجمعي و بين الحزن والتجدد و بين الماضي والمستقبل، يعكس رؤية فلسفية عميقة حول طبيعة الوجود والتاريخ.

يقدم نص "أمطار الحزن" للأديب فاضل ضامد تجربة شعرية حداثية تتسم بالكثافة الرمزية والاستعارية حيث يوظف المطر بوصفه عنصراً جدليًا يجمع بين الحزن العميق وإمكانية الأمل. من خلال بنيته المتقطعة إيقاعه الداخلي وتوظيفه للذاكرة الثقافية يعكس النص رؤية حداثية للحزن لا بوصفه مجرد انفعال وجداني بل كجزء من سيرورة وجودية وثقافية.

***

إنجاز القراءة فاطمة عبد الله

..................

أمطارُ الحُزن

مثلَ دبٍّ قطبيٍّ، كانت غيماتُنا الوارفةُ الظلال، والشتاءُ يعتَمرُها قُبَّعاتٌ ليزيدَ سَحنةَ الظلامِ لونًا بَنَفْسَجيًّا، فَيَحيا قوسُ قُزَحَ حينَ يَهطُلُ المطرُ، لِتَرتَجِفَ أكتافُنا، نَرقُصُ بَردًا، نَدخُلُ البيوتَ ونُشعِلُ أرواحَنا، نُدفِئُ نارَ الموقدِ المُلتَهِبِ فينا منذَ عصرِ الحروبِ والجوعِ يَصولُ في البُطونِ.

نحنُ شَعبٌ توالَتْ عليهِ أمطارُ الحُزنِ لِتَستَخلِصَ مِنهُ كلَّ ما هو فَرَح. يا عُصفورَ المطرِ، حُطَّ على أكتافِنا وابْنِ عُشَّكَ، نحنُ شَجَرٌ تَحَمَّلْنا العَطَش، رُبَّما تُعيدُ لنا عِيدانُ عُشِّكَ الرُّوحَ المُمتلِئَةَ بالنُّثِّ الأبيضِ، فَنَنحَني تَحتَكَ لِنَهطِلَ مَعَكَ زَرعًا نَحلِفُ بهِ مِن كلِّ شرٍّ قادِم.

مَطرٌ... لا تَنتَظِرْ أوامِرَ الهُطول، لا تَنتَظِرْ حَبَّاتِكَ تَكبَرْنَ، انزِلْ مِثلَ الحُبِّ ماءً زُلالًا نُصَفِّي بهِ قلوبَنا المضروبةَ بالجُنون. انزِلْ لِنَحتَمِيَ بكَ ونَحتَفِلَ بكَ، سَنَزرَعُ أرواحَنا نَخيلًا وعَنبَرًا وعِطرًا وتُرابًا.

يا مَطرُ، ما زالَ السَّيَّابُ يَهطُلُ مَعَكَ شِعرًا، والكُتُبُ بَلَّلَها القُرَّاءُ وأنتَ تَمرُّ على جَبينِها لِتُعيدَ الخِطابَ الأبديَّ: أُنشودةُ المطر .

فانهمِرْ يا مَطرُ، اغسِلْ وُجوهَ الأزقَّةِ الحزينةِ، واخضَرَّ في قلوبِ العابرينَ، وامتَزِجْ بنَبضِ الأرضِ لِتُزهِرَ مِن جديدٍ، فالمَطرُ وِعدَةُ الحياةِ، وقَصِيدَةُ العِشقِ الأولى!

***

فاضل ضامد - العراق

2025

تنتصر لإنسانية المواطن العراقي الأصيل

يندرج فيلم "سائق الإسعاف" للمخرج هادي ماهود ضمن نطاق الدكيّودراما "الدراما الوثائقية" لأنه يعتمد بالأساس على حدث وقع على أرض الواقع وتناولته الكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة وربما لم يترك هذا الحدث لصانع الفيلم شيئًا يقوله أو يبني عليه قصته المشحونة بالدراما والترقّب والتشويق. ولعل السينارست والمخرج هادي ماهود قد انتبه إلى ظاهرة لم يلتفت إليها كثيرون من أقرانه المخرجين وهي التضليل الإعلامي، وتشويه صورة الآخر المعادي لها أو الذي لا ينسجم مع طروحاتها الفكرية والسياسية فتعْمَد إلى دمْغهِ بالإرهاب، وتنميطه ضمن خانة التخلّف، والرجعية، وعدم مواكبة روح العصر. غير أنّ المخرج اللمّاح هادي ماهود قد راهن على الجانب الإنساني لشخصية عراقية إشكالية وهي شخصية سائق الإسعاف التي جسّدها الفنان التشكيلي جبّار الجنابي وشحنها بالكثير من المُعطيات الإنسانية التي تنظر إلى الحرب وتداعياتها من زاوية إنسانية متحضرة سواء اعتمد على ضميره الشخصي اليقظ أو على ديانته التي لا تسمح بمعاملة الأسير معاملة سيئة. وبالمقابل قدّم لنا شخصية الجندي العراقي المغلوب على أمره الذي لا يعرف أكثر من تنفيذ الأوامر التي يُصدرها الضباط الكبار الذين يعمل تحت إمرتهم. وقد أدّى هذا الدور الممثل علي ريسان بطريقة مُقنعة رغم قناعاته السلبية التي سوف تتصدّع شيئًا فشيئًا وهو يرى مُعطيات انهيار الدولة الدكتاتورية التي تبيّن أنها نمر من ورق. أمّا الشخصية الثالثة وهي المُجنّدة الأمريكية جيسيكا دون لينج التي أدّتها الممثلة التونسية حياة حرزي من دون انفعالات مفرطة فقد كانت مستوفية لشروطها الفنية التي أوصلت من خلالها كمًا كبيرًا من المشاعر والأحاسيس الداخلية التي تنتاب أسيرة حرب جريحة تعرضت للإصابة في رأسها وساقيها في بيئة معادية. وثمة شخصيات أخرى لا تقل أهمية عن هذا المثلّث البشري المتساوي الأضلاع رغم اختلاف الأصول والمرجعيات مثل حارس المستشفى أو الشخصيات السياسية والعسكرية المؤدلَجة التي تصب جام غضبها على كل ما هو أمريكي من دون العودة إلى التفاصيل والمواقف المنفردة التي لا ينبغي لها أنّ تؤخذ بجريرة المواقف والآراء الأمريكية العامة.1012 ambulans

قصائد الدكتاتور المهلهلة

يستهل المخرج فيلمه بمطلع قصيدة ركيكة للدكتاتور صدام حسين يقول فيه: "أطلقْ لها السيف لا خوفٌ ولا وجلُ / أطلق لها السيف وليشهد لها زُحلُ". ولعل المخرج هادي ماهود أراد أن يبيّن لنا الهواجس المتعددة لهذا الدكتاتور الذي يُنظِّر في كل شيء؛ فهو يتحدث عن الصناعة، والزراعة، والإشارات المرورية، وحركة سير المركبات، ويكتب الروايات البائسة، ويدوّن الأشعار المجردة من المعاني، والخالية من الدلالات والصور الشعرية المُعبرة. ولعل هذا التشتت يعبّر لنا خير تعبير عن شخصيته السايكوباثية المريضة التي سوف تؤثر، مع الأسف الشديد، في شريحة واسعة من الشعب العراقي، وخاصة في الطبقة السياسية وبعض صنوف الجيش العراقي كالأمن، والاستخبارات، والحرس الجمهوري، والحمايات الخاصة بأمن الرئيس وسلامته حتى أنّ الكثرين منهم كانوا يقلّدونه في لبسهِ وطريقة كلامه بنبرته القروية المعروفة.

يتضمن هذا الفيلم القصير مُقتطفات خبرية إذاعية في المجمل تتعالق مع ثيمة الفيلم الرئيسة التي تتمحور على أسْر المجندة الأمريكية جيسيكا لينج في 23 مارس / آذار 2003 وتحريرها يوم 1 أبريل / نيسان في العام ذاته من قِبل القوات الخاصة الأمريكية التي لم تلقَ أي مقاومة تُذكر كما روّج لها الإعلام الأمريكي بغية رفع معنويات القطعات العسكرية الموجودة في العراق على وجه التحديد.

من بين الأخبار التي تتدفق من الإذاعة العراقية نسمع:"جرت معركة شديدة جدًا بين وحدات الجيش العراقي وعلوج الاستعمار الأمريكي والبريطاني". ومع أنّ كلمة "عِلْج" تعني "الشديد والغليط من الرجال" إلّا أنّ وزير الإعلام السابق محمد سعيد الصحاف لم يقصد هذا المعنى وإنما أخذ  بالمعاني الأخر من بينها "الحمار" أو "الكافر" لكي يصف الغزاة، ويقلّل من شأنهم، بينما هم في حقيقة الأمر يتقدمون ويجتاحون مدن العراق العراق تباعًا مع الإقرار بأنهم واجهوا مقاومة حقيقية شرسة في بعض مدن العراق مثل مدينة "أم قصر" و الناصرية وبغداد لاحقًا. ومع أنّ بلدانًا عدة مثل فرنسا وألمانيا وبلجيكا قد جدّدت معارضتها للحرب إلّا أنّ وزير الخارجية الأمريكي كولن باول كرّر مطالبتهُ للعالم بطرد البعثات الدبلوماسية العراقية المتواجدة فيها. ومن ضمن الأخبار الإذاعية التي تتعالق مع ثيمة الفيلم نسمع تصريح الناطق العسكري الأمريكي بأنّ "رتلًا عسكريًا تابعًا لسرية الصيانة الأمريكية 507 قد ضلّ طريقه وتعرّض لكمين عراقي. وقال الكابتن جيّ لا روزا، المتحدث باسم حملة مشاة البحرية الخامسة عشر أنّ جنديين قُتلا في الهجوم، وذكر شهود عيان أنّ مجندة أمريكية أُسِرتْ ونُقلت إلى جهة مجهولة بعد تعرّضها لجروحٍ بليغة". قد يبدو هذا الحدث طبيعيًا ويمكن أن يقع في أية حرب، وأي بلد في العالم. غير أن معالجة الحدث من وجهة نظر إنسانية هي التي ستقلب موازين هذا الفيلم وتنتشلهُ من النَفَس التقريري الذي اعتدنا عليه في الأخبار وحتى في بعض الأفلام الروائية والوثائقية النمطية. وهذا هو سرّ نجاح الفيلم وتألق مخرجه هادي ماهود الذي شحن ثيمة الفيلم بمعطيات فنية وإنسانية على حدٍ سواء.

ليس غريبًا أن تتمنى جيسيكا بأنّ هذه الحرب سوف تنتهي قريبًا وتعود إلى أهلها وذويها وأصدقائها الذين تفتقدهم وتشتاق إليهم جميعًا مثل اشتياقها للوطن الذي تحنّ إليه بوصفه مرتعًا للطفولة ومَنجمًا للذكريات الجميلة التي لا تنضب. لا شكّ في أنّ الأم هي أقرب الناس إلى جيسيكا فهي التي تحذِّرها من المخاطر، وتُحيطها علمًا بأنّ الجميع بخير، وهم ينتظرون عودتها على أحرّ من الجمر.1013 ambulans

أحد المسؤولين الحزبيين الذين يرتدون البزة العسكرية يسأل عن المجندة الجريحة ليس من باب الاطمئنان عليها وإنما بوصفها ورقة رابحة للمساومة أو التفاوض مستقبلًا فيخبره الطبيب بأنّ لديها ضربات في الرأس وكسور في الأطراف السفلى ويأمر نقيب عسكري بإبعادها عن هذا المكان فتُنقل إلى مستشفى الولادة الذي لا يلفت الانتباه إلى وجودها. وينصحهم بعدم الاحتكاك بالقوات الأمريكية ويطلب منهم الاتصال بمديرية الاستخبارات العسكرية إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك.

تضارب وجهات النظر

في أول احتكاك بين سائق الإسعاف والجندي المسؤول عن الأسيرة تتكشف لنا النيات الطيبة للأول وتتضح النزعة العدوانية للثاني، فالسائق ينظر لها كـ "خطيّة" أي مسكينة، أسيرة ومصابة، بينما ينظر لها الجندي كمجندة أمريكية غزت بلاده.

 تتخلل الفيلم استذكارات الأم التي تعرب فيها عن حُبها واشتياقها اللامحدود فتبادلها البنت المشاعر ذاتها، ولا تدخر وسعًا في الإعراب عن لهفتها الكبيرة باللقاء المُرتَقب.

لقد تحولت المجندة إلى "ورطة" بالنسبة إلى الجندي المسؤول عن حمايتها وهو يريد أن يتخلّص منها بأسرع وقت ممكن فلقد أتعبتهُ ساعات الواجب الطوال ويريد أن يرتاح قليلًا لكنّ السائق يقترح عليه أن يفتح المذياع ويسمع ما يشاء لكي يُبعد عنه النعاس فتأتيه عبر الأثير أغنية "فوت بيها وعالزلم خلّيها / والله لرقاب العدو نساويها" ثم يتبعهُ مذيع إخباري يتحدث عن تغطية للحرب التي تدور رُحاها في العراق فيتململ الجندي متذمرًا من الحروب المتواصلة التي تنهش في أجساد العراقيين. وحينما يغيّر الموجة يطلب الجندي سماع القرآن الكريم مُبررًا ذلك بأنه ذاهب إلى الموت ومن الأفضل أن يشنّف سمعه بالقرآن الكريم.

يأمر العميد الركن غيدان عبدالله الجندي المكلف بحماية الأسيرة أن يأخذ سيارة الإسعاف ويُوقفها على الكورنيش المُطل على نهر الفرات بمواجهة القوات الأمريكية ويرشّها بالنزين ويُوقد فيها النار. وحينما يسأله عن مصير المجندة الأمريكية يأتيه الرد القاسي والمُفجع "إلى جهنم" بحجة أنّ القوات الأمريكية ضربت سيارة إسعاف مدنية وأبادت كل من فيها. ويأمر الجندي بأن ينفّذ أوامره لكن السائق سيعترض لأنه مهمته الأساسية هي نقل الحرجى والمصابين وليس حرقهم في الهواء الطلق. ولكي لا يحتدم النقاش استشهد سائق الإسعاف بآيات من سورة "الإنسان" حيث يقول الله جلّ في علاه:" وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا". فقد ساوى الله بين المسكين واليتيم والأسير لأنّ هذا الأخير مغلوب على أمره حيث يتوجب علينا إطعامه، وإكساءه، والمحافظة على صحته وسلامته لحين إخلاء سبيله. لا يبذل السائق جهدًا كبيرًا في إقناع الجندي بأنّه سوف يتحمّل ذنبًا كبيرًا يجب ألّا يقترفه في اللحظات الأخيرة من عمر النظام الآيل للسقوط. فالمستشفى قد فرغ ولم يبقَ فيه سوى حارس واحد نزع ملابسة العسكرية وارتدى الزي الشعبي. فطلب منه أن يذهب لأهله ويترك الباقي عليه لأن الجميع سيذهبون إلى بيوتهم ولن يبقى أحد. يذهب السائق للصلاة وحينما يعود يكتشف أن الجندي قد نزع ملابسه العسكرية وترك سلاحه وغادر المكان كليًا تاركًا خلفه المجندة الأسيرة. تعلن الإذاعة الأمريكية من جهتها بأنّ المسؤولين الأمريكيين يحذرون جنودهم بأنّ هناك معركة عنيفة، ومقاومة شديدة تنتظرهم في بغداد وإلى الشمال منها في تكريت؛ المدينة التي ولد فيها صدام حسين. غالبية الجنود نزعوا ملابسهم العسكرية وارتدوا الدشاديش والزي المدني وانضموا إلى السكّان المدنيين. وهناك 28 ألف فدائي مقاتل بقوا في المدينة وفقًا للاستخبارات العسكرية الأمريكية ويمكن أن يلحقوا الضرر بقوات الاحتلال الأمريكي.1014 ambulans

نهاية مُعبرة ومُستقبل مجهول

ينتهي الفيلم نهاية مُعبرة ومدروسة حينما يُقْدم أربعة جنود عراقيين على تبديل ملابسهم العسكرية بملابس مدنية مقابل أن يأخذ أسلحتهم وملابسهم العسكرية التي يخبئها خلف محتويات المحل. ثمة مشاهد لنهب الدوائر والمؤسسات الحكومية والحزبية. أمّا حارس المستشفى الذي لم يهرب ولكنه قلع هو الآخر ملابسة وارتدى الزي الشعبي مُدعيًا بأن الهزيمة ليست من شيمه. تُنقل الأسيرة إلى المستشفى ثانية لنرى القوات الخاصة الأمريكية وهي تُدهم المستشفى وتحرر المجندة من أسرها.

يعزز المخرج فيلمه ببعض المعلومات المهمة التي يتابع من خلالها مصير المجندة فنعرف أنّ جيسيكا لينج قد عادت إلى بلدها كبطلة حيث رأيناها تصافح الرئيس جورج بوش الأبن. أمّا سائق الإسعاف صباح خزعل فما زال يواصل عمله في المستشفى وبعد سنتين سوف تتعرّض سيارته إلى قصف القوات الإيطالية عند محاولة إنقاذ سيدة عراقية حامل ينقلها إلى مستشفى الولادة الأمر الذي يفضي إلى حرق وتفحّم السيدة ومرافقاتها وإصابة السائق بحروق متعددة.

كان أداء الممثلين الثلاثة مُقنعًا إلى حد كبير ولم نلحظ عليهم الانفعال الفائض عن الحاجة الأمر الذي أوحى لنا بعفوية الأداء وسلاسة تقمّص الشخصيات التي كانت تعيش ظرفًا استثنائيًا بكل المقاييس. وقد تمكن المخرج هادي ماهود من إدارتهم جميعًا بما في ذلك الشخصيات السياسية والأمنية والعسكرية. كما نجح الفنان رعد بركات في تطعيم الفيلم بموسيقى تصويرية تتناغم تمامًا من طبيعة الأحداث المُفجعة سواء للشخصيات العراقية التي تهيمن على مدار الفيلم أو للمجندة الأمريكية التي يقف خلفها الأهل والأصدقاء في الطرف الآخر من الكرة الأرضية. وفي السياق ذاته لا بدّ من الإشادة بدور مدير التصوير عبد الخالق الجواري الذي نقلنا إلى صُلب الحدث وجعلنا نتفاعل معه في لحظات التوتر والانفعال وهي كثيرة ضمن تفاصيل الفيلم، أو لحظات الاسترخاء التي يمكن تلمّسها بين آوان وآخر. وفي الختام لا بدّ من الاعتراف بأنّ النجاح الأساسي لهذا الفيلم قائم على براعة السيناريو الذي كتبه المخرج هادي ماهود وما انطوى عليه من معالجة فنية لوت عنق الفكرة الرئيسة وروّضتها لمصلحة وجهة النظر الإنسانية التي تبنّاها سائق الإسعاف ونجح في إيصالها إلى المتلقين من دون زعيق أو ثرثرة لغوية فارغة. كانت النهاية شديدة الدلالة ولم يسهب السينارست في الحديث عنها لأنها لا تحتاج إلى القول بأن الإدارة الأمريكية قد سلّمت دفة سفينة البلاد إلى الأحزاب الدينية. وينبغي ألا تفوتنا الإشادة بالترجمة الدقيقة التي تبنتها الممثلة المبدعة لبوة صالح حيث أتاحت للمتلقي الأجنبي فرصة استيعاب الفيلم من دون أخطاء لغوية تُربك تدفق المعاني وتؤرق انسيابها العفوي الجميل.

***

عدنان حسين أحمد – كاتب وناقد

تقوم قصيدة "هُجُوعُ مَا بَعْدَ المُنْتَصَفِ" للشاعرة مجيدة محمدي على تيمات متشابكة تعيد تشكيل تجربة الوجود الإنساني داخل فضاء شعري يمزج بين الضياع والانتظار، بين الحضور والغياب، حيث تتقاطع الأزمنة داخل ذات مأزومة تتأمل مصيرها في لحظة من الترقب والتلاشي. لا يقتصر النص على كونه تجربة فردية، بل يتحول إلى مشهد شعري مكثف يجسّد حالة وجودية تتأرجح بين الحسم والتردد، بين الماضي المنسحب والمستقبل المتعثر، في دائرة من الظلال والمعاني المتداخلة.

منذ السطر الأول، تتجلى تيمة الفقد بوصفها المحرّك الأساسي للنص:

"كغصن انفصل عن جذعه، استلقى مثل فكرة لم تكتمل."

هذه الصورة البصرية القوية ترسم إحساسًا بالتمزق واللااكتمال، حيث لا يصبح الانفصال مجرد فعل مادي، بل يتحوّل إلى حالة وجودية تعكس إحساس الذات بكونها كيانًا منقسمًا، بين نصف مضى ونصف ينتظر المصير، وكأنها عالقة في مسافة برزخية بين زمنين لا يلتقيان. هنا، تيمة البرزخية تتجلى بوضوح، حيث لا شيء يكتمل إلا الفقد، وكأن الوجود الإنساني كله محكوم بحالة من التعليق الدائم.

يلعب الزمن دورًا محوريًا في تشكيل بنية النص، حيث يتأرجح بين ماضٍ ينسحب كمدٍّ بعيد ومستقبل يتكسر كالأمواج على ضفة الأمل المنكمش. هنا، يظهر الزمن بوصفه حالة غير مستقرة، أقرب إلى مدّ وجزر لا يترك أثرًا واضحًا. هذا الإحساس يتعزز أكثر في السؤال الذي تطرحه الشاعرة: "أيُّ نصفٍ يتوحد في هذا السكون المفرط؟"، حيث يتحول الزمن إلى معضلة، إذ لا يكون الحاضر سوى فراغ ثقيل بين ماضٍ لا يعود ومستقبل يتبدد قبل أن يأتي. بذلك، تصبح تيمة الزمن العالق عنصرًا أساسيًا في تشكيل الإحساس بالضياع.

يصل الإحساس بالعجز إلى ذروته حين تصف الشاعرة لحظة التخلّي: "حين تصير المفاصل أثقل من الذكريات، والطرق أطول من أي نية للرجوع." في هذه الصورة، يتحوّل الزمن إلى ثقل مادي يرهق الجسد ويتخنه يالعجز، فتغدو الذكريات -وهي عنصر غير ملموس- أكثر خفّة من الجسد ذاته، مما يعكس مدى الإرهاق الوجودي الذي تعيشه الذات. هذا الإحساس يتسع في صورة الرغبات الخفية التي "تتسلل كقط ضجر، تقلّب في الدرج المغلق عن بقايا قصيدة لم تُكتب، عن نص مؤجل، عن اسم كان له يومًا، ولم يعد." هنا، تيمة البحث عن الذات المفقودة تصبح أكثر حضورًا، حيث لا يكون الماضي مجرد ذكرى، بل شيء يواصل التسلل كهاجس، كظلّ يلاحق الكائن دون أن يمنحه يقينًا أو خلاصًا.

تأخذ تيمة النور والظلال بعدًا خاصًا في النص، لكنها لا تُطرح ضمن الثنائية الكلاسيكية-المستهلكة التي تجعل من النور رمزًا للخلاص، بل يتم تفكيكها بحيث يصبح الضوء نفسه كيانًا مترددًا عاجزا على منح الوضوح أو التنوير الحقيقي. تصف الشاعرة الضوء بأنه "ضعيف كمصباح موتى، يتسلل من أطراف الستائر كشفق نادم، يلقي بظل باهت على جدار خالٍ، لكنه لا يضيء شيئًا." في هذه الصورة، لا يعود النور مصدرًا للحقيقة، بل يتحوّل إلى مجرد ظلّ شاحب، ضوء متردد غير قادر على خنق العتمة واختراقها أو كشف الطريق. هذا العمق في توظيف النور والظلال يجعل منهما عنصرين يعكسان تيمة الحيرة والتردد التي تطغى على القصيدة ككل.

على الرغم من كل الإحساس بالفقد، لا تصل القصيدة إلى حدّ العدمية المطلقة، بل تترك ثغرة للأمل، ولو كان أملًا مؤجلًا أو غائمًا، في خاتمتها:

"إنه وعد الشمس التي قد تأتي… رغم رهج السديم."

هذه الجملة الأخيرة لا تُلغي ثقل التيمات السابقة، لكنها تمنح القصيدة بعدًا جديدا مفتوحًا على احتمالات تبقي إمكانية الخروج من دوائر التلاشي قائمة، ولو وسط الغموض الذي يحجب الرؤية. هنا، تيمة الرجاء الغامض تمنح النص لحظة تنفس أخيرة، وكأن الذات/الشاعرة رغم كل شيء، لا تزال تمتلك احتمال العودة.

تنتمي "هُجُوعُ مَا بَعْدَ المُنْتَصَفِ" إلى نصوص الاغتراب الوجودي التي تتأمل المصير الإنساني من خلال تيمات الفقد، الزمن العالق، الجسد المثقل، الحيرة، والأمل المؤجل. القصيدة تنجح في خلق عالم شعري يتأرجح بين اللااكتمال والرغبة في الاكتمال، حيث يصبح الإنسان كيانًا معلقًا بين النوم واليقظة، بين الحضور والغياب، داخل لحظة برزخية لا تنتمي إلى أي زمن محدد، وإنما إلى الفراغ الذي يتوسط كل الأشياء...

***

أحمد لمقدم – كاتب وناقد

............................

" هُجُوعُ مَا بَعْدَ المُنْتَصَفِ"

كغصن إنفصل عن جذعه ،

إستلقى مثل فكرةٍ لم تكتمل،

نصف عمرٍ مضى، نصف نومٍ آت،

ولا شيء يكتمل إلا الفقد.

الرُّوحُ كَمِزلاجِ نافذةٍ صَدِئ،

تَتَأرْجَحُ بينَ ماضٍ يَنْحَسِرُ كمدٍّ بَعيد،

ومُسْتَقْبَلٍ يَتَكَسَّرُ كالأمْوَاجِ عَلى ضِفَّةِ الأَمَلِ المُنْكَمِش.

أَيُّ نِصْفٍ يَتَوَحَّدُ في هَذَا السُّكُونِ المُفْرِط؟

أَيُّ ظِلٍّ لِلرَّجُلِ الذِي يَتَأَمَّلُ خَطُّوْطَ وَجْهِهِ

فِي مِرْآةٍ تُشْبِهُ زُجَاجَ المَطَرِ المُتَكَهِّف؟

*

إنَّهُ وَقْتُ التَّخَلِّي،

حينَ تَصِيرُ المَفَاصِلُ أَثْقَلَ مِنِ الذِّكْرَيَات،

والطُّرُقُ أَطْوَلَ مِنْ أَيِّ نِيَّةٍ لِلرُّجُوع.

الرَّغْبَاتُ الخَفِيَّةُ تَتَسَلَّلُ كَقِطٍّ ضَجِر،

تُقَلِّبُ فِي الدَّرْجِ المُغْلَقِ

عَنْ بَقَايَا قَصِيدَةٍ لَمْ تُكْتَبْ،

عَنْ نَصٍّ مُؤَجَّلٍ،

عَنْ اسْمٍ كَانَ لِه يَوْمًا،

وَلَمْ يَعُدْ.

*

النُّورُ هُنا ضَعِيفٌ كَمِصْبَاحِ مَوْتَى،

يَتَسَلَّلُ مِنْ أَطْرَافِ السِّتَائِرِ كَشَفَقٍ نَادِم،

يُلْقِي بِظِلٍّ بَاهِتٍ عَلَى جِدَارٍ خَالٍ،

لَكِنَّهُ لا يُضِيءُ شَيْئًا.

*

هَذَا النِّصْفُ الَّذِي يتَمَدَّدُ فِيهِ

لَيْسَ لَيْلًا،

وَلَيْسَ يَقَظَة،

لَيْسَ عُمُرًا،

وَلَيْسَ مَوْتًا.

*

إِنَّهُ أَثَرُ خُطُوَاتٍ فِي طِينٍ قَدِيم،

إِنَّهُ وَعْدُ الشَّمْسِ الَّتِي قد تَأْتِي...رغم رهج السديم ...

***

مجيدة محمدي

(مُدَّ لي حبل جـواب)

أيُّـهـا الـسِّـرُّ الـخـرافـيُّ الـذي أعـجَـزَنـي

حـتـى اسْـتـحـالْ

*

 شِـبْـهَ تـفـسـيـر ٍ

لـمـعـنـى الـوهْـم ِ فـي ذاكـرة ِ الـغـيْـبِ

وقـامـوسِ الـخـيـالْ

*

يـا سـؤالا ً

كـلّـمـا فـكّـرتُ فـي مضـمـونِـه ِ

يـفـرعُ لـيْ ألـفُ سـؤالْ

*

أيُّـهـا الـسَّـهْـلُ ..

الـعـصِـيُّ ..

الـواضـحُ ..

الـغـامـضُ ..

يـا مَـنْ كـلـمـا ازدَدْتَ احْـتِـلالا ً لـيْ

حـمَـدتُ الـلـهَ وازدَدْتُ خـشـوعـا ً

وابـتِـهـالْ

*

أيُّـهـا الـمـالِـكُ والـمـمـلـوكُ ..

والـعـاقِـلُ والـمـخـبـولُ ..

والـرَّحـمَـة ُ والـنـقـمـة ُ ..

والشِركُ الحَلالْ

*

لـيـس يـعـنـيـنـي الـذي قـيـلَ

ومـا سـوف يُـقـالْ

*

فـأنـا سِـيّـانِ بـعـد الـمـوت ِ عـنـدي

أنْ تُـغـطّـيـنـي بـشـوك ٍ

أو بـزهـرِ الـبـرتـقـالْ

*

فـتـعـالَ الانَ ..

عَـمِّـدْنـي بـلـثـم ٍ

قـبـلَ أنْ يـحـمـلـنـي الـصَّـحْـبُ إلى الـقبرِ ..

تـعـالْ ..

*

فـمـتـى

هُـدهُـدُكَ الـمـوعـودُ يـأتـي

حـامـلا ً بُـشـراهُ بـالـفـردوسِ

والـخـمـر ِ البتوليِّ الـعناقيدِ

الخرافيِّ المنالْ؟

*

جَـفَّ صـوتـي

وأنـا أعـبُـرُ صـحـراءَ ظـنـونـي ..

مُـدَّ لـيْ حَـبْـلَ جـواب ٍ

مـرَّ عـامـانِ ..

وعـامٌ ..

ثـمَّ عقدٌ ..

وأنـا الـمـرمِـيُّ فـي بـئـر ِ الـسُّـؤالْ

*

مـا الـذي أنـبَـضـنـي؟

مَـنْ دَجَّـن َ الـذئـبَ بـغـابـاتـي

فـأضـحـى

حـارسَ الـوردِ

وعـبـدا ً لـلـغـزالْ؟

*

فـأنـا كـنـتُ رمـيـمـا ً ..

لم أكـن أعـرفُ لـلـمِـحـرابِ مـعـنـى ..

وكـؤوسـي لم تـكـن تـنـهـلُ

إلآ

مـن يـنـابـيـع ِ الـضَّـلالْ

*

كـيـف أصْـبَـحْـتُ إمـامـا ً

فـأؤمّ الـطـيـرَ والأنهـارَ والأزهـارَ

إنْ كَـبَّـرَ عـصـفـورٌ

ونـادى لـصـلاة ِ الـعِـشـقِ " صـوفـائـيـلُ " ..

تـغـدو قِـبـلـتـي الأولـى

وأغـدو

لـلـمُـصـلّـيـن " بِـلالْ "؟

*

ودلـيـلا ً

فـي مَـزاراتِ مـجـانـيـن ِ الـهـوى ..

مُـفـتـي ديـار ِ الـوجـدِ ..

نـاطـورَ بـسـاتـيـن ِ الـوصـالْ؟

*

وأمـيـرَ الـجـنِّ فـي مـمـلـكـة ِ الأنـسِ ..

وقـاضـي الـعـدلِ

فـي مـحـكـمـة ِ الـعُـشـبِ ..

وجلادَ لـصـوصِ الـمـطـرِ الأخـضـر ِ ..

كـيـف اشـتـعَـلَ الـرّأسُ هُـيـامـا ً

بكَ يـا ذاتَ الـجـلالْ؟

*

كـيـفَ أصْـبَـحْـتُ بـشـيـرا ً بـالـمـواويـل ِ ..

نـذيـرا ً لـلأحـابـيـل ِ ..

نـديـمـا ً لـلـقـنـاديـل ِ ..

هَـزوءا ً بالمـجـاهـيـل ِ ..

ولـيَّ الـعـهـدِ فـي مـمـلـكـة ِ الـحـزنِ

وفلاحَ بـسـاتـيـنِ الـخـيـالْ؟

*

أزرعُ الـغـيـمَ

فـأجـنـي الـضّـوءَ

والـمـاءَ الـزُّلالْ

*

والـحـصـى أغـرسُـهُ فـي واحـة ِ الـحُـلـم ِ

فـيـغـدو

حـيـن تـسـقـيـنـي طِـلا الـلـثـم ِ

عـنـاقـيـدَ يـواقـيـتَ ..

وتـفـاحـا ً ..

وأعـذاقَ لآلْ 

*

تُـشـمِـسُ الـلـيـلَ إذا تـعـرى

وتـرمـي عـن مَـرايـا الـجـيـدِ شـالا ً ..

و " حِـجـابـا ً " عـن ضُـحـى الـوجـهِ البتوليِّ

فـتـغـتـاظ ُ الـفـوانـيـسُ ..

فـنــلـهـو:

نـجـمـةً مـلـعـبُـهـا حُـضـنُ هِـلالْ    

*

فـتـعـالْ

*

لـكَ عـنـدي غـابة ٌ مـن شـجَـرِ الـعـشـقِ

ونـهـرٌ مـن جـنـون ٍ

وسـمـاواتُ دَلالْ ..

***

يحيى السماوي

.......................

قصيدة تعجُّ بالرمزية والصوفية والإنزياحات اللغوية، وتتناول ثيمات الوجود ، والحيرة الوجودية، والبحث عن الذات في خضمّ التناقضات. ليتنا نستطيع الغوص في تحليلها؟! فلننظر إلى هذه الحيرة الوجودية حين يعبّر الشاعر عن تساؤلات وجودية عميقة بقوله: ما الَّذِي أَنبضني؟ كيف أَصبحت؟ وكأنه يحاول فك لغز وجوده وتحولاته من "رميم" إلى إمامٍ روحيّ.

ولننظر لهذه التناقضات الظاهرة في النص: (المالك/المملوك، العاقل/المخبول، الرحمة/النقمة...) والتي تعكس صراع الذات مع تناقضات الوجود.

ما هذا العشق الصوفي يا شاعرنا الجميل والذي يُكرّس الحب كدينٍ بديل " صلَاة العشق، مفتِي ديار الوجد "، ويجعل من المحبوب معبودًا .

لنتوه قليلا في هذا المنفى الداخلي: "صحراء ظنونِي، بئر السؤَالْ" الرامز للعزلة والضياع في متاهات الفكر.

لا بد من الإشارة للرمزية الدينية:

"بِلَال": مؤذن النبي محمد "ص" ، هنا يصبح الشاعر "بِلَال" المصلين في معبد الحب.

"الْفردوس": جنّة العشق التي يعد بها الهدهد (رمز البشارة في الثقافة الصوفية).

الانزياحات:

- الانزياح الزمني وتداخل الأزمنة (الماضي، الحاضر، المستقبل) لتعكس تشظي الذات.

- الانزياح المكاني والإنتقال من الصحراء إلى الجنّة، ومن بساتين الوصال إلى محكمة العشب، لخلق عالمٍ سحريّ.

لا بد من الإشارة لتحوّل الذات برواية الشاعر لرحلته من الانهيار "رميم" إلى النهوض كقائدٍ روحي "إِماما"، "أَمير الْجن". هذا التحول الذي يعكس قوة الخيال في إعادة تشكيل الواقع، خاصة في سياق المنفى الذي عاشه الشاعر، حيث يصبح الشعر ملاذًا وجوديا.

مباركة هذه الخاتمة بمنحىً تفاؤلي رغم الحيرة:

"لـكَ عـنـدي غـابة ٌ مـن شـجَـرِ الـعـشـقِ

ونـهـرٌ مـن جـنـون ٍ

وسـمـاواتُ دَلالْ .."

والتي قدمتَ فيها "العشق" كغابةٍ خصبة تعوض جفاف المنفى، وتُعيد بناء عالمك الداخلي.

تقبلوا مروري بود مع للإعتذار عن الإطالة والتقصير بحق النص

***

بهيج حسن مسعود

 

قراءة نقدية تحليلية لقصيدة "النفق"، للشاعرة مارلين باسيني - المكسيك.

قصيدة /النفق/ للشاعرة: مارلين باسيني هي نص شعري غني بالرمزية ويعبر عن رحلة داخلية مليئة بالتناقضات والتحديات النفسية والوجودية. من خلال استخدام النفق كرمز أساسي، تقدم الشاعرة صورة معقدة للحالة البشرية التي تتراوح بين الموت والحياة، بين الفقدان والتجدد. القصيدة تتناول موضوعات العدم، الانتقال، والتجديد، مقدمة رؤية شعرية تنطوي على دلالات فلسفية وعاطفية.

1. الرمزية والتشبيهات:

القصيدة تعتمد بشكل أساسي على الرمزية التي تشد الانتباه منذ البداية. النفق، الذي يظهر في العنوان وفي السطور الأولى، يمثل ليس فقط الانتقال الزمني بل أيضًا التحول الروحي والنفسي. يبدأ النص بـ /دقت الساعة ساعة الصفر/، مشيرًا إلى لحظة حاسمة من التغيير أو التحول الجذري، حيث يقترب الفرد من نقطة البداية والنهاية في الوقت نفسه.

وفي السطور اللاحقة، يتضح أن الشاعرة تستخدم الرمزية على مستوى عميق لتصوير التحولات الداخلية: /العيون على الهارب، ابتسامة، اسم يتكرر كتعويذة/. هذا المزيج بين البصر والسمع يشير إلى حيرة الإنسان في مواجهته للمجهول، وتكرار الاسم كتعويذة يوحي بمحاولة الإنسان التمسك بالأمل أو القوة في لحظات الضعف.

2. الصور الحسية والصوتية:

القصيدة ممتلئة بالصور الحسية التي تعزز التجربة الشعورية وتُدخل القارئ في عالمها الداخلي. /قبلة في فم الجشع/، و/المطر ينهمر/ و/صوت ناعم بين طبقات النسيم/ هي صور تنقل إحساسًا بالحركة والانتقال، وتساهم في خلق جو من التأمل العميق. الشاعرة تمزج بين الأصوات والمرئيات، مما يعمق الفهم لرحلة الداخل والبحث عن الذات.

كما أن /المطر ينهمر/ يضيف بعدًا دراميًا للقصيدة، حيث أن المطر غالبًا ما يُرمز إلى التجدد والنقاء، لكنه هنا يُذكر في سياق /أيام من عدم اليقين/، ما يخلق توترًا بين الأمل واليأس.

3. التوقف والتحول:

القصيدة تتناول بشكل خاص مفهوم التوقف والتحول، /التوقف الجسدي المفاجئ يكسر الحبل الفضي الرقيق جدا/. الحبل الفضي هو رمز تقليدي في الأدب الفلسفي والروحانيات للاتصال بين الروح والجسد، واستخدامه هنا يوحي بقطع هذا الاتصال في لحظة فاصلة من التحول. هذا التوقف المفاجئ يشير إلى مرحلة انتقالية أو /لحظة الصفر/ التي تسبق البداية الجديدة.

كما أن /النفق المعقد/ يعكس الحالة المعقدة للعقل البشري في محاولة لفهم الذات والوجود في وسط كل هذه التغييرات والتحولات. ومع ذلك، هناك إحساس بالتطلع إلى المستقبل، وهو ما يتجلى في /ما كان نزهة في دار الأيتام قد تحول/؛ فقد تتواجد الإشارة هنا إلى الانتقال من الطفولة والبراءة إلى النضج والتطور الشخصي.

4. الوجود والتجدد:

في نهاية القصيدة، يتكرر theme الولادة الجديدة والولادة الروحية. هذه الولادة الجديدة تمثل التجدد والتطلع إلى بداية جديدة، /حتى تصل إلى البداية من الولادة الجديدة المتوقع/. إن هذا التشبيه يعكس فكرة التغيير المستمر في الحياة البشرية، وفكرة أن نهاية شيء قد تكون بداية شيء آخر.

الصورة الختامية عن /الدوامات المضيئة/ و/رقصة الأحلام/ تخلق إحساسًا بالتحرر والانطلاق، كما لو أن السحب قد انقشعت لتفسح الطريق للولادة الجديدة المنتظرة. التناوب بين الظلام والضوء، بين الخوف والأمل، هو ما يعطي القصيدة عمقًا فلسفيًا وفنيًا.

5. الأسلوب الفني والموسيقى الشعرية:

الأسلوب الفني الذي تستخدمه مارلين باسيني يعكس إيقاعًا شعريًا غير تقليدي ولكنه يشد الانتباه إلى لُحمة الكلمات وصوتها. القصيدة مليئة بالصور السريالية التي تخلق جوًا من الغموض والتوتر، وهو ما يعكس تمامًا الرحلة النفسية التي تسلكها الشخصية في النص. الموازنة بين الفضاءات الصوتية والمرئية تعطي القصيدة طابعًا موسيقيًا في بعض الأحيان، ويعزز ذلك من التجربة الشاملة للقارئ.

6. الخاتمة:

قصيدة /النفق/ للشاعرة مارلين باسيني تفتح المجال لتفسير عميق للحالة الإنسانية في لحظات التحول الكبيرة، حيث تتداخل العواطف، والذكريات، والآمال المستقبلية لتخلق صورة شاعرية مليئة بالتناقضات بين الظلام والنور، الموت والحياة، النهاية والبداية. إن استخدام النفق كرمز للتحول العميق يتوافق مع المواضيع الوجودية التي تطرحه القصيدة، ليعكس في النهاية مسعى الإنسان الأبدي للبحث عن المعنى والغاية في قلب التجربة الإنسانية.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

..................

النفق

دقت الساعة ساعة الصفر""

حان الوقت للانتقال إلى إعادة الضبط

من خلال نفق الطريق الأبدي دائمًا...

على خريطة ذهنية في ميكروثانية

أفلورا مدى الحياة

العيون على الهارب

ابتسامة

اسم يتكرر كتعويذة

قبلة في فم الجشع

صرخة

المنزل

الشجرة...

صوت ناعم

بين طبقات النسيم

المطر ينهمر

أيام من عدم اليقين

الوجود الشره لكل ما كان

التوقف الجسدي المفاجئ

يكسر الحبل الفضي الرقيق جدا

الكثافة الآن شكل أثيري...

النفق المعقد

وضوح السماء مقدم

ما كان نزهة في دار الأيتام

لقد تحول

في هالة معطرة بالورود...

أحاط بالطريق

الدوامات المضيئة

إنهم يدورون في رقصة الأحلام

وفي ترحيب خفي بالأجنحة

إنهم يفسحون الطريق

حتى تصل إلى البداية

من الولادة الجديدة المتوقع. "

***

مارلين باسيني - المكسيك

لكامل عبد الحسين الكعبي - العراق

الأسلوب السردي والتعبيري: القصيدة تعكس أسلوبًا سرديًا يعبر عن التوتر الداخلي للصراع بين الحياة والموت، بين الأمل واليأس. الشاعر يمزج بين الوصف المباشر للمشاعر والتأملات الفلسفية حول الذات والزمان والمكان. لغة القصيدة معقدة، تشي بإحساس حاد من التناقضات، حيث يُستعمل الشتاء والصقيع كمجازات لفترات من الحياة الموحشة أو المعزولة.

الرمزية:

ديسمبر في القصيدة هو الشهر الذي يتحدى /الصقيع/ - وهو صقيع داخلي أو نفسي، كما يُحتمل أن يكون صقيعًا اجتماعيًا أو سياسيًا. الرمزية قوية في تصوير الموت أو النهاية (الموت المتكرر) عبر الحبل المنفلت والقلق الداخلي. الكلمة /معاق/ تشير إلى صعوبة التجديد أو التغيير في تلك اللحظة الزمنية.

التقنيات اللغوية:

الشاعر يستخدم العديد من الصور البلاغية المميزة مثل /القصيدة حبلى/، و/كَيّ المياسم/، و/النعاس من الاصفرار/، التي تخلق توترًا بين الحركية والجمود. الصور المبالغ فيها تجعل التجربة الإيحائية أكثر غموضًا وتعقيدًا، مما يعكس التوترات النفسية للفرد الموصوف.

التوتر بين الحياة والموت:

القصيدة مليئة بالتناقضات بين الحياة والموت. /المطر الأعزل/ و/الشمس بلا أصابع/ يشيران إلى غياب الفعالية في العالم الخارجي، بينما /مطرٌ/ و/شمسٌ/ يمكن أن يكونا رمزين للأمل الذي لا يكتمل. كما أن صراع /دفء ديسمبر/ مع /الصقيع/ يسلط الضوء على التحدي الداخلي بين الرغبة في البقاء والركود في وضعية متجمدة.

البنية والتأثير العاطفي:

البنية غير التقليدية للقصيدة، التي تتنقل بين العبارات المتشابكة والمركبة، تسهم في خلق الإحساس بالتوتر المستمر. التشابك بين الجمل الطويلة، مع الغموض في بعض الأجزاء، يعكس القلق المتنامي في الذات الشاعرة. كما أن العبارات التي تحتوي على أسئلة غير مباشرة مثل /مَنْ يفتح أبوابَهُ الموصدّة؟/ تبين العجز والانسداد الذي يشعر به الشاعر.

الخلاصة:

القصيدة /دفءُ 'ديسمبر' يتحدّىٰ الصقيع/ تتسم بعمقها الرمزي واللغوي، وتعبّر عن معاناة شديدة مصحوبة برغبة في التغيير والإفلات من القيود. تُستخدم صور الشتاء والصقيع كأدوات بلاغية للتعبير عن الفترات المظلمة في الحياة، بينما يأتي الأمل في دفء ديسمبر كنوع من التحدي لهذا الجمود. اللغة المشحونة بالصور المجازية والأفكار الفلسفية تجعل القصيدة معقدة ومليئة بالتأملات الوجودية.

***

 بقلم: كريم عبد الله - العراق

.........................

دفءُ 'ديسمبر' يتحدّىٰ الصقيع

وهوَ يقبعُ في زاويةِ الليلِ نصلاً شهرٌ معاقٌ كقصيدةٍ حُبلىٰ تنجلي أبياتُها بولادةٍ قيصريةٍ لمحتُ بصيصاً مثقوباً بدخانٍ ذي جفونٍ كبرقِ شتاءٍ يلظّ تجاعيدهُ مثل كَيِّ المياسمِ يمتصُّ منِّي بقايا ارتشاف رضيتُ أنْ أجترَّ أخيلتي لتبعثَ في صهيلها رسائلَ الرياحِ ثَمّةَ غبارٌ يحيطُ بي وقلقٌ يسيّرني حتّىٰ غدوتُ هباءً عذباً يشتهي حججاً مائيةً وبراهينَ بلا زعانف بعيداً عن كلِّ الفضاءاتِ الجريحةِ كي لا أصاب بامتعاضٍ طريٍّ أو قلقٍ أعمى فعندي ما يكفي لاستقطابِ ألوانٍ أخرىٰ كي أشاغلها يموتُ النعاسُ من الاصفرار ويتبرعمُ الاخضرارُ علىٰ شفتيهِ بهواءٍ عَلَنيٍّ ورئاتٍ تتوجسُ يطيرُ بلا أجنحةٍ قبلَ أنْ تصفعني عيناه فأنام يهدهدني مطرٌ أعزل وتوقظني شمسٌ بلا أصابعَ ما كنتُ إذ انفلتَ الحبلُ بقعرِ الانطواءِ منطوياً لكنَّهُ صاغَ ليَ من قلبهِ لجاماً حذّرني من الجموحِ بيدَ أنِّي وجدتهُ منتفخاً كاليابسةِ متضخِّماً كزهورٍ لا تبيض يتحدّىٰ بدفئهِ الواهمِ طغيانَ الصقيعِ ينتظرُ شمساً شاسعةً وجارحةً ولكن مَنْ يفتح أبوابَهُ الموصدّة!؟ مَنْ يُجمّر صقيعه!؟ ليلُهُ دامسٌ ونهارُهُ منزَوٍ في مخابئِ القتامةِ يدورُ في أفلاكٍ قديمةٍ لا عزاءَ لكَ فاذهب إلى موتِكَ الذي يتكرّر مصحوباً بالعافية.

***

كَامِل عبد الحُسين الكَعْبِي -العِراقُ _ بَغْدادُ

 

الرثائية الخاصّة برحيل د. ريكان ابراهيم

أرى ان قصيدة الشاعر المُتفرّد " د. مصطفى علي " والتي حملتْ عنوان " الأولُ الموهوبُ في القرية " والمُهداة الى الشاعر والباحث النفسي

الراحل " د. ريكان ابراهيم، والتي جرى نشرها في " صحيفة

-2025-2-2المثقف " في يوم الاحد الموافق شباط

نعم، قلتُ انني أٍرى أن هذه القصيدة واحدة من القصائد والمراثي المهمة والصادقة والموجعة في الشعرين العراقي والعربي كذلك.

وبكل صراحة ووضوح وصدق، فان قصيدة الدكتور " مصطفى علي " الرثائية هذه قد ذكّرتني بعيون قصائد الرثاء في شعرنا العربي الخالد، ولا يُخفى علينا نحن الشعراء والأدباء والكتّاب فقد اصبح شعرنا مكتنزاً وحافلاً بقصائد ودواوين شعرية في غاية الاهمية والابداع والجمال، وكذلكَ شهدنا تجارب جديدة وتحديثات واضافات جوهرية تماماً. وأعتقد ان قصيدة الشاعر " مصطفى علي " هذه، تستحق الفحص والقراءات النقدية والذوقية والانطباعية أَيضاً.

إذاً: اقرأوا معي هذه الابيات الشعرية الطاعنة في الحزن والوجع والخسارات والفقدان المُر والغياب الفاجع، وسلطة وفلسفة ووحشية الموت الغامض والقاسي والذي " مهما تعددتْ اسبابه فهو واحد "،

حيثُ يجيئنا ويداهمنا ويختطف أرواحنا بلا أيَّة مقدّمات ولا شفرات ولا اشارات ربّانية وروحية ونورانية.

يقول الدكتور مصطفى علي في ابياته الفاجعة الآتية:

" وأتى أخي

لِيُعيدَ مَزْهوّاً على آذانِنا

ذاتَ الحِكايةِ عن فتىً

شَهِدَتْ مواهبَهُ الدفاترُ والصُفوفْ

*

حتى إذا غرستْ أناملُهُ زهورَ الياسمينْ

رَفَلت شذىً بِأريجِها كلِّ الرُفوفْ

*

كَشُجيْرَةِ البستانِ وارفةٍ ودانيةِ القُطوفْ

*

وَعُذوقُها حُبلى بِناضِجةِ الثِمارِ فَواكِهَ

الألبابِ من شتى الصُنوفْ

*

كَشَفتْ أساريرَ النُفوسِ فأشْرَقتْ

شمسٌ بها بعدَ الكُسوفْ

*

فَتَرَمّمتْ فيها الرضوضُ نقاهةً

وَتَحصّنتْ بالروحِ من شَبَحِ الوساوسِ والحُتوفْ

*

واليومَ قد بلغَ النهايةَ بعدما

شرِبَ المرارةَ كلّها من شَرِّ داءْ

*

وَرَمٍ تَشعّبَ في الخَلايا هازِئاً

بِمَشارِطِ الجَرّاحِ كيداً والدَواءْ

*

في البَدْءِ قاوَمَ جاهداً سَرَطانَهُ

بِرؤى القوافي والقصائدِ إنّما

لَمْ تمنحِ المعلولَ آلاءَ الشفاءْ

*

في آخِرِ المشوارِ سلّمَ راضياً

بالموتِ حقّاً حيثُ خاتمةِ التوجّعِ

والتميّزِ والمَطافْ "

وكذلك فقد لفتت انتباهي واهتمامي مجموعة من ابيات هذه القصيدة، وذلك لاكتنازها بلغة شعرية عربية وعميقة وأَصيلة ومتمكّنة في صوغ وابتكار واقتناص الصور الشعرية واللحظات الخفية والسيروية من خلال سيرة أخينا وصديقنا الانسان و الحكيم في  علم النفس البشرية المُعقدّة والغرائبية، وكذلك فأن صديقنا الباحث والشاعر المُعتّق، قد كان شاعراً كبيراً وأَديباً أريحياً وكريماً ونبيلاً بما تعجز الكلمات عن توصيف علمه وبحوثه وقصائده المُبهرة والجريئة والثورية والساخرة حدَّ المرارة والنقد اللاذع. ولذا فهي تستحق الجمع والتقديم والقراءات والبحوث والرسائل والاطاريح الاكاديمية في معظم الجامعات والكليات العراقية والعربية.

