قراءات نقدية

عدنان عويّد" التحليل الأسلوبي للنص الأدبي

هناك فرق كبير برأيي بين الدراسات النقديّة للأدب من وجهة نظر الدراسات الأسلوبيّة، وبين الدراسات القائمة على مناهج النقد الأدبي السياقيّة منها أوالنسقيّة، كـ (البنيويّة، والتفكيكيّة، والشكلانيّة، والواقعيّة، والواقعيّة الاشتراكيّة ونظريّة الانعكاس..) وغير ذلك. هذا بالرغم من أن الدراسات الأسلوبيّة تتضمن بعض معطيات هذه المناهج بالضرورة، إلا أن الدراسات الأسلوبيّة أكثر علميّة من جهة، وأكثر شموليّة وتعقيداً من جهة أخرى.

ونظراً لأهميّة اللغة كقاسم مشترك بين علم الأسلوبيّة والعلم المنهجي في النقد الأدبي، فثمة علاقة وطيدة تكامليّة بين علم الأسلوب وعلم اللغة أيضاً، فكل منهما يكمل الآخر، فَعَاِلمُ الأسلوب يحتاج في دراساته التحليليّة إلى قدر من علم اللغة يكفيه لفهمه اللغوي للنصوص، كما يحتاج عالِم اللغة إلى قدر من المقولات الأدبيّة تكفيه بالمقابل للإحاطة اللغويّة بالنصوص الأدبيّة. ونظراً لتعدد المستويات التي يشتغل عليها الأسلوب كما سيمر معنا لاحقاً لذلك يفضل في الدراسات الأسلوبيّة تناول مستوى واحداً من مستويات الأسلوبيّة عند دراسة أي نص أدبي، لتلافي الدخول في متاهات تلك المستويات إذا ما اجتمعت في دراسة واحدة كما سيتبين معنا لا حقاً، وعلى هذا يأتي اختيارنا لدراستنا هنا للمستوى البلاغي في التحليل الأسلوبي. دون إهمال لبقية المستويات ولو من باب التعريف بها.

مستويات التحليل الأسلوبي للنص الأدبي:

المستوى البلاغي في علم الأسلوب:

يدين التحليل الأسلوبي في نشأته وتطوره إلى علم اللغة، وقد أستفاد منه النقد الأدبي واعتبره واحداً من مجالات نقد الأدب، باعتباره – أي التحليل الأسلوبي - يشتغل على بنية لغويّة ينتجها الأديب عن وعي وقصد تامين، إضافة إلى اعتناء التحليل الأسلوبي بدراسة (النص الأدبي) ووصف طريقة صياغته والتعبير عنه، وتزويد علم البلاغة بالنتائج التي يصل إليها من قراءة النصوص وتحليلها، وذلك بعد استخلاص التحليلات النصيّة وقراءة ما وراء السطور، كالمضمر والمسكوت عنه، وإبراز أشكال المجاز، وأنساق الصور الفنيّة، وطريقة تكوين البنية التخيليّة في النص بأكمله. وهذه المهمة للتحليل الأسلوبي الأدبي تعتبر من أهم وجوه الدراسة الأسلوبيّة، وذلك لما في هذه الدراسة من تخطٍ للخصائص الجزئيّة للعمل الأدبي، والنظر إليه بشموليته التي توضح خصائصه المميزة له عن غيره من الأعمال الأدبيّة. وليس هناك من مبالغة في القول بأن الأسلوبيّة أحيانًا تكون جزءاً من نموذج التواصل البلاغي، وتنفصل أحيانًا عن هذا النموذج أو تتسع حتى تكاد أن تمثل البلاغة كلها باعتبارها ـ الأسلوبيّة ـ بلاغة مختزلة أو مكثفة، على اعتبار المستوى البلاغي يدرس الصور الفنيّة والاستعارات والمجازات، واستخدام المحسنات البديعيّة، وأساليب الإنشاء الطلبي. كـ (اﻷﻣﺮ واﻟﻨﻬﻲ واﻻﺳﺘﻔﻬﺎم واﻟﺘﻤﻨﻲ واﻟﻨﺪاء. وغير الطلبي، كـ ( المدح، والذم، والقسم، والتعجب والرجاء، وفي المدح والذم (1). والاستفهام، والأمر، والنهي، والقسم، والتعجب، والنداء، والدعاء، وما تؤدّيه كل هذه الأساليب من معان. (2).

