قراءات نقدية

عدنان الظاهر: مسيح السيّاب ومسيح خليل حاوي

ما الذي يجمع هذين الشاعرين والمسيح؟

لماذا يتشبّهان به ويتماهيان معه أحياناً؟

خليل حاوي شاعرٌ لبنانيٌّ مسيحيٌّ لكنَّ السيّابَ عراقيٌّ مُسلم!

هل مرّ أحدهما أو كلاهما بما مرَّ المسيحُ به من تجارب وخاضا ما خاض من سجالات ومجادلات مع خصومه ولا سيّما اليهود؟ هل سُجنا أو صُلبا ودُفنا ثم قاما من القبر؟

لم يمر الشاعر المسيحي الماروني حاوي بأية تجربة عرّضته للسجن أو التعذيب أو الصلب ثم القتل. بلى، أقصيَّ السيّاب عن وظيفته مرتين لأسباب سياسية، الأولى زمان الحكم الملكي في العراق والثانية في العهد الجمهوري بُعيدَ ثورة 14 تموز 1958. يتعذّب المطرود من وظيفته ويُعاني خاصةً إذا كان متزوجاً وله أطفال كحالة بدر شاكر السيّاب لكنَّ السياب لم يُسجن ولم يتعرض للتعذيب الجسدي ولم يُصلب أو يُقتل فما علاقته بعيسى إبن مريم؟ على كل حال.. الإستعارة مجازية وللشاعر كل الحق في أنْ يستعير ما يشاء من التأريخ القديم والحديث ويوّظف ما يشاء من رموز لإغناء تجاربه الشعرية وتعميق تأثيراتها ومدِّ قوّة تأثير شعره بمؤثرّات إضافية لها من قوة الإيحاء ما للصوت والظل واللون من تأثيرات. التكبير حيناً والتصغير أحيانا هي كذلك من بين جملة هذه المؤثّرات الضرورية لكل فعل درامي أو تراجيدي في الشعر كما في المسرح.

ركّزَ كلا الشاعرين ـ كما هو الأمرُ مع باقي الشعراء الذين استعاروا أو وظفوا المسيح في نصوصهم ـ على ثلاث مسائل أو على ثلاث صفحات من صفحات سِفر عيسى هما:

1 ـ إكليل الشوك الذي وضعه اليهودُ على رأسه وعذابه مع الصليب الذي حملَ ثمَّ صلبه على الصليب ودق المسامير في جسده

2 ـ قتله ودفنه ثم قيامته من قبره حتى أنَّ قرآنَ المسلمين قال [وقولِهمْ إنّا قتلنا المسيحَ عيسى ابنَ مريمَ رسولَ اللهِ وما قتلوهُ وما صلَبوهُ ولكنْ شُبّهَ لهمْ وإنَّ الذين اختلفوا فيهِ لفي شكٍّ منه ما لهم به من علمٍ إلاّ اتباعَ الظنِّ وما قتلوهُ يقيناً بل رفعهُ اللهُ إليهِ وكان اللهُ عزيزاً حكيما / الآيتان 157 و158 من سورة النساء].

3 ـ ما قال عن نفسه المسيح وخاصة في إنجيل يوحنا / الإصحاح السادس:

ـ [.. فقال لهم يسوعُ أنا هو خبزُ الحياة. مّنْ يُقبلْ إليَّ فلا يجوعُ ومن يؤمنْ بي فلا يعطش أبداً]

ـ [الحقَّ الحقَّ أقولُ لكم مّنْ يؤمنُ بي فله حياةٌ أبدية]

ـ [أنا هو الخبزُ الحيُّ الذي نزلَ من السماءِ. إنْ أكلَ أحدٌ من هذا الخبزَ يحيا إلى الأبد]

ـ [فخاصمَ اليهودُ بعضُهم بعضاً قائلين كيف يفسّرُ هذا أنْ يعطينا جسدَه لنأكل. فقال لهم يسوعُ الحقَّ الحقَّ أقولُ لكم إنَّ لم تأكلوا جَسَدَ ابنَ الإنسانِ وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم. مَنْ يأكلُ جسدي ويشربُ دمي فله حياةٌ أبديّةٌ وأنا أُقيّمُه في اليوم الأخير. لأنَّ جسدي مأكلٌ حقٌّ ودمي مَشرَبٌ حقٌّ. مّنْ يأكلْ جسدي ويشربْ دمي يَثبُتْ فيَّ وأنا فيهِ. كما أرسلني الأبُ الحيُّ وأنا حيٌّ بالأب فمن يأكلني فهو يحيا بي. هذا هو الخبزُ الذي نزلَ من السماءِ].

بجسد المسيح وبدمه يحيا المؤمنون به إلى الأبد، أي إنهم لا يموتون. المسيح هنا يُضحي بجسده ودمه. هكذا يرى أو يُخيّلُ للبعض أنْ يرى وأنْ يجد نفسه ضحية لفكره الثائر أو التنويري وقُربان إلتزاماته العقائدية والسياسية. الثائر يُضحي بنفسه أو بحريته والكل يعرف الكم الهائل من القتلى والمساجين والمشرّدين من الثائرين والمعارضين السياسيين أو الدينيين على مدى التأريخ المكتوب أو المعروف. هنا يجد بعض الشعراء أنفسهم وهذا خيارهم وعلينا أنْ نحترم خيارات غيرنا.

من هو مسيح السيّاب؟

قصيدة " المسيح بعد الصلب " (1)

نشرتُ نقداً تحليليلاً لهذه القصيدة وقلت فيها إنها تمثّل قمة إبداع السياب الشعري. مَنْ يقرأ هذه القصيدة بتمعنٍ وأناة يخلص إلى أنَّ السياب يخلع المسيح على نفسه ويتلبّسه حتى يرى نفسه المسيحَ ذاته. في المقطع الأول من هذه القصيدة يستحضر السياب مشهد دفن المسيح بعد مقتله فيقول:

[بعدما أنزلوني، سمعتُ الرياحْ

في نواحٍ طويلٍ تسفُّ النخيلْ،

والخطى وهي تنأى، إذنْ فالجراحْ

والصليبُ الذي سمّروني عليهِ طوال الأصيلْ

لم تَمُتْني، وأنصَتُّ: كان العويلْ

يعبرُ السهلَ بيني وبين المدينةْ].

هنا مناحة حقيقية يصوّرها الشاعر بكل ما يختزن في صدره من ألم ومعاناة فأشرك الرياح والنخيل حتى أنَّ عويل الطبيعة ونواحها عبرا السهل الذي يفصله عن المدينة. رياحْ.. نواحْ.. جراحْ.. ثم: النخيلْ.. الأصيلْ.. العويلْ / علامَ هذه الرتابة في التسجيع والتقفية والتسكين.. علامَ تدلُّ؟ ثم إنه وقد أُنزلَ في قبره يعودُ القهقرى لزمن ربطه على الصليب حيّاً قبل مقتله [والصليبُ الذي سمّروني عليهِ طوالَ الأصيلْ.. لم تَمُتني.. ] إذاً ما الذي أماته؟ لا الجراح أماتته ولا الصليب! هناك أمور أخرى قتلته إذاً ولسوف نرى ما هي وهل هي مكائد الشعراء وخيانة الأصدقاء ووشايات الوشاة ثم العلل الجسدية؟

في المقطع التالي لهذه القصيدة نرى المسيح في السيّاب ونرى هذا في ذاك. نقرأ ما قال السياب في هذا الجزء ثم نقارنه بما أستعرتُ للتوِّ مما قال المسيح في إنجيل يوحنّا عن نفسه:

[.. قلبيَ الماءُ قلبي هو السُنبُلُ

موتهُ البعثُ: يحيا بمنْ يأكلُ

*

متُّ بالنارِ: أحرقتُ ظلماءَ طيني، فظلَّ الإلهْ

كنتُ بدءاً وفي البدءِ كان الفقيرْ

متُّ كي يؤكلَ الخبزُ باسمي، لكي يزرعوني مع الموسمِ

كم حياةٍ سأحيا: ففي كلِ حُفرةْ

صرتُ مستقبلاً صرتُ بذرةْ

صرتُ جيلاً من الناسِ: في كلِّ قلبٍ دمي

قطرةٌ منهُ أو بعضُ قطرةْ].

