قراءات نقدية
فالح الحمراني: جماليات الأسطورة وبعدها الفلسفي لدى جنكيز إيتماتوف

جنكيز إيتماتوف مثل أي كاتب عظيم، خلق كونا كاملا من الصور الفنية والمواضيع والأفكار، تميزت بوجهة نظر ذات بعد أيديولوجي وحتى تنبؤي حاد. أعماله الفنية، ذات قوة تعبيرية جبارة، بثت فيها رؤية الكاتب ـ المفكر للعالم الحياة، وفكره المتسائل والباحث، المحذر للنوع البشري من الخيارات السلبية والقاتلة، وطرح خيارات للتطور تقدم طرق خلاص جديدة
إن علامات إبداعه الأصيلة والعميقة التي تؤثر بصورة فعلية على وعي قرائه، تمثل الصورة الرمزية والاكتشافات الواسعة لإيتماتوف، التي دخلت في زمننا في التداول في حياتنا اليومية. دعونا نتذكر من روايات الكاتب صور «المانكورتي» و«الجينات الوراثية الفوضوية»، فالكاتب أدخل الأحداث الأولى والفصول الأولى والصور الأولى التي لم تعرفها أبدا الثقافية العالمية. فما أروع «فيلوفي الراهب ـ اللاعائد» الفضائي وانتحاره الكوني. إن مغني الجبال والسهوب إيتماتوف، أضفى على العلاقة بالطبيعة، من صميم قلبه، رؤية داخلية وعضوية خاصة
إن مجال الوعي او تكويرة نو، التي تخترق بوضوح خاص، روايات إيتماتوف الأخيرة، غير ممكنة التصور من دون وعي الإنسان بجذور تطوره، ومن دون الشعور بتتابعية الصلة والقرابة مختومة في أقدم الطوطميات والمعتقدات الأسطورية والطقوس القديمة. وليس محض الصدفة أن تكون حيوانات إيتماتوف الوحشية الشهيرة ـ أحد ثوابت إبداعه وإحدى النقاط المرجعية القيمة له. إن أهم التغيرات في الوجود هي واحدة من الشِداد، التي تحمل تصميم عالمه الفني، فروايات وقصص إيتماتوف تفوح بروح العلاقات القديمة بالحيوانات
لنتذكر المرأة ـ السمكة، سلف والدة قبلية نيخفيف التي تمتهن الصيد في رواية «الكلب الأبلق الراكض على حافة البحر»، أو الظبية ـ الأم ذات القرون من رواية «السفينة البيضاء. حينما يتم التخلي عن الأساطير القديمة، تطرح جانبا مشاعر الامتنان لأولئك الأسلاف البعيدين الذين جلبوا بتضحياتهم للوجود إكليلا عقلانيا، حينها يظهر الإنسان ذو البعد الواحد، الوغد المتغطرس والمتبجح الذي لا يتذكر روابط القرابة. إذ أن علاقة الصلة مزدوجة، فهي ترتبط طبيعيا بالآباء والأجداد، والأبعد رأسيا بأدنى مخلوق.
ينشأ في عالم إيتماتوف الفني موضوع الابن الضال بصورة راسخة، الذي يعممه الكاتب إلى حدود رمز الإنسان والبشرية بأسرها، التي تهدد أنشطتها الكوكب بأكمله.
إن دراسة نثر ايتماتوف الناضج تتيح لنا الحديث عن أنه ينطوي على مادة أسطورية وفلكلورية غنية، عالجها الكاتب وراجعها وفق رؤيته. هنا يمكن للمرء أن يميز وحدات فلكلورية/ أسطورية نافذة، من الحافز والباعث المنفرد إلى مجموعة الحوافز والبواعث الراسخة، وبُنى مضامين كاملة تحولت في إطار توجهات الكاتب وإبداعه. في الوقت نفسه تشكل الحوافز والبواعث، سواء المنفردة أو بُنيوية الخط العام للفكرة الرئيسية. إن الأسطورة في أعمال أيتماتوف هي وسيلة للتعبير عن موقفه الأخلاقي ـ الفلسفي من العصر، وهي محاولة للنظر إلى مشاكل البشرية، من خلال منظور الحكمة التي مرّت على ظهورها قرون. إن مضمون الأسطورة، وتنوعها تتيح لنا استعمالها كمفتاح فك شيفرة يخلق مضمونا متعدد الأوجه والطبقات
إن إبداع إيتماتوف يصب في اتجاه أدبي كامل ظهر في ستينيات القرن العشرين، وسُمي اصطلاحا الاتجاه الميثولوجي (الأسطوري). فخصوصية أعمال كتاب هذا الاتجاه، كتاب النثر الريفي، أصبح السعي نحو استكشاف السبب الأول والجذري للكارثة، التي تهدد حياة الناس ومبادئها الأساسية. وبمساعدة الأسطورة والخرافات والمأثورات الشعبية يدخلون في جدل مع العقلانية والبراغماتية (النفعية) للحضارة المعاصرة. وظهرت في الفلكور والأساطير، معايير أخلاقية سجلت ووضعت بصورة مجازية، على مدى قرون. وفي هذا تم اكتشاف نماذج النزاعات في المستقبل التي تندلع نتيجة لانتهاك هذه المعايير التي كان من الممكن أن تكون بمثابة تحذير للمعاصرين والأحفاد. وقال جنكيز إيتماتوف بهذه المناسبة: «لقد اتضح منذ زمن قديم أن الإنسان يحاول حماية الطبيعة من نفسه، وكيف أنه يعكف على هذه المشكلة الأبدية، للحفاظ على ثروة وجمال العالم المحيط». لقد ظهر أن القضية حيوية حتى أن الناس في العالم القديم جسدوها في شكل مآس وتراجيديات، واعتبروا أن من الضروري أن يمارسوا النقد الذاتي لموقفهم من الطبيعة، وعبّروا عن تأنيب الضمير