على العموم إن دراسة التحليل الأسلوبي على المستوى البلاغي تُساعد في الوصول إلى استنتاجات كثيرة يتضمنها النص المسلط عليه ضوء هذا التحليل، كما تساعد على امتلاك القدرة في الربط بين مفردات النص بكل مكوناتها، وجعل القارئ يتعمق فيما وراء السطور ليكتشف ما يريده كاتب النص.

إن عالم الأسلوب ينظر إلى النص الأدبي من زاوية بلاغيّة النص نظرة خاصة، تهدف إلى كشف جوانب جماليّة اللغة ودورها ومكانتها في جميع ظواهرها أو تجلياتها، بدءا بالأصوات، مروراً بحسن اللفظ وجودة المعنى، وصولاً إلى أبنيّة الجمل الأكثر تركيباً. وهو علم يحدد قدرة الأديب أو المبدع أيضاً على استعمال أصوات وتراكيب اللغة استعمالا فنيّا جماليّا من خلال تفاعل العناصر اللغويّة كلّها في ما بينها داخل النص، ثم مدى تأثير كلّ تلك العناصر اللغويّة على المتلقي وما تحدثه من أثر جميل فيه، وبناء على ذلك يتخذ علم الأسلوب ثلاثة مقوّمات أساسيّة لتحليل النص الأدبي لغوياً هي:

أولها: يتعلق باختيارات الكاتب المتنوّعة من إمكانات اللغة الهائلة.

وثانيها: استخدامه الانزياحات اللغويّة عن النمط المعهود للغة بما تحمله هذه الانزياحات من تشبيه واستعارة وكناية وتقديم وتأخير أو انزياحات نحوية وصرفية وغير ذلك من مفردات البلاغة.

وثالثها: قوالبه التي يختارها للتعبير. حتى يمكن القول إنّ أسلوب الكاتب لمحة عن حياته أو هو الكاتب أو الأديب ذاته.

أما أهم المفردات التي يشتغل عليه الأسلوب في علاقته مع البلاغة:

أولا حسن اللفظ:

إن اللفظ مثلاً يجب يكون سمحاً، سهل مخارج الحروف في مواضعها، عليه رونق الفصاحة، وأن لا تكون اللغة وحشية بحاجة للقواميس اللغوية، وأن لا تكون متنافرة الحروف. فالكلام الفصيح هو الظاهر البين الذي يستلذ له السمع ويميل إليه، ولحاسة السمع الدور كبير في استحسان اللفظ أو النفور منه. لذلك يجب أن تكون الألفاظ مسبوكة مع الخلو من البشاعة. فجزالة اللغة تستخدم عادة في مواقف القوة والفخر وما شابه. أما اللغة الرقيقة العذبة في الفم واللذيذة في السمع، والرقيقة الحاشية والناعمة الملمس، فنجدها في الغزل ووصف ما هو جميل وما جرى مجراهما. هذا ويجب أن تكون معاني الجزالة والرقة تنسجم مع ألفاظهما، وأن حسن اللفظ قائم على رنته الموسيقية اللذيذة في الأذن، وأن تكون اللفظة الواحدة منسجمة مع بقية أجزاء الكلام، ففي إتقان السبك أو براعة الصياغة يكمن سر فن التعبير. وعلى هذا يمتاز الكلام الجديد بسلاسته ونصوعه وسهولته وتخير لفظه وإصابة معناه، وجودة مطالعه ولين مقاطعه واستواء تقاسيمه وتعادل أطرافه.

إن الأديب الشاعر أو القاص أو الروائي، عندما يقوم بوصف معاناة الإنسان في ظروف الفقر والمرض والجوع والحروب على سبيل المثال، نراه مبدياً مشاركته الوجدانيّة مع هذه الحالات، ومختاراً المفردات الصوتيّة الرئيسة المعبرة في مثل هذه الحالات الاجتماعيّة، كالإغراق في الحزن والشكوى لما تثيره من أسف وتحسر على المظاهر البادية له. لذلك نجد في متن النص الأدبي مفردات صوتيّة مثل: (عجفاء- مسلولة – هزال – ميتة – مخالب – عمياء – الجوع – يقتل – عواء – الجثة – الكفن.) وغير ذلك. وكذا الأمر حين ننظر إلى الصور التي يرسمها الشاعر أو القاص أو الروائي من خلال التراكيب نحو : (الخيمة العجفاء – مخالب الريح – أغرق في ذكرياتي – تعفن الجسد – مثخن بالجراح –عواء الريح.). فهذه الصور سوداويّة قاتمة يسكنها الحزن القوي المغموس بالألم. أما في حالات الفرح والانتصار والنجاح وغير ذلك، لا شك أن المفردات الصوتيّة والصور ستكون مشبعة بالفرح والمسرة والهناء والسعادة.

