قضايا

1-هل نجح أركون في التمايز عن العلمانية المتطرفة؟

توطئة: يتألف هذا النص من أربعة فصول من الباب الثالث من مخطوطة كتاب جديد قيد التأليف بعنوان "الأبواب الأربعة - مقاربات فكرية لبعض مؤلفات الراحلين الأربعة: هادي العلوي، محمد عابد الجابري، نصر حامد أبو زيد، ومحمد أركون" وسأنشرها هنا بعد إجراء بعض التغييرات الشكلية الأسلوبية الضرورية لتسهيل نشرها كمقالات. وعناوين الفصول هي:

1-هل نجح أركون في التمايز عن العلمانية المتطرفة؟

2-تفكيك المصادرات الأورومركزية

3-خرافة الصراع الطائفي "السُني الشيعي" يقسم التاريخ الإسلامي

4- العقل كمفهوم ومصطلح في البحث التراثي المعاصرة

لنبدأ بالعنوان الأول: هل نجح أركون في التمايز عن العلمانية المتطرفة؟

لعل واحدا من أهم المفاتيح المفاهيمية والمنهجية في فكر الباحث محمد أركون هو القول بدائرية العلاقة بين الفكر واللغة والتاريخ. صحيحٌ أنه لم يُفرد مؤلفاً خاصاً بهذه العلاقة الإشكالية ومشمولاتها، رغم ما تحتويه من مضامين مفصلية، ولكننا في الواقع نعثر له على وقفات مهمة، ومفاتيح مفاهيمية بدئية بهذا الخصوص، بين تضاعيف مؤلفاته. بل يمكن القول إنَّ هذه الفكرة التأسيسية الجدلية عن هذه الدائرة الثلاثية حكمت عميقا أغلب، وربما كلَّ إنتاجه الفكري.

إن القول بهذه العلاقة ينفي ويعاكس تلقائياً القول بنقيضها أي بخطيتها، بتراكميتها العفوية، بسيلانها على غير هدى، كما إنه يرفض القول بسببيتها الظاهرية -إن وجدت -  والتي أريد لها أن تكون الركيزة التفسيرية الوحيدة، والأهم، لكل إشكالات الفكر الإسلامي الكلاسيكي والمعاصر، لتكون الحيز التعارضي المنتِج بين ما هو تاريخي جدلي وما هو نمطي منقطع عن تاريخه الخاص.

إن أركون يصرح بهذه المعاني في مواضع كثيرة من مؤلفاته الرئيسية ومن أبرزها مقدمته للترجمة العربية لكتابه التأسيسي "تاريخية الفكر العربي الإسلامي". وفيه يستنتج أن الأخذ بهذه الدائرية التفاعلية، ورفض الخطية والسببية، سيؤكد تاريخانية اللغة العربية. بمعنى، أن لهذه اللغة، كسائر اللغات الحية وغير الحية، تاريخها الخاص. وأن لها منظومتها المفاهيمية والتي يسميها "نظام الدلالات الحافّة والمحيطة أي الدلالات الثانوية المحيطة بالدلالات الأصلية"،  تلك المنظومة المرتبطة بالنزاعات الأيديولوجية بين القوى الاجتماعية في التاريخ الفعلي. يضرب أركون لقارئه مثالاً هنا، هو واقعة سيادة المذهب الأشعري في أصول الدين، وتَغَلّب المذاهب الفقهية المعروفة الأخرى في أقطار إسلامية عديدة. تلك السيادة التي لم ينتج عنها تقديم ما يسمى أحيانا "دين الحق" أي المذهب السائد كأرثوذكسية أيديولوجية متكاملة لجمهور المؤمنين، فيما يخص العقائد والشريعة بغض النظر عن تعارضها مع ما أنتجته المذاهب الأخرى، ليتم تكريسها بصفتها تلك.

يستنتج أركون – بناء على ذلك – سردية واقع الحال التاريخي التالية: سار تاريخ الفكر الإسلامي طوال قرون وقرون سيرا متوازيا، فاصلا وعازلا بين أرثوذوكسية "أهل السنة والجماعة" السُنية، وأرثوذوكسية "أهل العصمة والعدالة " الشيعية، وأرثوذوكسية المُحَكِّمة الشُراة الخوارجية.

هذه الأرثوذوكسيات" الأصوليات النسقية " الثلاث الكبرى، ظلت -كما يرى أركون- تسير كُلاً في قالبها التاريخي وبمعزل عن الأخريات. كما أن القول بهذا المفهوم الستراتيجي لا يعني – وقد حرص على تأكيد ذلك في أكثر من مناسبة – الفصل بين مكونات ثلاثية الفكر واللغة والتاريخ الدائرية (لأنني أعرف أن اللغة والفكر في تفاعل مبدع ومستمر، وكلاهما يستمد غذائه المشترك وديناميكيته الخلاقة من الممارسة الوجودية "الحياتية" اليومية، أي من التاريخ الفردي والجماعي معا. / ص 8 مقدمة المصدر السابق. م س) ورغم أنه واظب على تقديم فهمه الخاص، ومعالجاته التفصيلية والمسهبة، في الإسلاميات الكلاسيكية والمعاصرة، وفي العلمانية ومقترباتها، دون مداهنة أو مجاملات مناسباتية لمناوئيها من حملة الخطاب السلفي السائد عربيا.

ولكنه ميَّز نفسه عن باحثين عرب معروفين، اختلط فكرهم "العلماني المتطرف" بفكر المعادين للإسلام والفكر الإسلامي أيا كان، ولأسباب أيديولوجية وسياسية واجتماعية، حتى بات من العسير فصل كتابات هؤلاء عن كتابات أساتذتهم وأقرانهم الغربيين سواء كانوا مستشرقين أو مخططين ستراتيجيين في المؤسسات الثقافية الرسمية أو دراسي تاريخ وديانات ينطلقون من دوافع أورومركزية صريحة بل عنصرية أحيانا.

إن هؤلاء الذين تحفل صحف ومجلات عربية رسمية أو شبه رسمية بكتاباتهم،  ينطلقون غالبا من أراء وأحكام سلبية مسبقة، تعتبر الإسلام، دينا وحضارة،  والفكر الإسلامي القديم والحديث، كُلاً واحداً مستغرَقا بالسلبية والسلفية الإرتكاسية والرجعية السياسية؛ محاولين تفسير حالة العالمين العربي والإسلامي البائسة الراهنة، انطلاقا من هذه السلبية الدينية والحضارية المزعومة في صورتها السلفية الأكثر فظاظة "السلفية الجهادية اللادنية / نسبةً لابن لادن" لا العكس، بل إن أركون لا يستثني العلمانية الغربية "المتطرفة" والمنهجيات المدرسية المنطلقة منها لدراسة سواها أو لدراستها هي بالذات، من نقده العميق والجذري، متجها إلى، ومنطلقا مما يمكن أن نطلق عليه علمانية مناضلة متفاعلة مع واقعها وخصوصياته العربية الإسلامية ومفارِقة للعلمانية في زيها الفرنسي الروبسبيري المتطرف وللاستشراق النمطي الملوث حتى النخاع  بتمظهرات الأورومركزية المعاصرة الفاقعة.

وقد يبدو هذا الاستنتاج المعياري متقاطعا مع استنتاجات وأحكام معيارية أخرى لعل من أشهرها ذاك الذي طرحه الراحل هادي العلوي. ولأهمية هذا المفصل من موضوع تقييم منهجية أركون البحثية، فسوف نخصص له فصاً مستقلاً نعيد فيه قراءة وتحليل بحث خاص به للراحل العلوي بعنوان "إشكاليات محمد أركون ومنهجياته التطبيقية" في ضوء بعض أبحاث الراحل أركون ذات الصلة.

من نقاط الضعف والمؤاخذات المنهجية التي يسجلها أركون على الجهاز المفاهيمي الذي يدعوه "الاستشراقي الغربي التنقيبي "، صمت هذا الجهاز والآخذين به من مستشرقين ومفكرين غربيين، على التخصصات والتفرعات والتصنيفات ذات الأبعاد والمضامين الأيديولوجية وغير المعرفية الموروثة من العقل الإسلامي الميتافيزيقي في العصر الكلاسيكي. والتي "تصادفت / والمفردة لأركون " مع تصنيفات وتخصصات مماثلة في الغرب الأوروبي ذاته، وخصوصا في ميدانَيْ الفلسفة والثيولوجيا "علوم اللاهوت والعقائد الدينية". ولذلك دعا إلى دراسة معمقة بهدف كشف وسبر أغوار ومعرفة أسباب هذا التصادف ومعرفة ظروفه الأيديولوجية والثقافية لمعرفة وكشف التواطؤ السري ( والعبارة لأركون أيضا/ ص13 م س) بين علم الإسلاميات الغربي "الاستشراق" وأنماط التفكير والفرضيات والتحديدات التي رُسِخَت في الغرب من قبل الباحثين المشتغلين في علم اللاهوت والميتافيريق المسيحي الكلاسيكي والمنهجية الفيللوجية "فقه اللغة ودراسة النصوص المقارن"، والتاريخانية، ولعل المثال الذي ضربه أركون في هذا الميدان وهو الجزء الأول من كتاب  "تاريخ الأدب العربي" المعتمد في جامعة كمبردج يوضح مرامه بشكل دقيق وعياني.

كان أركون يخشى سوء الفهم، ومن القارئ العربي خصوصا، ولعله كان على اطلاع على الزوابع اللفظية التي أثارها بعض المعلقين والقراء المنطلقين من خلفيات تكفيرية سلفية جاهزة لمؤلفاته ولمؤلفات زملاء آخرين له من أمثال الجابري وأبو زيد. ولذلك كان يدعو القارئ عامة والعربي بشكل خاص إلى ما يسميه "حسن الظن" بالمؤلف والباحث المشتغل على هذه المنظومات والأجهزة المعرفية الحديثة، والتي ليس من السهل استيعابها واستنباتها في بيئة ثقافية لها من المواصفات ما للبيئة المعرفية والثقافي العربية من دون أن يمر من الوقت ما هو ضروري ليتحقق ذلك الاستيعاب والاستنبات المعرفي. ولكن، هل كان حسن الظن كافيا لتسريع السيرورة، وتكريس المعادلة الفكرية النقدية الجديدة؟ لا نعتقد ذلك، ولهذا كان الباحث يطلب من مترجميه وشراحه، وخاصة تلميذه ومترجم أغلب أعماله هاشم صالح، أن يكثروا من الشروح والهوامش والتعريفات للنصوص التي يقدمها على أمل أن يسهل عملية استقبالها.

ولكنه مع ذلك، لم يكن متساهلاً أو مداهنا في ميادين معالجاته وأبحاثه الفكرية، وخصوصا تلك الأكاديمية والتخصصية البحتة في علوم الانثروبولوجيا والإلسنيات وما إلى ذلك؛ على اعتبارٍ أساسي كان يؤمن به عميقا وهو عدم الخلط بين ما هو معرفي "إبستمي" وما هو أيديولوجي نمطي منقطع وطارئ. حتى بلغ به الأمر مبلغاً جعله يكتب ذات مرة بلهجة التحذير ما يلي  (لا يحق لأحد، وخاصة إذا كان عالماً راسخاً في العلوم الدينية على الطريقة المستقيمة السائدة في كل مذهب من المذاهب الأرثوذوكسية المعروفة أن يعقب أو يتدخل في مناقشة، ناهيك عن تكفير الآخرين، ما لم يحط علما بما قصده علماء اللسانيات المعاصرون بمفاهيم وأدوات  نظام الدلالات الحافة والمحيطة كما فعل الغزالي في كتابه "فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة"...ص 9 م س )، ليضرب مثالاً على سوء الفهم المأساوي الذي يحصل نتيجة ذلك الخلط وعدم دراية ومعرفة المعقب بتلك العلوم الحديثة بما حصل حين  ترجم الباحث الإسلامي عادل العوا عبارة "لو كوران إي تن ديسكور دي ستركتشر ميتيك/ ص10 م س " الواردة في كتابه " الفكر العربي" إلى العربية كالتالي : القرآن خطاب أسطوري البنية. فقد هوجم هذا المفهوم وأدين هو ومن رواءه، مع أن الترجمة صحيحة لغويا، ولكنها مقطوعة عن سياقها، والسبب هو أن كلمات: خطاب، أسطوري، بنية، لم تكن مما هو مُفَكَّر فيه علمياً وكما ينبغي في اللغة -والحضارة -العربية من ناحية، ومن أخرى، لأن المُدين والمهاجِم يستقي دلالاته من مصدر أوحد هو فقه اللغة التقليدي التراثي الميت لا من علوم اللسانيات الحديثة، ومن التاريخ الروائي الخطي التراكمي لا من التاريخ الفعلي الحقيقي المتفاعل مع الفكر واللغة ديالكتيكيا.

إن أركون لا يريد - كما قد يفهم البعض- بكلامه وتحذيراته هذه، منها تحذيره لقارئ نصوصه باللغة العربية فقط من إصدار الأحكام القطعية، أن يجعل ميدان الدراسات الإسلامية والتاريخية وغيرها حكرا على الأكاديميين المتخصصين بالعلوم الحديثة المذكورة هنا، بل هو يحاول أن يحدد سياقات  ومَدَيات وأدوات النشاط الفكري في هذه المجالات وعدم الخلط بين المكونات المختلفة المضامين لأننا في هذه الحالة لن نكون بإزاء نقاد حقيقيين ومشاركين في عملية فكرية تفاعلية مشروعة ومطلوبة بل بإزاء مجموعة أشخاص ثرثارين  يجادلون- على سبيل المثال لا التهكم- عالمَ فلكٍ متخصصٍ في علمه فيما هو  يحاول إقناعهم  بكروية الأرض بالقول : إن كانت  أرضك كروية فلماذا لا نتساقط نحن عنها؟

في مناقشته لمفهوم " العقل الإسلامي الكلاسيكي " قد نجد مثالا أكثر وضوحا وكثافة في آن على منهجية أركون المخترِقة لطبقات الموضوع ولطريقته في استعمال مفردات وأدوات تلك المنهجية:

إنه يبدأ محاولته بإقرار أن المطالبة بوجود عقل خالد منسجم بشكل مسبق مع تعاليم الوحي الإلهي كانت موجودة دائما، ليس في المدارس الفقهية والفكرية الإسلامية فحسب، بل في الديانتين الإبراهيميتين الأخريين اليهودية والمسيحية أيضا، (حيث يبدو العقل متعاليا وخاضعا لتحديدات كلام الله المعنوية وإكراهاته في آن معا. ص 65 م س). وحين ينغمس أركون في محاولته هذه فهو يلجأ إلى أسلوب خاص جدا في اختيار الوسيلة من خلال تجريبها، فهو يبدأ بأن يمطرنا بوابل أسئلة من قبيل: كيف يمكن تحديد هذا العقل؟ أين يمكن اقتناصه؟ هل يمكن العثور عليه في كتاب أو نص معين؟ هل يجوز أخذه من هذه المدرسة أو ذلك المذهب؟ ليضع أمامنا على الطاولة ثلاثة خيارات: فهو إما أن يبدأ بدراسة موضوع العقل الإسلامي الكلاسيكي بدءا من لحظة نزول "القرآن" وبدء حركته التاريخية وتتبع مسار هذه الحركة خلال القرون الأربعة التالية، وإما – وهذا هو الخيار الثاني -  أن يقوم بذلك عبر استعراض مفاهيم مفردة "عقل" في جميع النظم والمدارس الإسلامية ليتم بعد ذلك تحديد واختيار أجدرها بالصفة والتوصيف. أو- وهذا هو الخيار المنهجي الثالث-  أن يختار نصا " كتابا أو مؤَلَفا " ذا مساس بموضوع العقل الإسلامي لينطلق منه بالدراسة نحو الأمام أو الخلف التاريخي. ولأن الخيار الأول يعني الأخذ بالمنهج التاريخي  الخطي كما تكرس في أمهات الكتب القديمة كتاريخ الطبري وابن كثير وسواهما، الأمرُ الذي لن ينتج منه شيئا على الصعيد العلمي  غير رصف الوقائع والأخبار المرصوفة مسبقا، ولأن الخيار الثاني يؤدي إلى كسر وحدة أنظمة الفكر التي نستهدف وظائفَها وتكويناتها بالدراسة، وهكذا فلا يبقى أمامه سوى الخيار الثالث ليأخذ به، وليقع اختياره على نص تراثي يصفه بـ " المؤلَف المعياري  الرائز" ألا وهو رسالة الإمام الشافعي، ليتبين ويبين من خلال دراسته لها كيف أن "علم أصول الدين كان قد تبلور لدى الشافعي لأول مرة بشكل متماسك، يتيح لنا أن نستخلص مفهوما فعالا من الناحية التاريخية والتأملية للعقل الإسلامي الكلاسيكي .ص 67 م س". وعلى امتداد صفحات وصفحات يلاحق أركون مفردات وثنايا المنظومة الفكرية التي تستبطنها رسالة الشافعي، والتي تتمحور على ميادين الفلسفة السياسية وإبستملوجيا القانون، والروابط بين الحقيقة والتاريخ، وبين التاريخ واللغة والقانون في آنٍ معا. مقدما عبر هذا المسار التحليلي خلاصات وتأملات وتساؤلات واستنتاجات تعميمية وأخرى غير تعميمية مهمة تشكل علامات فكرية جديدة ومفيدة في ميدان الدراسات الإناسية "الانثربولوجية" واللسانيات "العلاماتية - السيموطيقية" الخاصة بالإسلاميات.

ربما يكون محمد أركون قد لخص بنجاح هدفه الأهم من محاولته الفكرية والبحثية التي استغرقت حياته العلمية كلها، كما عبر عن ذلك في مؤلَفه "أين هو الفكر الإسلامي / دار الساقي"، حين صرَّح موضع ذاك برغبته أولاً في زحزحة الإشكالية الإسلامية الخاصة بالقرآن من أجل التوصل إلى مقاربة أنثروبولوجية للأديان المدعوة بأديان (الوحي). كما أراد – ثانياً - دفع الفكرين، اليهودي والمسيحي، على القيام بالزحزحة نفسها من أجل دمج البحث القرآني داخل بحث مشترك حول المكانة الأنثروبولوجية للخطاب الديني الحامل للوحي. وكما أراد – ثالثاً - تبيان الأضرار الناجمة عن اختزال الظاهرة الدينية إلى مجرد صيغ عابرة وزائلة واستلابية. ربما يكون محمد أركون قد نجح إلى هذه الدرجة أو تلك في فعل ذلك، ونيل تلك المرامي البحثية على مستوى النتائج والخلاصات، غير أن الأكيد الذي لا يساورنا فيه شك هو أنه خَلَّف وراءه نتاجاً فكرياً جذرياً وتأسيسياً لم يدخل حتى الآن الميادين الفكرية المنتِجة وهو ما تحتاجه الحياة الثقافية العربية الراهنة التي سيضرب القحط الفكري والمعرفي أطنابه فيها بغيابه وغياب زملائه الراحلين معه.

يتبع

***

..............................

هوامش الفصل:

1-الأورومركزية هي شكل من أشكال المركزية العرقية التي تضع الثقافات والقيم الأوروبية في المركز على حساب الثقافات الأخرى، وتلك نتيجة طبيعية لاعتبارها ثقافات متفوقة نشأت في أوروبا/ ترجمة شخصية/ النسخة الفرنسية من الموضوعة الحرة "ويكيبيديا". أما الموسوعة الاصطلاحية الفرنسية الفرعية “ويكسينري” فتعرف “المركزية الأوروبية Eurocentrique” تعريفا أكثر صراحة فتقول: الأورومركزية تعني في الإيديولوجيا أو الممارسة، بوعي أو بغير وعي، اعتبار الاهتمامات والثقافات والقيم الأوروبية (والغربية عمومًا) اهتمامات وثقافة وقيم عالمية “لكل الدنيا universelles”، والمركزية الأوروبية تشرع الاستعمار وتضفي الشرعية على الاستشراق).  ومعروف أن باحثين يساريين كثر، منهم مثلا رامون غروسفوغل، اعتبروا أن من “الاستحالة فصل الحداثة الاوروبية الأورومركزية عن الاستعمار والتمييز العنصري وأنها نوع من السردية التجميلية لها”!

2--أركون محمد - ترجمة هاشم صالح - دار الإنماء القومي والمركز الثقافي العربي – ط2 –بيروت لبنان – 1996.

3- le système de connotation

4- الأُرْثُوذُكْسية بالمعنى الإصطلاحي تعني جزئيا ما تعنيه "الأصولية – السلفية "حرفيا تعني "الصوابية - نسبة إلى العقيدة الصائبة من وجهة نظر معتنقيها. وهي عبارة يونانية من كلمتين الأولى (أرثوذ) وتعني (الصواب - الصحيح -قويم) والثاني (دوكسا) وتعني (الرأي - الاعتقاد)، وترتبط بكلمة دوكين ومعناها «يُفكر»)، وتُستخدم بصفة عامة للإشارة إلى الالتزام بالأعراف المُتّفق عليها، ولاسيما إلى العقيدة الدينية المرتبطة بالديانات. ويعني المفهوم الضيّق للمصطلح: "الالتزام بالعقيدة المسيحية كما مثلتها المذاهب في الكنيسة القديمة". ولكن البحث أركون وغيره عمموا استعمالها في الحديث عن الديانات والعقائد الأخرى حتى غير الدينية.

5-Le Coran est un discours de structure mythique

التجربة البريطانية

بريطانيا معروفة بنظامها التعليمي المتميز الذي يجمع بين التقاليد العريقة والابتكار المستمر والمرونة والتشجيع على التفكير النقدي والإبداع، حيث يُتاح للطلاب فرصة اختيار المسار الدراسي الذي يتناسب مع اهتماماتهم وميولهم الشخصية. كما تعد المدارس البريطانية من بين الأفضل في العالم من حيث جودة التعليم والبنية التحتية التعليمية حيث يتميز النظام التعليمي بتنوعه الثقافي والأكاديمي، مما يوفر بيئة غنية للتعلم والتطور الشخصي. كما يُعطى اهتمام خاص للأنشطة اللامنهجية التي تُعزز من مهارات الطلاب الاجتماعية والقيادية.

ومن ناحية التمايز تعتبر بريطانيا وجهة مفضلة للطلاب الاجانب الراغبين في الحصول على تعليم عالي الجودة، وذلك بفضل نظامها التعليمي المرموق والمعترف به عالميا، والذي يعتبر من اجدر الانظمة في إعداد اجيال من القادة والمبتكرين القادرين على مواجهة تحديات العصر والمساهمة في تقدم المجتمعات.

مجالات الاستفادة

يمكن للعراق أن يستفيد من تجربة التعليم المدرسي البريطاني في العديد من المجالات، منها:

1. التركيز على المهارات الأساسية: يركز التعليم المدرسي البريطاني على تعليم الطلاب المهارات الأساسية، مثل القراءة والكتابة والحساب، بشكل متين. بالاضافة الى اعتبار التعليم أساسيا لفهم الظواهر الطبيعية وكذلك لتطوير مهارات الطالب اللغوية، والتي تستخدم بشكل يومي في التواصل والتعبير. هذه المهارات ضرورية للنجاح في جميع المجالات، سواء في التعليم العالي أو في سوق العمل.

2. التركيز على التفكير النقدي وحل المشكلات: يركز التعليم المدرسي البريطاني ايضا على تعليم الطلاب التفكير النقدي وحل المشكلات، وتحفيز الطالب على تقديم أفكاره والتعبير عن آرائه، سواء كان ذلك شفويا أو كتابيا، وذلك من خلال اعداد التقارير. وتهتم المدرسة البريطانية بتمكين الطالب من استكشاف الحقائق بذاته عبر الجهد الفكري وتحفيزه على الاستقصاء الذهني والمثابرة في المحاولات بأسلوب "المحاولة والخطأ"، والتي تستمر حتى تحقيق الفهم الصحيح للمسألة. هذه المهارات ضرورية للطلاب للنجاح في القرن الحادي والعشرين، حيث يواجهون العالم المتغير باستمرار.

3. التركيز على التعلم التعاوني: يركز التعليم المدرسي البريطاني أيضا على التعلم التعاوني. يتعلم الطلاب من بعضهم البعض من خلال العمل معا في مشاريع ومجموعات. هذا يساعد الطلاب على تطوير مهارات العمل الجماعي والتواصل. 

4. التركيز على التقييم المستمر: يركز التعليم المدرسي البريطاني على التقييم المستمر. يتم تقييم الطلاب بشكل منتظم على تقدمهم، مما يساعدهم على البقاء على المسار الصحيح. ويقدّر الجهد الفكري، والذي يستند الى التفكير الابداعي القادر على ربط الحقائق بطريقة مبتكرة.

5. التركيز على خلق بيئة محفزة للعمل: يُعد المعلمون حجر الزاوية في أي نظام تعليمي ناجح، ولذلك فأن تحفيزهم وتشجيعهم على التطور والابداع أمر ضروري لضمان جودة التعليم. لذلك تركز ادارة التعليم البريطانية على خلق بيئة عمل ايجابية ومحفزة للمعلمين، وتعزيز شعورهم بالمسؤولية والتمكين، وتشجيعهم على التطور والابداع. من خلال نظام النقط وهيكلية الأقسام ولجان المتابعة والتقييم، تسعى هذه السياسة الى ضمان جودة التعليم وتحقيق أفضل النتائج للطلاب.

مجالات اخرى

ويمكن للعراق ان يستفيد فيها من تجربة التعليم المدرسي البريطاني في بعض المجالات المحددة، منها:

1. تحسين جودة التعليم: يمكن أن تساعد تجربة التعليم المدرسي البريطاني العراق في تحسين جودة التعليم من خلال التركيز على المهارات الأساسية والتفكير النقدي وحل المشكلات، وتبني اساليب تجعل من التعلم تجربة ممتعة وشيقة.

2. زيادة فرص العمل: يمكن أن تساعد تجربة التعليم المدرسي البريطاني العراق في زيادة فرص العمل من خلال تعليم الطلاب المهارات اللازمة للنجاح في سوق العمل.

3. تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية: يمكن أن تساعد تجربة التعليم المدرسي البريطاني العراق في تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية من خلال تعليم الطلاب المهارات اللازمة للمساهمة في المجتمع.

4. خلق بيئة عمل محفزة للمعلمين: من خلال اتباع الممارسات الجيدة في النظام البريطاني، مثل نظام منح النقط للاعمال الاضافية التي يقوم بها المعلم وترجمتها الى زيادة في الراتب، والتي من خلالها يمكن للمدارس خلق بيئة عمل مثالية تجذب افضل المعلمين وتساعدهم على تحقيق امكاناتهم الكاملة، مما ينعكس ايجاباً على جودة التعليم وتحقيق أفضل النتائج للطلاب.

تكييف التجارب

من المهم أن يتم تكييف تجربة التعليم المدرسي البريطاني مع الاحتياجات الخاصة للعراق، بما يتناسب مع السياق الثقافي والاجتماعي المحلي. يجب أن تأخذ عملية التكييف هذه في الاعتبار الخصوصية الثقافية للعراق وانتشار الفساد المالي والمحسوبية والمنسوبية، مع التركيز على تعزيز الهوية الوطنية والقيم المشتركة بين جميع أفراد المجتمع، بعيدا عن الطائفية والعشائرية. يمكن تحقيق ذلك من خلال تعديل المناهج الدراسية لتشمل المزيد من المحتوى الثقافي الوطني، مثل التراث الثقافي المشترك والأداب والفنون والعلوم التي تعكس الإنجازات والتحديات الخاصة بالبلاد.

الاهداف التربوية العراقية

استنادا على فلسفة واهداف التعليم البريطاني نرى ضرورة ان تتضمن الاهداف التربوية العراقية ما مدرج ادناه، وبأن توضع الخيارات والخطط والسياسات لتحقيقها: 

1. تربية الطالب بثقافة المحبة والاخاء بين القوميات والاديان والطوائف ونبذ التعصب بكل اشكاله.

2. تربية الطالب بثقافة الاعتراف بالاخر وثقافة السلم وبالقيم الديمقراطية واحترام حقوق الانسان.

3. ألتأكيد على مبدأ المواطنة الصالحة وحب العراق ووحدته.

4. تربية الطالب بأهمية القوانين واحترامها وبعدم مخالفتها وبحرمة ممتلكات الدولة واموالها، وبتعريفه على حقوقه وواجباته.

5. تنمية الشخصية وحب الاستطلاع والتفكير المستقل وممارسة السلوك المتمدن والعمل التعاوني والمبادرة عند الطلاب.

6. تنمية القدرات اللغوية (عربي وكردي وانكليزي) عند الطفل وأكسابه مهارات الاتصال اللغوي الاساسية.

7. ألتاكيد على اهمية تدريس العلوم والرياضيات وتنمية التفكير العلمي والقيم المرتبطة به والتآلف مع التكنولوجيا، لاسيما الحاسوب، كمصدر للمعلومات.

من الضروري ان يتم توفير تدريب مكثف للمعلمين العراقيين على الأساليب التعليمية الحديثة، بحيث يكونوا قادرين على تطبيق أفضل الممارسات التعليمية. يجب أن يشمل هذا التدريب أساليب التدريس الحديثة، استراتيجيات التقييم، وكيفية دمج التكنولوجيا بطريقة تعزز التعلم وتشجع على التفكير النقدي، في صفوف دراسية منظمة وفقا للتخصصات بدلاً من الأعمار، مما يسمح بتوفير جميع الموارد التعليمية الأساسية في الصفوف لتكون في متناول المعلم عند الحاجة لها.

بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تعطى الأولوية لإنشاء بيئة تعليمية ترحيبية وداعمة، تعزز من التفاهم المتبادل والاحترام بين الطلاب من مختلف الخلفيات الثقافية والاجتماعية وتحبذ التعلم للطلاب. يجب أن تكون المدارس مساحات للتعلم والنمو، حيث يمكن للطلاب أن يشعروا بالأمان والتقدير، وأن يكونوا قادرين على استكشاف هوياتهم الثقافية وتطوير مهاراتهم الشخصية والأكاديمية.

بشكل عام، يمكن أن تكون تجربة التعليم المدرسي البريطاني مصدرا قيما للعراق في تحسين جودة التعليم وزيادة فرص العمل وتعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

***

ا. د. محمد الربيعي

....................

* أعرب عن شكري لصديقي الدكتور حسن صادق الخبير التربوي في بريطانيا لملاحظاته القيمة التي اغنت المقال.

 

النوع A  أ والنوع B  ب هما فئتان رئيسيتان من الشخصية. قد يكون الأشخاص ذوو الشخصيات من النوع أ طموحين وعدوانيين وتنافسيين. قد يكون الأشخاص ذوو الشخصيات من النوع B مسترخين ومرنين وصبورين.

تشير الشخصية إلى نمط العواطف والأفكار والسلوكيات التي تجعل كل فرد على ما هو عليه.

يمكن أن تؤثر الشخصية على كيفية تفاعل الناس مع الآخرين، ونهجهم في العمل، وكيفية استجابتهم للأحداث المجهدة.

قد يكون لدى الشخص شخصية من النوع A أو B اعتمادا على الخصائص الرئيسية التي يعرضها. قد تؤثر هذه السمات على عملهم أو دراساتهم وتفاعلاتهم مع الآخرين. قد تؤثر أيضا على صحتهم.

تبحث هذه المقالة في الاختلافات في شخصيات النوع A و B، والسمات الرئيسية.

ما هي الشخصية من النوع أ؟

قد يكون الشخص ذو الشخصية من النوع أ طموحا ومجتهدا. قد يظهرون خصائص مثل العدوان وقلة الصبر والتصميم.

إذا كان الشخص "مدمن عمل"، فقد يكون أكثر احتمالا لشخصية من النوع أ. قد تتولى شخصيات النوع أ مهام متعددة في وقت واحد، وكثيرا ما تتحمل مسؤوليات إضافية لتحقيقها أو نجاحها.

قد تكون الشخصيات من النوع أ موجهة نحو الهدف وتعمل بوتيرة سريعة، كما لو أنها تتسابق مع الزمن.

قد يشعر الأشخاص من النوع أ بسهولة بالإحباط والغضب وقد يكونون أكثر عرضة للتوتر.

سمات النوع أ

قد تشمل سمات الشخصية من النوع أ ما يلي:

* وجود طبيعة عدوانية

* التركيز على الإنجاز

* العمل الجاد

* واثقة

* الشعور بالغضب أو عدم التسامح بسهولة

* شديد العزم

* غير ودي أو عدائي

* جيد في تعدد المهام

* الشعور بالإلحاح

* القدرة التنافسية العالية

* نفاد الصبر

* يكون متحمسا ومندفعا للغاية

* يكون نشيطا

* التسرع أو الاقتراب من الأنشطة بوتيرة سريعة

* انخفاض الذكاء العاطفي

* يحب السيطرة

* العناد أو وجود آراء ثابتة

ما هي الشخصية من النوع ب؟

الشخصية من النوع ب هي عكس ذلك من نواح كثيرة للشخصية من النوع أ. يميل الأشخاص ذوو الشخصية من النوع B إلى أن يكونوا هادئين وأكثر استرخاء بطبيعتهم.

قد يعمل الأشخاص ذوو الشخصية من النوع B بثبات نحو هدف دون الشعور بالإلحاح الذي قد تظهره شخصية من النوع أ.

عادة لا تشعر شخصيات النوع ب  بالحاجة إلى إثبات قدراتها للآخرين أو الحاجة إلى إظهار التفوق. عادة ما يكون لدى الأشخاص ذوي الشخصية من النوع B مستويات منخفضة من القدرة التنافسية ولا يشعرون بالإحباط بسهولة.

قد يكون الأشخاص ذوو الشخصية من النوع B ودودين ويتعاملون بسهولة مع الآخرين، ويظهرون مستويات منخفضة من العداء أو العدوان.

سمات النوع ب

يمكن أن تشمل سمات الشخصية من النوع ب ما يلي:

* يكون مسالما

* الاسترخاء

* يكون هادئا

* أقل عرضة للإجهاد

* عدم الشعور بالإلحاح لإكمال المهام والتسويف

* عدم وجود صراع مع الآخرين

* يكون مستقرا

* يكون معتدلا

* يكون مرنا وقابلا للتكيف، والتكيف مع التغير بسهولة

* يكون أقل قدرة على المنافسة

* القدرة على التعامل مع الأنشطة والمهام بوتيرة أبطأ

من أين نشأ مفهوم الشخصيات من النوع A و B؟

يعود مفهوم أنواع الشخصية من النوع A و B إلى عام 1959.

استخدم أخصائيا القلب ماير فريدمان وراي روزنمان مصطلح "نمط السلوك أ" لوصف نمط معين من العواطف والأفعال التي أظهرها الناس، والتي أشار إليها الناس لاحقا باسم الشخصية من النوع أ.

اقترح بحثهم وجود صلة بين الشخصية من النوع A وأمراض القلب التاجية، لكن التحقيقات اللاحقة اظهرت أن الكثير من الأبحاث التي تربط بين الاثنين تلقت تمويلا من شركات التبغ.

كيف يمكن للشخص معرفة نوع شخصيته؟

يستخدم بعض المعالجين النفسيين مقابلات معينة ومقاييس تصنيف لتحديد ما إذا كان لدى الأشخاص أنماط سلوك من النوع A أو النوع B، بما في ذلك:

* أسئلة فريدمان وروزنمان

* مسح نشاط جينكينز

* مقياس فرامنغهام من النوع أ

* مقياس تصنيف بورتنر

قد يتمكن الأشخاص من الوصول إلى بعض هذه الاستبيانات عبر الإنترنت أو من خلال أخصائي الرعاية الصحية.

يمكن للناس أيضا إجراء مجموعة من اختبارات الشخصية لإعطائهم فكرة عن سمات الشخصية التي لديهم.

البحث عن أنواع الشخصية

كشفت الأبحاث كيف يمكن أن تؤثر أنواع الشخصية على مجالات مختلفة من حياة الشخص. قد يساعد فهم أنواع الشخصية أو ميولها الأشخاص على التغلب بشكل أفضل على التحديات الفردية في دراستهم أو عملهم أو صحتهم.

العمل والتحصيل الدراسي

  قارنت دراسة أجريت عام 2019 التحصيل الأكاديمي بين طلاب الجامعات ذوي الشخصيات من النوع A والنوع B. كان لكلا النوعين من الشخصية خصائص مفيدة وضارة بالتحصيل الأكاديمي.

بعض خصائص الشخصية من النوع أ، مثل العمل الدؤوب والموجه نحو الهدف، زادت من التحصيل الأكاديمي. كان للمستويات الأعلى من العداء ونفاد الصبر علاقة سلبية بالتحصيل الأكاديمي.

ترتبط بعض خصائص الشخصية من النوع ب، مثل البساطة، وعدم التركيز على الدراسة، والتسويف، بانخفاض التحصيل الأكاديمي. يرتبط الصبر وأخذ المهام واحدة تلو الأخرى والتواصل الاجتماعي بزيادة التحصيل الأكاديمي.

بشكل عام، تشير الدراسة إلى أن الطلاب ذوي الشخصيات من النوع A قد يحققون إنجازات أكاديمية أعلى.

الصحة النفسية

وفقا لدراسة أجريت عام 2017، قد يكون الأشخاص ذوو الشخصية من النوع A أكثر عرضة لخطر الإجهاد والإرهاق من الأشخاص ذوي الشخصية من النوع B. قد يكون هذا بسبب الأساليب المختلفة التي يتخذها الأشخاص ذوو الشخصيات من النوع A أو النوع B للتعامل مع الإجهاد وإدارته.قد يكون الأشخاص ذوو الشخصيات من النوع B أكثر تكيفا وتسامحا وأكثر قدرة على إدارة الإجهاد، مما يقلل من مخاطر المشكلات الصحية المرتبطة بالإجهاد.

  نظرت دراسة أجريت عام 2019 في آثار الإجهاد العقلي والجسدي على القلب لدى الأشخاص الذين يعانون منه حسب أنواع الشخصية من النوع A والنوع B.وخلصت الدراسة إلى أن الإجهاد العقلي قد يكون ضارا لكلا النوعين من الشخصية، في حين أن الإجهاد البدني قد يكون مفيدا للأشخاص ذوي الشخصيات من النوع أ.

الصحة البدنية

وفقا لجمعية علم النفس الأمريكية (APA)، لا يوجد دليل قوي يشير إلى وجود صلة بين الشخصية من النوع A وزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب التاجية.

تشير الأبحاث إلى أن العداء او العدوانية، وهو سمة من سمات الشخصية من النوع A، قد يكون له روابط بتطور أمراض القلب.

وفقا لمراجعة عام 2018، فإن نفاد الصبر والعدوانية هما من المكونات الرئيسية للشخصية من النوع أ، وقد يزيد من خطر الإصابة بارتفاع ضغط الدم. ارتفاع ضغط الدم هو عامل خطر لأمراض القلب.

***

د. احمد المغير

مترجم عن (الاخبار الطبية اليوم) الامريكية

 

منذ القدم ظهرت الى الوجود تيارات أيديولوجية وفلسفية عديدة أكدت على قيم الحرية والعدالة والمساواة حيث لم تكن هذه القيم يوما أحادية المصدر ومرتبطة بدين سماوي معين او حكرا على فلسفة او ايدلوجية معينة انما ظل الانسان وعلى مر التاريخ  دائم البحث عن ايجاد قواعد سلوك تكفل للبشرية الاستقرار والعيش اللائق، فمنذ أكثر من 500 سنة قبل الميلاد وضع الفيلسوف الصيني "كونفوشيوس" فلسفته القائمة على القيم والاخلاق الشخصية والتي كان لها التأثير العميق ليس على الفكر والحياة الصينية فحسب انما انتقل تأثيرها الى عدد كبير من شعوب آسيا وشعوب اخرى من العالم لما فيها من نظرة ثاقبة ودقيقة لحركة التاريخ واستشراف المستقبل، لقد وضع كونفوشيوس أصبعه على الجرح واختصر اشواط من البحث عن أسباب الفساد والتدهور في حياة المجتمعات وذلك في قوله (اذا صلح القائد فمن يجرؤ على الفساد) فهل من شك في تشخيصه هذا عندما اعتبر ضعف الحاكم وتردده في اتخاذ القرارات الحازمة بحق المفسدين أحد اسباب انتشار الفساد وخراب المجتمع؟ . فهو ــ أي كونفوشيوس ــ كان من أوائل الذين نجحوا في تشخيص اسباب الفساد ورسم الخطوات السليمة للتخلص من هذه الآفة التي تنخر كيان المجتمعات وتمتص ثرواتها ومن بينها مجتمعنا العراقي، وهل هناك من هو أكثر دقه منه في معالجة هذه المشكلة عندما دعا الى تغيير البيئة التي يجد فيها الفساد حاضنة للنمو وبالتالي تجفيف هذه البيئة هي من أولويات الإصلاح وذلك في قوله (اعظم حيتان البحر ليس لديها أي قوة في الصحراء)  فتجفيف وتغيير بيئة الحيتان سوف يجعلها غير قادرة على العيش في البيئة الجديدة وهي اشارة الى ان الفساد ينمو ويتسّيد في البيئة التي يجد فيها من يمده بالقوة والمساعدة، فالمعروف عن فلسفة كونفوشيوس انها لم تقتصر على الجانب الأخلاقي فقط بل تعدتها إلى الجانب السياسي وقد قامت فلسفته على مجموعة من المبادئ والتعاليم كان الهدف منها إصلاح الفرد والمجتمع فهو يرى (إنَّ الحكومة الصالحة تُحقق السعادة للشعب، والسعادة هي الخير، لأنَّ هدف الحكومة أخلاقي في نهاية الأمر) . ولا ضير في اعتبار تعاليم كونفوشيوس تنظير سياسي فقد كانت هذه التعاليم كفيلة ببناء مجتمع قوي ومتماسك كما كان لها  تأثيرا كبيرا على العديد من الحضارات و ساهمت في تطور العديد من المجتمعات .

***

ثامر الحاج امين

لم يصنع التاريخ لمجرد استذكار الماضي واستعراض الأحداث والوقائع التي تخللت محطات تحوله وسيرورات تطوره، وإنما للاستفادة من دروسه واستخلاص العبر من عضاته، التي من دون استخلاص مضامينها واستلهام دلالاتها، سيبقى الإنسان / المجتمع يكرر أخطاء مواقفه ويقع في محظورات أفعاله. ولعل مظاهر التخلف الاجتماعي والعنف السياسي والتطرف الإيديولوجي الضاربة أطنابها في بلدان العالم الثالث، قمينة بتقديم البراهين الدامغة على تبعات ارتكاب مثل تلك الأخطاء والمحظورات.

ولعل من الضرورة بمكان الإشارة الى انه ليس من الغريب أو الشاذ أن يظهر الإنسان – كما سائر الناس - اعتزازه بتاريخ بلاده، والتغني بأمجاد ماضيه، مثلما إبداء حرصه على تراثه، والحفاظ على أرشيف ذاكرته. وإنما ما يعد غريبا"أو شاذا"- ان لم نقل مستهجنا"ومرذولا"- في الأعراف الإنسانية والأخلاقية والمعرفية، هو أن يتعصب ذلك الإنسان لأحداث تاريخه الآفل وكأنها الوحيدة في مضمارها، ويغالي في وقائع ماضيه الزائل وكأنها الفريدة في مجالها. للحدّ الذي يحول دونه ومراعاة الأدوار والوظائف التي اضطلعت بها أحداث تاريخية لمجتمعات مختلفة، ووقائع اجتماعية لثقافات مغايرة. لا بل ان مغلاة البعض بهذا الخصوص قد تصل - في بعض الأحيان - لحد التضحية بالتاريخ (الوطني) الشامل وطمس قواسمه الحضارية المشتركة، لصالح تواريخ الجماعات السوسيولوجية والانثروبولوجية المكونة للمجتمع ؛ الأجناس والأقوام والقبائل والطوائف. بحيث تستحيل سرديات هذه التواريخ التحتية الى مقاييس صارمة ومعايير قاطعة، لا تعتمد فقط في تبني المواقف التي على أساسها يتم الاختيار وتجري المفاضلة بين (الأنا) و(الآخر) في مضمار بناء العلاقات وتعايش الثقافات فحسب، وإنما يحرّم المساس بها والتقليل من شانها، ناهيك عن التطاول عليها والحط من قيمتها. 

وإذا ما قارنا بين تبعات وتداعيات هذه الظاهرة بين عامة المجتمع وخاصته، سنلمس على الفور حجم الأضرار وطبيعة المخاطر المتوقع حصولها جراء مواقف هذه الأخيرة (الخاصة – النخبة) حين تصيبها (لوثة) الانبهار العاطفي بالتاريخ، بالمقارنة مع مواقف نظيرتها المتموقعة على الطرف الثاني (العامة – الجمهور)، على خلفية انخراطها في مثل هذا الضرب من المواقف الشاذة والسلوكيات المنحرفة. فبينما تؤطر الثقافات الفرعية (الفولكلورية) وما يعبّر عنها ويرتبط بها من تصورات ساذجة واعتقادات عفوية، نمط وعي الجمهور الذي غالبا"ما تكون خليط منوع من حكايات خرافية ومرويات أسطورية وتمثلات مخيالية. فان ما يؤطر وعي النخبة (المتولهة) بالتاريخ خليط هجين من النوازع العنصرية والدوافع الإيديولوجية والمنافع الاقتصادية والمطامع السياسية، بحيث تحيل هذه النوازع بينه وبين النظرة الواقعية - الموضوعية الى ماهية التاريخ من جهة، والاستدلال على سيرورات حراكه ومسارات تفاعله وديناميات تطوره من جهة أخرى.  

ولعل من جملة العواقب التي تترتب على هذا الموقف الاختزالي - الانتقائي نختار محورين اثنتين ؛ المحظور الأول وهو (التعامي) أو (التغاضي) عن رؤية الانحرافات والارتدادات، التي قلما أفلت من قبضتها تاريخ ما من تواريخ المجتمعات البشرية، سواء على مستوى التاريخ المحلي / الوطني وما ينطوي عليه من أحداث ووقائع، أو على صعيد التاريخ الأجنبي / العالمي وما يشتمل عليه من تجارب وممارسات. وإذا ما أجبر المؤرخ المعني (صاحب ذلك الموقف) على مراعاة تلك الانحرافات والارتدات والقباحات، فانه سرعان ما يلجأ الى تبريرها كمحطات منعزلة أو كمنعطفات طارئة حدثت ضمن مسار تطوري صاعد لتاريخ قومي لم يشهد سوى الفتوحات المبهرة والانتصارات المدوية !. وهنا يقع في المحظور الثاني وهو الانزلاق الى مهاوي (التعصب) لتأريخ جلّه ملتبس و(التمذهب) لسرديات معظمها ملفقة. إذ لا مفر ل(مؤرخ) يتعاطى مع ثراء وتنوع السيرورات الجدلية للتاريخ بهذه الطريقة الاختزالية والانتقائية، من الوقوع في هوس (الأنا) الجماعاتي المفارقة للحقيقة والمتعالية على الواقع، بحيث لا يعود يرى في سيرورات التاريخ وديناميات الحضارة، إلاّ ما توسوس به نفسه من هلاوس وتشبيحات ؛ تارة باسم التعصب العنصري لقوميته / جماعته، وتارة ثانية باسم التطرف الديني لمذهبه / طائفته، وتارة ثالثة باسم التفوق الحضاري لثقافته / لغته. 

***

ثامر عباس

في المفهوم: كلاسيكي تعني أن شيئًا ما، يعتبر مثالاً تامًا على نمط معين، ويتميز بقيمة خالدة. كقولنا (لوحة كلاسيكية). وتشير الكلمة إلى جودة محددة في الفنون والعمارة والأدب والصناعات الثقافيّة الأخرى. وتستعمل كلمة كلاسيكي لوصف العديد من الأحداث الرياضية القديمة. وعلى المستوى العامي يمكن أن تطلق على رجل ذو عقلية كلاسيكيّة، أو على أثاث منزلي بأنه كلاسيكي، أي يمكن أن تطلق على أي شيء يوصف بأنه «قديم جدًا».

وينبغي ألّا تلتبس كلمة «كلاسيكي» مع كلمة اتباعي والتي تشير تحديدًا إلى نمط ثقافي معين وخاصة في أنماط الموسيقى والعمارة: والتي بصورة عامة تستلهم طبيعتها من التقاليد الكلاسيكية.(1). الويكيبيديا. بتصرف

أما الكلاسيكيّة في الفنون والأدب والثقافة، موضوع دراستنا فتشير إلى الحِقْبة الكلاسيكيّة القديمة في النقد التقليدي الغربي، بصفتها الإطار المعياري للذوق الذي سعى الكلاسيكيون إلى محاكاته. وتُعتبر الكلاسيكيّة اتجاهاً جماليّاً قائماً على المبادئ المترسخة في الثقافة والفن والأدب لدى الإغريق والرومان القدامى، ومن أهم سماتها البساطة في الشكل، والاتساق، ووضوح البنيان، والمثاليّة، والحركة المقيدة، وجذب المشاهد عن طريق جعل العمل صريحاً وجليّاً. والكلاسيكيّة كمذهب أدبي وفني، أو كما (يطلق عليه أيضاً "المذهب الاتباعي" أو المدرسي.. كان يقصد به في القرن الثاني الميلادي الكتابة الأرستقراطيّة الرفيعة الموجهة للصفوة المثقفة الموسرة من المجتمع الأوروبي.). (2). وهي في أحد تجلياتها أيضاً نوع خاص من الفلسفة، تعبّر عن نفسها من خلال الأدب والعمارة والفن والموسيقى، وتركز بشكل أكثر على المجتمع.

والمدرسة الكلاسيكيّة في عصر النهضة الأوروبية، كانت عبارة عن نزعة أخذت تتكرر بأشكال مختلفة أهمها، أو أبروزها تلك الحركات الفنيّة التي تمثلت في معالم إحياء الفنين الكارولنجي والأتوني..

ففي الفن الكارولنجي: (وهو نزعة فنيّة نسبت إلى الملك"شارلمان"771م. وكانت خصائص الإصلاح في هذا الفن التي تبناها شارلمان، تهدف إلى القضاء على فوضى البرابرة - (غير الأوربيين) – وبخاصة طراز فنونهم الزخرفية اللاتشخيصيّة، والعودة بالفن في أوربا إلى الفن التشخيصي وتقاليد فنون إيطاليا القديمة أو الامبراطوريّة الرومانيّة. (3).

أما الفن (الأتوني). فهو فن العمارنة، أو أسلوب العمارة، وهو أسلوب اتُبع في حقبة العمارنة أثناء فترة حكم "أخناتون" وما بعدها مباشرةً (نحو 1351- 1334 ق.م.) في أواخر حكم الأسرة الثامنة عشر أثناء حقبة المملكة الجديدة. (يتميز هذا الأسلوب بالإحساس بالحركة والنشاط في صوره، فترى الشخصيات رافعة رؤوسها وترى عدّة شخصيات متشابكة بالإضافة إلى عدّة مشاهد مزدحمة. وقد مُثل الجسد البشري بطريقة مختلفة، حيث تظهر الشخصيات دائمًا من الجانب نحيلة متمايلة بأطراف مبالغ فيها بالنقش البارز. وكانت صور "أخناتون" بالتحديد تعطيه صفات أنثوية مميزة مثل حوض واسع وثديين بارزين وبطن وفخذين كبيرين. بينما هناك قطع أخرى لا تظهر بها سمات هذا الأسلوب بنفس الوضوح مثل أشهر عمل في كل أعمال العمارنة وهو تمثال نفرتيتي في برلين.)(4).

بعد القرن الثالث عشر الميلادي ظهرت في إيطاليا بداية حركة إحياء للآداب اليونانيّة القديمة، وذلك بعد اطلاع النقاد والأدباء على كتب "أرسطو" في أصولها اليونانيّة وترجماتها العربيّة، التي نُقلت عن طريق الأندلس وصقليّة وبلاد الشام بعد الحروب الصليبيّة. وخاصة بعد سقوط بيزنطة ونشوء التجارة بين العالم الأوروبي والإسلامي. وإن نقل هذه العلوم جلب لأوروبا دفقًا من المعرفة حول أوروبا القديمة، تلك المعرفة التي استمدها العرب أساساً من أوروبا القديمة. وحتى تلك الفترة، اعتُبرت الفترة الكلاسيكيّة القديمة جزءًا من تاريخ المسيحيّة المستمر الذي ابتدأ مع تبني الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول المسيحيّة ديناً للإمبراطورية الرومانيّة(5).

أما مع القرنين الرابع عشر والخامس عشر، فقد انتشرت في اوروبا حركة نهضة أدبيّة وفكريّة حررت العقول والفنون الجميلة من القيود الدينيّة التي فرضتها مفاهيم فترة العصور الوسطى، وفيها اهتم الفنانون والمفكرون بالفنون والافكار الإغريقيّة والرومانيّة القديمة التي كانت سائدة، قبل ما تبدأ مرحلة التقهقر والانحطاط الثقافي التي عمت عصور الظلام في العصر الوسيط، ليس من أجل تقليدها فحسب، وإنما لدراستها ومناقشتها بحريّه أيضاً كحافز للنهوض والتقدم، وبذلك بدأ التفكير الفني والادبي والعلمي يتخطى حدود الفكر الديني الغيبي الضيق الذى كان مفروضاً عن طريق رجال الدين والكنيسة فى العصور الوسطى. إن عصر النهضة كان أساس ومفتاح أوروبا لدخول عصر التنوير ومن بعده عصر العلم الحديث. (6).

وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر، تبنت الكلاسيكيّة معانٍ إضافيّة بنيويّة، مثل الانتظام وقابلية التنبؤ واستخدام الجغرافيا وأهميّة التربية الصارمة. حيث شهدت تلك الفترة محاولة إحياء أشكال الفنون الكلاسيكيّة، مثل الدراما والموسيقا الإغريقيتين. إذ شهدت الأوبرا، في شكلها الأوروبي الحديث، محاولات عديدة لإعادة خلق مزيجٍ من الغناء والرقص مع المسرح باعتباره قاعدة الفن الإغريقي. (7).

نعم... ففي عصر النهضة، قُصد بالأدب والفن الكلاسيكي، كل أدب يبلور المثل الإنسانيّة المتمثلة في الخير والحق والجمال، وهي المثل التي لا تتغير باختلاف المكان والزمان والطبقة الاجتماعيّة. الأمر الذي يجعل هذا المذهب وفقاً لهذه المُثل والخصائص الجديدة ما يمكنه من البقاء وإثارة اهتمام الأجيال المتعاقبة. حيث  يقول عنه أتباعه (إنه يبلور ويهدف أيضاً إلى العناية بأسلوب الكتابة وفصاحة اللغة وأناقة العبارة وربط الأدب بالمبادئ الأخلاقية، ومن خصائصه كذلك عنايته الكبرى بالأسلوب والحرص على مخاطبة جمهور مثقف في الغالب، والتعبير عن العواطف الإنسانيّة العامة، وتوظيفه لخدمة الغايات التعليميّة واحترام التقاليد الاجتماعيّة السائدة. (8).

أبرز مؤسسي المدرسة الكلاسيكية في النقد الأدبي والفني:

يعد الكاتب اللاتيني "أولوس جيليوس" هو أول من استعمل لفظ الكلاسيكيّة على أنه اصطلاح مضاد للكتابة الشعبية، في القرن الثاني الميلادي.

وأول من طور الكلاسيكية الكاتب الإيطالي "بوكاتشيو" 1313-1375م،  حيث ألغى الهوة بين الكتابة الأرستقراطيّة والكتابة الشعبيّة، وتعود له أصول اللغة الإيطالية المعاصرة.

وكان هناك أيضاً رائد المدرسة الإنكليزيّة "شكسبير" 1564-1616م الذي طور الكلاسيكيّة في عصره، ووجه الأذهان إلى الأدب الإيطالي في العصور الوسطى ومطالع عصر النهضة،

وهناك الأديب والمسرحي الفرنسي "جان بولكان موليير" (1622م- 1673م) و والشاعر الفرنسي " جان دولافونتين" (1621م- 1695م) والكاتب المسرحي الفرنسي "كورني بيير" (1606م-1684م) و والشاعر والمسرحي "جان راسين" (1639م-1699م) والأديب البريطاني "جون أولدهام" (1653م- 1683م).(9).

المذهب الكلاسيكي الحديث في الغرب:

المدرسة الفرنسيّة أنموذجاً:

تعتبر المدرسة الفرنسية التي أسست على يد الناقد الفرنسي "نيكولا بوالو" 1636 – 1711م في كتابه الشهير (فن الأدب) الذي ألفه عام 1674م. من قونّن قواعد الكلاسيكيّة وأبرزها للوجود من جديد، ولذا يعد " نيكولا بوالو" مُنظر المذهب الكلاسيكي الفرنسي الذي يحظى باعتراف الجميع.

لقد قام المذهب الكلاسيكي الحديث، الذي أنشأته المدرسة الفرنسيّة على الأفكار والمبادئ التالية:

1- تقليد الأدب اليوناني والروماني في تطبيق القواعد الأدبيّة والنقديّة وخاصة القواعد الأرسطيّة في الكتابين الشهيرين: (فن الشعر وفن الخطابة) لـ "أرسطو".

2- اعتبار العقل هو الأساس والمعيار لفلسفة الجمال في الأدب، وهو الذي يحدد الرسالة الاجتماعيّة للأديب والشاعر، وهو الذي يوحد بين المتعة والمنفعة.

3- اعتبار الأدب للصفوة المثقفة الموسرة وليس لسواد الشعب، لأن أهل هذه الصفوة هم أعرف بالفن والجمال، فالجمال الشعري خاصة لا تراه كل العيون.

4- الاهتمام بالشكل وبالأسلوب وما يتبعه من فصاحة وجمال وتعبير.

5- اعتبار قيمة العمل الأدبي تكمن في تحليله للنفس البشرية، والكشف عن أسرارها بأسلوب بارع ودقيق وموضوعي، بصرف النظر عما في هذه النفس من خير أو شر.

6- إن غاية الأدب في هذه المدرسة، هو الفائدة الخلقيّة من خلال المتعة الفنيّة، وهذا يتطلب التعلم والصنعة، ويُعتمد عليها أكثر مما يعتمد على الإلهام والموهبة.(10).

على العموم: لقد ارتبط المذهب الكلاسيكي إلى حدً كبير بالنظرة اليونانية الوثنية على ما يبدو، وحمل كل تصوراتها وأفكارها وأخلاقها وعاداتها وتقاليدها. وفي جميع الأجناس الأدبية من نقد أدبي وأسطورة إلى شعر ومسرح.

لا شك أن كل هذه القيم والمبدئ بتوجهاتها العقليّة والإنسانيّة التي أشرنا إليها أعلاه، والتي بشرت بها المدرسة الفرنسية الكلاسيكية الجديدة في الأدب والفن، قد وقفت ضدها الكنسية سابقاً  عندما كانت هذه الكنيسة وتعالميها الدينيّة المدرسيّة (السكولائية) هي من يفرض ويشكل وعي وسلوك الإنسان عموما في أوربا والمبدع بشكل خاص، لقد حاربتها وحالت دون حضورها باعتبارها قيماً وثنيّة، جاهدة أن تصبغ الأدب في عصرها بالطابع المسيحي، مستمدة قيمها من الإنجيل، إلا أنها فشلت أمام قوة هذه الأصول اليونانيّة العقلانيّة وتجذرها في البنية الثقافية والفنية والأدبية القائمة منذ عصر النهضة الأوربيّة وبعده، إضافة لما حققه التطور اللاحق بسبب تطور الثورة الصناعيّة وفلسفة عصر التنوير من تغيرات جوهرية في الحياة العامة للمجتمع الأوربي بشكل عام والفرنسي منه بشكل وفلسفة عصر التنوير.

أثر الكلاسيكية الغربية في الأدب العربي:

لقد ظل تأثير المذهب الكلاسيكي في الأدب العربي الحديث محدوداً، حيث اقتصر إلى حد كبير على الشعر المسرحي،  وذلك عندما اتصل كتاب المسرح العربي بالمسرح الفرنسي الكلاسيكي وفي مقدمة هؤلاء أمير الشعراء "أحمد شوقي"  من مصر والأديب  "مارون النقاش" من لبنان. وتتمثل في الأعمال العربيّة الأدبيّة الكلاسيكيّة بعض الترجمات التي قام بها "مارون النقاش" الذي ترجم أعمالاً للأديب الفرنسي "موليير" كمسرحيتي (البخيل) و(الثري النبيل) . كما قام أيضا "سليم النقاش" - بترجمة مسرحيّة (هوراس) التي ألفها صاحبها "كورناي"  سنة (1640)، وقد ظهر هذا التأثير البسيط بصفة جليّة في مسرحيات "أحمد شوقي" الذي كان قد اتصل بالأدب الفرنسي الكلاسيكي، واحتك بمسرحه عند ذهابه إلى فرنسا للدراسة. ونلمح هذا التأثير في عنصر الصراع بين الحب والواجب في مسرحية (مصرع كليوباترا) إذ جعل الأديب "كليوباترا" ملكة مصر (67 ق.م- 30 ق.م ) تغار على وطنها ولا يهمها أن يعزلها الروم أو أن تلقى المنيّة في سبيل مملكتها وهي مع ذلك مهتمة بجمالها حيّة أو ميتة، ومتمسكة بعلاقتها بـ "أنطيوس" القائد الروماني الذي خاصم قومه من أجل كليوباترا ،كما نجد في مسرحية (قمبيز) وبطلتها "نتيتاس" نوعا آخر من الصراع حيث لم تستطع أن تتغلب على حقدها على قاتل أبيها الفرعون أمازيس. (11).

وإذا كانت مسرحيات "شوقي" محاولة رائدة في الشعر العربي فقد تبعتها بعد ذلك محاولات أخرى ناجحة في الإتقان الفني والنضج الفكري مثل مسرحية (مصر الجديدة) "لـفرج أنطون"، كما ظهرت فرق أخرى كانت أعمالها المسرحية متميزة .إلا أن تأثير الكلاسيكيّة في الأدب العربي بقي محدودا ولم تلق رواجا كبيرا لأسباب أهمها:

1- إن المذهب الكلاسيكي وثيق الاتصال بالمسرح سواء منه اليوناني والروماني القديم، أو الأوروبي الحديث وليس للعرب مسرح في عصورهم القديمة، وحين اتصل بعض أدبائهم بالمسرح الغربي حديثا كان ذلك التأثير محدودا.

2- عدم بقاء الكلاسيكيّة وتعميرها طويلا في أوروبا في فترة كان الاتصال فيها بين الأدب العربي والآداب الأوروبية في مرحلة الطفولة. فليس من الطبيعي أن يتأثر العرب بمذهب أدبي هجره أهله.(12).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

......................

الهوامش:

1- الويكيبيديا. بتصرف

2- (https://magmaa.yoo7.com/t325-topic..مجمع الأصالة - نقد الكلاسيكية والرومانسية والواقعية - محمد خليل).

3- المرجع نفسه.

4- (الويكيبيديا).الويكيبيديا (عندما اصبح شارل الملك الوحيد771م، وعرف باسم شارل الأول الكبير أو (شارلمان). أعطى شارلمان اسمه إلى السلالة الحاكمة التي عرفت باسمه (سلالة الكارولنجيين.. مما جعله يقتبس من فنون إيطاليا القديمة ـ أو الحضارة البيزنطية.

5- الوكيبيديا – بتصرف.

6- https://magmaa.yoo7.com/t325-topic..مجمع الأصالة - نقد الكلاسيكية والرومانسية والواقعية - محمد خليل). بتصرف.

7- الوكيبيديا. بتصرف

8- (https://magmaa.yoo7.com/t325-topic..مجمع الأصالة - نقد الكلاسيكية والرومانسية والواقعية - محمد خليل).

9- يراجع موقع – موضوع - أهم رواد المدرسة الكلاسيكية). وكذلك موقع ويكيبيديا. بتصرف.

10- (https://e3arabi.com/ - مفهوم المدرسة الكلاسيكية ومبادئها - آية الحوامدة -). و(يراجع حول مبادئ الكلاسيكية وخصائصها – موقع سطور  - تعريف المدرسة الكلاسيكية). وكذلك موقع ويكيبيديا. بتصرف.

11- - موقع ((plogger com - الأدب المقارن – (المذاهب الأدبية الغربية الكبرى و أثرها في الأدب العربي.). بتصرف.

12- المرجع نفسه . بتصرف.

 

تنطلق التحولات الاجتماعية بتأثير عوامل مختلفة، سياسية واقتصادية. بعض العوامل يطلق مسار التغيير، وبعضها يحدد وجهته أو يؤثر في سرعته. ويقال في العادة إن سياسات الدولة محرك قوي للتغيير، كما أن تحولات الاقتصاد والسوق تعجل الحراك بين الطبقات الاجتماعية، وتسهم في تغيير الثقافة السائدة. تحولات السياسة في النطاق العالمي مؤثرة هي الأخرى، ولا سيما تلك التي تحدث في المجتمعات الأقوى اتصالاً أو الأكثر تاثيراً. نعلم - على سبيل المثال - أن تحولات المجتمع الأميركي تنتقل سريعاً إلى الساحة الدولية فتغدو ظاهرة كونية. لكن التأثير ليس حكراً على هذه البلاد، وإنما نضرب بها المثل لسعة تأثيرها في النطاق العالمي.

هذا ليس من نوع الكلام العام الذي يقال في سياق «السوالف»، فهو نتاج لدراسات علمية معمقة وميدانية، على تحولات جرت تكراراً في أكثر من بلد. زبدة القول إن التغيير حقيقة من حقائق الحياة التي لا يمكن منعها، وإنه يحدث بتأثير عوامل عدة، ولذا لا يحسن بالعاقل أن يتصدى للتحول الاجتماعي أو يقاومه أو يتخيل إمكانية وقفه.

- ما الذي يحدث حين يبدأ المجتمع التحول؟

دعنا نضرب مثالاً عن شاب ينتمي لعائلة ريفية فقيرة، انضم للمدرسة ثم الجامعة وتخرج بشهادة عالية، فحصل على وظيفة مرموقة: ما تصنيفه الاجتماعي الآن (في أي طبقة)، وكيف سيعامله الناس، وكيف سينظر هو إلى نفسه وإلى معاملة الناس له.

لعلَّ بعض القراء يتذكرون «هرم ماسلو» الذي يقرر أن الإنسان في حالة الفقر المطلق، سيكون مشغول الذهن تماماً بما يمكّنه من مواصلة العيش. فإذا حقق كفايته من هذا، سينشغل بتحقيق الأمان كحاجة نفسية ذات علاقة مباشرة بالعيش والكرامة. ومع نجاحه في هذه المرحلة، سيتجه إلى ما سماه إبراهام ماسلو الحاجات الاجتماعية، وأبرزها الحاجة للتماثل مع الغير؛ أي إقرار المحيطين بأنه مساوٍ لهم وليس أدنى منهم، وأنه جدير بنفس المكانة التي يتيحها النظام الاجتماعي القائم لكل أعضائه. بعد ذلك تأتي مرحلة البحث عن التقدير، ثم تحقيق الذات.

هذا مثال عن فرد، أظن أن كثيراً منا قد لاحظه يوماً ما، لكن ثمة مراحل زمنية تشهد تحولات واسعة النطاق، في المجتمع كله، تنعكس على سلوكيات الأفراد كافة أو غالبيتهم. وأظن أن كثيراً من السعوديين، الذين تتراوح أعمارهم بين الأربعين والستين، قد مروا بهذا التحول، أو شهدوه في أشخاص من جيرانهم أو معارفهم، في سبعينات القرن العشرين، حين تعرض المجتمع السعودي لتحولات عميقة، بتأثير خطط التنمية الاقتصادية الأولى والثانية (1971 - 1980). ومثله ما حدث بعد الاجتياح العراقي للكويت أواخر 1990.

حين تستعرض طيفاً واسعاً من أبناء المجتمع، سترى أن كثيراً من الشخصيات الرفيعة، اليوم، جاءت من عائلات متواضعة اقتصادياً أو اجتماعياً، لكن مكانتهم ارتفعت نتيجة تعليمهم أو ارتفاع مداخيلهم أو أدوارهم الاجتماعية أو مراكزهم الوظيفية. وهنا لا نتحدث عن عدد من الأفراد، بل عن ظاهرة عامة نستطيع - من دون تحفظ - اعتبارها صورة نموذجية للتحول الاجتماعي.

مجتمع ما بعد التغيير، بكل أفراده أو غالبيتهم، يحمل مشاعر مختلفة عن تلك التي كانت في الماضي، وهذا يولّد ردود فعل قد لا تكون مواتية في جميع الأحيان. إن رغبة الأفراد، ولا سيما من الجيل الجديد، في التساوي مع الغير، قد يُنظر إليها من جانب الجيل الأكبر سناً كتمرد على نظام القيم السائد. وقد يميل بعض هؤلاء للتشدد في التعامل مع تعبيرات الشباب عن أنفسهم ومراداتهم. وعلى الطرف المقابل فإن الشباب ربما يواجهون هذا الموقف بردود فعل غاضبة. هذا الموقف وذاك هما التجلي الأبرز لما يسمى صراع الأجيال، وهو - في الأساس - صراع ثقافي وتعبير عن تحول ثقافي.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

يعد الإنسان ككائن حي، ينمو ويتحرك ويسعى، ويتميز بكونه ذات تسمو بالأشياء خارج موضوعها. فالذات هي ماهية الإنسان التي تكون عالمه الداخلي من الافكار والمشاعر والعواطف وهي تمثل هويته الخاصة. أما الضمير فيمكن عده الأنا الحقيقية للإنسان، كونه متسلح بالمبادئ الأخلاقية والفطرية، وان اي عمل يقوم به الإنسان يخضع لتقييمه، لذا يمكن عد الضمير بأنه آلة نفسية واجتماعية لمعرفه الحقيقة والحكم عليها.

فالضمير بما إنه مرتبط بالحقيقة، معروف أن الحقيقة في هذا العالم نسبية، والسبب يعود إلى تعدد الهويات والبيئات والعوالم المادية والمعنوية بين البشر، فكل فرد ذات تتجسد فيها شخصيته، ولكل واحد من الناس ضمير يحاكم ويضبط تلك الهوية الشخصية للإنسان، لكن يبقى التساؤل ما علاقة الضمير بالذات، وهل هو المسؤول عن جلد الذات.

حقيقة الضمير مفهوم بعيد عن العمليات العقلية و الحسية، ويعمل كمنبه للذات الإنسانية عند قيامها بفعل ما، ويحدث هذا الصوت الداخلي الذي يقلق الإنسان ويجعله في موضع المتهم، بمجرد التفكير بالخطأ، لذلك تجد الانسان عند الكذب تزداد ضربات القلب، بما يمثله هذا الازدياد من ايعاز على الكذب، والبُعد عن الحقيقة .

كما المبادئ والمعايير التي تكون الضمير، تنقسم إلى ثلاثة أنواع : فطري و طبائعي ومكتسب. فما كان فطري فهو خيّر، وهذا ما أكده الفيلسوف الانجليزي (جون لوك) في رسالته حول التسامح: بأن الناس في الطبيعة والفطرة الاولى يتميزون بالمساواة وتجمع بينهم علاقة طيبة وعفوية وهذا المعنى الإيجابي للضمير.

 أما الأخرى فهي المبادئ التي يكتسبها الضمير من المجتمع وتقاليده واعرافه، وهذا المجتمع بدوره يخضع لمتغيرات السلطة بإشكالها القديمة والحديثة، وهي متعددة و متغيرة في كل زمان ومكان، اما جلد الذات يمثل المعنى السلبي لمفهوم الضمير المكتسب وهو مبني على عادات وتقاليد وأعراف المجتمع سواء كانت دينية او اجتماعية أو سياسية.

 وبما ان هوية الإنسان الذاتية متغيرة بين الفطري والطبائعي والمكتسب، فالفطري معروف عنه انه خير وايجابي، لكنه ليس بالضرورة، لأن الفطرة قد تكون الهية وهي حسنة، وقد تكون وراثية وتحمل معنى سلبي لمجتمع معين، لكن هي خيره بالنسبة لمجتمعها الخاص، وهذا يعود لطبائع اسلافنا الثقافية عند درستنا للحضارات.

اي بمعنى ان الحضارة السومرية يتميز ناسها بصفات معينه لازلنا نعمل بها دون وعي بعد ان ترسخت في لا وعينا الجمعي، وهذا ما اشار له كارل يونك في نظرية التحليل النفسي للشخصية وهذا هو الطبائعي .

 أما غياب الضمير واللامبالاة في مجتمع ما يعني سيادة حالة التوحش التي أشار لها الفيلسوف الانجليزي توماس هوبس. وقد يكون السبب يعود إلى انتقال الإنسان من مرحلة تكوين الذات إلى مرحلة الانمحاء مع الذوات أو الجماعة بصفتها الدينية أو السياسية أو الايديولوجية.

كما ان الضمير هو الوجه الآخر للأخلاق، وبما ان الأخلاق نسبية ومتفاوتة بين الناس، فكذلك الضمير أصبح نسبي ومتغير من فرد إلى آخر كلاً تبع ايديولوجيته وتبعيته الفكرية، فالضمير هو الوزاع الأخلاقي للبشرية،فكل ما هو إنساني يخضع للضمير الفطري، وكل ما هو ايديولوجي وشر ويخضع للمنفعة والغاية، فهو أما طبائعي أو مكتسب نتيجة مواقف نفسية أو اجتماعية، أو اسطورية.

فالضمير الإنساني اصبح ضمير مستتر لا يعبر عن هو أو هي حقاً، بل يعبر عن تقدير لمواقف واشخاص لا يظهرون أمام العلن، وخير مثال لذلك ما يحدث في غزة من قتل ودمار، إذ ان الكيان الغاصب يمثل ضمير الارهاب العالمي للغرب المكتسب والطبائعي. فعلاقة الذات بالضمير علاقة مترابطة لا تنفك عن اي فعل يفعله الإنسان سواء كان فرداً أو جماعة.

***

كاظم لفته جبر

الـذكـــاء الاصطناعي – أنموذجا

الجغرافيا: هوية اولا.. ومنهج ثانيا.. وتطوير مستدام لمنهجها، وفهمها كعلم راقي وليس فقط سبيلا للمنفعة او التوظيف كحق مشروع لكل انسان.

ان التطوير والمواكبة المعاصرة تقنيا معلوماتيا لا تلغي او تقزم هوية الجغرافيا بالتعكز او الاستظلال بتقنية او بتخصصات علمية اخرى، وهذا ما وقع فية بعض الجغرافيون من الذين يمنون النفس بلبس ثوب مغاير للجغرافيا تخصصا،   ودأب يتبعهم البعض من طلبتهم، وهذه لا تمنح الجغرافي امتيازا.. إنما تهبط به  وتقزم هذا التخصص العملاق/ الجغرافيا التي تقدم بها الانسان قرونا... والصحيح علميا هو؛ الأضافة والتطوير والاسهام والابداع والابتكار، وخلاف ذلك هو عنوانا للفشل.

الجغرافيا او الجغرافية ميدان معرفي يحتوي المكان بفلسفته العلمية الشمولية ويحللـهُ ويَصفه ويوَصِفَه، ويعبر عنه بدراسة أنظمته المختلفة، ويقـود إلى مخرجات علمية عـبر استخدام أحدث التقنيات والأدوات البحثية، هــو عـلم الثقافة وعلم التطبيـق، وميدان الدراسة والبحث فـي كـل من التوزيعات المكانية لمختلف الظواهر الطبيعية والبشرية، والعلاقات المكانية المتبادلة بين تلك الظواهر، والبحث في مدى وجـود الظاهرة وانتشارها وتباينها المكاني وكثافتها وتعاقبها والتنبوء باتجاهاتها، هـو عـلم تحليلي تركيبي ومعرفة متطورة ذات طبيعة شمولية متباينة زمانياً ومكانيا، وبذلك فأن الجغرافيا ذات بعدين في اهتماماتها العلمية، أي الظواهر الطبيعية والبشرية.

أن كافة حقول المعرفة ذات أبعاد قديمة وحديثـة ومعاصرة، وإذا كانت الجغرافيا الحديثة قـد ركزت على (تجاوز وصف الظواهـر الطبيعية والبشرية الذي أتسمت به الجغرافيا القديمة)، فأن التطور الأحدث للجغرافيا المعاصرة تمثل؛ بالسعي نحو الرقي بهذا الميدان ونقلها من الجانب الأكاديمي النظري إلى الجانب التطبيقي الاستشاري للتحول باتجاه ترتيب المكان وتنظيمه ودراسة الأنماط المكانية للظواهر ونظمها وبما يقود إلي مخرجات علمية جاهــــزة للاستفادة منها في الحقول العلمية ذات العلاقة مكانياً،  وبالتالي تجاوز مرحلة استلام المعرفة من العلوم الأخرى فقط.

تستعين الجغرافيا بالعلوم الأخرى للانجاز: كالجيولوجيا، علوم الحياة، الاقتصاد، التاريخ، الاجتماع، الرياضيات، الفيزياء، الإحصاء، والهندسة، والتطبيقات المعلوماتية المناسبة الكترونيا.

المفاهيم والمعلومات الجغرافية تطورت على مـدى عـدة قرون، وكان للعراقيين السبـق في ذلك منذ العهد البابـلي، ثم جاء الإغريـق، وكان للعرب والمسلمون في العصور الوسطى الإبـداع والبراعـة في حقـل الجغرافيا عـبر ميادين رسم الخرائط والرحلات وكشوف الأرض وحياة الإنسان، ومنهم؛ العالم (الإدريسي) و (الحموي)،   وفي القرون الحديثة تطورت الجغرافيا في مجالات الكشوف والأفكار والنظريات وصدرت المؤلفات الحديثة على يـد الباحثين والمختصين أمثال (كانت، ريـــتر و راتــزل).

في القرن الماضي ( 20 م ) ظهرت عـدة نظريات في حقول جغرافية عــديـدة منها الصناعة، المدن، النقل، السياسية، الزراعية، المناخ، والتربة،   ومن بين العديـد ممن برعوا عالميا (هاريس، و كرستالر)، ومن العرب (محمد السيد نصر، وجمال حمدان)، ومن العراقيين (جاسم محمد خلف)  قبل عام 1960.

عبر السنوات الستين الماضية ظهر التوجه نحو استخدام الأساليب الكمية (الرياضيات والإحصاء) في البحث الجغرافي،   إضافة لاعتماد الأسلوب (الوصفي)،   وبحلول عام 1970 بـدء استخدام الأسلوبين معا يأخذا طريقهما في الأبحاث والانجازات الجغرافية.

اعتمدت الجغرافية المعاصرة أساليب البحث الميداني والكمي والتقانات العديدة والمعلوماتية والبرمجيات ومختلف مصادر البيانات لإنجاز الدراسات والبحوث العلمية ذات الصلة بالمـكان وبدرجة عالية من المصداقية للوصول إلى تحليلات واستنتاجات وتـنبؤات وتعميمات، ومن ثم اقتراح الحلول للمشكلات والاختناقات في مختلف المجالات التي تطرقها الجغرافيا وبما يدعم اتخاذ القرار المناسب بدقة وبسرعة.

ان السعي الدائم من قبل الجغرافيين في مختلف الاختصاصات الدقيقة للرقي بعلم الجغرافيـا يستلزم؛ إشاعة الفكر العلمي المعاصر والمتمثل (بالتركيز على أساليب البحث الأحدث حيثما توفــرت إنجازا ونشراً وابتكارا وإضافة معـرفــية).

تعــد الأساليب الكمية من أساسيات القياس اللازمة لإنجاز البحوث الجغرافية، ويتضمن استخدامها من قبل الباحث الجغرافي؛  جمع البيانات، تبويبها، تلخيصها، عرضها ثم تحليلها بهدف؛  الوصـول إلى استنتاجات وقرارات مناسبة قد تمثل فرضيات وتعميمات ترتقي إلى القوانين والنظريات الجغرافية، ومن خلال إيجاد قيم تقديرية للاستدلال على القيم الحقيقية،  زيادة على اختبار الفرضيات التي توضع كتفسير أولـي (أبتدائي) للوصول إلى قرار نهائي بقبولها أو رفضها، ويعتمد استخدام المقاييس الكمية على المعادلات والقوانين التي وردت بشكل مستقل في دراسات عديدة، وتم تعديلها أو تطويرها، وكذلك الاعتماد على الأساليب الإحصائية - الرياضية المبرمجة حاسوبـياً ضمن منظـومة (Spss ) الإحصائية الجاهزة والمحدثة باستــمرار.

تتمثل سمات الجغرافية الحديثة في؛ التداخل الأوسع بين فروع الجغرافية عـــند دراسة ظاهــرة ما، والبحث عن خاصية المستقبل الجغرافي لمنطقة الدراسة المعنية، وتحديد مشكلات البيئة، فـي محاولة لوضع إستراتيجيات مناسبة لتطويرها، وهـذا يتطلب الاستفادة القصوى مـن الأساليب والتقنيات والتكنولوجيا المعاصرة وفي المقدمة منها (معطيات المعلوماتية).

نظـم المعلومات، ونظرية النظام،  من أحدث أساليب البحوث العلمية الرصينة، إذ إن أية ظاهره تتكون من نظام متكامل مؤلف من عدة عناصر، تتشكل هي الأخرى من أجزاء فأجزاء، ولهذه العناصر علاقات متبادلة، كما إن للنظام (أي نظام) ذات العلاقات مع انظمه أخرى،

وتعتمد هذه الأساليب على الكثير من الأدوات البحثية ومنـها؛  الحاسب بكل ما يحتويه من برمجيات عاملة ومستحدثة للإنجاز الدقيق والسريع والتفصيلي وابرز ذلك؛ نظم المعلومات الجغرافية ( GIS ) التي تعد برمجياتها من أحدث الأساليب المعاصرة للبحث، وازدادت أهميتها بعـد بروز الحقل العلمي الأحدث وهو؛  التكامل بـين مخرجات التحسس النائي ( RS ) ونظم المعلومات الجغرافية ( GIS )،  وكان وراء ذلك تنوع تلك المخرجات بفعل تطور الآليات التكنولوجية للمتحسسات المحمولة على متن الأقمار الصناعـية.[1]

تتطلب الأبحاث العلمية الجغرافية الاحدث وبكل مستوياتها وبياناتها (الوثائقية الوصفية ) و ( المنطقية الإحصائية ـ الرقمية ).. وكذلك إنشاء خرائط نظم المعلومات الجغرافية... تتطلب جميعها؛ أعتماد التطبيقات المناسبة للذكاء الاصطناعيArtificial Intelligence (AI)

والمتمثل؛ بعلوم الكمبيوتر الخاصة بمعالجة المعلومات على نطاق واسع وبوقت أسرع... عن طريق تحديد المعلومات وتقديم الإجابات، مع إمكانية إتخاذ ( القرارات الأكثر ذكاءً ) لتحسين إنجاز الأعمال والتنبؤ بالقيم المستقبلية للبيانات الجغرافية مهما بلغت.. بعد عمليات الجمع والتبويب/التصنيف والادخال.. واختيار التقنيات المناسبة.

تطبيقات الذكاء الاصطناعي في إنجاز البحوث الجغرافية تشمل العديد من المجالات، سواء في الجغرافيا البشرية أو الطبيعية ومن أبرز هذه التطبيقات:

تحليل كميات هائلة من البيانات الجغرافية التي تم جمعها من مصادر متنوعة مثل البيانات الاجتماعية والأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار عن بعد بتحليل صور الأقمار الصناعية لتحديد التغيرات في؛  الأراضي ومراقبة الغابات، ودراسة ونمذجة التغيرات المناخية لتحسين نماذج التنبؤ من خلال تحليل البيانات المناخية التاريخية والتنبؤ بالتغيرات المستقبلية.

تساعد تقنيات التعلم الآلي، والذكاء الاصطناعي في؛ إنشاء خرائط دقيقة وتفاعلية.

تحليل الأنماط الجغرافية المعقدة؛ كدراسة وتحليل أنماط الحركة البشرية،  وتحسين نظم النقل العام، وتحليل حركة المرور وتخطيط المدن.

تحليل توزيع واستخدام؛ الموارد الطبيعية مثل المياه، الأراضي الزراعية، والمعادن، ودراسة وتحليل بيانات الأنشطة الاقتصادية وتوزيع السكان وهجراتهم.

التحليل البيئي لتقييم التأثيرات البيئية للنشاط البشري وإدارة الكواث والتنبؤ بها.

ان هذه التطبيقات تساهم في جعل البحوث الجغرافية أكثر دقة وكفاءة، مما يساعد العلماء وصناع القرار بفهم أفضل لاتخاذ القرارات المستنيرة.[2]

***

أ. د. مجيد ملوك السامرائي – أستاذ أكاديمي، جغرافية

.........................

المراجع:

1. مجـيد مـلـوك السـامـرائي، جغرافية- تكنولوجيا المعلوماتيه وتطبيقات التقنيات الكمية، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان،2022.

www.yazori.com                ww.neelwafurat.com

2. مجيد ملوك السامرائي،  الذكاء الاصطناعي - وإستراتيجياته العالمية، شبكة الألوكة، 14/3/2024. https://www.alukah.net

يعتبر عام 1979م من الأعوام المهمة في تأريخ المنطقة، ففيه وقعت حادثة الحرم أو ما تسمى بحادثة جهيمان العتيبي (ت 1980م)، وفيه انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني، وعلى إثرها قامت الحرب العراقية الإيرانية، واستمرت ثماني سنوات.

جهيمان العتيبي امتداد للفكر الديني في التفكير والتعامل مع الماضي، وتأثر بالإحياء الروائي والحديثي الذي قاده محمد ناصر الدين الألباني (ت 1420هـ/ 1999م)، وقد أحدثت آراؤه جدلا في المدينة المنورة خصوصا عند طلاب الجامعة الإسلامية، مما أدى إلى إخراجه من المملكة، لهذا تبنى أتباع جهيمان العديد من آرائه الفقهية، كالصلاة بالحذاء، وعدم قول الصلاة خير من النوم في الأذان الثاني، وتطور الأمر إلى التعامل ظاهريا مع روايات أشراط الساعة وخروج المهدي، والاعتداد بالمنامات لكونها رؤى صادقة، وأنها انطبقت مع ظاهر الروايات على محمد بن عبدالله القحطاني (ت 1979م)، واعتبروه المهدي المنتظر.

ويعتبرهم بعض الباحثين امتدادا لإخوان بريدة، ولما تمكن الأمر في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود (ت 1373هـ/ 1953م)، وقرب الجماعات الإسلامية ذات الخط المنفتح على المدنية والتحديث كالإخوان المسلمين بدأ التزاوج بين التيار السلفي والتيارات الحركية، لتظهر لاحقا التيارات الصحوية والسرورية والقطبية.

جهيمان استخدم فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن تحت مظلة الاحتساب وليس الدولة، فأسس «الجماعة السلفية المحتسبة» مستغلا مباركة من عبدالعزيز ابن باز (ت 1420هـ/ 1999م)، لتحصر الدولة لاحقا مؤسسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحت مظلتها، إلا أنه تضخم بذاته مع مرور الوقت، واصطدم مع طبيعة التحديث والتفكير في المجتمع.

في المقابل طور الخميني نظرية النائيني (ت 1355هـ/ 1936م) في حل الفراغ السياسي الذي سببته النظرية الشيعية بعد الغيبة الكبرى، ولكن هنا تحت مظلة ولاية الفقيه، والذي له النيابة المطلقة عن المعصوم أي المهدي، لتتشكل حكومة إسلامية ثيوقراطية كبديل عن الاتجاهات اللبرالية واليسارية.

لهذا بعض الباحثين يربط الصحوة الإسلامية بهذا العام، فانتصار الثورة الإيرانية أعطت نفسا إسلاميا وحركيا، استخدمته السياسات الخليجية ابتداء كورقة في القضاء التوجهات اليسارية ظاهريا، ورأوا الاكتفاء بالتحديث عند الحد المادي الأدنى دون التوسع في المطالبات الحقوقية والسياسية، فاحتوت التيارات الدينية لكن تحت مظلتها الرسمية.

في هذه الفترة الاتجاهات السياسية في الخليج أمام ثلاثة تحديات: الأول التخلص من الفكر المتشدد الذي نتج عنه جماعة جهيمان العتيبي، والثاني: مواجهة الاتحاد السوفييتي في صيغته الشيوعية والمنظمات اليسارية، والثالث الخوف من تمدد فكرة الثورة الإيرانية، لهذا كان الإخوان المسلمون من المؤهلين لهذه الفترة، لقوة خطابهم وانفتاحهم على الحركات الأخرى من حيث معرفة تشكلاتها ونواياها، ولما يملكونه من قدرة كتابية وخطابية، ولمواجهة تصدير إيران للثورة، والذين مالوا في الابتداء معها، ثم انقلبوا عليها، مما بدأ الانقسام الطائفي في المنطقة.

في هذه الأجواء تمازجت السلفية مع الإخوان فظهرت الصحوة، أو ما يسميها بعضهم بالسرورية أو القطبية، إلا أن العديد من الكتاب الإسلاميين يرفضون ربط الصحوة بهاتين الحادثتين، فيرى هاشم عبدالرزاق الطائي في كتابه التيار الإسلامي في الخليج العربي أن «الصحوة الإسلامية، وحركة إصلاح وتجديد إصلاح وتجديد الفكر الإسلامي الحديث، التي عمت معظم مناطق العالم الإسلامي؛ هي رد فعل للغزو الاستعماري الغربي لبلاد المسلمين»، في حين يرجعها القرضاوي (ت 2022م) في كتابه الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي إلى أنها «امتداد وتجديد لحركات إسلامية، ومدارس فكرية وعملية، انقرض بعضها، ولا يزال بعضها قائما... منهم دعوة محمد بن عبدالوهاب، ومحمد بن علي السنوسي، ومحمد بن أحمد المهدي، وجمال الدين الأفغاني، وعبدالرحمن الكواكبي، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وسعيد النورسي، وحسن البنا، وأبو الأعلى المودودي، وعبدالحميد بن باديس، ومصطفى السباعي، وسيد قطب».

عموما استخدم الخطاب الديني في هذه المرحلة ضد الاتجاهات الأخرى خصوصا اليسارية والتي كانت في المواجهة، وأكثر تنظيما داخليا وثقافيا، وتمددت إلى الأقليات المذهبية الأخرى كالإباضية والزيدية، وحتى غير الدينية؛ فهناك صحوة مسيحية أرثذوكسية مثلا في مصر أيام البابا شنودة الثالث (ت 2012م).

فحالة الصحوة لم تعد خصوصا من منتصف الثمانينيات وحتى بداية الألفية الثالثة حالة سنية سلفية أو شيعية خالصة خصوصا في جوها الأخباري، بل أصبحت حالة إسلامية بشكل كبير، في محاولة لأسلمة الدولة والمعرفة، وتمازجت مع أفكار المذهبين الإباضي والزيدي، حيث تشكلهما التأريخي كان سياسيا بشكل كبير، فيرى عبدالحليم محمود (ت 1978م): «أما رأيهم في الإمامة -أي الخوارج- فإنه هو الرأي الذي يؤيد الاتجاه الحديث» أي مع جماعات الإخوان المسلمين، ويتمثل هذا «أن الخليفة لا يكون إلا بانتخاب حر صحيح يقوم به عامة المسلمين لا فريق منهم»، «فليست الخلافة في قريش كما يقول غيرهم، وليست لعربي دون أعجمي، والجميع فيها سواء»، كما أن الفكر الزيدي قائم على فكرة الثورة منذ مقتل الإمام زيد بن علي (ت 122هـ) والذي خرج على الأمويين، وهذا خلاف الاتجاهات السنية والشيعية الأخبارية، فالأولى مالت إلى طاعة الحاكم وعدم جواز الخروج عليه متمثلة في أهل الحديث، والذين أثروا في الاتجاهات الكلامية السنية الأخرى كالأشاعرة، والثانية مالوا إلى الانزواء بعد الغيبة الكبرى كما أسلفنا.

ثم بعد الانفتاح على نظريات الدولة والحكامة في الغرب، وسقوط الخلافة الجامعة للكل، ولو تحت مظلة أن يكون الحاكم متغلبا، ولو كان غير عادل أو ملتزم دينيا، لكنه رمز جامع للكل، وما لازم سقوط الخلافة من تكون الدولة القطرية أو الوطنية، ثم تعدد التجارب السياسية، جميع هذا أحدث شيئا من الانسداد التأريخي والتراثي، ليولد من رحم الواقع توجهات إسلامية حركية، اصطدمت في منظومتها السياسية مع الدولة القطرية.

هذه التجربة بحاجة إلى قراءة تفكيكية ونقدية من جديد، وليست بحاجة إلى عنف يتولد عنه عنف أشد كما حدث في عهد جمال عبدالناصر (ت 1970م)، وقد رأينا العديد من القراءات الناقدة في ذلك في العقدين الأخيرين، ولكن نحن اليوم بحاجة إلى منظومة سياسية وآمنة تعطي مساحة واسعة من الحريات والدعم المادي في التفاعل البحثي والنقدي، بعيدا عن الغايات المصالحية، كانت دينية أو مذهبية أو سياسية.

***

بدر العبري - كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»

 

تمهيد: روجيه جارودي فيلسوف وسياسي فرنسي (1913 - 2012). مبرز في الفلسفة، أصبح عضوا في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي عام 1945. انتخب نائبا عن تارن في الجمعيتين التأسيسيتين (1945-1951)، مثل نهر السين في الجمعية (1956-1958)، ثم في الجمعية التأسيسية (1956-1958) مجلس الشيوخ (1959- 1962). وفي عام 1953 قدم أطروحة الدكتوراه حول النظرية المادية للمعرفة. وهو عضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي (1956)، وقام بالتدريس في جامعات كليرمون فيران (1962)، ثم في بواتييه (1965). مدير مركز الدراسات والأبحاث الماركسية، بدأ الحوار مع المسيحيين من خلال مؤلفات مختلفة (من اللعنة إلى الحوار، 1965؛ ماركسية القرن العشرين، 1966). بعد أحداث تشيكوسلوفاكيا سابقا (1968)، انتقد قادة الحزب الشيوعي الفرنسي لدعمهم الاتحاد السوفييتي، على الرغم من عدم موافقتهم على تدخل قوات حلف وارسو في تشيكوسلوفاكيا، ولجوئهم إلى الأساليب الستالينية. تم استبعاده من المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي (فبراير 1970)، ثم من الحزب نفسه (مايو 1970). ثم يوضح أفكاره عند مفترق الطرق بين الماركسية والمسيحية. كتب: الحرية بعد التأجيل: براغ 1968 (1968)، الماركسيون والمسيحيون وجهاً لوجه (بالتعاون مع كوينتين لاور، 1969)، التحول الكبير في الاشتراكية (1970)، الحقيقة الكاملة (1970)، كلمة رجل (1970). 1975)، مشروع الأمل (1976)، نداء إلى الأحياء (1979)، من أجل مجيء المرأة (1981)، سيرة القرن العشرين (1986)، جولتي الفردية في القرن (ذكريات) [1989]. تسبب الانجراف المعادي للسامية في عمله حول الصهيونية (الأساطير التأسيسية للسياسة الإسرائيلية، 1996) في فضيحة. لماذا يعد أفضل مدافع عن العرب والفلسطينيين في الغرب؟ وهل أدى هذا الانتصار للحقوق الفلسطينية الى التحرر من المركزية الغربية والمطالبة بانهاء النزعة الكولونيالية للامبريالية؟ كيف يرسم الأمل للبشرية؟

الترجمة

 "رأى كثير من الناس في العالم العربي أن روجيه جارودي مثقف يدعم نضال الشعب الفلسطيني وقد تمت إدانته بسبب هذا الدعم للقضية العادلة. في الملخص الأول لكتاب إسرائيل-فلسطين، حقائق عن الصراع، عدت إلى حالة هذا الشخص. لماذا، على الرغم من كل الأدلة، لا يزال الناس يشككون في وجود الإبادة الجماعية؟ "منكرون البيت" ليسوا المجموعة الوحيدة التي تقاوم نظرياتها الواقع. لكن أطروحات روبرت فوريسون وأتباعه تتغذى على معاداة السامية التقليدية، ومؤخرًا ارتكزت على انتقادات جذرية لدولة إسرائيل. والمنطق هو كما يلي: إسرائيل تستخدم الإبادة الجماعية لترسيخ شرعيتها، لذلك لا بد من إنكار الإبادة الجماعية لإزالة شرعيتها. لقد كان لهذه الأطروحات فرصة جديدة للحياة في فرنسا والعالم العربي مع روجيه جارودي. ربما هذا الاسم لا يعني شيئا بالنسبة لك. إنه رجل عجوز، رحلته مثيرة للدهشة على أقل تقدير: شيوعي وستاليني في الخمسينيات والستينيات، و"مجدد شيوعي" في السبعينيات، اعتنق المسيحية أولاً ثم اعتنق الإسلام. ولذلك فإن قناعات قوية، ولكنها ليست دائمة للغاية. وفي عام 1996، نشر عملاً بعنوان "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية". وبموجب قانون جايسو، أدانته المحاكم الفرنسية بتهمة "الطعن في جريمة ضد الإنسانية". ورأى كثير من المثقفين العرب، المسلمين الفرنسيين، في هذا الحكم محاكمة للسحر، دليلا على النفوذ الصهيوني في فرنسا. على عكس معظم أعضاء طائفة منكري المحرقة، ينأى روجيه جارودي بنفسه عن معاداة السامية التقليدية. فهو يدين، على سبيل المثال، بروتوكولات حكماء صهيون باعتبارها مزورة - ويحيي ذكرى "شهداء انتفاضة الحي اليهودي في وارصوفيا". لكنه مدفوع بالعداء العميق لدولة إسرائيل، وهو العداء الذي يعمي عينيه ويكسبه تعاطف العالم العربي. "أساطير القرن العشرين" هو عنوان الفصل الثالث من كتابه. هل نسي المؤلف، الذي كان مناهضاً للفاشية، أن هذا كان عنوان رواية كلاسيكية للمنظر النازي ألفريد روزنبرغ؟ هل حدثت "إبادة جماعية" لليهود أثناء الحرب؟ "، يسأل المؤلف. لا، يجيب؛ إنها "ليست مسألة إبادة شعب بأكمله" لأن اليهودية "شهدت نموًا كبيرًا في العالم منذ عام 1945". لذلك لم تكن هناك إبادة جماعية للأرمن منذ بقاء الأرمن، ولا إبادة جماعية للتوتسي أو الخمير... وبهذا المنطق، يمكننا أيضًا أن نقول إن الفلسطينيين لم يُطردوا في عام 1948، لأن بعضهم تمكن من البقاء في منازلهم …كان هتلر بالطبع معاديًا لليهود، كما يتابع روجيه جارودي، لكنه لم يكن يريد إبادتهم. وتلخص "الحل النهائي" في الترحيل إلى الشرق، والذي تم في ظروف رهيبة: مسيرات قسرية، ومجاعات، وحرمان، وأوبئة، وما إلى ذلك. ولذلك لم يكن هناك أبدا آلة إبادة. ويبدأ حسابًا مروعًا ليوضح أن الأرقام المقدمة للضحايا تختلف على مر السنين. صحيح أن تقديرات عدد القتلى في أوشفيتز قد تقلبت: من 4 ملايين في أعقاب الحرب إلى مليون اليوم. هل هذا مفاجئ؟ هل عرفنا فعلا عدد القتلى خلال حرب الجزائر عام 1962؟ لا يزال عدد ضحايا العديد من الصراعات موضع نقاش. ولكن في حالة الإبادة الجماعية لليهود، فإننا نركز بشكل أو بآخر على عدد القتلى، ما يقرب من 6 ملايين - نصفهم في غرف الغاز، ومليون بالرصاص (لا سيما على الجبهة الشرقية)، بينما هلك الآخرون في الأحياء الفقيرة وبسبب سوء المعاملة وسوء التغذية وما إلى ذلك. إنها نتيجة لأعمال لا تعد ولا تحصى لا يعرف عنها روجيه جارودي شيئا. يقتصر نصه على مجموعة من الاقتباسات المنفصلة عن سياقها، وهي عملية يستخدمها أخيرًا "لإظهار" أن غرف الغاز لم تكن موجودة أبدًا. ومن ثم، فإن روجر جارودي، حرفيًا، منكر للهولوكوست ولا يمكن تمييزه عن روبرت فوريسون وكل مساعديه المعادين للسامية. وبإدانته له، جعلته السلطات الفرنسية، في نظر البعض، ضحية. لكن المؤسف أن مثقفين أوروبيين أو عرب تمكنوا من الدفاع عن «حقه في التعبير»، دون إدانة الأطروحات التي يروج لها. ومع ذلك، فإن انتقاد السياسة الإسرائيلية أو حتى الصهيونية لا يرقى إلى مستوى معاداة السامية أو "السلبية". يتعين علينا أن نرفض كل أشكال الابتزاز، كتلك التي مارسها باتريك جوبيرت، رئيس الرابطة الدولية لمناهضة العنصرية ومعاداة السامية (ليكرا)، في مقال نشره في صحيفة لوفيجارو بتاريخ 7 يونيو/حزيران 2001. وهو يدين صعود الحركات المعادية للسامية. الأفعال في فرنسا والمرض هو أصل هذه "الانتشارات الخطيرة": "نحن نعرف المرض. إن معاداة الصهيونية، وهي مشروع فكري وسياسي واسع وغامض - عندما لا تكون عنصرية - تهدف إلى عدم الاعتراف بحق الشعب اليهودي في العودة إلى أرض أجداده، أو بشكل أكثر تحديدا، حق إسرائيل في الوجود. » بقلم آلان جريش

تعقيب

هل كان جارودي معاديا للسامية؟

“إن كفاحنا ضد الصهيونية السياسية لا يمكن فصله عن كفاحنا ضد معاداة السامية."

يُظهر جارودي الكثير من الاحترام للديانات الثلاث في الكتاب. ولكن بعد نشر كتاب "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" (1996)، اتُهم بمعاداة السامية. في الواقع، ما أراد جارودي أن يشكك فيه في هذا الكتاب هو الإمبريالية الإسرائيلية والصهيونية. ويسعى الإسرائيليون إلى تبرير طرد الفلسطينيين من أراضيهم والسيطرة التي يخضعون لها. ولهذا يستخدمون الكتاب المقدس حيث اختار الله شعبًا وأرضًا، "أرض الموعد". وبطريقة ما، فإن الإسرائيليين لن يحققوا إلا هذا الوعد الذي قطعه الله في العهد القديم. علاوة على ذلك، فإنهم يستغلون المحرقة من خلال اللعب على الشعور بالذنب لدى الغربيين الذين لم يتمكنوا من منع مذبحة اليهود. وقد عمل جارودي كمؤرخ ويلقي ظلالاً من الشك على رقم 6 ملايين يهودي ماتوا في معسكرات الاعتقال. لكن بعيدًا عن الأرقام، فهو يعترف بالإبادة الجماعية. ما أثار الفضيحة هو أنه ادعى أنه لم يعثر على أي أثر لغرف الغاز في الوثائق العديدة التي اطلع عليها. وقيل إن اليهود قد هلكوا بسبب السخرة وتم استخدام التيفوس ومحارق الجثث لحرق جثث الضحايا. لن يكون هناك شهود موثوقين. يمكننا بالفعل أن نعتقد أن النازيين قد محوا كل آثار خزيهم! ويُزعم أن السجناء النازيين تعرضوا للتعذيب لحملهم على الاعتراف بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية. ولذلك جعلنا من جارودي منكرًا. لقد قادته مناهضة روجر جارودي الراديكالية للصهيونية، منذ عام 1982، إلى وضع الصهيونية والنازية على نفس المستوى وتقديم عدة شكاوى ضده بتشكيل حزب مدني للطعن في جرائم ضد الإنسانية والتشهير العنصري العلني والتحريض على الكراهية العنصرية من قبل جمعيات المقاومين والمبعدين ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان. ثم تم الإعلان عن الفضيحة في أبريل: اضطر روجيه جارودي إلى الابتعاد عن الحياة الإعلامية. اعتنق الإسلام منذ بداية الثمانينات، وخلال المحاكمة حصل على دعم مثقفين من الدول العربية والإسلامية باسم حرية التعبير. وأدين روجيه جارودي في 27 فبراير/شباط 1998، بموجب قانون جايسو، لمناهضة الجرائم ضد الإنسانية والتشهير العنصري. ومنذ ذلك الحين، لا يمكن العثور على أعماله، التي اشتهرت خلال فترة الستينيات والثمانينيات، في المكتبات الغربية. وقد دفعت هذه القضية إلى كتابة عمل أخير، وهو وصيته الروحية بطريقة ما، وهو الإرهاب الغربي (القلم، 2004). ومهما يكن من أمر، فإن جارودي فيلسوف منخرط في قرنه، وأحد أعظم الشواهد في عصره. في كتابه الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، قصد جارودي التنديد بالصهيونية السياسية، التي أسسها تيودور هرتزل (ثم أدانها جميع حاخامات العالم باعتبارها خيانة للعقيدة اليهودية)، [والتي] لا تنبع من العقيدة اليهودية، بل من القومية الأوروبية والاستعمار في القرن التاسع عشر . وعلى حد قوله فإن إبادة اليهود على يد النازيين هي أسطورة صهيونية تهدف إلى تبرير السياسة التوسعية ويمكن مقارنتها بالنازية التي قامت بها دولة إسرائيل، وهي الدولة التي سيتم تمويلها من قبل الولايات المتحدة والدول التي تزعم إسرائيل أنها ستمولها. للابتزاز من خلال المطالبة بتعويضات الحرب غير المتناسبة. بالإضافة إلى ذلك، سيكون لإسرائيل تأثير إعلامي في الدول الغربية إلى حد قدرتها على التلاعب بالرأي العام. لقد تكون الكتاب من ثلاثة أجزاء. الأول يفضح "الأساطير اللاهوتية". والثاني، "أساطير القرن العشرين"، ينتقد محاكمة نورمبرغ وينفي وجود المحرقة؛ وأخيرًا، في الفصل الثالث، "الاستخدام السياسي للأسطورة"، يشرح غارودي كيف أن اللوبي الصهيوني، وفقًا له، يؤثر على السياسة ووسائل الإعلام الغربية، وكان سيسمح وما زال يسمح بتمويل دولة إسرائيل، ولا سيما تمويل جيشها.

لماذا نقد الغرب من منظور علاقته الاستعمارية بالشرق والعالم الثالث؟ وكيف نادى بحوار الثقافات؟

تزداد الفجوة سوءا بين العالم الثالث والأثرياء. إن عدم المساواة يتزايد في العالم، بين من يملك ومن لا يملك، والمجاعة بين المعسرين، والبطالة أو المجاعة بين الذين أصبحت أيديهم عديمة الفائدة. لم يعد للحياة معنى أو مستقبل أو غرض. نهرب إلى الانتحار والعنف غير المبرر. يوضح المؤلف كيف يمكن تجنب غرق السفينة. في هذا النداء الأخير، يفتح المؤلف الطريق للقرن الحادي والعشرين بوجه إنساني وإلهي.

