قراءات نقدية

زهير ياسين شليبه: خط النار ممتد لمحمد السنباطي

قد يجوز لنا اعتبار رواية "خط النار ممتد" من نوع السرد الروائي الإطاري كونها تتضمن عناصر هذا النوع من القص، ولأنها تعتمد في بنيتها على عدة حكايات، يصعب تفضيل واحدة على الأخرى كما سيتبيّن لنا لاحقاً.

ورغم أن عنوانها يوحي عن انتمائها إلى أدب الحرب، لكنه يؤكد أيضًا أنها لم تنته، بل لا تزال ممستمرةً، فخط النار هذا ليس ممتد فحسب، بل متوغل في العمقين المكاني والزماني وكل زمكان العمل. الزمكان هنا خير تجسيد لمجمل العلاقات الزمانية والمكانية السردية.

وكأغلب روايات الحروب، تناول هذا العمل الأدبي أيضاً موتيفَ الحب لتدور حوله شخصيات مثل عبد المنصف ومجاهد وزينات أثناء الحياة الجامعية، وقد انتهت أعوام الدراسة بحلوها ومرها لتبدأ بعد ذلك أنواع أخرى من المعاناة.

والرواية بدءًا من مطالعها المتناثرة تعرض على المتلقي عدة شخصيات متباينة، مثل المجندين من أجل تحرير الوطن، وآخرين غير مبالين: "إحدى الطالبات مددت للشمس ساقين عاريتين" "قال للشاب الذي تتدلى من عنقه سلسلة ذهبية، ويصل شعر رأسه إلى كتفيه". (ص5)

"كان الحوذي ممددًا ساقيه النحيلتين، الخاليتين من الشعر في الشمس، بينما رأسه في ظل حائط"، و"استلقى بعيدًا يلوك رغيفًا لواه على بضع طعميات باردة وأعواد فجل غير مغسولة وهو مغمض العينين في استرخاء وبلادة وعته". (ص11)

نلاحظ هنا أن المَشاهد تنتقل إلى قرية "القاضي" التي أعتبرُها كناقد أدبي تجسيداً لمفهوم "الأليجوريا"، لكن بدون تخطيط الكاتب لها أو عن قصد منه!  وربما أراد الكاتب أن يجعل منها رمزًا للوطن كله الذي يعاني من التخلف. يقول الروائي: "لكنها (القرية) ملبدة بالخرافات والجهل وسخافات اللا منطق".

ولهذا بالضبط اعتبرتُها شخصياً "أليجوريةً" أكثر من كونها رمزاً عاديّاً، لأنها تأخذ حيزاً أكبر في السرد ووصف الناس بطريقة توحي بأنه يركّزُ على فكرة الأليجوريا الشمولية النمطية (الرمزية المجازية). نقرأ في الرواية وصفاً عاماً لأبطاله، كبشر غريبي الأطوار، ومنازلهم كأنه يصنّفهم جميعاً كمجموعة بشرية تمثّل صنفاً معيناً: "وأهل القرية يوقنون أن أبطالهم دجالون"(ص17) "البيوت القديمة هذه لها رائحة الزمن المتخمر يتعرف عليه من يعود إليها بعد غيبة". (ص22)

وبمناسبة الحديث عن مكبر الصوت الذي تبرع أحدهم به للمسجد نقرأ: "وهل يوجد صوت أحلى من الذي يخرج من القلب، إنه أحلى ألف مرة من الأصوات التي تثقب الأذن". (ص22)، "هل أنت متحجرة يا قريتنا، راضية بتحجرك؟ أم تنتظرين من يرفع الغطاء عن عينيك ويرفع وجهك إلى السماء لتحط على تقاطيعه طيور الشمس؟ (ص35)

وهنا يتتبع الكاتب مسيرة الوقوع في شرك الخزعبلات، وقبل ذلك- وبعد ذلك أيضا- يطلعنا على الظلم المتفشي في المجتمع مثلما نقرأ تحت عنوان "مفاتيح على صينية شاي" (ص25) و"لقيط جنب السور" (ص37) و"منافسة غير شريفة" (ص50) و"ألاعيب رأفت القاتم" (ص30)

يعرض الكاتب في هذه الرواية على المتلقي شخصياتٍ موهمًا إياه أنها كلها حقيقية؛ حيث يذكر الأسماء كاملة، والعمل الذي كان يقوم به المجند قبل تجنيده، والشهادات المدنية الحاصل عليها، وتاريخها، بل إنه أحيانا يكاد يوثقها حيث يذكر أرقامًا وتواريخَ محددةً تجعلك تثق بأن هذا الحدث او ذاك قد حصل فعلا وليس له شيء من الخيال. وأنا لا أكاد أشك أن العديد من الشخصيات هي كذلك بالفعل، لكني واثق أن ثمة شخصيات عديدة في الرواية قد ابتدعها الكاتب ابتداعًا، ولا بدَ له من فعل ذلك ليجعل منها رابطًا يصل الروافد بالمنبع الذي تتدفق منه الأحداث، "كما أنه لا يعقل أن يذكر الكاتب شخصية حقيقية مسماة ثم يحكي عن جوانب النقص فيها بكل صراحة، أو يزج بها في بحار الغرام هكذا بكل جرأة دون أن يحتسب لذلك ألف حساب" على حد قوله في حوار خاص معه.

