قراءات نقدية
جمعة عبد الله: قلب ألام لم يخطئ أبداً في رواية "صرخة من ذاكرة امرأة"

لحسن الموسوي
صرخة من ذاكرة امرأة: يضعنا السرد الروائي أمام عدة حالات شعورية عميقة وبليغة في المعنى والرمزية الدلالة، في ذاتية شعور أم فقدت ابنها الصغير، نتيجة انفجار سيارة مفخخة في حي شعبي وقرب بيتها، فتناثرت اشلاء الضحايا ومن جملتهم أطفالها الثلاثة، ربما عقلها يسلم للأمر الفاجعة الحزينة، لكن قلبها يرفض ذلك، بأن طفلها الصغير (صبيح) ما زال حياً لم يطاله الموت في الانفجار المرعب، بذا الشكل يغوص السرد الروائي بتفاصيل الحدث الجلل، ويرسم بريشته فنية مبدعة في وضع لوحة الواقع في الاطار الصورة العامة، والحياة العامة بكل التفاصيل الدقيقية، في ظل الرعب الذي يطال الناس ويمزق سكينة الحياة ومعيشتهم، من الانفجارات المرعبة التي تنفجر في الأماكن العامة المزدحمة، وخصوصاً الأحياء الشعبية، أو وصف وتصوير الحالة العراقية المأساوية في ظل الارهاب الدموي، بأن عامة الناس الابرياء، هم الضحايا، وهم من يدفعون ضريبة الدم من الافعال الطائشة والعشوائية من الجماعات الارهابية المتطرفة، التي هدفها تدمير وتخريب العراق، في الإفراط في رعب الدموي في كل مكان (لقد بات الوضع مقلقاً جداً، واخذت الامور تنحى منحى خطراً، حينما بدأت السيارات المفخفخة بزرع الرعب في نفوس المواطنين الآمنين، حتى بات الجميع يرى اي سيارة تمر بالقرب منهم، وكأنها الوسيلة الوحيدة التي ستنقلهم الى العالم الآخر)، براعة السرد الروائي للأحداث يتحرك على مساحات واسعة من الواقع الفعلي والتصوير الشعوري، بين المعطيات على الأرض والخيال، بين الحقيقة والوهم، بين الشك واليقين، يزيد من فعاليته في حراكاته الدراماتيكية الصاعدة الى الذروة، باللغة السردية المرهفة والمشوقة، التي تجذب القارئ من خناقه، لمتابعة مسلسل الاحداث الدرامية في حوراراته، أومتابعة مسلسل الموت، وقد اخذ شكل سيناريو في المونتاج السينمائي، في مسلسل الموت الطويل، ومن ناحية الايغال في الهواجس القلقة لقلب الام المفجوعة، ودورها بارزاً، ليس فقط في صلب الاحداث المتن السردي فحسب، وانما في تصاعده الى عمق الازمة النفسية، يغوص في سايكولوجية الام، التي ترفض بأن الموت خطف طفلها الصغير (صبيح) لذلك وجدت الملجأ الوحيد لمدارات فاجعتها، هي الغوص الاحلام، ومخاطبة الاشباح في الليل، لكي يعلموها بمصير أبنها المفقود، تخلت عن كل الامنيات، سوى أمنية واحدة لا غيرها (- أمنيتي الوحيدة هي أن أعرف مصير أبني المفقود (صبيح) أخذت الاشباح بالتشكيل على هيئة حلقة وخذوا تشاورن فيما بينهم) هذا شعور الام المؤلم في عسف الانتظار الصعب والمرهق، حتى يطل اليقين وتتضح الصورة الحقيقية، لكي يبدد الشك، هذا الاحساس العميق يمور بغليانه في شعورها الداخلي للام، كأنه يلسعها بسياخ النار . وتدور مسيرة حياتها على هذا المنوال، في عملية تراجيدية لم تتوقف، حتى اتهمها زوجها (حميد) بالجنون والهذيان في الاحلام وصوتها العالي، وهي تخاطب الاشباح في الليل، كأنهم هم شفاعتها في كشف حقيقة أبنها المفقود، رغم ان زوجها يعتقد جازماً بأن اطفاله