لقد كُتب عمل جارودي تحت شعار "حوار الحضارات" ولكن بشكل خاص بين الثقافات غير الغربية. ووفقا له، من القرن السادس عشر إلى نهاية القرن العشرين، كان تطور العالم الغربي يعتمد على ثلاث أولويات: الفعل والعمل (يقول غوته: "من خلال العمل بلا كلل يظهر الإنسان كل عظمته" فاوست)، ونمو العقل (اختزال العقل إلى الذكاء وحده) ونمو النمو من الناحية الكمية (إنتاج الاحتياجات الاصطناعية ووسائل إشباعها). بالنسبة لروجيه جارودي، فإن مثل هذا النموذج لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الأزمة التي نشهدها اليوم. ووفقاً له، فإننا نقتل أحفادنا: فنموذج النمو الذي نتبناه يهدر في جيل واحد الثروة التي تراكمت في أحشاء الأرض لعدة قرون. هذه السياسة تقتل بالفعل خمسين مليون إنسان في العالم الثالث كل عام بسبب الجوع وتجبرهم على الإبادة أو التمرد. ونحن نقترح في الولايات المتحدة وفرنسا «قوات تدخل عسكري».. هذه الأزمة، بعنفها الذي يدفعنا إلى الانتحار النووي، إلى تفكك مجتمعنا وأيديولوجياته، هي أخطر أزمة عرفتها أي حضارة مرت على الإطلاق.  ولقياس هذه المشكلة والتغلب عليها، يلقي روجيه جارودي نظرة على خمسة آلاف عام من التاريخ والحوار العالمي مع حضارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية والإسلام. كما أنه يستحضر أجمل الرؤى النبوية للرجال، ولكنه يستحضر أيضًا معنى الاشتراكية الإسلامية والهندية والصينية والإفريقية، ويقود، بالنسبة للغرب، إلى مشروع سياسي ملموس: يعتمد على صورة اقتصادية صارمة لنفاياتنا، ولكن أيضًا من مواردنا وإمكانياتنا، ومن لقاء غير مسبوق بين السياسة والإيمان، يرسم خطة لنمو جديد، مع الانفصال عن السياسيين والتكنوقراط والأصوليين من جميع المشارب. بالنسبة له، فإن خلق مستقبل سعيد يتطلب إعادة اكتشاف جميع أبعاد الإنسان التي تطورت في الثقافات غير الغربية. إن فهم الحياة يعني أولاً فهمها في وحدتها. لقد طور هذه الأطروحة في كتابه من أجل حوار الحضارات (دينويل، 1977) وفي دعوة إلى الأحياء (سيويل، 1979) من خلال شهادته على تجربة الكواكب التي قادته إلى هذا اليقين ومن خلال تقديم مشروع سياسي ملموس. لقد علمت ديانات الصين واليابان الإنسان اندماج جميع العناصر في الكل العظيم. تتطلب الطاوية الإدراج في المبدأ العالمي الذي تدركه من خلال المعرفة البديهية، ومن خلال التأمل الذي في النهاية يتحقق اتحاد الإنسان والطبيعة. تعلم البوذية، التي انتشرت من الهند إلى آسيا بأكملها، أن الإنسان لن ينهي معاناته إلا بالتخلي عن الرغبة واللذة والذوبان في الأبدية مثل كوب من الماء يسكب في البحر اليابانية) تؤكد على ضرورة تحرير العقل حتى يتمكن من الترحيب بالتنوير. بالنسبة للرسامين الصينيين في فترة سونغ (من 960 إلى 1279)، فإن الطبيعة ليست مادة خاملة نسعى إلى إتقانها. ويشكل الكون كلاً تنبضه حركة الحياة ذاتها، يشمل النهر كما يشمل قمم الجبال، والشجرة كما الصخور، والسحب كما يشمل الطير، وما الإنسان إلا لحظة واحدة من هذه الدورة الأبدية. الرسم هو وسيلة لتجربة زن. وخلافًا للوحات عصر النهضة، لا يسعى الفنان إلى تمثيل مشهد، بل إلى إيصال حالة الطبيعة. إنه يستحوذ على خطوط قوة المشهد الطبيعي ويؤلف الين واليانغ والتناقضات والتوترات. يحاول الفن الأفريقي أيضًا "جعل غير المرئي مرئيًا". على عكس الفن اليوناني، الذي يبدأ من الفرد لاستخراج خطوطه الأساسية، يبدأ المبدع الأفريقي من تجربته الحياتية للكل العظيم لإعطاء شكل ملموس لطلاسمه. على سبيل المثال، يجب اعتبار القناع قبل كل شيء بمثابة مكثف للطاقة. القوة التي يحتويها ويطلقها تأتي من الطبيعة والأجداد والآلهة. لم يتم إنشاء الأعمال الأفريقية للتأمل. إنها أشياء مشاركة مخصصة لأداء طقوس الطقوس. عندما يرقص الأفارقة بأقنعتهم، فإنهم يستمدون الطاقة التي يشعونها في جميع أنحاء المجتمع. يدعو الفن الإسلامي إلى تصريحات مشابهة لتلك التي أدلى بها جارودي حول فنون الصين أو اليابان أو أفريقيا: بدءًا من المعنى حتى فك رموز العلامة. إن النظرة إلى العالم الإسلامي لا تشجع على التمثيل الواقعي. بالنسبة لها، كل صورة تصرف المؤمن عن الصلاة النقية، وتقوده إلى إدراك وحدانية الله. وهكذا تم تزيين المسجد بآيات من القرآن الكريم. يمكن أيضًا تفسير تطور الخط من خلال طبيعة الإسلام ذاتها، وهو دين يتمحور حول نص مقدس، كلمة الله التي محمد هو رسولها فقط. فماهي رؤية جارودي للصراع على ارض فلسطين ومدينة القدس؟

هذا الكتاب فلسطين – أرض الرسالات الإلهية تتبع فيه جارودي تاريخ فلسطين من الأساطير التي اختلقها القادة الإسرائيليون لجعل الناس يعتقدون أن هذه الأرض ملك لهم من خلال تبرع موقع: الله. فهو يظهر أن الصهيونية، وهي عقيدة سياسية ولدت من القومية والاستعمار الأوروبي في القرن التاسع عشر، تخون الإيمان النبوي اليهودي العظيم عندما تحاول تبرير توسعها واعتداءاتها من خلال الاستخدام القبلي للكتاب المقدس. وهو يستند إلى وثائق غير منشورة باللغة الفرنسية، ويوفر نسخا من أصولها، على وجه الخصوص: - النسخة الأصلية، باللغة الألمانية، لمقترحات التعاون المقدمة إلى النازيين من قبل مجموعة يتسحاق شامير؛ - سير عمل اللوبي الصهيوني وفق محاضر مجلس الشيوخ الأمريكي. - المخططات العدوانية الإسرائيلية مع النسخة الكاملة للنص العبري لعام 1982 الذي يحددها. إن هذه الدراسة للنشوء التاريخي والمنطق الداخلي للصهيونية تثبت أن إسرائيل، التي ولدت من حربين وتوسعت بخمس حروب، يمكن أن تشكل فتيل حرب عالمية ثالثة. إن الحل المقترح للمشكلة الفلسطينية يرفع النقاش إلى مستواه الروحي الحقيقي: يجب أن تصبح القدس مرة أخرى العاصمة المقدسة للديانات الإبراهيمية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) لإنجاز مهمتها المستمرة منذ أربعة آلاف عام في الإخصاب المتبادل. الثقافات وبوتقة الرسائل الإلهية . من المعلوم أن جارودي كتب رواية كلمة الانسان، عام 1975، مهد به كتاب "مناشدة الأحياء"، وهذه الاستجابة الملموسة للمخاوف العالمية بشأن مستقبل الإنسان. كل إنسان، في مرحلة ما، يسأل نفسه أسئلة عن نفسه وعن الآخرين، عن الحياة، والحب، والموت، والسعادة، واللذة، والحاضر، والماضي، والمستقبل، والحرية، والسياسة. إن رد روجيه جارودي على هذه المشاكل الأساسية هو رد حديث بكل تأكيد، موجه نحو المستقبل، يركز على التعالي، هذا التجاوز للذات الذي يؤدي إلى الفعل الإبداعي، الثورة الحقيقية الوحيدة، والطريقة الوحيدة للإنسان لتقريب الآخرين من الله.  فكيف يمكن الاستفادة من جارودي في انقاذ ما تبقى من الكونية وتدعيم اطروحته حول حوار الجضارات والدفاع عن قيم الحق والعدل والحرية في فلسطين؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

.........................

المصادر

Roger Garaudy, Pour Un Dialogue Des Civilisations

Roger Garaudy, les Mythes fondateurs de la politique israélienne

Roger Garaudy, Le terrorisme occidental

Roger Garaudy, Palestine - Terre des messages divins

Roger Garaudy, Parole d'homme

Roger Garaudy, Reconquête de l'espoir

هي الحياة البئيسة في المجتمعات البئيسة التعيسة، لا تلد إلا البؤس، ولا تنتج إلا المعاناة والآلام والأوجاع للأفراد العاقلة، والجماعات المتعقلة، والمجتمعات الواعية؛ لأن رحمها متعفن بالفيروسات من الداخل، متعايش معها، مستأنس بها، يحتضنها برفق وحنان لانسجام طبيعته بطبيعتها. فالعدوى متأصلة في بيئتها، تتكيف فيها الجراثيم مع متطلبات تجاوز دفاعات المناعة الذاتية إن أفرزتها أجهزة مناعاتها، فيظل البؤس رفيق دربها ما لم تقف يوما ما، أمام ذاتها حاملة مشرط النقد لاستئصال أورامها، وحرقها في محرقة الأعضاء والجثث المتعفنة، للتخلص منها إلى الأبد. وما لم تفعل المجتمعات البئيسة التعيسة النقد الذاتي ستظل معالم التطور والتقدم سوى طفرات طارئة على الأصل، قد تضمر يوما ما لمفارقتها سياق وجودها الطبيعي.

من هذا المنطلق يتساءل الإنسان العربي والمسلم عما يعيشه من طفرات مدنية متقدمة، تعلو سطح المجتمعات العربية والإسلامية، وكأنها منابع أصيلة فيها، قائمة على أسس متأصلة الجذور في التربة العربية والإسلامية لعصور خلت، مازالت تغذي مصادر التطور والتجديد والنماء بمعين فكرها وإبداعاته وابتكاراته في هذه الأمة المتخلفة. لكن حين يقف الإنسان على حافتها مطلا إلى عمقها، يرى كثيرا من علامات الاستفهام، وأخواتها من علامات الترقيم: التعجب، ونقط الحذف، والشرطتين، والإشارة المائلة، والتنصيص، والقوسين، والقوسين المستطيلين ... فالمظاهر والشكليات براقة وجاذبة واحتفالية في هذه المجتمعات، بينما مضمونها هش جدا، يحمل الكثير من التحديات، إن لم أقل مطبات انتحارية. وسأضرب مثالا للقياس عليه في أغلب القطاعات والمجالات الحياتية والمؤسساتية والبنيات التحتية ـ والبنية التحتية هنا مفتوحة على البنيات الفكرية ـ لهذه المجتمعات والدول. وهو مجال التربية والتعليم والتكوين الذي يشكل الأساس المركزي لخيمة التقدم والتطور، والذي توليه الأمم المتقدمة درجة كبيرة جدا من الاهتمام، فتمركزه قطب مشاريع الدولة، والميزانيات الضخمة، لأنها تعلم أساسا عائده الإيجابي على الأفراد والمجتمع والدولة وتنميتها وتقدمها، وقوتها ومدخلها إلى الاقتصاد القوي والمتين خصوصا أنه يشكل حاضنة الإبداع والابتكار بناء على تكوينه للطاقات الإبداعية البشرية من علماء ومخترعين ومهندسين.. فهو في الأمم المتقدمة والمتطورة، نتائجه ومردوديته وحصيلته تعبر حقيقة عن واقع حاله دون تزييف أو تزوير أو توهيم. فكفاءة المتخرج تعبر عن درجته حقيقة وفعليا، التي تخرج بها. ولا تدل على فارق بين واقع الحال ومستهدف الحال؛ أي تحقيق الهدف المنشود من التربية والتعليم والتكوين في تغطية الفارق بين الوضعية المنطلق والوضعية المستهدفة. بمعنى تحصيل القيمة المضافة للفعل التربوي والتعليمي والتكويني في درجة الكفاءة العلمية والأدائية والفكرية للمتخرج. ولكن في واقع حال الأمم المتخلفة؛ لا تعبر درجة تخرج المتعلم/ة عن درجة كفاءته حقيقة وفعليا وعمليا وإجرائيا، نتيجة وجود فارق بين السطح والعمق، يتكئ على توهيم المتعلمين وأسرهم والمجتمع والدولة أن الدرجات الممنوحة هي درجات حقيقية، تعبر عن كفاءة الأفراد. بينما الحقيقة أن الدرجات في واد، والكفاءة في واد ثان، وبينهما هوة تربوية هشة تعيش على تزييف الحقائق، وتنتعش على ثقافة الاحتفالية والفنتازيا والشعبوية باتجاهين متوازيين هما:

ـ توظيف الاحتفالية والفنتازيا ـ وهي هنا تحمل دلالة الخيال المبدع والوهم والأسطرة والخرافة ـ في وجه المتعلمين وأسرهم والمجتمع والدولة طلبا لرضاهم، وتغطية على قصور الممارسة التربوية والتعليمية والتكوينية في تحقيق أهدافها المقررة رسميا. وتسترا على واقع الحال الذي يشي بوجود اختلالات بنيوية في المنظومة التربوية والتعليمية والتكوينية على مستويي السياسة والتدبير. وهو ما يؤدي إلى رضا هؤلاء على النتائج، خاصة في ظل إيمان المجتمع في إطار ثقافة شعبوية فقيرة وتافهة وقطيعية بالمظاهر في تحصيل المنافع والقيمة الاجتماعية، وربما الاقتصادية. فالشكليات والمظاهر تحتل موقعا متقدما في فكر القطيع والتفاهة والوهم، يعتمدها الأفراد كما الأسر والعائلات تباهيا وتبجحا فيما بينها، وتعتمد الأنظمة السياسية للتفرقة والتسيد والتسلط. والتسابق في ذلك مع خلق صراعات طبقية لأجلها. وقد توظف هذه السلطة التربوية طلبا في استجلاب رؤوس أموال أجنبية للاستثمار في قطاع التربية والتعليم والتكوين أو تحصيلا لقروض بنكية أجنبية وعالمية. وإذ؛ الاحتفالية والفنتازيا أداة في يد الأغلبية الراقدة المتلذذة بالمصلحجية تلعب على العقل الجمعي للشعبوية والتفاهة والقطيعية، وتبقيه متوهما أن الحقيقة تكمن فيما اتفقت عليه الأغلبية، وما أفاده الاجماع. وتزيف الوعي؛ تخلق فيه منابع الفكر الخرافي والأسطوري بتسطيحه وتسذيجه وتبسيطه، وتذكي فيه اليقينيات الخاطئة والجزميات الفكرية عوامل القناعات الراسخة الثابتة، التي توجه الوعي الفكري للأفراد والجماعات والمؤسسات نحو مسالك معينة مستهدفة لذاتها، وتضبط سلوك العقل الجمعي بقيم وحدثية معينة مستهدفة هي الأخرى كما الحركات والسكنات والمشاعر والأحاسيس، وتشكل الرؤى. وتفقده منابع القوة في ذاته، وهي الفكر النقدي والإبداعي والعلمي والموضوعي، وتنزع عنه أدواته المنهجية من تحليل وتركيب وتشريح ودراسة وبحث وتفكير ... وترمي به في خندق التقليد والعادة المقدسة والروتين؛ المحرم الاقتراب منها، وتطمره بالتراب. فيظل كذلك إلى أن يراجع نفسه ويسائلها عما يفعل بذاته.

ـ توظيف الاحتفالية والفنتازيا في تجريم النقد البناء، ومحاربته ومقاتلته بكل طاقتها وحيويتها، لأنها تراه منبعا للوعي والحقيقة والتطور وطرح البدائل، وتهشيم معمار المصلحجية ومعابدها في المجتمع، وإزاحة ثقافة الشعبوية الفقيرة والتافهة والقطيعية عن العقل الفردي والجمعي لمكونات المجتمع التي تشكل الأغلبية في بناء فكر القطيع بما يحمل من دلالات التخلف والتأخر. وخوفا من إخراجه للمجتمع بكل مكوناته من ظلمة الجهل بالحقائق والمواقع والمفاعيل إلى نور العلم بها والوعي بسلبياتها وكوابحها للتقدم المجتمعي والتطور الإنساني. ما يؤدي إلى الوعي والثورة المخملية في الفكر أو الثورة الحامية في الفعل، نحو تحطيم صروح المصلحجية في المجتمع، وإزاحة كوابح وفرامل التخلف عن طريق النماء والتقدم والتطور على مختلف المستويات والمجالات والقطاعات الحياتية.

فالاحتفالية والفنتازيا أداة تلتمسها المصلحجية والشعبوية لخلق حالة مستدامة وممنطقة من تبسيط القضايا المعقدة على مختلف مواضيعها وإشكالياتها ومشاكلها، كبيرة كانت أم صغيرة، ليبدو عائدها غير مؤثر أو مؤثر بشكل بسيط وصغير، لا يرقى إلى الانشغال به؛ فهي تغيب بالتبسيط والتسطيح العوامل الأساسية في تلك القضايا، والحقائق والأدلة، والتفاصيل والفروق الدقيقة فيها، التي تستدعي حلولا متوازنة وشاملة. وتعمل على خلق الشروخ والانقسامات بين الطبقات والتوجهات، وإثارة العواطف والمشاعر والاثنية، مما يديم التوترات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية والعقائدية بما تنتفع منه، وربما تديم الانغلاق على الذات والتقوقع فيها إغلاقا لمنافذ الآمال والطموحات، وبما يسمح لها الانتفاع من الوضع القائم وتسييد وجودها، ونشر وإشاعة المعلومات المغلوطة المضللة وتضليل الجمهور قصد توجيهه إلى ما تريد. وهي بهذا تقوض القيم الإيجابية في المجتمع من استقلالية وحرية والرأي المخالف والتنوع، كما تقوض المؤسسات الديمقراطية من قبيل القضاء والإعلام والبرلمان، بإظهارها ـ وهما ـ امتدادا عضويا للنخب التي تعارض إرادة المجتمع في تحقيق مطالبه، ومشروعاته النهضوية والتحررية.

فهي تعمل على إضعاف قيمة الحوار مع الآخر والتفاهم معه، وتقلل من قبول الآخر اختلافا، وترفع من قيمة الرأي الواحد والوحيد بدعوى امتلاكه وحده الحقيقة، وتشيع الفكر الشمولي على المجتمع والأحادية الفكرية؛ وغالبا، ما تدعي ذلك لصالحها. ما ينفي التوافق والحلول الوسطية من المجتمع، وإعدام الإيمان في المجتمع بقيمة التعاون والتكامل والتآزر في شد اللحمة المجتمعية وتمتين عواملها. كما أنها تعمق الهوة والفجوة بين الواقع والمنتظرات، فترفع من درجة وكمية توقعات الأفراد والجماعات بطريقة غير واقعية، كما يقع في الاحتفالية والفنتازيا السياسية ووعودها البراقة الحالمة الكاذبة، التي تذكي في المجتمع قابلية الأحلام ودرجتها، والتعلق بالغائب الآتي بتبني تلك الوعود الفارغة والكاذبة، مما يقود في نهاية المطاف الجماهير الشعبية إلى خيبة الأمل والإحباط وفقد الثقة في كل شيء، عندما لا تتحقق تلك الوعود.

والاحتفالية والفنتازيا بما تحمل من دلالة الشعبوية، بتهريجها وتسطيحها وتبسيطها للأمور المعقدة ومشاكلها وإشكالياتها وقضاياها، تقدم لها حلولا ترقيعية آنية وظرفية، تغيب عنها النظرة الاستراتيجية والدراسة العلمية، ما يعقدها ويؤزمها بما تحمل تلك الأطروحات من مشاكل إضافية، بمعنى تأزيم المأزم بحلولها المؤقتة الترقيعية أو الصيانية. وتحضرني هنا الكثير من المقترحات والحلول لمشاكل معقدة في المنظومة التربوية والتكوين، سأختار منها واحدة للمثال لا للحصر. ذلك أن منظومتنا عاشت في مرحلة ما نقصا حادا في الموارد البشرية، فذهبت لحل هذه المشكلة إلى التوظيف المباشر، بمعنى التحاق هيئة التدريس مباشرة بالممارسة الصفية بعد النجاح في مباراة التوظيف، ودون تكوين أساس، أي من المدرج الجامعي إلى فضاء الحجرة الدراسية، بدعوى الحاجة الملحة التي تستدعي الاستعجال في الحل. ما أدى إلى ضعف الكفاءة المهنية لدى الممارس البيداغوجي، وضعف التعلم عند المتعلم/ة وكفاءته. كما أن مباريات التوظيف في هذا القطاع مازالت تستقطب المستوى الضعيف الأكاديمي للتوظيف. ذلك أن اختبارات وتقويمات مباراة التوظيف تدل دلالة إحصائية على ضعف درجات المتبارين؛ وبحكم الحاجة للمورد البشري وسدا للحاجة ـ التي يجب عدم العمل بها في قطاع التربية والتكوين بالمطلق ـ تضطر لجان المباراة إلى إلحاق الدرجات القريبة من المعدل وما تحتها بلائحة الناجحين في المباراة، وهو ما ينعكس سلبا على المستوى المهني للمورد البشري من جهة أولى، وعلى مستوى أداء المتعلم/ة وناتج التعلم من جهة ثانية، وأخرى ثالثة على مستقبل البلاد والعباد.

فالاحتفالية والفنتازيا في اختبار الباكالوريا بفكرها الشعبوي، تقدم نتائجه بأبهى صورة، وأعلى الدرجات، تكاد تموقع المتعلم/ة موقع الممارس البيداغوجي، داخل ظروف غير مناسبة للتعليم والتعلم، وفي غياب متطلبات وحاجيات وحاجات غير متوفرة، فضلا عن الإضرابات التي تستغرق مساحة ومسافة طويلة من السنة الدراسية، يغيب عنها التدريس إلا ما قل. فتجد تلك النتائج تحمل مفارقات واضحة وفاضحة، ففيها مفارقة درجات المراقبة المستمرة المرتفعة، ودرجات الاختبار المنخفضة، ما يعبر عن كفاءة المتعلم/ة الحقيقية، وتحصيله العلمي المتدني، وضعف اكتسابه للكفايات والمهارات والقدرات المستهدفة. فالعقل يفيد إمكانية ورود الدرجات العليا والمرتفعة في العلوم الحقة، لكن في العلوم الإنسانية لا يمكن أن تتقبل ذلك، نظرا لعوامل عدة تنعكس على الإجابات. في مقابل أن التقويم في العلوم الإنسانية في الاختبارات الإشهادية يظل تقويما ذاتيا لا موضوعيا؛ لافتقاده المحكات والمعايير والبنود، التي تقيس الحقائق بموضوعية. فالتقويم يكون تقريبيا من خارج إلى داخل الاختبار، لا من داخله إلى خارجه. والجميع يعلم أن التقويم في العلوم الإنسانية مهما حاول أن يكون موضوعيا ودالا إحصائيا على صدق درجاته، يتعدد بتعدد الفهم الذاتي للمصححين، لأن أجوبته صامتة غير ناطقة بحقيقة درجاتها، والمصحح بحصيلته التربوية والأكاديمية والقيمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعقائدية، وبسحنته الواقعية الطبعية والتطبعية، يشكل القراءة الخارجية لهذه الأجوبة الصامتة وتفسيرها وتقدير درجاتها. وهنا يقع التفاوت بين درجات المصححين لنفس الأجوبة. وعليه؛ تحمل درجات البكالوريا تفاوتا بين درجات المصححين لنفس بنود الاختبار نتيجة خارجية التصحيح. عكس العلوم الحقة، فالأجوبة تنطلق من الداخل إلى الخارج بدلالة واحدة، تتوحد حولها تقديرات المصححين، نظرا لموضوعيتها الذاتية.

إن درجات البكالوريا تتطلب في العلوم الإنسانية أن تقصد تقويم الكفايات والمهارات والقدرات والحقائق عبر وضع محكات، تتضمن معايير التقويم وبنودها التفصيلية التي تقيس بصدق وبثبات وبموضوعية الأجوبة، وتثبت حقيقة كفاءة المتعلم/ة ودرجتها. أما ما يحصل الآن من قبل الاحتفالية والفنتازيا بفكرها الشعبوي وشعوذتها التربوية في تقويم الاختبارات، فذلك سبيل لتزييف العقل والوعي، ومسلك إلى انهيار المنظومة التربوية والتكوينية، وفقدان الثقة بها وبمكوناتها، والسعي إلى مغادرتها نحو مدارس وعوالم معرفية افتراضية وأدوات ووسائل مستحدثة وجديدة، خاصة ما تعلق بالذكاء الاصطناعي الذي سيلغي دور الممارس البيداغوجي من الفعل التعليمي، ما لم يستدرك الأمر بحفاظه على موقعه بالسلطة المعرفية التي تفوق الذكاء الاصطناعي، وبإبداعه التربوي والمعرفي والتقني.

وبناء على هذه المفارقة، نجد منظومتنا التربوية في المراتب المتأخرة من التقويمات الدولية، والتصنيفات العالمية. كما أن هذه المنظومة تشهد فائضا في منح الشهادات الأكاديمية والمهنية، مقابل وجود شح في الإنتاج العلمي الجاد والحقيقي. وفي المشاركة في الإنتاج المعرفي العالمي، وفي القيمة المضافة للعلم والمعرفة في واقعنا المعيش. فحقيقة أن هناك بعض الكفاءات العلمية العالمية المتميزة أكاديميا وعلميا وإبداعيا، التي يعترف بكفاءتها العالم، لكن لا تشكل القاعدة وإنما الاستثناء. فالقاعدة الواسعة المتعلمة المالكة للشهادات الأكاديمية والمهنية عازفة عن اِلإنتاج والإبداع. وهي القلة القليلة من الكفاءات الأكاديمية والمهنية التي تتعاطى مع الإنتاج العلمي والبحث والإبداع الفكري. كما أن ثقافة المجتمع تتجه نحو الفكر الشعبوي والتفاهة والسخافة طلبا للمصلحة والمنفعة، فضلا عن ترصيد كم هائل من المتابعات والمشاهدة المؤسسة للشهرة، حتى بتنا نعيش مع تحليل التفاهة والسخافة للقضايا الفكرية والمشاكل والإشكاليات الاجتماعية والفكرية والثقافية والتنموية والاقتصادية، بما يجلب للقارئ والمتابع والمشاهد الامتعاض، والشجب الصامت في أغلب الأحوال أو العزوف عن التعاطي مع المتابعة والقراءة والبحث بالانكماش الفكري والانحصار الذاتي. وتعمل عدة جهات ومؤسسات ومنظمات وشرائح اجتماعية وثقافية وفكرية وفنية وسياسية ... في نشر هذه الثقافة المهترئة على الملإ، والعمل على تطبيعها في المجتمع، وتغميسه في أمراضها المتنوعة. ما يستوجب الوقوف عند هذا الواقع المر والهزيل بمجموعة من علامات استفهام مركزية وأساسية، تسائل التفصيلات والتقديرات والأطروحات عما تفعل وفعلت بالمجتمع ومصيره، وعن القيم الإضافية التي راكمتها لصالح المجتمع وتقدمه ونمائه، ولصالح الإنسان والأجيال القادمة. والتساؤل عن المصير والمآلات؛ من حيث الاتجاه والهدف والمدخلات والسيرورات والنتائج. فسؤال إلى أين؟ وكيف؟ ولماذا؟ وبماذا؟ ومتى؟ كفيل بوضعنا على السكة الصحيحة، وتشكيل الرؤية الصحيحة للواقع، والتوجه الصادق نحو المستقبل.

وما يجري في درجات الباكالوريا، ودلالاته الإحصائية، يمكن القياس عليها في مجمل المجالات الحياتية والقطاعات الرسمية المختلفة، تستوجب هي الأخرى جملة من علامات الاستفهام حول دورها وقيمتها المضافة في رفد مصادر نماء المجتمع والأفراد والدولة وتنميتهم، وهي علامات أسئلة جديرة بالطرح ومشروعة. ولا ضير في وقفة مع الذات بالنقد الذاتي لتصحيح الواقع والأدوات والأطروحات والسيرورات وتعديل النتائج أو تحصيل الغايات والأهداف. ومنه؛ يمكن لهذه الورقة أن تثير حفيظة وحمية الشعبوية التربوية، التي قد تتهمها بمجانبة الصواب أو الخروج عن الواقع أو ربما الطعن في كفاءتها وكفاية أدائها التربوي والتكويني. وهي حتما ستساهم لدى العقلاء على التفكير النقدي لسيرورة الفعل التربوي والتكويني طلبا لاستثمار الإيجابيات وتجاوز السلبيات والتحديات، بغية إحداث الطفرة المطلوبة في التغيير والتطوير. والورقة وهي تحطم قدسية وحرمة هذا الطوطم، تستهدف تثوير التفكير في هذا المعطى الواقعي، الذي لا يقبل السكوت عنه بمنطق العقل والغائية، وتأسيس رؤية واضحة ووعي ناضج بهذا المشكل المخملي، الذي يفعل سلبيا في تهشيم جودة الممارسة الصفية، ويهدم المعمار الفكري للأمة.

***

عبد العزيز قريش

  الثقافة المصرية قديمة ضاربة بجذورها فى عمق الأرض منذ آلاف السنين..  وهي ثقافة مؤثرة يمتد تأثيرها لما وراء الوطن العربي إلى جميع قارات العالم، ليس فقط بسبب الحضارة الفرعونية وما تركته من آثار مبهرة، ولكن حتي على صعيد التأثير المعاصر؛ وإن شخصيات مثل نجيب محفوظ وأم كلثوم وأحمد زويل باتت لهم شهرة عالمية متجاوزة لحدود المكان والجغرافيا، وأمثالهم فى مصر كثيرون. واللهجة المصرية يستطيع أي إنسان أن يميزها بسبب انتشارها الإعلامي منذ بداية عصر السينما والتليفزيون والإذاعة، فكانت مصر من أوائل الدول التي استثمرت ملكاتها وقواها الناعمة فى مجال الإعلام والسينما.

 الريادة فى مصر راسخة رسوخ الجبال الرواسي، وهي ليست ريادة مصطنعة أو مستحدثة، وإنما هي بديهية وطبيعية لما حباها الله به من نعم وخصائص وإمكانات.

مصر الثقافة

 نعم مرت علي مصر شعباً وأرضاً ونيلاً عهود متتالية تأثر فيها النسيج المصري الثقافي بعدة ثقافات؛ فرعونية ويونانية ورومانية وفارسية حتي انتهت للثقافة الإسلامية التي تنوعت فى ذاتها إلى مراحل وعهود منذ العصر العمري إلى الأموي إلى العباسي فالإخشيدى والطولوني ثم الفاطمي فالأيوبي فالمملوكي ثم العثماني، وبعدها جاء نابليون والاستعمار البريطاني، لتمتزج بالشعب المصري طوائف وجاليات أجنبية وعربية كان منها الإيطالي واليوناني والإنجليزي والفرنسي والتركي والشامي، وامتزج هؤلاء بالشعب المصري حتي باتت عائلات بأكملها ذات أصول أوروبية هي عائلات مصرية خالصة وتنقطع صلتها بأصولها الأوروبية أو العربية إلا بمصر.

 استطاعت مصر دائماً أن تصهر فى نسيجها الفريد شعوباً ولغات وثقافات عدة دون أن تفقد هويتها ومزاجها وطابعها المميز. والبراعة فى اليد المصرية والعقل المصري سارية حتي على الأميين غير المتعلمين؛ فالفلاح المصري هو الأبرع، والفنان المصري ابتدع فنون الزخرفة والنقش على النحاس والحجارة وطورها، وشهدت على براعته آثار فرعونية ويونانية وقبطية وإسلامية من مختلف العصور نفذتها أيادٍ مصرية ماهرة.

 ثقافة مصر لا تحتاج لأدني مجهود لتظهر وتطفو على السطح؛ فهي موجودة فى كل شارع وحارة وركن فيها. ولهذا كان النشاط الثقافي السنوي نشاطاً طبيعياً يأتي كانعكاس لما تفيض به القلوب والعقول والأيادي من إبداع تزخر به مصر دائماً.

تعدد روافد الثقافة

 لا شك أن وزارة الثقافة في قيادتها للمؤسسات الثقافية تضع خطة لاستغلال كل روافدها ومواردها لخدمة الجمهور المصري بمختلف مراحله العمرية. من خلال مهرجانات ومعارض وفعاليات وندوات وإصدارات ومنتجات ثقافية عديدة تغطي جميع محافظات مصر..

 ربما يكون معرض الكتاب هو الفعالية الأبرز إعلامياً لما تحمله من زخم وشهرة، لكن حتي على مستوى المعارض، فإن وزارة الثقافة ممثلة فى الهيئة العامة للكتاب تقوم بتنظيم معارض أخري محلية تزيد عن عشرين معرضاً فى عدد من محافظات مصر، كما تشارك في عدد من المعارض الدولية خارج مصر بإنتاج كثيف، تمثل فى إصدارات هيئة الكتاب وهيئة قصور الثقافة ، وهي إصدارات كثيرة وعناوين تنوعت في مشاربها وواتجاهاتها بين الإصدار الأدبي والعلمي والترجمات.

 لم يقتصر أداء وزارة الثقافة على ما هو قائم من أبنية ومراكز ثقافية منتشرة فى المدن والمحافظات والقري، بل أقامت ورممت وجددت عدة منشآت ثقافية جديدة خلال السنة الماضية زاد عددها على خمسة عشر منشأة. إلى جانب هذا فقد تعاونت الهيئات الثقافية وعلى رأسها هيئة الكتاب مع وزارة الأوقاف لإصدار مؤلفات وسلاسل تنويرية مختلفة لنشر الوعي والثقافة الإسلامية الوسطية.

رؤية مصر 2030

 إنها أنشطة ثقافية تجري وفق مخطط استراتيجي ينطوي تحت رؤية مصر 2030. بحيث أن كل وزير من الوزراء يستكمل ما حققه الوزير السابق، فلا تضارب ولا تعارض ولا عشوائية وإنما خطة استراتيجية متكاملة تسير تبعاً لمنهج ورؤية بعيدة المدي.

 هناك عدة محاور لهذه الرؤية، لعل من أهمها محور "حماية وصون التراث الثقافي المصري". وهو المحور الذي حققت فيه وزارة الثقافة نجاحات عدة، منها نجاحها فى تسجيل احتفالات مسار العائلة المقدسة على قوائم التراث الثقافي غير المادي، وكذلك تقديم ملف آلة السمسمية لمناقشة تسجيلها ضمن نفس المخطط. وفي نفس الإطار تسير إصدارات هيئة الكتاب فى نفس الإطار الذي يعيد تقديم التراث المصري وتحقيقه في عدد من السلاسل الجديدة من حيث الشكل وطريقة التقديم لتلائم الجيل الجديد من الشباب.

 محور آخر انضمت فيه وزارة الثقافة لمبادرة "حياة كريمة"، فوجهت أنشطتها وفعالياتها نحو العشوائيات والمناطق الحدودية، هكذا نظمت الوزارة فعاليات وصل عددها لنحو خمسة آلاف فعالية، مع تزويد مكتبات المدارس والجامعات بنحو سبعين ألف كتاب، بخلاف المهرجانات والندوات.

 وفى هذا الإطار وقعت وزارة الثاقفة عدداً من بروتوكولات التعاون مع وزارات ومؤسسات داخل وخارج مصر. أفرزت عدداً من المنتجات الثقافية والفعاليات وليالي العرض المسرحية ومعارض الفنون التشكيلية.

أين دور رجال الأعمال؟!

 تحدثت مراراً عن دور الاستثمار الثقافي الخاص فى النهوض بمجالات الثقافة المتعددة فى مصر. فلا يمكن إلقاء العبء كله على الدولة والحكومة بمواردها المحدودة خصوصاً فى ظل أزمة اقتصادية عالمية تؤثر ولا شك فى محيطنا الإقليمي..

  لا أعلم فى حدود ما أتابعه أحداً من رجال الأعمال يوجه جزءاً من استثماراته نحو ترقية الفنون والأداب فى مصر، باستثناء نجيب ساويرس ورعايته لمهرجان الجونة، وجائزته الأدبية السنوية المعروفة، ومثل هذه الفعاليات، على قلتها وشحها وتركيزها على هدف محدود من أهداف الثقافة، إيجابية وتستحق الإشادة. ولا يمكننا اعتبار امتلاك بعض رجال الأعمال لقنوات فضائية أو صحف خاصة من باب المشاركة الفعالة فى نهضة المجال الثقافي، لأن لهذه المؤسسات اتجاه دعائي يخص منشئيها من رجال الأعمال. لكنني أتحدث عن الثقافة بمعناها الأوسع. فما المانع أن تنضم جمعية رجال الأعمال للمؤسسات التي يحدث بينها وبين وزارة الثقافة بروتوكول تعاون قائم على خطة مرسومة، في مقابل مزايا حكومية يتم تقديمها لرجال الأعمال المشاركين فى صورة إعفاءات ضريبية أو حملات دعائية وإعلانية لشركاتهم ومنتجاتهم؟!

 ثم لماذا لا يشارك رجال الأعمال المثقفون بأنفسهم، بعيداً عن وزارة الثقافة، فى الرقي بالثقافة المصرية من خلال إدخال التقنية والتكنولوجيا فى هذا المجال بشكل هادف للربح؟!

 إن الصورة الذهنية الموجودة فى عقول رجال الأعمال أن الثقافة نشاط خدمي غير ربحي يمتص الأموال ولا يكتسبها، وهذا تصور خاطئ تماماً؛ خاصة فى ظل التقدم التقني والتكنولوجي الذي جعل الثقافة بمختلف مجالاتها من أقوي القطاعات الإنتاجية تحقيقاً للمكاسب والأرباح، وقد تكلمت فى هذا الشأن فى مقالات عديدة سابقة، ويمكنني وغيري تقديم عشرات الأمثلة لمشروعات ثقافية ذات أرباح مهولة، لكنها تتم فى أوروبا وأمريكا والصين وغيرها من البلاد المتقدمة، فلماذا لا نقلدهم ونحذو حذوهم، ما دامت لدينا الأدوات والموارد البشرية والطبيعية لهذا الأمر؟

معاً نستطيع

التطوير يسير على قدمين. ولا يمكن أن نكتفي "بالحجل" على قدم الحكومة وحده، دون تحفيز القدم الأخري، القطاع الخاص، بالاستثمار فى المجال الثقافي. لأن فى انتعاش الاستثمار الثقافي انتعاش للاقتصاد المصري. وبنظرة سريعة لمؤسسات عالمية كبري مثل أمازون التي بدأت نشاطها بالاستثمار فى الكتب، لتصبح فى غضون سنوات من كبريات شركات التجارة الإليكترونية. أو مؤسسات وادى السيليكون التي استثمرت فىى الثقافة الشعبية باتجاهها نحو السوشيال ميديا، نستطيع أن نؤكد أن استثمارنا فى الثقافة معناه الاستثمار فى البشر، وهو لعمري أقوى أنواع الاستثمار وأكثرها نجاحا واستمراراً.

 المثقفون أنفسهم ليس بأيديهم إلا طرح الأفكار الخلاقة والدعوة لتحقيقها على  الأرض، لكنهم فى حاجة لمن يملكون رؤوس الأموال لتحويل الأفكار المجردة والأحلام إلى واقع، وهم فى حاجة لأصحاب السلطة والقرار لوضع الأفكار والرؤي النظرية محل التنفيذ.

 معاً نستطيع، مثقفون وقادة ورجال أعمال. نستطيع أن نستعيد ريادة مصر الثقافية لا فى محيطنا الإقليمي وحده، بل وعالمياً. لأن مصر كانت ولا زالت  ملأي بالإبداعات والمبدعين فى كل مجالات الفن والأدب والعلم.

***

د. عبد السلام فاروق

 

هل يصح أن تتقدّم كلمة الفلسفة على الصبر، وكيف يكون للصبر فلسفته؟ الحقيقة أن كل ما يتصل بالإنسان من قريب أو من بعيد، وراؤه فلسفة، والصبر كمقوم روحي هو من خصائص الإنسان، والفلسفة تتوجه إلى الإنسان: عقله ومعرفته وسلوكه وحضارته، ثم ما يحاط بالإنسان من عوامل تنهض به أو تؤخره ناهيك عن بيئته، يطور فيها أو يتركها هملاً بغير تصريف أو تطوير.

وإرادة الاحتمال هى لب لباب الفلسفة، وإذا كان تعريف الصبر فى مجال الدين هو (ثبات باعث الدين فى مقابل باعث الهوى) فإنه فى المفهوم الفلسفى إرادة احتمال، وعزم على مواجهة المصاعب، وقدرة على امتصاص السقطات الإنسانية وتوظيفها ناحية الإيجاب، وطرد السلبي منها، ولن يكون هناك نجاح قط والمرء لا يقوى على الاحتمال ولا تترقى فيه عزيمة الاصطبار.

الصبور هو إنسان بامتياز، والعبادة التى تقوم على أركان الصبر هى عبادة نافعة بكل تأكيد، ونصف الدين صبر، والنصف الآخر شكر. وآفاق الفلسفة وظلال الدين هما قوام الإنسان الراقي لأنهما جعلا منه إنساناً صبوراً يحتمل الآفات والمعاطب، والتسلط الغبي من الأراذل، وسفاهة الأخلاق، وقلة الأدب، وسوء التصرّف ونذالة السلوك.

والاحتمال تحكيم للعقل إزاء فلتات الطيش، وضبط للنفس بمقتضاه، والانتصار للمبدأ، ومقاومة ما تكره من واقع كدر قائم على القهر والتسلط.

يمدك رافد الفلسفة بمدد العزم والاحتمال انتصاراً للعقل، وضبطاً لحركته الواعية فى التصرّف الإنساني. ويمدك رافد الدين بالصبر تعلقاً بالمصير، وتضييقاً للطمع فى الدنيا وترقية لمسيرتها المؤقتة، واعتباراً للانتقال منها ولو بعد حين، ومهما طال بقاؤك فيها.

للإمام أبي حامد الغزالي طيّب الله ثراه نظرات فائقة فى فلسفة الصبر باعتباره خاصية الإنس، ولا يتصور ذلك فى البهائم والملائكة‏، ‏أمّا فى البهائم فلنقصانها، وأمّا فى الملائكة فلكمالها‏.‏

يرى الغزالي أن البهائم سُلّطت عليها الشهوات وصارت مسخّرة لها فلا باعث لها على الحركة والسكون إلا الشهوة، وليس فيها قوة تصادم الشهوة، وتردها عن مقتضاها حتى يسمي ثبات تلك القوة فى مقابلة مقتضى الشهوة صبراً.

وتلك هى فلسفة الغزالي فى الصبر، بمجرد النظر فى مضمون التعريفات الأوليّة يتبين لك كيف يعالج هذا العقل الكبير مسألة المفاهيم، ويفتح معانيها أمام القارئ من أيسر الألفاظ. أسس الصبر على المعقولية والتصور حين سلبه عن البهائم وخصّه بالإنسان، وزانه بالفاعلية العمليّة.

وأمّا الملائكة؛ فإنهم جرّدوا للشوق إلى حضرة الربوبية بدرجة القرب منها، ولم تُسلّط عليهم شهوة صارفة صادّة عنها حتى يحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند.

وأمّا الإنسان؛ فإنه خلق فى ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذى هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة ثم شهوة النكاح على الترتيب، وليس له قوة الصبر البتة، إذ الصبر عبارة عن ثبات جند فى مقابلة جند آخر قام القتال بينهما لتضاد مقتضياتهما ومطالبهما، وليس فى الصبي إلا جند الهوى كما فى البهائم، ولكن الله تعالى بفضله وسعة جوده أكرم بني آدم ورفع درجتهم عن درجة البهائم، فوكّل به عند كمال شخصه بمقاربة البلوغ ملكين أحدهما يهديه، والآخر يقويه فتميز بمعونة الملكين عن البهائم‏.‏ واختص بصفتين :‏ إحداهما معرفة الله تعالى ومعرفة رسوله ومعرفة المصالح المتعلقة بالعواقب، وكل ذلك حاصل من الملك الذى إليه الهداية والتعريف‏.‏

فالبهيمة لا معرفة لها ولا هداية إلى مصلحة العواقب، بل إلى مقتضى شهواتها فى الحال فقط فلذلك لا تطلب إلا اللذيذ‏.‏

وأمّا الدواء النافع مع كونه مضراً فى الحال فلا تطلبه ولا تعرفه، فصار الإنسان بنور الهداية يعرف أن اتّباع الشهوات له مغبّات مكروهة فى العاقبة، ولكن لم تكن هذه الهداية كافية ما لم تكن له قدرة على ترك ما هو مضرّ، فكم من مضرٍّ يعرفه الإنسان كالمرض النازل به مثلاً ولكن لا قدرة له على دفعه، فافتقر إلى قدرةٍ وقوّةٍ يدفع بها فى نحر الشهوات فيجاهدها بتلك القوة، حتى يقطع عداوتها عن نفسه. فوكل الله تعالى به ملكاً آخر يسدّده ويؤيده ويقويه بجنود لم تروها، وأمر هذا الجند بقتال جند الشهوة، فتارة يضعف هذا الجند، وتارة يقوّى ذلك بحسب إمداد الله تعالى عبده بالتأييد، كما أن نور الهداية أيضاً يختلف فى الخلق اختلافاً لا ينحصر.

كلام الغزالي يدفع لجهاد الإنسان ظلمات نفسه ضد كل ما فيه مضرّة، وأبرزها ظلمه لنفسه من قريب. والقرآن الكريم يقول (وقد خاب من حمل ظلماً) لكن أشد أنواع الظلم هو ظلم النفس لنفسها. والأكثر شدة هو ظلمها لغيرها، والظاهر أن ظلم النفس لغيرها نتيجة لظلمها لذاتها، فلن تر ظالماً مطلقاً إلا ونفسه معوجة منحرفة غير مستقيمة بحال. كل الآفات النفسية يعكسها على سواه، فيظلم غيره ويتمادى فى الظلم لأنه كان من قبل ظلم نفسه وأمعن فى ظلمها، وتلك هى الخيبة النكراء المقرونة بالتشويه الباطن للدخائل النفسية.

***

د. مجدي إبراهيم

الحروب المجتمعية في التحليل السيكولوجي

شغلت الحرب اهتمام الفلاسفة والمفكرين وعلماء النفس والأجتماع، وتباينت وجهات نظرهم في الأجابة على تساؤلات محيرة:

لماذا يقتل الأنسان اخاه الأنسان؟

لماذا الحرب.. بين مكونات الشعب الواحد؟

هل هناك وسيلة.. طريقة لأنقاذ البشرية من الحروب؟

هل من الممكن السيطرة على التطور العقلي للإنسان تخلصه من الكراهية والتدمير؟

المنظور السيكولوجي

هناك نظريتان لتفسير الحرب

الأولى يتبناها علماء النفس التطوري، يرون أنه من الطبيعي أن يخوض البشر حروبا لأننا مخلوقون في الأصل من جينات أنانية ورثناها من اجدادنا وسنورّثها لاحفادنا. لماذا؟: لأنها الوسيلة التي تمكننا من البقاء بالحصول على القوت والموارد التي تضمن لنا الحياة.

وان سالتهم: الا يمكن ان نحقق ذلك دون حرب؟.. يجيبوك.. نعم، ولكن اذا شكّل الآخرون تهديدا لبقائنا، فاننا لا نتردد لحظة في اعلان الحرب عليهم.

والثانية.. تفسر الحروب بيولوجيا بقولها: ان الرجال مهيؤون بيولوجيّا لخوض الحروب لأنهم يتمتعون بكميات كبيرة من هرمون التستوستيرون العدواني، وانخفاض هرمون السعادة.. السيروتونين. واثبتوا ذلك تجريبيا بأن حقنوا حيوانات بالسيروتونين فتصرفت بلطافة، وحقنوا اخرى بالهرمون العدواني التستوستيرون فتصرفت بعدوانية.

ومن اشهرالتفسيرات النفسية للحروب تفسير (ويليام جيمس).. فقد كان أول عالم نفسي يحقق في الأسباب النفسية وراء اندلاع الحروب، نشره في مقال بعنوان "المعادل الأخلاقي للحرب" عام 1910.

يقول فيه.. إن الحروب كانت منتشرة جدا بسبب آثارها النفسية الإيجابية سواء على الفرد أو المجتمع. ويرى أن الآثار الإيجابية للحرب على المستوى الاجتماعي تتمثل في خلق شعور بالتكاتف والوحدة الوطنية بوجه التهديد الجماعي بتوحيدها لصفوف الناس معا، حيث إن الانخراط في المعارك لا يقتصر على الجيش فقط، بل يشاركه أفراد المجتمع كافة، فضلا عن أنها تجلب إحساسا بالانضباط والامتثال واحترام الأهداف المشتركة، بجانب إلهام المواطنين التصرف بشرف والتخلي عن الأنانية من أجل خدمة الصالح العام.

وعلى المستوى الفردي، يرى جيمس أن الحرب تبعث في نفوس الناس شعورا بأنهم على قيد الحياة وعلى أهبة الاستعداد، كما أنها تمنحهم هدفا ومعنى لتجاوز رتابة الحياة اليومية والتحرر من سطحيتها، ولأنها تتيح أيضا الفرصة للتعبير عن القيم الإنسانية مثل الانضباط والشجاعة والتضحية بالذات، والتي غالبا ما تكون متخفية في قلب دوامة الحياة العادية.

وننبه الى ان الحرب لا تعني فقط استخدام السلاح بانواعه فهناك حرب ليس فيها اي سلاح هي الحرب النفسية التي تحقق نفس هدف الحرب المسلحة، اي فرض الارادة على الاخر بغرض التحكّم في اعماله اقتصاديا واجتماعيا واعتباريا.. بسلاح الكلمة التي تؤثر سلبا او ايجابا في معنويات الآخر المعادي او الآخر الصديق او المحايد.. وتدخل الخوف او الرعب باستخدام الأشاعة والدعاية السوداء.

ونرى ما يمكن ان يعدّ اضافة نظرية تتضمن مفارقة كبيرة !:

ان الانسان كلما تطور (حضاريا) يزداد سلوكه العدواني، بمعنى ان الحضارة هي احد اهم اسباب الحروب، بدليل ان الحروب في المجتمعات البدائية (غير المتحضرة) اقل بكثير من المجتمعات المتحضرة.

شاهدنا في ذلك ان علماء الآثار والأنثروبولوجيا اجروا دراسات عن العنف شملت 21 مجتمعا بدائيا (من الصيادين وجامعي الثمار)، وخلصت الدراسة التي اعدها "دوغلاس فراي" و"باتريك سودربيرغ" إلى أنه على مدار الـ200 عام الماضية، كانت الهجمات القاتلة بين المجموعات نادرة للغاية، ولم تحصل فيها سوى 148 حالة وفاة كانت بسبب صراعات فردية أو نزاعاتٍ عائلية. ليس هذا فقط عالم الأنثروبولوجيا "آر. برايان فيرغسون"جمع أدلة مقنعة تثبت أن الحرب لا يتجاوز عمرها 10 آلاف عام، وأنها باتت متكررة منذ حوالي 6 آلاف عام فقط.

ونضيف ايضا ما يمكن ان يعد قانونا اجتماعيا، هو: تزداد الحروب بزيادة أعداد نفوس العالم.

نظرية عراقية

اجرى علماء النفس تجاربهم على الحيوانات وخرجوا منها بنتائج صاغوها بنظريات تطبق على البشر، فيما اصبح العراق بعد (2003) مختبرا بشريا تمكّن عالم النفس الوصول لنتائج جديدة. وهذا ما فعلناه بمتابعتنا لما حصل للعراقيين خلال العشرين سنة الأخيرة (بعد 2003)، بنتائج تقدم لعلم النفس العربي والعالمي اجابة عملية واقعية عن اسباب الحروب المجتمعية، صغناها بأهم سببين:

الأول: المعتقدات

والواقعة التي تثبت ذلك ما حصل في العراق بين عامي 2006- 2008، وراح ضحيتها عشرات الآلاف، واتذكر انه في يوم 17 تموز 2007 وصل عدد القتلى مئة عراقي ولسبب في منتهى السخافة.. ان العراقي يقتل أخاه العراق لمجرد ان اسمه حيدر او عمر.

نصبوا سيطرات بالشوارع.. يسألوك شسمك.. السني يقتل الآخر اذا كان اسمه حيدر، والشيعي يقتل الآخر اذا كان اسمه عمر. سموها اعلاميا الحرب الطائفية.. فيما هي علميا حرب المعتقدات. السنة يعتبرون انفسهم انهم هم الذين يمثلون الدين الاسلامي وهم على حق والشيعة على باطل والسلطة يجب ان تكون بيدهم، والشيعة يعتقدون انهم هم المسلمون الحقيقيون والسنة على باطل.. والمعتقدات هذه سبب عالمي تاريخي وسيبقى ازليا بمسميات مختلفة.. فتأخذ اسما آخر على صعيد النخب.. هي (الأدلجة) سيما على صعيد الأحزاب.. وخذ مثالين عربين على ذلك ما حصل للحزب الشيوعي السوداني، وما حصل للحزب الشيوعي العراقي من تعذيب بشع.. قلع عيون، سلخ جلد.

