قراءات نقدية

علي حسين: هشاشة حياة البشر تمنح هان كانغ نوبل للأداب

كانت الانظار تتجه صوب الصين، فمعظم التوقعات وضعت اسم الروائية الصينية " تسان شيئه "، على قائمة ابرز المرشحين لنيل جائزة نوبل للاداب لعام 2024، لكن القائمين على الجائزة قرروا منحها الى الكاتبة الكورية الجنوبية " هان كانغ " التي ستدخل عامها الـ " 54 " الشهر القادم . كانت هانغ في ذيل قائمة الترشيحات بالرغم من كونها ابرز كاتبة في كوريا الجنوبية، وحصلت على جائزة البوكر الدولية عام 2016 عن روايتها " النباتية " – ترجمها محمود عبد الغفار -، وكادت ان تفوز ببوكر ثانية عام 2020 عن روايتها " الكتاب الابيض " – ترجمها محمد نجيب "، لم تصدق ان نوبل طرقت بابها قالت لسكرتير الجائزة وهو يبلغها بالفوز عبر الهاتف:" لم أكن مستعدة حقا للفوز بالجائزة "، بدا الأمر مثيرا لها، كانت تعيش يوما عاديا، انتهت من تناول طعام العشاء مع ابنها الاصغر حين اخبروها بالخبر، لتصبح المرأة الثامنة عشر في سجل نوبل للاداب الذي افتتح عام 1901، واول اديب كوري جنوبي ينال نوبل . اشاد قرار منح الجائزة باسلوب كانغ " الشعري المكثف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف عن هشاشة الحياة البشرية". وبأنها:" تمتلك وعياً فريداً بالارتباط بين الجسد والروح، والأحياء والأموات، وأصبحت بأسلوبها الشعري والتجريبي مبتكرة في النثر المعاصر، مكرسة نفسها للموسيقى والفن".، وقال أندرس أولسون، رئيس لجنة جائزة نوبل، إن "تعاطف كانغ مع حياة الضعفاء، والنساء في كثير من الأحيان، ملموس، ويعززه نثرها المشحون بالاستعارات"

ولدت هان كانغ في السابع والعشرين من تشرين الثاني عام 1970 في مدينة غوانغجو، جنوب كوريا الجنوبية، في العاشرة من عمرها تتنقل عائلتها إلى حي سويو دونج في سيول، درست الأدب الكوري في جامعة يونسي في العاصمة.في عام 1993، ظهرت هان لأول مرة في مجال الأدب من خلال سلسلة من خمس قصائد نُشرت في مجلة الأدب والمجتمع الكورية. وفي العام التالي، فازت بمسابقة سيول شينمون الأدبية الربيعية بقصة بعنوان "المرساة الحمراء". صدرت مجموعتها القصصية الأولى، حب يوسو، في عام 1995.، كما فازت بجائزة مان هاي الأدبية وتعمل حاليا أستاذة في قسم الكتابة الإبداعية في معهد سيول للفنون. في طفولتها عشقت الكتب من خلال والدها العاشق للادب:" كنت محاطة بالكتب دائما على الأرض وفي كل زاوية وركن حيث غطت الكتب كل شيء ما عدا النافذة والباب فقد أبقى والدي المكتبة متنامية وأذكر أني شعرت دائما بأن الكتب كانت توسعية بمعنى أنها كانت في وفرة مستمرة إلى حد أنني فوجئت عندما زرت منزل صديقي ورأيت كيف أنه أفتقر إلى الكتب "، ترسم صورة مبهجة لبيتهم الصغير الذي كانت الكتب تتدفق فيه " من الأرفف، فتغطي الأرض بأبراج غير منظمة مثل متجر لبيع الكتب المستعملة حيث تم تأجيل التنظيم إلى الأبد. بالنسبة لي، كانت الكتب كائنات نصف حية تتكاثر باستمرار وتوسع حدودها. وعلى الرغم من التنقلات المتكررة، كنت أشعر بالراحة بفضل كل تلك الكتب التي تحميني" .

عاشت حياتها خائفة من الموت والمرض تتذكر ان والدتها اخبرتها انها كانت مريضة عندما حملت بها تتناول الكثير من الأدوية. ولأنها كانت ضعيفة للغاية، فكرت في الإجهاض. لكنها بعد ذلك شعرت بي أتحرك داخلها وقررت أن تلدني تقول ان الحظ منها فرصة العيش على الكرة الارضية.