أعيدُ بعض ما قال السيدُ المسيح عن نفسه لتيسير المقارنة على القرّاء الكِرام:

[مَنْ يأكلُ جسدي ويشربُ دمي فله حياةٌ أبديّةٌ وأنا أُقيّمُه في اليوم الأخير. لأنَّ جسدي مأكلٌ حقٌّ ودمي مَشرَبٌ حقٌّ. مّنْ يأكلْ جسدي ويشربْ دمي يَثبُتْ فيَّ وأنا فيهِ. كما أرسلني الأبُ الحيُّ وأنا حيٌّ بالأب فمن يأكلني فهو يحيا بي. هذا هو الخبزُ الذي نزلَ من السماءِ].

لقد مهّدَ بدر شاكر السياب لما قال عن نفسه في هذا المقطع تمهيداً ناجحاً إذْ رجع إلى قرية " جيكور " قريته ومسقط رأسه حيث تُزهر أشجار الفاكهة من توت وبرتقال وتعمُها الخُضرةُ وكلَّ ما يحيط بها حتى الشمس تخضرُّ بل ويخضرّ حتى دُجى جيكور! في هذا الطقس الربيعي الخرافي ينتعشُ قلب الشاعر [يلمسُ الدفءُ قلبي].. يقوم عائداً ثانيةً للحياة ولِمِ لا، أفلمْ يقمْ من قبره قبلهُ المسيحُ؟ قال السياب في هذا المقطع [كنتُ بدءاً وفي البدءِ كان الفقيرْ]. الإنجيل يقول [في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله / الإصحاح الأول، إنجيل يوحنّا]. هذا هو شاعرنا العراقي الجيكوري ومسيحُ نفسهِ كما يرى نفسه في هذه القصيدة. هل يؤمن السياب بمبدأ تناسخ الأرواح فيجد المسيحَ فيه ويرى نفسه في المسيح؟ لم يقلْ الرجلُ ذلك وما كان معروفاً عنه أنه من معتنقي مذهب التناسخ لكنه الشعر ولكنهم الشعراء يقولون ما لا يفعلون وفي كل وادٍ يهيمون!

يتكلم السياب في المقطع الثالث عن قصة خيانة يهوذا له والمقابلة الدرامية التي حصلت بينهما بعد قيامة المسيح. الجديد في أفكار هذا المقطع وصوره البليغة أنَّ السياب جعل من الخائن يهوذا لوح المسيح السالب أو طبعة منه [الإله الشيطان.. ضديد الرب]. قال الشاعر:

[هكذا عُدتُ فاصفرَّ لمّا رآني يهوذا

فقد كنتُ سِرّهْ

كأنَّ ظلاّ قد اسودَّ مني، وتمثالَ فكرةْ]..

أروعُ وأبدعُ ما في هذه القصيدة هو ختامها. سبعة أسطر لخّص فيها السياب محنته الحقيقية في وطنه العراق وما كابد فيه وما عانى. إنه هو المسيح المصلوب قبل موته. وفي موته مخاض المدينة.. مخاض عراق جديد حلم السياب بمبعثه دون طائل.. لم تجده الأجيال التي أتت بعده ولم يجده جيلُ اليوم حتّى!!. قال السياب في هذه الخاتمة:

[بعدَ أنْ سمرّوني وألقيتُ عينيَّ نحو المدينةْ

كِدتُ لا أعرفُ السهلَ والسورَ والمقبرةْ

كان شيءٌ، مدى ما ترى العينُ،

كالغابة المُزهِرةْ

كان، في كلِّ مَرمى، صليبٌ وأمٌّ حزينةْ

قُدّسَ الربُّ!

هذا مخاضُ المدينةْ].

مسيح خليل حاوي (2)

أبدأ مع مسيح خليل حاوي وبما كتب في مقدمة قصيدة " المجوس في أوربا " وهي جزء من ديوانه الأول " نهر الرماد":

[وإذا مجوسٌ من المشرق يتقدّمهم نجمٌ.. ولما رأوا الطفلَ خرّوا له ساجدين].

أخذ حاوي هذا النص من الأناجيل ومنها إنجيل متّى ففي هذا الإنجيل نقرأ ما يلي:

[ولما وُلدَ يسوعُ في بيت لحم اليهودية في أيام هيرُدُوسَ المَلِك إذا مجوسٌ من المشرق قد جاءوا إلى أُورُشَليمَ قائلينَ أين هو المولودُ مَلكُ اليهود. فإننا رأينا نجمةً في المشرق وأتينا لنسجدَ له / الإصحاح الثاني]. هناك فروق في التفاصيل بين هذه النصين لكنَّ جوهر المسألة يبقى واحداً. ربما استعار الشاعر نصه من إنجيل آخر غير إنجيل مَتّى. المهم.. إنَّ حاوي يؤمن بما قالت الأناجيل حول مولد عيسى المسيح إبن مريم إذاً فإنه رجلٌ مسيحي الإيمان. هذا مجرد مُدخل لما سيأتي من قول. كتب خليل حاوي في مقدمة قصيدة " لعازر عام 1962 " من ديوانه الثالث بيادر الجوع ما يلي:

[وذهبت مريم، أخت العازر، إلى حيث كان الناصري وقالت له لو كنتَ هنا لما مات أخي، فقال لها إنَّ أخاكِ سوف يقومُ / إنجيل يوحنا]. هذا كلام كذلك موجود في أناجيل أُخَرَ كما سنرى. معجزة المسيح في إحياء الموتى مذكورة حتى في قرآننا وكما يلي [.. وأُبرئُ الأكمهَ والأبرصَ وأُحيي الموتى بإذنِ الله.. / الآية 49 من سورة آل عمران].

لم يتشبّه هذا الشاعر ـ على حدّ علمي وعلى قدر فهمي لما كتب في دوواينه الشعرية ـ بالمسيح أبداً ولم يحاول التماهي معه كما فعل السيّاب في بعض شعره.

ذكره مجرد ذكر هنا في قصيدة لعازر عام 1962 كما سنرى.

قد يبدو لي أنَّ خليل حاوي يتشبّه بالعازر في هذه القصيدة وهو الرجل الميت الذي أحياه المسيح. هناك إشارات قوية تؤكّد ما ذهبتُ إليه ولكن.. هل عاد حاوي للحياة من بعد موت كما كان حال لعازر ولماذا العام 1962؟ كتب الشاعرُ في بداية هذه القصيدة كلاماً غير قصير مزج فيه السياسة والنضال وسقوط المناضلين بقصة لعازر وأدخل نفسه في هذا المزيج بقوة والأمثلة غير قليلة منها (كنتَ صدى انهيارٍ في مُستهل النضال فغدوتَ ضجيج انهيارات حين تطاولت مراحله.. وماذا؟ لئن كنتَ وجه المناضل الذي انهار في الأمس فأنتَ الوجه الغالب على واقع جيل.. وهكذا وفيما يشبه الحدس، إتحدَّ الحاضرُ بكل زمان، والواقع بالأسطورة فاكتسبتَ اسماً وكان الإسمُ جوهر كيانك: لعازر، الحياة والموت في الحياة، تموتُ القيم في المناضل وتحتقنُ الحيوية فيكونُ الطاغية.. وهذه امرأتكَ تلتقيكَ عائداً من الحُفرة فيتولاها الرعبُ.. كانت تنزعُ إلى كمال وجودي يُشبع النفسَ والجسدَ فخذلتها أنت زوجها الحاقد الميّت وأسعفك الناصريُّ بكماله الملائكي المترفع عن التجربة الحسيّة. لقد امتنَعتْ (أو إمتنعتَ؟ لا وجود للحركات في النص) عن الصلاة لإله لم يعرفْ الجوع ولا الأفاعي المتولدة من شهوة متدافعة مُحتقنة:

ما تُجدي الصلاة

لإلهٍ فمَرَيٍّ ولطيفٍ قَمَري

يتخفى في الغيومِ الزُرقِ في الضوءِ الطري

حيثُ لا يُرعدُ جوعٌ مارجٌ بالزَفَرات].