والثاني.. هو.. الهوية.. والهويات نوعان.. هويات توحّد فتشيع المحبة والسلام.. انموذجها هوية الأنتماء للوطن، فحين يغلّب الملايين الذين يسكنون وطنا معينا شعورهم بالأنتماء الى وطنهم.. عاشوا بسلام ومحبة. وهويات فرعية: طائفية، قومية، عشائرية... اذا غلبّوها شاعت الكراهية وشحنت النفوس بدافع الأنتقام الذي يؤدي بحتمية سيكولوجية الى حروب بين مكونات المجتمع الواحد.

والمشكلة هنا لا تكمن في الاعتزاز بهويتنا الفرعية، بل في الموقف الذي نتبناه إزاء المجموعات الأخرى المختلفة عنا. فتعريفنا لأنفسنا من خلال انتمائنا لمجموعة معينة أو اقتصار هُويتنا على هذه المجموعة يخلق تلقائيا إحساسا بالتنافس والعداوة مع الأطراف الأخرى، تولّد بالضرورة صورة عقلية تصنِّف البشر على أساس كونهم "داخل المجموعة أم خارجها" و تؤدي بسهولة إلى تأجيج الصراع. ولهذا نجد أن معظم النزاعات على مر التاريخ كان سببها صدام بين مجموعتين أو أكثر مختلفتين في الهوية، مثل المسيحيين والمسلمين في الحروب الصليبية، أو اليهود والعرب، أو الهندوس والمسلمين في الهند.. وحديثا حصل في عالمنا العربي هويتان فرعيتان جرى تغلّيبهما على هوية الأنتماء للوطن وكانتا أحد أهم اسباب الحروب بين ابناء الوطن الواحد، هما الهوية الطائفية.. وشاهدها ما حدث بلبنان في سبعينيات القرن الماضي ووثقه امين المعلوف في كتابه (الهويات القاتلة)، وما حدث في العراق بعد 2003 ووثقناه في كتابنا (الشخصية العراقية من السومرية الى الطائفية).

والثانية هي الهوية العشائرية، وشاهدها اليمن والعراق. ففي العام 1998 كنت استاذا زائرا بجامعة صنعاء وذهبت بالسيارة الى مأرب لرؤية قصر الملكة بلقيس، فشاهدت في الطريق دبابات وعليها شباب بملابس مدنية. سألت صاحبي اليمني، مو المفروض ان يكونوا بملابس عسكرية؟.. اجاب انها تعود للعشيرة الفلانية. وفهمت ان معظم العشائر اليمنية عندها دبابات تستخدمها لمحاربة بعضها البعض.

وفي العراق.. توجد لدى كل عشيرة(لاسيما العشائر الكبيرة في الجنوب) انواع الأسلحة، واذا نشبت معارك فيما بينها فان الدولة لا تستطيع احيانا انهائها او التدخل فيها. والسبب السيكولوجي لقيام الحرب الطائفية والحرب العشائرية هو التباهي والفخر والشجاعة والأستعلاء على الآخر وامتلاك موارد ديمومة الحياة.

ولدينا سبب ثالث يعد اضافة جديدة لعلم النفس العربي. فمن متابعتنا لما وقع للمجتمع العراقي من احداث في الألفية الثالثة التي لم يشهد مثلها التاريخ المعاصر، اوصلتنا الى ابتكار مصطلح سيكولوجي جديد للحرب هو (الحول العقلي).

ونعيد القول بان (الحول العقلي) يعني ان المصاب به يرى الأيجابيات في الجماعة التي ينتمي لها.. طائفة، قومية.. ويغمض عينيه عن سلبياتها، ويرى السلبيات في الجماعة الأخرى ويغمض عينيه عن ايجابياتها، ويرى ان جماعته على حق والجماعة الأخرى على باطل، وان الجماعات الأخرى هي السبب في خلق الأزمات مع ان جماعته شريك فيها. ما يعني أن حال احول العقل هذا كحال احول العين الذي يرى الواحد اثنين ولا يمكنك ان تقنعه بأنه واحد، ولهذ تنشب الحروب بين المنتمين للجماعات المصابة بالحول العقلي.. يعني حولان بحولان و(ثولان بثولان). ويشكل مصطلح (الحول العقلي) اضافة عربية جديدة لعلم النفس العالمي.

الخاتمة.. مع اينشتاين

بعث اينشتاين برسالة الى فرويد استهلها برثاء حال المثقفين على مر العصور، و الاعتراف بحقيقة أن غالبية النخب هم من الأوغاد، والمتربحين وأصحاب المصالح، والمؤدلجين وبعض الحمقى. وأن النشاط الإنساني الأكثر أهمية هو بأيدي سياسيين غير مسؤولين على الإطلاق. وأضاف بأن المثقفين يملكون تأثيرا بسيطا على مسار الأحداث السياسية، و أن النخب الفكرية لا تمارس أي تأثير مباشر على مسار التاريخ؛ وإن حقيقة انقسامها إلى عدة تيارات تجعل مهمة أعضائها مستحيلة للتعاون فيما بينها وإيجاد حلول للأزمات وتفادي الحروب.

واذا اضفت لها.. أن الطبيعة البشرية تقوم على الضد وضده النوعي: الخير وضده النوعي الشر، الحب وضده النوعي الكراهية، السلام وضده النوعي الحرب، وزدتها بما شئت من العيوب البشرية، وتساءلت عن المستقبل لمن سيكون: للمفكرين والمثقفين الذين يشيعون المحبة والسلام؟ ام لاصحاب المصالح والاوغاد والحمقى الذين يشيعون الكراهية والحروب؟.. عندها ستغسل يديك من الدنيا والحياة.

ومع ذلك، فنحن السيكولوجيون نبشر بالتفاؤل دائما.. وهذا ممكن اذا امتلك هذا الجيل وسائل التكنلوجيا والتواصل والاعلام، ووظف فيها ما حصل لاجدادهم من كوارث وحروب، واشاع بان الطبيعة البشرية قائمة على المحبة والسلام.. فانه سيوفق في التقليل من هذه الحروب لأنها تنّمي دافع الخير في الطبيعة البشرية.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية العراقية

.......................

* عن هذا الموضوع.. اجرت معنا فضائية الفرنسية 24 حوارا في برنامج (في الممنوع) بث الخميس 25/6/ 2024.

 

المقدمة: مقاربة معرفية لمفهوم الإغراق التجاري والمآلات الأستراتيجية للأقتصاد العراقي !؟

وصول نسبة الأغراق في نظام السوق العراقية ل95 % والتي أصابت الصناعات الداخلية بالشلل التام للقطاعين الخاص والعام كما وأدت سياسة السوق المفتوحة إلى أغراق العراق بسلع رخيصة ومبتذلة كمالية وربما الطامة الكبرى مسرطنة وملوثة طالما يفىتقد المستهلك ثقافة السوق بأتباعه هوساً شرائيا ومما زاد الطين بلة تأثر الأ قتصاد العراقي بالوضع الأقليمي والدولي بتعرض النظام الأقتصادي العالمي إلى ثلاث هزات عنيفة ومقلقة حيث أخذت مخرجاتها وتداعياتها السالبة أبعاداً واسعة في جغرافية الغرب الأوربي والشرق أوسطي بما فيه العراق والتي هي:

- حرب الخيج الثانية

- هجمات الحادي عشر من سبتمبر2001

- تفشي فايروس كورونا

والأمر الآخطر والواضح اليوم هو أغراق السوق العراقية بكمٍ هائل من المنتجات من دول الجواروالعالم (ايران بالدرجة الأولى وتركيا بعدها ودول الخليج ومن الصين )، وليس بالضروري أن تكون البضاعة جيدة المهم هنا الربح فقط، وبلغت نسبة المنتجات المستوردة 96 %أنها نسبة خطيرة فعلاً بجعل الأقتصاد العراقي مرتهن وأسير سياسات الدول الخارجية، بسبب السياسات الخاطئة التي تبنتها الجهات الحكوميةالمختصة في أدارة هذا القطاع وغياب الدعم والمساعدة، والعراق يستورد أكثر من 75% من المنتجات الزراعية من أيران ثم تركيا ومصر والسعودية، يقدر مبالغ الأستيراد السنوية للعراق ب( 30 ) ملياردولار وهو رقمٌ خيالي بالنسبة لأية دولة نامية.

مآلات الأ قتصاد العراقي بعد غياب التخطيط وعبثية نظام السوق

- أقتصاد أحادي ريعي في الأعتماد على النفط بنسبة96%، يعتبر العراق دولة ريعية منذ تأسيسه في عشرينات القرن الماضي وقد تبدوكلمة الريعية تبشر بالنماء والأزدهار ولكنهُا (مسكناً) مؤقتاً في تلبية الحكومة لمتطلبات الناس بسهولة، فغياب التخطيط الأستراتيجي بعدم أمتلاك الدولة للخطط الأقتصادية المستقبلية.

– قلة الخبرة وراس المال والكفاءة وخاصة في القطاع الزراعي.

- الأرث الثقيل من المسؤوليات المستلمة من النظام الشمولي السابق من مغامرات القائد الرمز الذي أوقع العراق تحت البند السابع لأجتاحه الكويت ودفع المبالغ المليارية التعويضية لها.

- أرتفاع مؤشرات التضخّمْ النقدي بسبب الكساد الأقتصادي وأنتشار البطالة وأرتفاع نسبة المديونية مع مظاهر الفساد الأداري والمالي.

– التلاعب بمصير الأحتياطي النقدي وكميات الذهب ومزاد العملة وتبييض الأموال والتي هربت أكثر من 480 مليار دولار منذ2003 لحد الآن.

- عدم خضوع جميع المنتجات المستوردة إلى ضوابط ضريبية وكمركية.

 - قلة مساهمة القطاعين  الصناعي والزراعي في الأقتصاد العراقي الحاضر والمستقبل حيث تكون مساهمة الصناعة 1% والزراعة 3%.

- ضعف العامل الأستثماري في عموم البلاد، وفوبيا رأس المال في أقتحام هذا المجال وهو المعروف أصلاً بأنهُ جبان.

- مفهوم الأغراق هو أدخال السلع الأجنبية بسعرٍ أقلْ من سعر تكلفتها أو بأقل من سعر البضائع الوطنية، وأن الأغراق سلوك تجاري غير عادل، ربما يرقى إلى عمل تخريبي مقصود، ويمكن عرض بعض التداعيات المدمرة والمؤثرة على الأقتصاد العراقي

- وصلتْ نسبة سياسة الأغراق في السوق العراقية إلى 95% وشملت آثارها السلبية إلى القطاع الخاص والعام على السواء حيث اصيبت الصناعات العراقية بالشلل التام جراء الأغراق المتعسف أضافة ألى أنها دفعت فاتورات عالية لشراء الوقود ودفع الضرائب العالية وأرتفاع الأيجارات وأجور الأيدي العاملة، وأزدياد عدد العاطلين وأرتفاع نسبة الفقر.

- أنخفاض موجودات النقد الأجنبي الذي هو غطاء للعملة المحلية.

- تعرض السوق المصرفي إلى فوضى أستيرادية تأثيراتها مباشرة للنظام السياسي والأقتصادي والزراعي المحلي.

-أضطراب الميزانية العامة وتأثيرها المباشر على الخطط المستقبلية لأقتصاد الدولة.

- أن الدولة الريعية تبقى رهينة الريع الطبيعي وتختفي فيها الأنشطة الأقتصادية المساهمة في مداخيل الميزانية، وعدم حدوث أي توسع في القاعدة الأنتاجية للأقتصاد عن طريق التصنيع والتنويع في مصادر الدخل، وشلْ قدرات الدولة المسؤولة اصلاً عن ضخ المبالغ الكبيرة من رأس المال وتدويرها بالأقتصاد الوطني وأعطاء الأنطباع بالرفاه والأزدهارالأقتصادي.

- وكذلك من عيوب الأقتصاد الريعي تمتلك الدولة فوائض كبيرة من رأس المال تحاول بالبيروقراطية الأقتصادية أن تجعل أساليب الأنفاق العام تحت هذه الظروف الملتوية وبالتالي تؤدي ألى نتائج عكسية تعوّق عملية تقدم وتطوّرْ النظام الأقتصادي والأجتماعي. – وكارثة الأقتصاد الريعي تضخ الأموال الطائلة وتستعملها الحكومة كمخدر وأمتصاص النقمة وعدم الرضا بينما في الوجه الآخر تؤدي إلى تشجيع الأستيراد وطرد العملة الصعبة التي حصلوا عليها من النفط.

- تعرض الدولة النفطية الريعية إلى أضطرابات أقتصادية ما دامت لها أرتيباط مع السوق العالمية، وخير مثال هبوط سعر البرميل من النفط الخام من 110 دولار ألى أقل من خمسين دولار.

- الريع لا ينحسر أثره على المجالات الأقتصادية والأجتماعية والتجارية بل تشمل أخلاقيات العمل في أنتشار الأتكالية وتضخّمْ الجهاز الأداري البيروقراطي، وعلى الأغلب تنشأ حكومات دكتاتورية وراثية كما هو الحال في دول الخليج للسيطرة الأسرية على هذه الثروة.

- حول المزارعون أراضيهم إلى مشاريع أخرى حين لم يجدو حلاً فمنهم من حوّلها إلى مخازن وورش تصليح السيارات وآخرين عملوا على تقطيعها وتحويلها إلى أراضي سكنية بواقع 50 م أو 100م وهي العشوائية بشحمها ولحمها للأسف الشديد.

لماذا هذه الخيبات والنكسات؟! ما أسبابها ؟

 - موازنات أنفجارية وعجز غير مبرر، أقرها مجلس النواب العراقي في شهر مايس 2024  أضخم موازنة أنفجارية غير مسبوقة الأضخم في تأريخ البلاد ( 153 ملياردولار أمريكي) بعجز 64 ترليون دينار عراقي، هناك حكمة أقتصادية تقول ليس بضخامة الموارد المالية لبناء الأوطان بل بالوضع الموضوعي السوي والمقبول لأصحاب القرار السياسي بالأشخاص الكفوئين في أستحقاقات مواقع المسؤولية ثم إن الموازنة هي التخطيط للأستخدام الأمثل للطاقات المادية واليشرية وتنمية أكبر قدرة من الموارد عن طريق العمل في تخطيطها وأستخدامها لفترات مالية مقبلة وهي بذلك تحقق هدفين هما ( التخطيط والرقابة ) وهي تلبية وطنية ضرورية لأستحقاقات واجبة التنفيذ عبر متطلبات أعمار البلد وهذا ما يعني حول الموازنة ، أما الميزانية تعني توضيح المركز المالي للمشروع وعلاقتها بالحسابات الختامية للسنة السابقة (الدكتور رائد فهمي – ملاحظات الحزب الشيوعي العراقي في أقرار موازنة 2024).

- سياسة السوق المفتوحة أدتْ إلى أغراق العراق بسلعٍ رخيصة مبتذلة لا يراعى فيها عامل الجودة ولا الأكسباير، حتى بعض الأحيان غير صالحة للأستهلاك البشري، وأتباع المستهلك هوساً شرائياً  كانت البضاعة عراقية أم أجنبيةً لربما يرجع إلى أرتفاع الدخل والأنعاش الأقتصادي النسبي والمؤقت .

- ودخل العراق في النفق المظلم للعولمة الحداثوية ولم يتجاوز بعد 2003 النظام الريعي في الأعتماد على النفط الخام المعرض دوما إلى تذبذب الأسعار وتعرضه لهجمات أرهابية وسيطرة الأحزاب السياسية على واردات منافذ الحدود والمطارات، إضافة إلى الفساد الأداري والمالي المستشري في مفاصل الدولة العميقة مما أثقل الأقتصاد العراقي بالديون الداخلية والخارجية، مما أضطر العراق إلى اللجوء لصندوق النقد الدولي أو ما أسميه الصندوق الأسود مجازاً الذي جعل أرتهان أجيال المستقبل لديون ثقيلة فاتورتها عجز مالي يقدربأكثرمن 64 ترليون دينار عراقي، وهنا تسكب العبرات حين يأتي ذكرصندوق النقد الدولي الذي يعتبر ذراع الرأسمالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية في وضع الدول الغارقة في الأزمات المالية في مصيدة هذا الصندوق الأسود، وأجزم بأن منظمة IMF هي أشرس المؤسسات الأقتصادية العالمية التي تتقاطع مع تطبيق السياسات اللبرالية الجديدة بأستغلاله خيبات الدول ا لعاثرة بازمات أقتصادية ليقرضها أموالا للأنقاذ كما حدثت مع زامبيا في 2002 القرض مقابل وضع التعريفة الكمركية على المواد الزراعية وأغراق السوق بالمواد والسلع الزراعية  المستوردة مما أدى إلى ترك الزراعة والهجرة والبطالة  والفقر، وحدثت مع الأرجنتين القرض مقابل ترسيمة كمركية على القمح مما أدى إلى أتجاه الفلاحين لزراعة المخدرات  بدل القمح (كتاب الأغتيال الأقتصادي للأمم لجون ديكنز)، وهذا ما يعني أستغلال الصندوق مرور الدول بأزمات مالية ليقرضها أموالا للأقراض مقابل أملاءات.

- أقتصاد أحادي ريعي في الأعتماد على النفط بنسبة96%، يعتبر العراق دولة ريعية منذ تأسيسه في عشربنات القرن الماضي وقد تبدوكلمة الريعية تبشر بالنماء والأزدهار ولكنهُا مسكناً مؤقتاً في تلبية الحكومة لمتطلبات الناس بسهولة، فغياب التخطيط الأستراتيجي بعدم أمتلاك الدولة للخطط الأقتصادية المستقبلية.

المخرجات الكارثية السياسية للأغراق التجاري غثاثة سياسية ومخاض عسير للتغيير!

مفهوم الأغراق هو أدخال السلع الأجنبية بسعرٍ أقلْ من سعر تكلفتها أو بأقل من سعر البضائع الوطنية، وأن الأغراق سلوك تجاري غير عادل، ربما يرقى إلى عمل تخريبي مقصود، ويمكن عرض بعض التداعيات المدمر والمؤثرة على الأقتصاد العراقي:

- وصلتْ نسبة سياسة الأغراق في السوق العراقية إلى 95% وشملت آثارها السلبية إلى القطاع الخاص والعام على السواء حيث حيث اصيبت الصناعات العراقية بالشلل التام جراء الأغراق المتعسف أضافة ألى أنها دفعت فاتورات عالية لشراء الوقود ودفع الضرائب العالية وأرتفاع الأيجارات وأجور الأيدي العاملة، وأزدياد عدد العاطلين وأرتفاع نسبة الفقر.

- أنخفاض موجودات النقد الأجنبي الذي هو غطاء للعملة المحلية.

- تعرض السوق المصرفي إلى فوضى أستيرادية تأثيراتها مباشرة للنظام السياسي والأقتصادي والزراعي المحلي.

- اضطراب الميزانية العامة وتأثيرها المباشر على الخطط المستقبلية لأقتصاد الدولة.

- أن الدولة الريعية تبقى رهينة الريع الطبيعي وتختفي فيها الأنشطة الأقتصادية المساهمة في مداخيل الميزانية، وعدم حدوث أي توسع في القاعدة الأنتاجية للأقتصاد عن طريق التصنيع والتنويع في مصادر الدخل، وشلْ قدرات الدولة المسؤولة اصلاً عن ضخ المبالغ الكبيرة من رأس المال وتدويرها بالأقتصاد الوطني وأعطاء الأنطباع بالرفاه والأزدهارالأقتصادي.

- وكذلك من عيوب الأقتصاد الريعي تمتلك الدولة فوائض كبيرة من رأس المال تحاول بالبيروقراطية الأقتصادية أن تجعل أساليب الأنفاق العام تحت هذه الظروف الملتوية وبالتالي تؤدي ألى نتائج عكسية تعوّق عملية تقدم وتطوّرْ النظام الأقتصادي والأجتماعي. – وكارثة الأقتصاد الريعي تضخ الأموال الطائلة وتستعملها الحكومة كمخدر وأمتصاص النقمة وعدم الرضا بينما في الوجه الآخر تؤدي إلى تشجيع الأستيراد وطرد العملة الصعبة التي حصلوا عليها من النفط.- تعرض الدولة النفطية الريعية إلى أضطرابات أقتصادية ما دامت لها أرتيباط مع السوق العالمية، وخير مثال هبوط سعر البرميل من النفط الخام من 110 دولار ألى أقل من خمسين دولار.

- الريع لا ينحسر أثره على المجالات الأقتصادية والأجتماعية والتجارية بل تشمل أخلاقيات العمل في أنتشار الأتكالية وتضخّمْ الجهاز الأداري البيروقراطي، وعلى الأغلب تنشأ حكومات دكتاتورية وراثية كما هو الحال في دول الخليج للسيطرة الأسرية على هذه الثروة.

- حول المزارعون أراضيهم إلى مشاريع أخرى حين لم يجدو حلاً فمنهم من حوّلها إلى مخازن وورش تصليح السيارات وآخرين عملوا على تقطيعها وتحويلها إلى أراضي سكنية.

- سياسة السوق المفتوح أدى إلى أغراق العراق بسلعٍ رخيصة مبتذلة لا يراعى فيها عامل الجودة ولا الأكسباير، حتى بعض الأحيان غير صالحة للأستهلاك البشري، والطامة الكبرى من أن تكون مسرطنة وملوّثة بالأشعاع --- طالما يفتقد المستهلك ثقافة السوق وأتباعهِ هوساً شرائياً  كانت البضاعة عراقية ام أجنبيةً لربما يرجع إلى أرتفاع الدخل والأنعاش الأقتصادي لديه.

- تردي الوضع الأمني في حماية المستثمر ورجال الأعمال والمقاولين من الأبتزاز والخطف والفدية.

- الأقتصاد الأحادي الريعي بالأعتماد على النفط بنسبة 96%.

- تضرر قطاع الزراعة بشكلٍ كبير وواسع بسبب أعتماد البلاد على أغراق السوق المحلية بالمنتوج الأجنبي من الخضروات والفواكه، وأن العراق يستورد أكثر من 75% من تلك المنتجات الزراعية من أيران وتركيا ومصر تكلف الخزينة العراقية أكثر من 24 مليار دولار سنوياً، فهذه السياسة الأقتصادية العوجاء حوّلتْ البلد من نافذة لبيع منتوجها الزراعي المحلي الوطني إلى منافذ لبيع المنتجات الزراعية المستوردة، مما أضطر الكثير من المزارعين بيع أراضيهم في ظل غياب الدعم الحكومي للقطاع الزراعي، فآلاف الدونمات التي كانت مخصصة لزراعة الرقي والبطيخ والطماطة والخيار منذُ عشرات السنين لم تعدْ منتجة اليوم وغير قادرة على منافسة المنتوج المستورد.

– توقف الدعم الحكومي للفلاح بعد 2003 وهو بحاجة ماسّةٍ لوسائل تحسين المنتج الزراعي من بذور محسّنة وأسمدة ومكننة الزراعة وأصلاح التربة وشق قنوات البزل لتصريف ملوحة الأرض، ولم تستفد الحكومات من فقرات الدسنتور العراقي 2005 الذي رسم هيكل الشكل الأقتصادي العراقي وفق العولمة الحداثوية، ومع كل الآسف أنّهُ نظام تخبط عشوائي لا هو أشتراكي ولا هو رأسمالي، وقدرهُ أن يقع تحت تأثير التغييرات الداخلية والأقليمية والدولية.

– الحروب الداعشية منذ 2014 ولحد الآن والعراق يستنزف مادياً وبشرياً.

- فتح الحدود العراقية على مصراعيها أمام طوفان البضائع الأجنبية مما أدى إلى أغلاق أبواب المصانع العراقية والتي أدت إلى تفاقم أنتشار البطالة والفقر.

- أتخام السوق العراقية بالبضاعة الأجنبية ومنتجاتها وفي ظل غياب آليات حماية الصناعة المحلية وتخلف تقنيات الأنتاج، وعدم فرض قانون (التعريفة الكمركية) على البضائع المستوردة، وتخلي الكثير من المزارعين عن أستصلاح أراضيهم، أضافة إلى عامل التصحّرْ الذي غطى مساحاتٍ شاسعة من الأراضي الزراعية.

- غياب الطاقة الكهربائية الكافية للتشغيل، وأنحسار الأمن وخاصة في أطراف المدن حيث وجود الصناعة، مع قلة الخبرات اللآزمة للنهوض وغياب مشاريع البناء والأعمارحالتْ دون تطوير المنتج العراقي.

المعالجة

- تفعيل دور القطاعات الزراعية وبث الروح في الصناعات المتوقفة خاصة التي تعتمد على المواد الأولية للأنتاج والتصديركالقطن والتمور وقصب السكر.

– معالجة الوضع الأمني ومحاربة الفساد الأداري والمالي.

– توسيع وتشجيغ فقرة الأستثمار وفتح المجال امام القطاع الخاص بالمشاركة الفعلية في عملية النهوض التنموي بشرط أزالة البيروقراطية والروتين الممل.

– تفعيل دور الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية ووضعها تحت المراقبة في تدقيق المواصفات العالمية على البضائع المستوردة.

– ضبط المنافذ الحدودية وتفعيل القوانين العقابية والتأديبية لأجتثاث الرشوة والأبتزاز والفساد ألداري.- الحكومة مطالبة بمنع أستيراد الخضروات، وألزام جميع المنافذ الحدودية – بما فيها منافذ الأقليم لهذا القرار حماية المنتج المحلي وتشجيع المزارع على الأستمرار بمهنة الزراعة.

– دفع مستحقات المنتجين فوراً وبدون مماطلة وتأخير لكي لا تفقد الحكومة ثقتها وهيبتها لدى الشعب العراقي ودعم الزراعة وتنمية الثروة الحيوانية وخلق مجالات تنافسية محلية والسيطرة على السوق والأسعار.

– غزو المنتجات الزراعية المستوردة للبلاد وبهذا الشكل المخيف اجبر عدد كبير من المزارعين مغادرة المهنة وكذلك  بسبب السياسات الخاطئة التي تبنتها الحكومة المركزية المختصة في أدارة هذا القطاع وغياب الدعم والمساعدة خصوصاً بعد 2003 .

– ايقاف هذا المد التجاري المستورد بواسطة تفعيل القوانين الضريبية والكمركية لغرض حماية المنتوج المحلي، وأعفاء القطاع الخاص من الرسوم الكمركية على المواد الأولية التي تدخل في التصنيع.

– وكان لأصدار (اجازة أستيراد) عملاً رائعاً من غرف التجارة والمطلوب ألزام التجار جميعاً بأقتناءه والعمل به عند التصدير والأستيراد ونشره بشكلٍ واسع والأهتمام به أعلامياً.

- أنشاء مراكز التدريب والتأهيل المهني المستمر وشمول تدريب الأيدي العاملة العراقية وزيادة مهاراتها.- وأعتماد خطة بعيدة المدى للنهوض بأقتصادنا الوطني عموماً وتخليصه من الأحادية.- تحريم الغش الصناعي وفرض العقوبات الرادعة لمن يلجأ أليها.

- نشر ثقافة العمل بأحترامه وتقديسه. – وضع حد لسياسة أغراق السوق المحلية بالمنتوجات الأجنبية ---- وأخيراً حبذا لو نأخذ بنماذج دولية نجحت في مجال التصدير الزراعي والصناعي والغذائي وتنويع مصادر الدخل ودعم أنتاجنا الوطني.

***

كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

تموز2024

.........................

المصادر والهوامش

-د/أبراهيم كبه – نظرية التجارة الدولية 1953/ 

- كارل ماكس-نقد الأقتصاد السياسي- ترجمة أنطون حمصي 1970

د/أبراهيم كبه-النفط والأزمة العالمية 1956

د- سمير شعبان – جريمة تبييض الأموال 2016

- ميزان المدفوعات – وزارة المالية العراقية

- نظرية كينز أقتباس بتصرف.

الدرجات الفخرية هي الاعتراف المرموق في التعليم العالي، مخصصة للأفراد البارزين ذوي السمعة الوطنية أو الدولية. عادةً ما يكون المتلقون هم كبار العلماء والمكتشفين والمخترعين والمؤلفين والفنانين والموسيقيين ورجال الأعمال والناشطين الاجتماعيين والقادة في السياسة أو الحكومة. في بعض الأحيان، يتم منح الدرجات الفخرية للأشخاص الذين قدموا خدمة مدى الحياة للجامعة من خلال عضوية مجلس الإدارة، أو العمل التطوعي، أو المساهمات المالية الكبيرة. وهي معروفة أيضاً بالعبارات اللاتينية Honoris Causa الدرجة عادة ما تكون درجة الدكتوراه، أو درجة الماجستير بصورة أقل شيوعاً.

إذن الدكتوراه الفخرية هي درجة اسمية تكريمية وتشريفية، وليست مرتبة علمية أو أكاديمية، ولا تحمل معها أي مؤهل أكاديمي رسمي. على هذا النحو، من المتوقع دائماً أن يتم إدراج هذه الدرجات العلمية في السيرة الذاتية للفرد كجائزة، وليس في قسم التعليم. وفيما يتعلق باستخدام هذا اللقب التشريفي، فإن سياسات مؤسسات التعليم العالي تطلب بشكل عام من الحاصلين عليه "الامتناع عن اعتماد اللقب المضلل" وأن الحاصل على الدكتوراه الفخرية يجب أن يقيد استخدام لقب "الدكتور" قبل اسمهم حصراً مع مؤسسة التعليم العالي المعنية وليس خارجها.

تسلط شهادات الدكتوراه الفخرية الضوء على أسئلة غير مريحة، ولكنها مهمة حول غرض الجامعة ودورها في تعزيز البحث العلمي، وفي المجتمع الأوسع. اتُهمت بعض الجامعات والكليات بمنح درجات فخرية مقابل تبرعات كبيرة. يتعرض الحاصلون على الدرجة الفخرية، وخاصة أولئك الذين ليس لديهم مؤهلات أكاديمية سابقة، للانتقاد في بعض الأحيان إذا أصروا على أن يطلق عليهم لقب "دكتور" نتيجة لمنحتهم، لأن التكريم قد يضلل عامة الناس بشأن مؤهلاتهم.

الأصل التاريخي

تعود هذه الممارسة إلى العصور الوسطى، عندما يتم إقناع الجامعة، لأسباب مختلفة ـ أو تراها الجامعة مناسبة ـ بمنح الإعفاء من بعض أو كل المتطلبات القانونية المعتادة لمنح الدرجة العلمية.

لقد تم استخدام الدكتوراه الفخرية منذ فترة طويلة لتعزيز العلاقات المفيدة مع الأفراد أو البلدان أو المنظمات. منحت جامعة أكسفورد أول دكتوراه فخرية مسجلة في حوالي عام 1478 إلى "ليونيل وودفيل" Lionel Woodville صهر ملك إنجلترا "إدوارد الرابع"  Edward IV في محاولة واضحة "للحصول على تأييد رجل يتمتع بنفوذ كبير، وأصبح فيما بعد أسقف "سالزبوري" Salisbury.

في أواخر القرن السادس عشر، أصبح منح الدرجات الفخرية أمراً شائعاً جداً، خاصة بمناسبة الزيارات الملكية إلى أكسفورد أو كامبريدج. في زيارة "جيمس الأول" James I إلى أكسفورد عام 1605، على سبيل المثال، حصل ثلاثة وأربعون عضواً من حاشيته (خمسة عشر منهم من الإيرل earls أو البارونات barons ) على درجة الماجستير في الآداب، وينص سجل الدعوة صراحة على أن هذه كانت درجات كاملة تحمل الامتيازات المعتادة (مثل حقوق التصويت في الدعوة والتجمع).

في الولايات المتحدة، مُنحت درجة الدكتوراه في الفلسفة لأول مرة كدرجة فخرية في "جامعة باكنيل" Bucknell University في عام 1852؛ لم تمنح أي جامعة أمريكية درجة الدكتوراه المكتسبة حتى عام 1861. حيث إن "جامعة ييل" Yale University هي أول من فعل ذلك. منحت أكثر من مئة مؤسسة في الولايات المتحدة درجة الدكتوراه الفخرية، ودرجات علمية أخرى في القرن التاسع عشر، إلى أكثر من سبعمائة مستلم. ومع ذلك، فإن ممارسة منح الدكتوراه. باعتبارها درجة فخرية أثارت إدانة من منظمات مثل "الجمعية الأمريكية لعلم اللغة" American Philological Association و"الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم" American Association for the Advancement of Science، كما منع مجلس أمناء جامعة ولاية نيويورك في عام 1897 أي جامعة في الولاية من منح درجة الدكتوراه الفخرية. انخفضت الدرجات العلمية التشريفية الممنوحة في الولايات المتحدة في القرن العشرين، ولم تجد الدراسات الاستقصائية التي أجراها مكتب التعليم بالولايات المتحدة أي منها ممنوحة في عام 1940 أو في السنوات اللاحقة. أحد آخر الحاصلين على درجة الدكتوراه الفخرية. كان المغني الأمريكي "بنج كروسبي" Bing Crosby من "جامعة غونزاغا"  Gonzaga University في عام 1937.

بحلول عام 2001، بدأت حوالي 21 ولاية أمريكية في السماح للمدارس العامة بمنح شهادات الثانوية الفخرية للمحاربين القدامى العسكريين في إطار برنامج يسمى "عملية الاعتراف" Operation Recognition. في ولاية أوهايو، لم يكن من الواضح ما إذا كانت المدارس العامة لديها السلطة القانونية لمنحها حتى 12 يوليو 2001، عندما وقع الحاكم "بوب تافت" Bob Taft على مشروع قانون يسمح لمناطق المدارس العامة بمنحها للمحاربين القدامى الذين تم تسريحهم بشرف من الحرب العالمية الثانية. ويعتقد أن مدرسة "لاكوتا الشرقية" Lakota East High School الثانوية قد منحت أول شهادات من هذا النوع لمجموعة من 20 من قدامى المحاربين في مايو من ذلك العام.

الاستخدام الحديث

ترغب بعض الجامعات أن تربط نفسها بأفراد استثنائيين من خلال منح درجات الدكتوراه الفخرية، ولكن هذه الممارسة كثيراً ما اجتذبت الجدل، الأمر الذي أدى إلى خلق صداع لمديري الجامعات.

في حين أنشأت بعض الجامعات درجات فخرية منفصلة، مثل "دكتوراه الجامعة" University Doctorate في "جامعة جريفيث" Griffith University حافظت معظم الجامعات الأسترالية على النظام التقليدي الذي يمكن من خلاله منح مجموعة من الدرجات الفخرية. وهذا يعني عدم الحصول على أي درجة علمية فعلياً، ولكن المرشح يحصل على التمييز بالاسم على أي حال.

تُمنح الدرجات الفخرية عادةً في احتفالات التخرج العادية، حيث يُدعى المتلقون غالبًا لإلقاء خطاب قبول أمام أعضاء هيئة التدريس والخريجين المجتمعين - وهو الحدث الذي غالباً ما يشكل أبرز أحداث الحفل. بشكل عام، تقوم الجامعات بترشيح عدة أشخاص كل عام للحصول على درجات فخرية؛ وعادة ما تمر هذه الترشيحات عبر عدة لجان قبل الحصول على الموافقة. بصورة عامة لا يتم إخبار المرشحين إلا بعد الحصول على الموافقة الرسمية. غالباً ما يُعتقد أن النظام محاط بالسرية، ويُنظر إليه أحياناً على أنه سياسي ومثير للجدل. وفي بعض الأحيان تم منح بعض المنظمات شهادات الدكتوراه الفخرية.

لا تعتبر الدرجات الفخرية ذات نفس مكانة الدرجات الموضوعية المكتسبة من خلال العمليات الأكاديمية القياسية للدورات والأبحاث الأصلية، باستثناء إن أظهر المتلقي مستوى مناسباً من المنح الأكاديمية التي من شأنها عادةً أن تكون مُؤهله للحصول على درجة علمية.

تعتبر درجة ad eundem أو jure officii في بعض الأحيان فخرية، على الرغم من أنها تمنح فقط للفرد الذي حصل بالفعل على مؤهل مماثل في جامعة أخرى أو حصل على مكتب يتطلب المستوى المناسب من المنح الدراسية. في ظل ظروف معينة، يمكن منح درجة علمية للفرد من طبيعة المنصب الذي يشغله وإكمال الأطروحة. تعتبر " الأطروحة والوضع القانوني" dissertation et jure dignitatis بمثابة درجة أكاديمية كاملة.

على الرغم من أن درجات الدكتوراه العليا مثل دكتوراه في العلوم، ودكتوراه في الآداب، وما إلى ذلك غالباً ما تُمنح بصورة فخرية، إلا أنه في العديد من البلدان (لا سيما إنجلترا، واسكتلندا، وأيرلندا، وأستراليا، ونيوزيلندا) من الممكن رسمياً الحصول على مثل هذه الدرجة باعتبارها درجة علمية. يتضمن هذا عادةً تقديم مجموعة من الأبحاث التي يحكمها النظراء، والتي يتم إجراؤها عادةً على مدار عدد من السنوات، والتي قدمت مساهمة كبيرة في المجال الأكاديمي المعني. ثم تقوم الجامعة بتعيين لجنة من الممتحنين الذين سينظرون في الحالة ويعدون تقريراً يوصي بمنح الدرجة أم لا. عادة، يجب أن يكون لدى مقدم الطلب علاقة رسمية قوية بالجامعة المعنية، على سبيل المثال أن يكون من الطاقم الأكاديمي بدوام كامل، أو من الخريجين منذ عدة سنوات.

بعض الجامعات، التي تسعى للتمييز بين الدكتوراه الموضوعية والدكتوراه الفخرية، لديها درجة (often DUniv, or Doctor of the University) تُستخدم لهذه الأغراض، مع الاحتفاظ بدرجات الدكتوراه العليا الأخرى للمنح الدراسية الأكاديمية التي يتم فحصها رسمياً.

يتمتع رئيس أساقفة "كانتربري" Canterbury بسلطة منح الدرجات العلمية. يُعتقد أحياناً خطأً أن "درجات لامبث" Lambeth degrees فخرية؛ ومع ذلك، كان لدى رؤساء الأساقفة لعدة قرون السلطة القانونية (في الأصل كممثلين للبابا، والتي تم تأكيدها لاحقاً بموجب قانون هنري الثامن لعام 1533)، لمنح الدرجات العلمية والقيام بذلك بانتظام للأشخاص الذين اجتازوا الامتحان أو يعتبرون متفوقين واستوفوا المتطلبات المناسبة.

بين تكريم المشاهير والتقييم الرسمي لمجموعة من الأبحاث، تستخدم بعض الجامعات درجات فخرية للاعتراف بإنجازات الدقة الفكرية. لا تمنح بعض معاهد التعليم العالي درجات فخرية كسياسة عامة. تمنح بعض الجمعيات العلمية الزمالات الفخرية بنفس الطريقة التي تمنح بها الجامعات الشهادات الفخرية، وذلك لأسباب مماثلة.

الاستخدام العملي

ليس من المعتاد أن يعتمد الحاصلون على الدكتوراه الفخرية عبارة "دكتور" "Dr." يعتبر بشكل عام غير لائق أن يستخدم الحاصلون على الدكتوراه الفخرية اللقب الرسمي "دكتور" Doctor، بغض النظر عن الظروف الخلفية للجائزة. قد تتضمن الاتصالات الكتابية التي يتم فيها منح الدكتوراه الفخرية الحروف "h.c." بعد الجائزة للإشارة إلى تلك الحالة.

يمكن لمتلقي الدرجة الفخرية إضافة عنوان الدرجة بعد الاسم، ولكن يجب توضيح أن الدرجة فخرية بإضافة "فخرية" أو "فخرية سببية" أو "h.c." بين قوسين بعد عنوان الدرجة. في بعض البلدان، يجوز للشخص الحاصل على الدكتوراه الفخرية استخدام لقب "دكتور" اسمياً، والمختصر "Dr.h.c". أو "دكتور"، " "Dr.(h.c.). في بعض الأحيان، يستخدمون "Hon" قبل أحرف الدرجة العلمية، على سبيل المثال، "Hon DMus".

في السنوات الأخيرة، اعتمدت بعض الجامعات ألقاباً منفصلة تماماً للدرجات الفخرية. ويرجع ذلك جزئياً إلى الارتباك الذي أحدثته الدرجات الفخرية. على سبيل المثال، تأخذ الدكتوراه الفخرية من "جامعة أوكلاند للتكنولوجيا" Auckland University of Technology اللقب الخاص HonD لأنه من الشائع الآن في بعض البلدان استخدام درجات معينة، مثل LLD أو HonD، على أنها فخرية بحتة.

بعض الجامعات، بما في ذلك الجامعة المفتوحة، تمنح درجة الدكتوراه في الجامعة (DUniv) لمرشحين مختارين، مع منح درجات الدكتوراه أو EdD لأولئك الذين استوفوا المتطلبات الأكاديمية.

تمنح معظم الجامعات الأمريكية درجات LLD (دكتوراه في القانون)، وLittD (دكتوراه في الآداب)، وLHD (دكتوراه في الآداب الإنسانية)، وScD (دكتوراه في العلوم)، وPedD (دكتوراه في علم أصول التدريس)، وDD (دكتوراه). اللاهوت) فقط كدرجات فخرية. ولا تمتلك الجامعات الأمريكية نظام "الدكتوراه العليا" المتبع في المملكة المتحدة وبعض الجامعات الأخرى حول العالم.

يوجد لدى بعض الجامعات والكليات تقليد منح درجة الماجستير لكل عالم يتم تعيينه كأستاذ كامل، ولم يحصل على درجة هناك من قبل. في جامعات "أكسفورد" Oxford و"دبلن" Dublin و"كامبريدج" Cambridge يُمنح العديد من كبار الموظفين درجة الماجستير في الآداب بعد ثلاث سنوات من الخدمة، وفي كلية "أمهرست" Amherst يُمنح جميع الأساتذة الدائمين درجة الماجستير في الآداب بدرجة أكاديمية.  على الرغم من أن المدرسة تقدم فقط درجة البكالوريوس في الآداب المكتسبة (تمنح أمهيرست الدكتوراه الفخرية عند التخرج في الربيع للعلماء البارزين وغيرهم من المدعوين الخاصين). كما تمنح جامعات مثل جامعة "براون" Brown و"جامعة بنسلفانيا" Pennsylvania وجامعة "هارفارد" Harvard أعضاء هيئة التدريس الدائمين، الذين ليس لديهم شهادة من مدارسهم، AM ad eundem.

يتم الحصول على هذه الدرجات ad eundem أو jure officii وهي وليست فخرية، لأنها تعترف بالتعلم الرسمي.

وبالمثل، تُمنح درجة "الكرامة" dignitatis degree للشخص الذي أظهر مكانة مرموقة وعلمية من خلال تعيينه في مكتب معين. وهكذا، على سبيل المثال، يمكن منح DD (دكتور في اللاهوت) للأسقف بمناسبة تكريسه، أو أن ينشئ القاضي LLD (دكتوراه) أو DCL (دكتور في القانون المدني) عند تعيينه في منصب قضائي مقعد. وتعتبر هذه أيضاً درجات موضوعية وليست فخرية.

المؤسسات التي لا تمنح الدرجات الفخرية

بعض الجامعات الأمريكية لا تمنح درجات فخرية كمسألة سياسية، مثل معهد "ماساتشوستس للتكنولوجيا" Massachusetts Institute of Technology (MIT)، و"جامعة كورنيل" Cornell University، و"جامعة ستانفورد،" Stanford University، و"جامعة رايس" Rice University. ربما كانت "جامعة فيرجينيا" University of Virginiaالتي تأسست عام 1819 أول جامعة أمريكية لديها سياسة صريحة بعدم منح درجات فخرية بناءً على طلب مؤسسها، "توماس جيفرسون" Thomas Jefferson.

في عام 1845 دافع "ويليام بارتون روجرز"، William Barton Rogers رئيس هيئة التدريس آنذاك، بقوة عن هذه السياسة. وفي عام 1861، أسس معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في بوسطن واستمر في هذه الممارسة. تمنح جامعة فرجينيا سنوياً أوسمة توماس جيفرسون في الهندسة المعمارية والقانون، كأعلى درجات التكريم التي تمنحها تلك المؤسسة.

تمنح رابطة خريجي جامعة ستانفورد أحياناً درجة الرجل/المرأة غير المألوف، للأفراد الذين قدموا "خدمة نادرة واستثنائية" للجامعة. على الرغم من أن "جامعة كاليفورنيا" UCLA فرضت حظراً على منح الدرجات الفخرية، إلا أنها تكرم الأشخاص البارزين بميدالية جامعة كاليفورنيا بدلاً من ذلك. لم تمنح كلية "سانت جون" St. John's College درجات فخرية منذ عام 1936، لكن رابطة خريجيها تقدم أحياناً عضوية فخرية لأعضاء هيئة التدريس والموظفين المتقاعدين وغيرهم من المقربين من الكلية.

الجدل

في أغسطس 1962، رفضت الجامعة الوطنية الأسترالية منح درجة فخرية للملك "بوميبول" Bhumibol ملك تايلاند، بسبب افتقاره إلى المؤهلات الأكاديمية. وقد خلق هذا إحراجاً دبلوماسياً للحكومة الأسترالية في سياق زيارة ملكية وشيكة. تدخلت "جامعة ملبورن" University of Melbourne في هذا الانتهاك لتمنح بوميبول درجة الدكتوراه الفخرية في القانون في سبتمبر 1962، وهو الأمر الذي اعتبرته الأوساط الجامعية أمراً سيئاً.

في عام 1985 وكرفض متعمد، صوتت جامعة أكسفورد على رفض منح رئيسة الوزراء البريطانية السابقة "مارغريت تاتشر" Margaret Thatcher درجة فخرية احتجاجاً على تخفيضاتها في تمويل التعليم العالي. سبق أن مُنحت هذه الجائزة لجميع رؤساء الوزراء الذين تلقوا تعليمهم في أكسفورد.

أثارت كلية الفلسفة في كامبريدج جدلاً بين المجتمع الأكاديمي في مارس 1992، عندما استخدم ثلاثة من أعضائها حق النقض المؤقت ضد منح الدكتوراه الفخرية للفيلسوف الفرنسي "جاك دريدا" Jacques Derrida واحتجوا هم وغيرهم من أنصار الفلسفة التحليلية من خارج كامبريدج ضد المنح على أساس أن عمل دريدا "لم يتوافق مع المقاييس المقبولة للدقة الأكاديمية". على الرغم من أن الجامعة أقرت هذا الاقتراح في نهاية المطاف، إلا أن هذه الحادثة فعلت المزيد من أجل لفت الانتباه إلى الكراهية المستمرة بين الفلسفة التحليلية (التي تعد كلية كامبريدج من أبرز المدافعين عنها) والتقاليد الفلسفية القارية ما بعد الهيغلية (التي يرتبط بها عمل دريدا بشكل أوثق).

في عام 1996، منحت "كلية ساوثهامبتون "Southampton College في جامعة "لونغ آيلاند"  Long Island University (الآن حرم جامعة "ستوني بروك" Stony Brook University) درجة الدكتوراه الفخرية في الآداب البرمائية للضفدع "كيرميت"Kermit. على الرغم من أن بعض الطلاب اعترضوا على منح درجة علمية إلى دمية، إلا أن كيرميت ألقى خطاباً ممتعاً وحظيت الكلية الصغيرة بتغطية صحفية كبيرة. تم منح الدرجة تقديراً للجهود المبذولة في مجال حماية البيئة. وذكرت الجامعة: "أصبحت أغنيته الرئيسية "ليس من السهل أن تكون صديقًا للبيئة" It's Not Easy Bein' Green، صرخة حاشدة للحركة البيئية. وقد استخدم كيرميت شهرته لنشر رسائل إيجابية في إعلانات الخدمة العامة للاتحاد الوطني للحياة البرية، وخدمة المتنزهات الوطنية.

يمكن أن يؤدي منح درجة فخرية لشخصيات سياسية إلى احتجاجات من أعضاء هيئة التدريس أو الطلاب. في عام 2001، حصل الرئيس الأمريكي السابق "جورج دبليو بوش" George W Bush على درجة دكتوراة فخرية من جامعة "ييل" Yale University حيث حصل منها على درجة البكالوريوس في التاريخ عام 1968. واختار بعض الطلاب وأعضاء هيئة التدريس مقاطعة حفل التخرج الـ 300 للجامعة. اختار "أندرو كارد" Andrew Card الذي شغل منصب رئيس أركان بوش من عام 2001 إلى عام 2006، في نهاية المطاف عدم التحدث عندما منحته جامعة "ماساتشوستس أمهيرست" University of Massachusetts Amherst درجة دكتوراة فخرية في عام 2007، رداً على احتجاجات الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في مراسم التخرج.

في عام 2005، في جامعة "ويسترن أونتاريو" University of Western Ontario تم منح "هنري مورجنتالر" Henry Morgentaler طبيب أمراض النساء المتورط في قضية قانونية تلغي تجريم الإجهاض في كندا (R. v. Morgentaler)، دكتوراه فخرية في القانون. تم الحصول على أكثر من 12000 توقيع لمطالبة UWO بإلغاء قرارها بتكريم مورجنتالر. تم تنظيم العديد من المسيرات الاحتجاجية، بما في ذلك واحدة في يوم منح الدرجة الفخرية (حصل التماس مضاد لدعم درجة مورجنتالر على 10000 توقيع)

في عام 2007، طالب المتظاهرون جامعة "إدنبره" University of Edinburgh بإلغاء الدرجة الفخرية الممنوحة للزعيم الزيمبابوي "روبرت موغابي" Robert Mugabe في عام 1984. وكشفت الجامعة في وقت لاحق عن خطط لمراجعة سياسة الشهادات الفخرية وتجريد بعض الشخصيات من درجاتهم الفخرية الذين لا يستحقونها.

عند النظر في إلغاء الدرجة الفخرية لشخصية سياسية، يتم أخذ أسباب مثل انتهاك حقوق الإنسان أو الفساد السياسي في الاعتبار. ونتيجة لذلك، أُعلن عن تجريد موغابي من درجته الفخرية. خططت الجامعة أيضاً لإجراءات اختيار أكثر صرامة فيما يتعلق بالمتلقين المحتملين للدرجات الفخرية، في محاولة لتصحيح الاتجاه المتمثل في منح الدرجات العلمية للمشاهير. كما طلب الطلاب في جامعة ماساتشوستس أمهرست من الجامعة إلغاء الدرجة الفخرية التي مُنحت لموغابي منذ أكثر من عشرين عاماً، وفي 12 يونيو 2008، ألغى الأمناء بالإجماع الدرجة الفخرية لروبرت موغابي. كما ألغت "جامعة ولاية ميشيغان" Michigan State University درجتها الفخرية.

في أبريل 2009، رفض رئيس جامعة ولاية "أريزونا" Arizona State University "مايكل كرو" Michael Crow منح درجة فخرية للرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما" Barack Obama بسبب افتقاره إلى الإنجازات المؤهلة الكافية. كما اندلع الجدل حول منح "جامعة نوتردام" University of Notre Dame لأوباما درجة فخرية، حيث إن المؤسسة التعليمية هي كاثوليكية رومانية، ويحمل أوباما آراء مؤيدة لحق الاختيار بشأن الإجهاض ويدعم أبحاث الخلايا الجذعية الجنينية.

في فبراير 2012، مُنحت "روسما منصور" Rosmah Mansor زوجة رئيس وزراء ماليزيا "نجيب رزاق" Najib Razak درجة الدكتوراه الفخرية بشكل مثير للجدل من "جامعة كيرتن" Curtin University عن "خدمات تعليم الطفولة". كرمت الجامعة روسما لتأسيسها وقيادتها مراكز "بيرماتا" Permata للطفولة المبكرة في ماليزيا على الرغم من أن بعض الخريجين والطلاب أكدوا أن المراكز الممولة من الحكومة هي "إساءة استخدام أموال دافعي الضرائب".

تم إلغاء أكثر من 50 درجة فخرية مُنحت لـلممثل الأمريكي الكوميدي الشهير "بيل كوسبي" بسبب ادعاءات ودعاوى قضائية تتعلق بالاعتداء الجنسي. وفي ديسمبر 2022 ألغت "كلية معهد شيكاغو للفنون" School of the Art Institute of Chicago درجة الدكتوراه الفخرية الممنوحة لمغني الراب "كاني ويست" Kanye West بعد سلسلة من التصريحات العنصرية والمعادية للسامية التي أدلى بها ويست.

القيود القانونية والأخلاقية على استخدام الدرجة الفخرية

إن حيازة الدكتوراه الفخرية لا يؤهل حاملها للعمل في مجال بدون تعليم رسمي في الطب أو الهندسة المعمارية أو اللاهوت، لا يمكن لحامل الدرجة الفخرية أن يعمل كطبيب أو مهندس معماري أو وزير. نظراً لأن معظم حاملي الشهادات الفخرية هم بالفعل متخصصون أو خبراء في مجال ما، فإن القليل منهم يستخدمون الدكتوراه الفخرية أكثر من مجرد جائزة.