ثانياً علاقة اللفظ والمعنى:

لا يمكن أن تكون هناك جماليّة حقيقة للفظ إذا لم يرتبط اللفظ بالمعنى، فاللفظ جسم وروحه المعنى. وطرفي المعادة هذه تتطلب:

1- جودة المعنى:

إن جودة المعنى تأتي من اتفاق المقال مع واقع الحال. فلكل مقام مقال. فهناك المديح والهجاء والرثاء والوصف والتشبيه، والمبالغة والاشارة والارداف. وهناك (النسيب وهو الشعر الذي يبين فيه التهالك في الصبابة، والإفراط في الوجد واللوعة، ونجد فيه من التصابي والرقة أكثر من الخشن والجلادة، و فيه من الخشوع والذلة أكثر من الإباء والأنفة والعز، وأن يكون جماع الأمر فيه، ما ضاد التحفظ والعزيمة، ووافق الانحلال والرخاوة.).(3). ومن عيوب المعاني يأتي فساد المقابلات، وفساد التفسير، والاستحالة، والتناقض، ومخالفة العرف، وعدم إصابة الوصف والتشبيه. ويأتي أيضاً: (الإخلال: "وهو أن يترك من اللفظ ما يتم به المعنى . والحشو: "وهو أن يحشى البيت بلفظ لا يحتاج إليه لإقامة الوزن" . والتثليم: "وهو أن يأتي الشاعر بأسماء يقصر عنها العروض، فيضطر إلى ثلمها والنقص منها". والتذنيب: "وهو عكس التثليم، وذلك أن يأتي الشاعر بألفاظ تقصر عن العروض، فيضطر إلى الزيادة فيها".    والتغيير: وهو أن يحيل الشاعر الاسم عن حاله وصورته إلى صور أخرى، إذا اضطرته العروض إلى ذلك". والتفصيل: وهو ألا ينتظم للشاعر نسق الكلام على ما ينبغي لمكان العروض، فيقدم ويؤخر). (4). ومن أهم أغراض الشعراء أيضا، تأتي: (المعاني الشعرية الخالصة: وخير المعاني هنا ما مال القلب إلى قبولها أسرع من اللسان إلى وصفها.(5). وهناك (اللحظة الشعريّة: وهي بالضرورة كتابة شاقة، ذلك لأنها من المفترض أن تستجلي كوامن الذات، وتكشف عن تلك الشحنة التي تتلبس الشاعر في لحظة، وهي بالضرورة لحظة زمنيّة، يسموا إليها الشاعر بوثبة من وثبات خياله، ويكفي فيها قول النقاد بأنها تهز النفوس وتخلب الألباب).(6).

رابعاً هناك أيضاٍ التكرار في الشعر:

يُعدّ التكرار ظاهرة فنيّة عرفها الشعر العربي منذ القديم، وأقبل علی توظيفها كبار الشعراء، للتعبير عن أفكارهم وتطلّعاتهم، فالتكرار يحمل في ثناياه دلالات نفسيّة وانفعاليّة مختلفة تفرضها طبيعة السياق، ويُعدّ وسیلة من وسائل تشكيل الموسيقي الداخليّة، ومحفزاً لإثراء دلالات النص، وإغناء الخطاب جمالاً وائتلافاً نسقيّاً. وللتكرار أيضاً أهمية خاصة إذ هو أسلوب تعبيري يصوّر انفعالات النفس وخلجاتها، واللفظ المكرَّر هو المفتاح الذي ينشر الضوء على الصورة، لاتّصاله الوثيق بالوجدان، فالمتكلّم إنّما يكرّر ما يثير اهتماماً عنده، وهو يحبّ في الوقت نفسه أن ينقله إلى نفوس مخاطبيه، أو مَن هم في حكم المخاطبين ممّن يصل القول إليهم على بُعد الزمان والمكان، ولذا اتُّخذ التكرار وسيلة لتحقيق الموسيقى كما بينا قبل قليل، التي هي بلا شك أقوى وسائل الإيحاء، وأقربُ إلى الدلالات اللغويّة النفسيّة في سيولة أنغامها. (7). كما يعد التكرار أحد العوامل التي ترتبط بالقدرة على الفهم، فالفهم يكون أسرع في حالة استخدام التكرار بالألفاظ نفسها داخل القصيدة الحديثة. و التكرار هو أساس الإيقاع بجميع صوره، فنجده في الموسيقى بطبيعة الحال، كما نجده أساسا لنظرية القافية في الشعر، وللتكرار مدلول نفسي (سيكولوجي) يساعد الناقد على تحليل نفسيّة الشاعر، والدوافع الحقيقية التي لا يخفيها عن الآخرين، أو التي لا يشاء أن يفصح عنها فيهدينا إليها التكرار، مما يجعلها على تماسك مباشر واندماج سريع من أحداث القصيدة، ثم إنّ تعبير الشاعر عن هذه الجوانب يعيد التوازن إلى حالته الطبيعيّة، فهو مضطر إلى أن يفرغ هذه المشاعر التي يكون التكرار وسيلة من وسائل الترفيه عن النفس. وللتكرار فوائد كثيرة في الحقيقة، فهو أداة أدبية لها دور جمالي في النص مثل كل الأساليب البلاغية الأخرى، بشرط أن يأتي التكرار في مكانه في النص، لكي يقوم بدوره الجمالي، وسيظل التكرار بشكل عام في معظم النصوص الأدبيّة وسيلة لتحرير أعمق الأسرار الأدبيّة.

وسائل تحقّق التكرار في النصّ الأدبي:

يتحقق التكرار في النص الأدبي عبر أشكال عدّة، منها:

1- تكرار الحرف:

وهو يقتضي تكرار حروف بعينها في الكلام، ممّا يعطي الألفاظ التي ترد فيها تلك الحروف أبعاداً تكشف عن حالة الشاعر النفسيّة. فتكرار الحرف (من أبسط أنواع التكرار وأقلّها أهميّة في الدلالة، وقد يلجأ إليه الشاعر بدوافع شعورية، لتعزيز الإيقاع في محاولة منه لمحاكاة الحدث الذي يتناوله، وربما جاء للشاعر عفواً دون قصد.). (8).

2- تكرار اللفظة أو الكلمة:

وهو تكرار الألفاظ الواردة في الكلام لإغناء دلالاتها وإكسابها قوةً تأثيريّة. فتكرار الكلمة يمتلك في النصّ أثراً عظيماً في موسَقَته، إذ تکون القيمة السمعيّة لهذا التكرار أكبر من قيمة تكرار الحرف الواحد في الكلمة. ويكون هذا التكرار ناتجاً عن أهمية هذه المفردة وأثرها في إيصال المعنى، حيث تأتي مرّة للتأكيد أو التحريض ولكشف اللبس، فضلاً عن ما تقوم به من إيقاع صوتي داخل النصّ الشعري.(9).

3- تكرار الترکيب:

يعد تكرار الترکيب أو الجملة هو تكرار يعكس الأهميّة التي يوليها المتكلّم لمضمون تلك الجمل المكرّرة بوصفه مفتاحاً لفهم المضمون العام الذي يتوخّاه المتكلّم، فضلاً عمّا تحقّقه من توازن هندسي وعاطفي بين الكلام ومعناه، وربّما تكون هذه العبارة هي المرتكز الأساس الذي يقوم عليه البناء الدلالي للنصّ، فضلاً عن المهمّة النغميّة التي يؤدّيها التكرار. ويحتاج تكرار التراکيب إلى مهارة ودقّة، بحيث يعرف الشاعر أين يضعه، فيجيء في مكانه اللائق، وأن تلمسه يد الشاعر تلك اللمسة السحرية التي تبعث الحياة في الكلمات. ويعدّ تكرار الكلمة في النصّ، وتكرار الجملة في السياق ذا أثر عظيم في توافر الجانب الموسيقيّ، ولهذا التكرار من القيمة السمعيّة ما هو أكبر ممّا هو لتكرار الحرف الواحد في الكلمة أو في الكلام (10).

