قراءات نقدية
كريم عبد الله: قراءة نقدية تحليلية في قصة "ظلال الأمل" للقاصة شهلا فيض الله
بين الحلم والموت:
قسوة الواقع وظلال الذكريات
***
ظلال الأمل / بقلم: شهلاء فيض الله
كان المارة يمشون بخطوات سريعة على الشوارع والأرصفة من شدة الحر في ذلك الظهيرة دون أن يرى أحدا نظرات تلك الفتاة البائسة الصغيرة ذات الشعر ألأسود المبعثر والفستان الاحمر الممزق وهي جالسة على الرصيف بمحاذات الجدار المنخفض للحديقة المطلة على الشارع المزدحم. تقوم من مكانها وبيدها علبة صغيرة، تريد أن تعبر الشارع لكن نعلاها الشبه الممزقتان لا تساعدها على المشي، بعد ثلاث خطوات لم تكمل الرابعة يتمزق فردا وتصبح عديم الفائدة ولا تستطيع الاستمرار في المشي، تضع قدماها على الأسفلت، يكاد أن يحترقا من شدة الحر، سرعان ما تضعهما على النعال، ما بين عبور الشارع والرجوع الى مكانها تفز من صوت منبه أحدى السيارات! فتعود مسرعة الى الرصيف تاركة ورائها نعلاها في منتصف الشارع، ثم تراقب السيارات وتنتظر ان تنتهز فرصة لتعود وترجعهما..
حرارة الشمس الساحقة أتعبتني كثيرا وكنت على عجلة من أمري للعودة الى البيت، وأنا أسير بخطوات سريعة متجهة الى محطة الحافلات بمحاذات الجدار المنخفض للحديقة وعيناي على الفتاة والمشهد بأكمله، اتجهت صوبها، حين اقتربت منها نظرت لها مبتسمة وأبعدتها قليلا من طريق المارة، فكانت تنظر لي بتعجب! وأرى في عيناها سؤالا: هل هناك من يهتم بي؟ كانت في الثامنة أو التاسعة من عمرها، تمسك بيديها علبة علكة يبدو أنها لم تبع منها قطعة واحدة حتى ذلك الوقت من الظهيرة والسوق بدأ يخلو من الناس، وجهها المسمر من كثرة تعرضها للشمس الحارقة وشعرها المجعد المبعثر وملابسها الممزقة لم تستطيع إخفاء جمال ملامحها! جمال لا يستطيع رسام بارع أن يرسمها، لمعان عينيها السوداوين المليئتين بالأمل والبراءة جعلتني غير قادرة على تركها ومواصلة سيري.
كم سريع يمر الأزمان؟ لا يتغير البؤس بل ينتقل من زمن الى أخر، أعاد هذا المشهد قصة بائعة الكبريت ل(هانس كريستيان أندرسون) الى ذاكرتي، تلك الفتاة الصغيرة الشقراء التي خرجت من البيت في يوم بارد يتساقط الثلج بغزارة لبيع الكبريت وبعد أن فقدت حذائها في الثلج أصبحت تمشي حافية القدمين تطرق الأبواب لبيع الكبريت ولم يفتح لها أحدا فالكل كان مشغولا بعيد رأس السنة الميلادي، عندما حل الظلام كانت ترتجف من البرد والجوع وقد أهلكتها التعب فجلست في زاوية بين منزلين وبدأت بإشعال عود الثقاب واحدة تلو أخرى ولم تتدفأ. قلت في سري: أوليس روح هذه الفتاة الصغيرة بائعة العلكة هي نفس روح الفتاة بائعة الكبريت وأرادت أن تعيش مرة أخرى؟ لو كان كذلك، فها هي الحياة تعذبها مرة أخرى! عدتُ اليها من وسط بردٍ قارسٍ الى حر الشمس الحارقة فلم أجدها التقيت الى يميني ثم يساري رأيتها جالسة مع فتاة في عمرها أتعس منها حالاً، بيدها كتاب القراءة للصف الاول الابتدائي نصف ممزق تقلب صفحاتها بشغف وكأنها عثرت على كنز ثمين ولا تصدق أنها ملكته! حينها سألتها بائعة العلكة: من أين حصلت على هذا الكتاب؟ أجابتها الفتاة دون أن ترفع رأسها: وجدته في حاوية المدرسة القريبة من هنا. فجأة وضعت الفتاة بائعة العلكة يدها الصغيرة المسمرة على صفحة ما وفيها صورة فتاة جميلة بعمرها ترتدي فستان أحمر قصير ذات ياقة وحاشية صفراء وحذاءٍ أحمر، مزينة شعرها بقراط أصفر ذهبي وهي تلعب مع أخيها لعبة الطائرة الورقية، حدقت للصورة قليلا ثم نهضت بسرعة أرادت أن تقول أنها تشبهني حين نظرت الى فستانها الاحمرِ الممزق وقدماها الخشنتين حافيتين، لم تقول شيئا حملت علبة العلكة بهدوء من على الارض وفجأة ألتفت الى الجهة المقابل للشارع وكأن أحدا يناديها! نظرت لي وقالت بصوت خافت: كل يوم وأنا أقف هنا يناديني أخي من الجانب الاخر، عندما أعبر الشارع لم أجده! ابتسمت وقلت لها: أنه يريد أن يلعب معكٍ، أذا أعطيني يدكٍ لنعبر الشارع ونبحث عنه ثم أشتري لكٍ زوج نعا..... قاطعتني بصوت حزين: لا قبل عدة أشهر دهسه سيارة ومات!