يتكلم خليل حاوي عن امرأة العازر فهل كان يقصد نفسه وخطيبته التي تركها في لبنان وسافر للدراسة في بريطانيا؟ في ديوانه إشارات غير قليلة حول فتاة تنتظره خصّها بنعت البدوية السمراء! لم يتزوج هذا الشاعر إذاً كان قد خسر تلك الفتاة الخطيبة.. ربما يئست منه وقد طال غيابه فاقترنت بسواه. هنا نحن وجهاً لوجه مع حاوي ـ العازر، الميّت الذي أحياه المسيح " الإله القمري " فمن أحيا خليل حاوي؟ لم تكنْ غيبته في بريطانيا موتاً حقيقياً لكنه موتٌ مجازي.. غياب.. غيبة لا غير. ركزّ خليل في هذه القصيدة كثيراً على زوج العازر فأين المسيح الذي دعوته بمسيح خليل حاوي؟

طويلةٌ هي هذه القصيدة تتكون من 17 مقطعاً تنتشر على الصفحات 307 ـ 362 وقد نظمها في العامين 1961 و1964 كما أشار في آخر هذه القصيدة. لو تتبعنا ما قال حاوي في هذه الأجزاء السبعة عشر لوجدنا فيها شيئاً مما قال في مقدمته لهذه القصيدة. وما دمتُ قد عنونّتُ هذا الجزء من مقالي ب (مسيح حاوي) فلا بأسَ من الإشارة بشكل خاص إلى الجزء العاشر من هذه القصيدة الذي يحمل عنوان " الناصري يتراءى لزوجة لعازر ". لم تلعب زوج لعازر أي دور في بعث زوجها الميت للحياة ثانية إنما أخته مريم هي التي طلبت من المسيح أنْ يُحيي أخاها قائلة له [لو كنتَ هنا لما مات أخي]. فلماذا الأخت وليست الزوجة؟ إستشرتُ الشاعرة السيّدة جوزيه حلو في أمر مريم وزوج لعازر ثم الخضر فأرسلت لي مشكورةً فيديو يستعرض بشيء من التفصيلات وجود ثلاث مريمات هنَّ: مريم المجدلية ومريم الخاطئة ثم مريم الزانية (في الحقيقة إنهنَّ أربع نساء ولسن ثلاث لم تحمل منهنَّ إسم مريم إلاّ واحدة هي أخت لعازر). تيسيراً للأمور رأيتُ أنْ أضعهنَّ حسب ورود ذكرهنَّ في الأناجيل بالتسلسل ليسهل على القرّاء الكرام متابعة الموضوع الشائك قليلاً:

1 ـ عن المرأة الزانية قال المسيح وسط جمعٍ من شانئيها [مَن كان منكم بلا خطيئة فليرمِها أولاً بحجر / الإصحاح الثامن من إنجيل يوحنا]. لم يذكر هذا الإنجيل اسم هذه المرأة الزانية فكيف يُنسب لها اسم مريم؟ نقرأ في إنجيل يوحنا الصفحة 161 ما يلي [وقدّمَ إليه الكَتَبةُ والفريسيون امرأةً أُمسكت في زنا. ولما أقاموها في الوسط قالوا له يا مُعلِّمُ هذه المرأةُ أُمسكت وهي تزني في ذات الفعل]. لم تسكب هذه المرأةُ على رأس المسيح عطراً ولم تمسح قدميه بدموعها وشعر رأسها لذا فإنها لا تُشكّلُ معضلة أو إشكالات بخصوص من هي مريم المجدلية وهل هي المرأة الخاطئة أم لا.

2 ـ أما المرأة الخاطئة فقد ورد ذكرها في إنجيل لوقا، الإصحاح السابع وكما يلي [.. وإذا امرأةٌ في المدينة كانت خاطئةً إذْ عَلِمتْ أنه مُتكئٌ في بيت الفريسي جاءتْ بقارورة طيبٍ ووقفت عند قدميه من ورائه باكيةً وابتدأتْ تبلُّ قدميهِ بالدموعِ وكانت تمسحهما بشعر رأسها وتُقبّلُ قدميهِ وتدهنهما بالطيب / الصفحة 105]. كذلك لا نجد اسماً لهذه المرأة الخاطئة فمن كانت؟

3 ـ أزيد فأذكر ما قرأتُ في إنجيل متّى [وفيما كان يسوعُ في بيت عَنْيا في بيت سِمعان الأبرص تقدّمتْ إليه امرأةٌ معها قارورةُ طيبٍ كثيرِ الثمن فسكبته على رأسه وهو مُتكئٌ / الإصحاح السادس والعشرون، الصفحة 48].

4 ـ وفي إنجيل مرقس رواية أخرى عن امرأة أخرى بلا اسمٍ لم يقل عنها زانية ولا خاطئة فمن كانت؟ [.. وفيما هو في بيت عَنيّا في بيت سمعان الأبرص وهو مُتكئٌ جاءت امرأةٌ معها قارورةُ طيب ناردين خالص كثير الثمن فكسرتْ القارورة وسكبته على رأسه / الإصحاح الرابع عشر، الصفحة 82 من إنجيل مرقس]. هذه الرواية، رواية مرقس، شبيهة في مضمونها برواية إنجيل متّى في الفقرة 3 السالفة الذِكْر سوى فرقين هما تسمية العطر بطيب ناردين ثم كسر القارورة.. هنا كسر وهناك سكبٌ حَسْبُ. أستنتج أنَّ هذه المرأة هي تلك.

منْ هي المرأة الخاطئة إذاً؟ نجد هذه المرأة في إنجيل لوقا فقط من دون بقية الأناجيل! إنها تشترك مع المرأتين الأخريين بسكب العطر ومسح قدمي المسيح بالدموع وبشعر الرأس!

5 ـ أما أُخت لعازر وقد ورد ذكرها في إنجيل يوحنا وكما يلي [وكان إنسانٌ مريضاً وهو لعازر من بيت عَنيا من قرية مريم ومرثا أُختها. وكانت مريم التي كان لعازر أخوها هي التي دهنتْ الربَّ بطيبٍ ومسحتْ رجليهِ بشعرها.. / الإصحاح الحادي عشر، الصفحة 168 من إنجيل يوحنا]. مريم أخت لعازر دهنتْ الربَّ بطيب ومسحتْ رجليه بشعرها. لم يقلْ هذا الإنجيلُ عن هذه المريم إنها زانية أو خاطئة.