والآن يمكننا النظر وفحص هذه الابيات السيروية المهمة، والتي تنمُّ عن صداقة وأخوّة ورفقة وعراقية حقيقية بين الشاعرين الدكتورين ريكان ومصطفى.  وهي ليست قائمة على الادعاءات و العنتريات والتنمّر الفض والتبجح الفج والبعيد كل البُعد عن الرؤى والخطابات الشعرية واخلاقيات الكتابة، وجماليات الشعر ورفعته وسموّه. وكذلك لطف ونبل وأحلام وابعاد وعوالم الشعراء والمبدعين الحقيقيين:

"هُوَ أوّلُ الأشبالِ تلميذاً بِقريتنا

يُكرّمُهُ الزعيمْ

*

أهداهُ مكتبةً بِها ألْفا كِتابْ

كَرَماً وَجوداً من لَدُنْ عبدِ الكريمْ

*

لِفَتىً لَبيبٍ بعدَ أنْ طرقَ النبوغَ مُبكّراً

ومضى يلحّنُ نفْسَهُ وَنفوسَ مرضاهُ

التي قد هَمّها ضَرَرٌ أليمْ "

لأخينا وصديقنا الراحل الكبير الدكتور "ريكان ابراهيم" الرحمةُ والطمأنينة والفردوس الاعلى، وعلى روحه السلام.

دمتَ بخير وعافية وشاعرية أخي ابا الجيداء الشاعر القدير والوفي والنبيل أَبداً.

***

سعد جاسم

 

اهتم الأدباء العرب بالأدب الروسي وتأثروا به منذ نهاية القرن التاسع عشر، واطلعوا عليه في الغالب من ترجماته الى اللغات الأوروبية. وانعكست أصداء القضايا الاجتماعية والعلاقات بين البشر، والتناقضات بين التراث والحديث والصراع بين الآباء والبنين، والأسئلة المتعلقة بمعنى الحياة وتنظيم العالم، والقضايا الميتافزيقية، على إبداع الأديب العربي وفكره. وما عدا الروائي السوداني الراحل الطيب صالح لم أقرأ لأحد من الأدباء العرب، من صرح بأن الأدب الروسي لا يعجبه. ودون شك فإن الأدب الروسي ترك ظلاله على أعمال رواد القصة العربية بما في ذلك محمود تيمور في مصر والريحاني وميخائيل نعيمة في لبنان وحنا مينا في سوريا والطاهر وطار في الجزائر ومحمود السيد في العراق وعلى ممثلي الأجيال التالية الذين أبدوا دائما إعجابهم به وبأفكاره وموضوعاته.

وفي هذا السياق استمدت القصة العراقية منذ نشوئها من الرواية الروسية التزامها بالهمّ الاجتماعي وطابعها الأيديولوجي المحض، وفي أحيان كثيرة على حساب المستوى الفني. ونجد بصمات الأدب الروسي واضحة أكثر في الأدب القصصي في خمسينات القرن الماضي في العراق، وحتى على روائيين من الرواد متميزين في الأدب العراقي، لا سيما عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان. وعموما فإن عبد الملك نوري والتكرلي ظاهرة متفردة في تاريخ القصة العراقية، بل والعربية، ولم ينخرط القصاصان في التيار الأدبي العام الجارف الذي ساد في الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات، والذي بالغ بإضفاء الطابع الأيديولوجي على الأدب، وسعى الأديبان التكرلي ونوري للبحث عن أدوات ومضامين جديدة للعمل الأدبي القصصي، فاهتم عبد الملك بالجوانب النفسية، فيما ركز التكرلي على المشاغل الوجودية للإنسان.

إن فؤاد التكرلي منح الحدث الاجتماعي في قصصه أبعادا أرحب، وتفادى حصرها بأطر موضوعة من خارج العمل الأدبي. وأدرك بصورة مبكرة إن تلك الأطر تظل حاجزا أمام انطلاقة العملية الإبداعية الفنية لجيل الخمسينيات ومنتصف الستينيات وحالت دون البحث عن آفاق جديدة. فتلك الأطر غدت بفعل عوامل خارج الأبداع تيارا لا فكاك منه، على الأقل بالنسبة لجيله. وعلى الرغم من إن الشكل الاجتماعي والأجواء البغدادية شكلت خلفية لأجواء قصص التكرلي، فإن مضامين أعماله والأسئلة التي طرحتها أحداث وشخوص قصصه، كانت ذات أبعاد فلسفية وأخلاقية، عن جوهر الوجود الإنساني، وكوامن النفس الإنسانية وضالتها، واستجابتها للظرف الإنساني الذي عايشته، وأصداء أخلاقية لمحيطها. ويلوح البعد الاجتماعي في أعمال التكرلي في غالب الأحيان، شكلا للعمل القصصي الروائي، لا غير. ويمكن للتحقق من ذلك أكثر بمقارنة الأعمال الروائية للتكرلي بأعمال واحد من أبناء جيله، الراحل غائب طعمة فرمان 1927- 1990)، الذي كان يؤكد دوماً اعتزازه وإعجابه بأدب التكرلي، وحرصه خلال وجوده في موسكو على إيصال أعماله الجديدة للتكرلي ليتعرف على رأيه فيها، وذلك يعود أيضا الى أن الرجلين كانا صديقي طفولة.

لقد ظلت الهموم الاجتماعية بحد ذاتها تمثل محورا لروايات غائب طعمة فرمان، الذي كان يبحث دائما عن مكوّنات الشخصية العراقية، ويسعى لاستعادة نكهة الأجواء البغدادية التي عفا عليها الزمن، ليس لغاية وإنما لحد ذاتها كأجواء، لذلك فإن غائبا كان مولعا بأسماء شوارع بغداد وأزقتها والأسواق والجسور القديمة وأرقام باصات مصلحة نقل الركاب (الاتوبيس)، وحرص حتى في روايته وقصصه القصيرة حتى التي جرت أحداثها خارج البلد على بعث المناخ لعراقي وشخوصه، دون التطرق بوضوح الى الهم الوجودي الشامل.

 ويظهر المنحى الفلسفي والأخلاقي بشكل جلي في واحدة من روايات التكرلي  التي كانت من بين آخر رواياته "المسرات والأوجاع". ويتناول التكرلي في روايته فترة تاريخية طويلة من حياة العراق، تمتد قرابة مئة عام، ويرسم طيفا واسعا من الشخوص المختلفة في مكوناتها النفسية وانتماءاتها، ولكن هناك شخصية" توفيق" التي تربط هذا الكم من الشخوص والأحداث. بيد أن السارد يتجاهل انعطافات التاريخ الكبيرة والكثير من تفاصيله التي تبدو مهمة، رغم إن تحولاته تكون أحيانا طاحونة قاتلة لسحق الأنسان وهو يمارس حياته اليومية، على خلفية الأحداث التي تموج بها البلد. أن " توفيق" (الشخصية الرئيسية في الرواية) يظل مراقبا للأحداث الكبيرة، التي تعاقبت على العراق دون أي تفاعل أو مشاركة فيها، روحيا أو عمليا، وليس لديه التزام عقائدي محدد، الأحداث بالنسبة له لا تعدو غير أنباء وسائل أعلام، ويلوح إن المتعة بالجنس والأكل واللهو بلعبة القمار، أو في سهرة مع صديق، أو مغامرة مع زوجة صديق أو قريب أو امرأة عابرة، بالنسبة له جوهر الحياة، وما يُغني معناها.

ومن الصعوبة العثور على جواب بسيط، عن ماذا أراد إن يقول الروائي في عمله الكبير والمهم "المسرات والأوجاع"، ولذا فعلينا إن نجد مفاتيح في داخل العمل الروائي نفسه، للكشف عن أسراره. ويبدو أن المتلقي يستطيع الإمساك بأحد المفاتيح التي تساعده على فهم جوانب كثيرة من رواية "المسرات والأوجاع" وشخصيتها الرئيسية بالتعرف على رواية "سانين" التي تأتي الشخصية الرئيسية في الرواية "توفيق" على ذكرها مرات عديدة، مع انه يتحدث عن روايات أخرى، ويقول توفيق ان "سانين" تركت أثرا عميقا في روحه، ويقرأها أول مرة وهو في آخر صف للمرحلة الثانوية، أي مرحلة تكوينه الفكري: ويروي السارد "في شهر حزيران، حين كانت تتجمع هموم الامتحان المقبل وبدايات الحر، قرأ، بالصدفة، رواية ضخمة مترجمة عن الأدب الروسي، وجد عنوانها مكتوبا بقلم الرصاص على صفحة البداية (سانيين أو ابن الطبيعة) ولم يعرف اسم مؤلفها أو مَن ترجمها بسبب تمزق غلافيها الخارجي والداخلي. استحوذت عليه النهار كله. أنهاها والليل في آواخره وأهله نيام والدار ساكنة. شعر، جالسا بذهول في فراشه، بأن أمرا ما عظيما ومرعبا، تَكَشَف له عبر هذه الصفحات التي تبعث على الجنون والهياج والتمرد والرغبة الصادقة بضرب الرأس بالحائط. كأن نارا مقدسة تناوشت روحه فألهبتها وأهاجت فيه العواطف، لم يعد يحتمل جدران غرفته..."(المسرات والأوجاع ص 28، دار المدى، الطبعة الأولى. 1998). ويعود توفيق الى رواية "سانين" في مرحلة نضوجه حيث يكتب في مذكراته عام 1975 حين يذكر انه قرأ "الغريب" لألبير كامو، التي لم تعجبه، ولكنه يقول إن هناك عنصرا يجمع بين "سانين" " الساكن في روحي"  وبين ميرسو (بطل الغريب). ويضيف "غير ان الاول (سانين) أكثر حيوية وإنسانية وأقدر على الأقناع من الثاني" (ص120). ويعود "توفيق" لقراءة الرواية مرة جديدة عام 1977 ويكتب في دفتر مذكراته: "قرأت سانين مرة ثالثة بعد أن أخبرني عبد القادر (صديقه) انه جلّدها للمحافظة عليها فطلبتها منه فجلبها لي. حسدتُ سانين، كما هي عادتي كل مرة، حسدته لإدراكه ويقينه وسيطرته على ذاته وجرأته وصفاته الأخرى التي جعلت منه أنسانا عاديا وأسطوريا في نفس الوقت، ولكم تحسرت أن تنتهي الصفحة الأخيرة وان اضطر الى مفارقة هذا المخلوق وهو يقفز من القطار، تاركا هذا يمضي بدونه الى أفق مجهول"(173).

وتتحول سانين بذلك الى خلفية عريضة لرواية المسرات والأوجاع. إن تأكيد توفيق رواية سانين وعدم ذكر التكرلي اسم كاتب الرواية الروسي، ميخائيل ارتسيباشيف، ولا مترجمتها الأديب المصري المعروف إبراهيم المازني، ومروره بشكل عابر بحدثها الأخير فقط، ينطوي على أهمية بالنسبة للكشف عن أبعاد العمل الروائي لا سيما لأديب مجرب مثل فؤاد التكرلي، ولست اعرف هل إن أغفال تلك المعلومات يتعلق بلعبة روائية أيهاميه، للفصل بين سانين وتوفيق؟ فتوفيق يلوح كأنه " سانين"  بمواصفات عراقية، أو انه وجه من وجوهه الشرقية، أو امتداد من امتداداته.

ورواية سانين من أعمال الأديب الروسي ميخائيل ارتسيباشيف (1878- 1927) ورأت النور لأول مرة عام 1907 وجذبت الأنظار لها، وبعثت الآمال به كروائي واعد، بعد ظهور قصته "موت لاندا"  التي تناول بها شخصية كرست حياتها للبحث عن فكرة وانتهت بموت عبثي. وكتب في العامين 1905 و1906 قصصاً قصيرة عن الثورة الروسية الأولى (1905) التي خلقت هزيمتها مشاعر الإحباط لدى المثقفين (الانتلجينتسيا). وأصبح من تداعيات الهزيمة، الركض وراء المتع الجنسية التي تهاوت الى الانحطاط الأخلاقي، وانتشرت كالوباء ظواهر الانحلال والانحراف الجنسي. وعلى خلفية تلك الموجة ظهرت الرواية     وعكست من جهة انتشار ذلك الوباء، ومن ناحية أخرى ساعدت على اتساعه. وحظيت الرواية بسرعة بنجاح لا حدود له، وتصدرت قوائم المبيعات وتألق نجم مؤلفها. وشتمها النقاد المحافظون بما ذلك ليف تولستوي، لكونها رواية لاأخلاقية وصبوا جام سخطهم عليها. واستقبلها المجددون بتحفظ. ولكن الرواية كانت حدثا مثيرا، وفرضت نفسها على الجميع، وكان لا بد من قراءتها. وبقيت " سانين"  على مدى عدة سنوات، أنجيلا لكل تلميذ وتلميذة في روسيا. ومثلت الرواية بتناولها العلاقات الجنسية بشكل مفضوح بالنسبة لذلك الزمن، خروجا على تقاليد الأدب الروسي الذي ظل محتشما في تناوله الموضوع الجنسي. والرواية بأحداثها وشخوصها دعوة ليكون الأنسان معتدا بنفسه، وأن يهتدي بميوله ونزعاته. ويحصر ارتسيباشيف تلك الميول والنزعات بالغريزة الجنسية. وليس ثمة مكان للحب في فلسفته، فالحب برأيه، من اختلاق الفن والثقافة، فالرغبة، كما تؤكد أحداث الرواية، هي الدافع الحقيقي الوحيد في حياة الأنسان. وقامت الفلسفة الحياتية لبطل ارتسيباشيف (سانين) على الإيمان بالفردية الخالصة، وتأكيد "الحرية الذاتية"، والحياة الفردية الحرة، التي لا تحددها أية التزامات اجتماعية أو أخلاقية. وانحصر معنى الحياة بالنسبة له" بالشعور بالمسرات والأوجاع". وليس في وعي "سانين" افكار ذات بعد اجتماعي. وتلتف كلها على "محور" الوجود الفردي وحريته.

ويدرج عدد من مؤرخي الأدب الروسي ميخائيل ارتسيباشيف، الذي هاجر من روسيا بعد اندلاع الثورة البلشفية عام 1917، وأصبح واحداً من ألد أعدائها، في المدرسة "الطبيعية الجديدة"، التي تشكلت لمعارضة الأدب ذي المنحى الاجتماعي الذي مثله بسطوع حينذاك مكسيم غوركي والجماعة التي التفت حوله. إن أصداء "سانين" في رواية القاص العراقي الكبير فؤاد التكرلي، لا يمكن في أي حال من الأحوال أن تنقص من أهميتها ومكانتها في الأدب العراقي، والعربي عموما. وتظل المسرات والأوجاع عملا أدبيا أصيلا قائما بذاته. وكأي عمل أدبي أصيل، ستتعدد قراءاته والاجتهادات بتفسيره، والبحث عن مفاتيح لكنه  اسراره.

***

د. فالح الحمـراني

"حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملمومة كقطرة ماء" (2)

كنت قد كتبت في المدخل الى هذه القصيدة المثيرة وفي الفقرة الأخيرة.. باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته".. بالتفصيل.."

واليوم نستكمل قراءتنا بالمقاطع الخمس الاخرى.. 

القسم الثاني: قناديل برائحة الندى..

الحيرة والبحث عن الهوية

(6)

"قافانِ

في (قَلَقِ) الوجودْ

والّلامُ بينهما أسيرةْ

اللّامُ أنتَ فيا تُرى

ما أنتَ بالقافَيْنِ فاعِلْ؟

....................

حَسَناً أُشَيِّدُ بُرْجَ بابِلْ"

يستند هذا المقطع إلى رؤية فلسفية عميقة تستدعي أبعادًا لغوية ورمزية ودينية، حيث تتجسد الكلمات ككيانات حية تنبض بالقلق الوجودي، وتصبح الحروف أداةً لاستكشاف المعاني الكبرى للوجود والصراع بين الثبات والتحول.

"قافانِ / في (قَلَقِ) الوجودْ / والّلامُ بينهما أسيرةْ"

يبدأ الشاعر بلعبة لغوية ذكية، حيث يربط بين حرفي "القاف" وحالة "القلق"، وكأن الوجود نفسه قائم على ثنائية الحرفين، في تلميح إلى تكرار الدوائر الوجودية وحتمية الدوران بين حالتين متناقضتين أو متكاملتين. أما "اللام"، فتصبح أسيرة بين هاتين القافين، وكأنها تمثل عنصرًا وسطًا أو ضائعًا بين قوتين متصارعتين. هذه الصورة الرمزية قد تُحيل إلى الإنسان نفسه، العالق بين تناقضات الحياة، بين القدر والحرية، بين الحتمية والاختيار.

"اللّامُ أنتَ فيا تُرى / ما أنتَ بالقافَيْنِ فاعِلْ؟"

يستدعي هذا التساؤل بعدًا وجوديًا حادًا، حيث يتحول المخاطَب إلى "اللام"، أي إلى الكائن الذي يقف بين الثنائيات، عاجزًا عن تحديد موقعه أو قدره. إنه استفهام ميتافيزيقي يفتح أفق التأويل: هل الإنسان مجرد حرف في منظومة كبرى لا يتحكم فيها، أم هو فاعل قادر على إعادة تشكيل المعنى؟

"حَسَناً أُشَيِّدُ بُرْجَ بابِلْ"

يصل النص إلى ذروته الرمزية باستدعاء "برج بابل"، الأيقونة التاريخية التي ارتبطت بالتمرد الإنساني ومحاولة بلوغ المطلق، لكنها أيضًا كانت سبب التشتت والضياع اللغوي. هنا قد يكون "بابل" رمزًا للمحاولة المستمرة لإعادة بناء المعنى وسط الفوضى، لكنه قد يكون أيضًا إشارة إلى عبثية المسعى البشري أمام القدر المحتوم.

هذا المقطع القصير يفيض بالدلالات، حيث تمتزج الفلسفة بالرمزية، ويصبح الحرف لبنةً في صرح المعنى، فيما يتحول القلق الوجودي إلى مادة للبناء والهدم في آنٍ واحد. إنها رؤية تطرح التساؤل دون أن تمنح إجابة، لكنها تمنح القارئ تجربة تأملية عميقة حول اللغة والوجود والمصير.

قدسية الرموز وجلال حضورها

(7)

"إنَّ المداخِلَ سَبْعةٌ

زوجٌ مِن الثيرانِ كانَ مُجَنَّحاً

في كُلِّ مَدْخَلْ

لو جاءَ

تَعلو كالمصاعِدِ بالمُبَجَّلْ"

يتجلى في هذا المقطع بعدٌ رمزي عميق يمتزج فيه الأسطوري بالديني، والمادي بالميتافيزيقي، ليشكّل رؤية فلسفية حول العبور، والترقي، والمهابة المرتبطة بالمكان والرمز. فالنص يقتبس عناصر من التاريخ والأسطورة، ليعيد تشكيلها في بناء لغوي محكم ذي دلالات مفتوحة.

"إنَّ المداخِلَ سَبْعةٌ"

يبدأ النص بتحديد العدد "سبعة"، وهو رقم ذو دلالات رمزية عميقة في الأديان والأساطير، فهو عدد السماوات السبع، وعدد أبواب الجحيم في بعض المعتقدات، كما أنه يحيل إلى مفهوم الكمال والدورة الكونية المغلقة. اختيار العدد هنا ليس عبثيًا، بل يُلمّح إلى مكان مهيب، ربما معبد أو قصر أو فضاء يتجاوز المادي إلى الغيبي.

"زوجٌ مِن الثيرانِ كانَ مُجَنَّحاً / في كُلِّ مَدْخَلْ"

هنا نلحظ استدعاءً واضحًا للثيران المجنحة (اللاماسو) التي زينت مداخل المعابد والقصور الآشورية والبابلية، والتي كانت تمثل الحماية والقوة الإلهية. وجودها في كل مدخل يعزز فكرة المهابة والقدسية، وكأنّ الداخل إلى هذا المكان يخضع لطقس عبور تحت أنظار هذه الكائنات الحارسة، التي تمثل مزيجًا بين القوة الأرضية (الثور) والسمو الروحي (الأجنحة).

"لو جاءَ / تَعلو كالمصاعِدِ بالمُبَجَّلْ"

هنا يتحول المكان إلى كيان حيّ يستجيب لقدوم "المبجّل"، في إشارة إلى شخصية مقدسة أو استثنائية. صعوده لا يكون سيرًا طبيعيًا، بل أشبه بالارتقاء الآلي، وكأنّه يحظى بقوة غير مرئية ترفعه نحو العظمة. هذه الصورة تعزز البعد الميتافيزيقي للنص، حيث يصبح العبور إلى المكان ارتقاءً روحانيًا، لا مجرد حركة جسدية.

البنية الإبداعية والرمزية

يعتمد الشاعر على لغة مكثفة، تتكئ على الرمز والاستدعاء التاريخي، مما يمنح النص عمقًا فلسفيًا ودينيًا. فالمداخل ليست مجرد أبواب، بل بوابات إلى مستوى آخر من الوجود، والثيران المجنحة ليست مجرد منحوتات، بل كائنات حارسة تمثل سلطة عليا، والمبجّل ليس فردًا عاديًا، بل كيان يمتلك امتياز العبور والارتقاء.

هذا المقطع يفتح أبواب التأويل على مصراعيها، فهو قد يكون استعارة عن السلطة الإلهية، أو عن الطقوس الدينية، أو حتى عن فكرة التفاضل البشري، حيث لا يحظى الجميع بالصعود، بل أولئك الذين يستحقون "التبجيل".

التكرار بين البداية والنهاية

(8)

"إنَّ المَخارِجَ سبعةٌ أيضاً

ولكِنْ لا امتِيازْ

فيها سوى أنَّ الحقيقةَ كالمَجازْ

ويُقالُ:

عندَ الفجْر تَكْتظُّ المَخارِجُ بالسُكارىَ

خَرجوا كما دخَلوا حَيارى"

يواصل هذا المقطع استناده إلى البناء العددي الرمزي، إذ يقابل بين "المداخل السبعة" التي وردت في المقطع السابق و"المخارج السبعة" هنا، ليؤكد فكرة الدورات الوجودية المتكررة، حيث الدخول والخروج ليسا سوى صورتين لحركة الإنسان في العالم، وكأنّ الحياة ليست إلا دائرة مغلقة، يتوهم فيها الإنسان الفارق بين البداية والنهاية.

"إنَّ المَخارِجَ سبعةٌ أيضاً / ولكِنْ لا امتِيازْ"

يكشف الشاعر منذ البداية عن مفارقة عميقة؛ فبينما كانت المداخل موضع تميّز وسمو، تبدو المخارج بلا امتياز، وكأن العظمة تكمن فقط في لحظة العبور الأولى، فيما يصبح الخروج مجرد تكرار بلا معنى. هذا يلمح إلى جدلية الأمل والخيبة، حيث يظن الإنسان أنّ دخوله إلى تجربة ما سيمنحه التميز، لكنه حين يغادرها يكتشف أن لا فرق بينه وبين غيره، وكأن النهاية تُسقط كل أوهام التفاضل.

"فيها سوى أنَّ الحقيقةَ كالمَجازْ"

هنا يصل النص إلى تأمل فلسفي عميق، إذ يذوّب الحدود بين الحقيقة والمجاز، وكأنّ الحياة نفسها ليست سوى استعارة، أو أن المجاز يمتلك من الحقيقة أكثر مما نظن. هذا التشكيك في الفواصل بين الواقع والخيال يفتح أفقًا تأويليًا واسعًا، حيث لا شيء يقيني، وكل إدراك هو مجرد تفسير مؤقت لعالم متحول.

"ويُقالُ: / عندَ الفجْر تَكْتظُّ المَخارِجُ بالسُكارىَ / خَرجوا كما دخَلوا حَيارى"

يأتي هذا المشهد ليؤكد عبثية الرحلة الإنسانية، إذ يرمز "السُكارى" هنا إلى أولئك الذين ظنّوا أنّهم وجدوا في الداخل ما يروي عطشهم الروحي، لكنهم عند الخروج لم يزدادوا إلا حيرة. الفجر هنا قد يكون رمزًا لانكشاف الحقيقة، لكن المفارقة تكمن في أنّ الخروج لا يمنح اليقين، بل يعيد الإنسان إلى حيرته الأولى، ليصبح الخروج مجرد تكرار للدخول، لا تحوّلًا جوهريًا.

البعد الفلسفي والرمزي

يُعيد النص طرح الأسئلة الكبرى حول جدوى التجربة الإنسانية، وحول وهم التميّز، وحول العلاقة بين الحقيقة والوهم. فالحركة الدائرية (سبعة مداخل وسبعة مخارج) تلمّح إلى قدر الإنسان في إعادة الأخطاء نفسها، بينما الإشارة إلى "السُكارى" تمنح النص بعدًا دنيويًا، حيث يكون السكر هنا رمزًا للبحث عن معنى، لكنّ النهاية تبقى دائمًا ضائعة.

هذا المقطع يفيض بالحكمة والعمق، ويؤسس لحالة تأملية تتجاوز الشعر إلى الفلسفة، حيث تتلاشى الحدود بين البداية والنهاية، وبين اليقين والشك، في لغة مكثفة تحمل أبعادًا صوفية وإنسانية عميقة.

التاريخ والتراتب الطبقي

(9)

"إنْ كانَ سينُ هوَ الإلهْ

أو كان مَرْدوخُ الإلهْ

أو كانَ جَدُّهُما

النتيجةُ واحِدةْ:

نحْنُ العبيدُ، نَظلُّ في الوادي

وهُمْ أعلى الجَبَلْ

.....................

البرجُ حَلْ"

يتكئ هذا المقطع على بعد فلسفي ورمزي عميق، مستحضرًا الأسطورة والتاريخ والدين ليعيد تشكيل رؤيته للسلطة والوجود الإنساني. إنه نص يفيض بالتأملات حول علاقة الإنسان بالقداسة، سواء أكانت دينية أم دنيوية، في محاولة لكشف طبيعة الفارق بين القابعين في "الوادي" والساكنين "أعلى الجبل".

البنية الفكرية والفلسفية

"إنْ كانَ سينُ هوَ الإلهْ / أو كان مَرْدوخُ الإلهْ / أو كانَ جَدُّهُما / النتيجةُ واحِدةْ"

يفتح الشاعر النص بتعداد أسماء آلهة قديمة؛ "سين" إله القمر عند السومريين، و "مردوخ" الإله البابلي الذي تبوأ الصدارة بعد صراعات طويلة، و "جدّهما" الذي قد يكون إشارة إلى إله أسبق، ربما "إنليل" أو "أنو". هذا الاستدعاء التاريخي لا يأتي عبثًا، بل ليؤكد فكرة الحتمية: مهما تغيّرت الأسماء، فإن النتيجة تظل واحدة، وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولا فرق بين أشكال السلطة المختلفة.

الجدلية الاجتماعية والسياسية

"نحْنُ العبيدُ، نَظلُّ في الوادي / وهُمْ أعلى الجَبَلْ"

هنا تكثيف واضح للعلاقة الجدلية بين الحاكم والمحكوم، بين المقدس والدنيوي، بين من يقطن المرتفعات ومن يظل في المنخفضات. فالجبل رمز للقوة والهيمنة، والوادي رمز للخضوع والمحدودية. هذا التوصيف يحمل دلالة طبقية واجتماعية عميقة، حيث السلطة تحتكر العلو، بينما يبقى الإنسان العادي أسير القاع. إنها إشارة إلى ثبات البنى الاجتماعية، حيث يظل "العبيد" في موضعهم، بينما يسكن "الآلهة" قمة الهرم، وكأن الارتقاء أمر محظور على العامة.

البعد الرمزي والديني

"البرجُ حَلْ"

تأتي هذه الجملة كنهاية مكثفة وعميقة للمقطع، حيث يتم تقديم "البرج" كحلّ. لكنه حل يحمل معاني مزدوجة؛ فإما أنه يمثل وسيلة للعبور من الوادي إلى الجبل، أي محاولة الإنسان لاختراق السلطة والقداسة، أو أنه يمثل الفخ ذاته، حيث كان برج بابل، على سبيل المثال، رمزًا للتحدي الذي انتهى إلى التشتت والانقسام.

اللغة والإبداع الفني

جمالية النص تكمن في تكثيفه للمعاني ضمن تراكيب موجزة لكنها مفتوحة التأويل. فالتكرار في الأسماء يمنح الإحساس بالدائرة المغلقة، بينما التناقض بين "الوادي" و"الجبل" يخلق توترًا دراميًا يعكس طبيعة الصراع الإنساني المستمر. أما الخاتمة "البرجُ حَلْ"، فهي ذروة النص، حيث تفتح باب التساؤلات أكثر مما تمنح إجابات، لتترك القارئ في تأمل طويل حول ماهية الحل الحقيقي.

الخاتمة

هذا المقطع الشعري ينجح في تقديم رؤية فلسفية واجتماعية عميقة حول العلاقة بين الإنسان والسلطة، مستخدمًا رموزًا تاريخية وأسطورية لتجسيد ثنائية القهر والتطلع، والاستكانة والتمرد. إنه نص يطرح الأسئلة الكبرى حول المصير الإنساني، ويُجبر القارئ على التأمل في موقعه بين "الوادي" و"الجبل"، وبين القداسة والاستعباد، وبين السكون والرغبة في الصعود.

المعرفة وسموها لحماية الحقيقة

(10)

"ها أنتَ تَصعدُ،

ها هِيَ الثيرانُ

جَنّحَها على الجُدْرانِ ناحِتُها

لِتَنْفَتِحَ السقوفُ

..............

البرجُ مكتبةٌ طوابِقُهُ رفوفُ"

يأخذنا هذا المقطع في رحلة تأملية تمزج بين الحسية والرمزية، حيث يعبر الشاعر عن فكرة الصعود والتسامي عبر صور ديناميكية ترتبط بالمكان والفكر. يبدأ النص بصوت مباشر مخاطبًا المتلقي: "ها أنتَ تَصعدُ"، وهي دعوة للارتقاء سواء على المستوى الذهني أو الروحي.

"ها هِيَ الثيرانُ / جَنّحَها على الجُدْرانِ ناحِتُها"

تستحضر الصورة هنا الثيران المجنحة، التي ليست مجرد كائنات مادية، بل تمثل قوة متصاعدة، قادرة على تخطي حدود المكان (الجُدْران) وفتح أفق جديد من الاحتمالات. هذه الثيران المجنحة هي رمز للطموح والإبداع، ولها دلالة أسطورية تتمثل في كونها حارسًا يحمي الحقيقة والمعرفة.

"لِتَنْفَتِحَ السقوفُ"

في هذه الجملة، يصبح الصعود عملية تحرر من القيود، حيث تتسع الأفق ويتساقط الحواجز المادية، ليغدو الفضاء رحبًا ومتسعًا للمعرفة والتفكير. السقوف هنا قد تشير إلى القيود التي تمنع الفكر من الانطلاق، وحين تفتح، يصبح العقل قادرًا على التوسع والانتقال إلى آفاق جديدة.

"البرجُ مكتبةٌ طوابِقُهُ رفوفُ"

البرج، الذي كان رمزًا للهيمنة والسلطة في العديد من الأساطير، يتحول هنا إلى مكتبة، مما يعكس تحولًا رمزيًا كبيرًا. فالمكتبة، برفوفها المليئة بالكتب والمعرفة، تمثل الارتقاء الروحي والفكري. الطوابق هنا تشير إلى مستويات من المعرفة، وكل رف يمثل فكرة أو نصًا يتراكم فوق الآخر في بناء فكري لا نهائي.

البعد الفلسفي والرمزي

المقطع يعكس علاقة الإنسان بالمكان والفكر، ويستخدم الرمزية لتعكس تطلعاته. الصعود، الثيران المجنحة، السقوف المفتوحة، والمكتبة كلها علامات على البحث المستمر عن الحقيقة والمعرفة، وفتح الأفق نحو آفاق جديدة من الإبداع.

***

طارق الحلفي – شاعر وناقد

.............

* رابط القصيدة

https://www.almothaqaf.com/nesos/971491

* رابط المدخل

https://www.almothaqaf.com/readings-5/979452

* رابط القسم الاول

https://www.almothaqaf.org/readings-5/979564

حيث يسكن الحب

حيث تعزف الأوتار الذهبية ألحانًا شديدة الحلاوة

وتقيم العديد من الألوان الحمراء مكانها

هناك أيضًا يسكن حبي

عندما يلامس لحن العصفور روحي

وتتفاخر علامات الربيع بألوانها

تتفاخر أيضًا ألوان حبي

إذا جاء المطر وظلّت الغيوم فوقي

وإذا سقطت دموعي كقطرات تتساقط على نافذتي

فإنها تنقّي قلبي حتى يسطع الحب مجددًا

وما يأتي في طريقي، سواء كان سعيدًا أو حزينًا

أعرف أن غدًا سيحمل يومًا أكثر إشراقًا

فأنا أنظر إلى السماوات وأعلم أن أعظم حب يسكن هناك

***

بقلم: كريستي راينز  - الولايات المتحدة الامريكية.

...................

القراءة:

قصيدة /حيث يسكن الحب/ للشاعرة كريستي راينز هي رحلة عاطفية تسلط الضوء على جوهر الحب كقوة تُجدد الروح وتمنح الأمل. القصيدة تتخذ من الطبيعة مرجعًا رمزيًا لتحمل معاني أعمق عن الحب، والشجاعة، والتفاؤل. والان , لنلقِ نظرة نقدية تحليلية على أهم جوانب هذه القصيدة.

1. الرمزية الطبيعية:

تبدأ القصيدة باستخدام رمزية الطبيعة لتصوير مشاعر الحب. الأوتار الذهبية التي تعزف ألحانًا حلوة، والألوان الحمراء التي ترمز للحب، كلها عناصر طبيعية تعبّر عن نقاء وجمال الحب. من خلال هذه الصور، تُظهر الشاعرة كيف يندمج الحب مع محيطنا الطبيعي، حيث يشترك في جماله وقوته. يربط الحب في هذه القصيدة ليس فقط بالشعور الداخلي ولكن أيضًا بالعالم الخارجي، مما يعزز فكرة أن الحب لا يتواجد فقط في القلب، بل هو حالة شاملة تؤثر في كل شيء من حولنا.

2. التحول والشفاء:

القصيدة تتناول فكرة التجدد والشفاء من خلال التفاعل مع عناصر الطبيعة. يشير سقوط الدموع إلى الألم، لكن هذه الدموع تصبح وسيلة للتنقية والشفاء، مثلما يمحو المطر الغيوم ويمنح الأرض حياة جديدة. هذه الفكرة تظهر جلية في قولها /فإنها تنقّي قلبي حتى يسطع الحب مجددًا/، حيث تبرز قدرة الحب على الشفاء والتجديد بعد الفترات الصعبة. الشاعرة هنا تستحضر مبدأ التفاؤل بأن الألم يمكن أن يؤدي إلى نقاء أكبر في الروح.

3. الزمن والتفاؤل:

تستمر الشاعرة في التأكيد على أن ما يحدث في الحاضر، سواء كان لحظات من الفرح أو الحزن، ليس إلا مرحلة عابرة. في السطر / وما يأتي في طريقي، سواء كان سعيدًا أو حزينًا / أعرف أن غدًا سيحمل يومًا أكثر إشراقًا/، تنقل لنا الشاعرة رؤية مشرقة نحو المستقبل. هذا التفاؤل هو عنصر أساسي في القصيدة، حيث تتواجد دائمًا في الخلفية فكرة أن الحب لا يتوقف عن العطاء والنمو، حتى في ظل التحديات.

4. الروحانية والاتصال بالسماء:

في نهاية القصيدة، تجد الشاعرة الأمل والمغزى الأكبر في السماء، حيث /أعظم حب يسكن هناك/. هذه الجملة تحمل بعدًا روحانيًا، حيث ينقل الحب إلى مستوى أعلى من الأرض ويجعله شيئًا كونيًا متجاوزًا للحدود البشرية. الربط بين الحب السماوي والحب الأرضي يعكس الرؤية الشاملة التي تجعل من الحب عنصرًا لا محدودًا يمتد إلى ما هو أبعد من الحياة اليومية.

5. الأسلوب الشعري والتأثير العاطفي:

الشاعرة تتسم بالبساطة في أسلوبها، مما يجعل القصيدة قريبة من القلب وسهلة الفهم. كما أن الاستخدام المكثف للصور الشعرية يجعل الكلمات حية ومؤثرة. تخلق هذه الصور عالمًا شعريًا مليئًا بالألوان والأصوات واللحظات العاطفية التي تحفز الخيال، مما يمنح القصيدة طابعًا مرهفًا وعميقًا في آن واحد.

6. الخاتمة:

هذه القصيدة هي تجسيد لرحلة روحية وعاطفية، تبحث عن الحب كقوة تجدد الروح وتحمل الأمل. من خلال الاستخدام الرمزي للطبيعة، تعكس الشاعرة قدرة الحب على الشفاء والتحول، وتؤكد على أن الأمل لا يموت مهما كانت الصعاب. القصيدة تُظهر كيف أن الحب ليس مجرد شعور بل قوة حية تتجدد مع مرور الزمن وتستمد قوتها من الروح والطبيعة والسماء.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

في شعر الدكتور علاوي كيطان العقابي

يقال أنَّ كل محكيٍّ مثالي يستهل بوضعية وكيفية مستقرة إلى أنْ تأتي قوة تشوش عليه وتلك القوة تنتج من مؤثرات سواء أكانت المؤثرات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية وحتى ذوقية، ولربما من حالات وعي فكري تُغير ما استوت عليها الأزمان وسكرت بها العقول، أو طابت لها النفوس وبحركة الزمن تجد أنَّ ما قيل غير ما في الواقع؛ لذا وجدنا منذ أول قراءة لقصيدة في التاريخ العربي التي حبَّذ الشاعر فيها الطلل وبكى عند دوارسه؛ لما في الزمن الماضي من إسقاطات مهما كانت تعسفية إلا أنَّها سرعان ما تُعَدُّ من متخيلات يوتوبية، إذ يستذكر المستذكرون الماضي، فيستشعرونه أجمل من الحاضر، وهذا هو ديدن حياة المجتمعات والأفراد على السواء، نراهم ينسون متاعبهم حين يمر الزمن عليها، فيطلقون الحسرات أسفاً؛ وذلك بفضل معاناتهم من الواقع، وتغيُّر العادات والتقاليد التي عاشت الناس عليها؛ لما للحياة الماضية من بساطة لاتحتاج إلى منافسة وكدّ، أو طغيان الماديات على المعنويات كما نجده في حاضرنا.

ويبدو أنَّ الشاعر الدكتور علاوي كيطان العقابي، هو واحد ممن قارن بين الماضي والحاضر، استدعاه ذلك أنْ ينظم أكثر من نص يعالج فيه الفرق بين الاثنين، إذ يروي ذلك في قصيدته الأولى (تسبيحةُ المطر) التي يقول فيها:

كانوا يقولون لنا:

من نعمةِ اللهِ على الناسِ المطرْ

تعشوشبُ الأرضُ

ويزدانُ الشجرْ

ويستحمُّ السعفُ من غبارِهِ

وترقدُ الشمسُ بحضنِ الليلِ والرذاذْ

ويُشرِقُ القمرْ.

ولما كان الشاعر يعيش تحت ظلال الشجر في بساتين بدرة الشماء وبالقرب من أهاليها الفلاحين الذين ينمازون بالطيبة والفطرة النقية، وهو المتعلم النابه والشاعر الشفاف، يرى أنَّ الناس كانت وما تزال بحاجة إلى المطر؛ رغبة منهم في استسقاء أراضيهم التي هي الأخرى تنتظر ذلك المطر، فكل شيء فرِح به (الأرض، والشجر وسعفه، والشمس، وحتى القمر)، وجميع تلك الأشياء الجامدة تعبر عن فرح الإنسان، فالعلاقة بين الإنسان وبين محيطه علاقة جمال طالما أنَّ وشائج السعادة تمنحه ثمارها "ولعل المحاكاة الوجدانية بين الموجودات هي بذاتها تمثل الشعر الحي والتي منها تعلم الشاعر محاكاة الآخر" (الكون الشعري : 11) فالشعر هو"أعلى أشكال التعبير وهو يعبر عن سر اتصال الإنسان بالوجود، أنَّه طقس عقلي وروحي، وهو إفصاح جمالي متعال" (العقل الشعري:97)، ما يجعل الشاعر يعبر عما يعتريه، لذا يقول شاعرنا العقابي:

مضى بنا العمرُ

وصار الليلُ والنهارُ

والشروقُ والغروبُ

يُنذرُ بالسفرْ

أيقونةُ الليلِ على قيثارةِ النقيقْ

وصحوةُ الشمسِ على مزالقِ الطريقْ

ومشيةٌ على حَذرْ

صارتْ جميعُ تلكمُ الحكايا

تدعو إلى الضجرْ

مطرْ … مطرْ … مطرْ.

ويبدو في منحىَ آخر أنَّ الوجع يتأتي حين تزدحم على الإنسان مسؤوليات تراكمية بفعل التطور الحضاري، فيكون بحاجة إلى تلبية متطلباتها؛ لذا يرافقها تغير النوع النفسي، وهو كالنوع التشريحي مؤلَّف من عدد قليل من الصفات الأساسية الثابتة التي تتجمع حولها صفات ثانوية متغيرة متحولة، فهذه الصفات الثانوية هي التي تمكِّن البيئات والأحوال والتربية وما إليها من مختلف العوامل أنْ تغيرها بسهولة. (ينظر: السنن النفسية لتطور الأمم، جوستاف لوبون: 39-40) ومن ذلك نظرة الشاعر ولا سيما للمطر، فبعد دوره الفاعل في إخصاب الأرض حين كانت النوايا حسنة، والبساطة تنشر ضفائرها على وسائد الأمان والسلام، لكن كل شيء تغير حتى الفكر، ولعلنا نضيف أنَّ العولمة أيضاً ساعدت على تغيير الأفكار والأعراف، فأخرجت الإنسان من دائرة المألوف إلى اللامألوف، فكل شيء اليوم في تباب في رؤيا الشاعر، فالحياة لم تسلك طرق الأمس، بل ركائزها ما عادت تخلص لها النية في ثباتها وتجديد ديمومتها نحو خطى فضلى.

وفي نص آخر بعنوان (على أطلال الدرابين) التي يقول فيها:

الله يا تلك الليالي الماطرةْ …

يا مَوقِدَ التوتِ المُعتّق ..

بالمواويل الحنينة …

ياهزّةَ الرأسِ البريئة ..

حينَ تُطرِبُها ترانيمُ الرُّعاةْ …

وأزاؤها حَلَقٌ تطوفُ الأُمنياتْ…

فهو يتحدث عن بساطة الحياة التي كان يعيشها الناس، مستذكراً عمر الطفولة البكر الذي يمثل الفطرة الصالحة التي لم تدنسها الأدناس مثلما هو الآن في عالم الضجيج والمخاتلة في نيل ما لم يستحقة المرء في زمننا الديستوبي العجيب وسنينه العجاف؛ ما استدعى الشاعر أن يستحضر الماضي الجميل، فلفظة (الله) في السياق تدل على مدح ذلك الماضي بجماله وعذوبته وبراءته بقوله: (الله يا تلك الليالي الماطرةْ)، بينما الدفء على مواقد التوت وماحولها حيث يترنم الرعاة بمواويلهم المستمدة من الأسلاف، أمَّا(هزة الرأس البريئة) إشارة إلى الطرب المغموس بالبراءة والنقاء، وهناك حَلقٌ من الأمنيات كثار ينتظرها أولئك الرعاة الذين يحتفلون كلَّ حين أينما حلَّت عصيُّهم واشتاقت أرواحهم؛ لأن يعبِّروا عن سعادتهم بآمالهم المرجوة.

ثم يقول:

يا عطر حائطِنا المُرصَّعِ …

بالمناجلِ والسنابلْ …

حينَ ترشقُهُ شآبيبُ المطرْ ...

ولعل المطر لدى الزراع هو الأمل الكبير لريِّ سعادتهم بسقي زروعهم؛ ما جعله يومئ إلى ذلك بالمناجل والسنابل.

الله يا تنورنا الطيني …

في غَبَشِ الطّلوعْ ..

ودفيف أُمّي في الرُّقاق المُقمِره ..

والبُلبلُ الفتّان يبدأُ عزفَهُ …

حدَّ الدُّموعْ …

مستذكراً التنور الذي يصنع الرقاق المقمرة، إشارة إلى إيقاده بأطراف الليل (وقت السحر حين القمر يشع على أرغفة الخبز الحارة) كناية عن الخير العميم، بينما البلبل الذي يغرد على الشجر يوحي بالذكريات التي تبلل الخواطر، وتجني للذكريات سلسال الدموع، فكل ما في الذكرى عبق حلمٍ راحل، فمتعلقات الجسد راحلة، بينما سياحة الروح في أوجاق الماضي باقية تختزنها بنوك الذاكرة ذات الوعاء المترف بالرجع الخالد الجميل.

أما في قصيدته (ليل بغداد) التي يستذكر فيها جمال بغداد حين كان طالباً، فقد درس في جامعاتها ما جعله يجد الفرق بين العالمين وعلى الرغم من أيام الحصار التي عاشها في تسعينيات القرن الماضي ككل العراقيين إلا أنَّ يوتوبيا الماضي ظلت عالقة في ذاكرته، إذ يقول:

يا أُنسَ روحي إنَّ هجرَكِ موجعي

ما كانَ في خُلدي بأنْ تتمنعي

ما زالَ سفرُ العشقِ تحتَ وسادتي

والذكرياتُ تمورُ بين أضالعي

ما زلتُ بين دفاتري مستلقياً

كيما أشمَّ عبيرَها بمدامعي.

نجده يحنُّ إلى بغداد العبقة بمواسم الحب والجمال، فهو العاشق لها، بينما هي الآن تتمنع عليه؛ لأنَّها تغيرت، فصارت ليس كما كانت عليه بالأمس، فما بقي من بغداد غير عشقها اليوتوبي الأثير وذكرياتها التي طبعت بين أضالعه، أي في قلبه العاشق الرؤوم ذلك الحب العميق. ولعل الدفاتر إشارة إلى مذكراته التي وثَّق فيها كلَّ موقف جميل أو مشاهدة عذبة.

وفي قراءتنا الدقيقة للنص نجده يقارن بين ماضيها وحاضرها وحركة الأحداث التي انتابتها فجعلتها حطاماً خائراً ولاسيما بعد احتلالها عام 2003 م وما تلاها من أحداث قاهرة، دمرت كلَّ معالمها الجميلة كما تغيرت نفوس أهليها بعدما اشرأبت بما أصابها من فداحة القهر والظلم والتقتيل والتشريد، فانهارت حتى منظومة القيم فيها، واستوطن الأغراب وحكمت المادية والأنانية والمحسوبيات الحزبية البلاد، فصارت منزعاً للطائفية المقيته؛ ما جعل الشاعر يهرع لاستجلاب الماضي الذي لم تقرع الفتنة فيه أبوابه مثلما يحصل اليوم؛ ومن ذلك قوله:

حتى هوى صرحُ الجمالِ مُهشَّما

والقبحُ والهذيانُ صكَّ مسامعي

ماذا جرى لا النيراتُ حواضرٌ؟

والشمسُ في ميقاتها لم تطلعِ

أينَ النوارسُ؟ لم تعدْ سوّاحةً

أينَ الرياض؟ تناسلتْ معْ بلقعِ؟

أينَ الزهورُ؟ ألم تعدْ فوّاحةً؟

والنرجسُ الفينانُ لوحةُ مبدعِ.

إنَّ الذي أصابها حطَّم صرح كلِّ ما هو جميل فيها، بينما القبح والهذيان صكَّ المسامع في حين أنَّ النيرات اختفت، إشارة إلى حواضنها الثقافية والفكرية، بل أنَّ آفة الغي هي التي تسلطت بدلاً من المؤسسات العلمية وتراثها المجيد في عصر أنهكته الأفكار الرجعية، ثمَّ يقول:

أينَ (المضايفُ)؟ لم تعد أبوابها

مهوى الجياع، ألمْ يعد من جائعِ؟

أينَ الطبول؟ ألم يغرد لحنُها

يوما لتوقظَ صائماً من مهجعِ؟

الليلُ أليلُ والصباحُ ممزقٌ

والسائرونَ كلحنِ نايٍ موجعِ

كلٌّ تبعثرَ واستكانَ بضدِّهِ

والناسُ بينَ مخاصمٍ ومنازعِ.

فحين يسأل عن المضايف، فهو ينسف بقاءها اليوم، وكأنَّه يقول لامضايف تشرع أبوابها للجياع، كما أنَّه يخبر بأنَّ الطبول غادرت، ولم يغرد لحنها؛ لإيقاظ الصائمين للسحور، إشارة إلى غياب ممارسة شعائر الدين الحقَّة. فالليل أمسى أليَلاً، والصباح أضحى ممزقاً، بينما السائرون صاروا مثلما هو لحن موجع؛ لما يحملون على ظهورهم من كتل الهموم المضنية، وأنَّهم صاروا متخاصمين متفرقين لما يحملونه من توجهات فكرية، وسبل غرقت في فوضى الخلافات، ما جعل الخصومات والنزاعات تلتهب فيما بينهم.

وهكذا حملت نصوص الشاعر عبق الماضي، إذ علقت في ذهنة روعتها، وهو يتذكر ما كانت عليه الحياة بالأمس حيث الجمال الباسق بالنيات الصافية وبالفطرة النقية التي تستطيب بها النفوس، بينما الحاضر يراه ممثِّلاً لفوضى صارخة، تُشعره أنَّ الحياة لم تعد إلا جحيماً لا يطاق.

***

بقلم: د. رحيم عبد علي الغرباوي

تُعد اللهجات والكلمات العامية جزءًا أصيلًا من الهوية الثقافية للمجتمعات، حيث تنبع من الحياة اليومية وتعكس طبيعة التواصل الإنساني في أبسط صوره. أما الهايكو، فهو شكل شعري يعتمد على البساطة والتكثيف والتقاط اللحظات العابرة، ما يجعله ميدانًا خصبًا للتجريب اللغوي والتعبير بأساليب جديدة ومبتكرة ومنها استخدام الكلمات العامية.

في هذا السياق، يلجأ بعض شعراء الهايكو إلى إدخال الكلمات العامية ضمن نصوصهم، إما لإضفاء طابع محلي على النص، أو لتعزيز الإحساس بالمشهدية والآنية ، أو حتى لكسر الرتابة التي قد تفرضها الفصحى في بعض السياقات. لكن هذا الاستخدام يطرح أسئلة جوهرية حول تأثيره على جمالية النص، ومدى تقبله خاصة في ظل التحديات التي يفرضها من حيث الترجمة والتلقي.