كاد قلبي يتمزق حزنا عندما سمعتها! شهقت حسرتاً على حالها حينها تذكرت مرة أخرى بائعة الكبريت وهي تشعل آخر عود كبريت لترى جدتها مرة أخرى وسط الضوء تناديها لتضعها في حضنها الدافئ، فها هي أيضا تبحث عن أخيها كي تجد حظنا لها وسط الزحام التي لا تعني لها شيئا. فجأة ركضت صوب الشارع وعبرتها.. حينها أكملت سيري الى موقف الحافلات، بعد خطوتين فقط فجأة سمعتُ صوت بوق مع توقف سيارة تملئ الشارعً وكأنها صاعقة ضربة المكان! وأنا ألتف بسرعة أرى الناس واقفين في مكانهم كالتماثيل ينظرون الى الجانب الآخر للشارع..
***
القراءة:
في قصتها /ظلال الأمل/ تلتقط القاصة شهلا فيض الله تفاصيل حياة طفلة بائسة تبحث عن بصيص أمل وسط قسوة الواقع. تنبض القصة بحس إنساني عميق يعكس معاناة الطفولة في مجتمع يعاني من اللامبالاة والظلم الاجتماعي، حيث تكشف عن التناقضات بين البراءة والألم، وبين الحلم والموت. يبحر النص في عالم الطفولة الضائع، وينبش في زوايا الحياة الصعبة، ويكشف عن العزلة الداخلية التي يعيشها الإنسان في عالم مليء بالصراعات. في هذه القراءة النقدية، سنحاول استكشاف أبعاد النص، وتحليل الشخصيات، والرموز، والموضوعات التي يعالجها هذا العمل الأدبي، وصولاً إلى فهم أعمق لمغزى القصة وأساليب السرد.
الزمان والمكان: تتسم القصة باستخدام زمان ومكان لهما دلالة قوية في تشكيل الوعي القرائي. يبدأ السرد في ظهيرة حارة، وهي دلالة على الشدة والضغط النفسي، حيث تعكس الحرارة القاسية معاناة الفتاة، وتصبح الخلفية المناخية أحد الرموز الدالة على بؤس الوضع الاجتماعي الذي تعيشه. الزمان في القصة لا يُحدد فقط على أنه وقت الظهيرة، بل يتم ربطه بالشعور الدائم بالحرمان والفقدان، ما يضيف بعدًا وجوديًا للأحداث.
أما المكان، فيأخذ طابعًا مزدحمًا في شوارع المدينة الحارة، لكنه في ذات الوقت لا يوفر أي أمل أو تواصل إنساني. المدينة تمثل بؤرة العزلة المجتمعية، حيث يمر الناس بسرعة من دون أن يلتفتوا إلى تلك الطفلة الجالسة على الرصيف. الكاتبة تركز على تفاصيل المكان بشكل يعكس التباين بين عالم الإنسان المزدحم، وأخرى يملؤها الصمت والخوف والانتظار. رغم أن الشارع يُوصف بأنه مزدحم، إلا أن الفتاة تبدو وحيدة تمامًا، في حالٍ من العزلة الموحشة التي تتسع في عيونها.
الشخصيات: تدور القصة حول شخصية الطفلة بائعة العلكة التي تعتبر العنصر المحوري في النص، والتي تُجسد البراءة المفقودة وسط قسوة الحياة. تخلق شهلا فيض الله هذه الشخصية بعمق نفسي لا يُمكن تجاهله، حيث تنبثق ملامح الطفلة من خلال أوصاف دقيقة تظهر تباينًا بين جمالها الداخلي، الذي لا تستطيع ظروف الحياة أن تطمس معالمه، وبين المظهر الخارجي الذي يعكس الفقر والتهميش. الفتاة التي تحمل علبة العلكة بين يديها، رغم وضعها البائس، تُظهر إرادة الحياة والتمسك بالبقاء.
الراوي في القصة، والذي يبدو وكأنه شاهد على العالم، يسهم في خلق تأثير عاطفي هائل عبر التأملات الدقيقة التي ينقلها. يتبنى الراوي موقفًا إنسانيًا من الطفلة، ولكن في ذات الوقت، يعكس فشله في تقديم أي نوع من الحلول لمشكلاتها العميقة. هذه النظرة المركبة تساهم في خلق التوتر العاطفي الذي يميز السرد، وتكشف عن مأزق الإنسان المعاصر الذي يسعى لمساعدة الآخرين دون القدرة على تغيير واقعهم بشكل جذري.