إذن فالشخصيات بعضها حقيقي تمامًا، بل يوهمك الكاتب أن كل الشخصيات الواردة في الرواية حقيقية، وهذا الأمر يجعلك تعيش الأحداث كما فعلَ أصحابُها، وكأنك تشاركهم أعمالهم وإنجازاتهم.

لا يختار الروائي هنا أبطاله أعمدة مقصودة ليشيد عليها البناء الدرامي، لكنهم قدموا من منطقة معينة، وعاشوا في أخرى كيفما اتفق؛ فهم إذن ليسوا أفضل رجالات الحرب ولا هم أبطال خارقين، إلا أنهم قاموا بأدوار عظيمة قد تتتسم بإخفاقات، لكنها حقّاً إنسانية، بدون تكلف أو ادعاء.

وفي "كلام في السياسة" نلاحظ أن الكاتب يؤكد فكرة "الأليجوريا" فنرى الجو العام يتسم بالخوف من التعبير عن الرأي مما يجعل العقم السياسي يستشري في المجتمع، وتتحجر الأفكار بحيث يخشى مدير المدرسة من إزاحة تمثال رئيس راحل في عهد رئيس حالي من أمام مكتبه رغم إعاقته الحركة، فما بالك لو كان هذا النصب للرئيس الحالي نفسه؟! إنها حالة الرعب، لدرجة أن المدير طلب من جميع العاملين بالمدرسة التوقيع على ورقة يقولون فيها إنهم دخلوا المدرسة فوجدوا التمثال ملقى على الأرض. "سأله أحدهم: وما الذي يوقع تمثالا ضخمًا كهذا يا حضرة الناظر بين عشية وضحاها؟ فكانت الإجابة: "وما أدراني؟ لقد حدث هذا ليلا. ربما قفز قط فوق كتفيه أو أي شيء...". (ص80)

هذه هي الكيفية التي اتخذ بها ناظر المدرسة قراره بإزاحة تمثال من أمام مكتبه. ربما جاء الكاتب بهذه الواقعة ليدلل على أن اتخاذ قرار حرب مصيرية هائلة كهذه كان شيئا هائلا.

لا شك أن الإرادة المصرية لم تنتصر إلا بعد تحررها من عدّة عوائق رغم تفشي الجهل في المجتمع، ويصف الروائي هذا الأمر بسخرية سوداء وتهكم.

نقرأ في الرواية كمثال على ذلك ما قام به ناظر آخر في فصل: "نقش على خصية" عندما استدعى عبد المنصف وصارحه: منذ أربعة أشهر وأنا لا أستطيع "النوم" مع زوجتي. وطلب منه الذهاب معه إلى أحد هؤلاء. وكان ما كان: "سأكتب لك بعض الكلمات على خصيتك وستدهش لسرعة تحسنك!". (ص106- 107)

هكذا تُبنى الأليجوريا، كل مجموعة بشرية أو كل شخص يمثّل سلوكه رمزاً معيناً مثل الشر أو الجبن والأمية والجهل، أو الخير والشجاعة والعلم والمعرفة، قد يقصد الكاتب من وراء ذلك أن يبرز وجه القيادة الآخر، الذي أدّى إلى نتائج ناصعة، "وأعني بذلك ما كان من الملازم ثان عبد الستار حجازي الذي ما كاد يصل إلى موقعه الجديد أيام حرب الاستنزاف، ويتعرف على الأفراد" من رسالة شخصية من الكاتب محمد السنباطي.

 نقرأ في الرواية " سأل الشاويش حسن سليمان:

"- هل اشتبكتم مع العدو يا حسن في الفترة الأخيرة؟

- لا يا أفندم..  نحن لا نريد كشف مواقعنا كي لا يرصدنا العدو ويضربنا بالطائرات..

- نحن موجودون هنا لكي نموت.. احفظ عني هذه الجملة.. وأرفض الجبن بأية صورة من الصور ...

وفي الفجر.. بعد ساعات من هذه الأمسية.. أمرت أفراد المدفعية باحتلال أماكنهم وكشف المدافع ووقفت أنا في نقطة قيادة وأصدرت أمرا بتدمير الأهداف المرصودة والتي لم تدمر من قبل..

وكانت تلك مفاجأة كاملة ...". (ص166- 167)

و.... انظر إلى الضباط وكيف كانوا يوافقون على منح إجازات للجنود الذين يقومون بعمل دراسات عليا في الجامعات وكيف كانوا يساندونهم ويشجعونهم.

كانوا يعطون القدوة والمثل.

ولم يكن ذلك يحدث من جانب الضباط الصغار فقط، بل على مستوى القادة الكبار أمثال الفريق عبد المنعم رياض، وقد عبر الكاتب عن ذلك أبلغ تعبير حيث عرض الأمر على هيئة مسرحية قام بها طلبة المدرسة التي كان يعمل بها عبد المنصف وزينات.