أمامنا ثلاث مناسبات إذاً دهنت فيها ثلاث نساءٍ عيسى المسيح بطيب ثمين ومسحن قدميه بشعورهنَّ لم نعرف منهنَّ إلاّ مريمَ أخت لعازر فمن كنَّ الباقيات يا تُرى؟ هل هنَّ جميعاً مريم هذه بعينها أخت لعازر مريم المجدلية؟ وهل هذه هي المرأة الخاطئة التي ذُكرها إنجيل لوقا؟

من قصيدة خليل حاوي فهمنا أنَّ مريم أخت لعازر هي مريم المجدلية. لكنْ لا الأناجيل قالت ولا خليل حاوي قال من هي زوج لعازر وما اسمها؟

تكرر في الأناجيل ورود اسم مريم المجدلية مقرونا بحضورها بعض المناسبات مع مريم والدة المسيح لذا يعتبرها البعض امرأة مقدّسة لا علاقة لها بالنساء الباقيات. أية مريم سألت المسيح بالإشارة أنْ يُقيم أخاها من عالم الموتى؟ قطع خليل حاوي الشكَّ باليقين إذْ أفرد جزءاً خاصاً للمجدلية تحت الرقم 11. فمريم أخت لعازر إذاً ـ حسب خليل حاوي ـ هي مريم المجدلية. كما أنه ذكر مريم بالجمع في الجزء الثاني عشر الذي يحملُ عنوان " تنّين صريع " [يرتعي جلجلةَ الصلبِ ويرمي في جروحِ الناصري وجروح المريمات / الصفحة 345 من الديوان]. حتى هنا وضعنا حاوي أمام إشكالية أخرى إذْ نسب خطاب مرثا للمسيح لأختها مريم فقد قال في مقدمة قصيدة لعازر عام 1962 ما يلي [وذهبتْ مريمُ، أخت لعازر، إلى حيثُ كان الناصري وقالت له لو كنتَ هنا لما مات أخي فقال لها إنَّ أخاكِ سوف يقومُ]. في حين نقرأ في إنجيل يوحنا ما يلي [فلما سمعت مرثا أنَّ يسوعَ آتٍ لاقتهُ. وأما مريمُ فاستمرّتْ جالسةً في البيت. فقالت مرثا ليسوع يا سيّد لو كنتَ ههنا لم يمتْ أخي / الصفحة 169 الإصحاح الحادي عشر]. لكنْ وفي نفس هذه الصفحة نقرأ لاحقاً ما يلي [.. فمريمُ لما أتتْ حيثُ كان يسوعُ ورأتهُ خرّتْ عندَ رجليهِ قائلةً له يا سيّدُ لو كنتَ ههنا لم يمُتْ أخي]. أين الحقيقة أم صرنا لا نُعيرُ حقائقَ الأمور الأهمية التي تستحق! هل على الشعراء الإلتزام التام بنصوص ما يستشهدون به؟ جوابي نعم.. إذا كانت هذه الإستشهادات دينية أو تأريخية. وما عدا ذلك فإنهم أحرار.. في كل وادٍ يهيمون. فيما عدا هذين الإستثنائين لهم حرية التصرف بالنصوص مجازاً أو إشارة أو لفتةً أو صورة وحركة ما داموا يقولون شعراً يتوخون فيه إبداعاً.

الحضورُ الأقوى في قصيدة لعازر عام 1962 هو لزوج العازر.. ثم يأتي حضور خليل حاوي نفسه مساوياً لحضور زوج لعازر ولكنْ من خلف مرآة.. إنه يقف خلف مرآة الأحداث لا أمامها ليعكس على وجهها ما يُريد ويُخفي ما لا يُريدُ. ثم يأتي وجود الناصري عيسى المسيح مُنقذاً للعازر إذْ بعثهُ من الموت حيّاً أولاً ثم إنه يشارك كلاًّ من لعازر وخليل حاوي نفسه محنة الظمأ الجنسي والعجز التام عن ممارسته وأنا أتحملُ مسؤولية هذا الكلام! كانت زوج لعازر أكثرهم توقاً للجنس ومثلَّ الجنسُ العمودَ الفقري لكل ما ورد من أجزاء في هذه القصيدة بدءاً وانتهاءً. هل أنصاعُ لإغراء الجنس في قصيدة حاوي وأنساق مع منزلقاته ودرابينه فأتتبعه مليّاً وبأناة وصبر أكبر من صبر أيوب؟ أم أتجه لمسائل أخرى أكثر أهمية ولا أغفل ذكر ما وجدتُ من عيوب في هذه القصيدة؟

في الجزء الأول من قصيدة لعازر عام 1962 " حُفرة بلا قاع " يتشبث هذا الرجل الميّت بالبقاء في قبره ميّتاً [عمّقْ الحفرةَ يا حفّارُ عمّقها لقاعٍ لا قرارْ.. لُفَّ جسمي لُفّهُ حنّطهُ واطمرهُ بكلسٍ مالحٍ، صخرٍ من الكبريتِ، فحمٍ حجري]. في الجزء الثاني " رحمة ملعونة " نراه يٌشكك في قدرة المسيح على بعثه حيّاً فيقول [صلواتُ الحبِّ والفِصحِ المغنّي في دموعِ الناصري.. أتُرى تبعثُ ميْتاً حجّرتهُ شهوةُ الموتِ تُرى هل تستيطعْ.. أنْ تُزيحَ الصخرَ عنّي والظلامَ اليابسَ المركومَ في القبرِ المنيعْ.. رحمةٌ ملعونةٌ أوجعُ من حُمّى الربيعْ.. صلواتُ الحبِّ يتلوها صديقي الناصري.. كيف يُحييني ليجلو عَتمةً غُصّتْ با أختي الحزينةْ دون أنْ يمسحَ عن جَفنيَّ حُمّى الرعبِ والرؤيا اللعينةْ]. سيعيد الشاعر ذكر هذه الرؤيا فأية رؤيا عناها يا تُرى؟ وعلى نهجه الذي خبرتُ أقولُ: يقفز خليل حاوي في طفرة غريبة تُفاجئنا بغرابتها حيث لا من صلة تربطها بما تقدّم ولا من علاقة لها بما سيأتي من كلام. أعني قوله في هذا المقطع وبشكل مفاجئ [الجماهير التي يعلكها دولابُ نارْ]! إنه كذلك سيكرر هذا الكلام مِراراً ويضيف له كلاماً آخرَ يبدو وكأنه مُقحَمٌ إقحاماً لا مبررَ له إلاّ ما في رأس الشاعر من خواطر وتداعيات وأخيلة لا نراها فهي غامضة بالنسبة للقارئ. ففي الجزء الثالث التالي يقولُ حاوي [الجماهير التي يعلكها دولابُ نارْ / مَنْ أنا حتّى أردَّ النارَ عنها والدوارْ.. عمّقْ الحفرةَ يا حفّارُ عمّقها لقاعٍ لا قرارْ].

