قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: قراءة هيرمينوطيقية - نفسية في:

شعرية الوصية ومأساوية الوجود في قصيدة "تركت لكم ما أحب"

يأتي نص الشاعر الفلسطيني محمود السرساوي "تركت لكم ما أحب" بوصفه شهادة شعرية مكثّفة تتجاوز البعد الشخصي إلى أفق إنساني ووجودي، حيث ينفتح النص على قضايا الفقد والميراث الرمزي ومواجهة الزمن. إنّه نصّ يتجاوز الحكاية البسيطة إلى بناء أسطوري-رمزي يتكئ على لغة الوصايا والنبوءات، ويغدو فيه الفعل الشعري أقرب إلى فعل خلاص روحي يمنح "الآخر" ما لا يمكن أن يُفنى: المعنى، الأمل، والجمال.

في هذه الدراسة سنعتمد المنهج الرمزي الأسلوبي لتفكيك البنية الدلالية والخيال الرمزي، والمنهج النفسي لفهم الحركية الشعورية العميقة في النص، إضافة إلى المنهج الهيرمينوطيقي (التأويلي) لتأويل أبعاد الخطاب واستنطاق طبقاته المعنوية، في ضوء حوار النص مع ذاته ومع قارئه.

- في مجال البنية الرمزية للوصية – من الملموس إلى المتعالي.

يبدأ النص بفعل تأسيسي: "تركت لكم ما أحب"، حيث يتجلّى منطق الوصية كهيكل نصّي شامل، يهيمن على حركة الدوال ويوجّهها. لكن المدهش أنّ الشاعر لا يورّث ماديات أو أملاكاً، بل يمنح "سماء تزيد عن الأرض جرحاً"، أي فضاءً فسيحاً مثقلاً بالمعاناة. هنا يتحوّل الميراث إلى رمز مركّب: السماء/الجرح، كأنّ الشاعر يسلّم وصاياه على شكل جراح كونية، لا على شكل عزاء.

هذا المزج بين السموّ (السماء) والجرح (الأرض) يخلق ما يمكن تسميته بـ"رمزية التضاد الخلّاق"، حيث تتحوّل المأساة إلى ميراث جمال، والفقد إلى إمكانية للحب والالتئام: "وقلباً تلوذون فيه إذا ما عشقتم وضاقت عليكم حدود الوطن".

القلب هنا ليس قلباً فردياً بل فضاءً جمعياً، رمز أمومي يحتضن الجماعة في لحظة التيه والاغتراب، ليصبح الوطن البديل حين تضيق حدود الجغرافيا.

- في مجال البعد النفسي – من الأنا المجروحة إلى الأنا المعطاءة

يُظهر النص توتّراً نفسياً عميقاً بين ذاتٍ مجروحة وذاتٍ معطاءة. فالشاعر الذي يقرّح السماء جراحاً، هو نفسه الذي يمنح "هبوب الصباحات بين الأصابع" و"خيل الجموح الذي لا يقال" و"جلال الجمال وخمر الأمل".

بهذه الصور يتبدّى الصراع بين نزعة الألم الوجودي (الجروح، النزف، الغياب) ونزعة التخطّي والإحياء (الأمل، الخلود، الصباحات). من منظور التحليل النفسي يمكن قراءة النص كتعبير عن آلية التحويل التسامي، حيث يتم تحويل الألم الشخصي إلى طاقة شعرية خلاقة تثمر جمالاً ومعنىً للآخرين.

* في مجال القراءة الهيرمينوطيقية – النص بوصفه خطاب خلاص

إذا كان التأويل الهيرمينوطيقي ينطلق من أنّ النصوص الكبرى تُقرأ بوصفها محاولات لفهم الوجود، فإن "تركت لكم ما أحب" هو نص خلاص: إنه يقدّم "ما أحب" لا بصفته حنيناً ذاتياً، بل كدعوة للآخر للعبور من الألم إلى المعنى.

إنّ تكرار اللازمة "تركت لكم ما أحب" ثلاث مرّات لا يمكن اعتباره مجرّد تأكيد، بل هو إيقاع طقسي يضفي على النص بعداً شعائرياً، وكأنّ الشاعر يؤدّي صلاة الوصية. هذا الإيقاع يتكامل مع موسيقى الألفاظ: (هبوب – الجموح – جلال – الخلود – شلال)، حيث ينحت السرساوي معجمه على إيقاع تصاعدي يحاكي حركة الروح من الأرضي (الجرح) إلى الكوني (الخلود).

في مجال الصور الشعرية والإيقاع

يمتاز النص بكثافة الصور ذات البعد الحلمي: "شلال لوز من النزف يولد خلف الجبال وبين الظلال وفوق السفوح"، صورة تجمع بين قسوة النزف وعذوبة اللوز، بين الموت والميلاد، في مشهدية شبه رؤيوية. أما الإيقاع الداخلي فيقوم على التكرار الدائري (تركت لكم ما أحب)، والتوازن التركيبي في الجمل: (سماء تزيد عن الأرض جرحاً / قلباً تلوذون فيه)، بما يعزز من البعد التراتلي الطقسي للنص.

- خاتمة

"تركت لكم ما أحب" ليست مجرد قصيدة وصية، بل بيان شعري فلسفي يقدّم ميراثاً من الجراح والجمال معاً. إنها كتابة تعيد صياغة مفهوم الإرث من كونه امتلاكاً إلى كونه معنىً مشتركاً يُترك للآخرين: الأمل، الجمال، الحب، وحتى الألم بوصفه ذاكرة جمعية. بهذه القراءة، يتضح أنّ السرساوي يبني نصّه على أساس تأويلي-وجودي يجعل من الشعر وسيلة لمداواة الجرح بالمعنى، ومن الوصية أفقاً مفتوحاً يتجاوز حدود الفرد والوطن إلى كونية الروح.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

....................

تركت لكم ما أحب

سماء تزيد عن الأرض جرحا

وتنفض عنكم غبار الزمن

وقلبا تلوذون فيه إذا ما عشقتم

وضاقت عليكم حدود الوطن

تركت لكم ما أحب

هبوب الصباحات بين الأصابع

خيل الجموح الذي لا يقال

جلال الجمال، وخمر الأمل

وصبوة قلب تزور خطاكم

بكل السطور وكل الفصول

 وكل المقل

تركت لكم ما أحب

طيوف الخلود بشهوات روحي

ومليون نجم يقود الكلام

ويتلو السلام بملء جروحي

وشلال لوز من النزف يولد

خلف الجبال وبين الظلال

وفوق السفوح

 

في المثقف اليوم