قرأت في طفولتها المبكرة كتب الأطفال المصورة:" أتذكر أنني كنت مفتونًا بقصة استوديو تصوير طبع صورًا لأحلام الناس. وصورة طفل يشعر بالأسف على الأشجار النائمة واقفة في الليل ويغني: "يا شجرة، يا شجرة، استلقي ونامي".، بعدها ستجد نفسها منغمسة في في قراءة الأدب وخاصة دوستويفسكي . قرأت باسترناك عدة مرات وكانت رواياتها لاتفارق مكتبتها .

على الرغم من أن هان كانغ ترفض وضع تعريف ادبي لنفسها إلا النقاد اطلقوا عليها لقب روائية " العزلة والخسارة" . تطرح في معظم اعمالها السؤال، الذي عبرت عنه بطلة روايتها " الكتاب الابيض ": "إذا كنت قادرا على العيش كما تريد، فماذا ستفعل بحياتك

حظيت أعمال هان كانغ باشادة النقاد والقراء لقدرتها على الاستكشاف العميق للطبيعة البشرية من خلال أسلوب الكتابة المتدفق والقوي . وكأنها تقول إن حياتنا اليومية، والأفكار المحدودة المقبولة اجتماعياً التي تدعم تلك الحياة، فضلاً عن حالة كوننا بشراً في حد ذاتها، تشكل عنفاً لا يطاق، تحتضن شخصيات هان أحاسيسها الحية المؤلمة وتمضي في حياتها بشجاعة، قالت انها ادركت بوقت مبكر أن الحقيقة يمكن أن تكون جزءًا من الخيال، تقول انها تعلمت من قراءة ا بورخيس كيف يمكن للانسان ان يعيش الحياة بكل تفاصيلها، سيكون بورخيس حاضرا في صفحات روايتها " "دروس إغريقية - ترجمة محمد نجيب - ". والتي وصفت بانها صرخة صمت، حيث تحارب اللغة ضد الفناء. بطلة الرواية امرأة فقدت صوتها وأمها وحضانة ابنها. لمكافحة هذه المآسي، تلجأ إلى لغة ميتة - اليونانية القديمة - في محاولة لاستعادة ما سُلب منها. وستجد أستاذا أعمى يشبه بورخيس، يساعدها على الاجابة على الاسئلة التي تحيرها وستكون هذه العلاقة العمود الفقري لرواية تثير العديد من الأسئلة: كيف نعيش بدون صوت؟ ماذا لو علمنا أننا سنفقد بصرنا؟

في اشهر رواياتها " النباتية " تقدم لنا هان كانغ صورة بالغة الروعة والدقة عن الوضع الاجتماعي الذي تعيش فيه المرأة في العصر الحديث، وتطرح اسئلة عن الظلم والتمرد والاختلاف بين البشر، والجنون الذي يصيب الانسان في لحظة ضعف من خلال حكايات ابطالها.

في الصفحة الاولى من الرواية يخبرنا السيد تشيونغ عن زوجته التي قررت فجأة الامتناع عن تناول اللحوم وطبخها، وهو يعطينا انطباع عن نظرته الى زوجته هذه: " لم أكن أرى شيئاً مميزاً في زوجتي قبل أن تصبح نباتية، وأقولُ بصراحةٍ إنني لم أشعر بانجذابٍ نحوها حين رايتها أول مرَّة " فهي في نظره: " قليلة الكلام .كانت القراءة – لسبب غير معلوم – شيئا تغمس نفسها فيه، تقرا الكتب التي تبدو مملة الى درجة انني لا استطيع ان احمل َ نفسي على مطالعة اكثر من اغلفتها " .. لماذا اصبحتُ نباتية تبرر الزوجة " يونغ هاي " فعلها هذا بحلم رأت فيه فمها وثيابها ملطخة بالدماء، ووجهها ينعكس في بركة دم، فيما تمسك بسكين تقطع به اصابع يدها . بعد ذلك الحلم تبدا تتحول إلى كائن يتصرف بغرابة، فلا تطيق اللحوم ولا تطيق الاقتراب من زوجها وملامسته والنوم معه، لأنه يذكرها برائحة اللحوم، الزوج الذي يشكو تصرفات زوجته يبدا باثارة حملة ضدها تدفع والدها إلى معاقبتها بضربها، ووضع اللحم بالغصب في فمها. ترد على العقوبة بقطع شرايين يدها، وعندما تنقل الى المستشفى تقرر خلع ثيابها والوقوف في حديقة المستشفى على يديها ورأسها كالشجرة حيث تحلم بأوراق تنبت من جسمها، قائلة إنها لم تعد حيواناً وإنها تحتاج فقط الى الماء والضوء. .انها تتذكر الآن حياتها حيث كانت ضحية لعنف الأب الذي ظل يضربها حتى بلغت الثامنة عشرة من عمرها .