الجزء الرابع ـ زوجةُ لعازر بعد أسابيع من بعثه ـ خصصه حاوي وبالكامل لموضوع الجنس حرماناً واشتهاءً مازجاً الكل بالكل! واضحة كانت زوج لعازر في هذا الجزء وصريحة وأقوالها مرآة ما في نفسها من شوق عارم للجنس مع رجل كان قد فارقها بموته لكنه عاد إليها أو أُعيد إليها بإحدى قدرات المسيح (الخارقة!). حقق لها بعض ما كانت تُريد ولكنْ إلى حين.. فسيفارقها ويتركها تقاسي مرارة الحرمان الجنسي. مقتطفات مما ورد في هذا الجزء الرابع [كان ظلاً أسوداً ـ كذا كتبها حاوي ـ يغفو على مرآةِ صدري.. زورقاً ميْتاً على زوبعةٍ من وهجِ نهديَّ وشعري.. كان من حينٍ لحينٍ يعبرُ الصحراءَ فولادٌ مُحمّى، خِنجرٌ يلهثُ مجنوناً وأعمى.. نَمِرٌ يلسعهُ الجوعُ فيُرغي ويهيجْ.. يلتقيني عَلَفاً في دربهِ أنثى غريبةْ.. يتشهّى وَجعي، يُشبعُ من رعبي نيوبهْ.. كنتُ أسترحمُ عينيهِ وفي عينيَّ عارُ امرأةٍ أنّتْ، تعرّتْ لغريبْ.. ولماذا عادَ من حفرتهِ ميْتاً كئيبْ.. غيرُ عِرقٍ ينزفُ الكبيرتَ مُسوّد اللهيبْ]. لعازر رجلٌ غريب بالنسبة لزوجه فقد فرّقهما الموت فكيف تتعرى لغريب وتمارس الجنس معه؟ أرى خطيبة خليل حاوي تتكلم عن نفسها هنا! يفاجئنا الشاعر بمضمون الجزء الخامس وعنوانه " زُخرف " إذْ هو نقيض مضمون الجزء الرابع. هنا نحن مع فرح وبهجة وعيد لمناسبة عودة لعازر لزوجه من الموت. لا تسعها فرحتها فتُهرَعُ لجارتها وتفتح لها قلبها وتُسرف في التعبير عن بهجتها بقدوم لعازر. أعتقد كان من المفروض أنْ يقدّمَ الشاعرُ هذا الجزء على الجزء الرابع لا أنْ يضعه بعده. نقرأ ونفرح مع هذه المرأة [جارتي يا جارتي لا تسأليني كيف عادْ.. عادَ لي من غربة الموتِ الحبيبْ.. حَجَرُ الدارِ يُغنّي وتغني عَتَباتُ الدارِ والخمرُ تغني في الجِرارْ.. وستارُ الحزنِ يخضرُّ ويخضرُّ الجدارْ.. عند باب الدارِ ينمو الغارُ، تلتمُّ الطيوبْ.. حتى يختتم الشاعرُ هذا الجزء بتكرير ما سبق وأنْ قال [وحبيبي كيف عادْ.. عادَ لي من غُربةِ الموتِ الحبيبْ.. كنتُ أسترحمُ عينيهِ وفي عينيَّ عارُ امرأةٍ أنّتْ، تعرّتْ لغريبْ.. ولماذا عاد من حفرتهِ ميّتاً كئيبْ.. غيرُ عِرقٍ ينزفُ الكبريتَ مسوّد اللهيبْ].

الجزء السادس: الخضر المغلوب. لا أعرف من هو الخضرُ في التراث والدين المسيحي لكني أعرف أنَّ أهالي جانب الكرخ من بغداد وفي يوم معين أو مناسبة معيّنة يُسرّحون في ماء دجلة شموعاً طافيةً على ألواح خشبية يسمونها شموع خضر الياس. كما دأب بعض العراقيين على القول: إذا ذٌكرَ اسمُ الخضر يخطف فوراً ولكنْ لا من أحدٍ يراه! ما علاقة خضر خليل حاوي بشخوص قصيدته هذه وخاصة زوج لعازر بطلة هذه القصيدة الملحمية بامتياز؟ ربط الشاعر هنا بين هذا الخضر وزوج لعازر الممزقة بين حضور وغياب زوجه وبين الجنس والحرمان منه. ثم لماذا مغلوبٌ هذا الخضر وهل هو نسخة أخرى لخليل حاوي نفسه؟ تقول زوج لعازر وليتني أعرف اسمها:

[ولماذا لم يَعُدْ يشتفُّ ما في صدريَ الريّانِ من حبٍّ تصفّى واختمرْ.. غيمةٍ تُزهرُ في ضوء القمرْ.. وسريرٍ مارجٍ بالموجِ من خمرٍ وطيبْ.. جنّةِ الفُلكِ على حمّى الدوارْ.. طالما عادَ إلى صدري مِرارْ.. عادَ مغلوباً جريحاً لن يطيبْ.. ومدى كفّيهِ أشلاءٌ من الحقِّ مدى جبهتهِ أشلاءُ غارْ: حلوةٌ جُرّتْ إلى التنّينِ جُرّتْ، دُمِغتْ للموتِ وانهارتْ تعانيهِ انتظارْ.. مِخلبٌ ذوّبَ سيفي غاصَ في صُلبِ الحَجَرْ.. مخلبٌ في كَبِدي مِعولُ نارْ.. وعلى الشاطئِ طفلٌ ناصريٌّ يغرسُ البلسمَ في دنيا القرارْ]. في هذا الجزء إغتصاب لفتاة وأسوأ من هذا الإقحام القصدي لمفردات قلقة في المواضع التي وظّفها الشاعرُ فيها. أحسبُ أنَّ القارئ المتمهّل والمتمعّن يدرك قصدي ويشاركني هاجسي فالشعرُ ليس اعتسافاً وإقحاماً للمفردات إما سدّاً لفراغ أو ضعفاً أمام شروط الوزن والإيقاع والقافية. الأمثلة كثيرة أدعو القرّاء الكرام إلى التنبّه لها ومشاركتي جزعي من هذه الظاهرة في الشعر عامةً وفي شعر حاوي على وجه الخصوص. أعترفُ أنَّ لدى خليل حاوي قدرة على تمرير هذه الهفوات وقدرة أخرى على جعل قارئه يعتقد أنَّ الأمور ماضية على ما يُرام ولا من افتعال ولا تعسف ولا إقحام. أعزو ذلك إلى تمهل حاوي في نشر أشعاره ووقوفه معها لزمن غير قصير يُعيد النظر ويمحّص ويبدّلُ ويفكّر ثم يُسلّم أمره لقوة أغراء النشر.

ماذا نجد في الجزء السابع بعنوان " عُرس المغيب "؟ ما زال حاوي يلف ويدور حول موضوع الجنس فالعرس زواج والزواج ممارسة جنس منذ ساعاته الأولى.

[ما جنونُ الدُخنةِ الحمراءِ في فجوةِ جُرحٍ لن يطيبْ.. لجريحٍ يتلاشى في سريرِ الموجِ من خمرٍ وطيبْ.. تلتقيهِ الشمسُ في عُرسِ المغيبْ.. مُبحرٌ سكرانُ ملتفُّ بزهو الأرجوانْ.. عبثاً ترغي وترغي خلفه أشداقُ جانْ.. ] ثم يعود فيكرر ما سبق وأنْ قال في أجزاء أخرى من قبيل [صدرُكِ الريّانُ من جمرٍ ومن خمرٍ وطيبْ.. طالما طيّبَ مغلوباً جريحاً لن يطيبْ] ثم يتابع فيكرر [كنتُ أسترحمُ عينيهِ وفي عينيَّ عارُ امرأةٍ أنّتْ تعرّتْ لغريبْ.. ولماذا عادَ من حفرتهِ ميّتاً كئيبْ.. غيرُ عرقٍ ينزفُ الكبريتَ مُسوّدَ اللهيبْ]. للفظة الكبريت تأثير قوي على الشاعر حتى أنّا نجدها مراراً في متن ديوانه هذا. للتكرير دلالات كثيرة ومقاصد شتّى بعضها مستساغ ومُبرر أو حتّى له ضرورات تقتضيها حاجة الشاعر النفسية التي لا تخلو من بعض السادية.. أعني أنَّ الشاعر يفرض على غيره بالقوة، قوة التكرير، نزعاته الخاصة وما في نفسه وخواطره وتجاربه من حاجات تعنيه وقد تؤرّقه وتُضنيه فيتخلص منها بترحيلها للأخرين وما الأخرون إلاّ قرّاء شعره.