وفقًا للاتفاقية، لا يستخدم الحاصلون على الدكتوراه الفخرية لقب "دكتور" "Dr" في المراسلات العامة. لا يتم التعامل مع الممنوحين للشهادات الفخرية لا شفهياً ولا كتابياً على أنهم "دكتور" من قبل المؤسسات الأكاديمية الأخرى - ولا تتم مخاطبتهم بشكل صحيح على أنهم "دكتور" في حياتهم المهنية/الشخصية. ويستمر التعامل معهم بطريقة ما قبل حصولهم على التكريم. على سبيل المثال، السيد/الآنسة/السيدة Mr./Ms./Mrs ومع ذلك، لا يتم دائماً مراعاة هذه الاتفاقية الاجتماعية بدقة.

يشعر العديد من الأكاديميين أنه من غير الأخلاقي أن يقدم حاملو الدكتوراه الفخرية أنفسهم كخبراء في مجال الشهادة، بالرغم من أن معظم حاملي الدكتوراه الفخرية حصلوا على أكثر من 20 عامًا من التعليم. يقولون إن حامل الشهادة الفخرية الذي ينوي تقديم نفسه كخبير في هذا المجال يلحق الضرر بمؤسسات التعليم العالي ويقلل من جهود أولئك الذين حصلوا على شهاداتهم.

أهم الأشخاص البارزين الذين استخدموا لقب الدكتوراة الفخرية في حياتهم العملية:

الكاتبة والشاعرة الأمريكية "مايا أنجيلو"  Maya Angelou، والممثل الكوميدي ومقدم البرامج الأمريكي "ستيفن كولبيرت" Stephen Colbert، ورجل الدولة الأمريكي "بنيامين فرانكلين" Benjamin Franklin، والسياسي والرئيس السابق للبيرو "آلان غارسيا" Alan García، والناقد الأدبي والمعجمي الإنجليزي "صموئيل جونسون" Samuel Johnson،  و"إدوين لان"د Edwin  Land العالم والمخترع الأمريكي الذي اخترع الكاميرا الفورية. و"ريتشارد ستالمان" Richard Stallman المبرمج الأمريكي، ومؤسس مؤسسة البرمجيات الحرة في مجال تكنولوجيا المعلومات. وكذلك "سوكارنو" Sukarno الزعيم الإندونيسي وأول رئيس لها.   و"جيريميا وولف" Jeremiah Wolfe ، أحد كبار السن المحترمين من الفرقة الشرقية لهنود الشيروكيCherokee Indians .

تقويض المعايير

كثيرا ما يقال إن توزيع الشهادات الفخرية "غير المكتسبة" يقلل من قيمة أعلى المؤهلات الأكاديمية في الجامعة. إن منح الدكتوراه الفخرية للمشاهير والسياسيين وخاصة الرياضيين، يميل إلى إثارة الدهشة وإثارة النكات المريرة من الأكاديميين حول الموعد الذي يجب أن يتوقعوا فيه الحصول على الميدالية الأولمبية الفخرية. إن مجرد حصول المرء على درجة الشرف لا يعني أن لديه مؤهلات للممارسة في المجال الذي حصل فيه على الدرجة. على سبيل المثال، إذا حصل على شهادة فخرية في القانون، فهذا لا يوفر له المؤهلات لممارسة القانون.

تم تسليط الضوء على نقص تمثيل المرأة بين الحاصلين على الشهادات الفخرية من خلال سياسات تكافؤ الفرص في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات. في عام 1995 اعترفت "جامعة موناش" Monash University بأنها منحت شهادات الدكتوراه الفخرية منذ عام 1964 لـ 122 رجلاً و13 امرأة فقط. وقد سعت مع جامعات أخرى، إلى تصحيح هذا الأمر، بهدف تحقيق التمثيل المتساوي بين الجنسين بين المستفيدين - وهو الهدف الذي لا يزال بعيداً عن التحقيق.

نلاحظ في السنوات طفرة بالعالم العربي بمنح شهادات الدكتوراة الفخرية من قبل العديد من الجهات والمواقع الثقافية، وبعض المنظمات التي تستخدم أسماء وعناوين "وازنة" بهدف إضفاء بعض المصداقية، بمنح شهادات الدكتوراة الفخرية بمقابل نقدي، حتى باتت مواقع التواصل الاجتماعي تزدحم بأصحاب تلك الشهادات الوهمية. المهزلة في أن يقوم من ليس له حق بمنح شهادات دكتوراة فخرية لمن لا يستحق. يدفع العديد من أجل اللقب على غرار ما يُمنح من ألقاب السفراء الفخريين وسفراء السلام وما شابه ذلك من ألقاب ودرجات لا تعكس في الحقيقة أي كفاءات، كما أنها لا تمنح الفرد أي امتيازات، ولا تؤهله للتعليم أو استخدامها في إكمال المسار الأكاديمي التعليمي، ولا يعتد بها في الملف الشخصي لحاملها، وهي شهادات للصالونات فقط.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

كلما إبتعدنا عن العلم تآكلنا وخارت قوانا، فعصرنا عصر العلم والإبداع، وعلينا أن نرى ذلك بوضوح وعزيمة جادة، فالحاجة أم الإختراع، وما إبتكرنا ما نحتاجه من أبسط الأشياء، وصار إعتمادنا على الآخرين بالمأكل والملبس، وكافة معطيات العصر التكنولوجية.

وأصبحت الدول القوية علميا تهيمن على وجودنا، والصين تستعمرنا إقتصاديا، والقوية عسكريا، ومَن يطعمنا يصادر إرادتنا، فتحولنا إلى عالة على غيرنا، وتوهمنا بأننا سننتصر على أعدائنا بالسلاح الذي إشتريناه منهم.

وما تخصصه أنظمة حكم دولنا للنشاطات العلمية نسبة ضئيلة، وتوفر بيئة طاردة للعقول العالمة والباحثة، فتهاجر إلى الديار الأخرى لتعبر عن طاقاتها فيها.

فإهمال التعليم والبحث العلمي والمختبرات وغيرها من متطلبات التواصل مع العصر الإبداعي الفياض، تسبب بتفاعلات سلبية أنهكت الحياة في دول الأمة، التي لا تعرف أنظمة حكمها سوى الإعتماد على السلاح المستورد، وما أنجزت به غير التناحرات والصراعات البينية الخاسرة.

أولا: الثقافة العلمية!!

الثقافة الحقيقية علمية، فهذا قرن الثقافة العلمية  والبحث العلمي والإبداع العلمي، وغيرها يأتي في درجات أخرى، فالقوة والإقتدار إبداع علمي، فالسيادة للعلم والقوة بالعلم، فعلينا أن نعزز الثقافة العلمية، ونحث الخطى بالإتجاه الذي سيقرر مصيرنا.

والإبداعات الأخرى لا تمنح القوة والقدرة على التحدي والحياة، فما قيمة الشعراء أمام عالم واحد يبدع ويخترع، ويأتي بأفكار قابلة للتحول إلى موجودات مادية فاعلة.

فعلينا أن نعيش في عصرنا ونتعلم قوانينه، ومعطياته المؤثرة بصناعة الواقع المستقبلي، لأنها مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الأجيال الحاضرة، التي من واجبها أن توفر الظروف المواتية لإطلاق طاقاتها المتوافدة إلى ميادين الجريان الحي.

وليس مقبولا أن نغفل أهمية التفاعل العلمي في الزمن المُعاصر، بل المطلوب إعطاء الأولوية لما هو علمي، للوصول إلى حلول وإستنتاجات نافعة للبناء الأرقى.

وعلى المسؤولين والقادة وعي أهمية العلم في تأمين الإرادة الوطنية، وتحفيز المواطنين على العطاء الأمثل النافع للجميع.

فالحياة بالعلم، وبدونه نعيش تداعيات مروعة ومدمرة للكينونة الحضارية، وممزقة للّحمة الوطنية، فلا شيئ يتقدم على العلم، ولا يكون بغير العلم، وإن الحياة تتنور بالتفكير العلمي، وبأبحاث العلماء الجادين القادرين على الإمساك بالحلول الناجعة للمشاكل والتحديات القائمة في أوطاننا، المُبتلاة بالذين ينكرون العلم.

فهل لنا أن نعلن ثورتنا العلمية، ونتعلم، ونرفع رايات العلم؟!

ولن نكون إذا بقي العلم بلا دور في حياتنا!!

ثانيا: الأمية العلمية!!

المستقبل علمي صناعي، والمجتمعات القوية تهتم بالبحث العلمي والإبتكارات التصنيعية، فالعالم يسير على سكة معبّدة بالعلوم، والدول المتقدمة تخصص ميزانيات ضخمة للنشاطات العلمية.

ويمكن تقدير القوة العلمية لأي بلد من براءات الإختراعات الممنوحة فيه، ومن الواضح أن دولنا تأتي في آخر القائمة، لأن الأمية العلمية تعصف بأرجائها ، فتمحنت بالمشاكل وعجزت عن حلول ذات قيمة عملية، وأصبحت تتوسل بالدول الطامعة فيها لحل مشاكلها، وتتناسى بأنها تحقق مصالحها بواسطتها.

فالدول القائدة للعالم هي الفائزة بأكثر براءات الإختراعات، وقد إنطلقت دول آسيا الشرقية في الربع الأخير من القرن العشرين نحو التأسيس لمراكز للبحوث العلمية، وحشدت الجهود لبناء القاعدة العلمية اللازمة لتقوية  الحياة وتطويرها، وأكثرها نجحت وإنطلقت في مسارات أوصلتها إلى مصاف الدول المتقدمة، فبرعت بالصناعات المؤثرة في الحياة المعاصرة.

ودول الأمة متمحنة بالمعضلات، لأنها تناست العلم وأنكرته، وأشاعت الجهل ورسخت الأمية الشاملة، حتى أن مناهج تعليمها بدت خارج العصر، لإندحارها في موضوعات بائسة وتصورات سوداوية ظالمة.

وصارت أدمغة مجتمعاتها محشورة في زوايا حادة، ومؤججة بأضاليل وأوهام وعواطف سلبية خانقة تدفع للإنتقام والإنهزام، فغاب العلم وتسيَّد الجهل والإحتران.

فالمطلب الشافي يتمثل بالإنطلاق في دروب العلم، والإهتمام بمناهجه وبمراكزه البحثية، وتشجيع إرادة الإبتكار والإختراع، وحث الشباب على الإبداع التقني والتكنولوجي اللازم للنهوض والبناء.

فلا خيار سوى الإستثمار في المستقبل العلمي للأمة، فعندها ستنتصر على التحديات وتؤسس لمنطلقات حضارية أصيلة.

فهيا إلى ميادين العلم والبحث العلمي!!

ثالثا: المُعاصَرة العلمية!!

الكلام عن المعاصرة لم يعد جديدا، بل من أقدم الموضوعات التي تناولها الكتاب والمفكرون العرب، والمغيّب في المعاصرة ماهيتها ومناهجها التي أغفلت، فالدنيا في عصر العلم، ولكي تتحقق المعاصرة لا بد أن تكون علمية أولا، وبعدها تأتي الحالات الأخرى.

فالأمم الغير قادرة على التفاعل العلمي المتجدد مع منطلقات عصرها، لا تستطيع أن تدّعي المعاصرة، مهما حاولت أن توهم نفسها في نشاطات أخرى أيا كان نوعها.

فعندما تنتفي المعاصرة العلمية تنهار أية معاصرة أخرى، فلكي تعاصر على مستويات الحياة المتنوعة، لابد من المعاصرة العلمية.

وهذه العلة وقع في مهاويها المفكرون العرب، وراحوا يتحدثون عن المعاصرة وكأنها مصطلح خيالي، وتجنبوا الخوض في صميمها العلمي، الذي تتولد عنه سلسلة من المعاصرات المتصلة به.

فالمجتمعات العاجزة علميا، لا يمكنها أن تخدع نفسها وأجيالها بأنها تعاصر في ميادين المعارف الأخرى، كالشعر والقصة والرواية، وغيرها من الإبداعات.

فخلو الساحة الثقافية من المعاصرة العلمية يتسبب بتداعيات سلبية، ويمنع نشاطات فكرية وأدبية متعددة.

وفي واقعنا العربي، توهمنا التجديد في الأدب بشتى نشاطاته، وما أتينا بما هو معاصر وجديد، وأصبحنا ندور في دوامة مصطلحات مبهمة، ومسميات مستوردة لا تمت بصلة للواقع الذي حُشرت فيه، وراح أصحابها يسوقونها على أنها معاصرة وتواصل مع ما في الدنيا من ثورات معرفية متسارعة.

وهذا التخبط والإضطراب الإدراكي عوّق قدرات إنتاج المعرفة في واقعنا المأسور بما لا يعنيه، ففقد خصوصيته ونكهته ومميزاته وضاعت ملامحه، فصارت المعاصرة إقتلاع لحاضره ومستقبله وتدثر بماضيه.

فمجتمعاتنا هامت في متاهات المعاصرة، وياليتنا تحررنا من سطوة المصطلحات، وتعاملنا ببساطة ووضوح مع ما تمليه علينا حاجاتنا المادية والنفسية والفكرية والروحية، لنكون مبدعين أصلاء، وأصحاب معارف غير مسبوقة.

فهل لنا أن نعاصر بما فينا؟!!

رابعا: القوة العلمية!!

القوة في العلم وكل قوة تولد من رحمه، فالعلم يصنع ويعزز القدرات، فالدول الصناعية بالعلم تكوَّنت، وبالبحث وإعتماد المناهج العلمية تطورت وتجددت قدراتها، وتعاظمت إرادتها المعرفية والإبتكارية، حتى سادت الدنيا وتشامخت بما تنتجه عقولها العلمية المتفاعلة.

الدول الغربية بالعلم تسامقت، الصين بالعلم تواصلت وتوثبت، ففي العلم قوة، فالذي لا يصنع ما يحتاجه، عليه أن لا يتبجح بالقوة، فحالما يستورد طعامه وشرابه وحاجاته الأساسية الأخرى وما يلزمه للدفاع عن نفسه، فأنه ضعيف وخانع وتابع، فالقوي الحقيقي مَن يصنع سلاحه ويطوره وينافس الآخرين بعقول شعبه وأمته.

فأين نحن من هذا وذاك؟

البشرية عاشت قرونا متعاقبة بظلامية خانقة وعندما إستيقظت من أوهامها وهذياناتها، وتحركت عقول نخبها وأبصرت وتعلمت وتباحثت وإكتشفت وإخترعت، أدركت أنها كانت تعيش في عصور دامسة، فبعد أن أضاء العلم دروب وجودها إتخذته سبيلا لبناء حاضرها.

وتجدنا في بعض مجتمعات الأمة قد إندحسنا في أنفاق العصور المظلمة، التي قاست منها أوربا خصوصا، وأنهكتها تصوراتها، التي كانت سيدة المواقف والقرارات.

خامسا: الشباب والحركة العلمية!!

الشباب المتوثب نحو المستقبل عليه أن يتزود بالعلم، ويتعلم مهارات التعبير المادي عن الأفكار، فبدون هذه القدرة العلمية لن ينجز إرادته، ولن يحقق تطلعاته، فلابد للعلم أن يكون قائدا، وفاعلا في حياة الشباب الطامح إلى الأفضل والأقدر.

فالمستقبل يصنعه العلم، والشباب الخالي من المعرفة العلمية، والمجرد من مهارات الإبتكار والإختراع والإبداع الأصيل، لا يستطيع أن يقدم خيرا لنفسه ولبلاده.

الشباب الغير متمكن علميا يتحول إلى طاقة مبيدة لوجوده الوطني، وعالة على الآخرين، ويتحقق إستعماله لإنجاز ما تفرضه رموز التضليل والإستعباد والهوان والتبعية.

الشباب يجب أن يتألق بالعلم، ليدرأ عنه آفات الخنوع والخضوع للمدّعين بالمعارف، ويحسبونه من الجاهلين المغفلين، الذين عليهم أن يعيشوا حياة القطيع، ويساقون إلى مجازر الرغبات الدونية لأدعياء المُثل والقيم السامية.

فتعلموا أيها الشباب، وارفعوا رايات العلم، فأن أعداءكم سيذهبون، لأنهم سيدركون بأنكم تضعون أصابعكم على زناد الثورة الحقيقية، بعد أن كنتم تسرحون وتمرحون في عبثية، وإستنزاف لطاقاتكم وقدراتكم الإبداعية المتميزة.

فتعاونوا علميا، وتحركوا بإتجاه نأسيس المشاريع العلمية، فهي التي ستجمعكم وتوحد طاقاتكم، وتنمي قدراتكم وتنقلكم إلى آفاق التقدم والعطاء المعبر عن وجودكم الحضاري المعاصر.

أيها الشباب أنتم منبع العلم وجوهر العلماء، ففيكم من موروثات أجدادكم العلمية ما لا يتوفر عند غيركم، فلا تخنقوا طاقاتكم، ولا تبددوا ثرواتكم الفكرية، ولا تخضعوا للمنوِّمين والمخدرين لوجودكم .

أيها الشباب العلم طريقكم، وبالعلم قوتكم وإزدهار حاضركم ومستقبلكم، فكونوا علماء أوفياء لأجدادكم العلماء الأعلام!!

سادسا: العرب والثورة العلمية!!

العرب يحتاجون لثورة علمية شاملة، تزعزع أركان النمطية الخامدة، وآليات التفاعل الخاملة مع التحديات القائمة.

العرب بالعلم يكونون، مثلما كانوا به في مسيرتهم الحضارية، أما التركيز على ما دون العلم فعبث وضياع، وإستنزاف للطاقات والقدرات الوهاجة الكامنة في أعماق الأجيال.

فلا خيار عند العرب غير طريق العلم، والإندفاع العلمي الثوري على جميع المستويات، ولديهم المؤهلات الكفيلة بتعبيد مساراتهم العلمية المتميزة، القادرة على الإتيان بالأصيل الواعد.

العرب لن يتحرروا من مأزقهم الحضاري، ويفعّلون العقول ويتفاعلون بها، إلا بإتخاذ العلم منهجا للقوة والقدرة والحياة.

فخيار العرب المصيري يتلخص بالتفكير والبحث والإبداع العلمي، فهذه الأركان الثلاثة هي المنقذ من الضياع والخسران.

وقد أغفل المفكرون والمصلحون أهمية العلم ودوره في صناعة الوجود العربي الأرقى والأقوى، وتخبطوا في متاهات بائسة أوصلتنا إلى ما نحن عليه من أحوال واهنة خالية من إرادة الحياة الحرة الكريمة.

فعندما نراجع ما طرحوه منذ منتصف القرن التاسع عشر، لا نعثر على الحث على العلم والتفكير العلمي ولا تأكيد على مناهج البحث والإبداع العلمي، رغم إنشاء الجامعات والمعاهد والمراكز المعرفية المتنوعة في العديد من دول الأمة، لكن مفهوم البحث العلمي لا يزال في المؤخرة، وما يُرصد له لا يكاد يذكر في ميزانيات معظم الدول.

فتجد العرب يعتمدون على غيرهم، فكل ما يتصل بحياتهم من إنتاج الآخرين، ولا يمتلكون حلولا لمشاكلهم، لأنهم لا يعرفون التفاعل العلمي معها، ولهذا تتراكم المعضلات وتتعقد، ويزدادون قعودا، ورقودا في كهوف الإمتهان، ويوفرون الأجواء المواتية لصناعة الويلات والتداعيات المريرة.

فلا حياة للعرب إلا بالعلم، ومَن سار على الدرب وصل، ومن جَدّ وجَد، فتعلموا العلم ومناهجه وانطلقوا في مسارات الدنيا المشرقة بالإبداعات الأصيلة، فالعرب أمة علم!!

سابعا: البحوث العلمية والتقدم!!

أتصفح هذا الصباح مونوغراف يبين الأموال المرصودة للبحث العلمي في علاقة الدماغ بالسلوك وهي بمئات الملايين، ويشترك فيها مئات الباحثين والعلماء في ميادين السلوك، وهذا على مستوى بعض الجامعات أو إن شئت بعض الأقسام في عدد من الجامعات، فكيف سيكون الحجم والرصيد المالي على مساحة البلاد وفي المجالات الأخرى؟!

إن المجتمعات المتقدمة لم تتقدم بالعبثية والتصورات الطوباوية والأضاليل والخداعات التي تمتهن الأجيال في المجتمعات المتأخرة، إنها متقدمة بالبحوث العلمية، وسلوك البحث العلمي صار عنصرا من الحياة اليومية ويؤكد دوره في أي دائرة أو ميدان عمل.

وهذه المجتمعات تخصص نسبة كبيرة من ميزانيتها للبحث العلمي، ويمكن القول أن قوة وتقدم أي دولة في العالم تتناسب طرديا مع ما تخصصه للبحوث العلمية، أما المجتمعات المتأخرة فموضوع البحث العلمي لا يعنيها ولا تقترب منه، ولا يوجد في ميزانياتها تخصيصات له، ولا يتوفر وعي إجتماعي لتأسيس الجمعيات المعتمدة على تبرعات المواطنين للصرف على البحوث العلمية اللازمة للتقدم والرقاء.

ويبدو أن من أهم الأسباب الجوهرية لتردي الأوضاع في تلك المجتمعات هو إغفالها لدور البحث العلمي في معالجة تحديات الحاضر وبناء الأسس الصحيحة لمستقبل أفضل.

ففي المجتمعات المتقدمة لا يوجد سلوك أو عمل لا يخضع للبحث العلمي والدراسة والتدقيق والتقييم المتكرر لإستنباط الدروس والعبر ولمنع تكرار الخطأ الذي حصل، فلا تمر حالة دون دراسة وتحليل وتحقيق وإستنتاجات وتوصيات وتعديلات تكفل التطور والوقاية من الزلل.

وبما أن مجتمعات الدول المتأخرة مغفلة بحثيا وجاهلة لأهمية وضرورة البحث العلمي، فستبقى ترزخ تحت سنابك التداعيات والتفاعلات السلبية المتفاقمة، التي تأحذها إلى مزيج من الخسران والبهتان، فعليها أن تتعلم كيف تمارس نشاطات البحث العلمي، فكل حالة وموقف يجب أن يكون تحت أضواء البحث والدراسة العلمية المعاصرة.

فالمجتمعات تتقدم بالبحوث العلمية، وتتأخر بإهمالها، وإن لم تتنبه إلى هذا القصور الحضاري الفتاك فأنها لن تتعافى، وستبقى تدور في دائرة مفرغة من الويلات الجسام.

فهل ستتمكن الدول المتأخرة من ترسيخ مفاهيم وسلوكيات البحث العلمي، وهل للجامعات والمؤسسات التعليمة دور رائد ومنور فيها؟!!

وهل سيتم تخصيص ما يكفي من الأموال للبحوث العلمية؟!!

تلك أهم الفوارق الحاسمة ما بين التقدم والتأخر!!

وفي الختام طلب العلم فريضة، وما أوتينا من العلم إلا قليلا، فلماذا لا نتفكر ونتعقل، ونبتهل بالجد والإجتهاد، أن نزداد علما، فالقوة علمية ، وأمتنا عندما كانت ترعى العلم والعلماء بلغت ذروة القوة والإقتدار.

و" العلم يرفع بيتا لا عماد له... والجهل يهدم بيت العز والشرف"!!

***

د. صادق السامرائي

انتشرت في الأوساط الثقافية العربية معلومة تفيد أن أكثر علماء الحضارة الإسلامية هم من العجم، وإن العلماء العرب منهم يشكلون القلة القليلة. وغدت هذه المقولة من المسَلّمات، واعتُبرت صحيحة لا تقبل الشك ولا النقاش. وحديثاً، اخذت القنوات الفضائية ومنصات التواصل الاجتماعي تروّج لهذه الفكرة عبر النقاش مع مثقفين يؤمنون بصحة المقولة، دون التأكد من صحتها. ومما ساعد على قبول صحة المعلومة أن العالم الفذ ابن خلدون هو الذي قالها في مقدمته المشهورة، حيث كتب فيها "من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم من العجم وليس في العرب حملة علم لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية إلّا في القليل النادر". ونقلها عنه كُتّاب كبار، مثل احمد امين وجرجي زيدان وفيليب حتّي، فترسخت في عقول الناس وثقافتهم.

اعترض كتّاب ومثقفين آخرين على توصيف ابن خلدون للعلماء العرب بالقليل النادر، وعملوا جاهدين على إثبات خطأها، أذكر منهم على سبيل المثال، الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري، الذي فنّد فكرة ابن خلدون التي تقول "أن جُلّ العلماء المسلمين من العجم" حيث أفرد فصلاّ كاملاّ في كتابه "أوراق في التاريخ والحضارة الجزء الأول" أوضح فيه الملابسات والتناقضات الفكرية التي كتبها ابن خلدون في مقدمته المشهورة وما يقصده بالعرب والتعريب، وأشار إلى قول ابن خلدون " وإن كان منهم العربي في نسبه فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع إن الملة عربية وصاحبها عربي" وأوضح ما فيها من تناقض والتباس في المعنى، ولا مجال هنا للتفصيل ويمكن مراجعة الكتاب لمن يرغب بالتوسع.

والمرجع الثاني المعتمد، هو كتاب "عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجمية في المشرق الإسلامي" لمؤلفه الدكتور ناجي معروف، أستاذ التاريخ بجامعة بغداد، نشر عام 1974، وهو كتاب ضخم في ثلاث مجلدات، بذل فيه المؤلف جهداّ جباراّ لإثبات خطأ مقولة ابن خلدون قيد البحث، وصحح الدكتور معروف نسبة العلماء العرب في الملة الإسلامية بأنهم الأكثرية وأن الأعاجم هم القليل النادر. والكتاب يبدأ بجدول يحوي أسماء العلماء العرب ونَسَبهم العربي والجغرافي وتخصصهم. وقد جَمع أسماء 300 عالم عربي في هذا الجدول. كما ناقش بإسهاب شديد كيف يُنسَب العلماء إلى وطنهم أو دمائهم أو لغتهم. ولِسِعة الموضوع يمكن قراءة الكتاب لمن يرغب.

من المعلوم أن البصرة والكوفة وبغداد والقيروان وقرطبة كانت منارة العلم وإشعاعه، ليس في العالم الإسلامي فحسب بل لكل مدن وشعوب العالم. ومن المعلوم أيضاً أن هذا الصرح العلمي العظيم بُني بجهود أبنائه. ونتساءل، هل من المنطق أن يُبنى هذا الصرح الكبير بسواعد غير أبنائه؟ فالتاريخ يخبرنا كيف أصبحت بغداد قِبلة العالم العلمية بجهود ابو جعفر المنصور وهارون الرشيد والمأمون، في الفترة الزمنية 755م إلى 833م، فقد بَذلوا المال الكثير والجهد الكبير لشراء الكتب وبناء المكتبات وعملوا على تشجيع ودعم العلماء في إسهامهم للعلوم والمعرفة، ووصلت بغداد إلى ما وصلت إليه. ونتساءل أيضاً، لماذا يَترك العلماء غير العرب أوطانهم إلى مدن عربية بدل أن يبرزوا في أوطانهم ليكونوا فخراً لها؟ وإذا سكنوا في بلاد العرب، ونشأوا وترعرعوا فيها، وصار لسانهم عربياً، أفلا يستعربون ويصبحون عرباً؟

أوضح الدكتور ناجي معروف، في مؤلفه الكبير (المذكور أعلاه)، الالتباس في نسب الأشخاص، هل هو إلى الوطن، أم إلى القبيلة أو اللغة؟ ويسرد مثالاً على ذلك، المتصوف الفقيه المشهور، جلال الدين الرومي، ولد في خراسان (حالياً أفغانستان)، ثم درس في بغداد، وانتقل إلى دمشق واستقر وتوفي في تركيا، ويفخر به الاتراك ويعتبرونه منهم. معظم مؤلفاته بالفارسية وبعضها بالتركية والعربية، وأصله عربي من قريش

ينتهي إلى محمد ابن أبي بكر الصديق! فما هو نسبه؟ عربي (الأصل) أم خراساني (المولد) أم تركي (اللغة)؟ يحسبه المؤيدون لمقولة ابن خلدون غير عربي، ويحسبه العرب عربي! فأين الحقيقة؟ وهنالك أمثلة أخرى مشابهة لمن يريد التأكد.

يُعتبر النبي الكريم (ص) عربي الأصل، يعود نسبه إلى قصي ابن نزار ابن عدنان ابن إسماعيل (ع)، ابن خليل الله إبراهيم (ع)، وإليهم ينتسب العرب، علماً أن إبراهيم وإسماعيل (ع) لم يكونا عرباً بل كان لسانهم آرامياً، وتعرّبوا بمخالطتهم قبيلة جُرهم العربية وأصبح لسانهم عربياً. وإذا كان هذا مسّلَماً به، فلماذا لا يعتبر غير العربي مُستعرباً إذا ما سكن في بلاد العرب وخالطهم ونطق بلسانهم؟ ونفس المنطق يصُحُ على المصريين، فهم عرب لا ريب في ذلك، لكن أصولهم لم تكن عربية بل فرعونية، ثم أصبحوا أقباطاً بعد أن احتلهم اليونانيون والرومان، ثم تعربوا بعد الفتح الإسلامي بعد أن اتخذوا العربية لغةً لهم، كونها لغة القرآن ولغة التعامل الإداري للدولة، فكيف يقاس النسب إذاً؟

عندما يروّج المؤيدون لفكرة، أن أكثر العلماء المسلمين هُم من العجم، فإنهم يعددون العلماء الاعاجم، وأشير إلى ما قاله مقدم برنامج في إحدى القنوات الفضائية،  بقوله "أن معظم العلماء المسلمين هم من العجم، فابن سينا فارسيا من أوزبكستان، وعباس بن فرناس امازيغي، وابن بطوطة امازيغي والفارابي من فاراب بتركستان، والبخاري من بخارى ومسلم من نيسابور وأبو داوود من أفغانستان والنسائي من تركمانستان والترمذي من فارسي من أوزبكستان، وابن ماجة فارسي من قزوين وسيبويه فارسي والرازي فارسي وصلاح الدين كرديا، محمد الفاتح تركيا، الخوارزمي من خوارزم، طارق ابن زياد امازيغي". وأقول، إن هؤلاء 16 عالماً أعجمياً حسب ما ذكرهم مقدم البرنامج، وهي معلومة صادقة وصحيحة، لا شك فيها ولا نقلل من شأنهم ولا نحط من قدرهم، بل على العكس نُعلي شأنهم. لكنها تطرح وجهة نظر واحدة من الحقيقة، ذلك أنه ذكر أسماء العلماء غير العرب، ونسي أو تناسى أن يذكر الطرف الثاني من المعادلة، بمعنى هل يوجد عدد من العلماء العرب يساوي العدد المذكور من غير العرب لتتساوى المجموعتان؟ الجواب نعم. وسأذكر لكم أسماء 16 عالماً عربيا من نفس الاختصاصات المذكورة لتتساوى الكفتان "الكندي، ابن الهيثم، ابن طفيل، جابر أبن حيان، ابن سبعين، خالد ابن الوليد، عمرو ابن العاص، مالك ابن أنس، الشافعي، أحمد ابن حنبل، المسعودي، ابن الاثير، ابن كثير، الخليل ابن أحمد الفراهيدي، الجاحظ" مع العلم أن هؤلاء العلماء العرب ينتمون إلى مِلة واحدة (العرب) بينما ينتمي العلماء غير العرب إلى عدة ملل (فارسية، تركية، كردية، امازيغية) وهذا يكفي لترجيح ملة العرب. وأُذكّر بأن الدكتور ناجي معروف جمع في كتابه أسماء 300 عالم عربي (من ملة العرب)، فهل يستطيع دعاة العلماء المسلمين العجم أن يجمعوا أسماء 300 عالم غير عربي من ملة واحدة؟

وختاماً فإن الغرض من هذا البحث، ليس رفع شأن قوم أو الانتقاص من قوم آخر، فكل الاقوام لها عزتها ورفعة شأنها بما لا يمكن التشكيك فيه، وإنما الغرض أساساً هو إظهار الحقيقة وتصحيح فكرة غير صحيحة من باب إعادة قراءة التاريخ، أو إعادة كتابة التاريخ. والله الموفق

***

د. صائب المختار

 

في دراسة للباحثين: عثمان سعدي وقادة جليد

هل كانت بلاد البربر كلها دوناتية؟

الحديث عن الدوناتية يعود نسبة إلى الأب دونا النقريني الذي يعد أهم شخصية دينية مسيحية أمازيغية جزائرية، فالأب دونا مات شهيدا دفاعا عن الشعب الأمازيغي في مواجهة الإستعمار الروماني، حيث مات في سجون روما باسبانيا سنة 355م،  قبل ميلاد خصمه القديس أوغسطين الروماني واليد اليمنى للاستعمار الروماني بنوميديا وموريتانيا أي بالمغرب الكبير، والأب دونا من مواليد مدينة نقرين جنوب تبسة، في هذه الفترة كان صراع بين الرومان والمسيحيين منذ دخولهم المغرب عن طريق مصر والمشرق، عندما  مات الإمبراطور الروماني خلفه الإمبراطور قسطنطين الذي رفع شعار التسامح سنة 307م، وقام الإمبراطور بتعيين الأسقف كوسيليوس الذي تعاون مع محاكم التفتيش، رفض المسيحيون تواجده وأن يتولى قيادة المسيحية، حيث جمع الأب دونا سبعين أسقفا نوميديا قدموا وثيقة رفضهم لهذا الأسقف.

من هذه الحادثة نشأ المذهب الدوناتي، إلا أن الأسقف الذي كانوا يصفونه بالخائن تم تثبيته بقرطاج ووقعت حرب دموية سقط فيها العديد من المسيحيين النوميديين، في الجانب الثقافي كانت لغة الدوناتيين هي الفينيقية أي الكنعانية العربية، والفينيقية حسبما أفاد به الدكتور عثمان سعدي في إحدى دراساته هي لغة الحضر والدواوين  والعبادات، لكنها كانت محاطة بلهجات أمازيغية شفوية وكلاهما ينتميان إلى أرومة واحدة هي العروبية وظلت قائمة 17 عشر قرنا كلغة فصحى بالمغرب، وهذا يعني أن الرومان الذين سيطروا على المغرب (المغرب الكبير) منذ  146 سنة ق.م فشلوا في فرض لغتهم وثقافتهم الرومانية على سكان المغرب الأمازيغ، وأمام إصرار الدوناتيين على الدفاع عن هويتهم اضطر قسطنطين سنة 321م  إلى إصدار تعليمات بوقف عمليات القمع  ضد الدوناتيين، وأطلق الأب دونا صرخته : " الله أرسل المسيح لإنصاف المستضعفين".

ازدادت شعبية الأب دونا فكان ملاحقا أمرت الإمبراطورية الرومانية باعتقاله ونقله إلى اسبانيا حيث سجن في سجون الرومان ومات هناك في السجن سنة 355م، وفي هذا قامت الإمبراطورية الرومانية بنهب ممتلكات الفلاحين الأمازيغ حيث قامت ما أطلق عليها بثورة الدائرين ضد الإقطاع من أجل استعادة أراضهم وتوحد الفلاحون الأمازيغ مع الدوناتيين، استعان الدكتور عثمان سعدي دراسته ببعض ما جاء به المؤرخون ومنهم المؤرخة الفرنسية أوديت فانييه في دراسة نشرتها سنة 1926 عن الدوناتية وكيف كان الكولون الرومان يحولون السادة إلى عبيد ويستولون على مخازن حبوب الفلاحين الأمازيغ، استمرت الدوناتية إلى  أن تحولت إلى مذهب شعبي جماهيري،  أعيد له الإعتبار بعد مجيئ  الإمبراطور يوليان ابن أخت الإمبراطور قسطنطين، لكن الدوناتيين المخلصين استمروا في نضالهم وكفاحهم ضد الإمبراطورية الرومانية فقاموا بثورات ودعموا ورات عديدة منها  ثورة فيرموس البربري، ولما جاء القديس أوغسطين وجد بلاد البربر كلها دوناتية، فوقف ضد الدوناتيين بعد أن وصفهم بالهراطقة، واعتبر الدوناتية هرطقة وأهلها خارجون عن القانون، ودار جدال بين المذهبين حين أمر بعقد مناظرة جمع فيها 565 أسقفا، منهم 279 أسقف دوناتي و286 أسقف كاثوليكي، واشترط في المناظرة أن الطرف الذي ينتصر في الجدال بين المذهبين  سيعمم مذهبه في أفريقيا.

كانت الكفة في صالح الدوناتيين، لكن  امبراطور قرطاج بالتواطؤ مع أوغسطين اعتقل الأساقفة الدوناتيين في 26 جوان 411م، وبقرار امبراطوري حُلَّ المذهب الدوناتي وصودرت كنائسه وممتلكاته لصالح الكاثوليك، حيث أصبح الدوناتيون في  تيمقاد وشرشال يمارسون طقوسهم في سرية تامة إلى أن مات أوغسطين في عنابة مدافعا عن الإستعمار الروماني، في حين انضم الدوناتيون إلى الوندال، أما عن البحوث والدراسات التي تركها الأب دونا يذكر الدكتور عثمان سعدي  كتاب بعنوان: " الروح القدسية" تحدث عنه بعض رجال الكاثوليك، الذين كشفوا أن أوغسطين قام بحرق سائر الكتب الدوناتية، رغم محاولات كل من غودانتيوس أسقف تيمقاد وبيتليانس أسقف مدينة سيرتا (عاصمة النوميديين)، لكنها باءت بالفشل، يشار أن كل مؤلفات الدوناتية كتبت بالفينيقية واللاتينية.

نأتي الآن إلى ما قاله الدكتور قادة جليد أستاذ الفلسفة بجامعة وهران متقاعد في محاضراته التي ارتكزت على دور الشخصيات الأمازيغية والثورات في بلاد المغرب الكبير (المغرب العربي) انطلاقا من مملكة أوراس النمامشة، يقول الدكتور قادة جليد أن ثورة الدوارين  لم يكتب عنها الجزائريون وظل تاريخها مطمورا، ومن الشخصيات التي تحدث عنها الدكتور قادة جليد الملكة رويا وهي أمازيغية دوناتية حاربت الإستعمار، كذلك الملكة داهيا وهي ملكة أوراس النمامشة التي لقبها العرب بالكاهنة، لأنها كانت تقوم بطقوس قبل خوض أي معركة، وكانت ترابط في مكان محدد هو هضبة ثازينت جنوب مدينة تبسة، وكان جميع البربر لها مطيعون، قامت معركة بينها وبين جيش المسلمين وانتصرت عليه بعد أن جمعت ثمانين من الأسرى العرب لكنها لم تلحق بهم أذى بل حاورتهم واكتشفت تطابقا بين عادات العرب وعادات البربر، ويقال أن من بين الأسرى يمنيين، ولغياب ترجمان يترجم اللغة البربرية إلى العربية أطلقت سراح جميع الأسرى وأرسلتهم إلى الجيش الإسلامي بلا فدية، ماعدا أسير واحد هو خالد بن يزيد العبسي الذي طلبت منه أن يعلم ابنيها اللغة العربية وتعاليم الإسلام وأمرت ولديها أن يعتنقا الإسلام، حسب الدكتور قادة جليد ظلت الدوناتية حركة وطنية أمازيغية قاومت الإستعمار الروماني ثم الفرنسي وهي تحتاج إلى فتح نقاش حولها بين المفكرين والأكاديميين، خاصة وأنه في كل تحوّل تاريخي كل شيء يتغير إلا الشكل الثقافي الذي يمارس نوعا من المقاومة وهذا يحتاج إلى وعي ثقافي والتسلح بمناهج جديدة، وقال أن طمس الحقائق التاريخية يعتبر  انغلاقا  دوغماتيا واقترح الخروج من الجدال السياسي والإيديولوجي والتفكير في الجانب المعرفي والتاريخي وغرسه في أذهان الأجيال.

***

ورقة علجية عيش

في ذكرى وفاة عميد المسرح وعرّاب الخشبة في الجزائر عبد الحميد حباطي

 تتعرض الثقافة إلى الانحراف إلى حد تجعلها تدخل غرفة الإنعاش، عندما توكل الأمور إلى غير المختصين، ما يجعلها بحاجة إلى عملية قيصرية، ففي الجزائر مثلا تتعرض الثقافة إلى التشويه ويصاب المثقفون بالإحباط، ما يدفعهم إلى العزوف الثقافي، فيغلقون على أنفسهم كل باب من شأنه أن يضيف شيئا للساحة الثقافية ويعمل على ترقية الفعل الثقافي.

 فتعيين مسؤولين على رأس قطاع ما لا تربطهم به علاقة لا من بعيد ولا من قريب، كما أنهم يفتقرون إلى الخبرة الميدانية التي تسهل عليهم إدارة وتسيير قطاع ما خاصة إذا تعلق الأمر بالفكر والثقافة، وهي واحد من المجالات التي أسالت كثير من الحبر بين مفكرين ومثقفين والفلاسفة، أمام تعدد الثقافات وتخصصاتها في الأدب والمسرح والسينما، والفن (الموسيقى) وما شاكلها من المنتوجات الإبداعية، التي ترسم نمطا كليا لحياة شعب ما مع احترام ذوق الجمهور وتقديم له معارف جديدة، فأن توكل المسؤولية لغير أهلها يحدث الشرخ والانفصال بين النخبة والجمهور، هذا الجمهور الذي أصبح يتابع أشياء لا تلبي ذوقه الرفيع وما يغذي عقله ويكتسب منه تجربة، ولذا لم تعد للمثقفين القابلية الثقافية للإنماء وأصبحت الفضاءات الثقافية تنظم في غالب الأحيان معارض للحلويات والألبسة التقليدية وحرم الجمهور المثقف من الوقوف على تظاهرات فكرية ثقافية كتنظيم ملتقيات لمناقشة قضايا فكرية تعبر عن مشكلات المجتمع يحضرها باحثون وأكاديميون وكل المهتمين بالجانب الثقافي فكل منهما لا غنى عنها للأخرى طالما النشاطات الثقافية تولد طريقة متميزة في النظر إلى من يحيطون بنا بل إلى العالم كله.

وكعينة نقدم قطاع المسرح في الجزائر كنموذج وهذا من خلال زيارتي إلى المدرسة la medersa الواقعة بشارع العربي بن مهيدي التي تحولت إلى دار "إبداع" السنة الماضية، تنظم فيها تظاهرات تتعلق بالألبسة والحلويات التقليدية بعد أن كانت مُلْحَقَة تابعة لجامعة قسنطينة تنظم فيها المحاضرات واللقاءات الفكرية، وكانت تحظى باستقبال مثقفين ومفكرين أي النخبة من داخل وخارج الولاية وحتى من خارج الوطن، وأثناء زيارتي لها منذ يومين، وقفت على لوحة معلقة بالطابق السفلي للدار تعود لفنان مسرحي، لكنه غير معروف لدى الجمهور من عشاق المسرح وربما هو مجهول حتى عند المسرحيين أو كما يقال عند أصحاب" الكار"، وكأن اللوحة تم إخفاؤها كي لا يراها الجمهور، رغم أنه خصصت له في السفل قاعة أطلق عليها اسم " مدرسة الفنان عبد الحميد حباطي " وهي قاعة فارغة لا توجد سوى صورته معلقة في إحدى الجدران، وإذا بي أتساءل مع نفسي اين كان هذا الوجه المسرحي المبدع يوم تقرر إطلاق اسم فنان على مسرح قسنطينة الجهوي؟، حيث تم اختيار فنان لا علاقة له بالمسرح، وهو الفنان محمد الطاهر فرقاني مغني المالوف ولم يطلق على أحد المسرحيين من أبناء المدينة، وقد وقعت ضجة كبيرة احتجاجا و اعتراضا على هذا القرار التي صدر عن وزير الثقافة عز الدين ميهوبي.

 وقد كشف الوزير السابق يومها أن القرار كان قرار رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة قبل خلعه، كانت النتيجة إبعاد الأديب محمد زتيلي مدير المسرح الذي كان من بين الرافضين للقرار والذين وقفوا في حركة احتجاجية أمام مدخل المسرح رافعين شعار: "المسرح للمسرحيين"، فسوء الاستخدام في عملية التوظيف أو التعيين أو توزيع الأدوار، قد يقود إلى فشل قطاع من القطاعات سواء في الثقافة أو في المجالات الأخرى، في هذه الورقة نقف مع عميد المسرح وعرّاب الخشبة كما سمّوه، إنه الفنان المسرحي ابن قسنطينة عبد الحميد حباطي وهو من مواليد 05 جوان 1945 بقسنطينة، وكما هو موثق في لوحة جدارية كبيرة، وضع هذا الفنان أو خطواته على ركح الخشبة مع جمعية الهلال التمثيلي ، وغداة الإستقلال أنشأ فرقة "البهاليل" مع ممثلين من أمثال بشير بن محمد، ورشيد زغيمي قبل أن يتابع تكوينه بمعهد الفنون الدرامية، كما تابع عبد الحميد حباطي دورات تكوينية بالخارج قبل ان يلتحق بالمسرح الوطني الجزائري كممثل محترف في سنة 1965، وخلال تلك الفترة قرر مصطفى كاتب حين كان مديرا للمسرح الوطني الجزائري تعيينه للإشراف على التكوين والتنشيط بالمسرح الجهوي قسنطينة، قدم عبد الحميد حباطي أعمالا مسرحية وقام بأدوار أضاءت سقف المسرح بإبداعاته، منها على الخصوص : مسرحية القانون والناس، ناس الحومة، لا حال يدوم، ديوان العجب، ومسرحية البوغي) كان ذلك في الفترة بين 1978 إلى غاية 2003، بالإضافة إلى ذلك قدم هذا الممثل والمخرج المسرحي أعمالا في السينما والتلفزيون.

 من الأفلام التي شارك فيها نذكر منها: "دورية نحو الشرق" للمخرج عمار العسكري وطاحونة السيد هابر لأحمد راشدي وأعمال أخرى للشاشة الصغيرة، هي أعمال لا يزال الجمهور يتذكرها خاصة دورية نحو الشرق التي كان لها صدى كبير جدا لدى الجمهور، حتى عند الأطفال، وقد ظل عبد الحميد حباطي محافظا على هذا الفن إلى أن وافته المنية يوم 06 ماي 2020، عن عمر ناهز 75 سنة بعد مرض عضال، وها هي ذكرى وفاته الرابعة تمر، لكن للأسف لا أحد تذكره من رفاق الدرب ولو بيوم دراسي يجتمع فيه المسرحيون ويناقشون مسائل تتعلق بمستقبل المسرح في الجزائر وكيف النهوض به، كان على السلطات المحلية أن تطلق على دور الثقافة التي ما تزال مغلقة إلى اليوم منذ إنشائها في تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة 2015 على اسم هذا الفنان تكريم عائلته بعد وفاته، أو أسماء أخرى نشطت الساحة الثقافية سواء في المسرح أو دور السينما التي لا تزال مغلقة أيضا إلى اليوم.، تبقى مسالة التنوع الثقافي ومن يضعه في إطاره الصحيح، أي الاعتماد على متخصصين كل والمجال الذي يعمل فيه للنهوض بقطاع الثقافة وارتقائها إلى العالمية، لا سيما والجزائر تملك من المؤهلات ما يجعلها في مقدمة الصفوف.

***

علجية عيش

كان بودي أن أصوغ عنوان المقال بالشكل التالي: (حين يستحيل المثقف إلى تاجر!)، ولكني آثرت، في اللحظة الأخيرة، العدول عن فعل ذلك، حيث ارتأيت ان الإبقاء على العنوان بصيغته الحالية هو الأكثر تعبيرا"عن مقاصد هذه المقالة. على اعتبار إن ضمّ الثقافة إلى التجارة، وبالتالي اجتماع شخصية المثقف مع شخصية التاجر، يعد من قبيل إضافة النقيض إلى نقيضه، ومشابهة المختلف مع ما يخالفه.

فإذا ما سلمنا بأن من حق (كل إنسان) أن يمارس الأعمال والأنشطة التجارية المشروعة، وفقا" لقدراته الذاتية ومهاراته الشخصية وإمكاناته الاقتصادية واجتهاداته التسويقية، فهل يا ترى – بالمقابل –  يحق (للمثقف) كإنسان أن يزاول هذا الفعاليات الاجتما - اقتصادية، حاله في ذلك كحال أي إنسان آخر دون ممانعات ذاتية أو احراجات اجتماعية، أم إن هناك (اعتبارات) أدبية و(روادع) قيمية ينبغي عليه مراعاتها والتقيد بها، حين تضطره الظروف للانخراط في مثل هذه الأنشطة والممارسات ذات الطبيعة الاقتصادية والإنسانية؟!.

فمن البديهي القول أن كل إنسان بحاجة إلى تأمين قوت حياته الشخصية والعائلية كما فعل أسلافه منذ آلاف السنين ؛ ليس فقط على صعيد الضروريات المادية والمعيشية والغريزية فحسب، وإنما على مستوى الضروريات الفكرية والنفسية والرمزية كذلك. وبما أن المثقف هو إنسان أولا"وقبل كل شيء كما أشرنا، فانه لا تثريب عليه حين يزاول عملا"- مهنة ما سواء في مجال التوظيف الرسمي (الحكومي) كأستاذ جامعي على سبيل المثال، أو في مجال العمل التجاري (الأهلي) كصاحب مشروع خاص أو كمساهم في شركة. دون الأخذ بنظر الاعتبار الخصائص الإضافية التي من مثل ؛ وزنه الاجتماعي، ودوره الاقتصادي، ومستواه الثقافي، وتحصيله العلمي، طالما كان محافظا"على ثوابت الثقافة في بنية وعيه، ومراعيا"معايير الأخلاق في أنماط سلوكه.

وبضوء التغييرات الجذرية الحاصلة في بنى المجتمعات العربية عامة والمجتمع العراقي خاصة، على مدى العقود القليلة الماضية، فضلا"عن التحولات الحادة والتداعيات العاصفة في مدماك منظوماتها القيمية والرمزية والحضارية، فان دفاعات وممانعات البعض من (المثقفين) الطارئين سرعان ما تخضع لعوامل التآكل في أساساتها، والتصدع في معمارها، والتفكك في روابطها كما المومياء وهي تواجه عوامل الطبيعة. بحيث تهاوت الحواجز القائمة في وعيهم، واندرست الحدود المنقوشة في ضمائرهم، واضمحلت الفواصل المرسّمة في سيكولوجاتهم. وهكذا، فقد تخالطت في تفكيرهم وتداخلت في تصوراتهم العديد من التناقضات والتقاطعات؛ ما بين قيم (الثقافة) ورميم (الخرافة) من ناحية، ودماثة (الأخلاق) وخباثة (النفاق) من ناحية ثانية، وفضيلة (القناعة) ورذيلة (الرقاعة) من ناحية ثالثة.  

والحال، فقد ثبت لي - واقعيا"وشخصيا"- من خلال تعاملي المباشر مع بعض أصحاب دور النشر الخاصة من ذوي الخلفيات الأكاديمية (أساتذة جامعيين) أو الفكرية (كتاب وباحثين)، ممن استحبوا الانخراط في مجال طباعة الكتب ونشرها وتوزيعها، أنهم تحولوا – بوازع من مآرب ومكاسب مالية - الى (تجار) أقحاح لا يختلفون بشيء عن أقرانهم، سوى كونهم باتوا بارعين في ارتداء الأقنعة المزينة بعناوين ثقافية مغرية ويافطات ترويجية جذابة. لا بل أن نظرتهم الى المنتوج الثقافي والفكري باتت لا تقل – من حيث اعتصارهم فائض القيمة - عن نظرة نظرائهم تجار السوق ان لم تكن أشد إمعانا"في مجالات الكسب المادي. ولعل حجتهم الجاهزة على ذلك ما طرأ على سوق (الكتاب) من غلاء في مواد الطباعة، فضلا"عما أصاب القراء من عزوف عن الكتب (الورقية) المكلفة والتحول عنها الى الكتب (الالكترونية) المجانية، الأمر أفضى الى ركود السلعة الثقافية (الكتاب) وتراجع زخم الطلب عليها كما كان الحال في السابق !.

ولكن، برغم قوة الحجة التي يسوقونها ووجاهة الأسباب والدوافع التي يقدمونها هؤلاء الذين يحرصون على الجمع بين فضائل (الثقافة) ورذائل (التجارة)، لتبرير مثل هذا السلوك (التجاري) الشائن في التعامل مع الكاتب والكتاب، فان هناك (حدود) معيارية – أدبية وأخلاقية وإنسانية - لا ينبغي ولا يجوز على من يحسب نفسه من أرباب (الثقافة) تجاهلها أو تجاوزها مهما كانت الأسباب والدوافع، وإلاّ فانه يفقد صفته ك(مثقف) ويستحيل الى (تاجر) سوق تحركه بواعث الربح والخسارة ليس إلاّ، وإذاك تسقط دعاوى الثقافة عن شخصيته وتزاح هالة الاعتبار التي تجلل كيانه !. 

***

ثامر عباس – كاتب وباحث عراقي

رينيه ديكارت هو أحد أكثر الفلاسفة تأثيرًا في التاريخ، وهو معروف بمساهماته في الثنائية الديكارتية، ومنهج الشك، ومفهوم الكوجيتو. ومع ذلك، وعلى الرغم من أفكاره الثورية العديدة، فإن فلسفة ديكارت ليست خالية من العيوب. في هذا المقال، سأناقش بعض نقاط الضعف الرئيسية في فلسفة ديكارت.

أحد العيوب الرئيسية في فلسفة ديكارت هو اعتماده على منهج الشك. في حين اعتقد ديكارت أن الشك أداة ضرورية للوصول إلى الحقيقة، يزعم المنتقدون أن هذه الطريقة معيبة لأنها يمكن أن تؤدي إلى الشك وإنكار وجود المعرفة تمامًا. من خلال الشك في كل شيء، لم يتمكن ديكارت في النهاية من توفير أساس متين لمعتقداته.