أسباب استخدام الكلمات العامية في الهايكو

يختار بعض شعراء الهايكو إدخال المفردات العامية في نصوصهم لعدة أسباب، منها:

1-القرب من الواقع والمصداقية

العامية لغة الحياة اليومية، واستخدامها في الهايكو يجعل المشهد أكثر صدقًا وحيوية، مما يعزز تفاعل القارئ مع النص. فهي تحمل روح العفوية والتلقائية التي تتناسب مع طبيعة الهايكو الذي يلتقط لحظات عابرة بدون تكلف.

2- التعبير عن الهوية الثقافية والمحلية

تعكس الكلمات العامية ملامح المجتمع وثقافته وتقاليده، ما يجعل الهايكو وسيلة لحفظ اللهجات المحلية وتوثيقها داخل الأدب. فإدخال العامية يضفي على النص طابعًا محليًا يميز كل شاعر عن الآخر ويخلق ارتباطًا بين النص والبيئة التي نشأ فيها.

3- كسر القوالب التقليدية والتجديد اللغوي

لطالما كان الأدب مجالًا للتجريب والتطوير، واستخدام العامية في الهايكو يعد شكلًا من أشكال كسر القواعد اللغوية الجامدة، وفتح المجال لأساليب جديدة أكثر مرونة وحيوية.

4- إضفاء بصمة خاصة وتميّز الأسلوب

لكل شاعر طريقته الفريدة في تشكيل لغته الشعرية، وعندما يستخدم العامية بذكاء، فإنه يمنح نصوصه طابعًا مميزًا يختلف عن غيره من الشعراء، مما يجعل أسلوبه أكثر تفرّدًا.

5- إيصال رسائل مشفرة ورمزية

في بعض الحالات، تحمل الكلمات العامية دلالات اجتماعية أو سياسية لا يمكن للفصحى التعبير عنها بنفس العمق. قد تكون هذه الدلالات مرتبطة بالصراع الاجتماعي والثقافي والسياسي بين الأفراد والجماعات، أو أنها تعكس جدلية العلاقة بين المركز والهامش، أو بين الريف والمدينة، أو بين الأنا والآخر…إلخ.

6- مرونة اللغة أمام التحولات المجتمعية

اللغة العامية متغيرة باستمرار، حيث تتأثر بالمتغيرات الاجتماعية والتكنولوجية، مما يجعل استخدامها في الهايكو وسيلة للتعبير عن التحولات اللغوية في المجتمع. بعض المفردات العامية تندمج تدريجيًا في اللغة الفصحى، وهذا يخلق ديناميكية لغوية تُغني الشعر وتعكس تطور اللغة مع الزمن.

7- إضفاء تأثير صوتي وإيقاعي خاص

بعض المفردات العامية تمتاز بإيقاع مميز يجعل وقعها على الأذن أكثر جاذبية من نظيراتها الفصحى وبالتالي تكون أكثر استجابة وقبولا من المتلقي.

التحديات والمعوقات

رغم المزايا التي يمنحها استخدام العامية في الهايكو، إلا أن هناك تحديات لا يمكن إغفالها، ومنها:

1-التواصل الثقافي المحدود

يمكن أن تؤدي العامية إلى حصر فهم النصوص في بيئة معينة، مما قد يقلل من فرص تفاعل الجمهور الأوسع مع الهايكو، خاصة أن أحد أبرز سمات هذا الشعر هو عالميته وقدرته على تجاوز الحدود الثقافية.

2- صعوبة الترجمة وفقدان بعض الدلالات

لا يمكن ترجمة بعض المفردات العامية دون فقدان جزء من دلالاتها الأصلية، إذ إن بعض التعابير تحمل إيحاءات أو معانٍ ضمنية لا يوجد لها مقابل مباشر في اللغات الأخرى.

3- احتمالية فقدان البعد الجمالي والبساطة

قد يؤدي الاستخدام المفرط أو العشوائي للعامية إلى إضعاف بنية الهايكو، خاصة إذا لم تكن المفردات المختارة دقيقة أو منسجمة مع روح النص .

4- عدم استقرار بعض المفردات العامية

تتغير المفردات العامية مع الزمن، فبعض الكلمات التي تُستخدم اليوم قد تصبح غير مفهومة بعد فترة، مما يؤثر على استمرارية النصوص ويجعلها مرتبطة بزمن معين .

خاتمة

يُعد استخدام العامية في الهايكو خيارًا إبداعيًا يمنح النصوص طابعًا أكثر حيوية وارتباطًا بالواقع، لكنه يتطلب وعيًا دقيقًا بطبيعة المفردات المستخدمة وسياقها. فعندما تُستخدم العامية بذكاء واعتدال بما يخدم الصور الشعرية يمكن أن تضيف بُعدًا جديدًا للنص ومع ذلك، فإن الإفراط فيها أو استخدامها بشكل غير مدروس قد يؤدي إلى تقليل تأثير النص وقابليته للفهم خارج نطاقه المحلي.

***

عباس محمد عمارة

في قصيدته (حين أضعْتُ الطريق الى بانكستاون) بقافيتيها، إذ كتبها على مقاطع من شعر التفعيلة، ومن قافيتين مختلفتين، القاف في أكثرها، والنون في المقطعين الأخيرين، وهما خاتمة القصة الشعرية (المفاجأة)، بعد الحبكة الفنية شعرية الأداء بعيداً عن حبكة القصة السردية الحكائية الروائية، يروي لنا شاعرنا الكبير يحيى السماوي حكايةَ العودة إلى نُزُل بانكستاون حيث كان نازلاً في مدينة سدني، بعد رحلةِ يوم طويل، ولقاء حميم مع أصدقائه.

هذه الحكاية (القصة) هي مزيجٌ من الرواية منْ خلال (السرد، ومثلث البداية والوسط والنهاية القصصية المنهجية)، ووصفه لطريق عودته الى مقامه في الفندق، وما عاشه من لحظات من الأحاسيس والمشاعر التي انتابته، والاشتياق الى سومر (العراق) وأحبابه هناك، واصفاً ايضاً مشاهداته لمدينة سدني.

لم تنسَ مشاعرُهُ، ولا وحيُه، ذكرَ الإلهة السومرية الأم (اينانا) التي توحّدَتْ مع الشاعر – لكثرة ما أوحت له من قصائد، وتناصات شعرية – توحّدت معه في كينونةٍ واحدةً، ليصبحا كياناً متوحِّداً، ملتحماً لا انفصام بينهما، وروحاً واحدةً، في جسد وقلب الشاعر، وكأنّه بالمرور عليها لاشعورياً، وإنّما بوحاً عفوياً طبيعياً سلساً، يرمز بذلك الى الأم والحبيبة و(الأرض/سومر) عموماً، لكون إينانا رمزاً للخصب، والحبِّ بمعناه الشمولي، ومنه حبُّ الوطن.

كلُّ هذا وهو يتوجّه صوب النُزُل، بمعنى أنّ الوحيّ هبط من عمق وادي عبقر ليلقي رحالَه في أحاسيس السماويّ الكامنة، والتي كانت على حافة الانتظار لتتفجر في سيلٍ شعريٍّ، إذ هبطَ المُفجِّرُ (شيطان شعره عشقائيل)، فكانت القصيدة بقافيتين، توحدهما اللحظة الحسية المُلهِمَة، مقسمةً على ما بثته من شحنة حكائية مسرودة شعرياً.

وكما أسلفتُ فإنَّ عنصر القصِّ السرديّ، هو أحد عناصر إرهاصات وخصائص الشاعرية في جوانب من قصائد شاعرنا الكبير، والذي يحتاج إلى التأمل والبحث الاستقرائي التحليلي.

السرد في القصيدة ليس السردَ بمفهومه الفنيّ القصصيّ المنهجي، وإنما بفنيته وبنيته الشعرية والشاعرية. فهو عند السماويّ ليس حكايةَ أحداثٍ وشخصياتٍ وأماكن وزمن معيّن، وصراع وحبكة وتشابك، وإنّما رواية شعرية تكتبها الأحاسيس والمشاعر التي اضطربت، وتلاطمت وتصارعت في نفسه وقلبه ووجدانه، فتشابكتْ وتواشجتْ والتحمت في صراع داخليٍّ بعيدٍ عن التنافر والانفصام، بل تلاقت وتلاقحت لتولد هذه القصيدة الباهرة التي رافقت شاعرنا لحظةً بلحظة، وهو يتوجه صوب مكان إقامته؛ لأنّها منْ مسارات وشعابِ مشاعرهِ وعواطفه، ومعاناته ومعايشته التي اجتاحته في لحظةٍ ذاتِ شعرٍ جيّاش فيّاضٍ، يملأ كأسَ المتلقي بلذيذ المدام، ومثير الكلام، فاخذت بتلابيب الولادة الشعرية نحو لحظة غياب صوفية عشقية، تتسامى على المكان والزمان، لترتقي مدارجَ الهيام بسكرةِ الكلام، يحكي لنا إلهامُه من خلالها بما اعتراه من مشاعر، ووجد، وحرارة، وسيل شعريٍّ يتدفق دون عوائق، ولا مطبات حسية، ليسردَ، ويصفَ ببانوراما فنيّة بلاغيةٍ، ولغةٍ مُترَفة، رقيقة الحاشيةِ، جميلةِ الإيقاعِ، برّاقةِ التصوير، عُرفَ بها الشاعر. بانوراما على شاشةٍ عريضةِ، ولوحةٍ ملوّنة بالوجدان، والبلاغة المُصاغةِ بمقدرة راقية التصوير والخَلقِ الفنيّ، تعرضُ ما مرَّ به، وكيف أضاع طريق النُزُل وهو في غمرة القصيدة، التي أمسكت بتلابيب أحاسيسه، فعايش هواجسها وإرهاصاتها ومخاضها، ليأتينا على جواد قصيدة جامحة، لا تنتظر الميدان لتتسابقَ، لأنّها هي السباقُ والمضمارُ نحو هدفها ونهاية رحلتها الشعرية (المفاجأة)، إذ وجد عنوان النزل في جيبه مع المفاتيح، مثلما هي (القصيدة) العِقدُ الفريدُ في جيدِ مملكة الشعر الخالدة.

لقد أثار فينا الشاعر الكبير الفضولَ القرائيَّ، وشدّنا الى هذه الرحلة صوب نهايتها، بحبلٍ من الجمالِ والسحرِ، وفوق عربةِ لذة الاهتزاز الحسيّ والرعشة الشعورية، ليوصلنا سالمين غانمين، فائزين بلوحةٍ تشكيلية مدهشة مرسومةٍ بالكلمات والمشاعر، ملوَّنةٍ بريشةِ الخَلْق الشعري. فالحكاية والأحداث والشخصيات والمكان فيها هي جَمْعُ الأحاسيس والهواجس والمخيال الثرِّ التى هزَّت الشاعر، بل هي الشاعرُ نفسُه في ذروة مخاضِ القصيدة، وبقضِّه وقضيضِه.

***

عبد الستار نورعلي

..........................

حين أضعْتُ الطريق الى بانكستاون

الصبحُ في سيدني طويلٌ

كانتظارِ قصيدةٍ عذراءَ

تأبى أنْ تطِلَّ على

الورَقْ

*

ومساءُ سيدني روضةٌ ضوئيةٌ

أزهارُها غسَقٌ

بحبلِ الضوءِ شُدَّ الى الشفقْ

*

وأنا الغريبُ السومريُّ

مُفتِّشًا عني أحَدِّقُ في الوجوهِ

لعلَّ وجها سومريَّا

يستضيءُ السندبادُ بهِ

يمدُّ إليهِ صوتًا من لِسانِ الضادِ

يُنجي السندبادَ الضائعَ الحيرانَ من شبحِ

الغرَقْ

*

الوقتُ مصلوبٌ

وشمسُ الإنتظارِ بلا ألقْ

*

سأعودُ قال السومريُّ المُسرِفُ / المُتَزَهِّدُ

الطفلُ / الفتى

الشيخُ المُخَضَّبُ بالتبتُّلُ

والمُضَرَّجُ بالنَزَقْ

*

سأعودُ قالَ الى متاهةِ غرفتي

فلربَّما

ستطِلُّ من تحتِ الجفونِ المُغمضاتِ

إلهةُ الأمطارِ " إينانا "

لِتُطفئَ غابةَ النيرانِ في جسدي المُفخَّخِ بالشبَقْ

*

وتؤمُّ بيْ فوقَ السريرِ

صلاةَ " حلاّجٍ " بماءِ لظى تهيُّمِهِ

احترَقْ

*

وتصبُّ ليْ كأسًا من القبلاتِ ..

تُطعِمني رغيفًا من طحينِ أُنوثةٍ

فهيَ الوديعةُ كالحامةِ والرقيقةُ كالفراشةِ

أو أرقْ

*

مُتعكِّزًا ظلّي مشيتُ ..

عبرتُ جسرًا ..

جزتُ ساحاتٍ وأرصفةً

أضَعتُ الدربَ .. أينَ أنا ؟

سأرجعُ قلتُ في نفسي

ولكني نسيتُ اسْمَ الذي أودعتُ فيهِ حقيبتي

ودواءَ وحشِ السُّكّرِيِّ

وشاحنَ التلفونِ ..

أثقَلني الرَّهَقْ

*

قدمايَ مُتعبتانِ

تشتكيانِ وخزَ تنمُّلٍ

والدربُ نحوَ الفندقِ استعصى عليَّ

فمنْ يُعيدُ الى مراعي القوسِ

ظبيَ السهمِ غافلَ مُقلةَ الراعي المُكبَّلِ بالمتاهةِ

فانطلقْ

*

نحو البعيدةِ

بُعدَ قلبي عن يديَّ

وقربَ شمسٍ والنجومِ

عن الحَدَقْ

*

وَعَدَتْ بثوبٍ من حريرِ العشبِ

يسترُ عُريَ صحرائي

وتغسلُ مُقلتيَّ من الأرقْ

*

وتهشُّ عن غزلانِ رأسي في مفازةِ غربتي

ذئبَ القلقْ

*

فأنا اصطباحي في المساءِ ..

وفي الصباحِ المُغتَبَقْ

*

لأعودَ طفلاً ضاحكَ الأحداقِ

دُميتُهُ الغسَقْ

...............

مُستهزئا من سوءِ ذاكرةٍ

يُقهقِهُ في قرارتِهِ الغريبُ السومريُّ

فقد تذكَّرَ

أنَّ في مفتاحِ غرفتِهِ الذي في جيبِهِ

عنوانَ فندقِهِ وخارطةَ الطريقِ الى المكانْ

*

مُتَعَثِّرًا بِظلالِ خطوتِهِ

يسيرُ السومريُّ الانَ نحو سريرِهِ

في نُزْلِ " بانكستاونْ "

***

يحيى السماوي

21/3/2023

 

قصيدة "ثورة الأجراس" للشاعرة ظمياء ملكشاهي هي قصيدة غنية بالصور الشعرية التي تعكس صراع الذات في مواجهة الخيبة والفقدان، وتستخدم فيها اللغة بشكل أسلوبي معقد يعكس التوتر الداخلي والتساؤلات الوجودية.

الأسلوب الشعري: القصيدة تتميز بأسلوب سردي تأملي، حيث تُقدّم الشاعرة نفسها في حالة من التوهان بين الذكريات والتجارب المؤلمة. يظهر الأسلوب في استخدام المفردات الرمزية، مثل "الأجراس" و"الظلال" و"النهر الشاحب"، التي تُعبّر عن حالة من الجمود الداخلي والخواء الروحي. كما أن استخدام الألوان والتضاد بين "البياض الناصع" و"فصول من الانتظار المقيت" يعكس التنافر بين الأمل والخوف، وبين الضوء والظلام.

التكرار والرمزية: تكرار عبارة "لم أعد أسمع الأجراس" يشكل محورًا أساسيًا في القصيدة، حيث يُستخدم لتمثيل تغيّر الحال وتبدّد الأمل. الأجراس، التي كانت تُمثل الأمل أو الاتصال، تختفي تدريجيًا، ما يعكس تفكك الروابط الداخلية والروحية للشاعرة. كما أن "الأجراس" تظل تُقرع في الخلفية كصوت مفقود، مثل رغبة في العودة إلى حالة من الهدوء الداخلي، ولكنها تتحول إلى غياب مرير.

الصور الشعرية والتشبيه: توظف الشاعرة صورًا شعرية مثيرة، مثل "أسير بمحاذاة ظلي" و"نهر شاحب"، وهي صور تعكس الانفصال عن الذات والفقدان العميق. صورة "معتقة في جب الأسئلة المبهمة" ترمز إلى تراكم الأسئلة الوجودية والبحث المستمر عن إجابات لا تأتي.

الموضوع والصراع الداخلي: القصيدة تعبر عن حالة من الفقدان والتغيير العاطفي، حيث تُظهر الشاعرة نفسها في حالة من العزلة الداخلية، في صراع مع الذكريات، ومع تساؤلات حول العودة والاستمرار. هي في حالة هروب من الحقيقة المريرة، وأمل ضائع في أن تُعيد الأجراس الصوت الذي فقدته.

الختام: القصيدة تسلط الضوء على العلاقة بين الإنسان وذاته من خلال تشابك الحلم والواقع، والمقاومة الداخلية التي تتجسد في صور مؤلمة ومعبرة. الأسلوب الشعري المعتمد على التكرار والرمزية يمنح النص عمقًا عاطفيًا ويعزز من التأثير النفسي على القارئ، مما يعكس الصراع الأزلي بين الأمل واليأس.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

.........................

ثورة الأجراس

أسير بمحاذاة ظلي مذ عرفتك شاطئا، أمنحه العزيمة ليسبقني أليك وأسنده ببعض الاكاذيب الجميلة التي تستنزف حقائقي الدامغة. لكنني اليوم سحقته بقسوة بالغة ،شمس فاترة ومغيب طويل ونهر شاحب ،فصول من الانتظار المقيت تبقع البياض الناصع لستائري الخيالية فتحتضر حكايتي، مرتخية اقدامي ،لم اعد اسمع الاجراس وهي تقرع معا ،يرعبني أن افقد اصدائي، وها انا أسير بلا ظل، اعود وحيدة في ازقة روحي تتناوشني معاول التفاهة وارخبيلات الضياع المبهمة ،اريد حلما لأطوي الذروة سريعا قبل أن تستنزفني الأنهار الميتة فاغفو على أرقي احدق في ظلام الظلال الهاربة، لا اسمع الاجراس وهي تغني، لم اعد أنتظرك، يفزعني أن لا افعل، لا تزقزق العصافير صباحا على سطوري ،تغلق اهدابها بصمت وقور معلنة خريف اقصوصة نمت بلا ترتيب على غابة في قمر، تنتصب الاقواس في مدينتي النائية ،اخلع زهوي واصيخ السمع لهمهمات الريح التي تقترب، لم اعد اسمع الاجراس تقرع في ٱن واحد، هل ستعود وتمضي ؟؟؟معتقة في جب الأسئلة المبهمة اجوس في الاجوبة المستحيلة

***

ظمياء ملكشاهي - كردستان

 

لم يطقْ الفيلسوف والأديب جان بول سارتر (1905-1980) والأديب الروسي / الأمريكي فلاديمير نابوكوف (1899- 1977) بعضهما البعض الآخر. وحقا، ما يمكن أن يكون مشتركًا بين أشهر أديب روسي مهاجر، وبين المفكر الوجودي الذي تبنى الأفكار اليسارية ببعدها الإنساني! ناهيك عن حقيقة انعدام القواسم المشتركة في المقاربات الأدبية. لقد كان جان بول سارتر على النقيض تمامًا من نابوكوف سواء في مبادئه الجمالية، أو في نظرته للعالم. فسارتر داعية التزام الأدب بقضية، على الأقل النثري، ونابوكوف لا يري في الأدب سوى الأسلوب وقيمته الجمالية/ الفنية، رافضا الأعمال ذات المضامين الاجتماعية، والعقائدية بكل أشكالها.

وقد عبّر الكاتبان عن كراهيتهما المتبادلة بطريقة حاذقة للغاية: عن طريق تبادل مراجعات سلبية لروايات بعضهما، مشحونة بتلميحات للطعن بالآخر. وأثار جان بول سارتر المواجهة في مقالة نقدية له بعنوان "اليأس"، التي كرسها للتعليق على رواية لنابوكوف بنفس الاسم، قال فيها:" يبدو لي أن هذا الإصرار على التحليل والتدمير الذاتي يميز أسلوب نابوكوف النثري تمامًا. إنه كاتب موهوب للغاية، ولكنه كاتب قصاصات". وفسر وجهة نظره هذه: " وأنا إذ أوجه هذا الاتهام، فإنني أشير إلى آباء نابوكوف الروحيين، ولا سيما إلى دوستويفسكي: لأن بطل هذه الرواية الغريبة، يشبه إلى حد كبير شخصيات روايات دستويفسكي: "المراهق" و"الزوج الأبدي" و"مذكرات من بيت ميت"، كل هؤلاء المجانين المحنكين العنيدين" الذين يلهون في جحيم العقل، يسخرون من كل شيء وينشغلون باستمرار بتبرير الذات - بينما يمكن للمرء أن يرى من خلال النسج غير المحكم لاعترافاتهم المتغطرسة والمزيفة الرعب والعجز عن الدفاع عن النفس. الفرق هو أن دوستويفسكي كان يؤمن بأبطاله، بينما لم يؤمن نابوكوف بأبطاله، أو بالأحرى بفن الرواية بشكل عام"

وتابع: " إن انفصال نابوكوف عن التربة (الوطن والعالم)، ... انفصال مطلق. فهو غير مهتم بالمجتمع، ولو لمجرد التمرد عليه، لأنه لا ينتمي إلى أي مجتمع. وهذا هو ما يقود بطل روايته "اليأس" كارلوفيتش" في النهاية إلى جريمته المكتملة، وهذا ما دفع كارلوفيتش في النهاية إلى ارتكاب جريمته، وإجبار نابوكوف على أن يقدم لنا مضمون فارغ باللغة الإنجليزية".974 sartar

لم يظل نابوكوف صامتا، واستغل أول فرصة أتيحت له، لتصفية حساباته مع سارتر. وكان ذلك عندما تلقى عرضًا لمراجعة رواية لسارتر. لذا فإن اللهجة القاسية التي اتسمت بها مراجعته كانت نابعة من رغبته في الانتقام من مراجعة سارتر السلبية للترجمة الفرنسية لروايته (نابوكوف) "اليأس". واتضح ذلك بجلاء من في مراجعته للترجمة الإنجليزية لرواية سارتر " الغثيان". وقال:" إن رواية الغثيان من وجهة نظر أدبية، لا تستحق الترجمة على الإطلاق. فالرواية تنتمي إلى ذلك الصنف من الأعمال التي تبدو درامية، ولكنها في الحقيقة ركيكة للغاية، وعلى غرارها قدم مجموعة من الكتاب من الدرجة الثانية: باربوس وسيلين وأمثالهما".

يتنقل روكانتين بين المقهى والمكتبة العامة، ويتعرف، بالصدفة، على شاذ جنسياً ثرثاراً، ويستغرق في التأمل، ويكتب يومياته، وأخيراً يجري حواراً طويلاً ومضجراً مع زوجته السابقة التي أصبحت محظية رجل أسمر ذو ميول كوسموبوليتية. وولع روكانتين بالأغنية الأمريكية التي تصدح من أسطوانة جرامافون في أحد المقاهي: " قريباً ستتركينني يا حبيبتي". وود أن يكون صلبا كهذه الأسطوانة مع الأغنية التي انقدت اليهودي (الذي كتبها) والمطربة (التي تغنيها)" من " الانغماس في الوجود".

يتخيل روكانتين موسيقيا: رجل حليق الذقن في بروكلين ذو" حاجبين أسودين كالفحم"، ب "خواتم في أصابعه"، يسجل لحنًا وهو بغرفة في الطابق الحادي والعشرين من ناطحة سحاب. كانت حرارة الجو رهيبة. ولكن سرعان ما يظهر"توم" (وهو صديقه على ما يبدو) ومعه زمزمية مسطحة، وأصبحا في حالة سكر شديدة (في ترجمة السيد ألكسندر الفخمة: "يترعان الكؤوس بالويسكي". لقد تأكدتُ أن هذه أغنية حقيقية من كلمات الكندي شيلتون بروكس وغنتها المطربة الكوميدية صوفي تاكر.

ولعل اللحظة الرئيسية في الكتاب هي التبصر الذي ينتاب روكانتين، والذي أسفر عن اكتشافه بأن "غثيانه" هو نتيجة لضغوط العالم الخارجي العبثي وغير المتبلور، ولكنه مع ذلك عالم حقيقي للغاية. ومن سوء حظ الكتاب إن كل هذا يبقى على المستوى التأملي المحض، وكان من الممكن أن تكون طبيعة هذا الاكتشاف على نحو آخر، ولنقل ذاتويا، من الفكرة الفلسفية التي تقول بأنه لا وجود لشيء غير الذات أو غير الأنا أو لا وجود حقيقي إلا لعقل الفرد، لما انعكس تأثيره على بقية الرواية بأي شكل من الأشكال. وعندما يفرض المؤلف خياله الفلسفي الباطل، ووفق هواه على شخص عاجز اخترعه لهذا الغرض، فإنه يحتاج إلى موهبة كبيرة لإنجاح الخدعة الروائية. وحقا لا أحد يجادل روكانتين عندما يقرر أن العالم الخارجي موجود. لكن سارتر لم يتمكن من جعل العالم الخارجي موجودًا كعمل فني.

وكما كتب نابوكوف: "ارتبط اسم سارتر، كما أعرف، بالفلسفة التي نشأت في المقاهي الباريسية وأصبحت الآن موضة. ولا بد أن تكون هذه الترجمة الإنجليزية لرواية سارتر الأولى" الغثيان" (التي نشرت في باريس عام 1938) قد لاقت بعض النجاح، مادام هناك عدد لا بأس به من "السكتولوجيين (اعذروا المصطلح المنمق)، من يسمون اليوم ب " الوجوديين".

 وعُرض على نابوكوف بعد ذلك بفترة وجيزة، أن يكتب مراجعة لمجموعة مقالات سارتر "ما هو الأدب؟" لكن الكاتب رفض:" لقد قرأتُ النسخة الفرنسية الأصلية للكتاب، وأعتقد أنها تافهة. وبصراحة، لا تستحق المراجعة". وكان نابوكوف يرى أن سارتر "أسوأ من كامو". علما انه وصف كامو بـ "المقرف".

***

د. فالح الحمــراني

تعرضت الرواية القصيرة جدا الى الكثير من الجدل، والذي أعطاها هذا النوع من التجنيس لأول مرة على مستوى العالم العربي هو الروائي (حميد الحريزي) وهي لا تنتمي الى الرواية القصيرة ولا الى الرواية المعتادة حيث الدراما والتراجيديا أو الكوميديا وما تتطلبه هذه الروايات من حبكة سينمية على كافة المستويات. ولذلك سوف يأخذ هذا النوع من التجنيس الروائي القصير جدا مديات طويلة حتى تستقر وتشتهر أكثر مما عليه الآن، كذلك لو أخذنا بنظر الإعتبار الى ان الرواية بشكلٍ عام وكجنس أدبي أتخذت الف سنة حتى إستقرت وانتشرت بما نعرفه اليوم وايضا الموسيقى أخذت وقتا طويلا حتى إستقرت في الذائقة السمعية. أما الرواية التي إعتاد عليها القاريء والتي تأخذ العديد من الصفحات وأحيانا تصل الى أجزاء ومجلدات مثلما الرواية الشهيرة (الدون الهاديء) للروسي (ميخائيل شولوخوف) والتي تألفت من أربعة أجزاء وكل جزء منها شمل أكثر من خمسمئة صفحة وأما الجزء الرابع وصل الى سبعمائة صفحة من القطع الكبير ومن طباعة ونشر دار المدى. وهذه الرواية وحدها يجب عليك التفكير كيف تستطيع حملها بكل أجزائها بينما الرواية القصيرة جدا هي عبارة عن كتيبٍ ضئيل للغاية تحمله مثلما تحمل تلفونك المحمول وهذا يعني تستطيع قرائتها في أي مكان وتنهيها على وجه السرعة مع الإستفادة من معانيها وفحواها. لكننا بصدد ما يراه القارئ والمتلقي بخصوص هذا التجنيس الروائي وكيف سيقتنع القارئ؟. ولذلك علينا أن نترك الأمر للنقد والنقاد والمثقف النخبوي ويتوجب علينا أن نعرف أنّ النقد إتخذ مراحلاً عديدة ومدارس كثيرة حتى وصل الى التجريب الذي منح حميد الحريزي أن ينطلق وفق مفهوم التجريب القانوني والمعمول به أدبيا ليكتشف لنا هذا النوع من التجنيس الروائي والذي تجلّى واضحا في رواياته القصيرة جدا ومنها رواية المقايضة، أرض الزعفران، المجهول، القداحة الحمراء، وغيرها. وأعتقد سوف تتعرض الرواية القصيرة جدا الى الدحض والنقض والموافقة أيضا بذات الوقت لأن أي مبدع سواء إن كان حميد أو غيره سيتعرض للنقد وعلى كافة أنواعه لأن النقد أول مابدأ شفهيا: على سبيل المثال حين يقرأ شخصا شعرا معينا سوف نقول فورا (الله) أو جميل وغيرها من معاني الإعجاب ثم تطور وجاء سقراط وبعده إفلاطون وغيرهم، وحتى القرآن الكريم إستخدم النقد ضد الشعراء وفق الآية (الشعراء يتبعهم الغاوون) ثم تطور النقد على يد القاهر الجرجاني (إن عبتَ الناس عابوك وإن تركتَ الناس تركوك). في ذلك الوقت لم يكن للنقد إصول وقوانين حتى جاء القرن التاسع عشر وأصبح للنقد إصولا ومعاييرا وجاءت المدارس العديدة ومنها الرمزية والرومانسية وغيرها وجاءت المصطلحات النقدية على سبيل المثال السيميوطيقي بالنسبة للناطقين باللغة الفرنسية والسيميولوجي للناطقين بالإنكلوسكسون والسيميائي لشعوب الشرق، ثم جاءت المدارس العديدة منها الأسلوبية والالسنية والسوريالية والبنيوية والتكعيبية حتى وصلنا الى الحداثة بعد الحرب العالمية ثم مابعد الحداثة ثم التجريب الذي وصلنا بعد أربعين عام من ظهوره في الغرب. التجريب الذي من خلاله ظهر النص المفتوح الذي اكتشفه إمبرتوإيكو 1958 وهذا النص اُطلق عليه الكثير من المصطلحات، فلماذا نبخل على حميد الحريزي أن يطلق على هذا النوع الجديد بالرواية القصيرة جدا؟ والتي بدورها ستأخذ مدارها الطويل حتى نستطيع أن نقول أنها السائدة والرائدة لآن البعض منهم قد يعزيها الى إسلوب الحكاية أو أدب الحكائين والمنابر وأنا شخصياً لا أميل الى ذلك. بل، أعطيها هذا التجنيس الذي جاء به حميد، على الرغم من أنها لاتهتم بالوصف الخارجي والوصف الداخلي المتعلَق بالمشهد السردي، يعني الخارجي على سبيل المثال كيف هي السماء وكيف هي الطرقات والأشجار والجداول وغيرها. أما الداخلي هو الشعور النفسي لشخوص الرواية وحركاتهم وتقاسيم وجوههم وغيرها. كل ذلك تختزلها الرواية القصيرة جدا لتعطينا خالص الكلام بإسلوب ٍسلسٍ لين وناعم ومثير ومشوّق.

أنا اقول: من خلال التجريب ومافعله حميد لنتركه لتأويل المستقطب أو المتلقي وهو الذي يملاْ الفراغات الناقصة وابداء الرأي والنصح. ثم هناك العديد من الروائيين العالميين كتبوا بما يشبه هذا النوع من التجنيس ومنها (الجندي الجريح) لغابرييل غارسيا ماركيز، هذه التي هزت المشاعر الإنسانية وقتها ولازالت. الكاتب الدنماركي (هانس اندرسن) ايضا كتب هذا النوع ومن ضمنها الروايات القصيرة جدا لكن وقتها لاأحد يستطيع أن يجتهد مثلما إجتهد حميد وأطلق هذا المسمى الجديد لأعماله الرشيقة الخالية من السمنة والكروش المتدليّة فيستحق أن نقف عنده ونعتبره إنجاز واكتشاف جديد يصلح حتى في البرامج التلفزيونية كأضواء، او قفشات، أو حلقات خماسية أو ثلاثية مثلما نراها اليوم لدى الدراما السورية القصيرة جدا والتي تعرض مثل هكذا روايات قصيرة جدا ومنها خماسية الحب الحرام، أو علاقات محرمة وغيرها العديد على هذه الشاكلة. لكن الإمكانيات العراقية ضحلة جدا للاسف في هذا المجال لأنّ السينما والمسرح مغيبان في هذه الفترة حيث سلطة الكهنوت فكيف بإبداع كهذا الذي نتحدث عنه لدى حميد الحريزي.

لنستعرض بعض الروايات القصيرة جدا لحميد الحريزي وبشكل مختصر: رواية (أرض الزعفران) خمسة فصول عن امراة تسمى (ضويّة) أم الكرامات وخرافاتها وما أكثرهنّ اليوم لآن الخرافة مازالت مزدهرة حتى اليوم على الرغم من فضحها من كبار الكتاب ومنهم ابو العلاء المعري في رسالة الغفران. هذه المرأة ضوية يتناولها حميد بإسلوب ممتع من خلال زبد الكلام وخيره ماقل ودل، هذه المرأة تستغفل هي وزوجها الورع المزيّف جميع من في القرية التي تسكنها بحجة أنها تمتلك الكرامة في الشفاء وقراءة الكف وغيرها حتى تصبح من أثرى الأثرياء كما حال سياسونا اليوم وحيلهم في كسب المال. وفي الأخير وفي صباح ذات يوم ما من أحد يرى ضويّة، أي أنها أخذت الجمل بما حمل وتركت القرية بناسها الذين يضربون الأخماس بالأسداس دون علمٍ ولا دراية ولاتمحيص بسبب تصديقهم الأعمى للخرافة والقديسين المزيفين.

ثم (رواية القداحة الحمراء) التي تحكي عن النضال اليساري للشيوعيين والأكراد في الأهوار وفي تلك الحقبة حيث كان يحكم الطاغية بجبروته وقسوته. فتوضّح لنا هذه الرواية مامدى التضحية للمناضلين ومسيرتهم التي بقيت في الذاكرة العراقية.

وبعدها رواية (المقايضة) التي تحكي عن أرض يسكنها من يملكون الذيول في مؤخراتهم تعبيراً عن شيء يراد به التنكيل أو لغرض زرع الإستغراب في نفوس الناس. وهذه كانت في جنوب العراق تطلق على الطائفة الثانية فيقال عنهم من أنهم لديهم ذيول ويختلفون عن سائر البشر وعن الطائفة الآخرى، وهذه تقال لا لشيء سوى للتنكيل والحط من شأن الآخرين. وفي يوم حقيقي ذهب أحد الأشقياء الى المؤذن صباحا في مدينة السماوة وهو من الطائفة الأخرى التي تحتلف عن طائفة الشقي، وخلع سروال المؤذن ليرى ذيله وما من ذيل هناك. أما قصة حميد فهي إقتربت من تلك القصة القصيرة (بلد العميان) للكاتب هربرت جورج ويلز الانكليزي 1904 والتي أخذت شهرتها كقصة قصيرة بحيث يصبح العميان يرون كل العالم وكانه عبارة عن بلدهم فقط. ثم ياتي شخصا مبصرا ويرى هذه البلدة المصابة بمرض العمى فلقبوه بالأعور حتى يصبح ملكا في بلد العميان لان هناك قصور في الرؤيا الحقيقية فحتما سيتبعها قصور في التصور والمخيال والمعرفة. أو مثل تلك المدينة التي كان كل شعبها مجانين فيتطلب من الحاكم ان يكون مجنونا كي يستقر في حكمه على المجانين فيتوجب عليه أن يكون مثلهم والأّ سوف يُخلع من حكمه. فرواية الذيول لحميد الحريزي هي ساخرة ومثيرة للغاية ومختصرة إختصارا شديدا تستحق أن نطلق عليها بالرواية القصيرة جدا.

أيضا هناك رواية قصيرة جدا عنوانها (المجهول) وهي تحكي عن السجين العراقي لمدة عشرين عاما ويخرج في الانتفاضة ليرى سقوط صدام، وهكذا تدور الأحداث عن الإستغراب والدهشة وتغيير ملامح الطرقات لدى هذا السجين الذي ينتهي به الأمر دون الإستفادة من عمره وناسه وأهله وحياته بينما هو المناضل العتيد ويبقى الساقطون يلهون في الأرض فسادا ولا زالوا. وغيرها من الروايات القصيرة جدا التي سردها حميد بإسلوبه الماتع الغير ممل بل كان في أقصى إجتهاده لكي يعطي للمتلقي مفاهيمه التي يريد أن يقولها على شكل ٍرشيق ومنسرحٍ ودسمٍ في المعاني.

في الأخير أقول: أن فن التجريب لهذا النوع من الروي القصير جدا له طاقاته الهائلة في الإبداع لآنه يدخلنا في مديات التأويل على أكثر من مفصل ومفصل علاوة على التكثيف والعصارة واختزال الوصف في مجمل الروايات الاّ أن حميد ربما اشتغل على القاريء وانا قلت: هو الذي يملك التصويت الكامل إتجاه هذا النوع. القاريء هو من يعطي ويضيف ويؤول ويشرح وهذه هي العلامة البارزة في فن التجريب. يعني لو ان الروائي اختزل موضوعة الضوء في غرفة ما وفي النهار فأن القاريء عليه أن يعرف آن فتح الضوء في الليل وفي الغرفة ذاتها يختلف عنه في النهار، وفتح ستائر المنزل في النهار على الفضاء الخارجي يختلف عنه عند فتحها في الليل. وهذه يُعمل بها في أغلب الأفلام السينمائية وحسب مهمة المخرج ومعرفته بالرواية والسيناريو.

ويبقى هذا التجنيس الذي جاء به حميد ينتظر الزمن فجميع الفنون كما قلت أعلاه أخذت وقتا طويلا. وكل اكتشاف جديد سوف ياخذ مداه حتى يكون لامعا ساطعا في المدى الواسع. يعني على سبيل المثال فن السينما أول مابدأ قبل 700 عام في اوربا وهو يتمثل في كيفية تلك اللعبة للآطفال وكيف كنا نضع رؤوسنا داخل علبة صفيح مع تغطية رؤوسنا بملاءة خفيفة ومن ثم ننظر من ثقب صغير لنرى الأشخاص يتحركون على هيئة خيال أو ظل وكاننا في صالة سينما مصغرة. ثم تطورت السينما من صامتة (شارلي شابلن) الى صوتية وأصبحت بشكلها المثير للجدل وأبعادها الثلاثية وكيفية تسليط الضوء وتناغم حركة الشفاه مع الصورة. القصد من ذلك كل الفنون أخذت المديات الطويلة في الإنتشار ماعدا السيناريو فهو الوحيد الذي إنتشر بسرعة مذهلة حيث تجاوز الخمسين سنة فقط ووصل الى ماهو عليه الآن. واليوم أغلى أجر يتقاضاه هو السيناريست في بلدان الغرب وليس في بلداننا التي لاتقدّر هذا العمل البارع. فذات يوم قال المخرج الشهير (الفريد هتشكوك) حين يكتمل السيناريو هذا يعني لقد إكتمل الفلم. ومن هذا المنطلق يمكننا القول: أن حميد الحريزي إشتغل بصيغة السيناريو بإعتباره ملخصاً ومضغوطا للعمل الروائي الطويل وهذه مهمة ليست بالسهلة على الإطلاق وإنما تتطلب الذكاء والجهد والمعرفة الرصينة مثلما ذت يوم كان الممثل الراحل والشيوعي الشهير (كيرك دوغلاص) أراد كاتبا لسيناريو فيلم (سبارتكوس) وبالفعل بحث كثيرا حتى وجد السيناريست اليساري والشيوعي أيضا (دالتون ترامبو) وبفضل هذا الرجل السيناريست أصبح فلم سبارتكوس الذي تناول قضية العبيد في الإمبراطورية الرومانية هو الأجمل في القرن العشرين على الإطلاق.

وفي الأخير أقول ياترى: كم من الزمن سيتخذ هذا المنجز الجديد أوالرواية القصيرة جدا من إكتشاف البارع الروائي حميد الحريزي؟. وإذا هناك من يعترض على الإختراع الجديد فلابد من القول لشد الأزر لحميد الحريزي وفقا لماقاله (جان ككتو):

مايلومكَ الناس عليه

إعمل به ِ

فهذا هوأنت

***

هاتف بشبوش / شاعر وناقد عراقي

 

تُعد رواية “اللجنة” لصنع الله إبراهيم أحد أهم الأعمال التي كسرت القوالب التقليدية للسرد العربي الحديث. فمن خلال بنيتها التجريبية، وتحليلها العميق للسلطة والاستلاب، تقدم الرواية قراءة نقدية لأنظمة القهر السياسي والاقتصادي، مما يجعلها وثيقة أدبية تحمل بعدًا فلسفيًا يتجاوز زمنها. حيث تجاوزت القوالب التقليدية للسرد لتقدم نصًا عميقًا ومتعدد الأبعاد.

استطاع صنع الله إبراهيم أن يمزج بين السرد الفني والنقد الاجتماعي والفلسفي، مما يجعل الرواية وثيقة إنسانية تكشف عن تحولات النظام العالمي وهيمنة الرأسمالية وآليات الاستلاب.

يستنطق صنع الله واقع الهيمنة السياسية والاقتصادية عبر أسلوبه الفريد. يتعامل مع الكلمات كأدوات مواجهة ضد البنى الفوقية التي تمارس استلابها اليومي على الفرد والمجتمع.

إن نصوصه، والتي منها “اللجنة”، ليست مجرد سرديات أدبية بل مساحات للتحليل البنيوي للسلطة والهوية. تجعل القارئ أمام مرآة تعكس تناقضاته مع النظام السائد.

صنع الله، الذي ينهل من تجارب الواقعية الاشتراكية ويناهض الهياكل الاقتصادية النيوليبرالية، يقدم الأدب كفعل مقاومة لا كوسيلة ترفيه.

تُعد رواية “اللجنة” نموذجًا أدبيًا جريئًا يستنطق منظومة الاستبداد السياسي والاقتصادي.

في الرواية، يتم استدعاء البطل أمام ‘اللجنة’ ليخضع لاستجوابات غامضة حول قضايا لا تُوضح طبيعتها بالكامل. تتلاعب اللجنة بأسئلتها وتوقعاته، مما يضعه في حالة دائمة من القلق والارتباك.

هذا الغموض يعكس كيف تعمل السلطة الحديثة على تحييد الفرد وتجريده من إرادته تحت مبررات بيروقراطية لا يمكنه فهمها أو مقاومتها، والتي تتخفى خلف أقنعة البيروقراطية.

يظهر هذا بوضوح في التجربة العبثية التي يخوضها البطل مع “اللجنة”، حيث تكشف الرواية عبر سيرورتها عن كيفية استلاب الفرد من خلال الإذعان لسلطة غامضة وغير محددة، ما يجعل الإنسان خاضعًا لنظام يفرغ هويته المتجذرة من محتواها ويضعه في حالة وجودية من الانفصال عن الذات.

هذا المظهر يتقاطع مع تحليلات فوكو حول السلطة التي لا تتجلى في مؤسسات محددة فقط، بل تتخلل أنسجة المجتمع عبر خطابها وآلياتها الرمزية. “اللجنة” ليست مجرد مؤسسة، بل هي تعبير عن عقلية التحكم التي تحكم العالم الحديث، حيث تُطمس الحدود بين ما هو واقعي وما هو تمثيلي.

تعتمد الرواية على بنية سردية تتسم بالتجريبية والعبثية. يعكس هذا فلسفة عدمية مضمرة تسائل جدوى الأنظمة الوضعية في احتواء الوجود الإنساني.

يمكن قراءة ذلك من خلال عدسة التحليل البنيوي الذي يركز على كيف أن السرد ذاته يتحول إلى أداة للتشكيك في الثنائيات الكبرى.

تشبه تجربة البطل في ‘اللجنة’ ما طرحه ألبير كامو في ‘أسطورة سيزيف’، حيث يجد الإنسان نفسه في مواجهة أنظمة عبثية، لا يستطيع فهمها أو التكيف معها. البطل، رغم محاولاته للإجابة على أسئلة اللجنة أو فهم دوافعها، يبقى عالقًا في دائرة مغلقة من القهر وعدم اليقين.

هذا الانفصال عن المنطق والعدالة يعكس أزمة الوجود الإنساني في عالم تتحكم فيه قوى فوقية مجهولة، مما يثير تساؤلات حول الثنائيات الكبرى: المعرفة والجهل، الحقيقة والوهم، الفرد والجماعة.

نجد هنا صدى لأفكار رولان بارت حول “موت المؤلف”، حيث يغيب صوت الكاتب ليحل مكانه نص مفتوح للتأويل.

في “اللجنة”، يصبح البطل رمزًا لذواتنا المعذبة، العاجزة عن فهم عالمها، ما يخلق نوعًا من التوتر النفسي بين القارئ والنص.

من خلال تسليط الضوء على مركزية “اللجنة”، تُبرز الرواية نقدًا عميقًا للرأسمالية العالمية التي تحكمها “لجان” رمزية تسير الاقتصاد والسياسة في الخفاء. إن استعراض الرواية لهذه الفكرة يقترب من رؤية ماركس حول الهيمنة الطبقية، حيث تُصبح السلطة أداة لشرعنة الاستغلال الممنهج للأفراد.

يبرز صنع الله إبراهيم الصراع بين الهويات المحلية والأدوات الرأسمالية الكونية، في محاولة لاستعادة ما يسميه غرامشي بـ“الهيمنة الثقافية”.

ففي الرواية، يتم توظيف وسائل الإعلام والتعليم والبيروقراطية كوسائل لفرض هذه الهيمنة، مما يؤدي إلى إنتاج سرديات تتلاعب بالوعي الجمعي وتُعيد تشكيله وفقًا لمصالح الطبقة المسيطرة.

اختيار صنع الله للغة حادة ومتقشفة يعكس الرغبة في فضح زيف البنية الخطابية السائدة.

تتسم اللغة بالواقعية والجفاف، ما يجعلها أداة لزعزعة الاستقرار العاطفي للقارئ.

تُستخدم اللغة في الرواية بأسلوب يتجنب الوصف الزائد أو الزخرف.

فعلى سبيل المثال، وصف مشهد استدعاء البطل أمام اللجنة يأتي مباشرًا وجافًا، ما يجعل القارئ يشعر بثقل اللحظة وعدميتها.

هذه الحدة اللغوية ليست مجرد اختيار أسلوبي، بل هي أداة تُظهر الانفصال بين الفرد والمؤسسات المحيطة به ووضعه في مواجهة مباشرة مع وحشية الواقع.

يشبه ذلك استخدام كامو في “الغريب” للغة كوسيلة لتجسيد العبثية.

النصوص في “اللجنة” ليست فقط أدوات تعبير، بل هي أيضًا كيانات فلسفية تُحرض على التفكير.

الرواية تُمثل مثالًا على ما يُمكن أن نُسميه بـ“اللغة المقاومة”، تلك التي لا تخضع للقواعد المألوفة التي تهدف إلى تسكين القارئ أو جذبه، بل تصدمه وتعيد ترتيب علاقته بالعالم.

بهذا المعنى، تتجاوز الرواية حدود السرد التقليدي لتصبح نصًا فلسفيًا يطرح أسئلة حول كيفية استخدام الخطاب لتكريس الهيمنة أو لفضحها.

تتقاطع هذه الفكرة مع رؤى جاك دريدا حول التفكيك؛ حيث اللغة ليست ثابتة ولا بريئة، بل هي وسيط يتلاعب بالمعاني وينزعها من يقينيتها.

بهذا، تتحول “اللجنة” إلى مختبر تفكيكي يُظهر هشاشة الأنظمة السياسية والثقافية، ويُعيد للقارئ دور المُفكر والمُفسر بدلًا من كونه مستهلكًا للنص.

“اللجنة” ليست مجرد نص أدبي، بل هي نص فلسفي متعدد الطبقات يحاكم السلطة وهيمنتها على الأفراد في عالم يعج بالسرديات المتجذرة في أنظمة الاستلاب والقهر.

إن الرواية، عبر بنائها المعماري المعقد ولغتها المتقشفة والعبثية، تدفع القارئ إلى إعادة التفكير في موقعه كفرد ضمن منظومة أوسع تحاول استلابه من ذاته.

في هذه الرواية، يكشف صنع الله إبراهيم كيف يمكن للسردية الأدبية أن تكون مرآة فلسفية تجسد قضايا الإنسان الحديث: قضايا الهوية، والاغتراب، والاستلاب في مواجهة هيمنة الرأسمالية العالمية وآلياتها الخفية.

إن “اللجنة” تُعيد طرح تساؤلات وجودية كبرى عن موقع الفرد بين القوى الأكبر التي تتحكم بمصيره، مما يجعلها نصًا يتجاوز أبعاده السردية ليصبح فعلًا فكريًا ومقاومًا في آنٍ واحد.

لا يمكن قراءة الرواية دون التفكير في تأثيرها البعيد على وعي القارئ.

فهي تقدم نقدًا عميقًا للأنظمة القمعية، بطريقة تجعل القارئ متورطًا عاطفيًا وفكريًا.

كما أن تجربة البطل في مواجهة اللجنة تُذكرنا بتحليل أدورنو وهوركهايمر عن “جدل التنوير”، حيث تصبح الأدوات التي يفترض أن تحرر الإنسان هي ذاتها التي تقيده وتخضعه.

صنع الله إبراهيم يدعو القارئ، بشكل غير مباشر، إلى المقاومة الفكرية لتلك السرديات الهيمنية، وإلى التفاعل معها بتساؤل دائم.

ختامًا، يمكننا القول إن “اللجنة” ليست مجرد عمل أدبي، بل هي وثيقة إنسانية تحمل في طياتها رؤية فلسفية عميقة لنظام الهيمنة العالمية.

بهذا المعنى، تقف ‘اللجنة’ في مصاف الروايات العالمية الكبرى التي تناقش قضايا الإنسان المعاصر مثل ‘1984’ لجورج أورويل و’محاكمة’ كافكا.

إنها ليست مجرد انعكاس للواقع العربي، بل هي أيضًا صرخة إنسانية ضد كل أشكال القهر والاغتراب التي يعاني منها الفرد في مواجهة أنظمة تسعى لتفريغه من جوهره.

بمهارة نادرة، يجعل صنع الله من السردية وسيلة لتفكيك الخطابات السلطوية وكشف تناقضاتها، ليبقى النص شاهدًا حيًا على قدرة الأدب على الوقوف في وجه التسلط، والتحريض على استعادة الإنسان لإنسانيته المسلوبة.

***

إبراهيم برسي

 

في نص (هوية حلم) الشاعرة فاطمة عبد الله

تتميز قصيدة "هوية حلم" للشاعرة الدكتورة فاطمة عبد الله بعمقها الدلالي وجمالياتها اللغوية، إذ تطرح رؤية عميقة حول معاني الهوية والوجود من خلال مرآة الأحلام.

يُمكن اعتبار هذه القصيدة رحلة استكشافية داخل الذات الإنسانية، حيث تلتقي الأفكار والمشاعر والأمنيات.

بداية: عنوان النص مثير، ونادر وجوده أو لفظه بين العامة. فهل هناك هوية للحلم؟

العنوان " هوية الحلم "

""هوية الحلم" هو عنوان يحمل دلالات عميقة تشير إلى الانتماء والتعريف بالذات من خلال الحلم.

يتضمن مفهوم الهوية عناصر متعددة: الفردية، الطموح، الألم، والبحث عن المعنى.

فالأحلام ليست مجرد رؤى ليلية، بل هي تجليات لرغباتنا وآمالنا، وتعبير عن واقعنا الداخلي.