في القسم الثاني من الرواية سنتعرف على زوج شقيقتها، مخرج افلام فديو، يفاجأ ذات يوم حين يرى ملصقاً لعرض مسرحي فيه ررجال ونساء عراة إلا من رسوم لأزهار ملونة على أجسادهم. خطرت له فكرة تصوير فيلم حين علم من زوجته أن على جسد شقيقتها علامة ولادة زرقاء صغيرة اشبه بالنبتة. كانت " يونغ هاي" بشعة ربما مقارنة بزوجته، لكنها تشعُ طاقة، وبدت له مثل شجرة في البرية. يزورها في المستشفى متظاهراً أن شقيقتها قلقة عليها، توافق في النهاية على فكرته ان أن يصوّرها،

في الاستوديو، يرى العلامة الشاحبة الزرقاء - الخضراء. يرسم جسمها بالأزهار بدءاً بالعلامة، ويصوّر نفسه وهو يرسمها. كان جسدها جسد شابة جميلة يُفترض أن يكون موضع الرغبة، لكنه خلا منها تماماً لرفضها الحياة فيه وتركها لجمالها يذبل مع الايام .

بعد منحها جائزة البوكر اكدت اللجنة المشرفة على الجائزة ان هان كانغ نجحث في " النباتية " بـ " إظهار التلاحم الطريف بين الجمال والرعب عبر قصة مركزة ودقيقة ومروعة، عن امرأة تستحيل إلى نباتية بين يوم وليلة دون أي مسوغات، سوى الكابوس الذي نبش حلمًا من أحلامها في إحدى الليالي"، وقال الناقد البريطاني بويد تونكن الذي راس لجنة تحكيم البوكر أن: " هذه الرواية الموجزة والمقلقة والمكوّنة بشكل جميل تتتبع رفض المرأة العادية لجميع الاتفاقيات والافتراضات التي تربطها قسراً بمنزلها وعائلتها والمجتمع في أسلوب غنائي يكشف عن تأثير هذا الرفض الكبير على كل من البطلة نفسها وعلى من حولها. سوف يظل هذا الكتاب الصغير والرائع والمزعج طويلاً في العقول، وربما في أحلام قرائها. "

تطرح هان كانغ في " النباتية " فكرة المعاملة السيئة للنساء، فالبطلة حين تتحول إلى نباتية تلام بشدة، ويَصِمونها بالجنون، وكأن ليس من حقها أن تختار، بل هذا الخيار الحرّ نحو ما يلائم شخصيتها لا وجود له في عالم المرأة المتزوجة، هذا الانتهاك الذي يتعرض لحريتها الشخصية ربما هو المبعث الأساسي لفشل حياتها الزوجية، ليس هذا فحسب، بل إن الرواية أيضًا تظهر طبيعة المجتمعات التي لاتتقبل اختلاف الآخر، قالت " هان كانغ " بعد فوزها بالبوكر:" "أردت أن أصف امرأة يائسة لم تعد تريد أن تنتمي إلى الجنس البشري. فالبشر يرتكبون العنف، فكيف يمكن لي أن أتقبل أن أكون أنا واحدة من هؤلاء البشر؟ هذا النوع من المعاناة دائما يطاردني ".

روايتها أفعال بشرية- نرجمها الى العربية محمد نجيب - تدور أحداثها حول انتفاضة ايار عام 1980 التي شهدتها المدينة التي ولدت فيها " غوانغجو "، وقد قدرت أعداد ضحايا المواجهات بين الشرطة وتالمتظاهرين بالمئات، حيث تصور الرواية الاحتجاجات المطالبة بالديمقراطية بعد اغتيال الدكتاتور بارك تشونك سنة 1979، حيث أحكم الجيش قبضته على الحكم وقمعَ الحركات التي برزت في الجامعات وأطلق الرصاص على المتظاهرين.قالت انها كتبت " افعال بشرية "

عن الراحلين والباقين والعالقين بين الرحيل والبقاء. انها " رواية يرويها أحياء عن أموات وأموات عن أحياء " .

قالت هان كانغ انها تنبأت بان الادب الكوري سيجد له مكانا على خارطة الادب العالمي، وبعد فوزها بجائزة البوكر صرحت لجريدة الغارديان البريطانية:" إن الفوز بجائزة أدبية دولية لن يكون مشكلة بعد الآن".

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

 

في المثقف اليوم