عيب آخر في فلسفة ديكارت هو مفهومه لثنائية العقل والجسد. اقترح ديكارت أن العقل والجسد مادتين منفصلتين لهما طبيعة مميزة، لكن هذه الفكرة تعرضت لانتقادات لافتقارها إلى الأدلة التجريبية ولكونها يصعب التوفيق بينها وبين علم الأعصاب الحديث. يزعم المنتقدون أن ثنائية ديكارت تؤدي إلى نوع من مشكلة العقل والجسد التي لم يتم حلها بشكل مرضٍ حتى الآن.

كما تعرضت فكرة ديكارت عن الكوجيتو، أو "أنا أفكر إذن أنا موجود"، لانتقادات لكونها دائرية وتكرارية. تعتمد حجة ديكارت لوجود الذات على فعل التفكير ذاته، مما يثير السؤال حول كيف يمكن للمرء أن يعرف أن الذات موجودة دون افتراض وجودها في المقام الأول. هذا التفكير الدائري يقوض الكوجيتو كدليل صالح على الوجود.

وعلاوة على ذلك، تم انتقاد عقلانية ديكارت بسبب التركيز المفرط على العقل وإهمالها لأهمية الأدلة التجريبية. كان ديكارت يعتقد أن العقل وحده يمكن أن يؤدي إلى معرفة معينة، لكن المنتقدين يزعمون أن هذا يؤدي إلى رؤية ضيقة ومحدودة للفهم البشري. من خلال تجاهل دور الخبرة والملاحظة، قد تتجاهل فلسفة ديكارت مصادر مهمة للمعرفة.

مشكلة أخرى في فلسفة ديكارت هي محاولته إثبات وجود الله من خلال حجته الوجودية. زعم ديكارت أن فكرة الكائن المثالي لابد وأن نشأت من كائن مثالي، ألا وهو الله. ومع ذلك، أشار المنتقدون إلى أن هذه الحجة تعتمد على افتراض خاطئ - أن الوجود هو الكمال. وقد تعرضت هذه الحجة لانتقادات واسعة النطاق ولا تعتبر دليلاً قاطعًا على وجود الله.

كما تعرضت نظرية ديكارت للأفكار الفطرية للنقد. كان يعتقد ديكارت أن بعض الأفكار فطرية ومتأصلة في العقل البشري منذ الولادة، لكن المنتقدين يزعمون أن هذه الفكرة لا تدعمها الأدلة التجريبية. تفترض المدرسة الفكرية التجريبية، التي تؤكد على دور الخبرة في تشكيل المعرفة، أن جميع الأفكار يتم اكتسابها من خلال الإدراك الحسي وليست فطرية.

بالإضافة إلى ذلك، تم التشكيك في اعتماد ديكارت على الأفكار الواضحة والمتميزة كمعيار للحقيقة. زعم ديكارت أن الأفكار الواضحة والمتميزة فقط يمكن اعتبارها مؤكدة، لكن المنتقدين يشيرون إلى أن هذا المعيار غامض وذاتي. إن ما هو واضح ومميز لشخص ما قد لا يكون هو نفسه بالنسبة لشخص آخر، مما يؤدي إلى عدم وجود معايير موضوعية لتحديد الحقيقة.

كما تعرضت فلسفة ديكارت لانتقادات بسبب افتقارها إلى مراعاة القضايا الاجتماعية والسياسية. ركز ديكارت في المقام الأول على نظرية المعرفة والميتافيزيقيا، متجاهلاً الآثار الأوسع لفلسفته على المجتمع. يزعم النقاد أن نهج ديكارت الفردي والعقلاني يفشل في معالجة القضايا الأخلاقية والسياسية المهمة.

وأخيرًا، تعرض رفض ديكارت للوعي الحيواني لانتقادات بسبب مركزيته البشرية وتجاهله لمعاناة الكائنات غير البشرية. ادعى ديكارت الشهير أن الحيوانات مجرد آلات بدون وعي أو مشاعر، وهي وجهة نظر تعرضت لانتقادات واسعة النطاق بسبب قسوتها وافتقارها إلى الأدلة. أظهرت الأبحاث الحديثة في العلوم المعرفية أن الحيوانات قادرة على المشاعر والفكر المعقد، مما يتحدى وجهة نظر ديكارت الضيقة للإدراك الحيواني.

وفي الختام، في حين كان لفلسفة ديكارت تأثير عميق على الفكر الغربي، إلا أنها ليست خالية من العيوب. من أسلوبه في الشك إلى مفهومه للثنائية، فإن فلسفة ديكارت مليئة بالتناقضات والافتراضات المشكوك فيها. وقد أشار النقاد إلى نقاط ضعف مختلفة في حجج ديكارت، من اعتماده على العقل إلى إهماله للأدلة التجريبية. في نهاية المطاف، بينما لا تزال أفكار ديكارت قيد الدراسة والمناقشة، فمن المهم الاعتراف بالعيوب في فلسفته ومعالجتها في هذا السياق.

***

محمد عبد الكريم يوسف

ما نسميه الذات يتكون من ثلاث وجهات نظر على الأقل

بقلم: بيتر جاردينفورس

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

النقاط الرئيسية

- نحن لا نكتفي بالمرايا لأنها لا تظهر ذواتنا "الحقيقية".

- لا توجد ذات حقيقية، بل هي نتيجة مفاوضات مستمرة مع أنفسنا.

- تؤثر التقنيات الجديدة بشكل متزايد على تصورنا لأنفسنا.

كانت المرايا أفضل في الماضي. هكذا قال والد زوجتي، الذي عاش 93 عامًا. في سنواته الأخيرة، أصبح محبطًا من صورته المنعكسة  التي يحدق به كل صباح.

يعتقد الكثير من الناس أن الصورة التي يرونها لأنفسهم في المرآة ليست دقيقة؛ تبدو قديمة جدًا وقبيحة. وينطبق الشيء نفسه على الصور الفوتوغرافية أيضا. قالت سوزان سونتاج:

" يشعر كثير من الناس بالقلق عندما يوشكون على التقاط صورة لهم: ليس خوفاً من انتهاك خصوصيتهم، بل خوفاً من أن تخذلهم الكاميرا. يرغب الناس في صورة مثالية تعكس أفضل مظهر لهم. يشعرون بالخيبة عندما لا تعكس الكاميرا صورة تجعلهم أكثر جاذبية مما هم عليه في الواقع."

وهكذا، هناك تعارض بين ما تظهره المرآة أو الصورة وإدراكنا لأنفسنا. نحن غالبًا ما نعتز بصورنا عندما كنا أصغر سنًالتشجيع خداع الذات عندما لا يتطابق انعكاسنا الحالي مع خيالنا الوهمي. أو نتلاعب بصورة التقطناها بهواتفنا قبل نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي.

في الواقع، لم تكن المرايا أفضل على الإطلاق في الماضي. تعتبر المرايا، كما اعتدنا عليها، ظاهرة جديدة تاريخيًا وأصبحت شائعة في المنازل منذ ما يزيد قليلاً عن قرن من الزمان.

إذًا كيف كان الناس يشكلون صورتهم الذاتية قبل وجود المرايا؟ هناك طريقتان أخريان لاكتساب المعرفة عن أنفسنا.

إحداهما من خلال الإدراكات التي يحملها الآخرون عنا. التحدث إلى الأشخاص القريبين منا يتيح لنا رؤية أنفسنا من الخارج: فالصديق هو مرآة لذاتنا الداخلية. نحن نرى أنفسنا من خلال إدراكات الآخرين لنا ومن خلال الصفات الداخلية (والخارجية) التي ينسبها الآخرون إلينا. أحيانًا يكون الأشخاص الذين لا نعرفهم مصدرًا أفضل لأنهم يستطيعون رؤيتنا من منظور غير متوقع. (قد نكون قد خدعنا المقربين منا بصورتنا الذاتية).

والطريقة الأخرى لاكتساب المعرفة عن أنفسنا هي التأمل في كيفية تجربتنا لأجسادنا وعالمنا الداخلي. نحاول فهم أفكارنا وذكرياتنا ومشاعرنا وأفعالنا ونقارنها بما نختبره من الآخرين ومع كيف نتذكر أنفسنا عندما كنا أصغر سنًا.

من المعتقد الشائع أن بداخلنا عميقًا يكمن "الذات الحقيقية" لنا. نسعى لأن نكون "صادقين مع أنفسنا"، لكن ما نسميه الذات هو مزيج من ثلاث وجهات نظر على الأقل: المظهر كما نراه في المرآة، وكيف نعكس أنفسنا من خلال الآخرين، والعالم الداخلي المدرك. هذه الطرق الثلاث للنظر إلى الذات تتعارض أحيانًا مع بعضها البعض. السؤال هو كيف يمكننا دمجها في "أنا" موحدة—أو ما إذا كان من الممكن حتى دمجها في كيان واحد.

كانت حكمة أوراكل دلفي هي "اعرف نفسك." قد لا يكون هذا ممكنًا لأنه لا يوجد جوهر ثابت يشكل ذاتك الحقيقية. كما يكتب الشاعر الدنماركي هنريك نوربراندت: "أياً كانت الأنهار التي ننعكس فيها، فإننا نرى أنفسنا فقط عندما ندير ظهورنا."

إن الصورة أكثر دقة هي أن الذات هي نتيجة لمفاوضات مستمرة مع أنفسنا، نزن فيها الرغبات المختلفة ضد بعضها البعض، حيث تساهم توقعات الأشخاص من حولنا والثقافة السائدة أيضًا. فنحن نقوم ببناء ذواتنا باستمرار.على أننا بارعون في خداع أنفسنا في هذا النوع من المفاوضات.

(تمت)

***

...................

الكاتب: بيتر جاردينفورس/Peter Gärdenfors دكتوراه، هو أستاذ العلوم المعرفية في جامعة لوند، السويد. وهو عضو في الأكاديمية الملكية السويدية للآداب والتاريخ والآثار، وكذلك في أكاديمية العلوم. كان عضوًا في لجنة جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية من عام 2011 إلى عام 2017. وله العديد من الكتب، منها الفضاءات المفاهيمية: هندسة الفكر. حصل على جائزة إينار هانسن الفخرية في العلوم الإنسانية 2017 وجائزة سوينسون في العلوم الإنسانية والاجتماعية 2021.

 

يشهد العالم اليوم ثورة رقمية هائلة تغزو جميع جوانب الحياة، بما في ذلك التعليم. فالتحول الرقمي في التعليم والذكاء الاصطناعي أصبحا ضرورة حتمية لمواكبة التطورات المتسارعة وتحسين جودة التعليم وزيادة التفاعل والمشاركة وتعزيز مهارات القرن الحادي والعشرين وتوفير فرص تعليمية متساوية للجميع.

لكن، هل يتمكن نظام التعليم في العراق من الانضمام إلى هذا التحول الرقمي واستخدام الذكاء الاصطناعي بصورة مفيدة؟ وما هي العقبات التي تواجهه في تطبيق التكنولوجيا في المدارس والجامعات؟ وما هي الحلول الممكنة لتجاوز هذه العقبات والاستفادة من التحول الرقمي في التعليم؟ هذه هي الأسئلة التي سأحاول الإجابة عليها هنا.

العقبات

يواجه نظام التعليم في العراق عدة عقبات تحول دون تحقيق التحول الرقمي في التعليم والاستفادة من التطورات الهائلة في الذكاء الاصطناعي، ومن أهمها:

1. البنية التحتية الضعيفة:  يعاني العراق من نقص في البنية التحتية الرقمية، مثل الاتصال بالإنترنت والأجهزة اللوحية والبرامج التعليمية. وفقا لتقرير البنك الدولي، فإن نسبة الوصول إلى الإنترنت في العراق هي 75%، وهي أقل من المتوسط العالمي. كما أن جودة الاتصال بالإنترنت ضعيفة ومتقطعة ومكلفة، مما يؤثر على تجربة التعلم الإلكتروني. بالإضافة إلى ذلك، فأن المدارس والجامعات تفتقر إلى الأجهزة اللوحية والبرامج التعليمية اللازمة لتطبيق التكنولوجيا في العملية التعليمية. وتوجد فجوة رقمية كبيرة بين المناطق الحضرية والريفية، مما يؤدي إلى تفاوت في مستوى الوصول الى التكنولوجيا والتعليم. وفقا لتقرير البنك الدولي الذي اشرنا اليه اعلاه، فأن نسبة الوصول الى الانترنت في المناطق الريفية هي 58%، مقارنة بـ 84% في المناطق الحضرية. كما أن نسبة الوصول إلى الحواسيب في المناطق الريفية هي 6%، مقارنة بـ 14% في المناطق الحضرية.

2. التدخل السياسي:  يتعرض نظام التعليم في العراق للتدخل السياسي من قبل الأحزاب وبصور مختلفة، مما يؤثر على استقلالية ونزاهة المؤسسات التعليمية. وفقا لتقرير منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، فأن العراق يعاني من ضعف في الحوكمة والمساءلة والشفافية في قطاع التعليم، مما يعيق تطبيق السياسات والبرامج التكنولوجية بشكل فعّال. ومن المشاكل المرتبطة بنظام التعليم والتي تحول دون تحقيق التحول الرقمي بكفاءة وبسرعة والاستخدام الفعال للذكاء الاصطناعي هي الافتقار الى الموارد الكافية والسياسات التربوية والتعليمية الخاطئة ونظام الجودة الضعيف وسوء الادارة والاشراف ونقص البحث التربوي والاداري (الربيعي، 2021).

3. نقص التدريب والكفاءة:  المعلمون والمدرسين في العراق يحتاجون إلى تدريب شامل ومستمر على استخدام التكنولوجيا وتكاملها في العملية التعليمية. وبالرغم من عدم توفر إحصائيات وزارية دقيقة وشاملة تحدد معدلات التدريب للمدرسين والمعلمين الا انه وبشكل عام يعاني العراق من نقص في الكفاءات التكنولوجية لدى المعلمين والمدرسين، مما يؤثر على جودة التعليم والتعلم. كما أن المناهج التدريبية للمعلمين والمدرسين قد تكون غير محدثة أو غير متوافقة مع متطلبات التعليم الرقمي (للمزيد من المعلومات راجع تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية).

4. الفساد الإداري:  الفساد والبيروقراطية هما من أبرز المشاكل التي تعيق تطور التعليم في العراق. وفقا لمؤشر الفساد السنوي الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، فأن العراق احتل المرتبة 160 من بين 180 دولة في عام 2020، مما دل على انتشار واسع للفساد في جميع مستويات الحكومة والمجتمع، والشواهد كثيرة في هذا المجال. الفساد بالتأكيد يؤثر على توزيع الموارد والميزانيات والمشاريع في قطاع التعليم وبصورة فظيعة.

الحلول

لتجاوز العقبات التي تواجه التحول الرقمي وانتشار استخدامات الذكاء الاصطناعي في التعليم في العراق، اقترح اتخاذ بعض الخطوات والإجراءات من قبل جميع الجهات المعنية بالتعليم، ومنها:

1. توفير البنية التحتية الرقمية اللازمة لتطبيق التكنولوجيا في التعليم، مثل توسيع شبكة الإنترنت وتحسين جودتها وتخفيض تكاليفها، وتزويد المدارس والجامعات بالأجهزة اللوحية والبرامج التعليمية المناسبة، وتأمين البيانات والمعلومات الرقمية.

2. حماية المؤسسات التعليمية من التدخل السياسي وضمان استقلاليتها ونزاهتها. كما يجب أيضا تعزيز الحوكمة والمساءلة والشفافية في قطاع التعليم، ومراقبة وتقييم أداء السياسات والبرامج التكنولوجية بشكل دوري وموضوعي.

3. توفير التدريب الشامل والمستمر للمعلمين والمدرسين على استخدام التكنولوجيا وتكاملها في العملية التعليمية. يجب أيضا تحديث المناهج التدريبية للمعلمين والمدرسين لتتوافق مع متطلبات التعليم الرقمي وتنمية مهاراتهم التكنولوجية في الذكاء الاصطناعي. بالاضافة الى تشجيع التعلم المستمر والتطوير المهني للمعلمين والمدرسين من خلال الايفاد لخارج البلاد وتعليم اللغات والاستفادة من المصادر والمنصات الرقمية المتاحة.

4. العمل على تقليص الفجوة الرقمية بين المناطق الحضرية والريفية في العراق، وضمان توفير فرص تعليمية متساوية ومنصفة لجميع الطلاب. كما يجب توفير الدعم والمساعدة للطلاب الذين يواجهون صعوبات في الوصول إلى التعليم الرقمي أو الاستفادة منه، مثل توفير المساعدات المالية والتقنية والأكاديمية.

5. مكافحة الفساد والبيروقراطية في قطاع التعليم، وضمان توزيع الموارد والميزانيات والمشاريع بشكل عادل وشفاف. يجب أيضا تبني آليات ومعايير واضحة وموحدة للتعاقد والمناقصة والتوريد والتركيب والصيانة والتشغيل في المشاريع الرقمية في التعليم، وفرض عقوبات شديدة على الفاسدين والمفسدين ونشر اخبار العقوبات المفروضة في وسائل الاعلام لردع المخالفات ولزيادة الوعي العام.

6. تحديث المناهج الدراسية لتتوافق مع احتياجات العصر والتكنولوجيا، وتضمين محتوى ومهارات رقمية في جميع المراحل والمواد التعليمية، وتبني مناهج تعليمية مرنة ومتنوعة ومتكيفة مع احتياجات وميول وقدرات الطلاب، مثل التواصل الفعال عبر قنوات رقمية متنوعة واستخدام برامج الانتاجية الاساسية وحل المشكلات بطرق ابداعية باستخدام مهارات البرمجة وفهم اساسيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته والمشاركة في مجتمعات التعلم الرقمي. بالاضافة لذلك لابد ان تشجع المناهج الدراسية على الابتكار والابداع باستخدام التكنولوجيا، والريادة في مجال التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، وتعزيز التفكير النقدي والتحليلي، وغرس قيم المسؤولية والاخلاقيات في استخدام التكنولوجيا.

الخلاصة

التحول الرقمي واستخدام الذكاء الاصطناعي في التعليم هو ضرورة حتمية لمواكبة التطورات المتسارعة وتحسين جودة التعليم وزيادة التفاعل والمشاركة وتعزيز مهارات القرن الحادي والعشرين وتوفير فرص تعليمية متساوية للجميع. لكن، نظام التعليم في العراق يواجه عدة عقبات تحول دون تحقيق هذا التحول الرقمي، مثل البنية التحتية الضعيفة، والتدخل السياسي، ونقص التدريب والكفاءة، والفجوة الرقمية، والفساد الإداري، والمناهج القديمة. لتجاوز هذه العقبات، يجب اتخاذ الخطوات والإجراءات الضرورية من قبل جميع الجهات المعنية بالتعليم ، بضمنها على صعيد التدريب تنظيم دورات تدريبية منتظمة للمعلمين والمدرسين في مجال التعليم الإلكتروني والتكنولوجيا لضمان قدرتهم على استخدام الأدوات الرقمية بشكل فعّال في العملية التعليمية،  ومشاركة جميع الجهات المُعنية بالتعليم في التعاون لضمان حصول المعلمين على فرص تدريبية مستمرة في مجال التعليم الإلكتروني والذكاء الاصطناعي  والتكنولوجيا.

وباختصار شديد، لتحقيق التحول الرقمي في التعليم في العراق، يجب اصلاح المناهج التعليمية لتتوافق مع احتياجات العصر والتكنولوجيا، والى توفير البنية التحتية اللازمة، وتطوير الكفاءات، وتبني سياسات تكنولوجية فعّالة.

***

ا. د. محمد الربيعي

كثيرون منّا وجدوا في استعادة العبارات الجاهزة سهولة التعبير عن مشاعرهم وافكارهم امام حدث او موقف؛ مثل شعبي، حكمة، قول مأثور، مقطع شعري، جملة مبتورة.. لا نعني بــ "العبارة الجاهزة" تلك المستخدمة في رتابة الحياة اليومية بقدر ما نعني تلك التي تلتصق بلسان صاحبها ويردّدها بشكل تلقائي كردة فعل على عارض مفاجئ. وهذه الظاهرة، التي غالبا ما ترتبط بمن تجاوزوا سن الشباب وصاروا يميلون إلى الاقتصاد باللغة، لا علاقة لها بالثقافة والتعليم ومستوى المعيشة، ولا علاقة لها بجمالية العبارة ووضوحها ومصدرها، فالعقل الإنساني لا ينشغل فقط بالمنطقي والموضوعي والمعقول، فقد يردّد المرء كلمات صوتية لا معنى لها، تبدو كالهذيان او الهمهمة، ولكن الأهم هو انسجام ذلك مع اللحظة المعينة المرتبطة بمزاج صاحبها. كذلك ليس بالضرورة ان يكون الدافع لترديد عبارة ما جودتها وصحتها، ولا حتى نزاهة وموقع قائلها، ولكن المهم هو طريقة توظيفها في سياق اللحظة، فكثير من الاقوال المؤثرة قالها مجانين أو ضحايا أو قتلة لا يتمتعون بسمعة طيبة، ثم التصقت بالذاكرة الاجتماعية. وما زالت اقوال الحجاج بن يوسف الثقفي بحق أهل العراق تتردّد على ألسنة العامة، وعبارة جوزيف جوبلز وزير الدعاية النازي عن المثقفين، واشعار أبو نؤاس عن الندماء، وكلمات الحسين بن علي في الظلم.. فتعافى المجتمع، أو تردي قيمه الاخلاقية، غالبا ما يستدعي قصائده وأمثاله وأقواله التي تنسجم مع ظرفه.

نعود إلى السؤال؛ لماذا تلتصق بألسنتنا عبارات دون غيرها، وتحجز مكانا لها في تلافيف ذاكرتنا، نستعيدها بوعي او دونه؟ فهل المفاجأة هي التي تستدعي رد فعل ينسجم معها فتحضر العبارة؟ ام الإحساس بظل حادثة قديمة هو من يستحضر العبارة، أم ان فعل الاستعادة حالة طبيعية لترميم للذاكرة بعد ان تتراكم الحوادث وتندثر؟ وهناك أسئلة أخرى، إذ لا قاعدة ثابتة في فعل الاستعادة. الشاعر والسياسي (ناصر الثعالبي) عاش حياة محتدمة، في حين ان مقطعا شعريا علق بذاكرته أعوام طويلة يستعيده في لحظات تأمله، يبدو من بعيد لا علاقة مباشرة له بتجربة الشاعر (افطرّه هم ما بيچ يا روحي؟! الورد معذوره منّه!) الثعالبي لم يوضح سببا لتعلقه بهذه الجملة الشعرية العميقة التي ضمنها الشاعر مظفر النواب قصيدته (جايتنه مزنة)، وليس من السهولة فهم علاقتها بتجربة الثعالبي، ولكن يبدو ان الجملة غاطسة في الماضي ومرتبطة بحادثة مشابهة، يجري استحضارها لغرض التوازن الداخلي. بكلام آخر الثعالبي يستعيد الجملة الشعرية له وليس لنا، يرددها حين تدهسه الذكريات، وكأن تجاورا بين الحوادث، أو بين احاسيس الماضي والحاضر، هو الذي يؤدي إلى استعادتها وترديدها (افطرّه هم ما بيچ يا روحي؟! الورد معذوره منّه!)

أن نستل جملة من قصيدة شعر تشكل قطعة من أرواحنا، نردّدها بتلذذ عقود طويلة، لا يعني بأية حال أنها عظيمة أو أن ذائقتنا الشعرية "ذهبية" وكذلك لا يعني ان الشاعر فطن إلى ذلك قبلنا، ولكن اسرار القول الشعريّ هي التي تمس شيئا في ارواحنا في لحظة معينة من سموها، او انكسارها، فتجعلنا نعلق بالجملة الشعرية ونردّدها بصوتٍ خافت. بالطبع ترديد الجملة الشعرية وقوة التصاقها بالذاكرة مرتبط بطبيعة الفرد، وقد تختلف دلالته بين العاشق وغيره، بين المترف وغيره، بين الثوري وغيره. فللشاعر "علي الشيباني" قصيدة شعر قرأها أيام المد الثوري بالعراق في سبعينيّات القرن الفائت، التصق منها بذاكرة الروائي "سلام إبراهيم" مقطعا ردّده أعوام طويلة (يا ريتك تخلصني، الحزن مثل الخبز، مثل القميص) يروي "إبراهيم" كيف أنه صادف يوم سماع القصيدة أحد معارفه على دراجة هوائية بالشارع ثم توقف وأنشد تلك الصرخة الشعرية بصوت عال ويده تعت بقميصه. إنّ استعادة "إبراهيم" هذا المقطع الشعري دون غيره تشكل مادة للتأمل، فللشيباني قصائد أجمل وأعمق، فلماذا علقت بذاكر "إبراهيم" هذه الجملة الشعرية، ردّدها في البارات والجبال والمنافي طوال أربعين عام. تكرار الجملة لا يعتمد كليا لا على الذاكرة ولا على اللغة، وإن كان يوظفهما، فهي عملية نحت فردية تعتمد تجربة الفرد وطبيعة الحوادث التي تضغط لاستحضار جملة شعرية دون غيرها. قد تكون عروق هذه الجملة الشعرية مطمورة في شوارع مدينة الديوانية، وان معناها في مكان آخر وظروف أخرى، وأن "إبراهيم" في استعادتها يبحث عن علاقة بين لحظتين حدثتا في زمنين مختلفين. على العموم فعل الاستعادة هنا لا يأتي من فراغ، خصوصا وأن "إبراهيم" من أقرب أصدقاء الشاعر علي الشيباني، حفظ أشعاره ووثق سيرته. وعندما توفى الشاعر علي الشيباني كان "إبراهيم" بالمنفى، وفي عودته بحث عن قبره، وقرأ عنده ذات المقطع الشعريّ، ولكن هذه المرة بجسدٍ هدّه المنفى (يا ريتك تخلصني، الحزن مثل الخبز، مثل القميص).

إنّ أغلب العبارات الجاهزة التي التصقت بذاكرتنا وألسننا هي صورة من تشابك الماضي بالحاضر، استنفذت الكثير من الوقت لتثبت في ذاكرتنا، وتتكرر على ألسننا. بمعنى انها ليست لنا، وأحيانا لا نعرف صاحبها ولا ندري بكم من الأعوام سبقتنا، وبالتالي نحن ناقلين لها، نتوسط من قال ومن سمع، ونردّدها كنوع من المشاركة الاجتماعيّة. اعطى ذلك الانطباع بقرب فعل الاستعادة والتكرار من الثقافة الشفاهيّة، نلمسه في كثرة الاشعار الشعبية والامثال التي نردّدها أحيانا دون سبب واضح، أو دون معرفة بأصل العبارة ومعناها. فكثير من المواقف في حياتنا لا اسم لها وقد تحتاج الإشارة إليها فقط كلمة او همهمة او هزة يد او عبارة صوتية لا معنى لها ولا جذر لغوي. فعبارة (تهيّ\بهيّ) أو تهيه\بهيه) التي تبدو خارج نظام اللغة، عبارة شائعة في مناطق الفرات الأوسط بالعراق، باتت مقبولة في ثقافة مشتركة ولهجات متقاربة. هذه العبارة الصوتية لا معنى محدّد لها، معناها يتشكّل اثناء الحدث إن كان يأسا او استغرابا او رفضا أو سخرية. إنّ الاستعمال الواسع لعبارة (تهي\بهي) لا يوحي بانها فضلة لغوية، وأنها خارج نظام اللغة، بقدر ما هي حالة انسجام بين الحس الشعبي والحدس اللغوي، تساعد في فهم العبارة والقدرة على توظيفها حسب طبيعة الموقف. ينبغي التأكيد هنا على ان العبارات الشائعة قد لا تلتصق بكل الذاكرات، وليس على الدوام لها ذات المعنى، وقد يختلف الافراد عن المجموعات في أسلوب استعادتها وتوظيفها. فالأفراد غالبا ما يرددون عبارات مشهورة ومعروف سياقها الثقافي\الاجتماعي، في حين ان المجموعات لها مسلك مختلف في ترديد الاقوال عن الافراد، بسبب الطبيعة اللاواعية التي تعيشها المجموعة، كما هو في عبارة (تهيّ\بهيّ) المجهولة المصدر. أردنا القول انه فيما يخص الثقافة الشعبية لا يمكننا الجزم بأمر معين، فقد تنتشر عبارة واضحة المبنى لكنها عاطلة المعنى كما هو في عبارة (ليش يا ربي.. أوف يا ربي) التي يرددها العراقيون عندما تواجههم مشكلة. فهذه العبارة تبدو ظاهريا اعتراض على إرادة رب العالمين، في حين انها عبارة شكوى وتذمر وعتب تعوّد بسطاء الناس على ترديدها وكأن الله جار لهم يسمع ندائهم وشكواهم. وحتى لو جرى توضيح اضطراب عبارة (ليش يا ربي.. أوف يا ربي) فذلك سيكون متأخرا، وستكون العادة قد ذهبت بعيدا في صقل الألسن والنيات. في لقاء ممتع جمع طلاب عرب بالراحل "أميل حبيبي" بموسكو العاصمة روى فيه حكاية مناضل فلسطيني كان يردد على الدوام مقطعا شعريا لا يعرف قائله (لولا الحياء لعادني استعمار\ ولزرت قبرك والحبيب يزار) روى الراحل كيف أنه صحح له الخطأ، استعبار وليس استعمار، وأنه مقطع من قصيدة لجرير في رثاء زوجته أُم حزرة "خالدة بنت سعد" وأن الاستعمار لم يكن موجودا زمن الدولة الأموية. روى الراحل كيف ان صديقه اقتنع بكلامه، لكنه استمر على تكراره (لولا الحياء لعادني استعمار\ ولزرت قبرك والحبيب يزار). حكاية "أميل حبيبي" مثل كتاباته ملفوفة بسخرية سوداء، قال يومها " نحن بهؤلاء واجهنا الاحتلال الاسرائيلي".

تحدثنا عن "العبارة الجاهزة" الراكدة في الذاكرات وكيف أن استعادتها يعتمد على ظروف برانية، مثل تجاور الحوادث والمواقف، أو انبعاث الاحاسيس التي تربط الماضي بالحاضر، وكذلك قلنا ان لا قاعدة لالتصاق العبارات بألسن أصحابها، فقد يكون العارض المرضي هو من يصنع، او يستعيد العبارة، فالدماغ ما زال طلسما عند علماء الاعصاب والطب النفسي. يُروى عن سقوط أحد المقاتلين الشيوعيين هو وبغلته من جبل عال، مات والبغل وحدث ارتجاج في طاسة رأس راكبه "أبو سرور" هكذا كانوا يلقبونه. ثم عجز "أبو سرور" عن التواصل ومجاراة الكلام، وصار يمسك فقط بنهاية الكلام ويردّده بسخرية، فإذا انتهى كلام المقاتلين بمفردة عن السلاح، سيكمل الجملة أبو سرور (هو سلاحيش يخويه..) وإذا انتهى كلام المقاتلين بمفردة عن مسؤول كبير، سيكمل أبو سرور الجملة (هو مسؤوليش يخويه..) قد لا تتكرر الحادثة ولا الشخوص ولا الكلام، ولكن الإشارات الحسية المنبعثة من تلك اللحظة هي التي تستدعي حضور الجملة، يطلقها أبو سرور ويمضي.

إنّ فعل الاستعادة، كردة فعل على حادثة مفاجئة، قد يكون خاليا من الحروف والكلام، فنجد أحدهم يبتسم دوما بسخرية في مواجهة المواقف السلبية، وآخر اعتاد تحريك يده في الفراغ استغرابا مما يحدث، وثالث يهمهم كلما حوصر بالمصادفات اللعينة. فيما يخص الأخيرة "الهمهمة" فبسبب السكون الذي يلفها ظنّها البعض طارئة تأتي لاختصار الوقت، أو للتحفظ عن الرد، أو انها تسد ثغرة في أسلوب التعبير الذي لا تستطيعه اللغة، في حين ان تكرارها يأتي من عمق روحي غامض، تزداد فاعليته بغياب الكلام. خلو الهمهمة من كلام لا يعني خلوها من مضمون، فتكرارها كوحدة صوتية يؤكد مضمونها. وفي حال خلت الهمهمة من مضمون ستكون أكثر ظلمة، لأنها ستكون من مخ مليء بالأشباح. في الحقيقة نحن نتحدث بالعموم عن الهمهمة، وغالبا ما نؤول أسباب استعادتها، إذ لا سبيل لتبيّن اسرارها، باعتبارها بنية نفسية مغلقة، مفتاحها عند صاحبها. في اللغة "الهمهمة" هي التكلّم مع النفس بصوت خفي، مثل سير الإبل على الرمال، ولكن بحثنا عن معنى للهمهمة فقط في القواميس لن يساعدنا كثيرا. الهمهمة والذهول والتلعثم وحركات الجسم اللاإرادية.. هي سجل للمشاعر والاحاسيس والمواقف الدفينة التي لا تستطيع اللغة حيالها الكثير، وقد تكون أبعد ممّا تشترطه اللغة. إنها رماد اللغة.

***

نصير عواد

 

ومع مجىء الليل الدامس، استيقظت على صوت صرخات باكية قادمة من كل حدب وصوب؛ فاندفعت نحو النافذة ألتمس سر هذه الأصوات. وإذا بامرأة مرتدية ثوبًا أسود قاتمًا، تحمل مصباحًا لينير طريقها المعتم. اقتربت المرأة شيئًا فشيئًا من نافذة غرفتي، وكأنها تريد محادثتي، لم أملك إلا أن ألبي نداءها؛ فخرجت مسرعة باتجاهها ولكنها اختفت كلمح البصر. ومع ذلك تتبعت صوت الصرخات المدوية، فقادتني إلى قصر عتيق تبدو عليه علامات الشيخوخة من نوافذه المتعددة تطل نساءً كثيرات، وفي إحدى هذه النوافذ ذات الزجاج المحطم رأيت السيدة حاملة المصباح. اتجهت بخطوات قلقة نحو القصر؛ ففوجئت بأستاذي د. "حليم عثمان" و د. "نجيب راشد" وصديقتي الصدوق "نور الهدي"، وإذا د. "حليم عثمان" قائلًا: كأنما الأمر لم يكن وليد المصادفة؛ لابد من أن السيدة حاملة المصباح قد جمعتنا هنا لغاية في نفسها.

-  نعم أستاذي هناك شيء ما وراء هذه السيدة ومصاحبتها للأصوات الباكية. لم يتحدث أستاذي د."راشد"؛ ولكنه كان ينظر نظرة فاحصة إلى القصر المنهك، وبادر بفتح بابه الحديدي للدخول. ووجدنا مصباحًا مشتعلًا بجوار المدخل، حمله  أستاذي "د.عثمان" وتتبعنا هذه الأصوات لتقودنا إلى حديقة القصر حيث السيدة حاملة المصباح يبدو على وجهها الذل والانكسار؛ فقد جفت عيناها الحمراوان على إثر دموعها المنهمرة ، وقد كانت متكئة على إحدي شجرات الحديقة الباكية.

السيدة: قائلة بصوت مبحوح لقد استدعتكم هذه الصرخات لتعبر عن الظلم الذي طال النساء منذ فجر التاريخ الإنساني، قد ظل الرجال يبطشون بنا ويسعون إلى تهميشنا وحرماننا من أبسط الحقوق المشروعة. وها أنا واحدة من تلك الأصوات المعذبة. أتتذكرين كلماتي ا.آمال لا توجد فائدة.

- نعم أتذكر هذه الكلمات يوم لقائنا سيدة "زانثيب" زوجة الفيلسوف "سقراط"، والأم لأبنائه الثلاث إمبروكليس وسوفرونيسكوس ومينكسونوس، فقد علمنا من تراث الفكر الفلسفي بعلاقتك غير المثالية بزوجك الحكيم، مع أنه كان ملهمًا لكثير من البشر. (1)

- زانثيب: تنهدت بحزن وبصوت مكسور قائلةً: مع أن الحكيم كان ملهمًا لكثير من البشر لم يحقق التوازن والانسجام في علاقته معي كشريكة دربه، والسبب في ذلك –كما يقال-  "هو تأنيبي وتوبيخي المستمر له؛ بسبب عدم تحمله المسؤولية والاهتمام بعائلتنا، فأصبحت في نظر الجميع الزوجة التي تتصرف بأسلوب ينافي اللياقة والآداب التي يجب أن تتسم بها المرأة الأثينية؛ لكثرة توبيخ الحكيم أمام أصدقائه".[1] (1)

-  أشعر من حديثك أن كل ما تحلمين به هو ما ترغب فيه أي امرأة أن يشاركها زوجها تحمل مسؤولية شؤون عائلتهما. وهذا للأسف ما يفتقده الحكيم لعل كثرة  تأنيبك وإلقاء اللوم عليه أمام  الجميع، أحدث خللًا في العلاقة الزوجية بينكما.

- نور الهدى: سيدة "زانثيب" مع هذه الخلافات وعدم التوافق بينكما؛ فلماذا اقترن الحكيم بك؟

-  زانثيب: يبدو على ملامح وجهها علامات الألم والأسى قائلةً:  في قصة زواجنا ذكريات تنقر على أوتار قلبي نغمات الحسرة والشجن "فقد كنت أصغر من "سقراط"  بقرابة 35 عامًا عندما تزوجته"، وأكثر ما يؤلم قلب المرأة قد فعله بي منزل الفلسفة من السماء إلى الأرض؛ فعندما سُئل عن سبب اختياره لي كرفيقة دربة، لم يذكر أنه انجذب إلىَّ؛ بسبب جمالي أو حبه لي، بل قال: إنه اختارني؛ لأنني كنت ذات طبع عصبي وناري، وكان يرى في ذلك فرصة لتحفيز تفكيره الفلسفي وتدريب نفسه على المناقشات الجدلية([2]) (2) . وأعتقد أنه إذا استطاع أن يتعامل معي بانسجام، سيتمكن من التحدث مع أي شخص في أثينا.([3])([4])  (3) (2) وأصبحت مقولته الشهيرة "تزوج يا بني فإن وفقت في زواجك عشت سعيدًا، وإن لم توفق أصبحت فيلسوفًا ترمز لتسلطي وشراستي معه([5]). (4) وما أغرقني في بحر الحزن حديثه عن إعجابه بحكمة "ديوتيما" فقد وقف منها موقف التلميذ من الأستاذ ليقتبس منها، ويتلق عنها معرفة الحب باعتبارها معلمته في الحب[6]، إلى جانب إعجابه بفصاحة "إسبازيا" فهي من علمته البيان([7]).(5) ومع حبي الشديد له إلا إنني اشعر أن الحياة انطفأت بداخلي من شدة تهكمه عليَّ وإعجابه بالأخريات.

نور الهدي: أشعر من نبرة صوتك صدى المعاناة من هذا الوضع المميت لمشاعر أي أنثى - سيدة "زانثيب"-  عندما تكتشف أن شريك دربها لم يتزوجها بدافع الحب والاهتمام. وللأسف الشديد كان الحكيم أنانيًّا بشكل لافت للنظر؛ فشغله الشاغل الانغماس في عالمه الفكري والفلسفي وزواجه منك فرصة لتطوير مهاراته الجدلية والفكرية دون أن يضع في الاعتبار مشاعرك كأنثى.

-  زانثيب: لم يكن هذا كل شيء أستاذة "نور" فعلى الرغم من مشاركته بانتظام في المناقشات الفلسفية، إلا إنه رفض قبول أي مقابل مادي نظير هذه المناقشات؛ فقد كان لديه قناعة راسخة بأن السعي وراء الحكمة والحقيقة هي الهدف الأسمى للفيلسوف. ومن ناحية أخرى، لم يكن لديه وظيفة أو مصدر للدخل المادي لإعالة عائلتنا[8]، لكن ماذا عن وضعي ووضع أبنائنا؟ هل عائلتنا في دائرة اهتمامات وتفكير الحكيم كمناقشاته الفلسفية التي لا تنقطع؟ الحقيقة أنه لم يضع في اعتباره رعاية أسرته وتوفير احتياجاتها[9].

- د. عثمان: لقد تخلى "سقراط "عن دوره كرب أسرة ومعيل لهم، لينشغل بمناقشاته الفلسفية تاركًا عليك "زانثيب" عبء الإنفاق والرعاية. وهذا، لا شك، ينهك قدراتك البدنية والعاطفية، بوصفك المسؤولة الوحيدة عن توفير الاحتياجات المادية للأبناء. لعلك انتابك الشعور بالقلق الدائم على مستقبل أبنائك.

-  يبدو لنا أن ارتباط الحكيم "سقراط" بالحياة الفلسفية جعل السيدة "زانثيب" تشعر بأنها مهمشة؛ فأخذت تعاني من الوحدة والحرمان؛ بسبب إهمال أبي الفلسفة اليونانية لها، وهذا النوع من الإهمال العاطفي من جانب رفيق الدرب يعذب توأم روحه. وأخذت التساؤلات تراودني هل كان سقراط يدرك مدى تأثير غيابه على زانثيب؟

- زانثيب: الأسوأ من ذلك طالما كان زوجي الحكيم ينغمس في حالة السُكر خلال تلك الندوات الفلسفية التي يحضرها الرجال فيشربون من وعاء نبيذ مشترك، وبمجرد أن يصبح الجميع لطيفين، تبدأ المناقشة الفلسفية أما أنا فأظل وحيدة في منزلي، أترقب عودته في وقت متأخر من الليل تسكنني الهموم لرؤيته بعد أن أفرط في شرب النبيذ[10]. (3) أليس بإمكان سقراط أن يقضي بعض الوقت مع عائلتنا؟ ألم ينتبه لحالة الحزن والانكسار التي تخيم على مشاعري؟

وتستمر زانثيبي في الحديث أريدكم مشاركتي لحظة وداعه الأخير يوم إعدامه فعندما دخل أصدقاؤه إلى الزنزانة، كنت أجلس بجانبه، ممسكة بطفلنا الأصغر بين ذراعي. غارقة في بكائي عليه فأخذت انتحب وأندب.  أتعتقد د. "عثمان" أنه أخبرني بحبه لي؟ هل احتضن طفلنا وقبله وأخبره أن كل شيء سيكون على ما يرام د. "راشد"؟ أنه طلب من أحد أصدقائه إيصالي للمنزل دون وداع[11].(5)  حاولت "نور الهدي" تضميد جراح "زانثيب" وتخفيف وطأة المحنة التي أثقلت كاهلها مبررةً موقف سقراط قائلةً:

- نور الهدى: ربما  أراد إبعادك عن الزنزانة حتى لا تشاهدي المشهد المؤلم لحظة إعدامه وهو يعلم مقدار حبك وتعلقك به؛ فأراد أن يجنبك لحظة الفراق المميتة لقلبك. [12](3)

زانثيب: كلا عزيزتي أراد الجلوس مع أصدقائه وتلاميذه آخر لحظاته مصممًا على إكمال مناقشته الفلسفية.[13](3) عن خلود النفس قبل رحيله[14].(6)

- نور الهدي: لقد أصبح أمر العلاقة بين "زانثيب" وسقراط واضحًا للجميع؛ لقد كان زوجًا وأبًا فاشلًا في كثير من الجوانب. وللأسف الشديد أن تصور سقراط  السلبي عن زوجته بصفة خاصة والمرأة بصفة عامة ؛ إنما يعكس رؤية المجتمع اليوناني القديم للمرأة والذي امتد عبر العصور الفلسفية إلى يومنا الحالي. وفي هذه اللحظة راودني تساؤل هل كانت زانثيب على حق تمامًا في كل ما أثارته من شكاوى ضد سقراط؟ أم أننا  في حاجة إلى مزيد من التحري والبحث للوصول إلى الحقيقة؟ وهنا تحدثت زانثيب بصوت مفعم بالحزين والشجن .

- زانثيب: ومع عدم رعاية واهتمام زوجي بي وبعائلتنا إلا إنني لم أعمم ذلك على  كافة الرجال والفلاسفة. فقد رأيت كيف يُظهر د. "عثمان" الحرص والاهتمام بحفيدته "كنزي" وكيف يعتني د. "راشد" بابنه "أسلم" وإخوته. لقد تمنيت أن يقدم زوجي الحكيم "سقراط" هذا النوع من الرعاية .

-  أوصلتنا "زانثيب" إلى خارج القصر قائلةً كل ما أتمناه منكم نقل صوتي إلى الحكماء والمفكرين إلى ضرورة تغيير الصورة النمطية عن بنات حواء. وهنا قاطع د. راشد الصمت متحدثًا

د. راشد: أذكركم جميعًا أننا  في حاجة ماسة إلى الدعوة للتكامل بين «إيزيس» و «أوزوريس» على مستوى الحياة الخاصة والحياة العامة والحرص على دعم الأسرة بوصفها النواة الأولى في تكوين مجتمعاتنا وتقدمها. والحرص على معالجة غياب النساء واستبعادهن من السجلات التاريخية على مر العصور من خلال إبراز الدور الذي مثلته النساء في كافة  المجالات التاريخية والسياسية والأدبية والفلسفية والعلمية وغيرها.

ومع مولد الفجر الجديد خرجنا من القصر العتيق المتهالك، وتفرق  كل من أستاذيّ وصديقتي عند مفترق الطرق. وتركني الجميع وحيدة وحائرة أمام هذا التشعب من الطرق إلى أين اتجه؟ وفي هذه اللحظة همس في أذني صوت جدتي "حتشبسوت"، إن مأساة النسوة في زمن مُنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض تحتاج منك أن تتقدمي بثبات نحو هذا الطريق وتتطلعي إلى آفاق جديدة بصحبة "الهرمنيوطيقي العربي"، ترى إلى أين سيأخذني هذا الطريق؟ ومن يكون الهرمنيوطيقي العربي؟

***

د. آمال طرزان - مصر

........................

المراجع:

https://www.encyclopedia.com/women/encyclopedias- almanacs- transcripts- and- maps/xanthippe- c- 435- bce

https://totallyhistory.com/socratess- wife- xanthippe/

Van Bryan: Five Reasons Why Socrates Was A Terrible Husband, In March 3, 2014

https://classicalwisdom.com/people/philosophers/five- reasons- socrates- terrible- husband/ , In: 14/5/2024,  10:25 pm.

(4) مصطفى غالب: سقراط في سبيل موسوعة فلسفية، ط1، دار مكتبة الهلال، بيروت،1989م، ص 11.

(5) إمام عبد الفتاح إمام: نساء فلاسفة في العالم القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996م، ص175-  158

(6) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، 2017 م، ص7.

معًا نحو حركة نسوية شرقية

 

يمكن الإحاطة دلاليا بهذا المفهوم العصي، وعلى نحو نسبي نوعا ما، في ضوء الآية الكريمة (105) من سورة التوبة، يقول تعالى:

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

مع ما يُستفاد منه ورود ثلاثة مستويات تواصلية معنية بالفعل البشري في حدود ترجيح كفّة الخيري وتبنّي منظومته، قدرا جالبا للاعتدال أو التوازن الإنساني والمجتمعي.

أولا بالنسبة للذات، كونها مطالبة بفتح مرايا الكينونة ومواجهتها المواجهة الحقيقية الفاضحة للأقنعة والزيف النرجسي.

على اعتبار العمل الصالح، وحتّى نبقى في السياق الذي ترمي إليه المرجعية الدينية، استكناها، سواء من الآية الكريمة المذكورة أو باعتماد الأحاديث النبوية الشريفة.

كما هو وارد عن الرسول الأكرم (ص) قوله: (إذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثم أَصابَ فله أَجْرَان، وإِذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثم أَخْطَأَ فله أَجْر).

مع أن الحديث منقوص وأنه يشترط أن يكون الاجتهاد المشروط بالأجر هو اجتهاد الحاكم بمعنى القاضي*.

وإذا ما حصرنا طرحنا وحدّدناه في هذا المفهوم، أي الاجتهاد والذي يحمل دلالات في الكتاب والسنة، تمّ تمريرها إما بشكل مباشر، مثلما يعكس ذلك هذا الحديث، أو ضمنيا كما توحي بذلك الآية السابقة.

قلت إذا ما اختزلنا الحمولة الدلالية لهذا المفهوم في الاجتهاد الايجابي الذي ينصّ عليه المقدس، بشكل عام، نلمح كيف أن ولادته وترعرعه إنما يكون ابتداء في مركزية ذاتية الكائن، ومن ثم تبرز ثماره على الذات وتتناسل، بما يثير إعجاب وقبول الآخر/ المؤمنين، وبما هو مدعاة للتنافسية ضمن خارطة الخيرية والتعمير، فضلا عن سائر ما يبرهن على الرقابة الإلهية ويغذي الشهادة النبوية ههنا/ فسيرى الله عملكم ورسوله.

ثانيا مستوى الغيرية، بحيث يبرز ذلكم الطرف الذي يتفاعل إيجابيا كذلك،  ويصدر عنه رد فعل حميد ، بدوره دال على الاعتدال والتوازن والنأي عن الضغائن والأحقاد.

هكذا تتحقق تجليات الخيرية في ارتباط بالمرجعية التي قد تتيح تشبعا بروح التنافسية كحدّ أدنى لقهر بهيمية الكائن وقمع نزوعه الشيطاني إذ يشوه المرايا الأنوية، ويقود إلى مستنقع ما هو مناقض بالتمام للاجتهاد الإيجابي وصون المقدّس لخيارات ورهانات تخليقه، أي كمفهوم وممارسة كذلك، والتقعيد لمعانيه السلوكية والثقافية والوجودية.

الغيرية إزاء مرايا الذات العارية والصادقة والمتمرّدة على الأقنعة، في فعل بملمح ملائكي نوراني، راع لمعطيات الخيرية.

ثالثا الرقابة الإلهية والشهادة النبوية، وهما أقوى خاصيتان في مثل هذه المقاربة، بالتأكيد، وكيف أنهما شكّلتا لازمة، تنعت الخطاب العقلي، بعدّه جوهر الاجتهاد الإيجابي ووقوده، تبعا لديباجة دينية تروم الكمال الوجودي وتنشد الروح الحضارية في أقصى الأبعاد.

بالتالي، هي مستويات تتضافر وتتشاكل لتصنع أفقا طوباويا راويا للخيرية الإنسانية المقبولة في الأرض والمباركة في السماء، وفق خطوط نفسية وسلوكية تحتفي بالعقل، ضمن انتماء إنساني أوسع، يتخطى العقدي والعرقي واللساني، ليدمغ بحجج وبراهين المشترك، رافلا بهوية كونية ترعاها عين ربانية ساهرة لا تنام.

علما أن الاجتهاد يبقى اجتهادا، بدليل ما وصل إليه وأدركه العقل الأجنبي، السّباق إلى ابتكارات واختراعات شتّى، حدّا جعل ثمراته وقطوفه في متناول الإنسانية جمعاء، بحيث لم يبق حكر المنطق الاستهلاكي، على مصادره وينابيعه، إنما تعدّى ذلك إلى عالمية وعولمة.

ولقد تعمّدت هذا التقسيم، فقط، لإيضاح حقيقة كثيرا ما نغفل عنها، وهي أهمية المسؤولية الوجودية التي يناضل في رحابها المسلم مذيلا هذا السفر الحياتي الخاطف والعابر بمفازة أخروية خالدة وباقية، وشاهدة أيضا على مسرح تفعيل وتثوير العقل الإسلامي، تبعا لمنسوب طاقي ينبذ الغلو والتكلّف، ليغدق على الذات في مركزيتها ووسائطيتها وفي فلك ما يمتدّ عنها ويكمّلها، بنكهة وخصوصية وقداسة الاجتهاد الإيجابي.

لا كما عند غير المسلم، وإن اجتهد فإن ما قدّمه لا ينزاح عن نطاق المنقطع والبائد، مادام هذا المجتهد يُحرم، دونما حصاد جوائز جهوده بعد الموت.

هذا ما يضفي، شرعية، ربما، على هذا التقسيم، أمّا فيما يتعلّق بباقي دوال رسائل الخيرية الوالج الاجتهاد عقيدة وسلوكا في بلورة أنويتها، فهو غير مجد ولا أهمية له، اللهم ، ما تبدّى من زاوية محاربة تاريخ فصل مفهوم الاجتهاد الألصق والأشدّ لحمة بالخطاب العقلي، مثلما هو معلوم ومتّفق عليه، والحيلولة دون محاولات التعتيم على الاجتهاد في لبوسه العدمي المتناقض جملة وتفصيلا، مع وصايا وتعاليم المقدس إجمالا.

***

أحمد الشيخاوي - شاعر وناقد من المغرب

............................

* التوثيق: من صحيح البخاري- الباب الحادي والعشرون- 7352

 

الحكومات هي الجهة الأقدر على تغيير ثقافة المجتمع. هناك بطبيعة الحال جهات أخرى قادرة على إحداث تغيير بقدر ما (من سينما هوليوود حتى متاجر علي بابا). لكن لا أحد يباري الحكومة في قدرتها على إنجاز هذه المهمة. وأذكر لهذه المناسبة رؤية المفكر الأميركي بنديكت أندرسون، التي أقامت أساساً متيناً لدراسة مفهوم الهوية الوطنية والدولة القومية. رأى أندرسون أن تكوين هوية الأمة أو الجماعة الوطنية، يبدأ باستعراض انتقائي للتجربة التاريخية، وتحديد الفقرات التي ستشكل «التاريخ الرسمي للبلد» والذي سيكون - في نهاية المطاف - المرجع الرئيسي للهوية الوطنية.