والتكرار أخيراً يُظهر الأهميّة لقدرة الشاعر على تكوين سياقات شعريّة ذات دلالات فنيّة تخيليّة مثيرة للمتلقي، تعمل على جذب انتباهه، ليتمثل القارئ النصَّ الشعريَّ الذي يصوّره الشاعر.(11). فضلاً عمّا تحقّقه من توازن هندسي وعاطفي بين الكلام ومعناه كما بينا قبل قليل.

ومن أهم المستويات التي يسلط عليها النقد الأسلوبي الأدبي مبضعه أيضاً يأتي:

- المستوى الصوتي: إن النص الأدبي بنية لغويّة كما في أساسه كما بينا في موقع سابق، ومن هذا المنطلق تبدأ الأسلوبيّة بالإفادة من الإمكانات التعبيريّة الكامنة في المادة الصوتيّة التي هي كل ما يحدث إحساسات سمعيّة عند المتلقي. كالأصوات وما يتألف منها، وتعاقب الرنات المختلفة للحركات، والإيقاع والشدّة وطول الصوت والتكرار والتجانس، وغيرها من الإمكانات التعبيريّة الصوتيّة. كما ويُدرس فيه الوزن، والقافية، والتنغيم، والنبر، والقطع، وصفات الأصوات من همس وجهر وشدّة ورخاوة، وأثر كل ذلك في المعنى.(12).

وهناك عناصر الإلقاء الصوتي كالنطق واللفظ وطبقة الصوت. (ويتضمن الإلقاء الفعّال ثلاثة عناصر رئيسيّة هي: الصوت، والجسد واللغة، ويتضمن الإلقاء الصوتي معدل السرعة والتوقفات، حجم الصوت، طبقة الصوت وتغيراتها، نوعية الصوت، النطق واللفظ. بينما تتضمن عناصر الإلقاء الجسدي المظهر، الوقوف، تعابير الوجه، الاتصال البصري، الحركة، الإيماءات..). (13).

- المستوى الصرفي: ويُدرس فيه الصيغ الصرفية، والعناصر الصوتيّة وما ينتج عنها من معاني صرفيّة أو نحويّة، وتأثير الصرف على المعاني النحويّة. والانتباه للاشتقاقات، والعلاقات القائمة بينها، فإن القاعدة اللغوية التي تقول: (إن كل زيادة في المبنى تؤدي إلى زيادة في المعنى). صحيحة، إلا أنه لابد من الانتباه إلى أن هذه الزيادة في المعنى لا تؤدي إلى قطع الصلة بين الأصل والاشتقاق.

- المستوى النحوي أو التركيبي: وتُدرس فيه الجملة من حيث طولها و قصرها، والفعل والفاعل، والمبتدأ والخبر، والتقديم والتأخير، والإضافة، والتعريف والتنكير، والصفة والموصوف، والعدد والمعدود، والصلة والموصول، والتذكير والتأنيث، والروابط وما تشمله من حروف وأفعال وتراكيب مكانيّة وزمانيّة، والبنية العميقة والبنية السطحيّة، والمبني للمعلوم والمبني للمجهول، والقرائن اللفظية أو المعنوية التي يستخدمها الكاتب، وطبيعة الضمائر، وغيره الكثير، مما له من دور في المعنى.  وهنا ينتقل المحلل الأسلوبي من الأصوات المفردة إلى الكلمة التي تتكون من مجموعة متضامه من الأصوات اللغويّة منتجة دلالات خاصة أو متعددة يستدعيها السياق النصي الذي ينتجه المبدع عن وعي وقصد، ويتجسد في اختيار مجموعة معينة من المفردات اللغوية دون غيرها، فالمفردات اللغوية تشكل رصيدًا ضخمًا من الوسائل الأسلوبيّة التي يتم انتقاء الكلمة المناسبة منها، وما المترادفات والمشتركات وتنوع دلالات الألفاظ والتطور الدائم في ذخيرة المفردات والمرونة في اختيار الكلمة والعبارات الجاهزة والأقوال المأثورة سوى الأساس الذي يعتمد عليه التنويع في البناء الأسلوبي .(14).