في الجزء الثامن " زوجة لعازر بعد سنوات " توترات وإحباطات إخالها تعود أساساً للشاعر نفسه. ثم في هذا المقطع ألفاظٌ وتراكيب لغوية خشنة لا تنتمي للشعر بصلة من قبيل: (أُداري حيّةً تُزهرُ في جرحي وترغي) فالجمع بين الحية والإزدهار أو الإزهار مسألة لا يسيغها الذوق الشعري. ثمة مثال آخر (إمسحي الميّتَ الذي ما بَرِحتْ.. تخضرُّ فيه لحيةٌ، فَخِذٌ وأمعاءٌ تطولْ، جاعت الأرضُ إلى شلاّلِ أدغالٍ من الفرسانِ فرسان المغول). لا أعرف ما مبرر اللجوء إلى توظيف مثل هذه الكلمات والصيغ اللغوية الغريبة على لغة وروح الشعر؟ ثم ما مناسبة الكلام عن شلال أدغالٍ من فرسان المغول؟ على كل حال.. خليل حاوي قادر على تمرير ما يحلو له من ألفاظ وجُمل تستجيب لحاجاته النفسية وتتوائم مع ما يعاني من ذكريات أقل ما يقال عنها إنها ذكريات فيها مرارة على أكثر من صعيد. إنه ليس من شعراء الباطن لكنه من بين شعراء ذكريات النفس المجروحة المُبتلية ببعض العلل والأصداء الأليمة الغائرة في أعماق روح هذا الشاعر. فكره وشعره متعددا المستويات حتى ليخيّل لي إنه يقول شيئاً ويعني أشياءَ أُخرَ لا يستطيعُ القارئ متابعتها حتى لو جرى وبذل المجهود المطلوب. إنه ظاهرة أكادُ أقولُ أنْ لا مثيل لها في الشعر العربي المعاصر. شعره ثقيل الوزن بعيد المرامي يمكن تأويله بشتى الوجوه لكنْ يظل عصيّاً على الإمساك وإنْ بدا واضحاً رغم تعرّج مساراته وتشعب أهدافه وما يتخذ من مسارب عويصة مربوطة بإحكام وحَنَكة واقتدار رجل مفكّر ثم شاعر لا يمثل إلاّ نفسه. أضربُ مثلاً من توظيفه للمغول في مناسبة لا علاقة لها بهؤلاء البرابرة الموغلين بالقسوة ونحن نعرف حجم التخريب والدمار اللذين أوقعوهما في العالم العربي والإسلامي بدءاً بتدمير الإسماعليين وحصنهم في قلعة الموت في إيران قبل وصولهم إلى عاصمة الخلافة بغداد وما فعلوا فيها وبالخليقة المستعصم بالله. هل كان قصده أنَّ النساء سبايا للرجال الغزاة كما كنَّ سبايا لجند المغول حين غزو الشرق؟ زوج لعازر ليست سبيّة وليس فيمن حولها مغول أو رجال قساة برابرة! أم أنه أشارَ إلى عمق العطش الجنسي لدى هذه المرأة المترملة بحيث لا يرويها منه إلا كتائب وجيوش جرّارة من رجال متوحشين عطشى مثلها للجنس؟ أم أنه أراد القولَ إنَّ نساء الشرق سبيّات وضحايا غزو خارجي أو داخلي وأنهنَّ في كافة الأحوال مستباحات ومعرّضات للإغتصاب القسري من قبل زوج أو رجل غريب؟

الناصري يتراءى لزوجة لعازر

يحمل الجزء العاشر من هذه القصيدة عنوان " الناصري يتراءى لزوجة لعازر ".

لماذا يتراءى المسيح لزوج لعازر وبأية هيئة وكيفية ثمَّ كيف كان هذا اللقاء الرؤيوي؟ الناصري مثل زوجها كلاهما عاجز جنسياً فما جدوى استدعائه.. أليضيف إلى جوعها للجنس بُعداً آخرَ من شأنه تعميق جروحها ويشدد من توقها لممارسة الجنس مع رجل؟ أين معجزات هذا الناصري إذاً؟ جمع خليل حاوي في هذا الجزء ـ فضلاً عن جوعه هو وحرمانه وعجزه ـ جوع لعازر وزوجه ثم عجز المسيح المعروف. أربعة جياع يعانون من عجز أو من ظمأ جنسي مزمن فما عسى أنْ يفعل الناصري العاجز لإمرأة تعاني وتعاني من جوع للجنس وظمأ قاتل؟ تتكلم زوج لعازر:

[سوف أحكي

وأعرّي جوعَ صحرائي وعاري

سوف أحكي

قبل أنْ يطردهُ ديكُ الصباحْ

وتملَّ القيدَ والمعلفَ أفراسُ الرياحْ

جئتني الليلةَ ممسوحاً رمادياً

وطيفاً يتراءى عَبرَ وهجِ الحسِّ حيناً ويتيهْ

كنتَ طيفاً قبلَ أنْ يمتصّكَ القبرُ السفيهْ

عبثاً لن أدفعَ الإصبعَ في فجوةِ جُرحٍ تدّعيهْ

.. إنْ تكنْ جَوعانَ حدّقْ

ما غريبٌ أنْ يجوعَ الطيفُ،

أنْ تكسرَ كفّاهُ الرغيفْ

أسهرُ الليلَ أُعدُّ الزادَ للموتى الطيوف]..

لفت نظري هنا توظيف خليل حاوي لأحد مشاهد مسرحية وفيلم هاملت (3)، أعني ظهور شبح والد هاملت القتيل لبعض حرّاس القصر الملكي ولولده الأمير هاملت فوق سطوح قلعة ألسينور في الدنمارك ثم اختفاء هذا الشبح مع صياح ديك الصباح. المسيح هنا هو الطيف ـ الشبح بدل والد هاملت. كلاهما قتيل، ذاك الملك بالزئبق مصبوباً في أذنه وهذا [ملك اليهود] قتيل التعذيب ثم الصلب. مليكان مقتولان. طريفة هي توريات وكنايات واستعارات وإشارات خليل حاوي في مقاربته لموضوع ممارسة الجنس الذي تبغي زوج لعازر حيث تقول [عبثاً لن أدفعَ الإصبعَ في فجوةِ جرحٍ تدّعيهْ.. إنْ تكنْ جوعانَ حدّقْ.. ما غريبٌ أنْ يجوعَ الطيفُ، أنْ تكسرَ كفّاهُ الرغيفْ].

مَنْ منا لا يعرف معنى ومغزى " كسر الرغيف "؟

11 ـ المجدلية:

هناك روايات وتكهنات تفيد بأن مريم المجدلية كانت تعشق المسيح وكان هو بدوره يستلطفها ويدعُها تطيّب قدميه بالعطور الثمينة وتمسحهما بشعر رأسها وربما بدموعها.. وكان ينتهر الذين كانوا يطردونها ويمنعونها من إتيان ما كانت تفعل مع المسيح وما كانت تقدم له. هنا إذاً نحن مع مشاهد ومقامات جنس صريح لكن البطلة ليست زوج لعازر إنما مريم المجدلية التي أحيا المسيح أخاها لعازر. كانت هناك مجرد رؤيا تراءت للأرملة المحرومة، والرؤيا حلم والأحلام طريق التنفيس عمّا نكبت من رغبات جنسية وغير جنسية ومنها الإستحلام ليلاً في ساعات النوم العميق! كانت الأرملة تحلم.. يتراءى لها.. تتمنى.. ولما غاب زوجها لعازر عنها ـ أو أنه عجز عن ممارسة الجنس معها ـ التجأت للناصري المُنقذ تتمناه وتغازله وتغريه ولكن.. لا حياةَ لمن تنادي! أنقذ زوجها من الموت لكنه عاجز عن إنقاذها مما هي فيه من محنة. المشهد المثير الجديد لا تلعب فيه الزوج المحرومة أي دور إنما المسرح مكرّس لسيّدة أخرى لا أحد يدري أكانت متزوجة أم لم تكنْ. هل كانت هي المرأة الزانية أو المرأة الخاطئة؟ وَلعُها بالناصري مبرر أنه أحيا أخاها من موته بعد أنْ توجهت وأختها مرثا بالرجاء له في أنْ يعيد للحياة أخاهما. مرةً أخرى يعالج الشاعر هذه الموضوعة معالجة جنسية " فرويدوية " درامية والشاعر قادر على ذلك. نقرأ ما قالت مريم المجدلية في هذا الجزء:

[يومَ أنّتْ مريمٌ، يومَ تداعتْ

زحفتْ تلهثُ في حُمّى البوارْ

وأزاحتْ عن رياحِ الجوعِ في أدغالها صمتَ الجدارْ

وسواقي شعرها انحلّتْ على رجليكَ جمراً وبهارْ

لم يُعكّرْ صحوَ عينيكَ التماعُ السوطِ والحيّةِ في صُلبِ الذَكَرْ

مرَّ في الصحو ملاكٌ وانطوى يدمعُ في ظلِّ القمرْ

حيثُ لا يرعدُ جوعٌ مارجٌ بالزفراتْ

كنتَ طيفاً قمرياً وإلهاً قمري

كنتَ ثوباً غائماً يعبقُ بالضوءِ الطري

يتمشى في جروحِ المريماتْ]

مريم المجدلية تئنُّ هنا زاحفةً لاهثةً محمومةً تسعى نحو الناصري وتجثم تحت قدمية طالبةً عوناً جنسياً منه يدفع عنها نيران جوعها الجنسي ولكن.. لا توسلاتها أجدتْ ولا تمسيد قدميه بطويل شعرها شفعَ لها ونفع إذْ بقي الرجل الماثل أمامها صافي العينين ثابت الجنان لم تتحرك فيه أدنى رغبة فيها. تفهّمت المجدلية موقف الناصري هذا وعزّتْ نفسها به فهذا الرجل ملاكٌ وطيفٌ قمريٌّ لا يجوع ولا يزفرُ ويظلُّ ضوءاً أو حلماً بالنسبة لكافة النساء من شاكلة مريم هذه. يظل حسرة وأمنية في نفوسهنَّ.

12 ـ تنّين صريع:

في هذا الجزء جنس صريح صارخ وضع الشاعرُ فيه كل ما يملك من طاقات ومواهب وقدرات جسدية وشعرية بل وكل ما كان يتمنى ويريد أنْ يلعب أدوار رجل مع أُنثى.. إنها صرخة خليل حاوي نفسه أعارها تارة لنساء جوعى وتارة أخرى للناصري لكنه كان هناك بينهم واضحاً وبقوة وإنْ لم يذكر اسمه أو حتى أنْ يُشيرَ له مجرد إشارة. نقرأ بعض ما جاء في هذا الجزء:

[تنطوي صحراءُ ساقيَّ على غصّاتِ شمسٍ تتلوّى

في ظلامٍ حَجري

تمخرُ الغصاتُ في ساقيَّ أليافَ الخلايا والجذورْ

الدُخْانُ الموحلُ المحرورُ يجري من غصوني وثماري

في أهازيجِ البراري ويدوّي في بخورِ الصلواتْ

يرتعي جلجلةَ الصلبِ

ويرمي في جروحِ الناصري

وجروحِ المريماتْ

حسرةَ الأنثى تشهّتْ في السريرْ

مهّدتْ صهوةَ نهديها

تهاوتْ زورقاً يلهثُ في شطِّ الهجيرْ

خلفَ بعلٍ لا يُجيرْ

من بهارِ الهندِ والفلفلِ قطّرتُ رحيقهْ

في مروجِ الجمرِ مرّغتُ عروقهْ

كان عَبْرَ السأَمِ المحمومِ يمتدُّ الصقيعْ

ميّتاً خلّفتُهُ في الدارِ تنّيناً صريعْ

يعصرُ اللذةَ من جسمٍ طريٍّ

ويروّي شهوةَ الموتِ وغلّهْ

ليس يشتفُّ سوى العُهرِ

متى انحرّتْ له الجنّاتُ في أعضاءِ طفلةْ]..

كرر خليل في هذا الجزء ما كان قد ختم به الجزء السابق الرقم 11، أعني " جروح المريمات ". يعرف خليل إذاً أنَّ هناك أكثر من مريم واحدة وقد سبق وأنْ عدّدتُ أربع مريمات ووصّفتهن كما وردن في الأناجيل فأية مريمات في رأس الشاعر، جميعهنَّ أو البعض منهنَّ؟ يبدو لي أنهنَّ سواء بالنسبة للشاعر لا من فرق بين هذه المريم وتلك فجميعهنَّ في محنة وأزمة جنسية مزمنة وحادّة هي كالجروح تماماً سوى أنَّ هذه جروح لا تندملُ ولا تشفى مثل باقي الجروح.

13 ـ لذّة الجلاد:

يخرج خليل حاوي في هذا الجزء عن السياق العام المهيمن لقصيدة لعازر عام 1962 ليعالج موضوعاً آخر فيه تأريخ قديم كما فيه سياسة معاصرة. أرى أنه مازج بين قصة التآمر على الناصري وتحريض كل من " هيرودس " و" بيلاطس " على قتله كما ورد في الأناجيل.. وما يجري اليوم وفي زمان الشاعر من مؤامرات وخيانات للأوطان ومن عملاء للمستعمرين ومتعاونين معهم. يمكن تلخيص هذا كله ببضعة أسطرٍ مما ورد في هذا الجزء فيها كفاية وغناء عن الشروح الطويلة:

[.. سوف لن يحكي: رفاقُ العمرِ

غربانُ الضميرْ

وجواسيسُ السفيرْ].

يُخيّلُ لي أنَّ الشاعر قد تعب أو ملَّ ما طرق من موضوعات في هذه الأجزاء من قصيدته الطويلة فشرع يُعيد ويكرر بعض ما سبقَ وأنْ قالَ وبعض هذا البعض مُبرر ولكن ليس جميع ما أعاد وكرر. يظلَّ الحرمان الجنسي المحور الرئيسي الأساس والعمود الفقري لهذه القصيدة فما أعمق جرحك يا خليل؟ أراه أكثر عمقاً من جروح المريمات جميعاً!

في الجزء 14 الذي يحمل عنوان " الجيب السحري " قال حاوي:

[غيبيني وامسحي ظلّي

وآثارَ نعالي

يا ليالي الثلج، فيضي يا ليالي

إمسحي ظلّي أنا الأنثى

تشهّتْ في السريرْ

خلفَ بعلِ لا يُجيرْ

مارداً عاينتهُ يطلعُ

من جيبِ السفير]..

ما مناسبة إقحام السفير في علاقة متأزمة بين زوجين هما لعازر وزوجه التي نجهلُ اسمها؟ هذه تتشّهى في السرير فهل يسعفها سفيرُ بلدٍ أجنبيّ؟ هل استباحت بسفيرها أمريكا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي جميع نساء لبنان؟ هل غدا لبنان منزل دعارة للأمريكان؟ أمريكا إذاً هي الحل وهي العلاج والعقار لكل ما فينا من علل في مقدّمتها الحرمان الجنسي الذي يعاني ناس الشرق الأوسط منه.

15 ـ الإلهُ القَمَريُّ:

عودة للأله القمري.. يحمل الجزء 15 عنوان الإله القمري وهو الناصري. كرر حاوي في هذا الجزء قوله في الجزء 14 [غيّبيني وامسحي ظلي وآثار نعالي..