إن التناص الأسطوري والأسطوري/ السياسي يهيمن على قصص مثل «السفينة البيضاء» و«الغرانيق المبكرة» والكلب الأبلق». إن الصورة الفنية في هذه الأعمال هي صورة الطفل والعجوز، أحدهما لم ينفصل تماما بعد عن الطبيعة البكر، والثاني يقترب إلى الخطوط التي تفصل الوجود الاجتماعي عن الفكر الطبيعي الأنطولوجي. إن تحول الرمز الأسطوري تدريجيا يتسم بالانتقال من الطبيعي إلى مستوى الإدراك العاكس للعالم
ينشأ في عالم إيتماتوف الفني موضوع الابن الضال بصورة راسخة، الذي يعممه الكاتب إلى حدود رمز الإنسان والبشرية بأسرها، التي تهدد أنشطتها الكوكب بأكمله. ليس لدى إيتماتوف إحالات مباشرة إلى القصص التوراتية، ولكن عقدة الابن الضال مع مكوناتها الرئيسية حاضرة في مسار الكاتب الإبداعي. إن فلسفة الأخلاق لنثر إيتماتوف الناضج من المضمون الإيكولوجي يقترب أكثر من موضوع علم الأخرويات. حينما يهدد الدمار ليس فقط الطبيعة الحية، وإنما أيضا الوجود البشري. ويسود في الروايات موضوع مثل نهاية العالم أو موضوع التدمير الذاتي للنوع. على سبيل المثال رفض أجنة ـ كاساندرا الظهور إلى الدنيا، والانتحار الجماعي للحيتان في رواية «ماركة كاساندرا». ولدت هذه الموضوعات في عالم إيتماتوف الفني، بالدرجة الأولى من أساس الفكر الوجودي، وحالة العالم المعاصر، وكوارث العصر.
أسطورة إيتماتوف هي أولا وقبل كل شيء، حكمة الأجداد وتجربة الأجيال التي اختبرتها القرون، التجربة التي تتحول في وعي كل إنسان تبعا لقدراته الروحية وهدفه من التعاطي مع الأسطورة.
إن رواية «ماركة كاساندرا» «هرطقة القرن العشرين»، قريبة من أعمال ما بعد الحداثة في أواخر القرن العشرين، وموضوع بحث إيتماتوف في هذه الرواية يغدو العالم المضطرب الذي يعاني من الخلل وفقدان النظام. وليس من قبيل الصدفة إن الرواية تنتقل إلى الغرب، إلى أمريكا ـ رمز التطور المتسارع للحضارة، حيث لا وجود للجذور القومية الروحية، فحالة الفوضى تسيطر على العالم بأسره، ويسود هنا الوعي بعبث الحياة، الذي ينحصر في الاعتقاد بأن الإنسان فقد السيطرة على الوجود. ولكن لا يجوز إدراجه من دون شرط في أدب ما بعد الحداثة، نظرا لأنه لم يجر تدمير الأسطورة، ولا تغدو وسيلة في لعبة الكريات الزجاجية، بل على العكس من ذلك، إن الأسطورة تنظم السرد.
تكمن في أساس فكرة الكاتب الفنية مأساة الخيار الشخصي، مأساة قدر الإنسان. ويتغلب إيتماتوف خلال عمله على العدمية. إن رواية «ماركة كاسندارا» ـ هي مصير إشاعة الإنساني في المجتمع المعاصر الممزق في فضاء افتراضي. وعلى الرغم من وفاة صاحب نظرية جينات ـ كاساندرا، يؤكد الكاتب على أنه لا يجوز التوقف عن التفكير. إن اكتشاف فليوفي يشهد على بداية حقبة جديدة في تطور البشرية. وكان هدف فن إيتماتوف دائما إيقاظ شعور الإنسان بالجمال والخير والحب لكل ما يحيط به. والأسطورة بالنسبة له هي وسيلة لفهم العالم غير المستقر، بل إنه المطلق الذي يمكن أن يكون معيارا لتقييم الحقيقة والكذب في تيار الواقع التاريخي. إن أسطورة إيتماتوف هي أولا وقبل كل شيء، حكمة الأجداد وتجربة الأجيال التي اختبرتها القرون، التجربة التي تتحول في وعي كل إنسان تبعا لقدراته الروحية وهدفه من التعاطي مع الأسطورة.
كتب ميخائيل باختين إن تحضير أعمال الأدب العظيمة يجري على مدى قرون، وفي حقبة إبداعها يجري فقط قطف الثمار اليانعة لعملية نضج طويلة ومعقدة. إن محاولة فهم وتأويل العــــمل الفــــني بالاعتمـــاد وحسب على ظروف عصرها، وفقط بالاعتـــماد على ظروف الزمن القريب، لن تجعلنا نخترق عمق دلالاتها، لذلك دعونا نقول إن الأسطورة في إبداع إيتماتوف هي مرحلة طبيعية وعضوية لفهم الإنسان لمصيره ومكانه في التاريخ، من خلال منظور تجربة القرون التي اُدرجت في الأساطير.
***
د. فالح الحمراني