قراءات نقدية

عامر هشام الصفار: ألم القصيدة في "أشجار بلون الهديل"

‏أحتوى الديوان الجديد للشاعر سعد ياسين يوسف على 30 قصيدة من شعر النثر حيث جاءت تحت عنوان "أشجار بلون الهديل"، وصدرت في كتاب فيه من الصفحات 102 صفحة من الحجم المتوسط حيث قام بنشر الديوان "دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع".

‏ويستمر الشاعر سعد ياسين يوسف في نهجه الشعري الذي يركز فيه على لغة القصيدة والشكل فيها والبنية، قاصدا إحداث الدهشة عند القارئ لقصيدته، حتى الوصول لمرحلة الاستمتاع بالشعر، رغم اختياره لموضوعات جلّها فيها الألم إحساسا، يكاد أن يكون الدال الأعمق على النهج الشعري، ومراد القصيدة عند يوسف.

 وقد تنوعت قصائد ديوان "أشجار بلون الهديل" شكلا ومضمونا، وعدد كلمات. فهناك من القصائد ما أعده قصيرا جدا، وهناك ما يأخذ ثلاث إلى أربع صفحات من الديوان، حتى إذا أختصر القصيدة راح يكثف في لغتها ويزيد في توتر آفعالها، وصولا إلى المفارقة في خاتمتها، لأحداث الدهشة عند قارئ يتطلع إلى الجديد في الموضوع.

 وإذا كان بعض النقاد قد عدوا سعد ياسين يوسف شاعر الأشجار لتركيزه في إصداراته الشعرية السابقة على الشجرة كرمز ومعاني، فإن لأشجار هذا الديوان لونها الخاص الذي إنزاح عن أصله فأصبح كالهديل (صوتا للحمائم)، فكأن الشجرة وهي تغذي بستان الشعر وتتغذى منه، قد أمتدت جذورها عميقا في صخر الأرض لتفتته، وتبني على أغصانها أعشاشا لحمائم لا تكف عن الهديل الذي يكون في أحايين كثيرة (قصائد)..هديلاً نابعا من ألم. 

يقول الشاعر جبران خليل جبران (١٨٨٣-١٩٣١)"ليس الشعر رأيا تعبر الألفاظ عنه، بل أنشودة تتصاعد من جرح دام أو فم باسم".

 ثم إن اللغة الشعرية هي أسلوب تعبير يستخدمه الشاعر ليخلق تجربة جمالية وفنية لابد لها من أن تختلف عن اللغة اليومية، التي يستخدمها الناس في الحوار اليومي مثلا أو في النثر العام.  وعليه فاللغة الشعرية لابد من أن تتميز بالإيقاع، والصورة الشعرية الفريدة، واستخدام الاستعارات، والرموز لتحفيز الذهن.. ذهن المتلقي، بصور تعبر عن معاني عميقة بطريقة غير مباشرة.

 وقد تميل اللغة الشعرية إلى الغموض أحيانا مما يترك المجال واسعا أمام المتلقي للتأويل والتفاعل مع القصيدة.

‏ومن موضوعات الديوان الجديد للشاعر سعد ياسين يوسف، موضوعة الحرب عامة، والحرب على غزة خاصة، والزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا، والشهداء في حريق مستشفى الحسين في ذي قار العراقية في عام 2021.

ثم ان من موضوعات الديوان الأخرى: الأم، والأمكنة (المدن) كمدينة القليبية التونسية، والوباء، والحب الأول، وحضور الشخصيات الكبيرة كالشاعر مظفر النواب..

 ولا بد للشعر عند سعد ياسين يوسف من أن يوظف التراث والموروث الشعبي فتقرأ في ديوانه الجديد أسم الحجاج أبن أرطأة، وتقرأ خمبابا، وجلال الدين الرومي، وتسير مع الشاعر في الرابية وحي التوراة، وتسمع معه المحمداوي، وتشاركه رقصة النوبة.