الارتباط العنوان بالنص:

في النص الذي كتبته الشاعرة فاطمة عبد الله دل، تظهر هذه الهوية في مجموعة من الصور الشعرية التي تعكس الصراع بين الحلم والواقع.

حلم الشاعرة، الذي يتجسد في "حلم البنفسج"، هو رمز للأمل والجمال الذي تضرع للسماء، ولكنه يواجه واقع "سحيق الشقاء" و"حكاية الخواء".

هنا نجد التضاد بين ما يمثله الحلم من نور وأمل، وما يعبر عنه الواقع من ألم ومرارة.

إن الشاعرة ترسم صورة للانتظار العبثي ومحاولة التكيف مع الألم العميق الذي يكتنف الهوية.

فهي تشبّه نفسها بــ"سيزيف" الذي يحمل صخرة بلا نهاية، مما يعكس شعوراً بالعجز والإحباط. الهوية هنا ليست فقط مرتبطة بالحلم بل أيضاً بالمعاناة وفقدان الأمل.

الإشارة إلى الهوية في النص .

تتجلى "هوية الحلم" في مواقف الشاعرة من الحياة، حيث تذكر كيف أن أملها يتآكل بين صراعات الوجود.

تمثلت الهوية في شموليتها، فهي الهوية الناتجة من التراب، من "لون واسم وعمر وقدر".

هذا المعنى يشير إلى تجربة شخصية ربما تعكس تجارب جماعية، مما يجعل من الحلم هوية ليست فردية فقط، بل تمتد لتشمل معاناة مجتمعات كاملة.

باختصار، عنوان "هوية الحلم" يبرز الصراع الدائم بين الطموح والواقع، ويجسد معاناة الأفراد على صعيد البحث عن الذات وتعريفها في عالم مليء بالتحديات.

تظل الهوية في حالة تشكل دائم بين الفرح والألم، وفي النهاية، تصبح الأحلام هي ما يحدد هذا الواقع المتجذر في الذاكرة والوجود.

نهاية تأويل الحلم ...

البنية اللغوية والبلاغة:

تستثمر الشاعرة بلاغة اللغة العربية بذكاء شديد، فتستخدم الاستعارات والتشبيهات لتثري معاني النص وتفتح آفاقاً جديدة للتأويل.

فمثلاً، قد نجدها تصف الحلم ككائن حي يختزل فيه كل الأماني والطموحات المعلقة في الفضاء، مما يمنح القارئ إحساساً بالمدى الذي يمكن أن تصل إليه هذا الحلم، بل ويجعل منه شخصية فاعلة في القصيدة.

التيمة الأساسية:

تدور التيمة الأساسية حول مفهوم الهوية، تلك الفكرة المعقدة التي ترتبط بالجذور والانتماءات والأحلام.

في "هوية حلم"، تبرز الصراعات الداخلية للإنسان بين واقعه وهويته المنشودة.

تتجلى هذه التيمة في استخدام الشاعرة للألفاظ المتناقضة، مما يعكس التوتر بين السعي نحو تحقيق الهوية المثلى والواقع المرير الذي يعيش فيه الفرد.

العمق النفسي:

يتضمن النص عمقاً نفسياً واضحاً، حيث تعبر الشاعرة عن مشاعر الحيرة والقلق التي تصاحب محاولات اكتشاف الذات.

يمكننا أن نعتبر الحلم هنا وسيطاً يُفضي إلى إدراك الهوية الحقيقية، مما يمنح القارئ شعوراً بالتعاطف مع شغف البحث عن الذات.

التوظيف الرمزي:

تظهر الرمزية في اختيار الصور الشعرية، فكل صورة تحمل في طياتها معاني متعددة قد تُفهم في سياقات مختلفة، مما يُغني تجربة القراءة ويفتح أمام القارئ فرصاً للاكتشاف الشخصي.

هذا الاستخدام الرمزي يعكس قدرة الشاعرة على نقل الأفكار المعقدة بأسلوب جمالي يُشعرنا بحضور الأحلام كجزء لا يتجزأ من الهوية الإنسانية.

التوظيف الزمني والمكاني:

تمتاز القصيدة بتوظيف الزمان والمكان بشكل يعكس الحالة النفسية للشاعرة.

فالزمان يتأرجح بين الماضي والمستقبل، بينما المكان يتمثل في فضاءات مفتوحة تعكس حرية الأحلام، لكن سرعان ما تعود للوقوف عند حدود الواقع المؤلم.

الخاتمة:

إن قصيدة "هوية حلم" للدكتورة فاطمة عبد الله ليست مجرد نص شعري عابر، بل هي تجسيد للتجربة الإنسانية مليئة بالحلم والبحث، حيث تعلو الأصوات وتختلط الأسئلة.

تستحق هذه القصيدة قراءات متعددة وموضوعات نقاش، فهي تعكس تناقضات الهوية وتنوع التجربة الإنسانية ببلاغة وإتقان، مما يجعلها ضمن الأعمال الشعرية المتميزة في الأدب العربي المعاصر.

أخيرًا، قصيدة ما زالت تتسع للنقد والتأويل، استثمار رائع وكبير للجمال اللغوي.

أطيب التمنيات للشاعرة العميقة

***

محمد خالد النبالي - عمان / الأردن

.........................

هُوِيَّةُ حُلْم

حُلْمٌ تَسَلَّلَ في الفَجْرِ

عَلَى أَجْنِحَةِ النُّورِ

تَوَشَّحَ بِنَمَشِ الفَرَاشَاتِ

وَتَعَرَّشَ عَلَى ضَفَائِرِ الأَمَلِ

تَضَرَّعَ لِلسَّمَاءِ بِأَكُفِّ المُنَى

كَسُنُونُوَةٍ هَائِمَةٍ بِالدِّفْءِ

*

إِنَّهُ حُلْمُ البَنَفْسَجِ

سَقَطَ بِغَيْرِ عَمْدٍ فِي سَحِيقِ الشَّقَاءِ

بَاتَ حِكَايَةَ الخَوَاءِ

وَشُحُوبَ رَبِيعٍ وَالهَبَاءِ

هُنَاكَ، فَوْقَ الأَرْصِفَةِ البَارِدَةِ

أَمُوتُ وَأَحْيَا وَأَتَجَرَّعُ السَّقَمَ

أَنَا المُجَرْجِرُ فَوْقَ نِصَالِ الأَلَمِ

سِيزِيفُ أَنَا

*

يَغْشَى الضَّبَابُ انْتِظَارِي العَبَثِيَّ

مِثْلَ انْتِظَارِ غُودُو

كَبَحَّارٍ مَهْزُومٍ أَعُودُ بِمِلْحِ الخَسَارَاتِ

وَالمَخْدُوعِ بِغِنَاءِ السِّيرِينَاتِ

وَكُلُّ شَيْءٍ بَيْنَ أَضْوَاءِ المُدُنِ الكَبِيرَةِ

يَغْدُو كِذْبَةَ نَيْسَانَ

وَيَحْتَرِقُ حَطَبُ القَلْبِ فِي هَسِيسِ لَيْلٍ

وَيَبْقَى رَمَادُ الانْكِسَارِ

*

يَنْحَبُ القَصَبُ

يَبْكِي الصَّفْصَافُ

جُرْحًا لَا يَبْرَأُ

وَوَجَعًا لَا يَهْدَأُ

وَصَدْعًا لَا يَأْرِبُ

*

أَنَا القَادِمُ مِنَ التُّرَابِ

بِلَوْنٍ وَاسْمٍ وَعُمْرٍ وَقَدَرٍ

وَالحُلْمُ هُوِيَّتُهُ السَّرَابُ

***

فاطمة عبد الله

 

هذه هي مشاعري - إلِيزَا مَاشِيَا – ايطاليا

في لحظة ما من الطريق

أدركت أنك إلى جانبي

ربما أُرسلت لتكون عوني

تحت السماء المضيئة، وجسدي المتعب

*

قدمت لي رشفة من إكسير الحب

وكان حديثك صريحًا منذ اللحظة الأولى

وكما في الأزمنة البعيدة، قبَّلت ظهر

يدي، ومنذ تلك اللحظة، فُتح لك قلبي.

*

ما أشعر به هو انعكاسك

أفكاري منذ البداية كانت تنبض معك

وفي عينيك أرى جوهري الحقيقي

*

أرى نفسك في قالبك الحقيقي

الذي يتجدد كل يوم كهدية

حتى وإن لم تكن الحضور مضمونة.

***

إلِيزَا مَاشِيَا – ايطاليا.

القراءة النقدية:

القصيدة التي بين أيدينا، /هذه هي مشاعري/ للشاعرة الإيطالية إلِيزَا مَاشِيَا، هي قصيدة تتميز بالشفافية العاطفية وتقديم تجربة شعورية إنسانية مليئة بالتفاصيل الدقيقة التي تبرز تفاعلات النفس البشرية في سياق علاقة حب أو تواصل عاطفي عميق.

الأسلوب الأدبي:

الرمزية والتشابيه: الشاعرة تستخدم الرمزية بشكل لافت، حيث تقدم المشاعر والأفكار بصورة تتجاوز الواقع الحسي إلى عالم أعمق يعكس الصراع الداخلي والتساؤلات الوجودية. مثلًا، حين تقول: /قدمت لي رشفة من إكسير الحب/, فإن هذه الصورة تمثل العاطفة كعلاج أو إكسير يحيي الروح. هذه الصورة تجعل من الحب فكرة سامية ومنقذة.

التكرار: في القصيدة نجد التكرار الذي يعزز الفكرة المركزية. مثلًا، /منذ اللحظة الأولى/، /منذ تلك اللحظة/، وهو تكرار يعبر عن التأكيد على اللحظة الفاصلة التي تغيرت فيها العلاقة بين الشاعرة والمحبوب. هذا التكرار يساهم في إبراز التحول العاطفي الذي مرّت به الشاعرة.

الزمن والمكان: هناك تداخل بين الزمن والمكان في القصيدة، وهو ما يعكس مشاعر الشاعرة. على سبيل المثال، في سطر /في لحظة ما من الطريق/, نجد أن الشاعرة تستخدم الزمن بطريقة غير دقيقة، ربما تقصد به لحظة من الوعي أو الإدراك، لا لحظة مادية. أما المكان فهو يتنقل بين السماء المضيئة والطريق والجسد المتعب، مما يعكس الحركية والتغير المستمر في الحالة العاطفية.

اللغة العاطفية والشفافية: اللغة هنا شفافة تمامًا وتحرص على نقل الأحاسيس الداخلية للشاعرة بشكل مباشر، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه جزء من التجربة نفسها. العاطفة تترجم بتفاصيل دقيقة، مثل قبلة على ظهر اليد التي تفتح الباب للقلوب والمشاعر.

الدلالات العاطفية والوجدانية:

الإدراك المتأخر والتواصل: تشير الشاعرة في بداية القصيدة إلى لحظة إدراك مفاجئة: /أدركت أنك إلى جانبي/. هذا الإحساس بالوجود المفاجئ للشخص الآخر يعكس أهمية اللقاء واللقاء العاطفي الذي يحدث في وقت غير متوقع ولكن له أثر عميق.

الحب كإكسير: من خلال جملة /رشفة من إكسير الحب/, تجعل الشاعرة من الحب مصدرًا للحياة. هذا الحب لا يقتصر على العاطفة البسيطة بل يُعتبر قوة تجدد الحياة، مما يبرز فكرة أنّ الحب هو العنصر الذي يحيي الروح ويمنح الشخص قوّة داخلية.

انعكاس الذات: في السطور التالية، تعبر الشاعرة عن فكرة غاية في التأمل، حيث تقول: /ما أشعر به هو انعكاسك/. وهنا تكمن فكرة أن المحبوب ليس مجرد شخص آخر، بل هو مرآة للشاعرة نفسها، تعكس مشاعرها وأفكارها. العيون، في هذا السياق، تصبح وسيلة لرؤية الذات بوضوح أكثر.

التجدد في الحب: تشير الشاعرة إلى أن الحب والمشاعر في العلاقة ليست ثابتة، بل هي كهدية تتجدد كل يوم، مما يعكس فكرة الديناميكية والتغير المستمر في الحب.

البنية الشعرية:

البنية الشعرية للقصيدة تقليدية إلى حد ما من حيث استخدام الأسطر الشعرية المتوازية، مما يجعل القصيدة سريعة القراءة وواضحة في إيصال مشاعرها. الأبيات تتسم بالبساطة والوضوح، مما يجعل الرسالة الشعورية تصل مباشرة إلى القارئ دون تعقيد.

الخلاصة:

القصيدة /هذه هي مشاعري/ هي تعبير شعري عن تفاعلات داخلية معقدة في علاقة عاطفية. الشاعرة تستخدم الأسلوب الرمزي والعاطفي لتعرض تجربتها في الحب والتواصل مع الآخر. استخدام الصور الشعرية واللغة الشفافة يعزز من قوة المشاعر التي تعبر عنها، مما يجعلها قصيدة مثيرة للتأمل وتحفز القارئ على التفكير في معنى الحب والعلاقات الإنسانية.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

 

الأسلوب السردي والتعبيري: القصيدة تتبنى أسلوبًا سرديًا مفعمًا بالمشاعر، يركز على تصوير الحالة العاطفية والوجدانية للشاعر. تبدأ بتعريف /دفء ديسمبر/ كفصل يتسم بالحنين والحب، حيث يصور الشاعر مشاعر العشاق والمشاهد المتعلقة بالحياة واللقاء. الأسلوب التعبيري المستخدم يكشف عن مشاعر مرهفة، ما يجعل القارئ يشعر بالدفء والحميمية رغم البرد الرمزي لفصل ديسمبر.

الصور الشعرية والرمزية:

القصيدة غنية بالصور الشعرية التي تحاكي جوهر الحب والشوق. /تشتعل بجمر الحب/ و/مواقد العشق لا تنطفئ/ هي صور تدل على قوة المشاعر التي لا تنطفئ مهما مر الزمان. /جيوب الشعراء لا تخاف الفراغ/ تعكس الإبداع المستمر الذي لا ينضب في قلب الشاعر. كما أن /خلف المعاطف أسرار تبحث عن مأوى/ تضفي غموضًا حول علاقات العشاق أو مشاعرهم الدفينة.

التقنيات البلاغية:

يلاحظ استخدام الاستعارة والتشبيه بشكل لافت، حيث يتم تجسيد المشاعر إلى أشياء ملموسة مثل /كؤوس الخيال/ و/نبيذًا محلى بريقها الظمآن/، مما يعزز الارتباط بين الخيال والمشاعر الإنسانية. كما أن الشاعر يوظف التكرار في صور الحب والشوق لتأكيد استمراريته، مثل "المواقد لا تنطفئ".

التناص الثقافي:

هناك تداخل في القصيدة مع الثقافة العربية والعراقية، خاصة مع ذكر /دجلة/ و/بغداد/، حيث ترتبط هذه الأماكن بمشاعر الحنين والتاريخ. بغداد ليست مجرد مدينة في القصيدة، بل هي رمز للحب والجمال والأصالة، حيث يُعلن الشاعر أنها /أجمل من كل حبيبة/، مما يعزز البُعد العاطفي والجمالي للمكان.

الإيقاع والموسيقى:

الإيقاع الموسيقي في القصيدة سلس ومتناغم، حيث تساهم الصور الموحية والمتشابكة في خلق تدفق متوازن يعكس التفاعلات العاطفية في الذهن. رغم أن القصيدة ليست طويلة، إلا أن لحن الكلمات المتكررة مثل /دفء/ و/الشوق/ يعطيها موسيقى خاصة تجعلها تنساب برفق عبر ذهن القارئ.

الخلاصة:

القصيدة تعكس حالة من الرومانسية العميقة التي يغذيها الأمل والشوق، مستخدمة أسلوبًا سرديًا مليئًا بالصور الشعرية والرمزية التي تعكس التجربة العاطفية للشاعر. بالربط بين الحب والمكان والتاريخ، يقدم الشاعر صورة شاعرية لبغداد وأجواء ديسمبر الباردة، مؤكدًا على أن الحب قادر على إضاءة الظلام وجعل الروح تشعر بالدفء رغم التحديات.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

............................

دفءُ ديسمبر

دافئة أرواح العشاق؛ تشتعل بجمر الحب، تقلب صفائح من لهب الشوق فمواقد العشق لا تنطفئ، خلف المعاطف أسرار تبحث عن مأوى، مشاعر تفتش عن شاطئ لترسو، جيوب الشعراء لا تخاف الفراغ فهي ممتلئة بنشوة اللقاء! على منضدة البوح تنسدلُ خيوط شعرها الذهبي؛ لأشرب كؤوس الخيال نبيذًا محلى بريقها الظمآن، في ديسمبر ظلت روحي تعانق دجلة تطوف حول صوبي المدينة، فبغدادُ أجمل من كل حبيبة.

***

علاء الدليمي - العراق

 

رُؤىً احتجَاجِيَّةٌ في مُدوَّنةِ (عَلَى أكتافِ يَومٍ تَمُّوزيٍّ)

يرى الكاتب والأديب والشَّاعر والناقد الإنكَليزي المفكِّر (ماثيو أرنولد) ، إحدى شخصيات العصر الفيكتوري الإبداعية المهمَّة أنَّ الشعر، هو (نقدٌ للحياةِ) . أي أنَّه مِرآةٌ صوريَّةٌ ناطقةٌ عن تجلِّيات الحياة بشتَّى ضروبها (السلبيَّة والإيجابية) ؛ لذلك فإنَّ الاعتقاد اليقيني بأهمية الشعر ومدى خطورة فتوحاته الفكريَّة والإنسانيَّة في كشف الواقع (المَا حَولَ) ، كانت أولى مناط اهتمامه في بوتقة إنتاجه الفكري والأدبي مقدِّمَاً إيَّاهُ على كلِّ نتاجاته الإبداعية النقدية والفلسفيَّة والتعليميَّة الأُخرى في هذه التعدُّدية التي شكَّلت باكورة بُناةِ أفكاره الرئيسة في تخليق فنيَّة إنتاجه المُترَاتب عِلمَّاً وعَملاً وفلسفةً.

فإذا الشعر لم يكن مِهمَازاً تنبيهياً مُوقِظَاً، ولم ينتقد منظومة القيم والمعايير الحياتية (الاجتماعية والسياسيَّة والاقتصاديَّة والفكريَّة الفلسفيَّة) السائدة. ويُظهِرُ في الوقت نفسه الحقائق الخفيَّة وعللَ التمظهُرات الإنسانية ومواطن القُبح والجمال المَسكوت عنها، والتي تؤثِّر على المشاعر الإنسانية والتفكير الإنساني وتؤدِّي إلى التغيير والتحسين الإيجابي، لم يكُنْ في الحقيقة شعراً صادقاً ومهمَّاً ومؤثِّراً بالمعنى التأصيلي؛ كونه شعراً لا يحتوي على عمقٍ فنِّيٍّ أوجماليٍّ ينتقد أنساق الظلم والجَور وفروضَ الحيفِ والاستبداد التي يُمارسها الساسة والطًّغاة. ولا يدعو البِتَّةً إلى عقيدة التحرُّر الفكري التوحيدي المجتمعي، ويظهر الحقيقة الإنسانية على شاكلتها الطبيعية دون زيفٍ أو مُرَاءَاتٍ خادعةٍ.

هذا التمايز الفكري المتفرِّد الرؤيوي على مستوى الشعر هو ما كان يعتقده أرنولد حقيقةً ثابتةً في رسالة الشعر الجيِّد الصادق المؤثِّر مثلما يعتقده غيرهُ الآخرونَ من شعراء التحرير والرفض الاحتجاجي في دنيا المَعمورة من أجل تطوير الثقافة والفنون وتعزيز الفكر وسيادة الحُريَّة والعدالة وتحسين واقع المجتمع، والنهوض به فكرياً وعلمياً وعملياً باستمرار لمواجهة الصِّعاب والتَّحديات.

إنَّ العلاقة بين الواقع الحياتي الدِّيستوبي والشعر الاحتجاجي تمثِّل ماهيتها عَلاقةَ مفاهيم تكامليةٍ متصلةٍ بعضها ببعضٍ اتِّصالاً وثيقاً ومُرتبطاً بـ (الشعر والأدب والفكر والسياسة) على حدٍّ سواءٍ، ولا يمكنُ الفكاك عن بعضها. وذلك كون الواقع الديستوبي القائم يُشير حدُّهُ التعريفي الظاهر إلى أنَّه مصطلح فكريٌّ يصف مجتمعاً إنسانياً واقعياً قريباً أو مخياليَّاً بعيداً يعاني من عدة ارتكاساتٍ وانكساراتٍ نكوصيةٍ وخيباتِ وجعٍ كبيرةٍ ومؤلمةٍ فرضت نفسها علية بشكل مقصود وبفعل فاعلٍ.

ويشكو في الوقت نفسه ظروفاً سيِّئةً مريرةً لا تنقطع؛ نتيجةَ تأثير السياسات الحكومية الهوجاء للأنظمة الاستبدادية الحاكمة الفاسدة، ونتيجةَ إثرَ عوامل الاضطهاد الجمَّة والتمييز والقهر وانعدام الحريات أو نقصها، وكثرة الأمراض الاجتماعية والسياسية، وتفشي ظواهر الفقر والفاقة. ونتيجةً أيضاً لظهور بعض المظاهر التواصلية والأساليب السياسية والتكنلوجية الوهميَّة الحديثة الخدَّاعة.

لهذه الأسباب الحقيقية الجمَّة وغيرها من المُسبِّبات الفعليَّة الراهنة ظهرت الحاجة الذاتية إلى قيام الشعر الاحتجاجي الذي يُعدُّ ظاهرةً ثقافيةً من ظواهر الشعر الانتقادي الثائر، ولوناً نسقياً ثقافياً رفضياً حداثوياً من أنساق النقد الثقافي المُعصرن الذي يُضِيءُ فيه الشاعر الحاذق بشعره التخليقي مناطق الحياة المضمرة والظاهرة المعتمة؛ كونه يدعو إلى ضَفافِ التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الفكري من خلال وسائل التعبير الشعوري الذاتي الجمعي بأدواته، الغضب والاحتجاج الرفضي للفساد والظلم والاضطهاد، والدفاع عن حقوق الإنسان وحريته وكرامته المهدورة.

هذه الأسباب والمؤثِّرات مجتمعةً هي التي تظهر حجم العَلاقة المَتينة بين الواقع الديستوبي والشعر الاحتجاجي. وتوضِّح البَونَ المَسافِي الشَّاسعَ بينَ الشَاعر الثائر والواقع الحياتي المتأزِّم المَائر الذي يُشكِّلُ (رؤىً اشعريَّةً) فيها التي تُمثِّلُ المُعادل الموضوعي لخطٍّ هذه العَلاقة الجدلية الثنائية المُتضادة.

ومثل هذا الشعر الاحتجاجي نجد له في مجتمعنا العربي حضوراً كبيراً مائزاً في أشعار كلٍّ من محمود درويش وعبد الوهاب البياتي ونزار قباني وأحمد شوقي وجبران خليل جبران وأحمد مطر. ومن الأجانب نجده ماثلاً عند بابلو نيرودا، ودان براون، وألبير كامو وغيرهم من شعراء الرفض.

لم تَكُنْ اللُّغةُ الشِّعريَّةُ وحدَها كافيةً لتعميد العمل الشعري الإبداعي بماء النجاح والتفوّق وتنقيته وتطهيره من لَممِ الشَّوائبِ التي تكدِّر صفوه ما لم تكن هناك مجموعة من التحشيدات والاصطفافات والتفرُّدات النوعيَّة لمزايا من التَّقنيات الفنيَّة والجمالية الأخرى التي تتعاضد وتتساند بنائياً؛ لتؤدِّي دوراً مهمَّاً وتمايزاً نوعيَّاً في تكامل العمل الأدبي ونضوجه فنيَّاً في آليات القراءة والتلقِّي المعرفي.

اللُّغةُ هذا الوعاءُ اللُّغويُّ والفكري المعرفي البوتقي المُحلِّق في سماء التجنيس الإبداعي، والذي هو أحد مظاهر الوعي الشعري الراسخ في صنع وتخليق القيم الفنيَّة والجماليَّة الإبداعيَّة الخاصَّة بالشاعر، هو ما يُميِّز إمكانات وقدرة الشاعر العراقي المعاصر (جَنان السَّعدي) في تأثيث بُنيَانِ عمارة مخطوطته الفِكريَّة وهندسة مجموعته الشعرية الموسومة بـ (نَعشٌ عَلَى أكتافِ يومٍ تَموزيِّ) .

تِلكَ العلامةُ أو النقطة الضوئية اللَّافتة الأثر في تبويب عتبتها العنوانية (ثريا النصِّ) وتأثيثها بهالةِ حسَّاساتٍ بَرَقِيَّةٍ من مجسَّات الإثارة الصادمة والتأمُّل والتفكُّر المعنوي بقيمة الأثر الإبداعي. والِّتي تُحيل القارئ النابه والمتلقِّي في مُوازاتها النصيَّة، وفي ثَراء لغتها ومعانيها الدلالية القريبة منها والبعيدة إلى أجواء ومُناخات الخطاب الشعري وتقفِّي آثار ولُقَى أقانيم متنه وعوالمه الداخلية المحتدمة بؤرته بالتناقضات الواقعية والصراعات الموضوعيَّة والحمولات الفكرية العديدة الراهنة.

إنَّ قراءةً تأمُّليَّةً لِلَافتةِ عتبةِ العِنوانِ الرئيسةِ (نَعشٌ عَلَى أكتافِ يَومٍ تَمُّوزيّ) تُشير إلى أِنَّه يجمع بين الواقعية والرمزية والأسطوريَّة بكلِّ مَفاصلها وتَداعياتها المُثيرة. فَمُفردة مَثلُ لفظة (النَّعش) الواقعيَّة القريبة من حياة الناس اليوميَّة تُعطيكَ في التَّفكيك اللُّغوي لِشفراتِ هذه العَتبة أكثر من دلالةٍ رمزيَّةٍ ومَعنىً شِعريّ واقعي وتَاريخيّ وأسطوريّ.

فالنعشُ يرمزُ إلى دالةِ المَوت والحزن على تضحيات الناس والشهداء الثوار من أبناء البلد، ويعبِّر عن العزيمة والإصرار وتأكيد روح التحدِّي. أمَّا حَمْلُهُ على الأكتاف فَيَرمزُ إلى عزم أبناء الشعب على مواجهة مخاطر العقابيل والمصاعب المُحدِقة بهم. فضلاً عن أنَّه يرمز إلى الفخر والاعتزاز؛ كونه حصاداً مَحمولاً على الأكتاف في يوم تَمُّوزي خالدٍ عظيمٍ. ذلك اليوم التاريخي الذي فجَّرَ فيه الشعب العراقيُّ ثورته التحرُّرية واستقلاله الذاتي من المَلكيَّة ومن ربيبها الاستعمار الغربي في حُلَّةٍ ثوريةٍ جديدةٍ تمثِّل بداية الخلاص والتلاشي لِمُهيمناتِ الظلم والفساد التي تحفُّ به.

ومن حقِّ الشاعر جَنان السَّعدي أنْ يفتخر بهذا اليوم التُّمُّوزيّ الثائر في عنونته الرئيسة المتحوِّلة أصلاً من عتبة نصٍّ فرعيٍّ داخلي جُزئي. وإنَّ مصدر هذا الفخر التَّمُّوزي ومرجعياته الثقافية؛ كونه يرمز لإلهِ الجنس والخِصب والنماء والربيع وإله (الحياةِ والموتِ) في الأساطير السومريَّة والأكاديَّة والبابليَّة. وقِصَّة تَمُّوز أو (دُمُوزُّي) مع آلهة الحبِّ (عِشتار) معروفة في الأساطير البابلية القديمة.

وعلى وفق ذلك التفكيك اللُّغويّ لدلالات الشفرة العنوانية، فإنَّ الرمز الثقافي لها يمثَّلُ رمزاً للثورة الجديدة والتحوِّل، وللخِصب والتَّكاثر والنماء والحبِّ والجمال، وفي الوقت ذاته يعتبرُ أكثر عمقاً وبلاغةً؛ بسبب تعبيراته الشعريَّة والبلاغيَّة القويَّة، وتأثيراته النفسية التراثية التاريخية الحديثة.

فهذه المجموعة الشعرية التي اشتملت على أربعين نصَّاً شعريَّاً على الرغم من كونها تزخر بشعرية الرفض ومعاني الاحتجاج والمواجهة والتحدِّي، فإنَّها في الوقت ذاته تحوي على عدَّةِ قصائد تضمَّنت معاني الحبَّ والغزل الجمالي الرُّوحي والحسِّي الشفيف معاً. فضلاً عن قصائد أخرى في أغراض الفخر والمديح والثناء والرثاء لوحدة موضوعات كبيرة من الوقائع والأحداث التاريخية والرمزية والدينية المهمَّة التي مَنحتِ الخطابَ هالةً من جماليات السُّمو والرقي الإبداعي.

إنَّ ما يعزِّزُ شعرية الاحتجاج ويُكرِّس ديمومة لُغة الرفض الديستوبي لمناهضة الفساد الواقعي في خلطة هذه المجموعة الشعرية البركانية الواثبة التي تحمل نعشها الرمزي (التابوتي) على أكتافها جمراً مُميتاً قاتلاً، مُرحِّبَاً بقدوم الموت إيثاراً للتضحية من أجل حياةٍ حرةٍ عزيزة تُسرُّ فرح الصديق وتغيظ قلب العِدى. تِلكَ الصَّرخةُ الإنسانيَّة المُتعالية التي وجَّهها الشاعر في مُستهلِ تصديره الإهدائي إلى الغيارى من الأحرار والشرفاء من أبناء الشعب الأُباةِ والحُمّاةِ وَبُنَاةِ الأرض الحقيقيين الأصلاء حينَ قال: (إلَى بُنَاةِ الأرضِ وَحُماتِهَا... إلَى أسيادِ أنفُسِهُم ... إلَى الغَيارَى) .964 jabar

وبالرغم من تلك الروح الثوريَّة المُهتاجة والاحتقان الوطني الذاتي الذي يؤرِّق مشاعر السعدي ويحفر نُدُوباً وأخاديدَ شقيَّةَ في قلبه الدامي جروحاً، فإنَّ الشاعر بَدَأ أولى بواكير قصائده الشعرية في هذه المدوَّنة بقصيدة غزلٍ ذاتيٍّ شفيفٍ يُخفِّف فيها من وقع شدَّة الغيظ والاحتقان النفسي والشعور بمرارة الخَيبة والنكوص والفشل في محاولةٍ منه؛ وذلك تحبيباً وترغياً لذائقة متلقيه في فتح شهيته القرائية للتواصل معه بنصوص هذه المجموعة التي سَتمضي كما مضت السنونُ الخمسون من العمر سريعاً، مانحةً ذلك الشَّيب الرجولي الخضيب وسامةً وإجلالاً ومهابةً ووقاراً:

مَنْ مَنحَ الشَّيبَ الوَسامَةَ

خَمسونَ مَرَّتْ

يَغرُسْنَ أقمَارَاً فِي الوَجنَاتِ

وَفِي الصَّدرِ يَعصُرْنَ شَهدَاً فِي العَناقيدِ الزَاهيَةِ

ومن خلال هذه القيم البنيوية الوطنية والثوريَّة والجماليَّة التي احتشدت بها مضامين هذه الخطاطة التدوينية، نرى بحياديةٍ موضوعيةٍ وصدقٍ أنَّ مجموعة جَنان السعدي (نعشٌ على أكتافِ يومٍ تَمُّوزيٍّ) على الرغم من بساطة لغتها التعبيرية ووضوح انزياحات أُسلوبيتها الصورية، فّإنَّها تحقِّق في مركزيَّة اشتغالاتها النقديَّة معايير وآليَّات وقواعد فنِّ الشعريَّة بشكلٍّ مُتقنٍّ ومُتمايزللقارئ.

وتُظهِرُ في الوقتِ نفسِهِ مقدرةَ الشاعر السَّعدي الشِّعريَّة وموهبته الإبداعية الكبيرة في فهمه لتجلِّيات الواقع الحياتي وتماهيه مع تمظهراته الحركية الإنسانية الدائبة؛ وذلك من خلال أُسلوبه الشعري المُتعدِّد الألوان والاتِّجاهات والتَّقانات الفنيَّة التي ترجمها في معجمه الشعري إلى أفعال حقيقيةٍ مُكتنزةٍ بالألفاظ والمفردات الثَّرة. ومن ثُمَّ تحويلها إلى قصائد صوريةٍ تضجُّ بسهامها النُّباليةِ ومقصدياتها الانتقادية الواضحة في رصد رهان الواقع وتحدياته المصيرية التي عبَّرت عنها لغته.

ومن يقراً قصائد هذه المجموعة بتامُّلٍ، ويفكِّكُ شفرات معانيها الدلالية بوعيٍّ وحسٍّ نقديٍّ متأنٍّ، سيلحظ بوضوح أنَّ الشاعر في إنتاجه الفكري من الشعر لا يقفُ على مسافةٍ واحدةٍ في موضوعة أو خصيصةٍ مُعيَّنةٍ ما، بل على الخلاف من ذلك فقد كان التنوُّع الفكري لوحدة الموضوع سبيله الضارب في تدشين مُحتوياتها بأكثر من قضيةٍ أو غرضٍ شعريٍّ يَفرضُ نفسه على فضاء خطابه.

ونفهم من خلال هذه التعدِّدية والثراء التنوُّعي الموضوعي أنَّ أسلوبية الشاعر وقاموسه الشعري اللُّغوي تنوَّعت مضامينهُ وتعدَّدت أساليبه بكثرة تنوُّعها وتشابكها العضوي الوحدوي. فثمَّة أساليب متعددة زخرَ بها خطابهُ الشِّعري لا يمكن تخطيها وتجاوزها دون أنْ نَّقفَ على مقصديات رؤاها.

1- أُسلوبيةُ الرِّفضِ والاحتجاجِ:

ومن بين الأساليب الشعرية المُهمَّة التي اِتَّبعَهَا الشَّاعر السعدي ومنحها الأولوية والتبكير النوعي والعددي في تأثيث هندسة هذه المجموعة أسلوب الرفض والاحتجاج الذي يُعدُّ من أجرأ الأساليب الحديثة مُواجهةً وإقدَامَاً وَبسالةً التي خاضها الشاعر بحذرٍ وقوَّةٍ في ترجمة الواقع السِّلبي وتصوير ما كان منهُ مَقمُوعاً أو مَسكوتاً عنه بقصدٍ أو غَيرِ قَصدٍ عبرَ مَراياهُ الشِّعريَّةِ الناطقة بالحياة، وتوجيهه برسائل نصيَّةٍ شائقةٍ إلى المتلقِّي تمكِّنه من فهمه وهضمه من خلال صياغاته الشعرية المباشرة تارةً، وغموضه الفنِّي وإيحاءاته الدلاليَّة والرمزيَّة العميقة التي امتزجتْ مَعهَا تارةً أخرى.

لقد حفرت مخالب بؤس الواقع المتردِّي، وأنشبت أظفارها الطويلة المؤلمة نُدُوباً عميقةً وجروحاً كبيرةً لا تندمل في روح الشاعر المائرة التي لا تحتمل وقع ألم السكوت، وترفضُ بوعي دواعي الخنوع والمهادنة والاستسلام، ولا تقبله بَديلاً عن شعار الحُريَّة الحمراء. فقد كانت حصيلة إنتاجه الفكري في مضمارهذا المَشروع الصعب المراس عشر قصائد جادت بها صفحات هذه المجموعة. مثل، (المُصباحُ السحريُّ، هُروبٌ بِطعمِ الشَّهدِ، الفَقراءُ يُوتوبيا الأوطانِ، المُخبرُ العَلنِي، مَفعولٌ بِهِ، الجَامعةُ العَربيةُ مَعَ التَّحيةِ، أينَ العُروبةُ؟ ق. ق. ج، أطنانُ الذَّهبِ، اِعترافٌ)، وغيرها من القصائد.

حتى أنَّ الكثير من قصائد الشاعر ونصوصه في هذا التوجُّه الأُسلوبي جعلنا نستشعر بوعيٍّ ما خفي من آثار الواقع ونتلمَّس خطورته المستقبلية، بل جعلنا نتألم بِحقٍّ لِمَا يَحصلُ لهذا البلد الجريح على مدى تاريخه الخالد الوطني الأصيل وحضارته الكونية الضاربة جذورها في أعماق التاريخ:

لَا تَقرَبُوا الأوطانَ وَأنتُمُ حُفَاةْ

اِنتعِلُوا الطُّغَاةَ وَالبُغاةْ

وَاِنتعلُوا حَاشيةَ مِسخِ رَذِيلَةٍ

أفعَالُهَا مِسخُ أَحذيةِ الوُلَاةْ

أقوَالُهَا إفكٌ بَينَ مَكرُوهٍ وَمَشبوهٍ

مَردُودةٌ فِي قِلاعِهَا الصَّلاةْ

2- الأسلوبُ الرمزيُّ الدينيُّ التاريخيُّ:

من خلال أُسلوبهِ المُتنوُّع في هذه المجموعة عَمدَ جَنان السعدي في الكثير من قصائده الشعرية على استدعاء الرُّموز الدينيَّة المُهمَّة واستحضار الشخصيَّات البُطوليَّة التاريخية المؤثِّرة في التراث العربي عَامَّةً والعراقيَّة بِوجهٍ خَاصٍ؛ لِمَّا لها من أثر بَالغٍ وَكبيرٍ في نفوس محبيها من عامة النَّاس وخاصَّتهم. وأنَّ تأثيرها الأبدي مازال قائماً في حياتهم الدينية التاريخية وإحياء طقوسهم الشعبويَّة.

لقد تَمكَّنَ السَّعدي جَنان من استذكار الوقائع الدِينيةِ والأحداث السياسية التاريخية وإسقاط دلالاتها ومضامينها المعنوية العميقة على رهان عقابيل الواقع وتجلِّياته الخبيئة. فَأحداثٌ مثلُ واقعة الطفِّ التاريخية وغيرها من الوقائع والرموز والشخصيات التاريخية البارزة أمثال الإمام الحسين بن علي وأخيه أبي الفضل العباس وأختهما زينب بنت علي بن أبي طالب، أبطالُ ثورةِ كربلاء في واقعة الطفِّ التاريخية ورموزها المكانية قد أخذت من فكر الشاعر واهتمامه العقائدي والآيدلوجي الجمِّ نصيباً وحظَّاً وافراً كبيراً لا يستهان به في مثل هذه المدوَّنة التي ضمَّت سبع قصائد تُرثي وتتغنّى بمآثر أل البيت الأطهار وتُمجِّد تَاريخَهم الدِّيني والسِّياسي عبرَ مَجسَّاتِ التَّراسل الزمكاني الطويل.

إنَّ قصائد ونصوصاً استحضارية مثل هذه النصوص، (خُذْ حَتَّى تَرضَى، أَيَا فُراتُ، مِنْ كُلِّ فَجٍّ، صَوتُ الطَّفِ المُجلجلُ، رَبيبُ الحُسينِ، حِينَ بَكَى الفُراتُ، الوَعدُ الصَّادقُ)، وَغيرُها من الأمكنة الأعلَام التي أخذنا فيها الشاعر لأعماق التاريخ الحسيني الضاربة جذوره في رحلة الطَّف الخالدة.

أَقسِمُ يَا فُراتْ

كَذِئبِ يُوسفَ

بَريْءٌ مَاؤُكَ مِنْ ظَمَأِ الحُسَينِ

مَا زِلتَ تَبكِي كَمَا الزَّينبيَّاتْ

بِلَهفَةٍ تَشتَاقُ لِلشِّفاهِ الذَابلَاتْ

النَابضَاتِ بِالتَرتِيلِ وَالدُّعاءِ والصَّلَاةْ

3- الأُسلوبُ الغزليُ العَاطفيُّ والحِسِّي:

إنَّ توظيف الشاعر لغزلياته الذاتية والعاطفية الشفيفة في مثل هكذا مدوَّنةٍ مُكتظةٍ بأساليب حائط الصدِّ وفعل المقاومة والرفض الواقعي ليس نزوةً فكريةً أو بطراً سياحياً أو من باب الاستراضة أو النزهة الترويحة للنفس الأمَّارة بالتسلية وحبِّ الغرائزية القريبة من اللِّبيدو الجِنسي؛ بل هي في الحقيقة من باب الذات الأنوية الشاعريَّة الأمَّارة بالحُبِّ الصادق الذي يجمع بين ثنائية (الأمل والألم) .

ذلك الحبُّ الذي يَمُدُّه بشحنات سلاح الدفاع القويَّة لمواجهة رهان الواقع التداولي الفاسد. هذا من جهةٍ ومن جهةٍ أُخرى إحساس الشَّاعر واستشعاره الرُّوحي بنفسية قارئه الناقد ومتلقيه العادي والنابه وحبُّهما الآسر في أنْ يشاركاه غمرة المشاعر الغزلية المحبَّبة التي تُقلِّل من غُلواء الشُّعورية الثورية وطغيان آثارها الإنسانية المُؤلِمة التي فرضت سطوتها القويَّة على قصائد الديوان الأخرى.

فوجود موضوعات الغزل وسط هذا الجوِّ الشعري المُلبَّد بِغُيوم المَقاومة وأمطار الرفض هي أشبه بروائح عطور الورود وأنداء شذاها الفوَّاح الذي تبثُّه في الفضاء المكاني لإنعاش النفوس وتجدِّدها بالحياة. فما كان من الشاعر إلَّا وقد عَمِلَ جاهداً في إنتاج ستة نصوصٍ شعريَّةٍ لإحياء هذه المجموعة التي ابتدأت بقصائد مثل، (خَمسونَ، لَهَا كُلُّ الحُروفِ طَيِّعةٌ، مَا بَعدَ الإبداعِ، مَراسيلٌ، كَأنَّهَا هِيَ، صُعُودٌ لِلأسفلِ). ونصوص غزليَّاته تُعدُّ مُحاولةً جادَّةً للحرب، لكن من أجل الإمتاع.

إنَّ قصائد السَّعدي الغزليَّة كُتبتْ بِلغُةٍ شِعريةٍ مَائزةٍ اِمتزجت فيها العفويَّة الفطرية بالقصديَّةِ دون أنْ تَشعرَ فيها بِتَرَهُّلٍ لُغويٍّ أو استطرادٍ إملاليٍّ جافٍ؛ بل كانت تبعثُ الرُّوح الجماليَّة الهادئة في نفس القارئ، وتمدُّهُ في شاعريتها الرُّوحية والحسيَّة بشآبيب أمطار المطاولة والتفكير بعذوبتها النصيَّة التي تُشعركَ بأنَّ شاعرها السَّعدي يَعيشُ مرحلة الشَّباب العُمرية لا نهاياتِ العُمرِ الخَريفيةِ.

حِينَ ضَممتُهَا بِرِقَةٍ شَهيِّةٍ كَانتْ أَكثرَ مِنْ تُفاحةٍ شَاميَّةٍ

مَسحتُ تَحتَ خَدَّيهَا تَقاطرَ العِطرُ فُوَّاحَاً كَماءِ الزَّهرِ

عَصَرتُ مَنهَا الشِّفَاهَ، سَالَ الشَّهدُ رِضَابَا نَادِرَاً

4- أُسلوبيَّةُ شِعريَّةِّ الجَمعِ بينَ الذَّاتي، والذَّاتي الجَمعِي (المُشتركُ):

لقد كان للذات الفرديَّة الشَّاعرية والذات الجمعية للآخر مجالٌ واسعٌ في اشتغالات الشاعر ورؤاه الفكرية، وأنَّ أغلب القصائد التي قِيلَتْ في هذا المجال الحيوي، هي نصوص تتماهى في بناء موضوعاتها الفكرية القريبة والبعيدة مع هُوية الآخر، سواءٌ أكان هذا الآخر إنسانيَّاً فرديَّاً مؤنَّثاً كالحبيب أو الصديق أم جمعياً مكانياً مشتركاً في الصفات والواجبات والحقوق وسيميائية الأهواء والتمنيَّات التي هي ليست مَطلباً فرديَّاً فَحسب؛ وإنَّما هي مُدخلات فردية تَوحدَنَتْ معَ شخوصها

الفاعلية وزمكانيتها الوجودية؛ لتنتجَ لنا مخرجاتٍ جمعيةً مُشتركةً وآفاقاً رحبة تنفتح على الواقع.

فَنُصوصٌ سِتةٌ مثل، (نَظراتُ العَرافةِ، وَلَا وَقَتَ لِلانتظارِ، وَعِتابٌ، وَكَمَا أخبرنِي، وَاُدخلوهَا آمنينَ، وَلَيستْ أكثرَ مِنْ فِكرةٍ) ، استطاعت بأفكار وحداتها الموضوعية المتنوِّعة عبر أثير مجسَّاتها النَّصيَّة الباعثة أنْ تنقل لنا محطَّاتٍ مختلفةً من رؤى وأفكار الشاعر وهو يتماهى ويتفاعل مع عوالم محيطه الخارجي إنساناً ومكاناً ووجوداً، ويتعاتب معه وكأنَّه رفيق حياته وصديق عشرته الأليف معه. حتى أضحى المكان قريباً من نفسه، والزمان تاريخه الماضي والحاضر والمستقبل.

وقد مارس الشاعر الغواية الذاتية مع أفكاره وتطلعاته وحاول استلطافها والتعايش معها على أنَّها جزء من ذاته الجمعية وهمّه الإنساني اليومي. وقد يخرج في أسلوبه المشترك إلى التناهي معَ هُويةِ الآخرِ وكأنَّه الحبيب المعشوق الذي قضى شطراً من عمره لأجله في البحث عنه عبر هذا التناسل الزمني الصعب. وهذا يعني أنَّ السَّعدي في شعريته تمكَّن من الخروج من ذاتيته الشعرية الضيقة إلى أفاق وضفاف وشطآن الجمعية الاشتراكية المتوحدنة روحاً وجسداً لا ينفصلان عنهما.

فَوقَ أَعمِدَةِ الكَهربَاءِ المُعَطَّلةِ الَّتي تُقاومُ الصَّدَأ دُونَ هَوَادَةٍ

أَرسِمُ بِالطُبشُورِ مَدرَسَةً

أُعَلِّمُ صِبيانَ الأَحيَاءِ الفَقيرَةِ حُبَّ الوَطنِ

أبنِي مِئذنَةُ لِلحُبِّ نَاقوسَ إخَاءٍ

أُكحِّلُ أَعيُنَ الصَّبايَا بِماءِ دِجلةَ والفُرَاتْ

5- أُسلوبيةُ الجمعِ بينَ الوَاقعي والأُسطوري (الرَّمزي):

ليس غريباً على شاعر مثل جَنان السَّعدي أنَّه قرأ تاريخ بلاده وأدرك تأثيرات عراقة حضارته المُهمَّة، واكتسب موحيات ثقافة مجتمعه الرافديني الواسعة من خلال موهبته الإبداعية وملكته الشعرية واستعداده الفطري المتنامي مع مثيرات ثقافة المُكتسب الذي وظَّفه كمهاراتٍ إجرائيةٍ في مركزية اشتغالاته الشعرية في هذا الأُسلوب الجَمعي الذي مَزجَ فيه بصدقٍ بين الواقعية والرمزية عَبرَ شعرية الواقعية السِّحرية التي أوحتْ لَه وَمَهَّدت الطريق إلى إنتاج وتخليق وصُنعِ نُصوصٍ نَاضجةٍ مثل، (أُولمبيادُ، وَنَعشٌ عَلَى أكتافِ يَومٍ تَمُّوزيّ، وَالكُرسِيٌّ وأخواتُهُ، وَأصواتٌ وَأشواقٌ) .

بهذه القصائد الأربع استطاع السَّعدي جَنان ومن خلالها أنْ ينفذَ بهدوءٍ إلى استحضار مُهيمنات وقائع الحدث الموضوعيَّة ومزجها برباط الرمزية التاريخية الحقيقية أو القريبة من ضفاف الواقع. والتي يستمدُّ منها تاريخ حياته وجذوره الإحيائية المتأصِّلة في فتوحات خطابه الشعري المواظب.

فالشاعر الذي يُسقطُ الرموز التاريخية والوقائع الحَدَثِيَةَ المَاضية على بنيان واقعه الحياتي الآني والمستقبلي، مُدرِكُ تماماً لِخُطَى مشروعه الشعري الثقافي الفكري، وهو على يقينٍ أنَّه مكين من أدواته الشعرية في رسم خارطة بيت الواقع المُغيَّب وتشخيصه وتفعيله؛ ليثيرَ فينا روح الاستنهاض الثوري بدلاً من انسداد الأفق وتلاشي آثار الأمل الذي يُعدُّ خلاصاً من براثن الهيمنة الواقعية.

فما أحوجنا لقراءة نصِّ مثل، (نَعشٌ عَلَى أكتافِ يَومٍ تَمُّوزيٍّ) الذي جسَّد فيه الشاعر معاني الحبِّ والإيثار والتضحية والتبجيل لِمَقدَمِ مِثلِ هذَا اليوم التاريخي الذي أشرقت فيه شمس على العراق بضوئها الساطع لِتُنيرَ عهداً جديداً لِحياة ينشدُها كُلُّ الشرفاء الأحرار من دُعاة الحرية والاستقلال.

لَا أَعلمُ سِرَّ هَذَا اليّومِ

اِختفاءُ الشَّمسِ مَثَلَاً فِي يَومٍ تَمُوزِي

الكُلُّ يَعلمُ مَاذَا يَعنِي تَموُّزُ العِراقِ

مِنْ دُمُوزِي إلهِ الرَّعِي والخِصبِ السُّومريِّ

إِلَى نَضجِ الرُّطُبِ وَحُمرَةِ الخُدودِ وَسُيولِ العَرقِ

6- الأٌسلوبُ المَكانيُّ وتَشكُّلاتُ الطبيعةِ:

شكَّلت مُهيمنات الواقع الطبيعي الكونية بمختلف عناصرها المكانية الثابتة والمُتحركة حضوراً فنيَّاً وجماليَّاً موضوعيَّاً لافتاً في شعرية جَنان السعدي وتحديداً في منحنيات خطابه وتعرجاته البينية المتشابكة. فتفاعل الشاعر معها وتأثَّر بها؛ بسبب رهافة حسِّه ورقةِ مشاعره الشخصيَّة وَحُبِّه الجمِّ لها؛ كونه أديباً مفعماً يَرسمُ خطوط الواقع الطبيعي بمخياله الفنِّي الجامح ويستلهم عناصر الطبيعة وتكويناتها المؤثِّرة، ويوظَّف مفرداتها وحقولها الدلالية ورموزها الإيحائية الفاعلة في لوحاتٍ تجريبيةٍ من خلال قصائده الذاتية والجمعية التي يشحنها بطاقاتٍ فنيةٍ تعبيريةٍ صُوريةٍ خارقةٍ الأثرَ.

وقد اتَّضحت حركة الشاعر الفعلية مساره الصوري في تماهيه الشعوري وتجسيده الذاتي والحيوي لعناصر شعاب الطبيعة الكونية وشغفه بها وبوحداتها الوجودية المتعدِّدة في أربع قصائد -من نصوص هذه المجموعة- كَلَوحَاتٍ دالةٍ على وقع عتباتها العنوانية ومعانيها الدلالية المكانية والرمزية في هذه العنوانات، (لَهَا تُغنِّي العَنادلُ، وَالبَيدرُ، وَمِنْ وَحيِّ الذَّاكرةِ، وَاِحتذيتُ كُلَّ القَتلةِ) .

واللَّافتُ في هذهِ النُّصوصِ الشِّعرية أنَّ علاقة الشاعر بمصادر الطبيعة علاقة روحية وجمالية؛ كونه استلهم منها صورها الحركية الساخنة وأشياءَها الهَادِرَةَ الجَامحة، ولم يقترب من عناصرها الهادئة الوادعة إلَّا القليل المناسب لطيِّات حُقول نصوصه المكانية التي تُعبِّر بصدقٍ عن مكنوناتها الوجودية وموحياتها الدلالية (سماءً وماءً ومطراً وشمساً وزُهوراً) ومثاباتٍ مكانيةً زاخرة بالعطاء.