ثم انظر إلى أحد القادة وما يقوله عنه أحد جنوده بعد استشهاده: "جاءت طائراتنا لتتصدى. تقدمنا وليس بيننا وبين ممر مثلاً سوى مسافة بسيطة. تبادلنا القصف الشديد. وعلى مقربة نصف كيلو متر من الممر حصرنا قواتنا لنعرف عددنا بالضبط.. وإذا بقائد اللواء بروحه الطاهرة مع الشهداء..  أما جسده فمتفحم في الدبابة..

كنا ننظر لهذا الرجل وكأنه من جيل الصحابة أو من القادة الإسلاميين الأوائل.. لم يكن من الذين يرهبون الأهوال، بل كان يقتحمها وفي أيام انتظارنا للعبور كان متوترا جدا لأنه لم يعبر.. كان يتمنى أن يكون أول الفاتحين أو أول الشهداء.. لهذا كانت دبابته في المقدمة دائما..

بكيته كثيرا ...  لا يمكن أن أنساه أبدا ...

كنت قد تقدمت إليه بطلب للحصول على إجازة لمدة شهر لدخول امتحان الدراسات العليا في شهر يوليو 73 وذلك عن طريق قائد السرية وقد طلبني بالتليفون وأخبرني أنه صدق على إعطائي هذا الشهر لأنه لا يستطيع أن يقف في طريق العلم.. وشجعني..

بكيته كثيرا وترحمت عليه أكثر".

تتميز هذه الرواية بكثرة الحكايات، وقد يصعب على المتلقي تحديد أهمها، التي يبني الروائي عليها معمارها، وأنا شخصيا حاولت ذلك لكن برزت قصص أخرى فرضت نفسها على فضاء السرد، لكن ربما كان هناك حكاية "لقيط جنب السور" هي الأهم، كما ذكر لنا الكاتب نفسه. (ص37)

"عوج فمه في ابتسامة بلهاء، وهرش قفاه ثم تمتم:

- طفل مولود يا جناب العمدة يقول: واء واء

- ماذا يقول يا ولد؟

- واء واء

- أسمعت يا شيخ عبد الفتاح؟ أنا معك إنَّ غضب الله آتٍ لا محالة وأنت تتحمل جانبا من المسئولية لأنك تخطب الجمعة والناس ينعسون أمامك حتى تكاد أدمغتهم تتخبط في الأرض وهم مقرفصون على حصير المسجد. لماذا لا تشد انتباههم بغير الجعير؟ لماذا تتركهم ينعسون؟

- ولماذا لا تسهر أنت على الأمن؟ هه؟ لماذا تسكت على الدجالين؟

- الخطوط موصولة إلى بعضها يا حضرة العمدة. هل عرفتم أهل الطفل؟ حسبنا الله ونعم الوكيل".

عثر أحد الخفراء على هذا اللقيط وأبلغ العمدة بالواقعة فدار حوار بين الشيخ عبد الفتاح الطاهر وبين العمدة، هذا الحوار سينقطع أكثر من مئتين من الصفحات حتى تنتهي الحرب ويعود من يعود من الغائبين، إلأ ابن بسام البشراوي فلم يعد بعد.

يقلق عليه أبوه ولا يفلح سحره في إرجاعه، يسيطر عليه الشعور بالذنب لأن ابنه تنكر للمولود الذي يعيش الآن في ملجأ بعيد. شيئا فشيئا نعرف أن أم الطفل هي ابنة عبد المعين العربجي، يحاول بسام استرضاءهم ويعد بلم الشمل المبعثر متى عاد ابنه من الحرب سالما معافى. لقد وعدهم بذلك. (أنظر ص261)

أخيراً، نختم مقالنا هذا بمقطع من الرواية: "ولم يكد الحاج بسام يخطو بضع خطوات حتى سمع صوتا يناديه.. صوت صابر الفلاح الطيب المرح يكرر النداء وهو يسرع الخطى ليلحق به:

- عندي لك خبر بمليون جنيه

- عن إلهام؟

- عن إلهام!

لا يمكن أن تتساوى اللحظات ولا الأماكن ولا حتى الأشخاص.. في هذه اللحظة صار صابر غير ذلك الشخص الذي يعرفه أهل القرية.. بل أصبح ذا قيمة كبرى.. في إمكانه أن يأتي بالسعادة في كلمات ينطقها فإذا ببسام هو الأسعد.. رأيته؟

- وسلمت عليه!

قلبه يدق بعنف وهو يرمح ويكلم نفسه بصوت مسموع:

- أحمدك يارب.. أحمدك يار ب. لعنة الله عليك ياعبد المعين يا تمثال القذارة! أيمكن أن تصبح صهري في يوم من الأيام؟ إذن ستقوم القيامة قريبا!".

* محمد محمد السنباطي. خط النار ممتد. مركز الحضارة العربية، القاهرة، 2010

272 صفحة من القطع المتوسط.

***

الدكتور زهير ياسين شليبه

في المثقف اليوم