وفي رصدنا الفني الجمالي لبعض من قصائد الشاعر يوسف في ديوانه "أشجار بلون الهديل" نشير الى قصيدة "ما تطحنه الحرب"..

"الحرب تطل بوجه

من رماد

بضفائر النار التي

تلتف حول البيوت".

‏فكأن الحرب بصورتها الفاجعة هذه تطل قبيحة مؤنسنة. لها وجه ولكنه من بقايا النار، ولها ضفائر من النار نفسها، ولكن هذه الضفائر لا يمكن لها إلا أن تكون شرسة، فتظل تلتف لتطيح بالبيوت.. دلالة على البشر والحجر..والفناء والدمار…وليستمر هذا الألم:

"مهشمة دمى الأطفال

تسقط فوق ما تبقى

من جذوع الشجر القتيل

الحرب رحىً

لا تطحن القمح للفقراء

قد تطحن الشمس

فتنقلب آية النهار".

‏وهكذا يذهب الأطفال كما النساء والشيوخ والأبرياء ضحايا لحرب قبيحة، فتتهشم الدمى.. دمى الأطفال.. لتكن دالة على الضحية التي توسدت جذع الشجر الذي لم يسلم من الحرب.  هذه الحرب التي كالرحى تشبيها، ولكنها رحى تطحن الكون، وتقلب المدار، فتصبح النهارات كالليل، وتختفي الشموس في لجة النيران والألم.

وفي قصيدة " وردة حمراء في يد شاحبة" والتي جاءت في زلزال أرضي، يفاجئ الشاعر القارئ بلفظة الأنين مبتدأً قصيدته:

 " أنقطع الأنين

لا

لا لا

من قال؟

فالأسقف المنهارة

تعلو بالشهيق

ثم تهبط

لا تطلقوا الرصاصة

الأخيرة

أسكتوا المحركات

الهادرة

المطارق الكبيرة

لوذوا بصمت عميق

وأرهفوا السمع

فللسماء

ما يشبه الهديل"..

‏وهنا تتجسد لغة الشعر في قصيدة الشاعر سعد ياسين يوسف فكأن ما يصاعد في السماء يشبه الهديل، في قصيدة بدأت بالأنين (دلالة الألم) والأسقف المنهارة التي تنتظر أجنحة الملائكة:

" يا أجنحة الملائكة

كوني الوسادة

لمن توسدوا كتل الركام"

هو الألم الذي ما أحوجه الى وسادة من جناح ملاك.

ثم إن قدرة التعبير الفنية عن المشاعر الإنسانية تتجلى عند الشاعر يوسف بأوضح صورها في قصيدة "الجمر ورمل البلاد" والمهداة الى مظفر النواب. لنقرأ:

"في وضح المساء

رأيت حزني

وقد تدلى على شجر الغيابِ

غيابك الذي كلما آخيته

أستبق الخطى نافراً"

‏ففي لحظة المساءات التي يعيشها المرهف الإحساس يتجسد له الحزن فيراه.  ولكن الرؤية هنا ليست إلا للحزن وقد تدلى على شجرة نادرة هي شجرة الذين غابوا عن دار الفناء.. فكأنهم لم يغيبوا.!. تقول القصيدة:

"حتما كنتَ وكانوا خلفك

وأنتَ تمّد لهم لسانا مشتعل الكلمات"

مذكّرا المتلقي من خلال عنايته بالعبارة الشعرية بأن القصيدة مهداة الى مظفر النواب.. ومَنْ غيره صاحب الكلمات المشتعلة!..

ويتواصل الألم الذي لا مسّكن له، فيكون عرس النار حول حريق في قاعة زفاف بقضاء الحمدانية في الموصل:

" آه كم تنوراً نحصي

لندرك سرّ النار

الأزلية اللاهثة فينا"..

وهي عودة الشاعر للاسم النار… والسؤال-الحق عن تنانير (جمع تنور) مفتوحة لنار لا يخمد أوارها.. ليستمر الحريق.. وليستمر الألم.

***

د. عامر هشام الصفار

في المثقف اليوم