هَلْ سَمَعتُم عَنْ سَمَاءٍ تَمطُرُ الخُبزَ؟

السَّماءُ فِي بِلادِي تَمطرُ الخُبزَ كَمَا تَمطرُ الزُّهورَ وَالأولادَ

تَمطرُ المَوتَ والقَتلَى ، تَمطرُ الطِّفلَ الرَّضيعَ وَحَرمَلةْ

تَمطرُ البَردَ وَالشَّمشَ المُحرِقَةْ

تَمطرُ زُهَا حَديدٍ وَوَردةَ العِراقيَّةَ

كُل التَّناقضَاتِ تَمطرُهَا بِعُنفٍ سَماءً بِلادِي

حَتَّى التَّاريخَ والحضَارَةَ

7َ- أُسلوبُ استحضارِ الذَّاكرةِ الزمانيَّةٍ:

من بين الأساليب الموضوعية المُهمَّة الأخرى التي شغلت همَّ الشاعر السَّعدي استحضار الذاكرة الزمكانية واستدعاؤها لآثار موضوع الحصار الاقتصادي كحدثٍ مُهمٍّ مرَّ به تاريخ العراق السياسي المعاصر؛ نتيجةَ استمراءِ الألم وبسبب فشل الأنظمة الدكتاتورية الشمولية الحاكمة، والتي دفع ثمنها الباهظ المواطن البسيط ابن هذا البلد الذي لا يملك سوى قوته اليومي وأثاثه الحياتي المعيشي الذي اضطرّ إلى بيعه والتنازل عنهَ من أجل أنْ يؤمِّنَ لعائلته سدادَ لقمة العيش الشريف.

وقد ظهرت اشتغالات الشاعر لهذا المسار الحيوي في قصيدته الدالة على أفق معانيها الحَدَثيِةِ (من ذاكرة الحصارِ) . وهي إشارة واضحة لسنين الحصار الاقتصادي الثماني التي أكلت الغالي والنفيس من عمر المواطن العراقي البسيط الأعزل الذي آثرَ بَيعَ أثاثِ بيتهِ وبَعض محتويات عيشه المهمَّة والكمالية من أجل أنْ يعيشَ شريفاً في الوجود وفي مواجهةٍ جهاديةٍ مع الموتِ البطيء الذي يستشعره كلَّ يوم شبحاً يطاره في الحياة. فما كان من الشاعر إلَّا وقد استعادت ذاكرته الشعرية صور سنين الحصار الجائر من خلال تقنية الاسترجاع الفنيَّة التي احتشدت بها موضوعة القصيدة.

صَديقِي اللَّدُودُ لَا تَفعلْ أرجُوكَ

تَذَكَّرْ يَومَ بِعتَنِي شُبَّاكَ دَارِكَ

وَوَهبتُكَ عَبَاءَةَ جَدِّي وَسِجَّادَةَ الصَّلاةِ والمِسْبَحَةَ

كَانَّ مِلْحُ الحِصَارِ قَاسيَاً

كُنَّا نَتبادَلُ الدَّمعَ فِي الأفرَاحِ عَلَى نُدرتِهَا

نُراقِصُ إِنسانَ بُؤْبِؤِنَا بِوُدٍّ

نَقتسمُ رَغيفَ الطِّينِ فِي سَطحِ دَارِنَا

8- أُسلوبُ الثُّنائياتِ المُتضادةِ:

لم ينسَ الشاعر السعدي الخوض في غمار الثنائيَّات الشِّعرية المتضادة التي أوجد لها مكاناً علياً رحباً في ديمومة نصوصه الشعرية المتعدِّدة الموضوعات في معترك تناقضاتها الجدلية والوجودية وحركة صراعها الأبدي القائم الذي لا يمكن أنْ ينتهي. فعنصر الخير لا بدَّ له من صنوٍّ آخر وهو الشرُّ، والحياة لا بدَّ لها من الموت، والوجود لا مناص له من عدم، والبياض الدال على النقاوة لا بدَّ له من السواد المعتم الحالك، والنجاح السارُّ لا بدَّ أنْ يقابله الفشل الضارُّ، وكُلُّ فِعلٍ له رَدٍّ فِعلٍ آخرَ.

كلّ هذه المُهيمنات من المفردات التناقضية ومتجاوراتها الدلالية هي التي شكلَّت تمظهرات هذا الحقل الدلالي القائم على صراع الذات مع هُويات نظيراته الأخرى حبَّاً بالحياة وقياماً للتشبث بها. وخير من يمثِّلُ أُسَّ حركة هذه المتناقضات التضادية قصيدة (دَعوةٌ ونداءٌ) التي قامت على المقارنة التقاربية بين دفَّان الموتى (حفَّار القبور) ، وفنَّان الطين (نحَّاتُ الشخصيَّاتِ والرموزِ) . فعلى الرغم من كونهما يصنعان بإرادتهما الفنيَّة والعمليَّة أشكال وصور الحياة وشواهدها الرمزية فإنَّهما يواجهان في الوقت ذاته الموت الآخروي المقابل للحياة الدنيوية. فَلُكلِّ وجودٍ لهُ ما يُخالفه في العمل والأثر.

يَنحتُ الدَّفانُ قُبورَنَا وَالعَلَامَةْ

وَينحتُ الفَّنَّانُ الطِّينَ بِابتسَامَةْ

هَذَا بِمطرقَةٍ وَذَا بِمثلِهَا وَكِلاهُمَا رَاحلانِ وَإيَّانَا

فَمهلاً لِكلِّ النَاحتينَ قُلوبَنَا فَزَعَاً وَرُعُبَا

9- الأُسلوبُ التَّأمُّليُّ الفلسفيُّ:

وعلى الرغم من سيطرة الأساليب الحسيَّة التقليديَّة المعنوية المخياليَّة على فقرات خطابه الشعري وسطوتها التي فرضتها بكثرة على ظلال مدونته الشعرية (نعشٌ على أكتاف يوم تَمُّوزي) ، فقد انزاح الشاعر السعدي قليلاً إلى ناصية التأمُّل الفكري الفلسفي وزيَّن قصيدته الموسومة عتبتها (تحتَ ظلالِ الفناءِ) ، مُصرَّاً بها على أنْ ينقلنا إلى رحاب عوالم الفناء وموحيات الهلاك في مقاربةٍ شعريةٍ تداوليةٍ بين الشَّاعر ذاته صاحب الكلمة المُزهرة والأشجار الطيِّبة المُثمرة، وبين الضمير الحيِّ الظاهر والمغيَّب الخبء المستتر، وبين مُنبِّهات الصحوة وَمُغيَّبات الغفوة، وبين رمز الموت والخلود، والسعادة والشقاء الأبدي، وحياة الغربة والبقاء الذي هو جوهر عمارة الإنسان والبنيان.

فمثل هذه المفردات التأمُّلية الفذة تبعث في أعماق النفس الإنسانية عوامل الإثارة ومنشطات التأمُّل والتفكر والانبعاث الوجودي لـ (أكونُ أو لَا أكونُ) الذي صوَّر الحياة بطريقة جمالية وروحيَّة يحلقُ معها القارئ الواعي المواظب مع نسيج شعريته إلى مرافئ الفكر وشطآن الفضيلة وعوالم السحر والوجود والعدم التي هي من مفردات قيمِ الحياة وأشيائها الفذة الفلسفية الضاربة في جذور القِدِم. وعلى وفق تلك الأساليب التعدِّدية استطاع جَنان السَّعدي بمشروعه الشعري أنْ يَحفرَ لهُ مَكاناً بينَنَا.

يَموتُ الشَّاعرُ كَالأشجارِ المُثمرَةِ

وَلَنْ تَموتَ الكَلمةُ تَبقَى مُزهرةِ

يَغيبُ الضَّميرُ أو يُغَيَّبُ أحيَانَاً

هَلْ يَموتُ؟ عِندَ البَعضِ رُبَّمَا

***

تَقديمٌ: د. جبَّار ماجد البهادليّ / نَاقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

 

قصيدة /تحت زبد الخيال/ للشاعر المغربي أحمد لمقدم هي قصيدة تحمل طابعًا أسلوبيًا مميزًا وعبارات مشحونة بالرمزية والتصورات الخيالية. يمكننا أن نقرأ القصيدة من خلال عدة مستويات أسلوبية:

1. اللغة والأسلوب:

القصيدة تشتغل على اللغة المجازية والاستعارات المعقدة. الكلمات تحمل دلالات عميقة ومبهمة، الأمر الذي يشير إلى أن الشاعر لا يسعى إلى التعبير عن معنى مباشر بل يهتم بخلق أجواء شعرية وفكرية تتجاوز الحدود التقليدية للغة. العبارات مثل /تحت زبد الخيال/، /نُشَرِّحُ المدى حتى يُفْرِغَ قلبه في كفَّينا/، /نَخْتَرِعُ زمانًا لا يحتاجُ إلى الوجود/ كلها تُشَكّل عالمًا شعريًا مليئًا بالتساؤلات والتفكير في الوجود والزمن.

2. الرمزية والتصورات:

تتنوع الرموز في القصيدة بين الضوء والظلام، الحياة والموت، الوجود والعدم. الشاعر يعبر عن رغبة في إعادة تشكيل الواقع من خلال الخيال والمجاز. /نَصْنَعُ خَريطَةً بلا طرقات/، و/نُصْلِحُ الزمن بِشَفَراتٍ مِنْ نُورٍ/ تظهران السعي المستمر لتجاوز الواقع والبحث عن إمكانيات جديدة للمستقبل.

3. الصور الفنية:

القصيدة مليئة بالصور الفنية التي تخلق توترات بين الواقع والخيال. مثلًا، صور الطير الأعمى الذي /يحدق في الهواء/ ليبني عشه /للعدم/، أو /الجناحين/ المرسومين بـ/شَفَراتٍ من نور/. هذه الصور تنتمي إلى عالم غير واقعي مليء بالصور المتناقضة التي تعكس الشعور بالضياع والبحث عن الهوية.

4. التوتر بين الذات والآخر:

هناك حضور قوي للفرد في القصيدة، كما يتجلى في التفاعل مع الآخر. في عدة مقاطع، نرى الحيرة والبحث عن معنى للوجود بين الشاعر والمحبوبة، مثل المقاطع التي يتحدث فيها عن التائهة /كحبرٍ ينزف بين السطور/، وعن العلاقة بين الذات والآخر المتجسدة في صورة /أنا وأنتِ قد نكون حلمًا لكائنٍ أعمى/. هذه التوترات تكشف عن علاقات معقدة بين الذات والعالم المحيط.

5. الموسيقى والإيقاع:

على مستوى الموسيقى والإيقاع، تستخدم القصيدة تنويعات في التكرار (مثل /لنصنع/) مما يضيف إيقاعًا موسيقيًا يعكس الحالة الوجدانية المستمرة والتغيير في التفكير. يمكن ملاحظة كيف أن الشاعر يبني جملًا طويلة متعددة المعاني، مما يمنح القصيدة إيقاعًا متأملاً وصوفيًا.

6. التساؤلات الوجودية:

القصيدة تطرح تساؤلات وجودية عميقة مثل: /هل كنا يوماً أكثر من أثر فوق وجه الزمان؟/ وهو سؤال يشير إلى محورية الإنسان في هذا الكون وتجاوزه. التساؤلات تفتح المجال للتأمل في معاني الحياة والوجود، مما يجعل القصيدة تحمل طابعًا فلسفيًا يبحث في قضايا الوجود والغياب.

الخلاصة

قصيدة /تحت زبد الخيال/ هي تعبير شعري عن الحلم والبحث المستمر عن معنى في عالم يتسم بالتغير المستمر. أسلوبها مفعم بالرمزية، ويستند إلى لغة مليئة بالصور المجازية التي تتحدث عن الوجود والموت، والحياة والخيال. هذه القصيدة تأخذ القارئ في رحلة فكرية وشعرية تساءل الزمان والمكان، وتظل مفتوحة على العديد من التفسيرات والقراءات المختلفة.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

.....................

تحت زبد الخيال

لِنَحْتَرِقَ تَحْتَ زَبَدِ الخَيَالِ، سَنَسْتَدْعِي النُّجومَ مِنْ مَخابِئِها، ونُشَرِّحُ المَدى حَتّى يُفْرِغَ قَلْبَهُ في كَفَّيْنا. سَتَنْبُتُ أَجْنِحَتُنا مِنْ أَظْهُرِ الظِّلالِ، ونَحْمِلُ حَطامَ الغُرْبَةِ كَتَمائِمَ عَلى أَعْناقِنا.

كَيْفَ نَصْنَعُ قَلْباً يُنْبِتُ الحُلْمَ؟ نَسْكُبُ الكافَ والنُّونَ فَوقَ شَفَتَيْنِ، نَخْتَرِعُ زَمَناً لا يَحْتاجُ إِلى الوُجودِ، ثُمَّ نُطْلِقُ طَيْراً أَعْمى يُحَدِّقُ فِي الهَواءِ لِيَبْني مِنْهُ عُشّاً لِلْعَدَمِ.

لِنَصْنَعَ خَريطَةً بِلا طُرُقاتٍ، حَيْثُ تُقاسِمُنا الشَّوارِعُ أَحْلامَها المُمَزَّقَةَ، وَنَجْلِسُ عَلى رُكامِ مَدينَةٍ، أَحْجارُها تُدَوِّنُ أَسْماءَنا بِصَمْتٍ.

أَنَا تائِهٌ كَحِبْرٍ يَنْزِفُ بَيْنَ السُّطورِ، وَأَنْتِ طَيْفٌ يَتَأَرْجَحُ فَوْقَ جَسَرٍ هَشّ، بَيْنَنا نُقْطَةُ وَهْمٍ تُحاوِلُ الفِرارَ، وَبَيْنَ أَضْلاعِنا تُفّاحَةٌ تَبْكي جَريمتَها الأُولى.

لِنَصْنَعَ لَحْناً يُراقِصُ النَّيازِكَ، سَنَسْتَعيرُ الوَتَرَ مِنْ أَصابِعِ الغُرْباءِ، نُشْعِلُ الأُغْنِيَّةَ بِنَفَسَيْنِ، وَنَزْرَعُها في أُذُنِ اللَّيْلِ حَتّى يَنامَ.

لِنَصْنَعَ شَمْساً، سَنُقْنِعُ الظَّلامَ أَنْ يَرْتَديها كَتاجٍ، وَنُزَيِّنُها بِرَمادِ الوَقْتِ، ثُمَّ نُرْسِلُها كَمَطَرٍ يَتَساقَطُ فَوقَ صَحارَى المَدى.

أَنَا وأَنْتِ قَدْ نَكونُ حُلْماً لِكائِنٍ أَعْمى، يَسْتَجيرُ بِنا مِنْ كآبَةِ الكَوْنِ، أَوْ زَبَدَيْنِ يَتَصارَعانِ فِي عَينِ بَحْرٍ مُسْتَعِرٍ.

لِنَصْنَعَ جَناحَيْنِ، نَرْسُمُهُما بِشَفَراتٍ مِنْ نُورٍ، وَنُحَلِّقُ حَتّى تُزْهِرَ الغُيومُ فِي الأَعالي، حَيْثُ لا شَيء سِوى العَدمِ يَتَراقَصُ مَعَ الرِّيحِ.

يا غَجَرِيَّةَ الخُيولِ، أَنْتِ هُناكَ، في زاوِيَةٍ غارِقَةٍ في الغِيابِ، وَأَنا هُنا، أُدَوِّنُ أَشْباحَنا في دَفاتِرِ السُّؤالِ: هَلْ كُنّا يوماً أَكْثَرَ مِنْ أَثَرٍ فَوقَ وَجْهِ الزَّمانِ؟

***

أحمد لمقدم - المملكة المغربي

 

تتطلب الكتابة الإبداعية من الكاتب –بأي جنس إبداعي- أنْ يكون في حالة من التفاعل المستمر مع نصوصه، إذ يمتزج لديه الإبداع بالقلق النقدي والرغبة الدائمة في تحسين ما كتبه، فالكاتب، بوصفه مبدعاً، لا يرى نصوصه كنتاج نهائي مكتمل، بل كمشروع مستمر للنقد والتجديد، فالاقتناع بالكمال في الكتابة يُعد أحد أكبر التحديات التي تواجه المبدعين، إذ إنَّ الرضا الكامل عن النص يعوق النمو الإبداعي ويحد من قدرة الكاتب على التطور.

إذ يمثل القلق الإبداعي هنا دافعاً رئيسياً للتجريب والمراجعة، حيث يشكل الشك المستمر في كمال النص حافزاً لمواصلة التفكير في طرق جديدة لتطوير العمل الأدبي، إذ يُدرك الكاتب الحقيقي أنَّ الإبداع لا يعني الثبات عند نقطة واحدة، بل هو عملية متجددة تتطلب النقد الذاتي كأداة لتحليل وتقييم النصوص بشكل متواصل.

يمكن القول ومن خلال هذا المنظور، إنَّ الكاتب يتعامل مع نصوصه بوصفه أول ناقد لها، مما يدفعه إلى مراجعة أفكاره وصياغاته بعمق أكبر، حيث يمثل هذا التفاعل بين القلق الإبداعي والتجريب جوهر العملية الإبداعية الحقيقية، حيث يسعى الكاتب دائماً إلى تجاوز ذاته والوصول إلى أفق جديد من الابتكار.

فمن البديهي أنَّ الوعي الإنساني لا يتوقف عند نقطة ثابتة واحدة، بل هو كيان ديناميكي يتسم بالحركة والتطور المستمرين، إذ تشكل هذه الطبيعة الحركية للوعي البشري، جوهر تجربة الإنسان في استيعاب ذاته والعالم المحيط به، إذ يمتلك الكاتب حساً واعياً، يسعى به دائماً إلى استثمار هذا الوعي المتنامي في تطوير تجربته الإبداعية، فوعي الكاتب لا ينبع من فراغ، بل يتشكل عبر تفاعله مع عدد من العوامل الفكرية والثقافية التي تشمل القراءة المتنوعة والاطلاع على التجارب الإبداعية المختلفة سواء في الأدب أو الفنون أو الفلسفة، مما يُعزز من رؤيته ويُعمق فهمه لكل من الواقع والنصوص التي يتعامل معها.

تلعب أيضا الممارسة المستمرة للكتابة دوراً محورياً في صقل مهارات الكاتب وتوسيع أدواته التعبيرية، فمن خلال المثابرة والاستمرارية، يكتسب الكاتب خبرات تراكمية لم يكن يمتلكها في بدايات تجربته الأدبية، وهذا التراكم المعرفي والمهاري يتيح له إعادة تقييم تجربته الكتابية بشكل نقدي، مما يساعده على تحديد نقاط القوة والضعف في أعماله السابقة، ويسمح له باستشراف طرق جديدة لتطوير وعيه الإبداعي، ومن المهم أنْ نُدرك أنَّ هذا التطور لا يحدث في عزلة، بل هو ثمرة لتفاعل الكاتب مع قراءاته وتجاربه ومحاولاته المستمرة للخروج عن النمطية واستكشاف أفق جديدة للكتابة.

يُعدّ التجريب الأدبي، بما يحمله من جرأة في تحطيم الأشكال المألوفة وتجاوز الحدود المتعارف عليها، ركيزة أساسية لدفع الكاتب نحو مراحل متقدمة من الوعي الإبداعي، إذ يسمح للكاتب بإعادة التفكير في أدواته وأساليبه التعبيرية، مما يعزز من قدرته على الابتكار والتجديد، فمن خلال هذه المحاولات المستمرة لتجاوز القوالب التقليدية، يتعمق فهم الكاتب لنصه الإبداعي وللعالم الذي يحيط به.

يمكن القول إنَّ الكاتب يدرك تماماً احتياجات نصه الإبداعي في كل مرحلة يمر بها، فهو ليس مجرد منتج للنصوص، بل هو أول ناقد لها، كونه أول قارئ يتفاعل معها، وهذه القراءة الأولية للنص تجعله ناقداً صارماً لما يكتبه، إذ يعيش لحظات مستمرة من المراجعة الذاتية التي تترافق مع شعور دائم بعدم الاكتفاء، لا ينبع هذا النقد الذاتي من السعي للكمال بقدر ما هو نابع من قلق إبداعي مستمر، يدفع الكاتب إلى التساؤل حول كيفية تحسين النص، سواء من خلال حذف جملة معينة، أو إضافة تفاصيل أخرى، أو تعديل صياغة بعض الأفكار.

إنَّ فكرة الكمال المطلق في العمل الإبداعي هي فكرة إشكالية، والاقتناع بتحقيقه قد يكون أشبه بآفة تلتهم روح الإبداع، فالركون إلى الرضا الكامل عن النص يعني، بشكل أو بآخر، نهاية لحركة النمو والتطور، وعلى العكس من ذلك، يبقى الشك الدائم هو المحرك الذي يدفع الكاتب إلى الاستمرار في تطوير قدراته الإبداعية، فالكاتب الذي لا يرضى بالثبات يُدرك أنَّ الإبداع الحقيقي لا يتوقف عند نص معين أو مرحلة محددة، بل يتطلب دوماً مراجعة مستمرة للنصوص، والشك في كمالها، والسعي الدائم نحو تحسينها.

تمنح هذه الحركية النقدية الداخلية، التي تنمو مع الممارسة والقراءة والتجريب، النصوص الأدبية حيوية وديناميكية تجعلها قابلة للتطور، فالكاتب لا يرى في النصوص التي كتبها سابقاً مجرد منتجات نهائية، بل يرى فيها محطات في مسيرته الإبداعية، لذا فإن الرغبة في التغيير والتحسين تظل مستمرة دائماً، وهي التي تدفع الكاتب إلى الاستمرار في العمل على نصوصه وإعادة النظر فيها حتى بعد نشرها.

نرى ومن هذا المنطلق، أنَّ الكثير من الكتاب يعزفون عن العودة إلى نصوصهم القديمة بشكل متكرر، حيث أنَّ كل قراءة جديدة تولّد رغبة في التعديل، وكأن النص، حتى بعد نشره، يظل مفتوحاً على احتمالات جديدة للتطوير والتغيير، هذه الرغبة الدائمة في تحسين النص تعكس إدراك الكاتب العميق بأنَّ العمل الأدبي لا يمكن أنْ يصل إلى حالة من الكمال النهائي، بل هو دائماً في حالة من التغير المستمر، فالنصوص الأدبية، بطبيعتها، تظل مفتوحة وقابلة للتحول، وهذا ما يجعل الإبداع الأدبي عملية مستمرة لا تعرف الثبات أو الجمود.

يمكننا القول إنَّ الكاتب الحقيقي، الذي يدرك هذا الجانب النقدي الذاتي في عمله، يظل دائماً في حالة من الحوار المتواصل مع نصوصه، حيث تتجدد قدراته الإبداعية من خلال هذا التفاعل المستمر بين النقد الذاتي، والقراءة المستمرة، والتجريب الإبداعي، لذلك فإنَّ الكتابة، بهذا المعنى، ليست مجرد إنتاج لنصوص، بل هي عملية تفاعلية مستمرة بين الكاتب وذاته، وبين الكاتب والعالم، وبين الكاتب والقارئ، مما يجعل منها رحلة لا تتوقف عند حدود معينة، بل تظل مفتوحة على احتمالات التجديد والإبداع.

***

أمجد نجم الزيدي

 

كنت قد كتبت في المدخل الى هذه القصيدة المثيرة وفي الفقرة الأخيرة.. باننا "سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانوراميته" ... بالتفصيل..". واليوم نبدأ بالمقاطع الخمس الأولى:

القسم الأول: متعة القراءة..

الديباجة:

(1)

" قد جاءَ في ديباجةِ اللوحِ الكتابِ بِأنّهُ

مِن ألْفِ بابٍ، كُلُّ بابٍ ألْفُ لَوحٍ

هل قرأتَ؟

سمعْتُ عنهُ وجئْتُ أصعَدُ

كيْفَ تَصْعَدُ، لا سَلالِمَ؟

عُدْ إلى (اللوحِ الكتابْ)

وأينَ ذاكَ؟

عليكَ وحدَكَ أنتَ أنْ تَجِدَ الجوابْ"

** يكشف هذا المقطع الشعري عن عمق فلسفي ورمزية كثيفة تجعل منه نصًا يتجاوز المعنى الظاهري ليغوص في مجاهل الفكر والوجود. فالقصيدة تنطلق من استعارة مهيبة تتجلى في "اللوح الكتاب"، حيث تتداخل المفاهيم الصوفية والمعرفية ضمن نسيج لغوي محكم. إنّ استخدام "ديباجة اللوح الكتاب" يلمّح إلى فكرة الأزلية والمقدّس، وكأنّ الشاعر يستدعي معنى اللوح المحفوظ أو سفر المعرفة الكبرى الذي يضم أسرار الكون.

يبدأ النص بتوكيد أنّ هذا "اللوح الكتاب" يتفرّع إلى "ألف باب"، وكلّ باب يحوي "ألف لوح"، مما يكرّس مفهوم اللانهائية في المعرفة، إذ لا حدّ للبحث ولا نهاية للسؤال. وهنا نلمح بعدًا فلسفيًا وجوديًا، فالإنسان كائن تائه في مسارات لا متناهية من الإدراك، وعليه أن يواصل التسلق رغم انعدام السلالم، أي دون أدوات جاهزة أو طرق ممهّدة، وهذا انعكاس لمعاناة البحث عن الحقيقة في عالم غامض.

"كيف تصعد، لا سلالم؟"

يأتي هذا التساؤل ليؤكد استحالة بلوغ الحقيقة عبر الوسائل التقليدية، فالحقيقة ليست شيئًا يُمنح، بل هي معراج داخلي، ومسيرة ذاتية على الباحث أن يخوضها بنفسه. وهذا يبرز البعد الإنساني العميق في النص، إذ يشير إلى التجربة الفردية في السعي نحو المعرفة، حيث لا دليل ولا مرشد، بل على الإنسان وحده أن يجد طريقه.

ثم يأتي ختام المقطع بعبارة توجيهية أشبه بتحدٍ وجودي:

"عليك وحدك أنت أن تجد الجواب"

إنّ هذا المقطع يعكس فلسفة الحرية والمسؤولية الفردية في اكتشاف الحقيقة، وكأنّ الشاعر يضع القارئ أمام مرآة ذاته، حيث لا يوجد جواب مُعطى، بل على الإنسان أن يحفر في وعيه، ويتبع نداءه الداخلي في رحلة لا تنتهي.

النص يوظّف الرمزية بذكاء، فاللوح يمثل المعرفة، والسلالم تمثل الوسائل، وانعدامها يرمز إلى صعوبة الوصول إلى جوهر المعنى، وهذا يحمل أبعادًا دينية وصوفية، إذ يذكّرنا بتجارب العرفاء الذين وجدوا أن الحقيقة ليست في الكتب بل في المجاهدة الروحية. كما أنّ الأسلوب الحواري يمنح النص بُعدًا دراميًا، إذ يتجلى الصراع بين الحائر والسائل، بين من يبحث ومن يواجه الفراغ.

ان هذا المقطع ليس مجرد تأمل شعري، بل هي دعوة لرحلة فكرية وروحية، تضع الإنسان في قلب تجربة البحث، بلا دليل سوى ذاته، وبلا خارطة سوى وعيه المتنامي.

البرج والشاعر:

(2)

"في بابِ قَرْميدو المُهَنْدسِ

مِن كتابِ اللوحِ

قالَ: البُرجُ بُرْجي

صَمَّمَتْهُ رؤايَ شاهقةً

وصادَفَ أنّها قد راقَتِ النَمْرودَ

فانتَحَلَ القصيدهْ

وأزاحَ شاعرَها مِن الطَبَعاتِ قاطبَةً سوى

طبَعاتِ إصبَعِهِ الفريدَه"

** ينبثق هذا النص من عمق فكري يجمع بين البعد الرمزي والطرح الفلسفي، في تجلٍّ شعري ينحت المعاني بأسلوب مكثف، يعكس صراع المبدع مع السلطة، والمعرفة مع الطغيان، والحقيقة مع التزييف.

"في بابِ قَرْميدو المُهَنْدسِ / مِن كتابِ اللوحِ"

يستهل الشاعر بمشهد يوحي بالرصانة الهندسية والصرح المعماري المتقن، حيث يمتزج البناء المادي مع البناء الفكري، فالقرميد يرمز للصلابة والثبات، فيما "كتاب اللوح" يلمّح إلى المعرفة المطلقة، وكأنّنا أمام نص مقدّس أو دستور للوجود.

"قالَ: البُرجُ بُرْجي / صَمَّمَتْهُ رؤايَ شاهقةً"

هنا تتجلى الذات الإبداعية، حيث يعبر الشاعر عن اعتزازه برؤيته الخاصة التي تتخذ شكل برج شاهق، بفضل خياله وتطلعاته.، او رمزًا للمعرفة والطموح الإبداعي. فالبناء هنا ليس حجريًا فقط، بل هو بناء فكري تتجسد فيه قمة الفكر والإبداع، وكأنّ الشاعر ينحت وجوده في فضاء لا محدود.

"وصادَفَ أنّها قد راقَتِ النَمْرودَ / فانتَحَلَ القصيدهْ"

يتحول المشهد من البناء إلى الصراع، حيث يظهر "النمرود"، الرمز الأسطوري للطغيان، ليغتصب القصيدة، أي الفكر والإبداع. هنا يستحضر الشاعر إشكالية سرقة الفكر، حيث يستولي المستبد على إنجازات المبدعين وينسبها لنفسه، تمامًا كما استحوذ الطغاة عبر التاريخ على منجزات الحضارات وألحقوها بأسمائهم.

"وأزاحَ شاعرَها مِن الطَبَعاتِ قاطبَةً سوى / طبَعاتِ إصبَعِهِ الفريدَه"

هنا يصل النص إلى ذروته الرمزية، حيث تُمحى هوية الشاعر الحقيقي، ولا يبقى من أثره إلا ما سمح به الطاغية، أي ما يتوافق مع شخصه وسلطته. وهذه صورة بليغة عن تشويه الحقائق عبر التاريخ، حيث يُمحى الأصل ويُستبدل بظل السلطان. ولكن، وبلمسة رؤيوية حصيفة يزيح الشاعر/ جمال مصطفى هذا الادعاء، ليرفع المهندس/ المعمار فوق النسيان. فـ " طبَعاتِ إصبَعِهِ الفريدَه" هي بصمة يد المعمار، الفطنة والمبدعة، التي حفرت روحها في كل لبنة ونقش، فـ (الهاء في اصبعه تعود على المبدع).. صحيح الطغاة يسرقون الأسماء، لكن الصحيح أيضا انهم يعجزون عن سرقة الإبداع، يطمسون الحروف، لكنهم لا يملكون محو البصيرة. هكذا يبقى الفن شاهداً على صاحبه، عصياً على الطمس، منتصراً على كل ادّعاء.

النص يحمل أبعادًا إنسانية وفكرية ورمزية عميقة.. يعكس مأساة الفكر الحر أمام السلطة المستبدة، كما يمثل، ضمنيًا، نقدًا اجتماعيًا وسياسيًا عميقًا.. يعكس معاناة الفكر الأصيل الذي يُنتزع ليصبح جزءًا من قوى الهيمنة، حيث يتقاطع مفهوم "النمرود" مع طغاة التاريخ الذين واجهوا النور بالظلام. إنه نص مكثف، يمزج الفلسفة بالتاريخ، والرؤية الفردية بالهمّ الإنساني، ليترك القارئ أمام تساؤل وجودي: هل تبقى الحقيقة شامخة رغم محاولات الطمس؟

القصيدة كالبرج

(3)

"ومِنَ القصيدةِ:

حينَ تَصعدُ قال قرْميدو تَرَيّثْ

أجملُ الحُجُراتِ

في بُرْجي اللواتي لا تُرَقَّمُ

بَلْ تُسَمّى

ومِن القصيدةِ:

إنَّ بُرْجي كالقصيدة طالما اكتَمَلَتْ

وَلَمّا"

** يستبطن هذا المقطع الشعري بعدًا فلسفيًا وجماليًا عميقًا، حيث تتداخل الصور الرمزية لتُشكّل رؤية متكاملة حول الزمن والإبداع والاكتمال. يتماهى "البرج" مع "القصيدة"، فيصبح البناء المعماري كيانًا حيًّا، لا يتجلى في صلابة الجدران فحسب، بل في مرونة المعنى وانفتاح الدلالة.

"حينَ تَصعدُ قال قرْميدو تَرَيّثْ"

يفتتح النص بحوار يضفي بُعدًا دراميًا، حيث يدعو "قرميدو" إلى التريث أثناء الصعود. وكأنّ الشاعر هنا يرسم فلسفة التأمل والتروي في السعي نحو القمم، ليؤكد أن الوصول ليس مجرد حركة مادية، بل تجربة وجودية تحتاج إلى وعي وانتباه.

"أجملُ الحُجُراتِ / في بُرْجي اللواتي لا تُرَقَّمُ / بَلْ تُسَمّى"

هنا تتخذ اللغة بعدًا صوفيًا، إذ إنّ الحُجرات الأجمل ليست مُرقّمة، أي أنّها ليست خاضعة للنظام الصارم أو القواعد الجامدة، بل تحمل أسماء، مما يمنحها بُعدًا إنسانيًا وتاريخيًا. وكأنّ الشاعر يشير إلى أن الجمال يكمن في التفرد، لا في التصنيف، وأن الإبداع لا يُختزل في أرقام، بل في هوية وذاكرة حيّة.

"إنَّ بُرْجي كالقصيدة طالما اكتَمَلَتْ / وَلَمّا"

هنا تبرز ذروة الرمزية، حيث يشبه البرج بالقصيدة، في إشارة إلى أن كلاهما عملية ديناميكية تتأرجح بين الاكتمال واللاتمام. فكأنّ القصيدة لا تكتمل أبدًا، لأن المعنى يبقى مفتوحًا، وكذلك البرج، إذ لا ينتهي بناؤه طالما أنّ الوعي يتجدد.

النص يفيض بجمالية لغوية أخّاذة، حيث يتناغم البناء المادي (البرج) مع البناء المعنوي (القصيدة)، ليجعل منهما صورة واحدة للحياة والتجربة الإنسانية. إنه نص يطرح أسئلة أكثر مما يمنح إجابات، ويدعو القارئ إلى رؤية الجمال في اللامتناهي، وفي المساحات التي لا تُقاس بالأرقام بل بالأسماء والذكريات.

قَرْميدو وإقصيدو

(4)

"هل كانَ بُرجاً أمْ قصيده؟

سيّانِ

قَرْميدو وإقصيدو هُما لَقَبانِ

مِن ألقابِ مِعْمارِيِّهِ الحُسْنى العديدهْ"

** ينسج هذا المقطع الشعري فضاءً فكريًا تتماهى فيه المعمارية بالشعر، ليقدّم رؤية فلسفية حول طبيعة الإبداع والاكتمال. يتلاعب الشاعر بالمفاهيم ليجعل البرج والقصيدة وجهين لحقيقة واحدة، مما يفتح المجال أمام تأويلات متعددة حول ماهية الجمال وبنية الخلق.

"هل كانَ بُرجاً أمْ قصيده؟ / سيّانِ"

يستهل الشاعر بسؤال جوهري، لكنه سرعان ما يلغيه بالمساواة بين البرج والقصيدة، وكأنّه يؤكد أن البناء المادي (البرج) والبناء اللغوي (القصيدة) ينبثقان من الروح ذاتها، كلاهما فعل إبداعي يحمل طابعًا هندسيًا في ترتيبه وتنظيمه. فالمهندس والشاعر صانعان للحضارة، والأثر الذي يتركانه يتجاوز حدود الزمن.

"قَرْميدو وإقصيدو هُما لَقَبانِ / مِن ألقابِ مِعْمارِيِّهِ الحُسْنى العديدهْ"

هنا تتجلى لعبة الأسماء، إذ يمنح الشاعر "قرميدو" وإقصيدو" دلالة رمزية عميقة، حيث يدمج عالم الهندسة (قرميدو من القرميد، رمز البناء) بعالم الشعر (إقصيدو من القصيدة) ، في صورة تمزج بين المادة والروح، الواقع والتجريد. كما أن استخدام "الألقاب الحسنى" يحيل إلى بعد صوفي، حيث تتعدّد تجليات المبدع مثلما تتعدد أسماء الجمال المطلق.

هذا المقطع القصير يُكثّف فيضًا من التأملات حول جوهر الإبداع، إذ يرى في الفن المعماري والشعر عملية خلق متكاملة، لا فرق بين حجر يُشاد وكلمة تُبنى، فكلاهما يمنح الإنسان معنى للوجود، وكلاهما يعبر عن توق الإنسان نحو الخلود.

القصيدة كقميص

(5)

"كَم كانَ إقْصيدو يَقولُ:

البُرجُ قُمْصانُ القصيدةِ

وَهْيَ تَمْشي عاريَةْ

.......................

البرجُ تَقتُلهُ القصيدةُ

قالَ قرْمِيدو المهَندسُ وهْوَ يعرفُ ما يَقولْ

لكِنَّ إقصيدو يُرَدِّدُ وهْوَ يَصعدُ: لا نُزولْ

إنَّ النزولَ كَهاويَةْ"

** يمثل هذا المقطع الشعري تأملًا عميقًا في العلاقة الجدلية بين المادة والروح، بين البناء الفيزيائي والتجريد الشعري، حيث تندمج الصورة المكانية (البرج) بالصورة اللغوية (القصيدة) لتصوغ رؤية فلسفية حول الإبداع والصراع بين الثبات والتحول.

"كَم كانَ إقْصيدو يَقولُ: / البُرجُ قُمْصانُ القصيدةِ / وِهْيَ تَمْشي عاريَةْ"

في هذه الصورة المدهشة، نجد إسقاطًا مجازيًا بديعًا، إذ يُشبَّه البرج بالقُمصان التي تُلبس القصيدة، وكأنّ البناء يحاول أن يمنح للكلمة شكلًا ماديًا، أن يكسوها بملامح محسوسة، لكنّ القصيدة بطبيعتها كيان متحرر، لا تقبل التقيد، فتمشي "عارية"، أي خالصة في تجريدها، بلا أثقال الزمن ولا قيود الجدران. هنا تتبدّى فلسفة التجريد والجمال المطلق، حيث تكمن قوة الشعر في هشاشته، تمامًا كما تكمن متانة المعمار في صلابته.

"البرجُ تَقتُلهُ القصيدةُ / قالَ قرْمِيدو المهَندسُ وهْوَ يعرفُ ما يَقولْ"

هنا تنعكس العلاقة بين الكيانين، فبينما كان البرج يمنح القصيدة لباسًا، نجد القصيدة الآن تهدد البرج، وكأنّ الفن المجرد يمكن أن يفتك بالمادة، أن يزلزل الثبات، أن يجعل الصرح المعماري بلا روح، فيموت رغم صلابته. هذه ثنائية عميقة تُذكّر بصراع الإنسان مع الخلود، حيث يبقى الإبداع متجاوزًا للحجر، لأن الكلمة تدوم حيث ينهار البناء.

"لكِنَّ إقصيدو يُرَدِّدُ وهْوَ يَصعدُ: لا نُزولْ / إنَّ النزولَ كَهاويَةْ"

هنا يصل النص إلى ذروته الفلسفية، حيث يؤكد إقصيدو أن النزول ليس مجرد هبوط، بل هو هاوية، إنه ليس عودة إلى الأرض، بل سقوط إلى العدم. وكأنّ الصعود، سواء كان ماديًا أو فكريًا، هو السبيل الوحيد للنجاة من الفناء. هذا المعنى يكتنز بعدًا صوفيًا، حيث يصبح الارتقاء رمزًا للبحث عن الحقيقة المطلقة، فيما يُصبح التراجع انحدارًا نحو النسيان والضياع.

هذا النص يفيض بالدلالات الرمزية، حيث يتجلى الصراع الأزلي بين الثبات والتغير، بين الملموس والمجرد، بين البناء والهدم، في لغة مكثفة عميقة، تجعل من البرج والقصيدة كائنين يتصارعان في فضاء الوجود، وكأنهما وجهان لحقيقة واحدة، لا تكتمل إلا بصراعهما الأبدي.

***

طارق الحلفي – شاعر وناقد

.................................

* [قيل، أن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه: «إدعوا لي أخي» فدعي.. ثم دعي..  ثم دعي.. ثم دعي علي بن أبي طالب، فستره بثوبه وأكب عليه، فلما خرج من عنده، قيل له: ما قال؟  قال:» علمني ألف باب كل باب يفتح ألف باب».]

* يشير جمال مصطفى في أحد تعليقاته على انه " حاول جعل الأسماء على وزن إنكيدو صديق جلجامش "

* رابط المدخل

www.almothaqaf.com/readings-5/979452

* رابط القصيدة

www.almothaqaf.com/nesos/971491

عندما تكون القصة فنًا وتحطّم القيود الأجناسية

نستكشف المبدع من خلال إبداعه وما ينتجه، ولكننا أيضًا قد نكتشف سحر هذا الإبداع وأناقته من ناقد مبدع. كتاب (غواية السرد وترويض النقد: دراسات تحليلية لأجناس أدبية) للناقد الأكاديمي المصري د. حافظ المغربي، والذي قسّمه إلى أربعة فصول، تناول عدة أجناس سردية، ولكني سوف أركّز على الفصل الثاني المعنون:

شعرية السرد وآفاق التجريب في قصص يحيى الطاهر عبد الله القصيرة والقصيرة جدًا: دراسة في نماذج من مجموعته "الرقصة المباحة".

هذا الفصل يبدأ من صفحة 81 وينتهي في الصفحة 145، وتليه قائمة مهمّة من المراجع والمصادر.

اتّسمت كتابة الناقد د. حافظ المغربي بسلاسة مغرية. من ميزات النقد الحداثي أنه يبحر بك وبمخيلتك ويشجّعك على قراءة المادة. كما أن هذا الفصل البحثي يدفع قارئه للبحث عن إبداع القاص الشاعري يحيى الطاهر عبد الله، ويقدّم هدية بديعة لمحبي هذا القاص العبقري في أسلوبه ولغته، الواقعي المحبّ لقريته الكرنك بجنوب مصر، السينمائي في تصوراته. كل قصة له نجدها إبداعًا فنيًا وتجريبًا شجاعًا يحطّم القيود الأجناسية عن وعي، بحنكة وشعرية تدميرية. فهو يتجاوز القيود والحدود والتابوهات، لكنه يميل للبسطاء، يسمعهم ويتيح لهم أن يحلموا وأن يتكلّموا وربما يرووا أيضًا.

قراءة هذا الفصل البحثي ستفيد النقاد المهتمين بفن القصة القصيرة وكتابها، وحتى كتّاب ومبدعي الرواية. نعم، يمكننا أن نتعلّم كتابة الرواية وحتى المسرح والسيناريو من قاص عظيم مثل يحيى الطاهر عبد الله.

كل الشكر لأستاذنا الناقد د. حافظ المغربي، على جهده الأنيق والتحليق بنا في عوالم السرد الساحرة.

شعرية السرد وآفاق التجريب

يلفت الناقد انتباهنا إلى أن قصص المبدع يحيى الطاهر عبد الله تحمل روح الشعر: (أي قريبة من لغة الشعر، دون إيقاعه ووزنه، وأقرب في بعض نماذجها من قصيدة النثر). هذا الرأي النقدي لم يأتِ مجاملة، ولو عدنا مثلًا إلى قصة الغول، وهي من صفحة واحدة، لكنها استطاعت أن تلخّص بشعرية مدهشة قضية كبيرة جدًا.

قصة "الغول": تأمل نقدي

هناك روايات عربية كثيرة عن الغول، وبعضها فشل في عرض جوهر الغول. يحيى الطاهر في هذه القصة لم يعرض أحداثًا جسيمة، لكنه نجح بأسلوب سلس وسهل أن يمسك بعقدة القضية، وكأنه يقول: الغول ليس من خلق الآلهة، بل هو من خلق البشر.

الشخصية، التي سمّاها المطرود من أهله، تسير مع قطّتها الحامل في الصحراء والضياع. ينجح القاص في خلق شخصية قوية ومهمة دون الإسراف في وصفها وأسباب طردها. يدعونا القاص هنا للمشاركة في بناء هذه الشخصية وتخيّل أسباب خروجها مطرودة دون ماء أو طعام أو أي سبب من أسباب الحياة.

بجمل ترسم وتصور وتفتح شهيتنا التخيلية، يمضي القاص ليحكي قصة ميلاد الغول، وربما يكون الغول الأول في الكون. كفيلم سينمائي قصير، تمضي الأحداث الصغيرة لتخلق الحدث الجسيم: ولدت القطة، جاعت القطة فأكلت أحد صغارها وشربت دمه من أجل حياتها، قلدها هو وأكل لحم القط الصغير. لم يعجبه اللحم النيّئ، فأشعل نارًا وشواه.

هكذا، انتقل الإنسان من الإنسانية إلى التوحش. عندما شاهد القتل، قتل، وقتل، حتى تحوّل إلى غول.

قوة إبداع هذا القاص تكمن في فكره وموقفه الواضح القوي هنا ضد القتل بكل أشكاله وأنواعه، وضد خلق شخصية القاتل. ربما لو أن هذا الشخص لم يُطرد ويُهان، لتغيّر مصيره.

يشير الناقد حافظ المغربي إلى تجربة هذا القاص بأنها: (ثرية في طبيعة بنائها الفني، من خلال جدلية الرؤية والأداة، أو المضمون والشكل). ومن خلال البحث والاستشهادات، نشعر أن القاص ليس هدفه مجرد الكتابة، فهو يعتبرها فنًا وحياة وليست مجرد مهنة. لذلك، قصصه تجعلنا ننغمس معها في لحظة كل حدث وننتقل معها في الحقول والأكواخ وقرب الترعة، في الأسواق والغرف الضيقة، تلسعنا شمس الظهيرة كما تسحرنا هذه الشمس.

إذا لاحظنا، الكثير من قصصه تعطي قداسة خاصة للشمس وللنهار بتفاصيله وأزمنته. لكل لحظة سحرها اللوني. يكون السرد والوصف كأنه أدوات رسم وتصوير، تتفاعل الشخصيات مع هذه الأزمنة واللحظات وتعيشها.

قصة "البكاء": أسطورة في قالب قصصي

يمتلك القاص عبقرية مدهشة، يبتكر مفردات بسيطة وأدوات حياتية، فيحرّكها ببراعة ليفجّر دلالات قوية، وأحيانًا قد تكون صادمة وصاخبة. لو تأمّلنا نص البكاء بما فيه من فنتازيا، نجد أن القصة ليست بعدد شخوصها أو الواقع الظاهر على السطح.

يحيى الطاهر عبد الله ينسخ أساطيره الصغيرة. ففي هذه القصة، الحية التي قُطع ذيلها تهرب إلى بيت جارته العجوز، التي تربي الدجاج. الدجاجات مصدر رزق العجوز التي، لعدم قدرتها على محاربة الحية، تعقد معها اتفاقًا: تطبخ لها كل يوم بيضة مع البصل.

باضت الحية وأخفت بيضها، ثم فقس البيض، وأصبح لها صغار. خرقت الحية الاتفاق، وقتلت إحدى الدجاجات، ثم قتلت الرجل الذي قطع ذيلها، وخرجت تاركة العجوز تبكي وتندب.

كأن القاص يسألنا: أين الشر؟ ومن هو الشرير؟ أكانت العجوز ساذجة لتأمن مكر هذه الحية؟ أم أن الحية ضحية عنف ذلك الرجل؟

أفكار كثيرة تنبثق من نص صغير وقليل العبارات. قوة المبدع تكمن في إثارة الجدل، تجعلنا نعيد ترتيب الأحداث ونتخيل الدوافع. هذا النص، والكثير من نصوصه، قد تُفهم بطرق متعددة: اجتماعية، سياسية، أو مراجعة لتاريخنا وهفواتنا ونكباتنا.

التجريب وتحطيم القيود الأجناسية

يتحدى يحيى الطاهر عبد الله القيود التقليدية للأجناس الأدبية. قصصه القصيرة جدًا تعتمد على التكثيف، لكنها تمتلك عمقًا فلسفيًا ونفسيًا يترك أثرًا عميقًا في القارئ.

إذن، سنجد أنفسنا أمام قاص يجرب بخيال فني لا يقيّد نفسه بمصطلح أو تسميات. يكسر الحدود والأجناس والأنواع، ويرفض الخضوع والإنصياع الأعمى لقواعد ونظريات السرد في عصره. يقول إن كل شيء وموقف يمكن أن يصبح قصة.

سنجد أنفسنا مع قاص تأملي، يشاهد من بعيد ثم يقترب وينصت. يجعل شخصياته تتكلم بعفوية وبلسانها هي، تنازعه وظيفته كسارد، تسرد أو تصف مشهدًا بأسلوبها، تصرخ وتضحك، تبكي وتحلم.

السينمائية في السرد: مشاهد حيّة محفزة للخيال والتفكر الفلسفي

المتأمل لقصص يحيى الطاهر عبد الله كأنه أمام شاشة سينمائية، يشاهد فيلمًا إيرانيًا شعريًا أو فيلمًا يابانيًا. يذكّرنا أسلوبه أيضًا بأفلام أندريه تاركوفسكي، في تأملاته للأرض وقلة شخصيات بعض نصوصه، وكذلك بالرؤية الذاتية الحرة في أفلام بازوليني.

نجد يحيى الطاهر يبرع في خلق أكثر من وجهة نظر، ولا يهتم بخلق بطل واحد أو مصير واحد. وجهات النظر متعددة، والأصوات متنوعة، حتى في النصوص التي يمكن وصفها بالقصيرة جدًا. يمتلك قدرة خلاقة على خلق نهايات بديعة.

التناص والتراث الشفهي

وكما وضّح الباحث حافظ المغربي، نجد نزعة القاص لتكون قصصه محكية كأنها من التراث الشفهي السهل الحفظ، والساحر للسامع. يصوّر ببراعة، يلوّن لغته، يضرب الأمثلة، يستشهد بتناصات مختصرة. تناصاته أشبه بومضات خاطفة، كأنه يبحث عن الصورة وليس النص. وقد يأخذ جزءًا من الصورة ويكملها من خياله.

قصة "الخوف"

نختم بمراجعة تأملية سريعة لنص الخوف. الأسلوب اللغوي كحكاية تراثية شفهية، دون الوقوع في الجناس وصناعته. في هذا النص، نحن مع تاجر عقيم يتزوج حسناء جميلة، يحبسها في البيت، يغرقها بالملبس والمأكل، ويقضي معها الليل ليأخذ لذاته.

تتبدّل أحواله بالوسواس، ثم يحدث الانقلاب عندما تهاجمه خيالات فيقتل أحدها. يخاف من انتقام خيالين لصاحبهما الميت. هذا التاجر يريد المال والجمال.

تنتهي القصة برسم شخصية مصابة بالهوس. يغلق التاجر دكانه ويحمل بندقية ليقتل روحين، وأحيانًا يطلق رصاصتين في الهواء.

كأننا مع مشهد من مشاهد المخرج السينمائي فيديريكو فليني أو تيم برتون. القاص يبدأ القصة كأنها حكاية، ثم يحدث انقلاب مفجع. تتوحش الشخصية، وتترك لنا مساحة للحوار معها، لتحليلها، لنكرهها أو نحبها.

القاص هنا يخفي صوت الزوجة الجميلة. لم نسمع اعتراضها أو صوتها، لكننا نتخيل وجعها وألمها من زوج يأخذ لذته، وهي وحيدة ولن يكون لها طفل لأن التاجر عقيم.