- المستوى الدلالي: ويُدرس فيه العتبات كـالعناوين، والكلمات المفاتيح، والسياق اللغوي، والصيغ اللغوية والاستفهاميّة، وطبيعة المعجم اللغوي المستخدم في النص، والرموز، وعلامات التأنيث والتذكير، والجمع والتعريف.

- مستوى الصورة: وهنا يرصد المحلل الأسلوبي في هذا المستوى، المظاهر التعبيريّة التي يستخدمها المبدع في النص من خلال عمليّة التصوير الفني، فالصورة الفنيّة أو الأدبيّة إن هي إلا انحرافات دلاليّة لبعض المفردات اللغويّة، والانحراف أو الانزياح ـ في المصطلح الأسلوبي ـ ينتج عددًا من القيم الأسلوبيّة التي تُسهم في الثراء الدلالي للنص الأدبي، وهذا ما يبرز جليًّا في المستوى الحقيقي والمجازي، حيث الأول هو الأصل والثاني انحراف متعمد عنه، لأنه ينتج قيمًا فنيّة ودلاليّة لا ينتجها المستوى الحقيقي ،(15).

على العموم: إن دراسة مستويات التحليل الأسلوبي، تستلزم محللًا أسلوبيًّا، بدلًا من الناقد الأدبي، وذلك لما بينهما من فرق وظيفيّ، فالمحلل الأسلوبي يُعنى بالبحث عن البنى الأسلوبيّة التي تُحدِث توترًا في النص، وتؤثّر على القارئ، وهو كثيرًا ما يستخدم حتى الإحصاء للبحث عما يعرف بالانزياحات الأسلوبيّة داخل النص، وعن قوانين الصوت وقواعد النحو والدلالة والبلاغة، ومدى تكرار هذه الانزياحات وتواترها. أما الناقد الأدبي، فلا يلتفت لتلك البنى الأسلوبيّة، إلا فيما تحدثه من أثر جمالي كبير في النص، ويقدّم للنص نقدًا انطباعيًّا ذاتيًّا، تكون تلك البنى الأسلوبيّة جزءًا من نقد النص، كما أن عمل الناقد الأدبيّ في النقد الأدبي يتعامل مع الظروف الذاتيّة والموضوعية التي تحيط بالأديب، ويكون أكثر حريّة.

التحليل الأسلوبي من زاوية المتلقي:

يظل للمتلقي دور هام في العمليّة الإبداعيّة، فهو الحكم على جودة النص، أو رداءته ومن ثم قبوله أو رفضه، وذلك يحتم على المبدع أن يطوع لغته حتى تخدم فكرته، بحيث تكون اللغة خاضعة لما هو سائد في عصره من طرائق تعبيريّة درج عليها مجتمعه، وهذه الحتميّة إنما تراعي دور المتلقي الذي سوف يصل إليه النص، فالنص الأدبي يكتب ليقرأ لا ليظل حبيس أدراج المكاتب. لذلك فلا يوجد إحساس بقيمة النص الأدبي إلا بمتلقيه، وتكمن قدرة صاحب النص في نجاحه وقدرته على إيقاظ ذهن القارئ، وذلك عن طريق المجيء بما لا ينتظره القارئ، أي اللجوء إلى غير المتوقع والتوجه إلى غير المألوف0 فالمبدع في نصه إنما عليه أيضاً مراعاة حالة المتلقي وثقافته، فلكل مقام مقال. وخطاب الإنسان لابد أن يكون ملائماً لدرجة فهمه، حتى لا ينصرف عن قراءة النص الذي يُعد وسيطاً لغويّاً يقوم بنقل فكر المؤلف إلى قارئه.

ملاك القول:

لاشك أنَّ النظريّةَ الأسلوبيّةَ هي لغويّةٌ أساسًا كما بينا في موقع سابق، وبالتالي فهي تتعرَّضُ بالدرس للنصوص الأدبيّة وغير الأدبية، إلا أنها تقوم بوصفُ النَّصِّ الأدبي بِنَاءً على مناهجَ مأخوذةٍ من علم اللغة كما يُعَرِّفُهَا الناقد الفرنسي ( مايكل ريفاتير) بأنها منهجٌ لغوي في الأساس، وذلك على أساسِ أنَّ النَّصَّ الأدبي نَصٌّ لغوي لا يمكن إدراكُ كُنْهِهِ أو سبرُ أغواره دونَ تحليلِ العلاقات اللغويّة التي ينطوي عليها .