يا ليالي الثلجِ فيضي يا ليالي.. إمسحي ظلي أنا الأنثى بكتْ صلّت وصلّت.. ]. إمسحي ظلّي وآثارَ نعالي.. لقد سبق المتنبي الشاعرَ خليل حاوي في موضوع مسح أو نفض النِعال في مواقف الفرقة أو التوديع وخاصة توديع الموتى إذْ قال المتنبي في رثائه لوالدة سيف الدولة الحمداني:

ولا مَنْ في جَنازتها تِجارٌ

يكونُ ودَاعُها نفضُ النِعالِ

تقول زوجُ لعازر:

[ما تُرى تُغني دموعي والصلاةْ

لإلهٍ قَمَريٍّ ولطيفٍ قمري

يتخفّى في الغيومِ الزُرقِ في الضوءِ الطري

حيثُ لا يُرعدُ جوعٌ مارجٌ بالزَفَراتْ].

لماذا كرر في هذا الجزء ما سبقَ وأنْ قال في الجزء الذي سبقه؟ أرى أنْ لا من ضرورة مُلحّة أو حاجة قصوى لهذا التكرير فالتكرير هنا مملٌّ وثقيل ولا يمثلُّ فتحاً شعرياً جديداً يُغني مجمل القصيدة أو يطوّرها أو يُضفي إليها أبعاداً مُغرية تعمّق دراما أحداثها. الناصري مجرد (إله قمري يتخفى في الغيوم الزُرق في الضوء الطري حيث لا يُرعدُ جوعٌ مارجٌ بالزفرات). هذا ما قرأناه في الجزء الحادي عشر تحت عنوان " المجدلية ". أكدَّ الشاعرُ مرتين على حقيقة عجز الناصري عن ممارسة الجنس تعففاً أو لعلّة جسدية فيه. فهو يتهرب متخفيّاً بين غيوم السماء العالية حيث لا من جنسٍ ولا اشتهاء جنسي ولا جوع. كانت بعض قبائل العرب زمن الجاهلية تعبد القمرَ إلهاً فهل هذا ما عناه خليل حاوي؟ هناك عبادة لشيء لا وجودَ له أما هنا فنبيٌّ موجود اسمه عيسى بن مريم فالإلهان القمريان مختلفان ولو أنَّ مؤرّخين يشككون في حقيقة وجود ظاهرة عيسى بن مريم. ماذا تفيدُ امرأة جوعى للجنس من قمر في أعالي السماء حتى لو كان إلهاً؟

إرتفاعه في الأعالي كناية عن تعففه وتساميه فوق ممارسة الجنس وهي شغلة البشر لا الأنبياء أمثال الناصري المسيح. موسى ومحمد تزوجا ونحن نعرف زوج محمد كما نعرف ذرّيته، أما عيسى فلا تزوج ولا أنجب.

الجنس والحرمان الجنسي يظلاّن الهاجس الأقوى لخليل حاوي!

لم أجدْ شيئاً ذا بال في الجزء 16 لذا سأتجاوزه عابراً للجزء الأخير 17

17 ـ جوع المجامر:

جوعٌ وجمرٌ ومجامر! هذه هي البداية فكيف ستكون الخاتمة؟ هذا هو أطول جزء في قصيدة لعازر عام 1962. خلط حاوي في هذا الجزء سيّدتين هما زوج لعازر وفتاته السمراء التي تركها وغادر لبنان للدراسة في بريطانيا. فقدت تلك زوجها لعازر بموته وهذه فقدت الحاوي بسفره إلى بلد غريب بعيد. كلتاهما تعانيان من الحرمان ومن تبعاته القاتلة. لا ذكرَ في هذا الجزء للناصري ولا إشارة للشاعر نفسه. إنه جزء خاص مكّرس لإمرأتين فقط فهل من وجه للمقارنة فيما بينهنَّ؟ لا من وجه للشبه سوى الظمأ الجنسي والتوق العارم لممارسته. ثم في القصيدة تكرير لما سبق وأنْ قال وضعه بين أقواس نصّه [كنتُ أسترحمُ عينيهِ وفي عينيَّ عارُ امرأةٍ أنّتْ تعرّتْ لغريبْ عاد من حفرتهِ ميّتاً كئيبْ] وقد قرأنا هذا الكلام في الجزء الخامس بعنوان " الزخرف ".هذا التكرير جيد ومُبرر في أنه يغلق الدائرة ويُعيدنا لما سبق وأنْ قال كأنه ربط الآخرَ بالأول أو ربط التوالي بالأوالي وهو ربط مُريح تطمئنُّ النفسُ له.

مؤاخذات بسيطة: بالإضافة للعيوب اللغوية المعروفة والشائعة في شعر أجيال الشعر الحر أو شعر التفعيلة.. أكثر خليل حاوي من توظيف الفعلين " مصَّ يمتصُّ " وهو فعل غليظ القوام ثقيل على أذن السامع لا من طاقة شعرية إيحائية فيه.. و" الخضرا " بدلَ الخضراء ثم " السمرا " بدل السمراء وهي عيوب لا أسيغها وإنْ كانت شائعة وصغيرة. ثم إنه، كشأن باقي الشعراء المجياليه، فرّط بالقواعد اللغوية نزولاً عند ضرورة القوافي أو الوزن. فتوقف في موقف يتطلب ألِفاً حيث قال (كنتَ طيفاً قَمَريّاً وإلهاً قَمَري / الصفحة 343 من الكتاب) في حين تتطلب اللغةُ أنْ يقولَ " وإلهاً قَمَريّا أو قمريا). أو في قوله (ميّتاً خلّفتهُ في الدارِ تنّيناً صريعْ / الجزء الثاني عشر: تنين صريع).. والصحيح هو: تنّيناً صريعاً.هذان مجرد مَثَلين للفت النظر.

***

عدنان الظاهر

آب 2012

........................

1 ـ ديوان بدر شاكر السياب / دار العودةـ بيروت 1971. قصيدة المسيح بعد الصلب.. الصفحة457 وما يليها.

2 ـ ديوان خليل حاوي / دار العودةـ بيروت (هناك خطأ في سنوات طبع الطبعة الأولى والثانية.. ) أظن أنَّ عام نشر الطبعة الثانية هو 1979..

ديوان بيادر الجوع، قصيدة لعازر عام 1962 الصفحة 307 وما يليها.

3 ـ نص الترجمة العربية لمسرحية هاملت مُختصر ومبُتسر.. ولكن بقدر تعلق الأمر بالشبح واختفائه مع صياح الديكة جاءت الترجمة كما يلي:

هاملت: ولكنْ ألمْ تتحدثا إليه؟

هوارسيو: لقد تحدّثتُ إليهِ لكنه لم يُجبْ يا مولاي. ثم رفعَ رأسه في إحدى المرات وشرع يتحرك وكأنه يهم بالكلام فما حانت اللحظة التي بدا منه العزمُ حتى صاحت الديَكةُ صياحاً حاداً فاهتزَّ الشبحُ لها ثم توارى على إثره عن الأنظار [ترجمة غازي جمال / دار القلم، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1978].

النص الأصل باللغة الإنكليزية في القسم الأول من مسرحية " تراجيديا هاملت أمير الدنمارك " وبداية هذا القسم كما يلي:

Act I

Scene I. A gurad platform of the castle.

Enter Barnardo and Fransico, two sentinles.

أذكر أبياتاً من النص الإنكليزي ذات العلاقة، والكلام حول ظهور واختفاء شبح والد هاملت حين يصيح ديك الصباح:

Marcellus. It faded on the crowing of the cock.

Some say that ever gainst that season comes

herein our Savior,s birth is celebrated,

This bird of dawning singeth all night long,

And then,they say, no spirit dare stir abroad,

في المثقف اليوم