الشخصيات النسائية في عالم يحيى الطاهر

تتجلى قضايا اجتماعية كثيرة. يصوّر الشخصيات النسائية دون مبالغات. الشخصية النسوية تعاني وتخاف، تحلم وتأمل، تحب الحياة والتحرر، كما تعكس قصصه القهر الاجتماعي والضغوط النفسية وعادات وتقاليد تكرس ضعف المرأة وتنتصر لذكورية الرجل وسلطته المطلقة، وكذلك فهذه القصص تتأمل الطفولة وما يعانيه الأطفال من قسوة وديكتاورية الأباء.

من الصعب أن نوجز الحديث عن هذا القاص في مقالة واحدة، أو أن نعرض ملخصًا وافيًا لهذا الفصل النقدي من كتاب غواية السرد وترويض النقد: دراسات تحليلية لأجناس أدبية للناقد المصري د. حافظ المغربي. الكتاب يستحق القراءة، وهو مساهمة نقدية مهمة. وما أحوجنا لنقد إبداعي يحفزنا على اكتشاف المبدعين وفهمهم والذهاب إلى عمق النص الإبداعي.

***

حميد عقبي - باريس

"إنها ليست الكتابة المكتوبة فقط، ما يهم، بل يتوجب قراءة الكتابة غير المكتوبة أيضاً"! المسرات، ص10

هذه الرواية مقسمة إلى اربعه فصول، لكن الانطباع السريع أنها تتكون من جزأين، الأول مكتوب بلغة سارد خارج عن الشخصيات والثاني على لسان البطل، الراوي توفيق.

تبدو "المسرات والأوجاع" من صفحتها الأولى أنها رواية ذات مغزى فني عميق يمكن أن يكون قريبا أو متجسدا بالمقولات الفلسفية، التي أوردها العراقي فؤاد التكرلي في نهايتها.

إنها في حقيقة الأمر رواية واقعية فلسفية عن حياة بشر عاديين وإنسان من مستوى خاص ولكنها مشبعة أيضاً بالمفاهيم ألأليغورية المجازية والرمزية ذات العمق الفلسفي والخيال والدفقات المضمونية في "دربونة الشوادي"، حيث تكوّنت عائلة القردة من نسل الجد الحطاب المعروف "بجسده القصير المتين وبخلقته الغريبة، فهو أقرب إلى القرد منه إلى الإنسان" أنظر: فؤاد التكرلي. المسرات والأوجاع. دار المدى للثقافة والنشر، ص5

تتأسّس هذه الفكرة المجازية عن عبد المولى منذ بداية الرواية في مضمونها وبنيتها كما سنرى لاحقا، فوصف الكاتب له كونه مختلفا عن الآخرين من حيث الأصل والتكوين له دلالته لا بدّ من التوقف عندها، فهذا المسخ " لم يعلم أحد من أي مكان قدم إلى تلك المنطقة الحدودية المفتوحة.. غير أنه كان يتكلم بلكنة أقرب إلى لكنة الهنود.. وتضاربت الآراء مع الإشاعات عن سبب قبول هذه الفتاة ابنة النجار، التي لا علاقة لها بالجمال، بقاطع الخشب القادم من المجهول والذي لا علاقة له هو الآخر بالشكل البشري. قيل إنه والدها، اراد التخلص من هذه المصيبة، وقيل إنها ثروة عبد المولى.. وقيل إنها رأت فيه شيئاً أضاع صوابها فوافقت." المسرات والأوجاع، ص 6

نجد في هذه الرواية صوراً ذات معانٍ أليغوريةٍ تم التعامل معها وتصويرها ومعالجتها في مشغل عمل الكاتب بطريقة "تكرلية" تختلط فيها الأوراق والصور والمفاهيم بحيث تتحمل قراءات متعددة ومتنوعة ومختلفة في آن واحد وتعطي الفرص لمختلف التأويلات والتفاسير.

ولهذا فقد يكون من غير المجدي البحث عن حياة الكاتب وتجاربه الشخصية ودورها في بلورة الأحداث الروائية أو تأويل واحد للبنية والمضمون الروائيين إذ إن ما نقرأه هنا ليس تصويرا للواقع فحسب، بل إعادة تصويره وخلقه والأصعب من هذا وذاك اقتحام الحياة وإعادة فلسفة ظواهرها بدءاً من الأكل والشرب مرورا بالجنس، هذه القوة العمياء وانتهاءً بالامتلاك أو أن تكون إنسانا أو لا تكون.

ولكنه قد يكون من المفيد للباحث الاستعانة بخلفية التكرلي الثقافية والروحية وغيرها من الأمور، التي جعلته يهتم بهذا الجانب دون غيره من جوانب العمل الفني وبخاصة الرمز والجنس. 

فالقارئ في حقيقة الأمر وكما سيتبين لاحقا ليس أمام مجموعة من البشر، أراد الكاتب أن يشبههم بالقردة في الخلقة والتكوين فحسب، بل في اسلوب الحياة والعيش وكما لو أنه يدعونا للنقاش حول السؤال الأزلي عن مغزى الحياة.

يتكرر وصف أشكال أفراد عائلة عبد المولى ".. كمجموعة من ممثلي السيرك" ص10 لدرجة أن زوجة سور الدين، بن عبدالمولى أصيبت بالذعر لسماع " نقيق" أطفالهم. ص11

يبدو أنهم يحملون رمزا (أليغورياً) غير عادي وليسَ جديداً في عالم التكرلي، الذي سبق له وأن قدّم لنا في روايته "الرجع البعيد" منيره، واحدة من أجمل المخلوقات الرمزية الروائية العربية.

حتى المكان: دربونة الشواذي "درب القردة" يبدو أنه موظف لتكريس هذه الفكرة الأليغورية المطلقة مع هؤلاء الناس المشكوك في أنسنتهم وإنسانيتهم كما سنرى فيما بعد.

تتكرس هذه الموضوعة باضطراد مع تصاعد بافَث (حماسة) السرد الروائي وظهور أبطالها وتفاقم الأحداث وتناقضاتها، حيث تصبح ولادة توفيق منحى أليغوريا جديدا يضيف للشكل المضموني الروائي دفقا تشويقيا في بداية السرد حيث يولد الطفل الجميل الإنسان الطبيعي توفيق ".. في الساعة الخامسة من فجر يوم الأحد الخامس عشر من حزيران 1932

أعتقد أنه من الضروري البحث في التاريخ الشخصي والخاص والعام عن هذا اليوم في العراق للعثور على ما يمكن إضافته لفهم الصورة الفنية ولتفسيرها ضمن السياق الأليغوري.

.. كان توفيق طفلا نادرا في جماله، فشعره الأسود الناعم منثور على جبينه، وعيناه واسعتان وتقاطيعه مرسومة بإتقان على صفحة وجهه الصافي البياض" ص17 و"توفيق يزداد وسامة وعنادا ومشاكسة"18 لدرجة أن عمتهم صاحبة الدار تغدق عليهم بسببه المال والهدايا والأكل. توفيق بادرة خير في شكله وحضوره، إلا أن الصورة تتغير كما سنرى فالعالم كله يشن عليه حروباً غير معلنة.

تحمل المقارنات من حيث الشكل والخلقة بين توفيق من جهة وأخيه القبيح عبدالباري وأقربائه الآخرين من ناحية أخرى، تحمل نفس المعنى والمغزى ف"ما أن بلغ توفيق الثانية عشرة من عمره حتى تساوى في الطول مع شقيقه عبد الباري الذي يكبره، كما نعلم بسبع سنوات والذي تجاوز سن المراهقة دون تغيير في هيئته التي لا تسر. ولم يذق توفيق من الحرمان ما ذاقه أغلب العراقيين باستمرار الحرب العالمية الثانية.." ص21، بينما نجده على عكس أخيه ".. طويلاً نحيفا.. بمظهر جذاب يملأ العين،..". ص22

وفي مكان آخر يتساءل توفيق نفسه ".. من أين جاء كل أولئك البشر ذوي الخلقة الملتوية" بينما يصفه الكاتب ب " الوضاء لم يكن يحمل شارة "الدربونة" على وجهه.. هذا الذي قرأ جده على رأسه القرآن". ص27

التأكيد على اشكال آل عبد المولى يتكرر في أكثر من مكان من الرواية وبإشارات واضحة لا غموض فيها، أنظر مثلا ص132

ولهذا فليس صدفة أن يذكر سانين قبل غيره من الأبطال الروائيين الذين تأثر بهم توفيق، فنحن إذن أمام إنسان من مستوى خاص في الواقع والفضاء الروائي، إنسان منصرف نحو الحاجات الروحية كالجنس والكتب. ص28

يدخل ضمن هذا السياق الأليغوري العديد من التفصيلات السردية بما فيها انتقال سور الدين "البعيد عن الفطنة" ص16، والد عبدالباري القرد وتوفيق من خانقين إلى بغداد عام 1931 واهتمام الأم بعبد الباري القبيح أكثر من أخيه الجميل وسرقتها ماله. أنظر ص263 وإتلاف رسائل آديل، محبوبة توفيق، من قبل المعتوهة كميله المهووسة بالامتلاك، "رسائلي؟ لماذا؟ ماذا عملت لهم؟ ص267، ورجل الأمن الأعرج، الأمي العادي وهوسه في الوصول إلى كرسي الحكم والسلطة ولكن ليس بدون متاعب "كرسي مدير العام بالوكالة انكسر تحته مرة أخرى" ص315 وصعود المحامي المسخ المقطوع الجذور ممتاز، الذي يستعير لقب اللامي والاعتداء على توفيق في خانقين ص283-284 وتصرفه في فاتحة آل قصابي ص381، إضافة إلى نهاية الرواية المتجسدة بعلاقة فتحيه وجنينها من غسان، الشخصية الموازية لتوفيق، والتي تذهب ضحية الحرب تاركة ورائها خمسين ألف دينارا. 

لكنها ليست رواية أليغورية كلاسيكية وعظية تعليمية ترمز فيها الشخصيات إلى الخير والشر، تتصارع فيما بينها وتكون النهاية سعيدة حسب مفهوم الكاتب للسعادة من وجهة نظره.

سنرى فيما بعد أن هذه المسحة الأليغورية غير مقتصرةٍ على الوصف الخارجي للأبطال ودرجة شبههم بالقردة فحسب، بل شملت مقومات الرواية الأخرى مثل الزمان والمكان وعلاقاتهما الهرونوتوبية ( الزمكانية) ونشاطات السياسة والحب والجنس والامتلاك. نلاحظ مثلا أن تكاثر آل عبد المولى يبدأ "بعد تأسيس الدولة العراقية الجديدة". المسرات والأوجاع. ص 11

لا شيء عند فؤاد التكرلي بدون مغزى، ويخطىء أي ناقد يتناوله بدون التعمق في مغزى كل حرف وصورة ونبرة، ومن هذا المنطلق يجب الاعتماد على التأويل الباطني وليس الظاهري لكل حدث وظاهرة وممارسةٍ.

تتضح هذه الفكرة الأليغورية في بنية الرواية أيضا من حيث اعتمادها على طريقتين سرديتين رئيستين: الأولى تقليدية والآخرى على لسان الراوي، أو السارد العليم، البطل اللغز توفيق وكتاباته ومذكراته، إضافة إلى الأساليب الثانوية الأخرى.

إذ إننا أمام سرد تقليدي، يقوم به الكاتب متنقلا بكاميرته لوصف تاريخ تطور عائلة عبد المولى وابنائه وأحفاده في خانقين حتى انتقال ابنه سور الدين إلى بغداد وولادة توفيق الرمز المجازي الكبير في هذه الرواية.

إن المتلقين لهذا النوع من الروايات يتعاطفون ويتفاعلون مع شخصية معانية، مدمرة، ضحية ومسحوقة مثل توفيق رغم مغامراته الجنسية، التي قد تبدو لبعضهم مجرد لهو وعبث، يتعاطفون معها بسبب صدقها ومرارة حياتها وقدرة الكاتب على استخدام لغة معبرة خاصة بها ذات إيقاع داخلي ونبرات شاعرية وحسية مرهفة.

ويُفاجيء المتلقي المتفاعل اثناء قرائته الصفحات الأخيرة لهذا العمل الفني ببقاء توفيق على حاله من الفقر والإفلاس حتى قبل نهاية الرواية بثلاث صفحات. قد يرفض المتلقي في مثل هذه الحالة نهايةً تعيسةً، يُشرّد فيها بطلٌ وُلدَ جميلا رائعا متعلما ذكيا ويبقى فقيرا وحيدا بلا مال ولا بنين، لا زوجة ولا ذرية ولا أهل. وهذا أمر مناقض تماما للتفسيرات الأليغورية الكلاسيكية الرمزية القديمة التي تفترض نهايةً سعيدةً لقوى الخير التي يمثلها هنا توفيق وغسان ونهايةً أخرى بائسةً لقوى الجشع والشر والخانعين مثل أم توفيق وثريا وآل القصابي والمحامي المتسلط المسخ ممتاز اللامي، الذي يلقى حتفه مع عشيقته نتيجة لصاروخ إيراني يسقط عليهما في خانقين فيضيع كل شيء.

هذه هي النظرة الكلاسيكية التعليمية لمثل هذه الطباع، لكننا أمام نص تختلط فيه الأوراق أو الطرق بحيث تبدو لي "المسرات والأوجاع" رواية معاصرة بمسحة كلاسيكية ليس في كيفية تناول الرمز فحسب، بل في طريقة السرد في الفصل الأول وفي الحدود الحسّاسة الفاصلة بين لغة الكاتب في كل العمل الفني من جهة، ولغة السارد بضمير الغائب ولغة الراوي بضمير أنا.  

ومع ذلك حدثت هذه النهاية السعيدة عمليا، ولكن بطريقة معاصرة ضمن وحدة سردية مفاجئة فيها الكثير من الفنية والتشويق ومقبولة ومتوقعة بالنسبة للمتلقي المتفاعل مع العالم الداخلي للنص، مفاجأة، ينهي فيها الرواية خير نهاية "أدخلت، مع ذلك، المفتاح الصغير في قفل الحقيبة الخضراء وأدرته كما يجب ثم رفعت الغطاء. كان الفجر، متسعا، أخاذا بألوانه الحمراء والزرقاء والصفراء، يتفتح ببطء على رقعة السماء المنبسطة باسترخاء أمام شارع أبو نواس، وكنت أسير على مهل، واضعا يديّ في جيبي معطفي، استنشق بعمق نسائم بقايا الليل الباردة..شاعراً كأن أعماقي تغتسل مثلما تفعل السماء..لم أتحمل البقاء بعد تلك الليلة البيضاء، فخرجت أتمشى وأحقق هذه المسيرة العجائبية على ساحل النهر، مستقبلا يومي الجديد". المسرات، ص460

يذكرني هذا الوصف الشاعري بطريقة وصف بطل رواية الرجع البعيد، الذي عقد العزم على العودة لحبيبته وزوجته منيره رغم إطلاق الرصاص بين المتصارعين على السلطة، فيصاب برصاصةٍ، لكنه مع ذلك في نهاية المطاف يستر شرف زوجته التي اغتصبت قبل عقد قرانهما، ذات الصفة النورانية والمقدسة بقدر قدسية وطنه العراق. لكن سلوك مدحت هنا أقرب إلى الواقعيةً وليس ألأليغورياً أسطورياً خالصاً، كما هو الحال لدى وليم فوكنر عند تصويره بطل" الصخب والعنف" (كوينتن) الذي يدّعي أنه هو من فضّ بكارة اخته ليستر سلالتهم والجنوب الأميركي كلّه، ولهذا لم يثق والده به! بينما يثق القارىء بسلوك مدحت كونه نابعاً من شخصيته المدينية المتفوقة رغم المعاناة النفسية الكبيرة والعميقة التي مرّ بها والعراق في شباط 1963. 

ولهذا ليس صدفةً أن الروائي فؤاد التكرلي يذكر رواية «سانين» للروائي الروسي ميخائيل أرتزيباشيف، الذي يعتمد على فلسفة الألماني العدمي ماكس ستيرنر 1806-1856 الأقرب إلى الوجودية وفكرة الحرية الفردية ورفض التقاليد المحافظة، والذي انتقده إنجلز شعراً!

ولهذا نلاحظ أن توفيق (المسرات) أكثر تحررا من مدحت (الرجع البعيد).

ولو افترضنا مثلاً أن توفيق "المسرات والأوجاع" لقي نفس مصير مدحت "الرجع البعيد" لاعتبرنا النهاية غير موفقة أو على الأقل غير متناسبة مع السياق العام وبافَث (شغف وحماسة) السرد كله وحماسته أو لفقد حديثنا عن طابع الشخصيات الأليغوري أساسه العلمي.

يقول توفيق "تذكرت غسان وما عمله معي. لم يكن إنسانا عاديا بالمرة، وها أنذا أتأكد من ذلك بعد رحيله الأبدّي. كان، بحياء لا يصدق، يخترق ببصيرته الحجب ويدرك نوع البشر الذين يعايشهم. ورغم كل شكّي، فإن معدنه الإنساني كان قد صُهر، كما يبدو، بتجربة عظمى صفَّت، بشكل ما، روحه وقلبه وفكره. أكان إذن على علم بكل شيء.. بكل النوايا؟.. وكيف يتأتى لبشر أن يعرف مالم يخلق بعد أو يصير؟.. نضد من الدنانير في لفافات محاطة بشرائط ومصفوفة بإتقان، ملكت، قبلئذ الوقت لتعدادها فكانت خمسين ألف دينار". ص461-462 أريد أن أقرر ما يجب أن أعمله بشأن هذه الثروة، ثروته، بشأن تلك الفتاة، فتاته، بشأن جنينها..بشأنها وشأني". ص463

يمكن للباحث ان يلاحظ بجلاء اللغة المفعمة بنبرات داخلية تتسم بالشاعرية والسمو والتفاؤل ومحاطة بالرهبة من اتخاذ القرار رغم أن الفجر ملون بألوان رائعة، ذات أبعاد رمزية.

ويمكن ملاحظة طريقة وصف الطبيعة والعالم الداخلي للبطل والجو النفسي والمشي ببطأ بدلا من حالات التسكع والتشرد والشعور بالجوع ومرارة العيش، التي لاحظناها عليه قبل استلامه هدية غسان النقدية، مما يؤكد رأينا حول الجانب الأليغوري في هذه الرواية ولكنها بالتأكيد ليست تقليدية كما هي في العصور القديمة والوسطى.

ويقول توفيق مختتما الرواية "أحسست بمواجهة الشمس والسماء ودنياي، بخفة روحي تزداد، وخطر لي بأني في نهار رائع كهذا قد أستطيع أن أفهم بعمق وان أنفذ إلى الخفايا التي استغلقت عليّ ليلة أمس. ولعلي، إذ أنشد بإخلاص مثال الخير والجمال، أكون أكثر قدرة على الاختيار الصحيح وأكثر صلابة في السير نحو هدفي.

فما دمت متأكدا بأني وغسان عشنا زمننا، الذي أتيح لنا بالصدفة، متحدين نفسا وعاطفة ورؤى، فلا بدَ إذن أن أتوصل إلى إدراك ما يُفترض أنه تمنى على أن أعمله، له ولها ولي. لا بد". المسرات والأوجاع، ص 464

أخيرا فإن هناك إشارات أليغورية عديدة موزعة على مختلف مساحات الفضاء الروائي في الحبكة والبنية والوصف الخارجي والداخلي ووصف الطبيعة وتطور الشخصيات وغيرها من السرديات التي مارست حضورها في هذه الرواية، والتي يمكن ويجب درجها ضمن هذا المفهوم.

يمكن للباحث التوقف عند الطابع الأليغوري لمختلف الشخصيات بما فيها أسماءهم، مثل رجل الأمن الأعرج سليمان فتح الله وكرسيه والمحامي المسخ ممتاز اللامي وآديل وأنوار وتوفيق وغسان وعبد الباري وكل القردة.  ويمكن مقارنة هذه الظواهر التي ذكرناها بكل اعمال التكرلي الأخرى، القصصية الأولى مثل "موعد النار وهمس مبهم والقنديل المنطفىء والوجه الآخر" وغيرها و"الرجع البعيد" و"خاتم الرمل" وأعمال روائية لكتّاب آخرين.

وفي الحقيقة أن هذا الموضوع يستحق دراسة كاملة، يمكن لها أن تعتمد على معالجة قراءات الكاتب وتجاربه الشخصية لا سيما وأنه عمل في القضاء العراقي مما سمح له الاطلاع على جوانب حياتية لم يكن يمكن لزملائه الآخرين من الكتاب العراقيين أن يطلعوا عليه.

 زمان الرواية

يبدأ الفضاء الروائي بظهور عبد المولي منذ بداية القرن العشرين حتى الحرب الأخيرة بين العراق وإيران "كانت دربونة الشواذي في بداية القرن العشرين قد امتدت وأخذت ابعادها..قبيل الحرب العالمية الاولى 1914-1918 بقي من الأبناء اثنان لم يتزوجا..". ص7-8

وفي ص 11 يشير السارد إلى أن العائلة تكبر بعد تأسيس الدولة العراقية كما ذكرنا سابقا ص11 وأن نور الدين ينتقل إلى بغداد على مشارف العقد الثالث. ص15

ويلاحظ القارئ أن الكاتب يحاول أن يربط الأحداث الشخصية بالتواريخ الكبيرة المهمة والأحداث التي تهز الأمة والعالم مثل الحرب العالمية الأولى والثانية وتقسيم فلسطين ومعاهدة بورتسموث 1948 والثورات أو الانقلابات العسكرية في 14 تموز 1958 و8 شباط 1963 و14 رمضان 1963 ونكسة حزيران مهتما بتبعات 1968 وما بعدها، التي تتجسد بممارسات رجل الأمن الأعرج سليمان فتح الله بشكل تصاعدي حتى اندلاع الحرب مع إيران عام 1980 كنتيجة لحالات الجشع والامتلاك والسيطرة متمثلة بممارسات عائلتي عبد المولى وآل قصابي وكميله وممتاز اللامي وخنوع جاسم الرمضاني وإسحق توفيق.

يقول السارد: ".. قرار ابنته الرزين ببيع دارهم في خانقين. كان ذلك غبَّ مقتل الملك غازي الأول وقبيل الحرب العالمية الثانية سنة 1939.. ” ص19 ويقول في مكان آخر من الرواية "ومرت أحداث تقسيم فلسطين والمظاهرات الشعبية ضد معاهدة "بورتسموث" أواخر 1947 وبداية 1948 دون أن تمس العائلة بسوء فعبد الباري ووالده منكبان في العمل وتوفيق بدا لوالدته أكثر إدراكا من تعريض نفسه لمخاطر مجانية إلا أن الحقيقة هي أن هذا الأخير لم يكن بهذه الرزانة التي توسم بها فقد خرج مع الطلاب الخارجين في المظاهرات إلى الشارع عدة مرات وهتف مع الهاتفين وشاهد الجواهري يلقي قصيدته محمولا على الأعناق". ص22

يحدث انتقال عائلة آل قصابي ضمن احداث 1948 ص23 ويصف كلية الحقوق عام 1952 ومظاهرات 1952 ص30-31  و"في سنة 1956، حين كان العالم يشتعل في قناة السويس والمؤامرات تحاك في الشرق الأوسط على كل الأصعدة اتخذ توفيق وأصدقاؤه وكلهم موظفون محترمون لا يتدخلون في السياسة قرار... للعب البوكر في أحد النوادي". ص47

كما يبدو من النبرة التي يحكي لنا بها السارد حكاياته بأن الرزانة أبعد من السياسة في هذا البلد الذي كما يبدو لا يعرف أحد حقوقه ولا يميزها عن حقوق الآخرين كما سنرى ولهذا فإن أبطال التكرلي على الأغلب لا يتدخلون في السياسة ولا أحداثها، لأنهم برأيي غير قادرين على صنعها بأنفسهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. لم يتعاطَ مدحت بطل الرجع البعيد السياسة ولا توفيق لكنهما يتميزان بالصدق والأصالة وبالمستويين الخاص والعام ونوع من السمو الاخلاقي.

أعتقد أن هذا الأمر يستحق عناية ودراسة خاصتين من قبل الباحث المهتم بعالم التكرلي وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى تكوينه الفكري والنفسي ورؤيته للعالم وموضوع نسبية التفاؤل والتشاؤم وغيرهما من المفاهيم. أبطال الروائي لا يقدمون على أعمال سياسية كانت أو عاطفية بدون شروطهم الخاصة بهم لفهم الأشياء العميقه بغض النظر عن إيجابيتها أو سلبيتها. في الحقيقة أن موضوع التفاؤل بشروط يجب أخذه على منتهى الجدية ومناقشته على أساس فلسفي وعقلاني لا عاطفي.

والزمن يصبح بتطور العمران والجشع والامتلاك مشحونا عنده في "المسرات والأوجاع" بتَبِعاتِ السياسة المدمرة وتصعيداتها وليس بأحداثها اليومية والمحلية ونشاطات أحزابها، كأن يأتي هذا الأعرج الأمي ليصبح رجل أمن ثم مديرا ينهي ويأمر ويساهم في إيقاف دورة العمل والإجراءات الإدارية وتعطيل الحياة، بل شلّها.

وما تكدس الرسائل إلا رمز استباحة المجتمع له ومصادرة آرائه، إلا أن التكرلي كعادته يفضل ان يصورها بطريقة غير مباشرة بعيدة عن نشاط الأحزاب والحزبيين والمظاهرات السياسية. أنظر ص 129، 139، 149، وأنظر حول فصل توفيق من عمله: ص185

كان من الواضح أن تبعات هذه السياسة في هذا الزمن العراقي المعاصر، الذي يتحرك فيه الفضاء الروائي تأخذ بالاتساع لتشمل الحياة الاجتماعية والسقوط الأخلاقي لتصل إلى نتيجة مدمرة تأخذ معها غسان، ذلك الرمز الضارب في الأعماق ليس بالنسبة لتوفيق فحسب، بل لكل الصرح الروائي كعمل فني.

وكان أيضا من الطبيعي أن يتفاعل المتلقي مع الكاتب بأن هذا السرد أو بالأحرى التسلسل التاريخي سيؤول إلى حدث كبير مثل الحرب "آلة الهرس الجماعي" كما يسميها التكرلي، حدث المحنة الكبرى، لا يمكن أن يمر عليه مرور الكرام بدون أن يرتبط بمصائر البشر وحياتهم فكان أن وظفه لخدمة بنية الرواية ونهايتها التي أعطت دفقا زمنيا جديدا لبداية جديدة، يولد فيها ابن غسان وفتحية وقد يحدث هذا في رعاية توفيق! ص 414

بنية الرواية:

عند نضج البطل توفيق تتغير بنية الرواية ويترسخ كشف الواقع مختلطا مع الأليغوريا والرمز ويصبح إنسانا لغزا، يربط العالم كله حوله وليس الأبطال الآخرين فحسب، بل أحداث الرواية كلها.

يصبح توفيق السارد مركز شد هام في بنية الرواية، تزداد أهميته بإضطراد وبشكل حماسي يشكل ما يدعى بالبافَث الفني. هذا البافَث أو الحماسة تتصاعد باستمرار صعود نجمه و"أُفوله" حسب مفاهيم القردة "الفولجار" المبتذله، ومع تحركاته وصولاته وجولاته الجنسية وتشرده في احياء بغداد القديمة والحديثة مستمتعا رغم التشرد بالمعنويات الروحية على الضد من انشغالات الرعاع الحياتية الضيقة الأفق.

ويلعب الكرونوتوب دورا كبيرا في تشكيل الفضاء الروائي وشد معماره من خلال التشرد والتجوال ووصف الأمكنة وربط الأحداث والشخصيات الأخرى بالبطل وببعضها بعض.

كما أشرنا سابقاً، يلتزم الكاتب في الفصل الأول بالسرد التقليدي، الذي يكاد أن يكون الجزء الأول من الرواية حيث تسود موضوعية الوصف باستثناء حالات سردية معينة تتسرب فيها تلميحات فكرية أو تصريحات تعبر عن وجهات نظر الكاتب الأكثر تعقيدا في مثل هذا العمل كما سنرى في أجزاء الرواية الأخرى.

الجزء الثاني من الرواية هو الأكثر تعقيدا لكونه يمد القارئ بقوة دفع خيالية بسبب دفق الأفكار والمفاجآت وتسارع الأحداث بيان غير ساذج أو بسيط لواقع ظاهره معقول أو يقوم على القيم والأخلاق بينما باطنه ليس كذلك.

من هنا تأتي أهمية شخصية توفيق في بنية الرواية فتصبح راوية الأحداث لكونها حيويةً ضاربةً جذورها في عمق أعماق الأرض والحياة والكون، بل كل الكون وشموليته من خلال انفتاحه على عالم الفكر عن طريق تحليله الروايات العالمية.

لا شيء في هذه الرواية، بل في كل أعمال التكرلي، يدخل ضمن ما اعتدنا على تسميته بالتلقائية والعفوية وغيرها من سمات الرواية الواقعية وفي مرحلتها وتجاربها الأولى بخاصة لأنه ينقح أعماله ويغربلها ويراجعها كثيرا ويعيد النظر فيها ويؤخّر نشرها، وهذا يعني أنه يطيل من أمد بقائها في مشغله، ما يجعله يدرس كل شيء دراسةً عميقةً ويحسب لكل أمرٍ حسابه.

تعتمد الرواية في بنيتها على محاور مضمونيه يتمركز أغلبها حول توفيق بخاصة عندما يصبح هو السارد العليم بضمير أنا، مثل محور توفيق وآديل وكميله وأنوار وفتحيه، الذي يتطور بدخول غسان عند نضجه ثم يتوسع فيشمل ممثلي سكنة حي العامل أهل فتحيه وغيرهم ثم يزداد اتساعا ليشمل الجميع تقريبا بمن فيهم جاسم الرمضاني، الباحث عن الانتماء.

فؤاد التكرلي صبور للغاية في تقديم الأحداث وبنائها ضمن سياق سردي متواصل، ويجيد اخفاء الصغيرة والكبيرة والبوح بها في الوقت المناسب دون أن يلمح أو يصرح بها قبل أن يحين موعدها. هكذا كان الحال مع ممانعة زوجته كميله السفر إلى باريس ثم يتضح أنها كانت على علم بعلاقته بآديل وأنها حرقت رسالة الأخيرة له. ص96

ويمهد الكاتب في الفصل الأول لبنية روائية ولغة جديدتين وشخصية ذات مستوى خاص، لدرجة أنه ينهي الفصل الأول  في نبرة يختلط فيها نَفَسُ توفيق متحدثا بلغة نحن. ص104

ويلاحظ القارىء أن بنية الرواية تتجه بسبب حماستها الخاصة نحو بنية المذكرات حيث يتجسد فيها الهرونوتوب، وكان من الواضح أن توفيق هو الذي سيأخذ على عاتقه هذه المهمة المتميزة بالوجد والمعاناة بسبب أهميته فيها (بنية الرواية)، لدرجة نستطيع القول إنها كلها تقوم على شخصيته الحاضرة أصلاً قبل ولادتها. وهذا أمر يحتاج في المستقبل إلى دراسة بإسهاب لبيان العلاقة بين العالم الروائي كله بتوفيق قبل ولادته من خلال المقارنة بين اللغة في الفصل الأول والأسطر الأخيرة منه من جهة وفي الفصلين الأول والرابع على لسان توفيق.

تمارس وحدات سردية في بنية الرواية استقلاليتها لكنها ليست منقطعة الصلات بسياق الرواية العام وبنائها، مثل قصة انتحار الدكتور عبد الجواد محمود. ص109

يتقن التكرلي تطوير حدثه من خلال سرد، يعرف متى يقتصد فيه بالمفردات، عن طريق "تسريب" المعلومات على شكل أقساط أو دفعات تعمل بشكل غير صريح على تزويد الرواية رغم طولها بدفقات تشويقية تشد القارئ فيفاجئ مثلا بأن كميلة حرقت رسالة حبيبته آديل منذ عدة سنوات، وأن توفيق يتعرض فيما بعد للاعتداء من قبل مجهولين في خانقين فيقول له الناس عنهم "يوما ما ستعرف..". ص250-251

حادث تعرض توفيق إلى اعتداء له أهمية كبيرة في بنية الرواية من حيث كونه بداية المواجهة نحو ذروة نهاية الحبكة وبداية ذات مستوى خاص، فيقول توفيق عنهم "سأفضحهم.." ص257

وإن هذا الحادث لم يكن عاديا أيضا في البنية الأليغورية، فهو أكثر من مجرد اعتداء شخصي، بل تقف وراءه قوة منظمة ذات سلطة طاغية. إذن فهي حلقة مهمة في بنية الرواية لا تختلف عن فصل توفيق من عمله، إذ إن الحدث الروائي أخذ بعد ذلك مجرى آخر من كل النواحي الكرونوتوبية.

يمكن أن نذكر في هذا السياق ان توفيقا هو الذي أصبح يتابع الأحداث مصورا إياها بكامرته وأن بنية الرواية أخذت تعتمد على الخروج إلى الفضاء وتعدد الأمكنة او دخولها في عالم الكتابة والروايات والمذكرات وكأنه ينظر إلى الأحداث بمنظار آخر ومن طرف آخر. ص281

كل شيء عند التكرلي موظف لوحدة السرد وبناء العمل الفني كله، والتلميح والتصريح من ناحية أخرى مثل قصيدة شعر ذات إيقاع صاعد مستمر وحركة داخلية تصعد الأحداث بشكل متناسب مع حماسة الأفكار، فإن الوحدة السردية، التي تصور ظهور ممتاز اللامي ومسلحيه لإجبار زوجته على العيش معه (ص 314 ) تشكل مفصلا هاما من مفاصل حبكة الرواية الصاعدة. وهي إضافة إلى ذلك توضح فكرة ما آلت إليه بنية المجتمع من دمار، بحيث يصبح فيه ممثل السلطة رجلا على أقربائه لا رجلا لهم فهل هي أليغوريا الحاكم المستبد الذي استقوى على رعيته وسامَهم الأمرّين؟

تمارس في مضمون هذه الرواية عدة قصص، لنسمها مفاجئات أثرت في بنيتها وجعلتها أكثر تماسكا من حيث ارتباطها بالقوة الداخلية المحركة للأحداث، من ذلك نذكر مفاجأة الكشف عن ممتاز اللامي باعتباره مخطِّطاً للاعتداء على توفيق، الذي أعطى زخما كبيرا لبنية الرواية والحبكة السردية بحيث تضرب ضربتها في إدهاش القارىء وخلق دفعة قوية في المضمون كله.

وعبرت أيضا عن قدرة التكرلي الرائعة في التلوين بعدة ألوان. هذه الفعلة الخسيسة لممتاز اللامي تقول للقارىء إنه لا زال هناك الكثير من الأحداث وإن مسار البنية لن يكون بسيطا او عادياً، وإن هؤلاء الناس ليسوا بسطاء وإنهم قادرون على أفعال جسام، في مجتمع آيل إلى السقوط الأخلاقي.  ص246 ونفس الشيء يمكن أن يقال عن أهمية ظهور آديل من جديد واختفائها وكأن الكاتب يقدم زخما جديدا لبنية الرواية من خلال التنقلات والمذكرات. ص265

تخدم المفاجأة السردية غرضين: الأول تشويقي، يشد بنية الرواية، والثاني فني بما تحمله من معانٍ ذات صلة بالمغزى الفني العام "البشر يا أستاذ توفيق تتملكهم نزعات الشر دون أي سبب معقول.. حتى السيد كاسب بذاته يخشى من المحامي ممتاز ويتجنب تدبيراته.. لا تنتظر من أحد يحترم شرف غيره..إنها سلسلة خفية سوداء من رغبات الاشتهاء لزوجات الآخرين..". ص272

مفاجأة ظهور غسان هي ايضاً ليست عاديةً، وتحمل نفس الأهمية في البنية والقصد الفني وإلا فماذا سيكون ترتيب الحبكة لو كان مفلسا أو لو لم يظهر نهائيا ولم يتعرف إلى فتحية ولم تحمل منه جنينها؟

ظهور غسان أعطى أيضاً دفقا قويا للغاية لبنية الرواية إذ بظهوره تمت أحداث ممهدة لبداية النهاية ومناقشات كثيرة وجميلة عن القصة والفلسفة وتحركاته بين الأهل والجبهة وحي العامل. ص286، 326

هناك مفاجآت أخرى مثل معرفة العائلة بملاحقة توفيق لأنوار بحيث يخبره أخوه" ألا تكف؟"  قبل نهاية الرواية ص420 ومفاجأة إعطاء جاسم الرمضاني وصية عميد أسرة آل قصابي لثريا الجشعة بدون مماطلة حنقا عليهم، إلا أن الكاتب لا يترك هذا الأمر بدون متابعة فيسلط عليه الضوء ويأخذ حيزا تشويقيا مهما في البنية. ص384 وص388

مفاجأة الالتقاء بين توفيق وجاسم الرمضاني في مقهي بغدادية لها أهميه اكبر في البنية والمضمون من حيث كونها تعطيها زخما جديدا قبل النهاية وتقدم للكاتب فرصة إعادة النظر بكل ما جرى ولكن ليس للاهتمام بالأمور الجانبية بل بما هو أعمق وأعم وأشمل مثل المال والجشع وآل قصابي والخير والانتماء والشر. ص407 لاحظ أن توفيقا ينتهز الفرصة في هذا اللقاء بمقارنته بمسخ كافكا "أهو ممسوخ حقاً". ص 409

أما مفاجأتي موت غسان في جبهة الحرب، أنظر: ص445 وتركه الصندوق المليء بالدنانير لتوفيق، أنظر: ص 459 فهي الأكثر إيذانا بنهاية البنية الروائيه والكشف عن آخر حبكة لآخر محور: توفيق -فتحيه وجنينها -غسّان،

اللغة:

"إن الكلمة شيء خطير لا يجب العبث به" أحد أبطال مسرحية "الصخرة والطوف" لفؤاد التكرلي. ص 14

يقول فؤاد التكرلي في مقدمته لكتابه المسرحي "الصخرة والطوفان" "سحرني منذ البدء كلام البشر، أعني التعبير بواسطة الكلام، ثم أسرني أن أكتب الحوار بين شخصيات في مكان ما: ان يتبادلوا الكلام والأفكار وأن يشيد من ذلك بناء أو أن يخط مسار.. " أنظر: فؤاد التكرلي. الصخرة والطوفان. مختارات فصول. القاهره، 1989 ص 5

والتكرلي في حقيقة الأمر ايضا لا يعبث بالكلمات في كل أعماله ويعرف كيف يجيد استخدامها في مكانها المناسب، فلغته تتميز بالحساسية والموسيقى الداخلية والتناغم والبوليفونيا والشفافية والعمق والدقة والمتانة والقدرة على خلق التركيبات أو التشكيلات اللغوية المتعددة والمتنوعة وتجاوز اللغة التقليدية. يتميز الكاتب هنا أيضا بقدرته على استخدام اللغة العربية الصريحة في فلسفة الأشياء والإفصاح عن العالم الداخلي لأبطاله وفلسفة االظواهر وإعادة خلقها بطريقة فنية رغم الشروح والتأويلات والتبريرات كما حدث في روايته الثانية "خاتم الرمل" لكنه لم يقع فريسة آفة الإنشاء والتقريرية والمباشرة. تتكرر في رواية "المسرات والأوجاع" مفردات مثل التقزز، السحق، الدوس، إنسان مُداس، مهان مكدوم الروح، الموسيقى، الأحلام، التطهير، افعال حيوانية بطرق إنسانية، اقتناء الأشياء، مشمئز، زاهد، كاره أنظر صفحات: 157، 167، 170، 182، 221، 281، 282 ، 283، 422، 424  وهي مفردات يجب التوقف عندها و متابعة تطورها في السرد كله منذ بدايته حتى نهايته، لأننا أمام رواية عميقة تتناول الإنسان من الداخل، ليست عادية بل نفسية وفلسفية.

استخدم التكرلي في هذه الرواية لغة متينة مختصرة مكثفة وموظفة لمفرداتها بالكامل و في بعض الحالات وحسب الضرورة، التي يصور فيها نفسية البطل. استخدم عدة افعال مع فاعل ضمير مستتر تقديره هو أو انت، مثل "واستجابَ وتساهل وتغاضى وتعامل وتراضى واسترخى، من أجل أن تكون الحياة ممكنةً.. ”. ص 203

وفي مكان آخر من الرواية يقول الراوي عن آديل:" يتحدثان ويتناجيان ويبكيان أحيانا ويتبادلان الحب المستعر ويتساءلان..". ص268

ويقول عن فتحية بعد وفاة غسان وهي حامل منه: "كانت سعيدة وشقية وقلقة بشدة ومنهوبة العواطف ومشتتة وخائفة..". ص379

ويصف القصابي بعد موته وفي فاتحته: "كان في الجو عنصر لإضحاك لا يثير الضحك، فهذا الإنسان، عميد آل قصابي المزعوم، توفي بعد أن جاوز الثمانين من العمر واستوفى كل حقوقه واستولى على حقوق الآخرين أحيانا، وسرق ما استطاع سرقته و تزوج وأنجب وغشَّ وزنى وشرب الخمرة وكذب وظلم إخوته وتظاهر بما ليس لديه..ثم عاد إلى التراب الذي جاء منه..". ص 381

ولو تكررت مثل هذه الجمل بكثرة لأصبحت مملة ولكنها كانت كما أشرت مناسبةً لحالة الأبطال.

فؤاد التكرلي ينصت جيدا للغة الأرواح والعوالم الداخلية للإنسان وأحاسيسه ومعاناته الروحية والفلسفية وليس المادية فحسب، ولكن رغم سقوط الفكر والأيديولوجيات والأخلاق في العالم، الذي شهدناه ولا زلنا نشهد فصوله في هذا العقد، الذي تشترك فيه أطراف وقوى وبشر وقردة عديدة لتجويع شعوب بأكملها تحت مختلف الذرائع، رغم هذا كلّه فإن هناك لغزا يكمن في سبب عدم حدوث الانهيار الكامل وسقوط البشرية ونهاية العالم.

ينهي الكاتب الفصل الأول بلغة ضمير نحن على عكس الفصل كله الذي بدأ وشارف على الانتهاء بلغة سارد خارجي على لسان ضمير الغائب وهو هنا الكاتب أو صورته، ينهيه قائلاً "هذه الصفحات، السابقة والتالية، هي من أجل محاولة اكتشاف أخطائنا الشخصية التي اقترفناها فكبلتنا، وتلك الأخطاء التي لم نقترفها فزادت من تكبيلنا". ص104

كأنه بذلك يلتحم مع صوت توفيق في مذكراته، التي تبدأ في الفصل الثاني. أنظر: ص 105

في العملية السردية الأولى يشعر المتلقي بأن شخصا آخر غير الكاتب يقدم القص بطريقة تقليدية مباشرة فيها التلميح والتصريح متجنبا الحوارات والحوارات الداخلية وكأن راويا آخر يقوم بذلك أو على الأقل يعينه في تخفيف النبرة أو تشديدها. إلا أن لغة هذا الراوي او صورة الكاتب، الغائب في الفصل الأول، تقترب بالتدريج من لغة توفيق وعالمه، حيث يظهر ذلك من خلال الاهتمام بظواهر معينة أو الانحياز لها وفي نبرة الحديث عنها.

يبدأ الفصل الثاني بمذكرات توفيق وينهيه بإغلاق دفتر المذكرات ممهدا للغة روائية جديدة بعبارات جميلة تشير إلى استقرار الروح رغم كثرة المتاعب التي ستواجهه، أنظر: ص 200، بينما يأخذ الكاتب زمام المبادرة في الفصل الثالث ليطل توفيق بوجهه على القارىء في الفصل الرابع ليختتم الرواية بمعاناته.

الكتابة هنا نوع من التطهير أو ما يسمى بالكاثارسيس كما هو الحال مع قراءة الروايات ومناقشة أفكارها وتحليلها، فهي بالنسبة لتوفيق فعل حقيقي ونشاط روحي. "أن نضع مرآة الذات هي الكتابة. ما يهم حقا أن تكون الكتابة صادقةً ومصنوعةً بمهارة ودقة لكي تعكس الأمور كما هي، بدون تشويه" ص107، ويقول أيضا "أعدتُ قراءة ما كتبتُ.. ليس صحيحا أننا نقول كلّ شيء. هنالك خفايا لا نصل إليها، وعلاقات أكثر خفاءً تفوتنا على الدوام.. "إنها ليست الكتابة المكتوبة فقط، ما يهم، بل يتوجب قراءة الكتابة غير المكتوبة أيضاً" المسرات، ص108، أليست هذه هي هموم الروائي في مجال اللغة الفنية.

موضوعات الرواية وشخصياتها:

يورد الكاتب في نهاية الرواية مقولة سيوران، الكاتب الروماني" إني أستولي على الشيء وأحسب نفسي سيداً له، والواقع أني عبد له.. "ص467 ومقولة أخرى لباسكال "الإنسان قصبة، بل هو أضعف قصبة في الطبيعة، إلا أنه قصبة مفكرة.." ص465 وغيرها.

فهذه الرواية كما اشرنا لا تتناول واقع المجتمع بدون فلسفة الحياة، فهي بالتالي حول مغزى الحياة والصراع بين الخير والشر والجشع والسيطرة.

تتناول هذه الرواية تاريخ العراق منذ بداية القرن حتى الحرب العراقية الإيرانية، حيث نتابع تطور بغداد ثقافيا من خلال قراءات توفيق وعمرانيا بانتقال عائلتي القصابي وعبد المولى إلى مناطق بغداد الجديدة وفترة الستينات، التي شهدت ظهور طبقة المقاولين الجدد.

"المسرات والأوجاع" مقارنة جميلة ولكنها مضنية بين حياة البشر العاديين والقردة والأقزام والمقزمين والمذلين والمهانين وغشهم وتلاعبهم بمصائر البشر وهي مقاربه ومعارضه ومقارنة لحياة القردة بأشكالهم وطبائعهم وتصرفاتهم وأحاسيسهم الداخلية، هذا إن كانت لهم مشاعر بالأساس وحياة نوع آخر من الناس مثل توفيق وآديل وغسان وأبو الأدب.

هنا يمكن، بل يجب مقارنة شخصية عبدالباري وزوجته ثريا الجشعة وأبيها عميد أسرة آل قصابي الذي لم يكن أكثر من إنسان عادي فيتحول بسبب الحرب العالمية الثانية إلى رجل غني، ومن قبلهما أم عبد الباري، التي بخلت على توفيق بحبها وحنانها وسرقته ماله.

هنا يمكن مقارنة أبو فتحية الفراش المهاجر من الريف إلى بغداد ليتلذذ بأن يكون مذلاً مهاناً بحجة الإضطرار والفقر والجوع والعمل، وليضطر فيما بعد لبيع ابنته الوحيدة إلى رجل غني أكثر منه تخلفاً، وسليمان فتح الله، رجل الأمن الذي لا يجد طريقا لخروجه من ظلماته وعقده غير اقتناص الفرص وأن يكون آلة في يد القوى الشريرة للتجسس على الآخرين.

هذه الشخصية تصبح فيما بعد رمزا لما آل له المجتمع العراقي والدولة العراقية وتطور تركيبتها السياسية، حيث يطرد توفيق الحقوقي الرومانتيكي الأصيل الحالم العالم بينما يتبوأ الجاهل الأعرج، رجل الأمن الأمي سليمان فتح الله مركز الصدارة في مجتمع يتشرد فيه الأول محاولاً ممارسة أحزانه وأفراحه وطقوسه الروحية في مختلف زوايا الفضاء الروائي.

لا يترك التكرلي موضوعة أو شخصية من شخصياته دون عناية منه مهما كبر أو صغر حجمها. ولا يوجد في أعمال التكرلي شيء اسمه الصدفة فكل شيء هنا مدروس و"مهندَس" ولم يبق جانب ما خارج إهتمام الكاتب لا من حيث الوصف الخارجي أو الداخلي في بعض الأحيان.

حتى والد غسان الرسام، وزوجته سندس، والهاربة، التي لم نرها على مسرح الأحداث، والتي تجسد حضورها المهم في بنية الرواية وظهور ابنها عمودا هاما من أعمدة الرواية بسبب الإرث الروحي والمادي الذي تركته له فأفقدته نعمة النسيان وتركته فريسةً لمعاناته الروحية التي يحملها بقلبه أما ثروته التي يحملها في جيبه فلا يدري ماذا يفعل بها.

تظهر أهمية توفيق ومن بعده غسان من حيث كونهما يمثلان الصدق ويقفان على الضد من جشع الشخصيات السلبية كلها إلا أن الثاني يختار قلبه ويخلص لمشاعره، فيتعلق بالأول وعالم تولستوي حالما بلا شك بقيم الأمير بيير وناتاشا روستوفا ودوستويفسكي والدايالوجيا أو الحوارية والأفكار الدوستويفسكية.

عالم توفيق الروحي خليط من الأفكار الفلسفية في القيم والأخلاق والسعادة والعدالة يحاول أن يبحث عنها في الكتب فيستهويه سانين وبازاروف بطل "الآباء والبنون". توفيق متميز عن الجميع بشكله وجماله ولم يأتِ هذا صدفةً، بل لمغزى فني فتتعمق شاعريته ورهافة حسه فيزداد شعوره بالحزن لما يكتشفه من غش بدءاً من والدته التي سرقته حقه وأخيه مروراً بالمدير العام ومن يقف خلفه وانتهاءً بكميله زوجته المعتوهة، التي تطلقه بسبب فصله من الوظيفة.

لم يكن لتوفيق أحد يشعر به غير حبيبته والطفل الصغير غسان الذي كبر وصار مثله صادقا حساساً والروايات الجميلة التي يقرأها ويناقشها.

يتحول عالم الكتب إلى مزار بالنسبة لتوفيق، محراب يصلي فيه، كاثارسيس تصعد فيه روحه وتتصاعد فيه بافَث الرواية كلها محققةً بهذا الشكل دفق خيالي مليء بالأفكار الفلسفية ذات الصلة الوثيقة بعالمنا الذي نجهل أسراره وحفاياه.

إن اللجوء إلى الكتابة نوع من الكاثارسيس والناستولجي بسبب سحرها وصدقها وإن اغلبها كان منتشرا في الخمسينات فيذكرها ويزور سوق الكتب في بغداد.

هذا التطهير الروحي والحنين إلى الذكريات والماضي يحدثان عند تأزمه وزيادة المعاناة النفسية والاقتصادية.

يقول توفيق عن نفسه "لست زاهدا بالحياة بل مرتدا عنها ولا أنا كاره إنما مشمئز منها.." ص158، ويقول في مكان آخر من الرواية "إنني عضو في المجتمع جرى بتره لأسباب لا تشرف أحدا" ص189، إلا أن توفيقا غير محبط رغم طرده من العمل ومن بيته شر طردة لأنه يشعر بالحرية ويقول" وقد خرجت من معمعة العلاقات المتضاربة، ولكن أين المهرب من الماضي العذب" ص 197، ويقول أيضا مبررا سبب شحوبه وضعفه: "الناس حولي يسمنون يوما بعد يوم فيبدو الفارق على وجهي". ص279 

تبدأ رحلة الروح والهموم والمعاناة في مذكرات توفيق، حيث يناقش معنى الكتابة والشخصيات التي يلتقيها ص 106-108، وكلما يقترب الكاتب من نهاية الرواية كلما تبدأ شخصياته بالإفصاح عن عالمها ومكنوناتها، ويحاول الكاتب من خلالها ومن ما يقال على ألسنتها من تلميحات توضح المغزى الفني فبينما يُرفض توفيق بشكل مجاني ومن قبل الجميع وفي كل الحالات نرى أن سليماناً الأعرج يصل إلى أعلى المناصب. أنظر حديث ابي فتحيه عن سليمان الأعرج. ص300-301

عند مناقشته هذه الروايات، يركز توفيق على ضرورة أن يكشف الروائي عن أسباب سلوك الشخصيات ونجد أن التكرلي يبني الشخصية بشكل تدريجي بحيث يبدأ باتخاذ سلوك طريق آخر غير أقربائه كرد فعل على تعامل والدته معه منذ صباه.