لو نظرنا إلى واقع الحياة، فسوف نرى أن غالبية الناس، يعرفون أنفسهم من خلال الأوصاف التي أخبرهم بها أشخاص آخرون. خذ مثلاً معرفتك بآبائك وأجدادك، كيف توصلت إليها... أليس بالمعلومات التي سمعتها من أبيك أو جيرانك. حسناً، ماذا لو كانت هذه المعلومات مضخمة أو مبتسرة أو نصف حقيقية، أو هي معلومات مختلطة بالأماني والعواطف، فهل ستعرف ذلك التاريخ على حقيقته؟

إذا كنت تدعي لنفسك هوية عائلية أو قبلية أو تجربة تاريخية من أي نوع، فاعلم أنها ليست سوى روايات الآخرين، التي قد تكون دقيقة محققة، وقد تكون مجرد «سوالف»، هذا ما أسماه أندرسون «جماعة متخيلة» أي هوية متخيلة. وهو وصف ينطبق على كل الجماعات والطوائف والأمم، بلا استثناء، حسب اعتقادي.

تحدث أندرسون أيضاً عن دور الطباعة، أي الكتب والصحافة المطبوعة، التي أنتجت ما يمكن وصفه بثقافة معيارية مشتركة، كما ساهمت في توحيد لغة الخطاب، أي ما يقال وما لا يقال في المجال العام. وهذا هو الأساس الأولي لما نسميه «العرف العام». لا ننسى أيضاً دور التعليم الرسمي والمنابر العامة الاجتماعية، التي ساهمت بشكل فعال في رسم صورة موحدة عن الذات الجمعية، مستندة إلى تاريخ انتقائي أو فهم محدد لما جرى في ذلك التاريخ.

لا شك إذن في قدرة الحكومة على صياغة الثقافة العامة وتوجيهها؛ لأنها تملك كل الأدوات اللازمة لهذه المهمة. وقد أشرت سابقاً إلى أن جميع الحكومات قد استثمرت هذه الإمكانية ولم تفرط فيها.

لكن السؤال الذي ربما يراود بعض الناس: إلى أي حد ينبغي للحكومة أن تستثمر هذه القدرة... هل يصح للدولة أن تتحول صانعاً لثقافة المجتمع، أم تكتفي بإرساء الأرضية اللازمة للمصلحة العامة أو النظام العام؟

توصلت في دراسات سابقة إلى أن الطبقة الوسطى في المجتمعات التقليدية، ترغب إجمالاً في تبني الحكومة دور صانع الثقافة العامة، بل وما هو أبعد من ذلك. أما في المجتمعات الصناعية، فان الطبقة الوسطى تميل بقوة إلى تقليص دور الحكومة في هذا المجال، واقتصاره على دعم الهيئات الأهلية النشطة في المجال الثقافي. يرجع هذا التمايز إلى الدور التحديثي للدولة، وفق رؤية ماكس فيبر، أبرز آباء علم الاجتماع الحديث. ففي المجتمع التقليدي تلعب الإدارة الحكومية دوراً محورياً في عقلنة العرف العام وغربلة التقاليد، وصولاً إلى جعل الحياة العامة مرنة ومستجيبة لتيارات التحديث. وهذا هو بالضبط الدور الذي تريده الطبقة الوسطى. أما في المجتمعات الصناعية، فإن مهمة التحديث منجزة فعلياً، وإن الخيارات الثقافية تصنف ضمن المجال الشخصي، حيث تتجلى الحرية الفردية في أوسع نطاقاتها، الحرية التي لا يريد الإنسان الحديث أن تتقلص أو تمسي عُرضة للاختراق، من أي طرف كان.

أميل للاعتقاد بأنه خير للدولة أن تقتصر على التخطيط لأهداف العمل الثقافي الوطني ودعمه، من دون التدخل في تفاصيله. ربما يقول بعضنا إن المجتمع لن يفعل شيئاً ما لم تبادر الحكومة إليه. وهذا أمر محتمل جداً. لكنني أظنه نتيجة لنوع من التوافق السلبي على هذه المعادلة، أي أن الحكومة تملك كل شيء فعليها أن تفعل كل شيء. ولو بدأنا في تغيير هذه المعادلة، فربما يتغير الحال، ولو بعد حين.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

في المفهوم: لا يستطيع أحد أن ينكر حاجة الإنسان المستمرة للكشف والمعرفة، وتوقه الدائب للعلم والإحاطة، وهو ما يتطلب أدوات معرفيّة تُجدّد باستمرار، كما لا يستطيع أحد أن ينكر حاجة البحث- والنقد الأدبي على وجه الخصوص- لكل ما يستجد من فكر ونظر ما دام- في النهاية- سيصب في نهر الوعي الإنساني ويخدم البحث عن " الحق " والحقيقة التي يسعى إليها الإنسان في كل زمان ومكان.

هي سلسلة من الدراسات المتعلق بمناهج النقد الأدبي، قمت بتسليط الضوء على أهم هذه المناهج ليس من باب اهتمامي بالنقد الأدبي، فأنا لست ناقداً أدبيّاً في الأساس. أنا باحث وكاتب في قضايا الفكر وباتجاهات عدّة، سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة ودينيّة وأبستمولوجيّة وفلسفيّة وما يرتبط بها بعلم الاجتماع، ومنها دراساتي المتعلقة أيضاً بقضايا المناهج الفكريّة الحديثة والمعاصرة التي تعاملت مع قضايا الواقع الإنساني وطريقة تفكير الإنساني وعلاقة الفكر بالواقع.

إن الذي شدّ انتباهي في الحقيقة لدراسة مناهج النقد الأدبي هو ذاك العمق المعرفي الذي تتحلى به هذه المناهج من جهة، ثم درجة ارتباطها بالواقع وقضاياه، رغم أن بعضها يحاول التهرب من مضمون الواقع والتركيز على الشكل فقط، إلا أنه لم يفلح من كون الشكل ذاته هو انعكاس للواقع بالضرورة جهة ثانيّة، وأخيراً ارتباطها بالمناهج الفكريّة والفلسفيّة وعلم الاجتماع من جهة ثالثة، فكل هذه المناهج بشقيها الفلسفي والأدبي تكمل بعضها في فهم الظواهر التي يراد دراساتها. بيد أن مناهج النقد الأدبي وخاصة التي ربطت ما بين شكل الظاهرة ومضمونها، كالمنهج الواقعي، والبنيوي التكويني، ومنهج النقد الثقافي، والمنهج التكميلي، فهذه المناهج تمدُّ الدارس لها في الحقيقة بمعرفة آليّة التفكير، ثم طريقة تحليل الظاهرة وإعادة تركيبها باستخدام أدق وسائل المعرفة النظريّة، والبحث عن المسكوت عنه، أي المضمر في الظواهر المراد دراستها. أي هي تفسح في المجال واسعا للعقل الإنساني أن يمارس دوره في التقصي والبحث عن الحقيقة بعيدا عن ما هو مثالي وميتافيزيقي، بالرغم من أن هناك الكثير من مناهج ما بعد الحداثة تشتغل على الذاتيّة وتعمل على تفتيت الظواهر أو تفكيكها أو التمسك بشكلانيتها على حساب المضمون، ولكنها تظل برأيي ترخي العنان للعقل كي يتحرك بحريّة لتحليل الظواهر وفرض سلطته المعرفيّة عليها.

دعونا بداية نتعرف على أهم مبادئ وسمات وخصائص "منهج الأسلوب" في النقد الأدبي. الذي أعتبره مفتاح أو بوابة معرفة النقد الأدبي بشكل خاص، وآليّة تفكير منطقي وعقلاني بشكل عام.

إن مفهوم كلمة (أسلوب)، قديم قدم استعماله، ولعل أقدم إشارة إلى هذا المصطلح (الأسلوب) وردت في كلام (أرسطو) حيث أراد به طريقة التعبير، فقال: (حقاً لو كنا نستطيع أن نستجيب إلى الصواب، ونرعى الأمانة من حيث هي، لما كانت لنا حاجة إلى الأسلوب ومقتضياته، ولكن علينا أن لا نعتمد في الدفاع عن رأينا على شيء سوى البرهنة على الحقيقة، ولكن كثيرا ممن يصغون إلى براهيننا يتأثرون بمشاعرهم أكثر مما يتأثرون بعقولهم، فهم في حاجة إلى وسائل الأسلوب أكثر من حاجتهم إلى الحجّة..).(1). وعلى هذا الأساس المنهجي العقلاني الذي يربط عملية اكتساب المعرفة في طرق وأساليب للبحت والتقصي، يقسم "أرسطو" أنواع الشعر إلى شعر الملاحم، والمأساة، والملهاة، والشعر الغنائي الذي أدخله ضمن ما يسمى بفن الموسيقى. يقول أرسطو: (وفي هذا أسلك الترتيب الطبيعي فنبدأ بالمبادئ الأولى: الملحمة والمأساة، ثم الملهاة ، وجل صناعة العزف بالناي والقيثارة" (2). فأرسطو يعتبر هذه الأنواع من الشعر كلها (أنواع من المحاكاة في مجموعها، لكنها فيما بينها تختلف على أنحاء ثلاثة: لأنها تحاكي إما بوسائل مختلفة، أو موضوعات متباينة، أو بأسلوب متمايز) (3).

أما مفهوم الأسلوب في الموروث العربي الإسلامي، فقد وردت لفظة (أسلوب) في كلام العرب منذ القدم، فجاء في لسان العرب لابن منظور: (ويقال للسطر من النخيل: أسلوباً، وكلّ طريق ممتد فهو أسلوب، والأسلوب: الطريق، والوجه، والمذهب.."(4).

بيد انّ هذه المعاني قد اتسعت عند البلاغيين والنقاد العرب، الذين ربطوا معناها بعدّة مسارات، فالأسلوب عند بعضهم يدّل على طريقة العرب في أداء المعنى، مثلما نجد ذلك عند ابن قتيبة الدينوري(-276هـ) إذ قال: (... والشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدّل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيملّ السامعين، ولم يقطعْ وبالنفوس ظمأ إلى المزيد").(5). ويبدو لنا من هذا النص إيمان "ابن قتيبة" بضرورة مناسبة الشاعر بين القول ومقامه، فيطيل ويوجز بحسب اقتضاء الصياغة منه ذلك، مع مراعاة حال السامع وقت إنشاده قصيدته.

وربما اقترب من مفهوم النظم الذي يمثل الخواص التعبيريّة في الكلام، كتابات عبد القاهر الجرجاني (-471هـ)، إذ قال: (واعلم أن الاحتذاء عند الشعراء وأهل العلم بالشعر وتقديره وتمييزه أن يبتدئ الشاعر في معنىً له وغرض وأسلوب، والأسلوب هو الضرب من النظم والطريقة فيه.). (6). كما نادى "الجرجاني" بضرورة مناسبة المقال للمقام، فلا يكون الغزل كالافتخار، ولا المديح كالوعيد،، ولا الهجاء كالاستبطاء، ولا الهزل بمنزلة الجد، (فإن المدح بالشجاعة والبأس يتميز عن المدح باللباقة والظرف، ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام، فلكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به، وطريق لا يشاركه الآخر فيه..).(7).

وقد يرقى مفهوم الأسلوب إلى النوع الأدبي، وطرق صياغته مثلما نجده عند السجلماسي (-بعد 704هـ) (الذي أطلق على فنون البلاغة مصطلح (أساليب) فسمى واحداً من كتبه (المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع) الذي عنى من خلاله بالفنون البلاغيّة التي تناولها كتابه مثل التشبيه، والاستعارة، والإشارة، والمبالغة والتضمين).(8). وفي تعريف ابن خلدون الذي حدد مفهوم الأسلوب في الإبداع الأدبي فذكر: (إنه يرجع - (الأسلوب) - إلى صورة ذهنيّة للتراكيب المنتظمة كليّة، باعتبار انطباقها على تركيب خاص، وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها، ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان، فيرصها فيه رصّا كما يفعل البنّاء في القالب، أو النسّاج في المنوال..).(9).

الأسلوب في كتابات المحدثين:

لقد استوعب المحدثون العرب المعاني التي طرقها القدماء في تعريفهم الأسلوب، لذلك جاءت هذه التعريفات مقاربة لتلك المعاني في مضمونها العام، وكان أبرز تلك التعريفات قولهم: إن الأسلوب هو "طريقة الكاتب أو الشاعر الخاصة في اختيار الألفاظ، وتأليف الكلام". وإنه "طريقة الكتابة، أو طريقة الإنشاء، أو طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الإيضاح والتأثير". وعرفوه بأنه "الميزة النوعيّة للأثر الأدبي". وقالوا إن الأسلوب هو "قوام الكشف لنمط التفكير عند صاحبه". وقيل هو "الصورة اللفظيّة التي يعبّر بها عن المعنى، أو نظم الكلام وتأليفه لأداء الأفكار، وعرض الخيال، أو هو العبارات اللفظيّة المنسقة لأداء المعاني". وبتعدد التعريفات تعددت طرائق صياغتها، بيد أن هذه التعاريف تكاد تلتقي في معنىً جوهري يراد به أن الأسلوب هو طريقة اختيار الكاتب لأدواته الكتابيّة بالشكل الذي يميزه عن غيره، ويحكم له بالتفرد في صياغة أفكاره والتعبير عنها. وهذا ما نجده عند العديد من النقاد الغربيين والعرب كما سيتبين لنا أدناه:

الأسلوب في كتابات النقاد الغربيين المحدثين:

لقد قُدمت تعاريف مختلفة باختلاف اتجاهات أصحابها في طريقة توصيفهم للأسلوب، ويمكن عرض أبرزها في ما يلي:

أ- من زاوية المُخَاطِب أو المُرسل: يقول "بوفون": (الأسلوب هو الرجل. إذ إن الأفكار لوحدها هي أساس الأسلوب، وهي لـيست سـوى انتظام الحركة التي تجعلها أفكارا.).(10). ومن زاوية المخاطَب أيضاً: إن الأسلوب موجه إلى المتلقي، وتُكمل براعة المبدع في درجة الإقنـاع التـي  يمتلكها أسلوبه للتأثير في نفس السامع. يقول " فاليري" :(الأسلوب سلطان العبارة).(11)

ويقول "ستندال": (الأسلوب هو أن تضيف إلى فكر معين جميع الملابسات الكفيلة بإحداث التأثير الذي ينبغـي لهـذا الفكـر أن يحدثـه.). (12).  ويقـول " ريفاتبر" (الأسلوب قوةٌ ضاغطة تتسلط على حاسيّة القارئ بواسطة إبراز بعض عناصر سلسلة الكـلام، وحمـل  القارئ على الانتباه إليها).(13).

ومن زاوية الخطاب، أو الرسالة: هناك من حاول إعطاء مفهوم للأسلوب انطلاقاً من النص في حد ذاته، نذكر منهم : مؤسـس المدرسة الوصفيّة في العلوم اللغويّة " فردينانددي سوسير"(1913-1857م) من خلال بحوثه المقدمة فـي هذا المجـال، وذلك حينما فرق بين وضع اللغة الكائنة بين طياّت معاجمها، ووضعها حينما تخرج إلى مجال الاسـتخدام، كـي تؤدي وضيفتها الإخباريّة المنوطة في نقل الأفكار وتوصيل للمعلومات.  ومن ثم قسم "دي سويسير" النظام اللغوي إلى قسمين:

اللّغة بكونها وسيلة لصياغة الخطاب، والخطاب، ورأى بأن "الخطاب" يشتمل على مستويين من الاستخدام هما: "الخطاب العادي النفعي" وهو خطاب مباشر يتدوله الناس في حياتهم اليومية المباشرة، والخطاب الرسمي العلمي، ومنه الأدبي الفني".  كما يُعرف " شارل بالي" الخطاب" بأنه "تفجر طاقات التعبير الكامنة في اللّغة". (14).

أما  مفهوم الأسلوب في كتابات النقاد العرب المحدثين:

فنجد منهم من يحاول أن يضيف للقديم شيئاً جديداً، ومن أبرز هؤلاء: "احمد الشايب". والذي أفرد للأسلوب كتاب خاص به وذكر فيه العديد من التعريفات من أهمها:

- (" فن من الكلام يكون قصصاً أو حواراً، أو تشبيهاً أو مجازاً، كتابةً، تقريراً، حكماً، أمثالاً . أو بتعبير آخر: " طريقة الكتابة أو طريقة الإنشاء أو طريقة اختيار الألفاظ وتأليفها للتعبير بها عن المعاني قصد الإيضاح والتأثير". أو " هو الصورة اللفظيّة التي يعبر بها عن المعاني أو نظم الكلام وتأليفه لأداء الأفكار وعرض الخيال أو العبارات اللفظيّة المنسِّقة لأداء المعاني). (15).  وهناك من العرب المحدثين:  ("سعد مصلوح" فهو قد طرح رؤيةً تدعو بطريق غير مباشر إلى ربط الأسلوب بمنشئه، وهي رؤية لسانيّة سالفة حيث يقول: (إن الأسلوب اختيار، أو انتقاء يقوم به المنشئ لسمات لغويّة معينة بغرض التعبير عن موقف معيّن). (16). وهناك: "صلاح فضل": يعرفِّه على أنه: (علم الأسلوب هو الوريث لعلوم البلاغة).(17).  ويتساءل: (ماذا أكتب إذا طلب مني أحدهم أن أوجز هذه المفاهيم بجملة أو جملتين؟ - يمكننا أن نقول: الأسلوب خاصيّة مشتركة لعدّة ظواهر في اللغة والفترة الزمنية والجنس الأدبي. أي بمعنى أن نصًا ما قد يكشف عن أسلوبيّة خاصة لكاتب معين) .(18).

ومن مجمل هذه التعريفات نستنتج الآتي:

أولا: إن الأسلوب يمثل الاختيار الواعي للكاتب من بين مدّخر واسع من الإمكانيات المتاحة. وثانيا: إن الأسلوب خاصيّة فرديّة للنص يتحكم بها الكاتب. وثالثا: إن الأسلوب هو نتيجة المعايير والمواصفات ومنطلقاتها. ورابعا: إن الأسلوب يعكس خاصيّة منشئه، وما يحيط به من ظروف تسهم في خلق النص.(19).

كما قدمت البلاغة أربعة مبادئ أساسيّة للأسلوب:

(الأول: المناسبة أو الملاءمة بين الأسلوب ومقامه النصّي (الكاتب، النص، المتلقي.). والثاني: الدقة، أي ملاءمة الأسلوب للاستعمال اللساني المعتمد في عصر معين. والثالث: الوضوح، أي استبعاد تعدد المعاني النصّية. والرابع: الزخرف، أي زخرفة الخطاب الطبيعي بالصور الأسلوبيّة.). (20).

وأياً كان تعريف الأسلوب، سواء لدى النقاد الغربيين أو العرب فإن القاسم المشترك بين هذه الآراء جميعا عن الأسلوب كما يتبين لنا هو: طريقة التعبير أو الإنشاء أو الكتابة، وطريقة اختيار الألفاظ وتأليفها والتعبير بها عن المعاني قصداً للإيضاح والتأثير، وهو العنصر اللفظي في النص، يقابله العناصر المعنويّة، الأفكار والخيال والعاطفة. وتعريفه يختلف باختلاف المنطلقات، فهناك تعريف بالنظر إلى المخاطِب (الكاتب أو المُرْسِلْ) والمخاطَب (المتلقي أو المُرْسَل إليه) والخطاب (النص، أو الرسالة). وهذا التعدد أثر في تعدد الأسلوبيات أيضاً..(21).

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

............................

الهوامش:

1- (في الاسلوب والاسلوبيّة موقع جامعة آل البيت - الباحث: محمد حسين عبد الله المهداوي). بتصرف.

2- (مجلة الرافد جدليّة الفن والمحاكاة رؤية فلسفيّة وجمالية.).

3- (رؤية فلسفية وجمالية فريدريك نتشه: مولد التراجيديا، ترجمة شاهر حسن عبيد، الطبعة الأولى 2008. اسماعيل الموسوي).

4- (قاموس لسان العرب لابن منظور . وهذا ما يقترب منه تاج العروس – والصحاح -).

5- (في الاسلوب والاسلوبية موقع جامعة آل البيت - الباحث: محمد حسين عبد الله المهداوي).

6- (عبد القاهر الجرجاني-:دلائل الإعجاز في علم المعاني، شرح د. ياسين الأيـوبي، المكتبـة العصـرية، بيـروت لبنـان، 2003،م،ص.) 132:).

7- (موقع المنهل- الأسلوب بين القدمى والمحدثين – أ- عبد القادر ج الجلفة.).

8- المرجع نفسه.

9- (موقع المنهل- الأسلوب بين القدمى والمحدثين – أ- عبد القادر ج الجلفة.).

10- (حميد آدم تويني - فن الأسلوب عبر العصور الأدبية ، دار الصفاء للنشر و التوزيع ، عمان الاردن ، ط.1 2006م ، ص.1).

11- (عدنان بن ذربل - النص و الأسلوبية بين النظرية و التطبيق ، مرجع سابق، ص.44).

12- (يوسف أبو العدوس-الأسلوبية الرؤية و التطبيق ، دار الميسرة للنشر و التوزيع، عمان، الأردن ، ط،1 2007م ،ص.30).

13- المرجع نفسه، ص.37.

14- (مجلة الأثر –العدد (30). جوان 2018.). بتصرف.

15- (أحمد الشايب، الأسلوب، مكتبة النهضة المصرية، مصر، ط،2 ،2003 ص.44).

16- (سعد مصلوح، الأسلوب دراسة لغوية إحصائية، عالم الكتب، القاهرة، ط،3 1412هـ، ص.37.).

17- (صلاح فضل، علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، ص.95).

18- (موقع الحوار المتمدن - الأسلوب والأسلوبية - حواريات حيدر مكي- ج1.).

19- (في الاسلوب والاسلوبية موقع جامعة آل البيت - الباحث: محمد حسين عبد الله المهداوي). بتصرف.

20- (في الاسلوب والاسلوبية موقع جامعة آل البيت - الباحث: محمد حسين عبد الله المهداوي).

21- (موقع موضوع - تعريف الأسلوبية في الأدب -  الكتابة بواسطة: علي طعامنه.). بتصرف.

 

(في بنية العقليَّة الاتِّباعيَّة)

أشرنا في المساق السابق إلى ما نُسِب إلى (مُجاهِد بن جَبْر بن عبدالله التغلبي، -104هـ= 722م) في تفسير معنى (الرَّهْو)، في قوله تعالى: «فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ؛ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُم مُتَّبَعُونَ،‏ وَاتْرُكِ البَحْرَ رَهْوًا؛ إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ.»(1)  إذ قال، كما قال غيره: إنَّ معنى رهوًا: يَبَسًا، قياسًا على آيةٍ أخرى، في (سُورة طه: 77): «فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا.» (2) وقلنا: إنَّ هذا بضِدِّ المعنى الدقيق للكلمة؛ مع أنَّ «يَبَسًا» في آية (طه) إنَّما تعنى لا ماء فيه، كما تقول: «بئر يابسة»، أي لا ماء فيها كالمعتاد، لكن ذلك لا ينفي بالمطلق وجود بعض الماء فيها أو النَّدَى. وأضافوا في تفسير معنى «رَهْوًا»: ساكنًا، وهذا لا معنى له هاهنا. وقالوا: واسعًا. وقالوا: قائمًا ماؤه. وقالوا: سهلًا دمثًا... إلخ. وهكذا تلحظ إبعاد المفسِّرين في الفهم والتفسير. وهي، كما ترى، أشبه بالتخمينات، منها بالتفسيرات؛ لأنَّ القوم لا يعرفون أصلًا معنى المادَّة (رَهْو)، على حقيقته في العَرَبيَّة، وفي مثل هذا السياق تحديدًا، وإنَّما ينقلون، ويقارنون، ويروون، وتتضارب عليهم المعاني والروايات، فيَخلُصون إلى تفسيرات شتَّى، وكأنَّ «القرآن» لم ينزل بلسانٍ عَرَبيٍّ مبين. وهو قد نزل كذلك، وكثيرٌ من مفرداته ما برحت حيَّة على ألسنة الناس في اللهجات العَرَبيَّة إلى اليوم؛ غير أنَّ معظم هؤلاء الذين فسَّروا لنا أعاجم؛ فجاء عملهم أشبه بالترجمة عن لُغة أجنبيَّة. بل إنَّ المترجِم لا يحار تلك الحيرة، إذا كان يعلم اللُّغة المترجِم عنها جيِّدًا.

والأَوْجَه- في ضوء بعض العَرَبيَّة الحيَّة من خلال اللهجات التي ما زالت تَستعمل هذه المفردة (رَهْو)- أنَّ معنى الآية: واتْرُك ثرَى البحر مُبْتَلًّا: أي: اتْرُكْه لا ماء فيه إلَّا بمقدار الرَّهْوَة، وهي: الطَلُّ، والنَّدَى، والبَلَل اليسير. والكلمة مستعملةً في لهجات (فَيْفاء)، مثلًا، بهذا المعنى إلى الآن، وربما في لهجات أخرى. فقوله: اتْرُك البحر رَهْوًا، أي نَدِيًّا، لكي يَغترَّ بذلك فرعونُ وجنوده، فإذا هم يغرقون في ما كان في نظر العَين رَهْوًا، أو رَهْوَةً، أي بَلَلًا، كأيسر ما يكون! على أن معجمات العَرَبيَّة نفسها قد خاضت المخاض نفسه؛ لأنها تتكئ على جمعٍ لُغويٍّ ناقص، أُهمِل فيه كثير ممَّا أشار (أبو عمرو ابن العلاء) إلى أنَّه ما انتهى إلينا منه إلَّا أقلّه. ولن تعدم في اللهجات العَرَبيَّة الحديثة بعض ما ضيَّعه اللُّغويُّون وأهملته مدوَّناتهم. وأَشْبَه ما نجده في كتب العَرَبيَّة بالمقصود قولهم: الرَّهْوُ: المَطَر الساكن. وقولهم: اتْرُكِ البحْرَ رَهْوًا؛ يعني: تَفَرُّق الماء منه. وقيل: رَهْوًا أَي دَمِثًا. وما عداه ضربٌ من التخمين، لا من التفسير.

أمَّا قول مجاهد بأن معنى (الحُور العِين): «أَنْكَحْناهُمْ حُورًا عِيْنًا يَحارُ فيها الطَّرْفُ»(3)، فيبدو أيضًا عن عدم معرفةٍ بمعنى (الحُور العِين)، عند العَرَب، وإنَّما هو يربط بين (الحُور) و(الحَيرة)، و(العِين) و(طَرْف الناظر بعينه إلى جمالهن)! وكأنَّ معنى «الحُور العِين»: اللَّائي يحار فيهن الناظر، لا على أنَّ ذلكما نعتان لعَينَي المرأة، بصفتَي (الحَوَر) و(العَيَن). والقائل بهذا كذلك لا يرجع إلى شواهد العَرَبيَّة، بل ينطلق من فرضيَّات وروايات وخواطِر فرديَّة، تضرب أخماسًا بأسداس.

وكُنَّا قبلئذٍ قد رأينا ترنُّح المفسِّرين في فهم كلمة (جَدٍّ)، في الآية «وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا»، وتقاطرهم مردِّدين القول: إنَّه «عُنِي بذلك الجَدُّ، الذي هو أبو الأب، وقالوا : ذلك كان جَهْلَةً من كلام الجِنِّ»! والحقُّ: إنَّ هذا القول كان جَهْلَةً من جَهَلَة الإنس بالعَرَبيَّة التي جاء بها «القرآن»، ولا علاقة للجِنِّ المفترَى عليهم بالموضوع من قريبٍ ولا بَعيد. أولئك الإنس من متعاطي التفسير، في القرن الثالث الهجري أو الثامن الهجري، وهم لم يسمعوا كلام العَرَب، كما يشهد عليهم كلامهم، وقلَّما كلَّفوا أنفسهم بالعودة إليه حينما يتصدَّون لفهم ما تصدَّروا له من تفسير نصِّ «القرآن الكريم»، الذي جاء بلسانٍ عَرَبيٍّ مُبين، لا بلسان الجِنِّ والشياطين. لم يسمعوا مثلًا، في ما لم يسمعوا، قول الشاعرة الجاهليَّة (سُعْدَى بنت الشَّمَرْدَل الجُهَنِيَّة)(4)- لا الجِنِّيـَّة!- وهي تُنشِد في رثاء أخيها (أسعد)، الذي قتلتْه (بَهْزٌ، من بني سُليم بن منصور):

ذَهَبَــتْ بِـهِ بَهْـزٌ فَأَصـْبَحَ (جَـدُّها) ::: يَعْلُو وَأَصْبَحَ (جَـدُّ) قَـوْمِيَ يَخْشـَعُ

 ولعلَّ في هذا، وفي ما تقدَّم من هذا السياق، ما يُغني عن تتبُّع نظائره من التفسيرات، أو قل: من التخمينات.

-2-

وفي مقابل هذا يُصدَم العَرَبيُّ بتنطُّعات لُغويَّة جديدة قديمة، وسلفيَّات تافهة، تسعى إلى تجميد اللُّغة في ثلَّاجة ما نطقَ به بعض القدماء، قبل ما يربو على ثلاثة عشر قرنًا، إبَّان ما سُمِّي بعصور الاحتجاج، مع جهلٍ بلسان تلك العصور أصلًا. من شواهد هذا أن قد تسمع تفيهق هؤلاء حتى في قراءة «القرآن» بطرائق مبالغ فيها من القلقة والإقلاب، ونحوهما مما لا أحسب إنسانًا عَرَبيًّا سَوِيًّا نطق بمثله قط، لا في تجويد «القرآن» ولا في غيره. وتلحظ ذلك لدَى الإخوة الأزهريِّين بخاصَّة، حتى أصبح هذا مجال تندُّرٍ في السينما المِصْريَّة، منذ (إسماعيل ياسين)، وغيره. ولقد وصفَ لنا أمثالَ أولئك (طه حسين) في سيرته «الأيَّام»، ممَّن يفتنهم التشدُّق، وتفخيم الكلام، ونفخ الأوداج به حين ينطقون، وكأنَّ أحدهم نُفَساء ساعة مخاضها المتعسِّر. مشوِّهين لغتنا الجميلة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ظانِّين أنَّ تلك هي لغة العَرَب الفصحاء، لا لغة العامَّة والدَّهماء، فإذا هم يُغالون في المدِّ، والغن، والإخفاء، والإدغام، والقلقلة، والإقلاب، بصُوَرٍ عجيبة. ولعَمري ما ذلك الزُّحَّار المتكلَّف لديهم بلُغة العَرَب، ولا العجم، ولا الإنس، ولا الجان. هذا فضلًا عن ارتجالهم التفسير ارتجالًا، كذلك الشيخ الذي سُئل عن الآية «وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا»، فأجاب باطمئنان: أي خلقكم كالثِّيران، لا تعقلون شيئًا! وليست تلك بظاهرة منقرضة- سادت أيَّام الجيل الذي صوَّر بعض نماذجه طه حسين(5)- بل ما زال بعضهم بيننا، تسمعهم في أحفاد أولئك السَّلَف وأسباطهم ونظرائهم. حتى لقد قدَّم أحدهم مؤخَّرًا قراءة جيِّدة لكتابٍ تراثيٍّ في اللُّغة والأدب، نشرها على موقع «يوتيوب»، لولا أنه ظلَّ في قراءته يُضحِك الثكلَى، بطريقته المتكلَّفة، التي لا تفرِّق بين تجويد «القرآن» وغيره من النصوص، حتى إنَّه ليكسِّر الأوزان الشِّعريَّة تكسيرًا بتلك التلاوات التجويديَّة، بما فيها من القلقة والإقلاب؛ لأنه لا يعي أنَّ تلك المواريث المبتدعة في القراءة، إذ تشوِّه النصَّ القرآنيَّ نفسه أحيانًا، لا يصحُّ تطبيقها على الشِّعر بحالٍ من الأحوال. والكُتب المسموعة اليوم- مع كونها خدمة ثقافية رائعة- لا تنجو من تطفُّل طائفتين من القرَّاء: قارئ جاهل، يكاد لا يُحسِن قراءة جملةٍ واحدةٍ بلا ارتكاب فواحش نحويَّة ولُغويَّة، تجد معها عَرَبيَّة (اللِّمبي)، في فيلم «اللِّمبي في الجاهليَّة»، خيرًا من عَرَبيَّته! ولا تدري ما دافع أمثال هؤلاء الأُميِّين لتقديم قراءات شوهاء لكُتب التراث؟! وطائفة مقابلة، تشوِّه اللُّغة أيضًا بقراءتها، التي لا تدري كيف تصف تكلُّفها في النُّطق والتفخيم والتشدُّق والتَّفَيْهُق. مع أنَّ أبناء هذه الطائفة الأخيرة، غالبًا، لا يجهلون الحديث النبوي: «أبْعَدُكُم منِّي مجالِسَ يومَ القِيامةِ الثَّرثارونَ المُتَفَيْهِقون.»

يحدُث هذا وذاك على الرغم من أنَّ الأصل في اللُّغة أنها وسيلة تعبير، وهي كائنٌ اجتماعيٌّ حيٌّ، ينمو بحياة الإنسان ويتطوَّر بتطوُّرها. خذ، على سبيل الشاهد، ما راج ويروج من تشنيعٍ على من يستعمل صفة «يتيم» لمن فَقَدَ أُمَّه، وتقريع مَن قال ذلك، والزعم أنَّه لا يوصف باليُتم من فَقَدَ أُمَّه، وإنَّما ذلك في عالم البهائم! قائلين: اليتيم: مَن فَقَدَ أباه فقط، وأمَّا مَن فَقَدَ أُمَّه، فهو العَجِيُّ، أو المنقطع، ومَن فَقَدَ الأبَ والأُمَّ: اللَّطيم! وكأنَّ هذه الكلمات المعجميَّة مقدَّسة، أو أنزلها الله في كتابه، وأمر بعدم تغييرها، وتعبَّدنا بالتمسُّك بها! على حين أنَّها لا تعدو صفات، جاءت لتصوِّر واقع الحال قديمًا، والحال متغيِّرة. فلقد كان الأبُ قديمًا هو الراعي؛ فإذا فُقِد تيتَّمت الأُسرة جميعًا. وما كانت كذلك الأُمُّ؛ لحال المرأة عمومًا في تلك الأزمنة. وهذا واقعٌ قد تغيَّر اليوم. بل إنه لم يكن واقعًا شاملًا لجميع الأزمنة والبيئات والظروف في الماضي نفسه. ومعنى كلمة (يتيم)، في الأصل: المفرَد، الخالي من مُعِينٍ ونَصير. هذا هو الأصل؛ فمن انفرد عمَّن يَعُوْلُه ويَعتمد عليه، فهو يتيمٌ لُغةً، حقيقةً أو مجازًا. حتى لقد نُسِب إلى (علي بن أبي طالب) البيت:

لَيْسَ اليَتِيمُ الَّذِي قَدْ ماتَ والِدُهُ ::: إِنَّ اليَـتِـيمَ يَتِـيمُ العِلْمِ والأَدَبِ

وبالحريِّ القول: إِنَّ اليَتِيمَ يَتِيمُ الأُمِّ والأبِ، معًا أو يَتِيمُ أحدهما. على أنَّ الرعاية للإنسان ليست ماليَّة مادِّيَّة فحسب، بل هي نفسيَّة، قبل ذلك وبعده. والطِّفل في كثيرٍ من الحالات عالةٌ على أُمِّه لا على أبيه، ماديًّا ومعنويًّا. أفإنْ وُصِف الطِّفل بأنَّه يَتِيمٌ لفَقْد أُمِّه، عُدَّ ذلك منكَرًا من القول وزورًا؟! أيُّ عمًى بعد هذا، أو جمود لُغوي، أو تعطيل لطاقات التعبير. وما وُصِف الحيوان الفاقدُ أُمَّه بصفةٍ خاصَّةٍ (يتيم) إلَّا لأنَّ اعتماده على أُمِّه لا على أبيه. وما كذلك الإنسان. بل الأصل في الإنسان أنه يعتمد على الاثنين؛ من حيث هو يعيش في أُسرة لا في غابة، فإذا فَقَدَ أحد مؤسِّسَيها، أُفْرِدَ، وتَيَتَّمَ. ولذلك جرى العُرف الاجتماعي في التعبير بخلاف محفوظ اللُّغة في بعض كتبها التراثيَّة، فصار يوصف باليُتْم مَن فَقَدَ أباه أو أُمَّه أو كليهما، وما عاد ثمَّةَ اليوم من عَجِيٍّ، ولا لَطيم، والعياذ بالله!

ثمَّ إليك ما يقوله أحد الأعراب القدماء جِدًّا- وهو من الذين يتمسَّك المتنطِّعون بلُغتهم، التي عبَّرت عن زمانهم وظروفهم، حَذْوَ القُذَّة بالقُذَّة- وهو (حُمَيْدُ بن ثَوْرٍ الهِلالي، -30هـ= 650م)(6)، والرَّجُل يُعَدُّ صحابيًّا، وهو شاعرٌ مُخَضْرَمٌ، لكنه، مع الأسف، لا يُحسِن العَرَبيَّة السليمة، بمقاييس أولئك المتفيهقة، إذ يقول:

يَظَــلُّ بِــهِ فَــرْخُ القَطَـاةِ كَـأَنَّهُ ::: يَتِيمٌ جَفَتْ عَنْـهُ المَراضِيعُ رَاضِعُ

فيُسمِّي مَن فَقَدَ أُمَّه، فجفتْه المرضعات: «يتيمًا»! فيا له من جاهل بالعَرَبيَّة الصحيحة، التي يعتنقها بعض فِراخ القطا من المعاصرين! لِـمَ لم يقل «عَجِيٌّ جَفَتْ...»، مع أنَّ الوزن يستقيم له بذلك؟!

[وللحديث بقايا].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..................

(1) سُورة الدُّخان: الآيات 22- 24.

(2) يُنظَر: البخاري، (1981)، صحيح البُخاري، ضبط وتعليق: مصطفى ديب البُغا، (دمشق، بيروت: دار القلم)، 4: 1822.

(3) يُنظَر: م.ن.

(4) يُنظَر: الأصمعي، (1993)، الأصمعيَّات، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر وعبد السلام هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 103/ 18.

(5) يُنظَر: (1992)، الأيَّام، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر)، مثلًا: 64، 70، 74، 95، 113، 116.

(6) (2010)، ديوان حُمَيْد بن ثَوْر الهِلالي، تحقيق: محمد شفيق البيطار، (أبو ظبي: هيئة أبي ظبي للثقافة والتراث)، 313/ 2

 

دولة حديثة، لا دينية ولا علمانية

دعوة الدكتور الرفاعي إلى إقامة دولة مدنية حديثة بعيدة عن مقتضيات علم الكلام القديم، والجديد وسطوته التي أعادت بعض الجماعات والأحزاب الدينية المعاصرة إنتاجها بعد أن استلهمت النموذج القديم، وأعطت ظهرها للتطورات الحديثة في بناء الدول..هذه الدعوة تشهد دون أدنى شك على حرص الدكتور الرفاعي ومسؤوليته االأدبية والأخلاقية والقانونية والشرعية، وما يحمله من روح انفتاح حقيقية واطلاع على ما هو موجود من نظم سياسية وفلسفية وديمقراطية حديثة في عالم اليوم، لا يمكن للدولة الإسلامية القديمة أو الدولة القائمة في دار الإسلام الحالية تجنبُ النظر إليها. والدولة التي هي "ظاهرة اجتماعية مركبة" كما يقول، "أعمقُ وأعقد مؤسسة ابتكرها الإنسان" وهي ظاهرة حيّة، تنمو وتتطور مفاهيمها، ويعاد تكوينها تبعًا لتراكم تجربتها وتنوّعها عبر الزمان.

والإشكالية الرئيسية التي يتعذر معها بناء "دولة حديثة" من هذا النوع هو، كما يقول أيضا، الدينُ بمعناه الكلامي والفقهي القديم..."الدين الذي ينصُّ على التمييز بين المسلم وغير المسلم، والرجل والمرأة، السيد والعبد"(١)، وهو يشير إلى أن مفهوم (المسلم) غيرُ مفهوم (المواطن) الذي تقوم عليه الدولة الحديثة، باعتبار أن "المسلم بمعناه الكلامي والفقهي يتحدث لغةً، وينتمي إلى مجال تداولي غير الذي يتحدث به مفهوم المواطن، والمجال التداولي الذي يتموقع فيه". (٢)

وهكذا، يبدو خيار الدولة المبنية على أسس إدارية ودستورية وقانونية جديدة بعيدة عن التصورات التراثية السابقة بهذا الخصوص، خيارًا محسومًا لدى الدكتور الرفاعي، ولكن السؤال عن الكيفية التي تبنى بها هذه الدولة في الإطار الإسلامي الذي يمثله هو نفسُه، سيظل مع ذلك قائما، على الرغم من معارضته الجذرية لدعاة الدولة الإسلامية العصرية المستنسخة عن الماضي، وتلك التي تتلبس مضطرة بلبوس (الدولة المدنية) الحديثة، مع عدم إيمانها بروحها وإطرها التشريعية والقانونية المختلفة عن الدولة الحديثة. إذ كيف يمكن الفصل بين هذه الدولة المتصورة، وبين صورتها العلمانية التي ارتبط بها تكوين ونشأة الدولة الحديثة في أوربا، التي تمثل المصدرَ والأساس لبناء هذه الدولة في نموذجها المبني أو الذي يُراد له أن يُبنى على مثالها في بلد مثل العراق على سبيل المثال، ما زالت بعضُ الأحزاب (الإسلامية) تحتل مواقع سياسية مسيطرة ومؤثرة في إدارة وتوجيه دفة الحكم فيه...؟

وإذا كانت حقوقُ الإنسان وحرياتُه هي الأساس في بناء الدولة الحديثة في عرف الدكتور الرفاعي، في حين تبقى حقوق الله بالمعنى الذي يقرره علمُ الكلام والفقه التقليدي هي الأساس في بناء الدولة الدينية السابقة، فهل يكفي ما يسميه وجود "دين الحقوق الروحية والأخلاقية والجمالية التي تتقدم فيه حقوق الإنسان على حقوق الله" لضمان حضور الدين بصورة فاعلة في بناء هذه الدولة؟ وماذا يمكن أن يقال عن تلك الدول الغربية والشرقية الحديثة التي حققت هذا النوع من المستوى الأخلاقي الرفيع دون وجود دين إسلامي أو غير إسلامي كمضمون أو معتقد لهذه الدول؟

ألم يقل بعضُ فقهائنا السابقين إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة...؟ ألم يزل بعضُ الناس في العراق وخارج العراق يرون في بعض الحكام العرب صورة الطاغية العادل التي تكلم عنها بعضُ فقهائنا ضمن ظروف وسياقات تاريخية معينة في الماضي؟

فما يعني الناس في النتيجة أن الأساس في شرعية الدولة أو عدم شرعيتها هو مدى قدرتها على إقامة العدل بمفهومه الواسع بين الناس، بصرف النظر عن شكل هذه الدولة ونوع المصطلحات التي تستخدمها.

والسؤال، مرة أخرى، هو: ما موقعُ الإسلام أخلاقا وأدبًا وروحًا في بناء هذه الدولة، وما هي الضمانة التي يتمّ عن طريقها تحقيق الرهان على وجوده...؟

ونحن لا نريد بهذا العودة إلى مثل ما يقوله وائل حلاق من (استحالة الدولة الإسلامية) لما تنطوي عليه من تناقض، إذا ما حكمنا عليها بمعايير الدولة الحديثة. ذلك أن المقارنة بين تاريخ الإسلام ما قبل الحديث والتاريخ الغربي الحديث، قانونًا وسياسة وأخلاقًا ومؤسسات، تكشف أن الحداثة تعاني مأزقًا أخلاقيًا يجعل من المستحيل قيام مشروع يستند إلى الأسس الأخلاقية وحدها.

إنها، كما نرى، إشكاليه أو مفارقة لا تحل بحسن النوايا، ولا بالعبارات الإنشائية الجميلة أو الخطابات المرسلة دون تحديد أو تعيين واقعي. وما دمنا نعترف بالإشكالية التي نجد أنفسنا فيها غيرَ قادرين على الإفادة من جانب من تراثنا الديني والمدني والنموذج الذي بنيت دولة الخلافة الإسلامية السابقة على أساسه، فنتجّه مختارين أو مجبرين إلى النموذج الغربي الميهمن لنأخذ منه، ونبني دولتنا الجديدة على صورته، فلماذا نقف في منتصف الطريق، أو عند خط التقاطع بين ماض نقول إنه ذهب ولن يعود، وحاضر مختلف وغريب يضغط بكل ثقله علينا، ويختلط في زمنه الثقافي المركب الحاضرُ الراهن مع الماضي البعيد في إطار شعور أو لاشعور معرفي واحد. وهو سؤال غير شخصي يطرحه كثييرٌ من الناس وهم يرون مقدار الفساد والأذى الذي يلحق بهم من رجال دين فاسدين يتصدرون سدة الحكم ويحكمون باسم الدين.

لقد انتهت قراءةُ الأوربيين لتراثهم الديني المقدس قراءةً هرمنيوطيقية إلى نتيجة واضحة وصريحة مفادُها ضرورةُ فصل الدين عن الدولة. وهي خطوة حاسمة في تاريخ الحضارة الأوربية ما كان بالإمكان تخطي هيمنة الكنيسة ورجال دينها في القرون الوسطى دون إنجازها. وقد ترافقت مع الثورات السياسية التي عرفتها فرنسا وبريطانيا وما فعله البروتستانتيون بقيادة مارتن لوثر في ألمانيا القرن السادس عشر، وانتهت معها عهود التحالف بين الإقطاع ورجال الدين، وفتحت الباب للعلمانية (Laïcité,Secularism)،* التي لا نستطيع نحن بناء الدولة على أساسها لأكثر من عامل وسبب، حتى إذا كان هناك شعور لدى كثير من مواطني الدولة عندنا بأنهم يعيشون من الناحية العملية في إطار هذه العلمانية أو ما هو قريب منها مع عدم وجود اعتراف رسمي أو دستوري بها.

وفي المجتمعات الغربية الحالية، يتم تحديد درجة الفصل السياسي بين الكنيسة باعتبارها مؤسسة روحية لا علاقة لها بالسياسة، والدولة المدنية من خلال الهياكل الإدارية والأطر القانونية المقررة. وهي أطرٌ تحدد العلاقة بين الدين والدولة، وترسم نمط هذه العلاقة بين الدولة والكنيسة بوصفهما كيانين منفصلين ومستقلين عن سلطة بعضهما البعض. ولم يكن اعتراف الكنيسة المتأخر الذي جاء على لسان البابا بندكت السادس عشر عام ٢٠٠٥ ب " أن اللامساواة الجائرة، وأشكال الإكراه المختلفة، التي تطال اليوم الملايين من الرجال والنساء تتنافي تنافيًا صريحًا مع إنجيل المسيح، ومن شأنها ألا تدع ضمير أي مسيحي مرتاحًا"(٣) ليتحقق لولا ما فرضته هذه الثورات من واقع سياسي أجبرت الكنسية على النظر بطريقة أخرى إلى هذه العلاقة.

وذلك لا ينفي طبعًا وجود الانتهاكات التي يتعرض لها القانون بين حين وآخر في هذه الدولة أو تلك من قبل أفراد وجماعات وحتى حكام، يبقون غير قادرين على إخفاء مشاعرهم العنصرية، واعتراضاتهم العلنية أو المضمرة على تطبيق القوانين الديمقراطية عليهم وعلى غيرهم من ذوي المذاهب والجنسيات الأخرى في مجتمعاتهم بصورة متساوية.

والدكتور الرفاعي الذي يعي جيدا أن الإنسان عندنا ما زال يخضع (لمشروطيات) النص الديني، فيدعو إلى (تحيين) هذا النص، وجعله "معاصرا لنا" لا يشرح لنا بدقة الكيفية العملية التي نذهب بها إلى تطبيق هذا التحيين. وهو ما يؤدي إلى الشعور بمشاعر الخيبة لدى الإنسان أحيانا لدى اكتشافه أن حسابات البيدر غير حسابات الحقل. فهل يمكن القبول، مثلا، بتجربة أتاتورك في تركيا، أو الحبيب بورقيبة في تونس بداية القرن الماضي وحوالي منتصفه في مسائل اجتماعية محددة تفرضها بعضُ الأحكام الدينية مثل رفع الحجاب، وتحريم الزواج بأكثر من واحدة، أو إباحة شرب الخمر، ولو بشروط وقواعد، تخفف المنع عنها في دولة مثل العراق من الناحية الرسمية، تفاديًا لما يجري من انتهاك لهذا التحريم بأكثر من سبيل وطريقة، من الناحية العملية...؟

والدكتور الرفاعي يرى أن ما يجعل هذا التحيين الذي تتطلبه القراءة الهرمنيوطيقية للنص الديني ممكنًا هو أن في كل نص هامشًا حرّا مفتوحًا للقراءة، ولكنه لم يحدد لنا مثل هذا الهامش بطريقة عملية واضحة.

وهل يمكن القول مثلا أن مسألة الحجاب غير ملزمة للمرأة المسلمة اعتمادًا على ما ذكر من أن الأمر في نزول الآية الكريمة الخاصة بالحجاب كان متصلًا بنساء الرسول؟ وهل يمكن أن يكون تمام الآية الخاصة بتعدد الزوجات "فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً"، (النساء 3) هو هذا الهامش الذي نبحث عنه؟ وكيف السبيل إلى هذه العدالة التي يتصل تحقيقها بمشاعر وعواطف بشرية لا سبيل إلى السيطرة عليها، ولا يكفي لتحقيقها اللجوء إلى فرض مجموعة من الوسائل المادية والتنظيمية أو القانونية المحددة؟ في حين أن البديل لا بدّ أن يكون واضحا وحاسما، حتى إذا تعارض تعارضًا صريحًا مع الأحكام الدينية التي كانت نتاجًا لواقع تاريخي مختلف.

وهل يمكن، قياسًا على ذلك، الأخذ بالسياقات التاريخية المتدرجة التي أدت إلى تحريم الخمر في سورة المائدة، فيما كان هذا التحريم مفروضا قبل ذلك فقط على المسلمين الذين يقربون الصلاة وهم سكارى، في سورة النساء؟ أم أن هناك طريقة أخرى لتحيين النصوص الدينية لا نبدو قادرين على إدراكها؟

وكيف تتم هذه القراءة الجديدة للنص القرآني بما يجعله قادرًا على "تخطي المسافات وعبور غربة الزمن وتحيينه في مختلف العصور" (٤) إذا لم نستطع التعامل بصورة عملية واضحة مع إشكالات اجتماعية ضاغطة وعابرة للزمن من هذا النوع؟

ونحن نذكر هذه الموضوعات كمجرد أمثلة لمشاكل اجتماعية وقانونية قائمة نتيجة الالتزام الحرفي بالمحرمات الدينية وقراءاتها التأويلية الخاطئة عبر العصور الإسلامية المختلفة. ونورد ذكر الحجاب وتعدد الزوجات وتحريم الخمر كنماذج من أخرى كثيرة، لم نستطع التوصل فيهما إلى مقاربة دينية وأخلاقية وقانونية يمكن أن نخرج بها من نطاق التحريم الديني المطلق المطابق للنص الحرفي للآيات القرآنية، إلى نوع من الضوابط والقواعد الأخلاقية والدينية التي تراعي الحاجات الاجتماعية القائمة في عالم اليوم من ناحية، وكون الخمر، مثلا، تقليدا وعادة لها تاريخ طويل في المجتمع العراقي، ولم تستطع المحرمات الدينية بصيغتها الحرفية القائمة في الماضي والحاضر تقليلَ اللجوء إليها، حتى في أشدّ العهود الإسلامية صرامةً وبطشًا، فضلا عن وجود ديانات عراقية أخرى لا يشملها هذا التحريم.

وما نراه من موقف السلطة الحالية القائمة في العراق بهذا الخصوص، يبقى مثيرا للتساؤل والقلق. وهو لا يزيد، في الواقع، على أن يكون موقفا منافقا لا يسمح بتعاطي الخمر أو المتاجرة بها من الناحية العلنية، ولكنه يستغلّ تجارتها وحتى تعاطيها على نحو بشع وغير أخلاقي، من الناحية العملية.

علمًا بأن أبدية النصوص المقدسة التي يشير إليها الدكتور الرفاعي، ليست مرتبطة بما تحمله أو لا تحمله هذه النصوص من هذه الهوامش فقط، بل أيضا بما تنطوي عليه من روح إنساني كاشف عن سياقات تاريخية واجتماعية ومعنوية محددة. فالملاحم اليونانية والمسرحيات الكلاسيكية القديمة قد ظلت هي الأخرى عابرة للزمن مع أنها ليست مقدسة. وما زلنا نقرأ بعضَ نماذج الشعر الجاهلي التي سبقت ظهور الإسلام ونزول القرآن الكريم لما فيها من مضامين إنسانية ولغوية كاشفة عن أنماط حياة وتعبيرات فنية وبلاغية لم يتردد المفسرون المسلمون أنفسهم من الاستعانة بها لتوضيح لغة النص القرآني، تمامًا كما يستخدم النص القرآني نفسُه لفهمها، أحيانا أخرى.

وسنرى أن فلسفة الههرمنيوطيقا أو علم التأويل (hermeneutics/ interpretation) التي نتكلم عليها كأداة وجهاز لفهم النصوص المقدسة وغير المقدسة وتحليلها ورؤيتها في إطارها التاريخي وموقعها في الوجود الإنساني بطريقة أفضل، ستبقى غيرَ ذات جدوى ما لم نكن قادرين على الإفادة منها في إجراء تعديلات عملية في حياتنا التي يلعبُ التطبيقُ الخاطئ لبعض النصوص دورًا سلبيًا فيها، ويدعونا التفسيرُ الهرمنيطيقي إلى رؤيتها بطريقة أخرى تجعلها "معاصرة لنا" حقا.