وقد تختلفُ الأسلوبيّةُ عن بعض نظريات النقد الأدبي من حيثُ اعتمادِهَا على منهجٍ موضوعيٍّ مأخوذٍ من مبادئِ علم اللغة، ولكنها فيما عدا ذلك تتفقُ مع غيرها من النظريات النقديّة المعاصرة من حيثُ التركيز على النَّصِّ الأدبي واعتباره نقطةَ البداية والنهاية في عمليات التحليل. لكنَّ العلاقةَ الوثيقةَ بينَ الأسلوبيّةِ وعلم اللغة جعلت للأسلوبيّة مكانًا في النقد الأدبي فأصبحت تحتلُّ المكانةَ التي كانت تحتلُّهَا الدراساتُ السيكولوجيّة والسوسيولوجيّة وغيرها من الدراسات التي قدَّمَتْ مناهجَ عديدةً للتفسير. وعلى هذا الأساس ساعدت الأسلوبية الناقد على التخلي عن هذه الدراسات التقليديّة التي يمكن أن تشتِّتَ الانتباهَ بعيدًا عن النص الأدبي، واقتربت بالناقد أكثر فأكثر من جوهر وظيفته التي تتمثل في تحليل العلاقات اللغويّة للنص الأدبي الذي ينهضُ عليها في أساسياته. وهذا برأي ما جعل الأسلوبيّة تقع في فخ الشكلانيّة، بل هي إذا ما أعطيناها صفة المنهج ليست إلا منهجاً شكلانيّاً في النقد الأدبي.

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريا.

.......................

الهوامش:

1- (في حقيقة الإنشاء وتقسيمه – موقع هنداوي -).

2- لدراسة هذه المستويات بشكل موسع يراجع - الأسلوبيّة النصيّة، تنظير وتطبيق لتحليل النصوص الأدبية، النص الشعري نموذجًا - د. ياسر عبد الحسيب رضوان).

3- (الغزل والنسيب – موقع هنداوي).

4- (- عيوب المعـــاني والأساليب في تراث العرب - أ.د. محمد رفعت زنجير. موقع اللغة العربيّة.).

5- (استجابات الجمهور لقصائد أبي العتاهية في كتاب الأغاني دراسة ضمن مشروع بلاغة الجمهور - رحمة القرشي – وزارة الثقافة السعوديّة - https://engage.moc.gov.sa/).

6- (اللحظة الشعرية تنثر القلق في جنبات القصيدة –عثمان حسن - موقع الخليج -).

7- (قراءات نقدية ظاهرة التكرار ودلالاتها الفنيّة في شعر الدكتور علي مجيد البديري- د. رسول بلاوي – موقع – صحيفة المثقف – بتصرف).

8- (لغة الشعر العراقي المعاصر، عمران خضير، ط1، الكويت، وكالة المطبوعات، 1982: 144.). بتصرف.

9- (قراءات نقدية ظاهرة التكرار ودلالاتها الفنيّة في شعر الدكتور علي مجيد البديري- د. رسول بلاوي – موقع – صحيفة المثقف – بتصرف).

10- ( التكرار بين المثير والتأثير، عزّ الدين علي السيّد، ط2، بيروت، عالم الكتب، 1978: ص80). بتصرف.

11- (التكرار وعلاقته بالنص الشعري: شعر لسان الدين بن الخطيب أنموذجًا -عبد الفتاح محمد سالم صالح السيد- موقع جامعة قطر.). بتصرف.

12- (النظرية الأدبية الحديثة – تقديم مقارن - ترجمة سمير مسعود – وزارة الثقافة – دمشق 1992م). بتصرف.

13- (عناصر الإلقاء الصوتي النطق واللفظ وطبقة الصوت - د. محمد ابراهيم بدره – موقع - ttps://illaftrainoftrainers.com/ ).

14- (الشعر والتجربة – ترجمة سلمى الخضراء – مراجعة توفيق صايغ – دار اليقظة العربية ومؤسسة فرانكلين 1963 0). بتصرف.

15- (الشعر والتجربة – ترجمة سلمى الخضراء – مراجعة توفيق صايغ – دار اليقظة العربية ومؤسسة فرانكلين 1963 0). بتصرف.

 

في المثقف اليوم