ابطال الجيل الثالث أو الرابع من عائلة عبد المولى وشخصيات الرواية الشباب بشكل عام أمثال نجيه وسلوان وغيرهما لم يكونوا ثانويين بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فهم  أيضا يلعبون أدوارهم في نسق الرواية وبنيتها المضمونية.

إلا أن غساناً هو الأكثر دمارا وعذابا من أفراد هذا الجيل وكأن الكاتب يريد أن يقول لنا بأنها عذابات روحية أزلية تنتقل من جيل إلى آخر. فهو في حقيقة الأمر امتداد لتوفيق، يقف على الضد من كل تفاهات الشباب فيسقط ضحية بؤس التفكير والتدبير وهمجية محرقة الحرب أو آلة القتل الجماعي كما يسميها التكرلي.

ولكن هذه الأجيال لم تصوَّر على طريقة آل بودينبروك لتوماس مان ولا ثلاثية نجيب محفوظ، التي لم يستهوِها توفيق على عكس الحرب والسلام التي تعد برأيه عملا عملاقا بسبب زخمها بالتولستوفشينا. ونشير في هذه المناسبة إلى أن التكرلي نفسه لم يكن معجبا بنجيب محفوظ.

وهل هناك عمل يضاهي اليوم ملحمة "الحرب والسلام" التي أعاد تولستوي كتابتها إحدى عشرة أو ست عشرة مرة، المشبعة بالفكر الإنساني وحماسته رغم مرور ردح طويل من الزمن عليها ذلك لأنه شهد معاناته الروحية من المجتمع والكنيسة وآلامه لتعاسة فقراء الفلاحين في المجتمع الروسي وفي ياسنايا بوليانا، فما كان يقدر على فعل شيء آخر غير بثِّ احزانه في أوراق كتبها على مكتبه القابع في غرفته المغلقة داخل أكثر من حجرة في بيت كبير يقع وسط ريف روسيا الجميل بمناخاته وعذاباته وجبروت سكانه. إنها حالة وجد حقيقية تشبه معاناة الصوفيين وكان توفيق كذلك رغم أنه أنكر زهده.

تتجسد موضوعة الناستولجي في التشرد ووصف الأمكنة القديمة، والمقاهي واللقاء بأبي الأدب الرجل الخمسيني والحديث عن الخمسينات. وعلى الرغم من أن شخصية الرجل المسن ابو الأدب ظهرت على مسرح أحداث الرواية في نهاية فصلها الأخير، إلا أنها هي ايضا أخذت حقها من الراوي توفيق، فلم يتركها تمر أو تغيب عن باله رغم اختفائها وكان لها دور ومغزى في ذروة بنية الرواية.

موضوعة الناستولجي هنا وفي روايات أخرى للغيطاني وفرمان على سبيل المثال لا الحصر، تختلف من حيث المنحى والعمق عن بعض الروايات، التي اهتمت بها من حيث كونها في "المسرات والأوجاع" إنسانية بمعنى الارتباط العميق بالعالم الداخلي للإنسان وروحيةً شموليةً غريزيةً وليست تاريخيةً ولا سياسيةً، ولهذا نرى أن الجنس يأخذ حيزا كبيرا جدا لدرجة أنه قد يحصل لبس في فهم الامور المرتبطة بهذا الفكرة.

بوضوح أكثر نقول إن الجنس في هذه الرواية يتميز بطابع خاص أكثر من كونه رمزاً كما اعتدنا عليه في عدة روايات بما فيها نتاجات التكرلي السابقة.

الجنس هنا صرخة احتجاج واستغاثة وطلب العون في الوقت نفسه وحالة ضعف إنساني وتشبث بالحياة وتعويض عن الخسائر والفقدان.

إنه حالة وجدٍ روحيةٍ وارتباط البطل بالطبيعة في الحالات الثلاث إذ إن آدِل ملاك بريء غير خائنة لبعلها حيث اعتبرت عشيقها توفيق زوجاً لها، اما فتحية فهي الريف والضحية بينما تتجسد في أنوار الصدق والجمال الجبليين. هل هي تكملة للصورة الأليغورية التي تخطر ببالنا حيث يتآلف الشمال بالوسط والمسلم بالمسيحي؟

هذا أمر هام لا بدَ من الانتباه إليه لا سيما وأن توفيقاً لم يكن من حيث المظهر والخلقة يشبه أخوته وأقربائه أشباه القردة، فكان منذ ولادته يتمتع بجمال له خصوصية أكثر من خاصة وهو نفس الأمر الذي نراه في وصفه لآدِل وأنوار المنوّرة باعتبارهما ملاكين او فيهما صفاء البهاء والنورانية على عكس فتحية المفتوحة شهيتها على كل شيء مما يعطي الناقد حق القول بطابعهن الأليغوري.

هذه الأليغوريا العميقة اشبه بِطُرُقِ حياة البطل ووحدانيته وتشرده في هذا العالم وهي بالتالي عمود هام من أعمدة الرواية.

فالجنس غير مهم في هذه الرواية عندما يتم في بيوت الدعارة كما هو الحال في بداية السرد ولا يصوره الكاتب كممارسات حب أو غرائز جنسية بين الأبطال الآخرين مثل عبد الباري والقصابي وأبو فتحيه وكاسب وممتاز اللامي والآخرين.

ألا يشكل هذا الأمر ظاهرةً في الرواية تستحق التوقف عندها ودراستها بتفصيل دقيق وعلاقتها بحالة البطل وانكساراته الروحية وانهزاماته في حروب خفية لم يخضها ولم يعلنها أحد عليها.

الجنس هنا أمر غير عادي ولا بدَ من فهمه على أنه ليس روتينياً بدون مغزى وأن عقم توفيق ليس أيضاً بدون دلالات، إذ إنه غير مصاب بالعقم الحقيقي، بل بعدم الاتحاد الحقيقي مع كميله أو فتحيه.

لقد أولى فؤاد التكرلي موضوعة الجنس عنايةً كبيرةً وحملها رموزا خاصة، على الباحث أن يتعمق كثيرا بدراستها، وهي في حقيقة الأمر ليست دائما بهذا القدر من الوضوح بحيث يمكن سبر أغوارها أو الوصول إلى مغزاها الفني.

لقد تناول الروائي الجنس في قصصه القصيرة بجرأة مثل قصة "همس مبهم" 1951، التي يقول فيها بطلها عن أمه" كانت رائعة في كل شيء.. لكنها أمي، وكنت أشعر أنني أحبها، لكنها كانت تحزنني وتؤلمني..لِمَ يجب أن تكون الأم فاضلةً ذات تربيةً راقيةً":

أنظر: موعد النار. مجموعة قصص قصيره جمعها وقدم لها توفيق بكار. تونس دار الجنوب 1991

وفي قصة "القنديل المنطفىء" 1954، حيث يصور الأب يضاجع بنتاً عمرها ثلاثة عشر عاما ذهب أبوه ليخطبها له فرفضوه فأخذها لجبار ابنه من الناحية الرسمية. موعد النار ص 108 أو في "التنور" حيث تقتل زوجة الأخ بسبب الجنس غسلا للعار. موعد النار. ص 127

هذه الطريقة في الكتابة عن الجنس باعتباره أهم حاجة روحية إنسانية عند البشرلم تكن مقبولة باستمرار في العراق من بعض مجايلي التكرلي أو نقاده.

ولكن ماذا يقول الكاتب نفسه عن الرمز والجنس؟

يقول فؤاد التكرلي "الرمز لا يوجد في العمل الأدبي، بل في الإنسان، وهو - الرمز - إذ يبرز للقارىء - أو المشاهد- فإن ذلك بسبب احتواء العمل الفني على بذور تتعامل مع نفس هذا القارىء وتؤثر فيها.. إنني بعد المباشرة بالعمل، أحاول أن أضع بعض البذور الموحية، التي تعطي العمل الفني أبعادا يمكن أن تكون رمزية.." ويستمر قائلا عن الجنس "..ما يسمى بأدب الجنس او الإثارة بارنوجرافيك لا علاقة لي بهذا النوع من الأدب.. والدوران حول الجنس وتلمس الموضوع بخفة.. لاعلاقة لي بهذا النوع.. يبقى التناول الآخر للجنس، وهو التناول الذي يمكن أن تسميه، بشكل ما، التناول الرمزي، اعني أن الجنس، منذ البدء كان رمزا، او- إن صح القول- أمرا يمثل قوة عمياء وامام هذه القوة تجد بعض شخصياتي القصصية أحيانا نفسها، وسواء كان عليها أن تتصرف أم كان عليها أن تخرق القوانين الموضوعة، فإن تصرفها تجاه الجنس هو تصرف رمزي محض. وواضح جدا أن اختياري الجنس اللاشرعي أو اللامألوف إنما هو لزيادة شعور القارىء بالتناقض وبما يمثله هذا التناقض من قوة تستحق احيانا دون رحمة". أنظر: د. نجم عبد الله كاظم. الرواية في العراق. بغداد، 1980 ص246

ولعل في هذا القول ما يؤكد صحة أفكارنا عن الطابع الأليغوري لبعض موضوعات الرواية وشخصياتها والمرأة وموضوعة الجنس بخاصة كما سنرى.

تتحرك في هذه الرواية شخصيات نسائية عديدة، إلا أن التركيز بالنسبة لتوفيق يتم على حبيبته الأولى والأخيرة آديل المثالية ومن ثم كميلة المهووسة، التي تكمّل تعليمها وبيتها "المشتمل" ولا بدَ  لها إذن من زوج  فيقع اختيارها على توفيق وتصبح زوجته عنوةً، أما فتحية ذات الشهية المفتوحة على كل شيء خوفا على مستقبلها الغامض فتصبح ملاذه ومأواه الأخير حيث يتم اتحادها مع غسان ويتم لم الشمل، بينما تبقى سندس، زوجة أبي غسان نموذجا للمرأة البيتية التي بقي مع ذلك يحلم بها.

وسنلاحظ أن لكل واحدة من تلك البطلات خصوصيتها وسماتها، فشخصية آديل".. لا أشك أن تلك الحورية كانت مرسلة من السماء إليه، وإلا فكيف يمكن تفسير الأمور؟". ص35 

آديل امرأة من صنف آخر فيها نورانية، هذا ما سيتأكد في الصفحات القادمة.

"ولا يزال مضطربا بسحر غامض تملكه فجأة وهو يقابل تلك المرأة/ اللغز بعد هذه السنين الطويلة" ص51، إذن فإنها امرأة ليست عادية، حتى في طريقتها لقراءة فنجان حبيبها توفيق "أنت مسروق.. كيف يسرقون من له وجهك؟ ص54 "..إنك مسروق..أنت خسران مع الجميع إلا معي يا حبيبي". ص66

فهي هنا تستقرأ طالعه بنبرة فيها البراءة والصفاء فيشير لها بطريقة رفيعة فيها السمو"وتذكّرَ آديل..يا للمخلوقة الملائكية..". ص55

تتمثل شخصية آديل هنا أكثر من كونها امرأة يشتهيها توفيق، بل هي رمز عميق يظهر بوضوح في ذكرياته عنها بعد الفراق والأوجاع التي يعاني منها فهي مسراته"..حين نظر إليها عن قرب، في الظلام الشفاف، ورأى بغموض عينيها ولون جسمها الوردي...سكران بعطر بشرتها ورائحتها وبدفء وجودها هي، هي آديله العزيزة، سالت الدموع خفيفة من عينيه وانفتح قلبه...شعور فذ من الطمأنينة المطلقة.. خلال الأيام التي قضاها معاً كان يحس بنفسه مملوكا ومالكا لها، هذه المرأة التي منحته سعادة عظمى لغير سبب مفهوم تماما..لم يعد قادرا على الاقتراب من فتحيه أو على اشتهائها". ص287-288 آديل روحه وموسيقاه الداخلية.

بل إن توفيقاً يقارن لأول مرة في الرواية وبعد أن فقد كل شيء، بين كميله وآديل وفتحيه وسندس المرأة العائلية المستقرة "تسلل إليه شعور غامض، وسندس جالسة معهما بانه يفتقد حقا وجود امرأة من هذا النوع في حياته..سندس وحدها، هذه المرأة الهادئة المبتسمة، هي القادرة على تضميد جراحه وانقاذه". ص302

لكن آديل تبقى هي الأكثر حضوراً من حيث الوصف الخاص بالألوان بطريقة شاعرية عذبة"..اصطبغت الغرفة كلها بصبغة ذهبية وردية من جراء ما كان يشع من ألوان جسمها. اقترب منها يتحسس برفق وتعبد، ذلك التكوين الساحر، كانت تنظر له برقة نظرات تفيض منها المحبة والاندفاع..كان يرى إلى صفحة وجهها اليسرى وأذنها وأنفها وفمها وكله بهجة..رأى فيهما اصداء رؤى تستجيب لدلالات الحب..همست..لأنك زوجي من الأزل فأنا لا أخون بحبك أحداً..أنت تسربلني بعواطفك التي ولّدتُها فيك.. كانت على الطرف الآخر من النقاء والصدق والاستقامة..هل ستبقى آديل إذن جرح حياته النازف ولغزها الا بدّي وجنتها المفقودة؟". ص311 

نلاحظ أن الكاتب اعتمد على تطور البنية والحبكة والأحداث في إضفاء الصفات المختلفة على آديل، أقصد بها طريقة: لقاء- فراق- لقاء-  وبافَث العمل الفني كله. هذا الوصف يذكرني بطريقة تعامل الكاتب مع منيره ومن قبله الأديب الراحل غائب فرمان مع بطلته مظلومه في "القربان".

ونلاحظ ايضا أن آديل توصف بعمق وشفافية ورومانتيكية ذات مستوى خاص في تأزم البطل ومقاومته الاندحار في الحياة وحصد الفشل على كل الأصعدة وكأنه يدفأ عظامه بذكرياته عنها، يختارها هي بالذات ليقرأ عنها في مذكراته بعد أن يرى خصلات شعرها " مسترخية على الورق. يا ألله كل هذا الوقت وقطعة آديل تستقر في هذا المكان المهمل..كانت لا شك، تاريخا شخصيا لا يهم أحد، إلا أنها، رغم ذلك، كانت تملك من التفرد ومن محاولة التخلص من القيود، ما يمنحها بعدا استثنائيا يخص البشرية منذ الخليقة". ص403

يتضح البعد الاستثنائي منذ الخليقة لشخصية آديل في ظهوره في كل الكرونوتوب الروائي بشكل متناسق مع بافَث البطل، الذي هو أيضا من مستوى خاص، وهذا ما يمكن أن نراه في منيره "الرجع البعيد" وفي الأنوثة وهاشم في "خاتم الرمل".

أنوار هي أيضا منوّره ولها خصوصية، تصبح موضوع منافسة بين ثلاثة رجال: الأول زوجها والثاني توفيق والثالث المحامي والقائمقام المتسلط. يقول عنها الراوي " كانت قريبة مني بصمت، وكانت لي صديقة وحبيبة وأماً عطوفاً، وما كان من الممكن البته أن تخطر لي عنها فكرة خبيثة عن الجنس أو غيره، ابدا فهناك حدود لكل شىء". ص332

وليس صدفة أيضا ان يعجب بأنوار ويتعلق بها فهي ليست لزوجها الذي خطفها من الجبال وليست لذلك المعتوه المتسلط ولكنها تضع حدودا لعلاقتها مع توفيق مكتفية بتسمية ابنها على اسمه"..إذا بي أرى أنوار تبزغ خارجة..وهي تحمل طفلها الجميل..صافحتها رغم ارادتها ولثمت سمييّ من خديه.." ص335 ويقول عنها ".. هذه الإنسانة المخلصة الصافية القلب..". ص338

ومنذ الوصف الأول لأنوار نجد أن قصتها ليست سردا عاديا ويتملك المتلقي الواعي شعورا بأن هذه القصة ليست طارئة وأنها لن تنتهي بهذه السرعة وأن خيطها المضموني سيلعب دورا في تشييد المعمار الروائي ".. لاحظتها بين الجمع يضيء وجهها أو يكاد، بنصاعة بشرته وبياضه، وكانت عيناها السوداوان طويلتين ذات اسرار عميقة..جبلية ساحرة..فسحرتني لكنتها وحركاتها، ورأيت حاجبيها الدقيقين يتحركان عند الحديث حركات مثيرة..بدت كميله إلى جنبها منطفئة تماما..كانت "أنوار" مطلقة شعرها الأسود..مثل أميرة غجرية تصدر أوامرها". ص 133

وكان من الواضح أن قصة أنوار وإعجاب توفيق بالحركة الإلهية من حاجبيها لم تكن مجرد وحدة سردية لغرض التشويق الجنسي، بل ذات بعد رمزي ودلالات اليغورية مثل الطبيعة، باعتبارها جبلية وخاصة عندما يصورها حافية، لابسة الحجل الذهبي ص133 ويصفها "بالحوريه" ص 139 التي يجب أن تُخصّب لتحسين نسل أهل الدربونه العراقيين، لكن من قبل من؟ بالتأكيد من قبل توفيق الجميل المحيا. ويتكرر وصفها على انها جميلة، ساحرة، مضيئة مثل اسمها "كانت أنوار الجميلة جالسةً..تضيء كاسمها.. مثل شمس تشرق في منتصف الليل.. مثل هذه الأنثى الرائعة يجب أن تخصّب لكي يرتفع مستوى الجمال بين هؤلاء البشر الممسوخين في دربونة الشوادي”. ص151

هذا الإصرار الكبير من توفيق على مطاردة هذه المخلوقة الساحره، كأنها صيد أو طريدته، تستمر على مدى عدة صفحات وهو بالتأكيد ذو مغزى فني يجب على الباحث دراسته بعمق. المسرات. أنظر: صفحات 242، 245، 248، 252 

إننا هنا أمام إصرار على تحقيق الذات والفوز بشىء مفقود من قبل شخصية إنسانية عميقة ومليئة لكنها مهمومة ومكدومة الروح ومسروقة على كل الأصعدة. أما فتحيه فعلى الرغم من كون أهميتها الرمزية تكمن في أنها ريفية إلا أنها لا تصل في وصف الراوي لها إلى مصاف آديل، فهي جائت إليه طالبة المساعدة، وهي ابنة فر‍‎ّاشٍ ينحدر من الريف عانى من الذل والفقر والجوع، إلا أنها مع ذلك فتح بالنسبة له فقد وحدّت "غسّانه" بجنين تحمله في أحشائها سيقوم بالتأكيد بتبنيه. إنها مفارقة ومفاجأه ولكنها ضرورية لاكتمال الصورة الأليغورية والمضمونية الجميلة.

توفيق والشخصيات الأخرى

هل اختار الكاتب توفيقاً ليضفي عليه مجموعة هائلة من المجازات والرموز؟

هل اختاره الكاتب ليصبح دلالة رمزية على معنى الحياة؟

هل اختاره الكاتب ليصبح رمزا للإنسان الذي يريد محاكاة الطبيعة في نزوعه نحو الحرية، والثورة على القيم والأخلاق وكل ما يدخل ضمن مفاهيم فلسفة الأخلاق "مورال"؟

إنه الأقرب لصورة الكاتب وليس الكاتب نفسه، إذ إن للأخير عدة صور يعبر عنها بمختلف الطرق والأشكال والأنواع والحالات والاساليب.

إذن فإن فكرة البطل الروائي باعتباره إنسانا خاصا شاهدا على العصر على حد تعبير باختين وغيره من منظرّي الرواية تتحقق في شخصية مسرات توفيق وأوجاعه بسبب عدم مقدرته الانسجام مع تقاليد مجتمعية محافظةٍ، هذا المعذب، المهموم بمعاناته الروحية، الخائب، الصامد أمام غزوات القردة والمقزّمين وممارساتهم المتخلّفة.

***

.............

* نُشر هذا المقال على ثلاث حلقات في جريدة القدس العربي بتاريخ 10، 11، 12 شباط 1999

 

مقدمة: الاناشيد الوطنية أشعار فصيحة ملحَّنة تنشد مع فرقة موسيقية في المناسبات الرسمية وغير الرسمية. وهي شراكة بين الملحن والشاعر فهما أبوا النشيد. وغالبا ما يكون الملحن أهم من الشاعر فيه، وبعض الاناشيد بلا كلمات كالنشيد الاسباني. وتظهر الدراسة ان الاناشيد الوطنية لم يكتبها شاعر كبير لقيامها على الموسيقى اكثر من الكلمات، ولا كتبها شعراء غنائيون معروفون، لانها شكل شعري غنائي يتميز بالبساطة والشعبية. وكذلك لم يلحن الاناشيد الوطنية ملحن كبير ضرورة، فاشهر الاناشيد لحنها ملحنون غير كبار أو مشهورين، فالاناشيد بسمتها البسيطة والشعبية تحتاج شعراء وملحنين خاصين ممكن تسميتهم (شعراء وملحني أناشيد).

وتحتاج الاناشيد عدا الشاعر والملحن الى مقوم ثالث هو: التلحين والآلات الموسيقية، التي يكون الطبل والبوق أساسا مهما فيها، لحاجة الأناشيد الى الصوت القوي الثاقب، وكان لإيقاع الطبول هيمنة على العقل والجسم معا. وكانت (فرق الطبلجية) تصاحب الجيوش في أغلب الحروب القديمة، فقد استعملها السومريون والبابليون في حروبهم. وعرفت حضارة امريكا اللاتينية الطبول والدفوف ومارستهما في الحرب. ومن هنا جاء مصطلح (طبول الحرب). واجاز الاسلام استعمال الطبل والدف للحرب، واستقبل الرسول الكريم بالدفوف في المدينة مع شعر مشهور (طلع البدر علينا) لتأثيره في تجميع الناس. ويستعمل الطبل في السلام والانس ايضا لتأثيره في الحماس والفرح، ومن هنا جاء المثل العراقي (على حس الطبل خفن يرجليه). أما البوق فلصوته الشجي العميق المعبر عن المشاعر العاطفية صار ضروريا في الاناشيد الوطنية، ولأن أدوات النفخ ولاسيما الأبواق، لا تعزف الا على الماجور والمينور وهما من مقام العجم، صار هذا المقام أنسب قالب موسيقي للأناشيد. ويذكر أن نشيد (بلادي بلادي) وضعه الموسيقار سيد درويش على مقام الرست اولا ثم اضطر الى تحويله الى مقام العجم لتمكين الابواق من ادائه.

عرفت الاناشيد الوطنية ظاهرة حديثة، متلازمة مع العَلَم؛ فالعلم يرفع مرفرفا بسمو الدولة، والنشيد يغنى مدويا بهيبة الدولة. ويعد النشيد الوطني البولندي (بوغورودزيكا) أقدم نشيد، فقد ظهر بين القرنين العاشر والثالث عشر. ويأتي بعده نشيد هولندا (فلهلموس)، كُتِب شعره بين عامي 1568م و1572م، أثناء الثورة الهولنديّة، ولحن قبيل عام 1626م. واعتمد نشيدا رسمياً لهولندا عام 1932م. وأقدم شعر تحوّل إلى نشيد وطني شعر النشيد الوطني الياباني (كيميغايو) كُتب بين عامي 794 و1185م، ولكنه لم يُلحّن إلا في العام 1880م. وكان نشيد فرنسا (المَرْسِيّيز) في العام 1792م أغنية حربيّة ثوريّة، واعتُمِد نشيدا رسمياً عام 1795م، وظهر نشيد صربيا ام 1804م. ونشيد بريطانيا ( God Save the Queen= الله يحمي الملكة ) اعتمد عام 1745م. أما أمريكا فقد كتب نشيدها عام 1814م وأقر رسميا عام 1931م. ونشيد روسيا القيصرية اعتمد عام 1833م، وابدل عام 1917 بمجيء الاتحاد السوفيتي، ثم أبدل بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي عام 2000، وهكذا كانت أوربا سباقة في صناعة ظاهرة النشيد الوطني.

أما في الوطن العربي، فكانت مصر أول دولة عربية عملت نشيدا وطنيا عام 1907، ثم تلتها الدول العربية: لبنان 1927، فلسطين 1930، عمان 1932، سوريا 1936، الاردن 1946، السعودية 1947، ليبيا والسودان 1955، الجزائر 1962، المغرب 1970، البحرين 1971، جيبوتي 1977، جزر القمر 1978، الكويت 1978، العراق1981، تونس 1987، اليمن 1990، قطر 1996، الامارات 1996، الصومال 2000، موريتانيا 2017. وتوجد أناشيد وطنية حماسية غير رسمية في دول الوطن العربي مثل (بلاد العرب أوطاني) و(لاحت رؤوس الحراب).

الا ان الاناشيد بوصفها حاجة ماسة وضرورة قصوى في اثارة الحماس عند الحروب، ورص صفوف المجتمعات في كل زمان ومكان، جعلها موجودة منذ القدم لها جذور وتمظهرات مختلفة في والاسلوب والطريقة، لذا فانها أسبق من ظهورها في العصر الحديث، وان استقرت ظاهرة لها قوانينها واسلوبها. وقد ذكرنا ان الشعوب القديمة كانت تقرع الطبول والدفوف، وتنفخ في الابواق. ويذكر ابن الاثير ان المسلمين كانوا في صدر الإسلام ينشدون شعر عنترة بن شداد لإثارة الحماسة في الجيش، وكان على المتنبي أن يؤدي مهمة اخرى غير مهمة شاعر الامير المادح، فقد طلب الامير سيف الدولة من الشاعر أن يلقي عليهم قصيدته قبل ذهابهم لساحات المعارك. فوقف المتنبي يقول محمسا للجند:

وَنارٌ في العَدوِّ لَها أَجيجُ

             لِهَذا اليَومِ بَعدَ غَدٍ أَريجٍ         

*

بِما حَكَمَ القَواضِبُ وَالوَشيجُ

             رَضينا وَالدُمُستُقُ غَيرُ راضٍ      

*

وَإِن يُحجِم فَمَوعِدُهُ الخَليجُ

             فَإِن يُقدِم فَقَد زُرنا سَمَندو      

***

الأستاذ الدكتور محمد تقي جون 

الايقاع والوزن والبحر

يخلط أغلب الدارسين بين هذه المصطلحات الثلاثة. وفي هذا الكتاب نسجل تعريفا مانعا جامعا لها لتكون أساسا موسيقيا في دراسة الاناشيد الوطنية.

الايقاع:

هو نغمة غير مطردة ولا مضبوطة وحرة غير مقيدة: مثل (قل هو الله أحد = فعْ فعَوْ مُسْتَ فعَوْ)، وحين يتكلم أي شخص فانه يطلق ايقاعات لا حصر لها.

الوزن:

هو ايقاعات متكررة نفسها، أي انه استعمال للايقاعات بضبط وانتظام. وبهذا تتحول الايقاعات الشاردة الى وزن محدد منتظم. والوزن بحر مقترح لا يسمى بحرا حتى يكتب عليه الكبار وتكتب عليه قصائد مهمة. أذكر في الماجستير أهديت الرسالة الى والدي شعراً، وجعلتها، حسب ظني آنذاك، على بحر جديد مبتكر مفتاحه

(مفاعلتن فعولن). والابيات هي:

لروحك في سماها

             لجسمك تحت أرضكْ

*

بكفّي وهي خجلى

             أقدِّمُ بعضَ فرضكْ

*

ازاهيراً من العلم وهي جَنِيّ روضكْ

*

وثغرا في البرايا

             يخبرهم بمحضكْ

*

وان اك منك بعضا

             فـ(هذا) بعضُ بعضكْ

وقد أعلمني الدكتور عبد الحسن المحيالي ان القرآن الكريم سبقني الى هذا في قوله تعالى (وفاكهة وأبَّا = مفاعلتن فعولن). ونحن نتفق مع الدكتور عبد الحسن على هذا التوافق، ونحتلف معه بأن ما جاء في القرآن الكريم ايقاعات ليست اوزانا او بحورا حنى تمر بالدورة الموسيقية التي نحن بصدد شرحها.

وحوَّل الرصافي ايقاع (مستفعلاتن مستفعلاتن) الى وزن حيث كتب:

سمعتُ صوتا للعندليبِ

             تلاه فوق الغصن الرطيبِ

*

اذ قال نفسي نفسي الرفيعة

             لم تهوَ الا حسن الطبيعه

وظلَّ وزنا مهملا حتى كتبت عليه نازك الملائكة ونظَّرت له وسمته (بحر الموفور) فصار بحرا. واشتهر أبو العتاهية بصنع الاوزان قيل انه (لسرعة وسهولة الشعر عليه يقول شعراً موزوناً يخرج به عن أعاريض الشعر وأوزان العرب) وقد صنع أوزانا كثيرة سجلتها كتب الادب مثل (للمنونِ دائرات يدرن صرفها) و(عتبُ ما لليالي خبريني وما لي) فلم يُكتب عليها فأهملت. ولكنه نجح في اختراع وزن صلح أن يكون بحرا وهو المتدارك. ولم ترق الاوزان الكثيرة التي صنعها ابن السميذع ورزين العروضي وغيرهم أن تصبح بحورا، وكذلك في الازمنة بعدهم وحتى زماننا، عشرات الايقاع يصنع منها اوزانا فلا يكتب عليها الشعراء الكبار او تكتب قصائد نابهة فتهمل تلك الاوزان. وان قدرة الوزن وطاقته الموسيقية وصلاحية نغمته للشعر والاغراض المختلفة هو الحاسم في نجاح الوزن وتحوله الى بحر.

البحر:

 وهو وزن قادر على التعبير شعرا بطاقة وجمال موسيقاه. فكتب عليه الشعراء الكبار واشتهرت فيه قصائد وعدت من المختارات. ابتكر العباسيون بحورا كثيرة أدخل منها الخليل بن احمد اربعة في عروضه. وهي: المضارع والمقتضب والمجتث والمتدارك. وكان عد المضارع بحرا اضطرارا؛ لانه سقيم الموسيقى، ولم يكتب عليه شعر جيد. والمقتضب محدود النغم يصلح للخواطر فقط، كتب عليه ابو نواس ابياتا اربعة، وقليل من كتب عليه وما كتب عليه. اما المجتث والمتدارك أو الخبب فبحرا جيدا الموسيقى يصلحان لبعض الاغراض.

سمات الاناشيد الوطنية

1- جاء النشيد الوطني من الخارج، فهو ليس ابتداعا عربيا؛ وهذا يعني ان املاءات كثيرة جاءت مع النشيد. مع الاعتراف بوجود اصول له في التراث العربي، وتلك الاصول هي مشترك عالمي؛ لان النشيد حاجة متطلبة في كل شعوب العالم، الا ان النشيد الوطني تطور واستكمل قوانينه في أوربا.

2- النشيد الوطني يكتب باللغة الرسمية للبلد، ويشترط فيه الانشاد بفرقة موسيقية، فهو يجمع بين الشاعر والملحن. والملحن أكثر فاعلية وتأثيرا في صناعة النشيج الوطني، وقد يعدل في كلمات الشاعر.

3- غالبا يكتب النشيد الوطني شعراء غير كبار أو مشهورين، وهو واقع شعراء النشيد العرب. بعض الاناشيد لا قيمة لكلماتها وقيمتها ونجاحها بقوة تلجينها ووجنا بعض الاناشيد وضعت على قالب لحني مسبق. وبعض الاناشيد وضعها شعراء غنائيون لحاجة النشيد الى غنائية عالية وللنشيد مبدعوه الخاصون، وليس كل شاعر قادر أن يكتب النشيد.

4- وقليل من الاناشيد كتبه شعراء كبار مشهورون كنشيد العراق الذي كتبه شفيق الكمالي، ولكن ذلك من القليل او النادر.

5- بعض الاناشيد قوالب لحنية وضعت عليها الكلمات. وبذلك نجد كثيرا من الاناشيد الوطنية مكتوبة على اكثر من بحر او ايقاع لان الشاعر راعى اللحن المتنوع.

6- قد يكتب النشيد على بحر معين، ثم يتصرف به الملحن فيتحول موسيقيا الى بحر أو ايقاع آخر.

7- بعض الاناشيد الوطنية العربية كتبت بغير العربية كنشيد الصومال وجيبوتي وجزر القمر، وهذه الاناشيد لا تدخل الدراسة لانها معرَّبة كتبت بغير لغة الشاعر.

***

الأستاذ الدكتور محمد تقي جون

إنَّ كلَّ ما في عالمنا قابل للإدراك أو التصور سواء أدركناه بذاته أم بتمظهرات أخرى، إذ إنَّ الحقيقة في طبيعتها الظهور مثلما في طبيعتها الخفاء، فمن متبنيات أدونيس في كتابه الصوفية والسوريالية، أنَّه يرى ما نسميه بالواقع الخارجي أو المادي أو الطبيعي ليس إلا جانباً من الوجود، فما وراء الأشياء إلا جزء آخر من الأشياء، ومثلما يرى سبينوزا الطبيعة هي جوهر واحد وأوحد، يتجلى في نسق لامتناهٍ ذي وجهين: وجه مادي ووجه لامادي (فكري)، ولكنهما وجهان لحقيقة واحدة، فكل عرض مادي ينهض معه عرض فكري، ويبدو أنَّ ذلك هو تمييز بين وجهين أو جانبين للعالم أو الواقع نفسه(1).

و بهذا الوعي يمكننا أنْ ندرس النصوص الشعرية بتمعّن وتدبّر للرؤى التي يمتاحها أصحابها، وبما تحمله من توجهات فكرية وجمالية تشكِّل مادة النص الظاهرة والمغيبة، ولعل الناقد الأدبي بما له من أدوات ومناهج تمكنه من قراءة تلك النصوص   واستحصال مكنوناتها وتفسيرها، وواحد من تلك المناهج التي تتعرض لقراءتها والتي يتبين عن طريقها دوافع الأديب ومكبوتاته اللاواعية هو المنهج النفسي، وهو واحد من المناهج النقدية التي تساعد في فهم العمل الأدبي وتفسيره.

وحين نطرقُ مغاليق شعر الأديب طه الزرباطي، نجد في نصوصه ما يساورنا إلى قراءة رؤاه ولا سيما النفسية ومسبباتها؛ كونها تنبثق من عوالم داخلية ذات مؤثرات خارجية، تتطلَّع إلى مشاهدات عيانية عبر لغة الشعر وتصويره الفني ما يجعلنا سبر أغوار الرؤى الأخرى أيضاً، ومنها الرؤيا الوجودية المعبرة عن حالات الاغتراب، والإحساس بالمرارة، وعبث الوجود، وسر المصير، كذلك نجدها تتجه إلى الواقع بوصفه مناخاً أصيلاً، وتربة عريقة تنبت الآمال والأوهام والضجر والقلق والأمن والاستقرار، ولعلها تتطلَّع أيضا إلى فتح آفاق الوعي العالي صوب ميتافيزيقا الأشياء والوجود والكون والإنسان، ولعل الشاعر في رؤية يونج يَعدُّ الإنسان موجوداً أسمى وإنساناً أرفع؛ لأنَّه يمثل الحياة النفسية للإنسانية(2). ويبدو أن ما يعانيه الزرباطي يعلنه في الكثير من قصائده متوسلاً الإعانة؛ كونه في أحايين يشك من أنَّه لم يصل إلى طقوس الكتابة الشعرية كما ينبغي، فهو من فرط مايريد أنْ يوصل ما عَنَتْ له نفسه لما يحيره، نراه يؤثر محو مايكتب؛ كون آلية القصد عند من لايعيش التجربة الشعورية كاملة، لايمكنه إيصال ما يريد إلى متلقيه، يجعله ذلك بكل تأكيد لايصل إلى المعنى القطعي، وفي ذلك يقول:

ربما أجدُ ما أقولهُ؛

حينَ أمزِّقُ أوراقي كُلها،

قدْ يُشوِّهُ الماءُ ما قالَهُ الحِبرُ،

وقدْ لا تتركُ القبلةُ شاهِدا على الشفتين.

إنَّ هذه الحيرة تمثل قلقاً نفسياً من فرط حرصه على أن يحقق النص الشعري بغيته وهي إرسال رسالته إلى متلقيه حين لا تتحقق التجربة الشعورية في الكتابة كاملةً.

فيتساءل:

لكن كيفَ تُخبئُ جُرحَ روحِكَ؟

كثمرةٍ ناضجةٍ تسقطُ؛

لينالها جائعٌ أرضيٌّ؛

لا يلوحُها جوعُهُ،

فالكتابة حين لاتقاس بمقاييس ما تدخره أعماقنا نجد القلق يجتاحنا، وهذا ما يُنبئنا به الزرباطي، وهو يعيش ذلك الإحساس المتوهج بالانفعالات، ويبدو أنَّ الثمرة الناضجة التي قصدها الشاعر لا يلوحها الجائع، هي الفكرة التي لا يفهمها مَن لم يعش تجربتها، فيعسر عليه فهمها.

أعاليها بعيدَةٌ كـفرحَةٍ ...

كالحلمِ نلجأُ إليهِ في يأسنا،

ونُحققَ ما عجِزْنا عنهُ ...

أعِنّا ياربُّ؛ كي لا نخسرنا؛

فالقيمة العليا التي لايمكن قولها هي كفرحةٍ، وكالحلم نلجأ إليه في يأسنا؛ كي يقلل من سطوته، بل ونحقق ماعجزنا عنه؛ كونه الشفاء الذي يداوي اليائسين والمهمومين، بيد أنَّ الشاعر حتى في نظم الشعر يحتاج العون؛ من أجل إيصال رسالته.

وفي نص آخر نراه يقول:

في سلمِنا،

في حربِنا،

في هروبِنا منّأ،

في عودتِنا إلينا...

ساعِدْنا أنْ نَجِدنا ياربُّ!

لكن ليسَ كما كُنا...

تَساقطُ التماثيلُ البرونزية،

تَتساقطُ أنامِلُ مبدعيها ...

كقصائدِ الحَربِ ...

كقصائدِ الغزل التي تُكتَبُ لِتُباعَ؛

لعاشقٍ آخر لِقاءَ كأسٍ

...

ياربُّ رِفقاً بأحلامِنا الممنوعَةِ...

فاليأس والقنوط كلاهما يُبددا أحلام الشاعر والفنان عندما يعيشا الحلم، فلا يمكن لهما تحقيقه إلا في المتخيل (الميتا واقعي) ما يفقدهما الكثير، أليس التماثيل تتساقط  كما تتساقط الأنامل التي نحتها حين لم يحقق هذا التمثال جدواه، كذلك القصيدة ولاسيما قصائد الحرب، وقصيدة الغزل التي لاتكتب من أجل فضيلة الحبّ، بل لأجل أن تباع كي تُغنى، أو تُكتب للترف أو الاستجداء. ولعلها لعاشق أفلس في عشقه إلا أنَّه يطمع أنْ تكون تلك القصيدة مستساغة في ذاكرة الحبيبة حين لاتحبُّ سوى الزهو بنفسها. وقد أشار إلى رجاء الرب عسى أن يحقق حلمه الميئوس منه.

ويظهر لنا الزرباطي من أنَّه مهووس بالشعر، بيد أنَّه يمتلك وعيًا سايكولوجياً، فهو يحدس ما في البعد الخفي للعالم الإنساني ويستدعي تجليات اللاشعور الجمعي ذلك في قوله:

أخرجُ من نصي،

مُبلَّلاً بالشعر،

مُترنِّماً بالكلمات،

مُتدفِقاً بالحروف،

أحلم أنْ أكونَ شِعراً؛

من أنْ أكونَ شاعِراً،

ليكتُبني الصخرُ،

ويعزفني الشلالُ،

كوردةِ دوارِ الشمسِ،

أبحثُ عن شمسٍ لحلمي.

فالشاعر العاشق للشعر؛ هو من يحمل في ذاته رؤية العالم الإنساني الخفي ويستدعي تجليات اللاشعور الجمعي غير أنَّ ذلك لن يتأتى إلا بالمعاناة والمواجد، في حين يستمد بعض الشعراء القوة من الإحساس بوجود الذات في طبيعة العمل الفني الذي يرجعه النفسانيون إلى الحالات الانفعالية والتجربة اليومية(3). والزرباطي لفرط سكره وهيامه بعوالم الكتابة الشعرية، يرى أنَّه حين يخرج من نصه، يخرج مُبللاً بالشعر مُترنَماً بالكلمات، مُتدفِقا بالحروف، فهو يريد أنْ يكونَ قصيدةً لاشاعراً؛ كي يكتبه كل ما في الطبيعة، يريد أن يذوب بكل شيء فيها (ليكتُبني الصخرُ، ويعزفني الشلالُ، كوردةِ دوارِ الشمسِ،أبحثُ عن شمسٍ لحلمي)؛ إشارة إلى الجمال الإنساني في الشعر، فحين يذوب الشاعر شعراً تتحول الكلمات إلى تفكير جمالي صرف إذ "إنَّ التفكير الجمالي هو أشبه مايكون بحالة نفسية سعيدة" (4). والنص الإبداعي الذي يشير له الشاعر الزرباطي يهب معناه الحقيقي مع التوازن الداخلي للذات التي أبدعته.

وفي قصيدة أخرى يقول:

أنا ذئبي

يُداعِبني ذئبي،

يُغازلُني،

يعانقني،

ويُسمعني غزلا ذئبياً.

فالشاعر يستشعر أنَّ في داخله ذئباً والمقصود شيطان الشعر الذي لايهدأ إلا أن يأتي للشاعر فيخالجه بفكرةٍ وبتفنّن في تشكيلها والذي يقصده هو الإلهام، -وهو واحد من عناصر تكوين النص- في حين كان الشعراء الأوائل يسمونه شيطاناً؛ ماجعل الزرباطي يستعير لفظة الذئب بدلاً من الشيطان، ولايخفى أنَّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وصف الشيطان بالذئب، فقال: (إنَّ الشيطان ذئب الإنسان يأخذ القاصية والشاذة) أما في رؤيتنا الحديثة أنَّ انفعال الشاعر يؤثر تأثيراً كبيراً في شحذ قوة التخيل وإعانته على إقامة تجربته الشعورية، إذ إنَّ العمل الفني يقيم في كل ماهو خيالي.(5). فالإيحاء الشعري (الذئب) ونشوة القول (الغزل – العناق) كلاهما ينتجان وحدة قائمة بذاتها تحققان نصاً شعرياً. وهكذا يقدح لنا الزرباطي شعراً يحدد فيه مسارات القصيدة المرجوة وطقوسها، وما خلفها من عناصر وإرادات تُقوِّمُ إنشاءها؛ لتصل إلى متلقيها مثلما يريد.

نتمنى للشاعر الزرباطي مزيداً من النجاحات في مسريته الأدبية، ومن الله التوفيق.

***

بقلم: د. رحيم عبد علي الغرباوي

.................

المراجع:

(1) ينظر: أدونيس أو الإثم الهيراقليطي، عادل ضاهر: 36- 37

(2) ينظر الرؤيا والتشكيل في الشعر العربي المعاصر، د. سلام الأوسي: 134 وما بعدها.

(3) ينظر الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، د. عبد القادر فيدوح: 9

(4) الصورة واستيحاء، يوسف حسن نوفل: 68

(5) ينظر: الكون الشعري وفضاءات الرؤيا، د. رحيم الغرباوي: 17- 18

 

بين النصوص الأدبية والمراسلات الشخصية

أقيمت خلال مؤتمر السرد الخامس الذي نظمه اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، طاولة نقاشية بعنوان ""الرسائل بوصفها سرداً"، وقد طُرحت فيها الكثير من الآراء، التي احتاجت نقاشا مطولا لما أثارته من اشكاليات، لكن ضيق الوقت لم يتح - لي ولا للحاضرين- فرصة التعقيب عليها، فقد تداخلت في ذهني مجموعة من الأسئلة تتعلق أغلبها بأسئلة جوهرية – كما أعتقد- وهي هل يمكن اعتبار الرسائل شكلا أدبيا، وما مدى قدرتها على بناء نص سردي، وكيفية تعاملها مع الزمن السردي والشخصيات، وما إذا كانت الرسائل تتطلب تأطيرا خاصا يمكن أنْ يميزها عن الأشكال الأخرى للسرد، مثل الرواية والقصة القصيرة، وهل يمكننا اعتبارها سرداً مكتملا بذاته، أم أنَّها تحتفظ بطابعها الذي يحد من إمكانية تحولها إلى شكل أدبي مستقل؟

كنت سابقا من هواة المراسلة، وكانت تصلني في ذلك الوقت الكثير من الرسائل ومن مختلف الأمكنة، حاملة بين طياتها، في بعض الأحيان، حكايات متنوعة، أشبه بقصص متسلسلة، فكل رسالة جديدة تضيف لبنة إلى تلك السردية التي تجمع بين الواقع والمتخيل، ولكن تلك السلسلة لم تكن متواصلة كما في قصة أو رواية تقرأها دفعة واحدة؛ بل كانت تصل بصورة متباعدة، بسبب بطء البريد في ذلك الوقت، أو ربما ضياع بعض الرسائل، ومع كل تأخير تتصاعد حدة الترقب، فيضيف هذا التباعد الزمني لوصولها، عمقا سردياً خاصاً، يتيح لي التأمل في ما قرأته، ويدفعني إلى إعادة تركيب الأحداث وإعادة تفسيرها من جديد، وربما التشكيك فيها في بعض الأحيان.

كانت تلك الرسائل، وإنْ اختلفت في الشكل والمضمون، تقدم لي سرداً متماسكاً، يقربني من تفاصيل حياة أناس بعيدين عني في المكان، لكنهم قريبون في الأثر الذي تتركه كلماتهم، لذلك، وبهذا المعنى، تحولت المراسلات من مجرد وسيلة اتصال إلى عمل سردي حي، يتدفق مع الزمن، ويعيد تشكيل اللحظات والأحداث داخل إطار سردي غير مكتمل، ينتظر أنْ يكتمل بما تحمله الرسالة التالية.

فعلى الرغم من أنَّ الرسائل قد تبدو في ظاهرها وسيلة للتواصل الشخصي أو ربما الرسمي، إلا أنَّها تحمل في طياتها ملامحاً سردية، من حيث بناء الشخصيات، ونقل الأحداث، وتوظيف الزمن، تجعل منها نصوصاً تستحق الدراسة بوصفها نوعاً من السرد، بما تحمله من غنى وتنوع في التعبير، قادرة على تجاوز وظيفتها التواصلية المباشرة، لتصبح عملاً سردياً، فهي ليست مجرد وسيلة لنقل الأفكار والمشاعر، بل فضاء للتأمل، حيث تعكس أحيانا جوانباً من ما يضمره الكاتب، ولعل التفاعل بين الذات الراوية والآخر/ المتلقي، يُضفي عليها طابعا سردياً، حيث ينقل الراوي/ كاتب الرسالة من خلالها تجربته السردية ضمن سياقات زمنية، تتداخل فيها الذاتية مع السرد، عندما يكون الراوي شخصاً حاضراً في الحدث، مما يعطي السرد طابعاً ذاتياً، لتبرز الجانب الشخصي والإنساني، وتصبح وسيطاً لرواية التجربة الإنسانية في صورها المختلفة، وربما يكون الراوي، في بعض الأحيان، محايداً يتخذ دور المراقب أو الناقل.

لكن مع ذلك ليست الرسالة بالضرورة سرداً مكتملاً بالمعنى التقليدي للرواية أو القصة، بمعنى آخر أنَّها تمتلك عناصراً سردية مثل الراوي والمروي له، وهناك تسلسل للأحداث، ووصف، وربما حوار داخلي، لكنها غير ملتزمة بالبناء السردي المتكامل كما في الرواية والقصة القصيرة، من تسلسل للأحداث، والحبكة.. إلى آخره، فهي قد تروي أحداثاً وتصف مشاعر وتفاعلات، لكنها غالبا ما تكون مجزأة وتركز على لحظات محددة أو تفاعلات شخصية، مما يجعلها أقرب إلى نصوص تحمل ملامحاً سردية أكثر من كونها نصوصا سردية متكاملة.

ما يميز الرسائل عن غيرها هو قدرتها على تجاوز الحدود بين الأنواع الأدبية وغير الأدبية، والتي يصطلح عليها في اللغة الإنجليزية (fiction) و(nonfiction)، فهي تحمل في طياتها جوانب من السيرة الذاتية، واليوميات، والمذكرات، وفي الوقت ذاته تحتفظ ببنية سردية قائمة على الحوار الداخلي (المونولوج) والخارجي الموجه للآخرين، هذه الخاصية تجعل من الرسائل نصوصًا مركبة، فالرسالة بوصفها نصًا سردياً تتحدى القوالب التقليدية للسرد، إذ تسهم في تشكيل نصوص سردية دون الحاجة إلى حبكات متماسكة أو تطورات درامية متتابعة.

من أهم الخصائص التي تجعل الرسائل نصوصًا سردية هي طبيعة بنيتها الزمنية، ففي الرسائل، نجد الزمن يتشظى ويعاد تركيبه وفقًا لمنطق التجربة الشخصية، فغالبًا ما يتلاعب الكاتب بالزمن في الرسائل، إذ يعيد ترتيب الأحداث بطرق لا يتبع فيها السرد الخطي، مما يضفي على الرسالة طابعاً تأملياً أشبه بنص سردي يعيد تشكيل الماضي والحاضر في إطار من التدفق الحر، وهذا البعد التأملي يعطي للرسائل دفقاً سردياً لا تتسم بها النصوص الرسمية أو اليومية الأخرى.

يتمثل في الرسائل مزيج من الواقعية والذاتية، حيث تظهر الشخصيات في النصوص الرسائلية بوصفها ملامح للأنا، فالشخصيات في الرسائل غالبًا ما تكون انعكاسًا مباشرًا لشخصية الكاتب نفسه، والتي تعزز البعد الذاتي للسرد الرسائلي، إذ يتركز السرد حول التجربة الداخلية للراوي أكثر من تركيزه على تصوير واقع خارجي متماسك.

ومن أبرز الخصائص السردية في الرسائل هي العلاقة بين الراوي والمروي له، ففي الرسائل، يكون الراوي معروفًا عادةً للمروي له، مما يضفي طابعًا شخصيًا على السرد، هذا التفاعل بين الشخصين يسمح بوجود سرد يتجاوز الإخبار العادي أو العلاقة التواصلية المباشرة، إلى مستويات أعمق من التفاعل النصي، حيث يتداخل الحوار الداخلي والخارجي، ولا يمكن التمييز بينهما، في أكثر الأحيان، والذي يحول الرسالة إلى أداة للتعبير عن الذات وعن الآخرين في آنٍ واحد.

أما على صعيد الأدب، فنجد هناك العديد من الروايات التي تتخذ من الرسائل المتبادلة بين الشخصيات أساسًا لبناء حبكتها، فعلى الرغم من هيمنة نوعها الأدبي، إلا أنَّها تثير تساؤلات عديدة حول طبيعة تلك الرسائل وما إذا كان يمكن اعتبارها رسائل حقيقية أم أنها مجرد أداة أو آلية موظفة ضمن إطار سردي، فالرسائل في هذا النوع من الروايات، رغم كونها تحمل ملامح الرسائل العادية، إلا أنها خاضعة لبنية السرد الروائي؛ فهي مكتملة العناصر من حيث الحبكة، وتسلسل الأحداث، وبناء الشخصيات.