الرمزية والتيمات:
رمزية /الحرارة/ و/الأسفلت/: يمكن النظر إلى حرارة الشمس والأسفلت المحترق كرمزين للظروف القاسية التي تعيشها الطفلة. فالحرارة الحارقة تشير إلى ضغوط الحياة والواقع المادي القاسي الذي يعيشه الفرد في مجتمع فقير. الأسفلت، الذي يكاد يحرق قدمي الفتاة، يمكن أن يُفهم كرمز للطريق المسدود والمليء بالأشواك الذي تسلكه الطفلة، ولا يمكنها الخروج منه بسهولة. هذا التوصيف يرفع من قيمة القصة في تصوير معاناة البشر في بيئات قاسية.
الكتاب الممزق: تمثل الكتاب الممزق الذي تحمله الطفلة مع أحد الأطفال الآخرين رمزية عميقة للعلم والمعرفة التي تصطدم بالفقر والموت. إن الكتاب، الذي كان في يومٍ ما رمزًا للثقافة والنور، أصبح الآن مجرد مكتشفات جزئية وسط النفايات، ما يعكس الطريقة التي يُنظر بها إلى التعليم في مجتمعات فقيرة. الكتاب يُصوَّر كقيمة محطمة يتوق الأطفال للتمسك بها، لكنه لا يمكن أن يعوض عن فقدان الحب أو الأمان.
بائعة الكبريت: يظهر تشبيه بين الطفلة في القصة وبائعة الكبريت الشهيرة في قصة هانس كريستيان أندرسون، حيث تموت الطفلة في كلا القصتين ببطء. في هذه اللحظة، تُعيد القاصة طرح نفس التساؤلات التي طرحتها قصة بائعة الكبريت: ماذا يحدث عندما تترك البراءة تُهدم تحت وقع الفقر والحرمان؟ هل تُقتلع الأحلام كالأشجار في الزمان؟ هذا التشابه مع قصة بائعة الكبريت يخلق صدى مؤثرًا في النص، ويعمق من إحساس القارئ بالمرارة.
الموت والفقدان: موضوع الموت يعبر عن الانقطاع المفاجئ بين الحياة والأمل. موت أخي الطفلة، الذي دهسته سيارة، ليس مجرد حادث عابر، بل هو بمثابة /نهاية العالم/ بالنسبة للطفلة، وهي تظل تبحث عنه عبر الشارع، في سعي مستمر لملاقاته. هذا الفقد يعكس قسوة الواقع الذي لا يرحم الطفولة ولا يسمح لها بعيش لحظات البهجة. تكرار الموت في السرد يسلط الضوء على مصير الطفل في عالم يُديره الكبار، دون أن يكون هناك مكان للأحلام أو الأمل.
أسلوب السرد: الأسلوب السردي في القصة يتميز بتركيز كبير على التفاصيل الصغيرة التي تؤثر في القارئ بشكل عميق. تفرد شهلا فيض الله الكثير من المساحة للوصف التفصيلي لحالة الطفلة، بدءًا من شكل ملابسها الممزقة وصولاً إلى انطباعات عيونها المليئة بالأمل، ما يعكس محاولات الراوي لفهم الحالة النفسية للطفلة. هذا الأسلوب التفصيلي يخلق نوعًا من التعاطف مع الشخصية، ويجعل القارئ يعيش التجربة نفسها، فيصبح أكثر انغماسًا في معاناة الطفلة.
كذلك، أسلوب التذكر والاسترجاع الذي يستخدمه الراوي - حيث يعيد إلى ذهنه صورة /بائعة الكبريت/ - يعزز من عمق القصة ويوظف الأبعاد الرمزية بذكاء. فالراوي لا يقدم الأحداث بشكل خطي، بل يسترجع الذكريات التي تشبه ما يعيشه الآن، مما يضيف للقصة بُعدًا وجوديًا يتنقل بين الماضي والحاضر.
الختام: قصة /ظلال الأمل/ ليست مجرد قصة عن فتاة فقيرة تُحاول البقاء على قيد الحياة في عالم قاسٍ، بل هي تأمل في الإنسانية والبراءة التي تتعرض للتحطيم على يد الزمان والمجتمع. الكاتبة باستخدام أسلوب سردي عميق ومؤثر، تناولت قضايا مثل الفقر والموت والفقدان من خلال تقديم صورة معقدة عن الطفولة. القصة، بذلك، تفتح المجال للتأمل في العلاقات الاجتماعية والإنسانية في عالم مليء بالظلم والحرمان. ومن خلال الرمزية الحافلة بالمعاني العميقة، تساهم القصة في كشف الوجه القاسي للمجتمع في سعيه للإجابة عن الأسئلة الكبرى المتعلقة بالحياة والموت، والفقدان والأمل.
***
بقلم: كريم عبدالله – العراق