الثلاثة جميعهم طالهم الموت، وسلم أمر للقدر، بأنهم اصبحوا شهداء من طيور الجنة (- أنت مؤمن بالله ومؤمن بالقضاء والقدر، أحتسبهم شهداء عند الله) لانه تلقى وقائع الاحداث الدموية من زوجته التي اصابت بالحادث ايضاً ونقلت الى المستشفى وكذلك من احاديث الناس (- تقول زوجتي انها رأت أولادك الثلاثة وهم يلعبون عند الباب داركم، وبعدها حدث انفجار عنيف بالقرب منهم، عثرنا على جثة أثنان منهم، اما الثالث فلم نعثر له على اي اثر) ولكن دفنوا في ثلاثة قبور، يزورانهم بين فترة واخرى، لكن الام ظلت على اصرارها العنيد بأن طفلها الصغير، لم يخطفه الموت، ضاق زوجها ذرعاً من هذيانها الجنوني، وهددها بالطلاق لانها اصبحت مجنونة (- حسناً، ما دمت مصرة على هذا الجنون اذهبي وانت طالق، سوف اذهب الى عملي، وعندما أعود لا اريدك أن أراك هنا) تركها وحيدة في محنتها الصعبة وحيدة، وتزوج غيرها، تركها في حزنها المؤلم، وهي تناجي من يسعفها ويخرجها من هذا البئر العميق، سوى الاستماع بدموع باكية الى اغنية المطرب الكبير (حميد منصور) في اغنيته المشهورة جداً، بين الناس تقول بعض كلماتها (تجينا .. تجينا / ردتك تجينا .. راحت واجت الايام ... / ردتك تجينا .. علينا .... علينا ...... بس مر علينا ...... وتورد الاحلام .... من تمر علينا) وفي تطور الأحداث الدراماتيكية، يزور الاب (حميد) قبور اولاده الثلاثة، ويلتقي مع أحد الشيوخ، الذي يدعي بمخاطبة الموتى و يدخل في حوارات معهم، ويقول لكل ميت له قصة لم تكتمل فصولها النهائية، ولكنه يوجه كلامه الى الاب الذي فقد أطفاله الثلاثة، يخبره بالخبر اليقين (- ابنك الأكبر يسلم عليك ويقول ان اخاه الاصغر لم يغادر عالم الاحياء، وان صحيفته في عالم الأموات مازالت مطوية ولم تنشر حتى الآن) عندها شعر بالندم الشديد في الاساءة الى زوجته وأم أطفاله الثلاثة، اتهمها بالجنون والهذيان . وبعد ذلك يأخذنا السرد الروائي الى مقولة (الله يمهل ولا يهمل) بعد سنين طويلة، في حادثة خلاف مالي بين اثنين شركاء في ادارة متجر تجاري، أحدهم كشف السر الذي كان مطوياً لسنوات، بأن شريكه في المحل اشترى طفلاً صغيراً بعد الفاجعة في انفجار عنيف في إحدى الأحياء الشعبية، ويعرف عائلة الطفل المفقود من سنوات، وفي صبيحة احد الايام طرق باب بيت (حميد) واخبره بأن طفله الصغير المفقود مازال حياً، وفي مشهد دراماتيكي ليؤكد ان قلب الام لم يخطئ مهما كانت الأحوال، في عرض بعض الشبان يسيرون أمامها وحين جاء الدور على ابنها انهضت مرعوبة لتاخذ الشاب في حضنها وهي تبكي وتصرخ بكل قوة الشوق والحنين هذا ابني (صبيح) وليس اسمه (احمد) كما ينادونه (- هرولت اليه مسرعة واحتضنته وغابت عن الوعي لتهوي بكامل حزنها) واخذوا يرشون الماء على وجهها لمحاولة ايقاظها، وحينما عادت الى وعيها ورشدها قالت باكية العينين (- ألم أقل لكم بأني لست مجنونة / ألم أقل لكم بأن ابني حي يرزق / أين أنت يا حميد / تعال وانظر الى ابنك / تعال و كفر عن سيئاتك / لقد طلقتني بسبب إحساس الأم الذي لا يخيب أبداً / سامحك الله ياحميد / سامحك الله) .
***
جمعة عبد الله – ناقد وكاتب