أما الرسائل المتبادلة بين الأدباء والفنانين، كرسائل فرانز كافكا إلى ميلينا أو رسائل جبران خليل جبران إلى مي زيادة، فهي تمثل نوعًا مميزًا من الكتابة الرسائلية التي يمكن تصنيفها في مساحة وسطى بين الرسائل الشخصية والنصوص الأدبية السردية، فهي تتجاوز وظيفتها التواصلية البسيطة لتصبح نصوصًا أدبية عميقة، تعبر عن هواجس الكتاب وتصوراتهم، وتصور مواقفهم العاطفية والفكرية بأسلوب يجمع بين الشعرية والتأمل، لذا فهذه الرسائل، تشكل نصوصًا أدبية حية يمكن دراستها وتحليلها بوصفها تجارب سردية مكتوبة بلغة الرسائل، فهي أقرب إلى الأدب منها إلى المراسلات التقليدية، إذ نلمس فيها بوضوح النزعة السردية، فهي ليست مجرد وسيلة لنقل المعلومات أو المشاعر، بل هي فضاء لإعادة بناء الذات ولتجسيد تجارب فنية وشخصية عميقة، إذ أنَّها تمزج بين الخيال والواقع، وتتجلى فيها شخصيات كتابها كجزء من النصوص الأدبية ذاتها، مما يجعلها تستحق الدراسة كنماذج تحمل بنية سردية متكاملة، يمكن النظر إليها بوصفها جزءًا من سيرهم الذاتية غير الرسمية، إذ تروي تفاصيل حياتهم الداخلية من خلال حوارات نصية تتسم بالتدفق العاطفي والبعد التأملي الفلسفي، تلك الفروق الدقيقة بين الرسائل في الروايات والرسائل الواقعية تفتح المجال أمام دراسة أوسع لعلاقة الرسائل بالسرد، حيث يمكن اعتبار الأولى نموذجاً للأدب السردي الموجه، بينما تظل الثانية فضاءً مفتوحاً للتعبير الذاتي العفوي، الذي يُظهر ملامح سردية غير مكتملة.

***

أمجد نجم الزيدي

للشاعرة فوزيه سليمان - سوريا

1. الأسلوب الأدبي: تُظهر قصيدة (عطر الروح في رحلة الحب) لغة شاعرية متدفقة، تمزج بين العاطفة والخيال في صور شعرية غنية وعميقة. الأسلوب هنا ينتمي إلى الشعر الرومانسي حيث تُصوَّر العلاقة بين الحبيبين كاتحاد روحاني يتجاوز حدود الجسد والمكان. يعكس النص حالة من الاندماج والتوحد بين الذاتين، حيث يصبح الحبيبان كيانًا واحدًا في سماء الحب الأبدي.

2. التراكيب اللغوية:

يتميز النص بتراكيب لغوية بسيطة في ظاهرها لكنها تحمل معانٍ عميقة ومركبة. الاستخدام المكثف للاستعارات والتشبيهات يعزز من تأثير الصورة الشعرية. على سبيل المثال، (لملمت خيوطك من رمال الشمس ووضعتها في عربة الغيم)، تمثل عملية جمع الخيوط وكأنها فعل ملحمي، إضافة إلى رمزية الشمس والغيم التي تشير إلى العلاقة بين الأرض والسماء، والنور والغموض، مما يعزز الفكرة الروحية للعلاقة.

3. الصورة الشعرية:

تغلب الصور الشعرية على النص، حيث تتوالى التشبيهات والاستعارات التي تضفي جمالًا وعمقًا على التجربة العاطفية. تعبيرات مثل (نسقط مثل الريش المتساقط من القمر المسافر) و(نعطر الكون بشعلة حب لا تنطفئ) تنقل القارئ إلى عالم من الخيال البصري والروحي، حيث تتداخل العناصر الطبيعية (الريش، القمر، الغيم) لتشكل لوحة متكاملة عن الحب الطاهر والمستمر.

4. التوازي والتكرار:

تستخدم الشاعرة التوازي بشكل متقن لتعزيز فكرة التوازن والتناغم بين الروحين. فالجمل مثل (روحين متناغمتين في سماء واحدة) و(تلتمس أرواحنا بعضها البعض على شرفات العطر في اتحاد أبدي) تكرّر المفهوم نفسه لكن بأساليب مختلفة، مما يخلق إحساسًا بالانسجام والتكامل بين الحبيبين، ويزيد من شدة الرابطة العاطفية بينهما.

5. المفردات والرمزية:

تُظهر الشاعرة قدرة على استخدام مفردات تحمل بُعدًا رمزيًا يتجاوز المعنى الحرفي. مفردات مثل (الجناح)، (الصقيع)، (الضياع) تحمل دلالات على الضعف، السقوط، والشتات، بينما مفردات مثل (العطر)، (الحب)، و(الاتحاد الأبدي) تخلق انطباعًا عن السمو والرفعة والخلود. هذه المفردات تخلق توازنًا بين المعاناة والمثالية، ما يعكس حالة من الحب الذي يتخطى الصعاب ويعيش في الأبعاد الروحية.

6. الموضوع والمضمون:

الموضوع الأساسي للقصيدة هو الحب العميق والمخلص الذي لا يتوقف عند حدود الجسد أو الزمن. الشاعرة تعكس تجربة حب تتجاوز المظاهر، وتستند إلى العطاء اللامتناهي بين الطرفين. (أحبك أعمق من الجلد) ليس مجرد تعبير عن حب جسدي، بل هو تأكيد على حب روحي وعاطفي يتجذر في الأعماق.

7. الأسلوب الإيحائي:

يتسم النص بالإيحاءات العميقة التي تعكس فلسفة الشاعرة في الحب. فالحب هنا ليس مجرد علاقة عاطفية عابرة، بل هو علاقة تُلهم حياة جديدة وتمنح الأمل والتجدد. التشبيه بـ(الريش المتساقط من القمر المسافر) يوحي بمشاعر الضعف والرحيل، لكن ذلك يكتسب معنى آخر مع تحول الريش إلى رمز للعشق الطاهر الذي يظل يرفرف رغم العواصف.

8. الخاتمة:

قصيدة (عطر الروح في رحلة الحب) تقدم مزيجًا من الرومانسية والروحانية من خلال لغة شاعرية غنية بالصور البلاغية والمفردات الرمزية. الشاعرة فوزيه سليمان تنقل القارئ إلى عوالم عاطفية غير تقليدية، حيث يظل الحب خالصًا وأبديًا في مواجهة التحديات والصعوبات. الأسلوب الإيحائي والتراكيب الشعرية المتقنة يجعل القصيدة تنبض بالحياة وتعكس تجربة حب إنسانية تتجاوز الأبعاد الجسدية.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق

...................

عطر الروح في رحلة الحب

لملمت خيوطك من رمال الشمس ووضعتها في عربة الغيم، استمعت الى روحك وهي تصرخ لأجلي، وسمعتني عندما اصبت بالكآبة لأجلك، روحين متناغمتين في سماء واحدة، نسقط مثل الريش المتساقط من القمر المسافر، نعطر الكون بشعلة حب لا تنطفئ، أحبك أعمق من الجلد، ليس شهوة تتعلق بالمرور في منتصف الطريق، بل عطاء منا للآخر، لننبض بحياة جديدة، اريد ان أعتني بجناحيك حين تهرب أصابعك وتتغلغل في الصحو وانت تحلق، أن اكون بجانبك لأمسك بك إذا سقطت تحت صقيع الضياع والذهاب حتى تلمس ارواحنا بعضها البعض على شرفات العطر في اتحاد أبدي ..

***

فوزيه سليمان - سوريا

 

حزمة من حطب الغربة في بستان العشق الضوئي

يعملُ بصمت، كلماته قادمة من عوالم أخرى، ومضامين وصور حية تنبض بالحياة، حتى أن قصائده كالريح فوق أغصان المحبة المفقودة في عالمنا الميت والعاج بالحروب والتوابيت، هذا العاشق الولهان رغم خريف العمر، وكأنه يسبح في معترك العشق الذي رسمه لنفسه الملتهبة لعالم المرأة الغامض، ليس هذا فقط وإنما يرسم غربته والوطن في وعاء لا يخرج منه إلا بصعوبة " والشاعر " السماوي " كما أجده في عصرنا الراهن "شاعرا بحجم الأمة " بما يقدمه الان للأدب والثقافة العربية، وكأنه نذر روحه الهائمة للمحبة البشرية .وكما قال " ابن منظور" الشعر منظوم القول غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية، وإن كان كل علم شعرا:

" كنُ عاشِقا ً لا تُساقي قلبَهُ امرأةٌ

غيري تجدْ لذّةَ الفردوسِ في ثمري " ص18

فالشاعر "السماوي " كما غيره من الشعراء الذين سبقوه فهو يدرك اليومي والمألوف، وتأثيرها عليه وكيف تكون أصداء هذا التأثير على نفسيته حتى تتحرك في داخله وتخرج شعرا ً، وكأنما يرسمها بواقعية كي تخلد قصيدته التي تعبّر عن شخصية الشاعر الواعية . وحتى يأخذنا إلى مرابع اللغة والكتابة فهو دائم الحراك والتجريب من خلال اللغة الفارهة وفيها من المخيلة الكثير عبر اجتراح صورٍ شعرية طازجة وفيها من الحلاوة الكثير:

" ولماذا جئتني في آخر العمر

لتُغري بتلتي المعصومةَ اللوزِ؟

أجِبني ما الذي أعنيهِ لك ْ؟ " ص27

هو يشتغل على الكثير من آليات الشعر العربي القديم والحديث، قلَّب جميع الصفحات التي اشغلت تفكيره في الشعر العربي منذ تعلمه القراءة والكتابة، وعرف جميع بحور الشعر، ولو تفحصنا جميع دواوينه نجد كل ديوان من دواوينه يتضمن تجربة مغايرة لسابقتها:

" أدركتُ أنكِ خيرُ مفتاحٍ

لقفلِ المستحيل                                   ْ     

*

وندى زهور اللوزِ في واديكِ

خمرتيَ الحلالُ

 وأنَّ عطرَزفيركِ الليليِّ

 أشذى من رذاذ الياسمين

ومن رحيق الزنجبيل " ص132

وقصيدة " بدرًمن الماء والياقوت "وغيرها قد تجلت اللغة القرآنية الرائعة والمرسومة بإحكام في معظم قصائده المنشورة في دواوينه الحديثة والقديمة التي أطلعنا عليها، ويبدو أنه مطلع على القرآن الكريم كثيرا ومتأمل لكل أحكامه، هذا الطائر الذي ينزف شعرا ويجدد قضاياه اليومية وهو يستعير عدداً من الصور حتى يحاكيها بالحبر السائل يجعله يثق بما يكتب:

" أتاني من وراء ِالبابِ

ناداني:

 لِتدخلْ

 فأنا قد هَيتُ لك " ص30

ويجد نفسه في هذا المجال كالطائر الذي لا يوجد غيُره في عالم السماء، ولأنه تربى في بيئة تعكس انفعالاته الداخلية وما يحيطه من ضجيج هذا العالم الذي شبههُ بخيمة كبيرة ممزقة لاتشبه الوطن، ولأنه مهووس بالشعر، وهذا الهوس الذي يعلو في فضاءات الغربة المقيتة، والتي شكلت له عالماً خاصاً به، حتى أخذته السنين "الغربة " إلى مطافات آخرى جعلته يشدو في سماء غربته التي أنتجت لها مصدات كثيرة في عالمها الذي يجعلك تتفرد بمغزلك الشعري، والذي أراد منه أن يكون أداة محركة لتلك الذكريات والأحداث الآنية التي ربطها في ديوانه ( تيممي برمادي ) وكأنها مرثية يشيّع بها الأحبة:

قد كنتُ قبلَكَ محمولاً على نزقٍ

طاوي الجهاتِ فمن ماءٍ الى جُزُرِ

*

أحدو وليس سوى الأوهامِ قافلةً

بين المنافي حسيرَ الحزنِ والكدرِ " ص22

 يقول عنه الناقد " جمعة عبد الله ": " نجد الطراوة والحلاوة في اللغة الشعرية المبهرة لدى الشاعر العراقي المعروف "السماوي "نجد الأندهاش في الأداء الفني والتعبيري في شفافية ملهمة، في جوهر الأشياء الروحية والمادية، في محسوساتها المتفجرة " ولهذا أخذتني قصائد هذا الديوان " تيمًمي برمادي " إلى مديات أخرى حتى شعرت أنني أتكئ على عالم كامل من فيض هذه المشاعر العفوية والراقية والمؤثرة، وأنت أيها القارئ تستلهم مصدرها من أحاسيس هذا الشاعر "السماوي" الكامنة في داخله المعبأ بالعشق والسكون .

وشاعرنا " السماوي " بقوة أفكاره وما يؤمن به من فلسفة شكلها مشواره الشعري، منذ أن جعل للمفردة صورا مختلفة عاجة في البانوراما التي ترسمها قصيدته التي أشعلت في داخله هذا العشق الضوئي، ولهذا تتبين لنا دلالة على قدرة " السماوي " على اللحاق بأفق مفتوح لقصيدته التي لاتكتمل:

"  يا جنة الله في قلبي ويا قمرا

من الأنوثة أدناني من القمرِ " ص19

ولو دققنا كثيرا في جميع دواوين هذا الشاعر المتفرد لوجدنا أنه أطلع على الكثير من الثقافات والتجارب، وأنتج وأبدع، ووجدت في هذا الديوان وخاصة عن المرأة هي الحلم، الأم، الجمال، الدفء، الحبيبة:

 " فَلقَ الوردةَ ربُّ الفلق ِ

 فتجلت شفتينْ " ص161 ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الديوان "تيممي برمادي " للشاعر العراقي المعروف بين الأوساط العربية والعراقية، هو من القطع المتوسط ويقع في 176، وهو من إصدار مؤسسة المثقف العربي - سيدني- استراليا.

***

قاسم ماضي - ديترويت

شكلت الراوية الكلاسيكية الألمانية أهمية في تأريخ الأدب العالمي، من خلال أمتلاكها مقومات القوة النابعة من تأريخ الفلسفة الألمانية، ويعد الروائي الألماني هيرمان هيسه واحداً من كتّاب الرواية الألمانية الكلاسيكية، الذي تميزت كتاباته بالعمق الفلسفي والنفسي، فضلاً عن رصده حركة المجتمع الدؤبة، والتطور الصناعي، وتناولها بالتحليل الأجتماعي العميق، ومن أبرز ما كتبه من روايات (الخبير من ساندرا) عام 1924، التي تناولت حياة الشباب في أوروبا بالقرن العشرين، وأثر الحرب العالمية الأولى عليه، وما نتج عنها من تأثيرات سلبية، كما كتب رواية (الموتى الأحياء) التي نُشرت في عام 1931، حيث تناول فيها الأضطرابات السياسية والاجتماعية وظهور أحزاب جديدة في تك الفترة، فضلاً على تركيزه على تأثيرات البيروقراطية والفساد في ذلك الوقت، في حين كتب روايته (جبل سيساينغ) والتي رصد فيها من تناقضات داخلية والبحث عن الهُوية للأنسان الألماني وجدوى وجوده في الحياة، أما في رواية (نزاع الروح) المنشورة في عام 1930، فهي تروي قصة صداقة بين شخصيتين مختلفتين في الطباع والرؤية للعالم، فالرواية تستكشف المواضيع الأكثر جدلاً بين الجمال والقبح والروحانية والغرائز البشرية وحب التسلط والقوة.

إلا إن رواية الكريات الزجاجية، الحاصلة على جائزة نوبل للآداب عام 1946، هي أحدى أهم رواياته، التي أمتازت بأسلوبها العميق والمعقد، والتي كُتبت في القرن العشرين، حيث سعى هيسه في هذه الرواية الى تناول موضوعات فلسفية وثقافية عامة، بمشتركات متعددة، تختلج فيها الذات الانسانية، فالرواية تدور أحداثها في إطار طوباوي أو نوع من اليوتيبيا، تقع في مستقبل بعيد، حيث تعيش مجتمعات تحكمها الفلسفة اللاهوتية والوضعية والغيبيات، ومن طرف آخر الموسيقى، التي عبّرت عنها الحضارة الألمانية قوتها وشغف بها؛ ليس المجتمع الألماني فحسب، إنما أخذت سيطرتها على معظم دول أوربا وتأثيرها عليها.

فبطل الرواية هاري، ذلك الشاب الذي يتمتع بقدرات فائقة في لعبة تدعى (الكريات الزجاجية) إذ ترمز لنا هذه اللعبة لتمثل تجسيداً للمعرفة والحكمة، التي طالما أرتبط مفهومها عند البطل هاري بالفلسفة الألمانية. (اللعبة معقدة غامضة القواعد لا يفهمها ويتعلمها إلاخاصة الخاصة، وتمتزج فيها الجملة الموسيقية بالفكرة الفلسفية).

لقد قدم هيرمان هيسه هذه الرواية بعدة ملامح بارزة تجعلها عملاً أدبيا فريداً ومميزاً، ومن بين أهم هذه الملامح؛ هو عمق الفلسفة والمعرفة وتشعبها، فالرواية من المواضيع الفلسفية المعقدة التي تغوص بالحكمة والبحث عن المعرفة والتطور الفلسفي والسعي الإنساني وصراعاته، وهي تتحدث عن معنى الحياة والبحث عن الحقيقة، إذ تبرز الرواية التكامل في التكنيك الفني والخيال العلمي، مما يعكس رؤيته الشاملة للثقافة والمعرفة الانسانية.

فالكاتب يسعى الى تسمية الرواية بالكوريات الزجاجية لرمزية اللعبة ، إذ تمثل التوازن بين العقل والروح والجسد، فهو يقودنا الى رحلة تطور لشخصية بطل الرواية داخل ثيمة النص، كما يسلط الضوء على تحولاته الفكرية والروحية وصراع الذات، ويسعى الى تناول عمق التطور الشخصي للبطل، فضلاً عن آستخدامه لغةً وأسلوباً أدبياً عالي متقن، فأسلوب الكاتب يتميز تارة بالتعقيد وتارة بالغنى الجمالي الفني، من خلال آستخدامه لغة تعبيرية بلاغية تتناسب مع عمق السرد الذي يتناوله، ودرجة الصراع الدراماتيكي داخل النص الروائي، كما يركز على تحليل الطبقات الاجتماعية وتأثير الصراعات فيما بينها وآنعكاسها على الفرد داخل المجتمع.

البعد النفسي لبطل الرواية

تعد شخصية البطل الشاب هاري، التي تتميز بالعديد من الأبعاد النفسية وتعقيداتها، فترسم خطوط الأحداث من خلال شعوره بعدم الأرتياح والقلق تجاه العالم من حوله وشعوره بالإنعزالية، فهو دائم البحث عن معنى للحياة وحيثيياتها، وعن إتصال إنساني حقيقي في عالم الوجود، كما يعاني من صراعات داخلية عميقة، يتقاطع فيها بين رغبته في الإنتماء وتقبّل الواقع، وبين رفضه للمجتمع والقيم والعادات التي يمثلها، فالبطل في الرواية يعاني من حالة دائمة من التوتر والقلق، وشعوره بالغربة في كل ما يحيط من حوله، وهذا ينعكس بدوره على علاقاته مع الآخرين، ويجعله يشعر بالعجز والإحباط المتكرر.

ويسعى الكاتب الى إبراز الصراعات الباطنية لشخصية هاري، من خلال تحليله ونقده العديد من القيم والمفاهيم الأجتماعية التي يعتبرها مزيفة وغير ملائمة، والسعي الى الثورة في ذاته ومن ثم السعي الى تغيير الواقع الاجتماعي، فنحن هنا أمام شخصية تتميز بالحساسية الشديدة والتعقيدات العاطفية، وهو دائم الميل الى التأثر بسرعة بما يجري من حوله، خلال وجوده وعمله في المنظمة السرية غير العلنية، ويظهر تذبذبات في مشاعره وسلوكه معها، وعن طريقة تعامله الحساس بما يحيطه، فالرواية تقدم البطل المحوري كشخصية تعاني من التشتت الذهني وعدم القدرة على التركيز أحياناً، مما يجعله يبدو غير قادر على الاستقرار في أي مكان أو بيئة، فيظهر بطل الرواية كشخصية إنعزالية، يفضل الإبتعاد عن العالم الخارجي والعيش في عوالمه الخاصة، وبنفس الوقت ينظر لتغيير الواقع الذي يصبو اليه والتمرد عليه.

لقد أراد هيسه الى التعمق الفلسفي بشخصية الإنسان من خلال ما رسمه لبطله، وهو يعبّر عن ذاته الحقيقية التي تناولها في أغلب رواياته وعلى شخصيات أبطاله، كمعادل موضوعي من خلال التعبير عما يجري في العالم الخارجي من حروب وفساد. إن أغلب أبطال هيسه يعبّرون عن حاجتهم المستمرة للبحث عن هويتهم الحقيقية ومكانهم من هذا العالم، وهو ما يدفعهم لأستكشاف مختلف السُبل وأتخاذها للتمرد والتحدي بأستمرار.

لقد قدم الكاتب بطله في الكريات الزجاجية، أنه في رحلة مستمرة للبحث عن هويته ومكانه الأمثل بين العالم، ويبدو أنه تأرجح بين محاولة تحديد ذاته، وبين الأستسلام للعواطف والظروف الخارجية، فبطل هيرمان هيسه، يعاني من صراع بين زخم من الرغبات والتطلعات التي يحملها في داخله، كشخصية قلقة، يشعر بالشك تجاه الآخرين وتجاه نفسه، مما يجعله يتردد في أتخاذ القرارات والتصرفات نحوها، أنه يجسد في هذه الشخصية تجربة الإنسان الحديث في مواجهة التحديات النفسية والإجتماعية في عصر الصناعة الحديثة، والتغيرات والتطورات السريعة والمتلاحقة، فضلاً عن الاكتشافات التي قادت الى تطور العالم من جهة، ودماره من ناحية أخرى.

عناصر الكتابة عند هيسه

إن أبرزما يميز كتابات هيرمان هيسه، تناوله مواضيع عميقة تتعلق بالبحث عن الذات والروحانية والفلسفة والصراع الشخصي، كما يظهر ذلك في أعماله مثل (سيدارثا) و (دميان والزارع) كما قدم هيسه في كتاباته تفاعلاً مع الفسلفة والديانات المختلفة، ويستكشف معاني الحياة والوجود من خلال شخصياته وأحداث قصصه. إن كتاباته تحمل لغة رقيقة وأنيقة، تُشكل صوراً جميلة في ذهن القاريء، وتعبّر عن المشاعر والأفكار بطريقة عميقة وجذابة، فضلاً عن تقديمه أهتماماً بالطبيعة والجمال الروحي في كتاباته، فهو يستخدم الطبيعة كرمز ومصدر إلهام والتأمل والإبداع الإنساني، ليعكس عذابات الإنسان مع الوجود.

ففي أغلب كتابات هيرمان هيسه، يتناول مواضيع الرحلة الداخلية والتطور الشخصي، وكيفية تأثير التجارب والتحديات في تشكيل الشخصية وإثراء الحياة الروحية، كما تتميز بعمقها الروحي وفلسفتها العميقة، إضافة الى لغتها الجميلة وقدرتها على تشكيل رؤى ملهمة عن الحياة والإنسانية، وستظل رواية (الكريات الزجاجية) عملاً أدبياً أستثنائياً تتناول مواضيع معقدة بأسلوب أدبي عميق وملهم، تتوزع بين الفلسفة وعلم النفس، وتستحق القراءة والتأمل لمن يبحث عن تجرية أدبية غنية ومثيرة للفكر والكتابة الروائية، وكذلك للبحث العلمي الأكاديمي.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

للأديب محمد خالد النبالي

يمثل نص "أنا لست شاعراً" تجربة أدبية تتجاوز التصنيفات التقليدية تجمع بين النفي والإثبات كاستراتيجية إبداعية تعيد تشكيل الذات والشاعرية. تنطلق الأطروحة الأساسية من العبارة المحورية "أنا لست شاعراً" التي تعكس موقفاً فلسفياً يزاوج بين إنكار الشاعرية وممارستها مما يجعل النص فضاءً مفتوحاً على تعددية التأويلات وفق رؤية دريدا للنص باعتباره "غير مكتمل ومفتوحاً دائماً".

البنية النصية واستراتيجية النفي

يتسم النص ببنية مرنة تمزج بين الشعر والنثر في قالب حداثي، ما يعكس صراع الذات وانفتاحها على احتمالات لا نهائية. العبارة المتكررة "أنا لست شاعراً" تعمل كأداة تفكيكية حيث يتحول النفي إلى فعل يعيد تشكيل معنى الشاعرية.

وفق بول ريكور، "النفي ليس إلغاءً بل وسيلة للعبور نحو الممكن"، وهو ما يظهر في النص عبر استمرارية الكتابة كفعل إبداعي يتجاوز المعايير التقليدية. التكرار هنا لا يستخدم للتأكيد فقط، بل كوسيلة لإبراز انشطار الذات وسعيها المستمر لإعادة تعريف هويتها.

تجربة الذات ورحلتها نحو المعنى

النص يعبر عن تجربة وجودية ذاتية عميقة حيث تمثل الذات محوراً لحوار داخلي بين الانتماء والنفي. العبارة "أنا لست شاعراً" تُستخدم كنافذة لفهم صراع الكاتب بين رغبته في التعبير والقلق من التصنيفات التقليدية. الصور مثل "الظل الحامل للقلم" و"الغسق" تجسد هذا الصراع بين الحضور والغياب مما يمنح النص طابعاً ذاتياً فريداً يعبر عن قلق الإنسان الحديث وعلاقته بالعالم.

الرمزية والصور الحسية

تعكس الرمزية في النص حالة من التوتر الوجودي بين الذات واللغة. صور مثل "الغسق" تمثل الانتقال بين النور والظلام ما يعكس حالة الذات المتأرجحة بين الوعي واللاوعي، بينما تعبر صور "عطر الكرز" و"الطيور" عن احتمالات مفتوحة رغم قيود التناقضات الداخلية.

وفق رؤية هايدغر، "اللغة هي منزل الكينونة"، وهنا تشكل اللغة في النص فضاءً حياً يعيد تشكيل العلاقة بين الذات والعالم. الرموز ليست مجرد أدوات زخرفية بل تعبير عن تجربة شعورية عميقة تعكس رحلة الكاتب نحو تحقيق التوازن بين المتناقضات.

تجاوز التصنيفات الأدبية والانفتاح النصي

يمثل النص نموذجاً للأدب الحداثي الذي يكسر القوالب التقليدية حيث يدمج بين التأملات الفلسفية والتجربة الحسية في نسيج إبداعي واحد. الانفتاح النصي يجعل النص أشبه بشبكة من العلاقات المتداخلة كما يرى رولان بارت بأن النص الأدبي هو "نسيج مفتوح على قراءات لا نهائية".

هذا التداخل بين السرد والشعر وبين الذاتي والعام يفتح النص على احتمالات تأويلية متعددة تجعله عملاً أدبياً يعبر عن اغتراب الذات في العالم الحديث.

صراع الذات وقلق الكتابة

النص لا يكتفي بإعادة تشكيل الشاعرية بل يعبر عن صراع داخلي بين رغبة الكاتب في التجاوز وإدراكه لحدود الكتابة. يظهر هذا الصراع من خلال ثنائية "المتفرج والمتورط"، حيث تعلن الذات رفضها للشاعرية لكنها تمارسها بأسلوب واعٍ.

وفق رؤية جاك لاكان، الذات كيان غير مكتمل يسعى لاكتشاف نفسه عبر الآخر. النص يعكس هذا الصراع الداخلي في صور رمزية مثل "الظل الحامل للقلم"، الذي يجسد توتر الذات بين الحضور والغياب وبين الرغبة في الإبداع والخوف من التصنيف.

 وهكذا نجد أن النص كتجربة إبداعية مفتوحة

في المجمل، يقدم نص "أنا لست شاعراً" تجربة أدبية تتجاوز حدود التصنيفات التقليدية حيث يمزج بين الشاعرية والنفي لإعادة تشكيل الذات واللغة. النص يعكس قلقاً وجودياً عميقاً ويبرز صراع الذات مع القيود الداخلية والخارجية مما يجعله عملاً حداثياً يعيد صياغة مفهوم الإبداع.

بهذا، يحقق النص انسجاماً داخلياً وسط تناقضاته محولاً اللايقين إلى فضاء للخلق المستمر وفق رؤية تودوروف للأدب كإعادة صياغة مستمرة للوجود. النص إذن هو دعوة للتأمل في الذات والعالم، وفضاء مفتوح على تعددية التأويلات ورحلة دائمة نحو المعنى.

***

قراءة نقدية إنجاز فاطمة عبد الله

...................

"أنا لست شاعرًا"

في زوايا هذا العالم البعيد، حيث تلتقي الأشباح بالذكريات، أجد نفسي محاطًا بكتابات لا تعبر عني، ومع ذلك تشبهني. أنا لست شاعرًا، لكنني أتجول في أروقة الشعر، أستنطق الكلمات التي تخبئ في طياتها سرًّا لم يُكتشف بعد.

تتلاشى الصورة في الأفق، وتمتد الأعداد بلا حدود، كما تمتد المسافات بيننا وبين ما نريد أن نكون. أرى الناس، كل منهم يحمل حكاية، ورقة مهترئة من كتاب مفتوح. أتساءل: ماذا لو كانت تلك الحكايات تختبئ وراء ضباب العواطف كالنجوم التي تخفت في سماء ملبدة بالغيوم؟

في الزاوية، هناك ظلٌّ يحمل قلمًا، وقد كُتب عليه "أنا لست شاعرًا". لكنه يكتب، يشمخ بجمل ملتوية، كأغصان شجرة عتيقة تتمايل في مهب الريح. أرى في عينيه تجاعيد الزمن، ملامح مشاعر هاربة، كرامة الوجود التي تكاد تُنسى بين ضجيج الحياة.

أوّلستُ جزءًا من هذا النسيج؟ أأنا فقط المتفرّج على العواصف، بينما الكلمات تتراقص في دمي؟ الضحك الذي ينبعث من داخلي، يخلط بين الفرحة والحزن، يشبه رقصات قناديل مصنوعة من الفضة تضيء ليالي الشتاء الحالمة. في قلب كل كلمة وقلم، تنبض الحياة، رغم أنني أقول: أنا لست شاعرًا.

الألوان تتداخل كأنها مشاعر متشابكة، فالأسود يتزاوج مع الأبيض ليخلق ظلالًا جديدة، تعكس عواصف أفكاري. أحيانًا، أتمنى لو أستطيع احتواء تلك الألوان، لكنني أكتفي بانتشال الرمز من فراغ لا نهائي. صور الذكرى تتراقص في عقلي، بعضٌ منها مرعب، وآخر جذاب كعطر الكرز في أوائل الربيع.

الليل، له شفافية تعكس ما لم يُقل، والأماني المنسية تتسلل كالجرحى إلى أعماق القلب. مشاعر رهينة، تواجه الأفق المجهول، وخلف كل جملة نطق بها لسان، تمشي الأحلام بصمت. هل أستطيع حتى أن أفكر فيها؟ هل أستطيع أن أكون صوتًا من بين الأصوات الضائعة؟

أنا لست شاعرًا، لكنني روحٌ تتنقل في ملكوت الكلمات، تتخبط بين المعاني، تبحث عن معنى، وتضيع في دروبها، كعصفور في سماء مفتوحة بلا حدود. أتحسس القلم بين أصابعي، أدرك أن الشاعر فيني محبوسٌ، ينتظر زيارتي مرةً أخرى. وككل زائر متخوف، يسأل: هل تقبلني يا صاحبي؟

مع كل همسة في الهواء، يتردد صدى تلك العبارة: "أنا لست شاعرًا." ولكن، ماذا لو أصبحت في أحد الأيام؟ ماذا لو كانت كل تعبيراتي خيوطًا تنسج حكاية، تتسلل إلى قلوب الآخرين، تلامس أوداجهم؟ حينها، قد أقول: أنا لست شاعرًا، لكنني أستطيع أن أكون.

وهنا، تنتهي كلماتي في أفق من السراب، حيث تتراقص الأحلام وسط الكلمات، في انتظار أن يلامسها قلمي مرة أخرى.

***

محمد خالد النبالي

للدكتور رحيم جودي الغياض

حين نتصفح النصوص الروائية يلامسنا شعور بأنَّ تلك الأحداث المبثوثة فيها بعضها حادث في أرض الواقع، ومنها ما يلامسه، والروائي الحاذق يقدم تلك الأحداث بزاوية نظر ملفتة؛ كونه يلتمس التجربة الشعورية والتخطيط المسبق لمعالجة أحداث روايته، ثم يختار الشخوص والأمكنة والأزمنة، فضلاً عن توظيف التقنيات التي يتمكن من خلالها سرد روايته، ويختار لها رواة راوياً يحلل الأحداث من الداخل، وآخر يروي القصة مستعملاً ضمير المتكلم، فله حضوره في الحكاية لكنه يقترب من الحوادث والشخوص، وراوياً يراقب الحوادث من الخارج، فهو حاضر وغائب في الوقت نفسه، بينما علاقة الراوي بما يرويه، فهي التي تحدد زاوية النظر, فضلاً عن الحوار والرموز التي بها يستطيع الإيحاء، بل والتوغل في سكب رؤاه في طبقات النص، لتمنح المتلقي بعداً رؤيوياً لفك الشفرات التي تمكنه من قراءة ما تحمله الرواية من مكنونات داخلية، ولعلنا حين نقرأ أول صفحة من رواية (أوجاع على ضفاف الغراف) للدكتور رحيم جودي، وهي أول رواية يكتبها وكأنه كتب عدداً من الروايات؛ ذلك لامتلاكه أسلوب الروائي، إذ نراه يتفنن في إدارة تقنيات مسروده، فضلاً عن ثقافته التي أهَّلته في نسج حبكة النص، وهذه المؤهلات التي  أنتجت تلك الرواية فتحت آفاقاً على التاريخ السومري القديم وإيمان الشعوب آنذاك بالأساطير ولاسيما اسطورة (إنكي) إله الماء من أجل أن يمنح الكاتب نهر الغراف قدسيته وأزليته في آنٍ واحد"إن الولد إذا وصل الى مرحلة البلوغ عليه أن يغتسل في نهر الغراف المقدس؛ ليتطهر من روائح الأنوثة التي علقت به من مصاحبته لأمه، فالتطهر يمنحه شعوراً بالأمن والأمان؛ لما يحتويه من قدسية روحية، ويمنحه وعياً وإحساساً بالرجولة" (ص)5 ، وحين ننظر إلى الماء المُطهِّر نجده استقى تلك الرؤيا ليس فقط من الأساطير إنَّما من الديانات التي أكدت على أنَّ الماء هو مادة التطهير من جميع المدنسات ولاسيما في طقوس التعميد بل أنَّ الماء هو أصل الحياة.

ولما كانت الرواية تتحدث عن الفتاة أحلام يتيمة الأم ونتيجة ضغوط زوجة الأب لها وهي في عمر اليتم، فأرادت أن تتخلص من المعاناة التي تعيشها والذل الذي لحق بها والتعنيف الذي أجبرها على ترك البيت بعدما غرر بها أحد الشباب ليقنعها بالزواج لكنه بعدما حقق مبتغاه منها، تركها تسوح في القفار، وهي تعيش أسوأ الظروف ويبدو أنَّ الربط بين تطهير الغراف المحاذي للمدينة التي كانت تقطنها أحلام التي اقتص والدها منها بقتلها لغسل عاره في آخر صفحات الرواية يمثل الوحدة العضوية للرواية، إذ جعلها المؤلف حلقة دائرية تبدأ بالتطهر وتنتهي به لكن يظهر لنا أنَّ رؤية المجتمع  للمرأة إزاء الرجل من أنَّها قاصرة، وأنَّ مجتمعنا ما يزال بتلك النظرة الدونية للمرأة، التي تمقتها الحضارة الإنسانية اليوم وهذا المبدأ هو ما بنيت عليه الرواية.

والصورة الثانية التي عالجتها الرواية هي صورة الخرافات التي تعج بها مدينة الكريمية وهي إحدى المدن الشعبية في مدينة الكوت" الكريمية صنيعة نهر الغراف ولدت من رحم الخرافات المعبقة بجاذبية الأمكنة والأزمنة أزقتها الضيقة المسكونة بالفقر، تشتمّ بين جنباتها ذكريات الأسى في متاهة النسيان أصوات أهلها الذين رحلوا، أو هاجروا تتسلل عبر شقوق بيوتها المتصدعة الطلاء المتآكل على الواجهات أصابها الهرم، شربت من نخب الأساطير المعتقة حد الثمالة، تتغذى على الحكايات تلهبها سياط الجن، ومناجاة الأولياء الصالحين، تعج بالأضرحة التي تدور في صمت بين أزقتها الصامتة وحولتها إلى متاهة أسطورية علاقتها بالأساطير والخرافات وثيقة" (27- 28)، ويبدو أنَّ الخرافة والأسطورة تنبع من الجهل والخوف ما يجعل الجهلة يعتقدون بها، فكلّ من الأسطورة والخرافة قصة خيالية قوامها الخوارق والأعاجيب التي لم تقعا في التاريخ ولا يقبلهما العقل حتى عندما نريد أن ننفي وجود شيء، نقول أنَّه أسطوري. ولعل الكاتب يتطرق إلى كثير من الحكايا التي تدل على تبرير الناس لكثير من جهلهم بإرجاعها إلى عوالق غيبية.

أما الوضع ما بعد التغيير ولاسيما الاقتتال الطائفي أو الانتقام من رجال النظام السابق، فيصفه من أنَّ ما حدث هو أبشع من قطع الأّذن ولاسيما قطع الرؤوس الذي أصبح يمثل جريرة شائعة في البلاد "بعد سقوط النظام ظلت الأوضاع على ما كانت عليه وربما أسوأ من السابق كانوا يقطعون الأذان ! والآن يقطعون الرؤوس لم يتغير شيء، فالإرهاب لم يترك مكاناً في البلاد إلا وداسه بنعاله الملوثة بدماء الأبرياء معسكرات الجيش نهبت، وسلبت عن بكرة أبيها، وأُفرغت مشاجب الأسلحة من محتوياتها حتى الشرطي لم يعد في أمان في هذه المدينة على الرغم من السلاح الذي يحمله، فالأمل الذي انتظرناه طوال سنين لم يتحقق، مجرد زيف ووهم" (ص47- 48). ويبدو أن العنف بلغ أعتى درجاته ليس فقط في أخذ الثأر أو ما نجم عن الشحن الطائفي بل صار يطبق شريعة الله من هم بعيدون عنها  إذ نرى الكاتب يرفض العنف الذي يجد فيه إزدواجية الشخصية وهي تعاقب الآخرين فـــ"الجماعات المسلحة تحيط بالشقة دخلوا الحجرة وقبضوا عليهما معاً، تجمهر عدد قليل من الناس لمشاهدة تنفيذ حد الرجم في (حنان) قالوا أنَّها زانية ... رفض بعض الأهالي قتلها من خلال الرجم بالحجارة ... وفي تلك اللحظة أمسك أحدهم بـ(عيسى) من رأسه، وجذبه بقوة، وذبحه من الوريد إلى الوريد، وفصل رأسه عن جسده، فرمى الرأس في جهة والجسد في جهة أخرى" (85 وما بعدها). ويعد الكاتب هذا الفعل مخالفاً للقوانين المدنية التي تتنافى ومبدأ الرأفة في العقاب ولاسيما قطع الرأس كونه من التمثيل بالإنسان التي تشجبها حتى التعالم الإسلامية فقد جعل الكاتب صورة ابن حنان الصغير في موقف يدمي القلب تبريراً منه لتلك الرأفة، وهو ينادي:

"- أريد أمي ... أريدُ أمي). ليجعل أنَّ في رجمها ذنباً كبيراً قام به دعاة الإسلام الجدد.

أمَّا النفاق فقد مقته الكاتب بكل عناية واهتمام في الوصف ولاسيما ممن كان في حال ثم استبدله بحال آخر تبعاً لسياسة العصر ببراعة ومهارة "يتلوَّن كالحرباء كما أنَّ مجاراته للآخرين لاحدود لها يسلخ جلده، ويلبس جلداً آخر كالأفعى وفق تغيُّر الأحوال، يتكيف مع كل الأوضاع، يرتدي لكلِّ مرحلة لباساً، يمتلك نوازع انتهازية بالتسلق والحصول على ما يريد، أخذ يعزز موقعه من الأحزاب الدينية بسرعة متناهية دون أن تعصف به المتغيرات المتسارعة، اشترى رخصة الحج برشوة من أحد مكاتب السوق السوداء، وذهب لأداء مناسك الحج حتى يضع صفة الحاج قبل اسمه وكأن هذا يكفي لبراءته من أفكار الإلحادية " (89-90) التي كان يتبناها قبل سقوط النظام, وكل ما يجري كانت أحلام تشاهده.

كما قصَّت لها عجوز في المقبرة القريبة من المدينة "أنَّ الكثير من هؤلاء السحرة والمشعوذين يستعملون ماء غسيل الموتى، أو حرق الأدوات المستعملة في تغسيل الميت الطاسة أو الصابونة أو دفنها بعد ربطها برجلي الميت، أثناء الليل يقتحم غرباء قبور الموتى، وثمة نساء يهرِّبن ماء غسل الموتى للمشعوذين بأثمان خيالية من أجل إيقاف زواج النساء والتفريق بين الأزواج، ومنهم من يقوم برمي السحر في جثة الميت حتى يدفن السحر نهائياً، ولا يشفى، وهناك لصوص المقابر أو ما يطلق عليهم النبَّاشة يقومون بنبش القبور واستخراج جثث الموتى للحصول على أسنان الميت من الذهب أو سرقة الأكفان." (92)

وصورة أخرى "ثمة شابّة طويلة تبدو من بعيد قطعة سواد مدلهمة تأتي المقبرة كل ليلة خميس خلسة؛ لتزور حبيبها وهو شاب في أول ربيع حياته قتل برصاصة عمياء من قبل متطرف تحمل بيدها غصن ياسمين ... بعد ذلك قادتها قدماها في لحظة يأس، ووقفت فوق فوهة قبر صديقة طفولتها خلود الشيخ ناجي التي عشقت شاباً وسيماً، تقدم لخطبتها، ولكن أهلها رفضوا زواج ابنتهم من فقير؛ لكونهم من الأشراف وأرفع قدراً وأسماهم مكانة، ومن علية القوم، وبعد أيام وجدت جثة الفتاة غارقة في نهر الغراف عند المطحنة القديمة بعد أنْ ألقت بنفسها من الجسر القديم وأخذت تناجيها: ليتك أخذتيني معك، وكم تمنيت أن أموت وأُدفَن بجوارك"(ص 97) ولعل الدكتور رحيم جودي يرصد مثل هكذا مواقف؛ ليبين أنَّ الأثينية والتطرف وجهان لعملة واحدة لم يبرأ منهما المجتمع العراقي، فالموت بالمجان وأنَّ ما يطمح له الشباب ولاسيما البنات أمام تلك العراقيل هي أضغاث أحلام بيد أنَّها تخلق مآسي مفجعة.

أما ما يحدث في مراقد الولاة من الشيوخ في المدينة في علاج من تلبَّسه الجن ومن وقعت في هوس الإنجاب ممن تريد وضع حد لحياتها؛ نتيجة اليأس والاكتئاب الذي خيم على حياتها الزوجية عساها بعد يأسها من كبار الأطباء اتجهت إلى ضريح الشيخ هاشم عسى أن تجد ضالتها عند المشايخ الذين يتواجدون في مثل تلك الأضرحة من الذين دفعت لهم المال وعلقت حجاب في رقبة زوجها وآخر وضعته تحت وسادته, كل ذلك يشير إلى أن هؤلاء الشيوخ يستغلون سذاجة بعض من النساء في الزواج والإنجاب من خلال عمل الأوراق والأحراز وفك السحر، ولفرط طيبتهن وثقتهن به أخذ يحتال عليهن يسلب أموالهن يقوم بعصب عيونهن، وغلق الأبواب عليهن في حجر مظلمة بحجة فك السحر وتخصيب العواقر منهن كأنه يمارس معهن العهر المقدس في المعابد " ثار عليه الأهالي وحاصروه وتعقبوه كذئب هارب هرب من القرية ليلاً إلى قرية أخرى أصابها الجفاف والقحط والمجاعة" كل هذا استفحل لغياب سطوة القانون الذي كان قبل سقوط النظام يضرب بيد من حديد لكل من يمارس هذه الأعمال التي تستغل جهالة الناس وميلهم للجادة التي تستغل الفقراء من الجهلة لمثل هكذا طرق سيئة.وحين تكون الأوطان تحت ظل الاحتلال ينطبق قول ابن خلدون على الواقع اليوم الذي ترصَّده الكاتب في روايته "عندما تنهار الأوطان يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدعون والقوالون والمتصعلكون وقارئوا الكف... والمتسيسون والانتهازيون، فيختلط  مالا يُختَلط، ويختلط الصدق بالكذب، والجهاد بالقتل... وتشح الأحلام، ويموت الأمل وتزداد غربة العاقل، ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد إلصاقا وإلى الأوطان ضرباً من ضروب الهذيان"

وفي أماكن العبادة يلفتنا الكاتب إلى صورة من صور البؤس من المقهورين سلام الأعور الغارق في غيبوبة المخدرات، فقدَ إحدى عينيه في نزال بطولي مع تجار المخدرات يعتاش على سرقة الأحذية الثمينة من أبواب المساجد، ويبيعها بأسعار زهيدة للفقراء، ولاسيما أحذية المسؤولين في الحكومة عند صلاة الجمعة أطلقوا عليه (اللص المؤمن) (ينظر ص106- 107).

أما الحي العائم بالفقر والجهل والذي "يغذيه التهميش والحرمان، ويغطيه البؤس والقهر مكاناً أشبه بالمنفى وملاذًا للغرباء، تبدو على شوارعه وأزقته آثار الإهمال وتراكم الأوساخ، فكل شيء ينذر بالحزن والكآبة والألم والمعاناة. الفرق بين الأحياء والأموات النوم فقط, وتحت الأرض يعانون من شظف العيش, أكثرية مهمشة تشعر بنوع من الدونية يطحنها الفقر، سلكت دروب المهالك، فالعنف هو النظام العلائقي البارز الذي ينظم العلاقات بينهم انخرطوا في أعمال الإجرام والارتزاق أجيال ولدت من رحم الحروب والصراعات لأجل كسب المال"(ص127-128) ولعل مثل هكذا مجتمعات تعتاش فيها الكثير من دواعي الغيبيات العجائبية والغرائبية من معتقدات لا يتقبلها العقل فضلاً عن الحاجة التي تولد من عدم تحقيق ما يرومه الفقراء يجعل بعضهم يعتاش بالصعلكة مثلما هو سلام الأعور وبعض الذين يدعون أنهم أولياء الله ومن قارئي الكف والفال والمشعوذين من أجل الحصول على لقمة العيش.

وفي محطة أخرى في الرواية "تعيش الأكثرية إرهاصات التدين الشعبي المفتعل خلف أيدلوجيات مغلَّفة بالخرافات والأفكار الغيبية، وتقديس الزعماء كأنهم يعيشون في مستعمرة البؤساء والمهمشين فلا سلطة لأحد على العشيرة غير سلطة الشيخ" (133)

ينهي الروائي روايته على لسان إمام الجامع بعد مقتل أحلام وذلك بذبحها بسكين الأبوة التي أشبهت سكاكين الإرهابيين بقوله:" على مذبح الأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية البائدة التي تبارك تلك الأفعال الساذجة رحلت عن هذا العالم القاسي الذي لم تجد فيه الراحة والأمان، وذهبت إلى ربٍّ كريم لا يظلم عنده أحد" (165) .

يبدو أنَّ المعاناة التي تقاسي شرورها المجتمعات البائسة؛ نتيجة الجهل والتقيّد بنير العادات والتقاليد وما يلازمها من خرافات وخوف نتيجة السطوة التي يكرسها في النفوس أدعياء الخير من المشعوذين والمتسلطين والإرهابيين والمدعين أنَّهم أولياء الله في أرضه مستغلين سذاجة البسطاء وضعفهم  فيضيفون تعاسةً على تعاستهم ، وناراً على نيرانهم، فصار هؤلاء البسطاء قساةً حتى على أنفسهم وذويهم بفعل تلك العادات والمعتقدات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي جعلتهم أسارى بها لا يمتلكون حرية الوعي والتثقيف للخلاص من سجون العبودية المقيتة.

نتمنى التوفيق للدكتور رحيم الغياض المزيد من النتاجات الأدبية ذات المضامين الهادفة، والرؤى الإبداعية الناضجة. ومن الله التوفيق.

***

بقلم: أ. د. رحيم الغرباوي

الأسلوب السردي والتعبيري:

القصيدة تتبنى أسلوبًا سرديًا معبرًا، يتنقل بين الألم الشخصي والتأملات الفلسفية حول الذات والمعاناة. الشاعرة تُظهر حالة من القلق الداخلي، ممزوجة بالإحساس بالضعف والمواجهة مع الماضي. يبرز الأسلوب التأملي في تساؤلاتها المستمرة عن كيفية التغلب على المعاناة.

الرمزية:

الرمزية تهيمن على القصيدة من خلال استخدام الصور الدالة على الصراع الداخلي. تعبيرات مثل /شِراك ضعفي/، و/بحرٌ جف الحرف/، و/رأس أفعى/ تُظهر تداخل المشاعر السلبية، حيث يرمز البحر الجاف إلى عجز اللغة عن التعبير عن الذات، بينما الأفعى تُمثل التهديد المستمر. كما أن /الكنانة فرغت/ ترمز إلى الفراغ الداخلي، مع صورة الأرملة الثكلى التي تعكس فقدان الأمل والاتصال.

التقنيات البلاغية:

الشاعرة تستخدم الصور الشعرية مثل /يذهب في غيبوبة التعبير/ و/حكايا لا يتسنى لها فرصة الإنقاذ/ لتصوير شعور الخيبة والتعثر في التعبير. بالإضافة إلى استخدام الاستفهام، الذي يضيف طابعًا من التساؤل والبحث عن المعنى، مما يزيد من حدة الشعور بالعجز والضياع.

الصراع الداخلي:

تتناول القصيدة الصراع الداخلي بين الألم والرغبة في الهروب من الضعف. /أحتاج الأمان حتى الوهم/ تعكس حاجة الشاعرة للأمان حتى لو كان هذا الأمان غير حقيقي، مما يبرز التشويش النفسي الذي تعيشه. المعركة مع الذات واضحة في التساؤلات المستمرة حول كيفية النجاة من الثأر، والغرق، والصمت.

التناقض بين الظاهر والباطن:

هناك تناقض بين الصورة الظاهرة للألم وبين البحث عن الأمل أو الخلاص. يتجلى ذلك في /لا الطير غادر عشه ولا الصياد عاد بحلم حنيذ/، مما يشير إلى الفقدان المستمر، والبحث عن شيء ضائع أو مفقود. وهذا التناقض بين الفقد والبحث عن الأمل يعكس حالة من التوتر الوجودي.

الخلاصة:

/حلمٌ في الليالي الحرُم/ هي قصيدة مليئة بالتأملات النفسية والتساؤلات الوجودية. تُظهر الشاعرة صراعًا داخليًا مفعمًا بالصور الرمزية التي تشير إلى الفراغ الداخلي، والخوف، والصراع مع الزمن. اللغة المجازية المعقدة، والإيقاع الساكن للمشاعر، يعكسان حالة من التشويش والبحث الدائم عن الخلاص، مما يجعل القصيدة تحمل وزنًا نفسيًا عميقًا وتُبرز عمق المعاناة.

***

بقلم: كريم عبد الله - العراق.

.......................

حلمٌ في الليالي الحرُم

كيف أجعلُ من هذه الأوراق كتفاً أبكي عليه ومن الكلمات والإشارات قامة تُهدِّئ رياح دمي من يزيح عني ثأراً أقدم منّي كيف أعْبُر شِراك ضعفي وما بيننا بحرٌ جف الحرف زورقٌ أحمقُ الخطى يسير إلى الغرق بطيش أبثه الصرخة فيتفجر الحبر يذهب في غيبوبة التعبير حكايا لا يتسنى لها فرصة الإنقاذ ربما يقرأ خوفي المُطل رأس أفعى تلدغ في العمق أحتاج الأمان حتى الوهم و الانتظار معولٌ يدق في أديم الصبر ليس كل ذلك ثرثرة أوراق بل تُهَمٌ وقصد أدعيه قد لا تدفع عني لوم الصيد في الأشهر الحرم الكنانة فرغتْ كأرملةٍ ثكلى لا الطير غادر عشه ولا الصياد عاد بحلم حنيذ

***

يسرا طعمة - سوريا

 

في المثقف اليوم