ونحن نقرأ للدكتور الرفاعي، على سبيل المثال، هذا النص من النصوص التي لها صلة ببناء الدولة الحديثة:

"علوم الدين حقلٌ من حقول المعرفة العامة، وهي محكومة بمنطق الخطأ والصواب وتطور الوعي البشري المحكومة به المعارفُ كلُّها. علوم الدين التي تضعنا في أفق العصر وأسئلته ومتطلباته يجب أن تنبني على  مسلّمات معرفية، مضمونها لانهائية المعرفة ولا أبديتها، وعدم بلوغ هذه المعرفة مدياتها القصوى في أيّ زمان؛ وليست هناك أصول وقواعد أبدية يمكن استعمالها لكلّ زمان في فهم الدين وقراءة نصوصه. فكل عصر ينتج أصول فهمه للدين وقواعد تفسيره لنصوصه في سياق تطور علوم الإنسان ومعارفه". (٥)

وفيه نرى هذا النمط من رجال الدين الملتزمين التزامًا روحيًا وأخلاقيًا صادقًا، يفتحون هذه الفسحة الواسعة من الحرية التي يمكن أن نبني دولتنا الحديثة في إطارها بسبب من إدراكنا لصعوبة إقامة هذه الدولة بناءً على تصورات كلامية وفلسفية تراثية أو معاصرة يحاول أصحابها التغطية على فشلهم الفكري لصالح استمرارهم في توفير مصالحهم السياسية والدنيوية. وكما أن أسوأ تزوير للفلسفة هو استخدام اسم الفلسفة ضدّ الفلسفة، كما يقول الدكتور الرفاعي، يمكن القول على النحو نفسه: إن أسوأ تزوير للدين هو استخدام هؤلاء المتدينين اسم الدين ضد الدين نفسه.

وسواء كان موقف الدكتور الرفاعي ناتجًا عن قراءة عميقة للفلسفة الهرمنيوطيقية والنظم السياسية الأوربية القائمة في عالم اليوم، أم عن غيره، فإن صوته هنا يمثل الخلاصة المطلوبة التي تدعم بناء دولة حديثة خالصة من أوهام صلاحية الدين وأبديته في هذا الجانب أو ذاك خارج حقل التأويل لنصوصه بما يتناسب مع أوضاع العصر. علما بأن ما يقوله هنا يُعدّ، في جانب منه على الأقل، تأكيدا لدولة قائمة على نحو ما بالفعل، وبما يجعله نوعًا من تحصيل حاصل. فهذه الدولة موجودة على ما يعتور بعض جوانبها من نقص، ولا أحد حتى من رجال الأحزاب الدينية المشاركة فيها يدعو إلى تطبيق الشريعة وإقامة الحدود التي تقتضيها صورة الماضي القاتمة في الدولة الإسلامية السابقة. وما سمعه الدكتور الرفاعي مرة وأثار انزعاجه في بغداد من أحد السياسيين وهو يتكلم إلى الطلاب في إحدى الجامعات بما هو شرعي وما هو غير شرعي دون مناسبة، يظل عابرًا ولا قيمة له، وقد اعتدنا أن نراه لدى أنصاف المتدينين، مثلما نراه لدى أنصاف المثقفين في هذا الوقت وكلّ وقت.

***

الدكتور ضياء خضير

..................

الهوامش

١- عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، دار الرافدين ، بغداد، ط٣ ، ص٩٤

٢- نفسه، ص٩٥

٣- الحرية المسيحية والتحرر، بندكت السادس عشر، مجمع العقيدة والإيمان، ترجمة ومنشورات اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، جل الديب 1986، فقرة 2

٤- الدين والاغتراب الميتافيزيقي ، ١٦١

٥- نفسه، ص ١١٥-١١٦

يُقْبِلُ عيدُ الأضحى في عامه هذا والمجتمعات العربية -بشكل خاص- ترزح تحت وطأة الحرب والظلم والإجرام مثل الذي نشهده منذ عدة شهور في غزة الفلسطينية والسودان، ولا نعرف أيَّ طعمٍ سيتذوقُ أهلُ هذه المناطق مع عيدٍ يفترض أنّه يحمل في طياته السعادة والفرح وفقا لأبجديات العيد وفلسفته، ولا نملك حقَ دفع الجميع إلى محاكاة السعادة واصطناعها في ظل ظروف لا تلامس كرامة الإنسان ولا تحمي حياته وأساسياتها، إلا أننا بدافع من إدراكنا لفلسفة العيد ومقاصده العميقة نسعى إلى مقاومة هذه الظروف وبشاعتها، وهذا ما يمكن أن يصنع امتزاجا بين الفرح الذي يجسّده العيدُ في النفوس وبين الأسى الجاثم على صدور المظلومين الواقعين تحت وطأة الحروب وقسوتها، وشهدنا مثل هذا الامتزاج في عيد الفطر المنصرم في وجوه أهل غزة وإن كان ما يصلنا عبر الشاشات والأخبار لا يعكس واقعا مطلقا بل يفتح نافذةً ترينا شيئا يسيرا من الواقع. بعيدا عن الحروب ومآسيها، كذلك يأتي العيد في زمن الطفرة الرقمية التي أحدثت تغييرات في بعض ملامح العيد ومقاصده خصوصا في الزوايا الاجتماعية، وهذا ما سنعدّه أيضا متغيرات تقتحم ممارستنا الاجتماعية والمجتمعية في الأعياد.

لا أريد التحدث في هذا المضمار المتعلق بالعيد وفلسفته من منطلقات الرأي الآخر عبر كشف ما يقوله الباحثون والمهتمون بالشأن الديني والثقافي والفلسفي والاجتماعي، بل أتناول حديثا ينطلق من منطلقات ذاتية تعكس الرأي الشخصي لأستوضح بواسطتها ما يمكن أن يكون في دائرة الظن اليقيني -من حيث نسبيته الذاتية-. تؤكد مداركنا الواعية بأن للعيد فلسفته الخاصة من منطلقات المقاصد الكثيرة التي تفيض منه سواء الدينية "التعبديّة" أو الاجتماعية أو النفسية، ويتكيّف إدراكنا هذا من منطق العادة التي يمكن أن نقول أنها من مفرزات جيناتنا الوراثية التي جُبلت غريزةً على توظيف السعادة الجمعية التي تتفق على حصولها وممارستها الأديانُ أو الثقافاتُ، وعيدنا في الإسلام له جذوره التعبديّة التي تنطلق من مبادئ التقرّب إلى الله، ولهذا نجد أن ما يميّز عيد الأضحى اقترانه بموسم الحج الذي يجسّد الاجتماع الإنساني الكبير حيث تنتفي كل أشكال التباينات الإنسانية المتعلقة بالمال والمناصب والمستويات الاجتماعية؛ فالجميع سواسية يؤدون شعائر الحج وفق فلسفة تتبنى أعلى معايير الأخلاق وضوابطها، وتتجلى صورة الحجاج بملابس إحرامهم البيضاء؛ فترسّخ معنى أن تكون فردا سويا يقصد القرب من الله ويمارس شعائر الحج التي تعبّر عن الانسجام الجماعي ونظامه، وبمجرد أن تنقضي هذه الأركان تفيض القلوب رغبةً في نيل الثواب والقبول؛ فينعكس السرور في قلب الحاج بعد إتمامه لهذا الفرض العظيم، وينعكس معه السرور في قلب كل مسلم يعيش لحظات هذه الأيام المباركة في كل بقاع الأرض، وتُترجمُ هذه المشاعرُ إلى ممارسات تعكس سعادة الإنسان، وهذا ما يأتي في صورة العيد ومقاصده الاجتماعية وقبلها النفسية التي تجد لها متنفّسا من ضوضاء الحياة ومشكلاتها؛ فنجد مظاهر البهجة في أشكالها المتنوعة التي وإن تباينت بين مجتمع ومجتمع آخر إلا أنها تحمل المقاصد نفسها التي تحاول أن تسلكَ بالنفسِ مرتبةَ الطهارةِ والسلام والسكينة حيثُ يكون للألفة المجتمعية تحقُّقٌ، ولجبر الخواطر والرحمة والإحسان نصيبٌ خاصٌّ لا يشعر فيه الفقير بالضعف، ولا يملك الغني فيه شعورا بالمنّة والكلفة؛ فالجميع يسعى إلى تحقيق مقاصد العيد، وهنا تتضح ملامح الفلسفة الأخلاقية الصُلبة المرتبطة بالإيمان.

في ظل وجود هذه المقاصد -التي لا نملك بدًا إلا بإقرارها وممارستها- نقبع أحيانا تحت تأثير الظروف المحيطة التي تحيل بيننا وبين تحقيق هذه المقاصد والتفاعل مع حيثياتها، ولا أجد أقسى من ظروف الحرب الإجرامية التي يشنّها الكيان الصهيوني على أهل غزة وما تحمله من مشاهدَ تسيل من هَوْلِها الدموع حزنًا وألمًا، وهنا نرى ظرفية المتغيرات التي تحاول أن تخترقَ جزئيات العيد وتزعزعَ مقاصده السامية، ونرى مدى التأثير الذي يمكن أن تلحقه هذه المتغيرات بالجانب النفسي الذي يعكس قدرة الإنسان على تجاوز كل ما يحيط به من ظروف قاسية، ويتفاعل مع مظاهر العيد بما يملكه من مشاعر دفينة تتعلق بالعيد وفلسفته العميقه، والتوازن بين وقع الألم وظرفية الفرح أمرٌ يصعب تحقيقه في غالب الأحيان، ونتذكر في هذا المعرض ما فاضت به قريحة المتنبي الذي حاول أن يجد للعيد ملاذًا يفرُّ به من ظروفٍ يعيشها، إلا أن للظروف غلبةً أحالت بينه وبين تحقق مقاصد العيد؛ فعبّر عن ذلك بقوله: عيدٌ بأيَّة حال عدتَ يا عيدُ … بما مضى أم بأمرٍ فيكَ تجديدُ. تظل هناك محطة في العيد وفلسفته -حتى وإن ضاقت بظروف الحياة- تُؤْثرُ بقاءَ الأملِ الذي يأتي في صوره المناسبة، وفي ظروف الحرب الغاشمة يأتي في صورة النصر القريب الذي باتت معالمه واضحة تُنْبي بقيام دولة فلسطينية مستقلة وهزيمة للكيان الصهيوني الذي لم يجدْ له قبولًا في العالم أجمع.

وفي زاوية أخرى، لا يمكن أن نرى العيد بمظاهر ثابتة لا متغيرة؛ فثقافة العيد تأخذ شكلها وفقا لمستجدات الزمان وتطوراته، ونحن في عصر رقمي -تتدافع فيه طفرات التقنيات الذكية بأنواعها المختلفة- من الممكن أن نتوجس خوفا من فقداننا لبعض ما نظنه ثقافة ثابتة للعيد غير قابلة للتغير؛ فأسلوب تفاعلاتنا الاجتماعية والمجتمعية في ظل أدوات التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها تأخذنا إلى اتخاذ صور أخرى لهذا التفاعل تتقلص فيه مظاهر الاجتماع واللقاءات والزيارات؛ فنعوّضها بالتواصل الرقمي الذي يفقدنا شيئا من قيمة العيد ومبتغاه -وإن واكب متغيرات العصر ومستجداته الرقمية-، إلا أن هذه الممارسات المستجدة تُكسب أفراد المجتمعات تأقلما مع واقع جديد -يستهجن البعض حدوثه-، ومع مرور الزمن يتحول إلى أسلوب حياة يعتاد الناس تقبّله، وهذا ديدن المخاضات التي تسبق دخول ثقافة جديدة لتحل محل ثقافة قديمة، وهنا لا نملك حق مقاومة حدوث هذه المتغيرات حال أنها لا تمس قيم المجتمعات العليا وأحدها القيم التي تتعلق بمقاصد العيد، وحينها لابد من الدفع بالوعي الذي يهدف إلى حماية المقاصد دون الإفراط في مقاومة المتغيرات، ولكن عبر منهجية التوازن.

***

د. معمر بن علي التوبي

أكاديمي وباحث عُماني

بقلم: جابرييلا جالفين

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

 في عام 2018، صنفت الحكومة الدنماركية رسميًا أحياء الأقليات ذات المؤشرات الاجتماعية المحددة على أنها "غيتو". تهدف السياسات إلى تفكيك الجيوب العرقية من خلال إعادة التطوير، والإخلاء، وعقوبات جنائية مشددة - والرعاية النهارية الإلزامية للأطفال الذين تزيد أعمارهم عن عام واحد. وقد يشكل ذلك تمييزًا عنصريًا بموجب قانون الاتحاد الأوروبي.

 إن السياسة الحكومية الرامية إلى تفكيك الأحياء ذات الأغلبية غير البيضاء تعمل على تمزيق النسيج الاجتماعي للمجتمعات المتماسكة

 كان ابن فاطمة عبد الحميد يبلغ من العمر 11 شهراً عندما أبلغتها البلدية أنه يجب أن يبقى في الحضانة عندما يبلغ عامه الأول. وبما أنه ولد قبل الأوان وكان لا يزال صغيرا بالنسبة لعمره، أراد عبد الحميد إبقاء ابنه في المنزل حتى يتمكن من المشي. لقد تخيلته في الحضانة، غير قادر على الوصول إلى لعبة أو التحرك دون مساعدة، ولم تعجبها الصورة. ونظراً لأن زوجها يدير مطعماً سورياً بينما تدرس عبد الحميد للحصول على درجة البكالوريوس، فقد شعرت أنه ليس هناك حاجة إلى التعجل في إرساله.

 لكن الدولة الدنماركية لم توافق على ذلك. تعيش عبد الحميد، وهي مواطنة دانمركية المولد هاجر والداها الفلسطينيان إلى هنا قبل ولادتها، مع عائلتها في فولسموز، وهو أكبر "غيتو" في الدنمارك، وهي التسمية الرسمية لأحياء الأقليات ذات الدخل المنخفض. وباعتبارها مقيمة في فولسموز، اعتبرت الحكومة أن ابنها كان معرضًا لخطر التحدث باللغة الدنماركية بشكل غير مناسب وضعف الأداء في المدرسة. منذ عام 2019، طُلب من جميع العائلات في ما يسمى بالجيتوات إرسال أطفالهم إلى الرعاية النهارية عندما يبلغون عامًا واحدًا أو المخاطرة بفقدان المزايا العامة، في محاولة لتعليمهم "التقاليد والأعراف والقيم التي نؤكد عليها في هذا البلد". ".

 تؤكد الحكومة الدنماركية أيضًا أن الأطفال في هذه المناطق الذين يتغيبون عن الرعاية النهارية هم أكثر عرضة لبدء المدرسة بمهارات لغوية متأخرة، مما يعرضهم لخطر نتائج تعليمية وتوظيفية سيئة. قبل دخول القانون حيز التنفيذ، كان 69% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين عام واحد وعامين والذين هاجر آباؤهم من دول غير غربية في دور الحضانة، مقارنة بـ 93% بين الأطفال من أصل دنماركي. وفي الأحياء "الضعيفة"، حيث يعيش مزيج من الدنماركيين البيض والمهاجرين وأحفادهم، تم تسجيل 75% من الأطفال بعمر عام واحد في الرعاية النهارية.

 بالعودة إلى فولسموز - التي تقع في أودنسه، ثالث أكبر مدينة في الدنمارك - اكتشفت عبد الحميد "التقاليد والأعراف والقيم" التي كان ابنها بحاجة إلى تعلمها عندما تقدمت بطلب للحصول على إعفاء من قاعدة الرعاية النهارية وجاءت أخصائية اجتماعية تابعة للبلدية لتخبرها. تفقد منزل العائلة. وبدت الزائرة متعاطفة، وقامت بطرح قائمة من الأسئلة المطلوبة، بما في ذلك كيف ستضمن عبد الحميد المساواة بين الجنسين بين أطفالها (كانت لديها طفل واحد فقط في ذلك الوقت)، وكيف ستعلمه عن الديمقراطية وكيف ستقدم له عيد الميلاد. - سؤال لم تعرف عبد الحميد، وهي مسلمة، كيف تجيب عليه.

 تقول عبد الحميد، البالغة من العمر الآن 26 عاماً: "لم يكن الأمر مخيفاً للغاية، ولكن مثل: "من تظن نفسك، تأتي إلى منزلي وتعلمني كيف أكون مع طفلي، فقط لأنني أعيش في فولسموز؟" أم لطفلين. "أعتقد أن الأمر كان سخيفًا للغاية. "لكنني كنت أقول، عليّ فقط إنهاء هذه المحادثة، يجب أن أصل إلى هدفي فقط" - كل ما أرادته هو أن يتجنب ابنها الرعاية النهارية وألا تسحب الحكومة مخصصاتها النقدية.

 أعربت الأخصائية الاجتماعية عن بعض المخاوف بشأن مهارات زوجها في اللغة الدنماركية - فقد وصل كلاجئ سياسي من سوريا منذ حوالي ثماني سنوات، وبينما تقول عبد الحميد أن لغته الدنماركية ممتازة، فإنه لم يخضع بعد لامتحان اللغة المطلوب - لكنهم حصلوا على الإعفاء، على الرغم من أنهم لم يتمكنوا من التقدم بطلب للحصول على أموال إضافية لرعاية طفلهما في المنزل، كما تفعل العائلات التي تعيش خارج مناطق الجيتو. بدأ ابن عبد الحميد الحضانة بعد ستة أشهر، بمجرد أن بدأ المشي؛ اليوم، يبلغ من العمر 5 سنوات تقريبًا، ولغته الدنماركية أفضل من لغته العربية.

 تعد سياسة الرعاية النهارية أحد قوانين الجيتو المثيرة للجدل في الدنمارك، والتي تم إقرارها في عام 2018 بدعم واسع من الأحزاب السياسية الرئيسية. في كل عام، تقوم الحكومة بتقييم الأحياء التي يبلغ عدد سكانها ما لا يقل عن 1000 نسمة؛ لكي تكون المنطقة مؤهلة لتكون "منطقة سكنية معرضة للخطر"، يجب أن تستوفي اثنين من أربعة معايير تغطي مستويات تعليم السكان والبطالة والدخل والإدانات الجنائية. ولكن إذا استوفت منطقة ما المعايير وكان أكثر من نصف سكانها من أصل غير غربي، فسيتم اعتبارها جيتو، أو، منذ أن أعادت حكومة يسار الوسط تسمية القانون في عام 2021، "مجتمعًا موازيًا".

 يمكن أن تكون تسمية الجيتو بمثابة ختم الموت للحي. تخضع االجيتوات لمجموعة من السياسات المستهدفة لتفكيك الجيوب العرقية من خلال هدم المساكن وإعادة التطوير، والإخلاء القسري، وفرض عقوبات أشد على الجرائم المرتكبة في المنطقة. ويجب على الآباء أيضًا، كما اكتشفت عبد الحميد، إرسال أطفالهم إلى الحضانة. ومع ذلك، فإن التسجيل السنوي في دور الرعاية النهارية في الجيتوات محدد بنسبة 30% لأطفال الحي. وهذا يعني أنه إذا كان 30% من الأطفال في الرعاية النهارية الأقرب إلى المنزل هم من الجيتو، فيجب على الآباء إرسال أطفالهم إلى منشأة بها نسبة أقل من الأطفال من الحي الذي يقيمون فيه. وخصصت الدولة 1.45 مليار دولار حتى عام 2026 لتنفيذ القانون، بهدف تغيير التركيبة العرقية والاقتصادية لأحياء الجيتو بحلول عام 2030.

 تقول الحكومة الدنماركية إن هذه الإجراءات ضرورية لمعالجة "التحديات الاجتماعية والتكاملية العميقة الجذور"، وخاصة المخاوف من عدم اعتناق غير الغربيين الثقافة الدنماركية أو الاستفادة من أنظمة الرعاية الاجتماعية السخية في البلاد. وعلى الرغم من ذلك، فإنهم لا يتحدثون اللغة على وجه صحيح. يقول معارضو القوانين إنها تضعف النسيج الاجتماعي لأحياء المهاجرين وأحياء الجيل الثاني، ويمثل، كما قالت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان في عام 2018، "الاستيعاب القسري".

 تقول سوشيلا ماث، رئيسة قسم التقاضي في مبادرة عدالة المجتمع المفتوح: "على الرغم من وجود اتجاهات مثل هذه في جميع أنحاء أوروبا، فإننا نجدها واحدة من أكثر الأمثلة وضوحًا وفظاعة، إن لم تكن أكثرها، على التمييز العنصري". . وهي تؤيد الطعن القانوني في الحزمة المعروض الآن أمام محكمة العدل الأوروبية.

 أحدث قائمة للأحياء العشوائية، التي نُشرت في ديسمبر 2023، تُسمّي 12 حيًا كمجتمعات موازية، بعد أن كانت تشمل 29 حيًا في عام 2018، حيث تغيّرت البيانات الاجتماعية والاقتصادية، وانتقل الناس من تلك الأحياء أو انخفضت نسبة السكان غير الغربيين إلى أقل من 50%. واليوم هم موطن لحوالي 28600 شخص، وتتراوح نسبة السكان غير الغربيين من 53.1% إلى 77.4%، مقارنة بـ 10.1% في جميع أنحاء الدنمارك. معظم السكان هم من تركيا أو سوريا أو العراق أو لبنان أو باكستان أو إيران، ومنذ عام 2022، من أوكرانيا، على الرغم من إعفاء الأوكرانيين من سياسات الجيتو. تشمل التسمية غير الغربية الجميع بدءًا من المهاجرين الذين وصلوا مؤخرًا إلى الدنماركيين الذين يحملون جوازات سفر مع أحد الوالدين على الأقل من البلدان المعينة.

 تقول مايكين فيل، وهي معلمة تعيش في حي ميولنباركن العشوائي في كوبنهاغن وتعود أصولها إلى الدنمارك:"نحن نأتي من خلفيات ثقافية متعددة، ولكن لغتنا المشتركة هي الدنماركية"، "إذا استمعت إلى الأطفال وهم يلعبون مع بعضهم البعض، ستجد أنهم دائمًا يتحدثون الدنماركية."

 تخضع سياسات الإسكان الخاصة بقوانين الجيتو لاحتجاجات منتظمة - بما في ذلك عريضة موقعة من 52000 شخص - والدعاوى القضائية المستمرة، لكن قواعد الرعاية النهارية قد تم وضعها تحت الرادار بالمقارنة. منذ عام 2019، تم تسجيل ما لا يقل عن 241 طفلًا في البرنامج الإلزامي، وهو مجاني، وتم حرمان عائلات ما لا يقل عن 53 طفلًا صغيرًا من المزايا العامة لتحدي القواعد، وفقًا لبيانات البلدية التي جمعتها شركة نيو لاينز. لا تشمل هذه الأرقام العائلات التي اشتركت في الرعاية النهارية بمبادرة منها بسبب التهديد الوشيك بالإكراه القانوني.

 أماني حساني، باحثة ما بعد الدكتوراه في جامعة برونيل في لندن، تدرس تأثير قوانين الأحياء الفقيرة،/ الجيتو ترى أن هذه السياسة تشكل نوعًا من "ضغط النزوح"، مما يعني أن الأسر ذات الموارد الأفضل يمكنها الانتقال لتفادي القوانين بينما يظل السكان الضعفاء خلفهم، يفتقرون إلى الدعم المجتمعي من جيرانهم السابقين.

 قدم المشرعون المحافظون اقتراح الرعاية النهارية في عام 2018، مسلحين بدراسة أولية تظهر أن الأطفال ثنائي اللغة ذوي الخلفية غير الغربية سجلوا نتائج سيئة في اختبارات اللغة في سن الثالثة.بينما يميل هؤلاء الأطفال إلى التحسن بحلول عيد ميلادهم السادس، إلا أنهم عمومًا كانوا يؤدون بشكل أسوأ من الأطفال الذين ينتمون إلى أسر أحادية اللغة. شملت الدراسة بضع مئات من الأطفال - أولئك الذين لديهم والدين من الدنمارك والدول الغربية وغير الغربية على حد سواء - واستندت إلى تقييمات لغة معيارية التي اعترف الباحثون بأنها قد تكون معيبة لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار كيفية تعلم الأطفال ثنائيي اللغة أو المحرومين اجتماعيًا للغات. في الدراسة، قام الموظفون التعليميون بقياس نطق الأطفال وطلبوا منهم تسمية الأشياء والألوان استنادًا إلى صور، من بين اختبارات أخرى، وملأ الآباء تقارير عن مفردات أطفالهم؛ ثم قام الباحثون بتحديد درجة إجمالية للغة لكل طفل.

 قال باحثون آخرون إنه لا ينبغي لواضعي السياسات استخدام هذه الأنواع من اختبارات اللغة لتبرير إلزامية الرعاية النهارية لأنها لا تصور الطرق المختلفة التي يتواصل بها الأطفال مع بعضهم البعض،وجادلوا أيضًا بأن الأطفال الصغار لا يحتاجون إلى التقدم بنفس الوتيرة في اللغة الدنماركية من أجل إتقان اللغة. كما جاءت المعارضة السياسية للخطة من المنظمات المهنية مثل اتحاد العاملين في مرحلة الطفولة المبكرة والأحزاب اليسارية التي أرادت تعزيز استخدام الرعاية النهارية بطرق أخرى، مثل جعل العاملين في مجال الصحة المجتمعية يناقشون مراكز الرعاية النهارية عند الاجتماع مع الآباء الجدد. لكن القانون أقره البرلمان الدنماركي في نهاية المطاف بموافقة 78%.

 قالت آني هالسبي-يورجنسن، عضو في الحزب الاجتماعي الديمقراطي ذو الاتجاه اليساري الوسطي، التي قامت بتوسيع تشريعات الأحياء الفقيرة/ الجيتوات منذ توليهم السيطرة على الحكومة في عام 2019، خلال مناقشة مشروع القانون في عام 2018: "لست قلقة جدًا بشأن العنصر الإلزامي. سأختار دائمًا مصلحة الطفل إذا كان هذا هو المطلب."

 في الواقع، يمكن أن تؤثر برامج الطفولة المبكرة ذات الجودة العالية بشكل إيجابي على التطور المعرفي والاجتماعي والسلوكي للأطفال، لا سيما الأطفال ذوي الدخل المنخفض والأطفال ثنائيي اللغة. وعلى المدى الطويل، ترتبط هذه البرامج بمستويات تعليمية أعلى وزيادة مشاركة الأمهات في القوى العاملة. يرى الدنماركيون أن دور الحضانة أداة لتحقيق تكافؤ الفرص خلال فترة حاسمة لنمو الطفل، وقد ضمنت الدولة رعاية الأطفال الشاملة منذ عام 2004 – وهو استثمار اجتماعي يُعزى إليه تعزيز المساواة في البلد الاسكندنافي الذي يبلغ عدد سكانه ما يقرب من 6 ملايين نسمة.

 يقول كريستيان ساندبيرج هانسن، الأستاذ المشارك في علم الاجتماع التربوي بجامعة آرهوس والذي يعارض قوانين الجيتو: "منذ اختراع الرعاية النهارية في الدنمارك، أصبحت أداة سياسية، وخاصة أداة مهنية، لصياغة دولة الرفاهية". "لقد أصبحت القاعدة الأساسية أن يحضر الأطفال البالغون من العمر عامًا واحدًا إلى الرعاية النهارية بطريقة ما."

 المشكلة في سياسة الرعاية النهارية، وفقًا للعاملين في مجال رعاية الأطفال والآباء والباحثين، هي العنصر الإجباري. ويقولون إنه إذا كانت الحكومة تريد حقًا تعزيز الالتحاق بالرعاية النهارية، فيجب عليها التركيز على التواصل والحوافز لعائلات محددة تكافح، وليس التهديد بفرض عقوبات مالية في أحياء الأقليات ذات الدخل المنخفض في الغالب.

 تقول ليزا برون، العاملة في مجال رعاية الأطفال في جيتو في آرهوس، ثاني أكبر مدينة في الدنمارك: "إن السنوات الثلاث الأولى من حياتك مهمة للغاية". لمساعدة الآباء المتشككين على أن يصبحوا أكثر راحة في إرسال أطفالهم إلى رعاية النهار، تقوم بزيارات منزلية قبل تسجيلهم وتدعوهم للبقاء في المركز طالما أرادوا.

 يبدو أن القاعدة التي تنص على ألا يأتي أكثر من 30 بالمائة من الملتحقين الجدد بالرعاية النهارية من الأحياء المحرومة، بغض النظر عن سعة المنشأة أو ما إذا كانت الأسرة قد سجلت طفلها بالفعل، يمكن أن يكون لها آثار عكسية. في أحد أحياء الجيتو في مدينة إسبيرج الساحلية، أصبح مركز الرعاية النهارية في بيديلينز بورنيهوس نصف فارغ على الرغم من قائمة الانتظار الطويلة للأطفال من الحي، كما يقول مديره مايكل فريدريكسن.

 نظرًا لأن الآباء يجب أن يرسلوا أطفالهم الذين يبلغون من العمر عامًا واحدًا إلى الرعاية النهارية، فإن المقيمين في قائمة الانتظار يقودون سياراتهم عبر المدينة لوضع أطفالهم في مرافق أخرى - عادة ما تكون على بعد ميل واحد إلى ثلاثة أميال، ولكن في حالة واحدة أكثر من 8 أميال - بينما ينتظرون دور الرعاية النهارية. مكان مجاني في بيدلينس بورنهوس. ومع ذلك، فإن قواعد إعادة التوزيع نفسها لا تنطبق على العائلات من مناطق خارج الجيتو، وبما أنهم عادةً ما يرسلون أطفالهم إلى مراكز الرعاية النهارية في منطقتهم، فإن العدد الإجمالي للتسجيلات في بيديلينز بورنيهوس لا يزال منخفضًا. هذا يعني أن الفرص المتاحة لأطفال الحي قليلة ومتباعدة ، على حد قول فريدريكسن.

 تقول فريدريكسن، وهي تقف في منطقة لعب هادئة في بيديلينس بورنيهوس: "لقد تم تدريبنا جميعًا على التعامل مع الأطفال في مستواهم الأساسي وتطويرهم حقًا من حيث احتياجاهم إلى التطوير". "لقد تم إنفاق الكثير من الأموال على التدريب الإضافي، لكن الأرجوحات تظل فارغة لأننا لا نستطيع العمل إلا بنصف طاقتنا."

 بعد أن أنجبت مروى مولودها العام الماضي، كان وضع ابنتها على قائمة الانتظار في بيديلينز بورنيهوس من أول الأشياء التي قامت بها. يذهب أطفال أختها إلى هناك، وكانت مروى، وهي من أصل تركي وفلسطيني، تحب الأجواء المتعددة الثقافات والشاملة. ولكن عندما حان وقت التسجيل، كانت الحصة البالغة 30% تعني أن عليها التسجيل في مكان آخر حتى يتم فتح مكان في بايديلينز بورنيهوس بعد عدة أشهر، وهو ما شعرت أنه أمر غير عادل.

 تقول مروى، وهي طالبة في التعليم تبلغ من العمر 22 عاماً طلبت استخدام اسمها الأول فقط: "أريد أن أعلم ابنتي أن كل شخص جيد بما فيه الكفاية وأن تكبر دون القلق بشأن لون البشرة". "من الصعب تعليمها مجموعة من القيم، ومن ثم لا يتم رؤية تلك القيم في جميع أنحاء المجتمع".

 تعكس قواعد الجيتو استراتيجية طويلة المدى لاستخدام الرعاية النهارية التي تفرضها الدولة لاستيعاب الثقافة الدنماركية. منذ عام 2011، يُطلب من الأطفال الصغار ثنائيي اللغة الذين تبلغ أعمارهم 3 سنوات فما فوق حضور الرعاية النهارية إذا اعتبرت لغتهم الدنماركية غير كافية، وهي قاعدة تم توسيعها لتشمل الأطفال بعمر عامين في عام 2016. لكن الأطفال الناطقين باللغة الإنجليزية والألمانية معفون من هذه القاعدة. ولهذا السبب يصف هانسن عبارة "العائلات ثنائية اللغة" بأنها "تعبير ملطف للمهاجرين المسلمين".

 بعبارة أخرى، فإن قواعد الرعاية النهارية هي بمثابة التذكير الأول للآباء غير البيض، وخاصة المسلمين، بالآخر الاجتماعي الذي قد يواجهه أطفالهم عندما يكبرون في الدنمارك. يقول حساني إن القوانين "تشير إلى حقيقة أن المجتمع الذي يتم بناؤه هنا، داخل هذه المنطقة السكنية، ليس جيدًا بما فيه الكفاية". "ومن هنا تأتي فكرة المجتمع الموازي."

 كما تم تطبيق قوانين الغيتو بالتزامن مع تحول الدنمارك نحو اليمين فيما يتعلق بالهجرة، والذي اشتد في السنوات الأخيرة. في عام 2016، أصدر البرلمان قانونًا يلزم طالبي اللجوء بتسليم المجوهرات والأشياء الثمينة الأخرى للمساعدة في تمويل إقامتهم في الدنمارك؛ وفي عام 2018، أقرت حظر البرقع؛ وفي عام 2019، رأت الحكومة أن العودة إلى أجزاء من سوريا آمنة وبدأت في إلغاء تصاريح إقامة اللاجئين؛ وفي عام 2022، أعلنت عن خطط لإرسال طالبي اللجوء إلى رواندا؛ وفي عام 2023، قالت رئيسة الوزراء ميتي فريدريكسن، وهي من الحزب الديمقراطي الاشتراكي، إنها تريد سحب المزايا العامة من النساء غير الغربيات اللاتي لا يعملن بدوام كامل.

 في عام 2020، قال ماتياس تيسفاي، وهو ديمقراطي اشتراكي شغل سابقًا منصب وزير الهجرة والاندماج وهو الآن وزير الأطفال والتعليم، لصحيفة كوبنهاغن إن الناس من بعض البلدان "يندمجون في المجتمع الدنماركي دون أي مشاكل، بينما يتخلف البعض الآخر عن الركب" عدة أجيال. ولذلك، فإن أهم شيء يمكننا القيام به هو منع التدفق من البلدان التي تكون فيها مشاكل التكامل منخفضة للغاية.

 رفض تسفايا طلب إجراء مقابلة من خلال متحدث باسمه. ورفض الديمقراطيون الاجتماعيون وحزب التحالف الأحمر-الأخضر اليساري المعارض لقوانين الجيتو / الأحياء الفقيرة، وعدة سياسيين محليين الرد على الطلبات.

 على الرغم من أن الدنماركيين يميلون إلى أن تكون لديهم وجهات نظر إيجابية عن الهجرة، إلا أن الخطاب السياسي المتشدد قد أثر على الرأي العام. وفقًا لدراسة أجريت في كوبنهاغن عام 2010، فإن العائلات ذات الأصل الدنماركي أكثر احتمالًا للانسحاب من المدرسة العامة المحلية إذا تجاوزت نسبة الطلاب من غير الغربيين 35%. مؤخرًا، وجد المعهد الدنماركي لحقوق الإنسان أن العائلات البيضاء والميسورة الحال أكثر احتمالًا للانسحاب من المدارس العامة المحلية إذا كان هناك جيتو / حي فقير في منطقتهم.

 عندما تغطي الصحف الدنماركية هذه المناطق، فإنها تركز على العنف والمخدرات ونشاط العصابات وتحركات الشرطة، وتصف الأطفال هناك بـ " "أطفال الجيتو". ويقول هانسن إنه إلى جانب سياسة الجيتو نفسها، تعمل التغطية الإعلامية على ترسيخ فكرة أن جميع المشاكل الاجتماعية في البلاد تتركز في هذه الأحياء.

 لدى السكان رؤية مختلفة لمجتمعاتهم. قام إبراهيم الخطيب، 57 عامًا، بتربية بناته الثلاث في الجيتو في هوجي تاستروب، بعد انتقاله من لبنان إلى الدنمارك في عام 1990. يقول مدير مشروع تكنولوجيا المعلومات إن صورة حيه كمجتمع مغلق لا تتطابق مع الواقع، لكن العام الماضي اضطر إلى مغادرة المنطقة لأن المبنى الذي يقطنه كان مقررًا له الهدم كجزء من خطة تطوير الإسكان.

 يقول الخطيب: "كان المكان آمنًا جدًا لأطفالي والأطفال الآخرين - كانوا هناك يلعبون [ولم يكن هناك] أي شيء خطير". ويضيف: "أنا أسميه أجمل جيتو في الدنمارك. ... كان من الصعب جدًا علي وعلى عائلتي الانتقال من هناك."

 مع مرور الوقت، يبدأ الأطفال في استيعاب الرسائل التحقيرية التي يسمعونها أثناء نموهم. وفقًا لتقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 2015، شعر 63% من الأطفال الدنماركيين الذين لديهم آباء من العراق أو الصومال بالانتماء في المدرسة، وهو أقل بحوالي 20 نقطة مئوية مما هو عليه في فنلندا، الدولة الشمالية الأخرى المجاورة للدنمارك .

 تقول كريستينا باكير سيمونسن، أستاذة العلوم السياسية في جامعة آرهوس: "في كثير من الأحيان، عندما يكبر الأطفال بما يكفي ليدركوا أنه لا يُنظر إليهم ببساطة على أنهم دنماركيون، على سبيل المثال، يبدأون في الشعور بالألم والإحباط".

 فريدة، التي ولدت في سوريا وتقوم بتربية أطفالها الثلاثة في نفس الجيتو في كوبنهاغن حيث نشأت، تستعد بالفعل لهذه المحادثات. عندما أرادت ابنتها البالغة من العمر 9 سنوات تجربة ارتداء الحجاب لبضعة أيام، وحاولت فريدة ثنيها خوفاً من أن يواجهوها فور مغادرتها الحي الذي تعيش فيه، حيث يعتبر حوالي ثلاثة أرباع السكان أنفسهم غير غربيين.

 تقول فريدة، وهي قابلة تبلغ من العمر 37 عاماً طلبت استخدام اسمها الأول فقط: "لا أريد لأطفالي أن يكبروا ويعيشوا هذه التجربة في مثل هذه السن المبكرة". عندما يحين وقت مناقشة الازدراء في الحي، "سأتركهم يصلون إلى استنتاجاتهم سواء كانت مبنية على العنصرية أو أي شيء آخر، لكنني أعتقد أن الأطفال أذكياء. سوف يكتشفون الأمور."

 وقد رفع العديد من سكان الجيتو، سواء من البيض أو غير الغربيين، دعاوى قضائية للطعن في القوانين. وفي القضية الأكثر شهرة، ستقرر محكمة العدل الأوروبية ما إذا كانت التسمية غير الغربية تميز الأشخاص على أساس أصلهم العرقي. وإذا كان الأمر كذلك، فإن خطط التنمية التي وضعتها الدنمرك لمناطق "الغيتو" قد تشكل تمييزاً عنصرياً بموجب قانون الاتحاد الأوروبي. وتؤكد الحكومة الدنماركية أن كلمة "غير غربي" هي علامة على الجنسية أو البلد الأصلي، وليس العرق أو الإثنية.

 ومن المقرر أن تنظر محكمة الاتحاد الأوروبي في القضية في يوليو/تموز، ومن الممكن أن يصدر القرار في وقت مبكر من العام المقبل، حسبما يقول ماث من مبادرة عدالة المجتمع المفتوح. إن النصر القانوني للمقيمين من شأنه أن يرسل إشارة إلى دول الاتحاد الأوروبي الأخرى بأن قوانين مكافحة التمييز في الكتلة سيتم دعمها، "وأنه لا يمكنك التهرب منها باستخدام صياغة بديلة للأصل العنصري أو الإثني، أو من خلال معاملة المجموعات العنصرية على أنها يقول ماث: "مواطنون من الدرجة الثانية باسم شيء مثل التكامل".

 يقول فيلي، أحد سكان مولنرباركن، وهو أحد المدعين في الدعوى، إن العديد من العائلات، التي سئمت من حالة عدم اليقين الناتجة عن الدعاوى القضائية المختلفة والنزوح السكني، قبلت الاستقرار بشكل دائم في مكان آخر. عندما صدرت النسخة الأخيرة من قائمة الغيتو في ديسمبر 2023، لم تكن Möllenerparken مدرجة فيها للمرة الأولى. لم يكن هناك أي تغيير تقريبًا في التعليم والدخل والتوظيف والإحصاءات الجنائية، لكنه لم يعد قابلاً للعد. انخفض عدد السكان إلى 966؛ لقد ذهب الكثير من الناس.

 "لقد عاش الكثير من الناس في Mjolnerparken لمدة 30 أو 20 عامًا وأصبحوا أقرب إلى جيرانهم، لأنهم أصبحوا أسرهم في بلد بعيد عن أسرهم"، يوضح فيلي. “وهكذا تم اقتلاع شبكة الدعم القوية جدًا للعديد من الأشخاص. »

 لم يكن هناك سوى القليل من الإرجاء أثناء سير الدعاوى القضائية. واليوم، تستمر عمليات هدم المساكن والإخلاء، وتبتعد الأسر التي لديها الوسائل اللازمة للقيام بذلك عن "الغيتوات"، ويتعين على الآباء أن يطلبوا من الدولة الإذن لإبقاء أطفالهم في المنزل، ويتم إرسال الأطفال الدنماركيين الصغار إلى الرعاية النهارية ليتعلموا كيف يصبحون دنمركيين. وبالنسبة للآباء الدنمركيين من ذوي الخلفيات غير الغربية، فإن سياسات الغيتو تعكس إحجام الدنمرك عن قبول مجتمع متعدد الثقافات. الآن، يتم نقل هذا الصراع إلى أطفالهم.

 تقول عبد الحميد: "لا أستطيع الاختيار بين الاثنين". "أحلم بالدنماركية، وأفكر بالدنماركية، وأتحدث بالدنماركية. لكن في الوقت نفسه، جزء من هويتي كوني فلسطينية".

***

.....................

الكاتبة: جابرييلا جالفين /Gabriela Galvin صحفية مستقلة تقيم في آرهوس وأمستردام. وقد ظهرت أعمالها في EUobserver، وEuronews، وGlobal Health NOW، وغيرها. رابط المقال على نيو لاينز:

https://chatgpt.com/c/d5a4754c-82e5-4741-9ae4-d04e185b4862

 

بقلم: شايلا لاف

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يقول متعددو اللغات أنهم يشعرون كما لو أن تعلم لغة أخرى يتعارض مع لغاتهم القديمة. بحث جديد يضع هذا على المحك.

عندما توفي والد جولي سيديفي، عادت إلى موطنها في جمهورية التشيك واكتشفت خسارة أخرى: اللغة التشيكية، لغتها الأم. في كتابها الذاكرة تتحدث: في فقدان واستعادة اللغة والذات (2021)، تصف سيديفي، عالمة اللغات في كندا، تجربتها مع استنزاف اللغة - نسيان لغة معروفة ذات يوم، حتى تلك التي تعلمتها منذ فترة طويلة. بالنسبة لها، كان استنزاف اللغة مرتبطًا بتعلمها اللغة الإنجليزية، الأمر الذي أدى إلى مزاحمة اللغة التشيكية.

كتبت سيديفي: "مثل الأسرة التي ترحب بطفل جديد، لا يمكن لعقل واحد أن يقبل لغة جديدة دون بعض التأثير على اللغات الأخرى الموجودة هناك بالفعل". وهذه ملاحظة متكررة بين متعددي اللغات، وهي أن "اللغات يمكن أن تتعايش، لكنها تتصارع، كما يفعل الأشقاء، على الموارد العقلية والاهتمام"، على حد تعبيرها.

تقدم دراسة حديثة في المجلة الفصلية لعلم النفس التجريبي بعضًا من الأدلة التجريبية الأولى لهذه العملية. وشملت الدراسة متحدثين هولنديين أصليين يعرفون اللغة الإنجليزية أيضًا، ولكن ليس الإسبانية. أجرى المشاركون اختبارًا لمفردات اللغة الإنجليزية، وتم تخصيص 46 كلمة لكل شخص يعرفونها بالفعل. ثم تعلموا نصف هذه الكلمات باللغة الإسبانية.

بعد تعلم هذه النسخ الإسبانية الـ 23، تم اختبار المشاركين مرة أخرى على جميع الكلمات الإنجليزية البالغ عددها 46 كلمة. نظرًا لأنه تم طرح الأسئلة المتعلقة بالكلمات الإنجليزية عليهم من قبل، فقد استجاب المشاركون عمومًا بشكل أسرع في هذا الاختبار الجديد. لكن بشكل عام، أظهروا زيادة أقل في السرعة عند تذكر الكلمات الإنجليزية التي تعلموها للتو باللغة الإسبانية. "ومن ثم،" يكتب الباحثون، "يمكننا أن نستنتج أن تعلم الكلمات من لغة جديدة يأتي على الأقل على حساب سهولة استرجاع الكلمات في اللغات الأجنبية التي تم تعلمها مسبقًا." وفي إحدى التجارب، تعلم النسخ الإسبانية من الكلمات كما يبدو أيضًا أنها تجعل المشاركين أقل دقة قليلًا عند تذكر تلك الكلمات باللغة الإنجليزية.

اختبر القائمون على التجربة ما إذا كان إعطاء الكلمات الإسبانية يومًا للفهم سيؤدي إلى تداخلها بشكل أكبر مع النسخ الإنجليزية، وهو ما لم يحدث عندما تم اختبار المشاركين مرة أخرى في نفس اليوم. لكن التأخير لم يحدث فرقا كبيرا في النتائج.

تتنافس الكلمات في أذهاننا، وقد يحدث تأخير في استرجاعها نتيجة اضطرار الشخص إلى التوقف لاختيار الكلمة الصحيحة

أشارت دراسات سابقة إلى أن تعلم شيء جديد يمكن أن يزيل معلومات أخرى من خلال عملية ذاكرة تسمى التداخل. في وقت مبكر من عام 1900، أثبت الباحثون ذلك من خلال مطالبة الناس بتعلم وتذكر مجموعات من الكلمات، مثل "وردة - نافذة، حصان - سحابة"، ثم مجموعات جديدة تحتوي فقط على العنصر الأول من كل زوج: على سبيل المثال، "وردة" . - كرسي، حصان - كرة". الأشخاص الذين شاهدوا القائمة الثانية واجهوا صعوبة في تذكر القائمة الأولى. تتنافس الكلمات في أذهاننا، ويمكن أن يحدث تأخير في استرجاعها نتيجة اضطرار الشخص إلى التوقف مؤقتًا لاختيار الكلمة الصحيحة.

عندما يتداخل التعلم الجديد مع التعلم القديم، يطلق عليه "التدخل الرجعي". وهذا أمر شائع عند تعلم أكثر من لغة واحدة، كما تقول كريستين ليمهوفر، المؤلفة الرئيسية في البحث الأخير، والأستاذة المشاركة في علم اللغة النفسي بجامعة رادبود في هولندا. إذا علمت لأول مرة أن كلمة "dog" تعني chien باللغة الفرنسية، ثم تعلمت أنها perro باللغة الإسبانية، فقد يصبح تذكر un chien أكثر جهدًا لاحقًا.

أحد الأسئلة البارزة حول التدخل بأثر رجعي هو ما إذا كان التعلم الجديد يمكن أن يعطل الكثير من التعلم الأقدم الذي تم ترسيخه في الذاكرة طويلة المدى، بدلا من شيء تم تعلمه مؤخرا.أظهرت هذه الدراسة الجديدة أن ذلك ممكن؛ تفاجأت ليمهوفر بأن تعلم الكلمات الإسبانية أثر على تذكر اللغة الإنجليزية التي تعلمها المشاركون الهولنديون قبل سنوات عديدة. من المثير للاهتمام أن التجارب كشفت أيضًا أن التداخل يمكن أن ينشأ من مجرد تعلم لغة جديدة، سواء تم استخدامها أم لا.

بعد رؤية هذا التداخل في المختبر، تقول ليمهوفر إنه شيء يجب على متعلمي اللغة الاستعداد له: قد يكون تعدد اللغات ببساطة مرهقًا للدماغ. لقد ثبت أن الأشخاص متعددي اللغات يستغرقون وقتًا أطول للعثور على كلمة ما وإخراجها في أي من اللغات التي يتحدثونها، ويمكنهم تجربة حالات طرف اللسان في كثير من الأحيان.

ليمهوفر ألمانية، أمضت عامًا في لندن، ثم ذهبت إلى هولندا للحصول على درجة الدكتوراه - لذا فهي تتمتع بخبرة مباشرة كبيرة في هذه الظاهرة. وتقول: "عندما بدأت في تعلم اللغة الهولندية، توقفت لغتي الإنجليزية فجأة". "عندما حاولت التحدث بها، خرجت الكثير من الكلمات الهولندية، الأمر الذي كان محرجًا في بعض الأحيان. لقد اختفت هذه المشكلة فقط عندما أصبحت لغتي الهولندية أكثر استقرارًا، وتحدثت الإنجليزية بشكل أفضل مرة أخرى.

لا يمكن تجنب ذلك بشكل كامل، لكن ليمهوفر تعتقد أنه يمكن التخفيف من هذه التأثيرات من خلال الاستمرار في استخدام لغة يتم نسيانها أو التداخل معها. تقول ليمهوفر: "على الرغم من أننا لم نختبر ذلك تجريبيًا في تلك الدراسة، إلا أننا نعتقد بقوة أن تأثيرات النسيان التي لاحظناها يمكن تجنبها من خلال الاستمرار في استخدام اللغة الأخرى أيضًا".

بالنسبة لـ سيدفي، كان قضاء بعض الوقت في جمهورية التشيك والتعرف مرة أخرى على اللغة هناك أمرًا غريبًا بعض الشيء في البداية، لكن الكلمات عادت سريعًا - وعاد معها جزء من نفسها. وكتبت في مقال نشرته عام 2015: "كانت اللغة الإنجليزية هي اللغة التي صُغت بها استقلالي، ولغة تفردي  ولكن باللغة التشيكية، تمت رعايتي، وراحتي، وغنيت لها.

(تمت)

***

......................

الكاتبة: شايلا لاف / Shayla Love: محررة اساسية فى سايكى، ظهرت مقالاتها الصحفية العلمية في مجلات Vice وThe New York Times وWired وغيرها. تعيش في بروكلين، نيويورك.

 

الحجُ رمزٌ عملي تطبيقى فعّال لوحدة القصد: ووحدة التوجُّه ووحدة الغاية، وإشعار الناس، وهم محرِمُون فى صعيد واحد، يمثلون حالة الفطرة كونهم إخواناً متحابين أمام معبود واحد، لا ينظر إلى صورهم ولا إلى مناصبهم ولا إلى أموالهم، ولكن ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم ونواياهم.

اللافت للنظر فى مناسك الحج كلها هو الطواف، أمرٌ لا يُعلل إلّا بحكمة تدعو إلى التأمل، فالكعبة رمز التوحيد، وهيكله البيت العتيق، أراد الله أن يجسّد فكرة التوحيد فى بيته العتيق فكانت الكعبة، فالطواف حولها استشعار العبد التوجّه إلى الله وحده بغير لوثة الشرك والوثنيّة، استشعاره باقياً فى عالم الحقيقة والرضى، تاركاً للزيف وللوهم وللختل وللخداع، متجهاً بكليّته إلى حقيقة التوحيد مجسّدة أمامه فى أول بيت مبارك وضع للناس.

ليس أسهل من أن تكون حركة الطواف حركة مستقيمة، ولكنها لحكمة إلهية بالغة كانت حركة دائرية، تجئ فيها ترقية من عَسَاهُ يطوف بالكعبة من حركة الأرض إلى حركة السماء.

فالحركة المستقيمة حركة طبيعة فيزيقية، حركة الحار والبارد والثقيل والخفيف، أو إنْ شئت قلت : حركة النار والماء والتراب والهواء. هذه حركة مستقيمة ليست كاملة بسبب أن لها أضداداً، فحركة الجسم الخفيف إلى أعلى كحركة النار والهواء، وحركة الجسم الثقيل إلى أسفل كحركة التراب والماء، ولكل من الحركتين أضداد كما يقول الفلاسفة.

أمّا الحركة الدائرية فلا ضدّ لها، هى أكمل الحركات الطبيعية ولذلك يختص بها العالم العلوى، عالم الأفلاك السماوية. تذكر هنا فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأذكر معها تلك الحركة الدائرية الكاملة، حركة الكون بكل ما فيه ومن فيه، وأذكر إنها ليست مجرّد نقلة وكفى، ولكنها رمزٌ يجسّد معنى يبقى مع الزمن بل ويعلو على الزمن حتى يُفينه، ثم يظل المعنى باقياً حاضراً بعد فناء المحدثات.

لك أن تلاحظ : الحركة الدائرية الكاملة هى حركة الفاني حول الباقي، كحركة النيترون حول النواة دائرية، وحركة الحيوان المنوى حول البويضة دائرية، وحركة الأجرام السماوية حول مركزها دائرية، لأن مادة الأثير المختلفة بحكم طبيعتها عن العناصر الأربعة تجعل الأفلاك السماوية تتحرك حركة دائرية وليس لها ضد، ثابتة بلا تغيير، ثم حركة المتغير حول الثابت حركة طبيعية دائرية، وهى طبيعية، لأنها حيّة وفطريّة من طبيعة الكون الحي المفطور على السنن والنواميس الثوابت.

حركة الطواف تحقيق التوحيد، رمزٌ للحقيقة الإلهية العليا الخالدة، وجعل التوحيد حقيقة ملموسة مشهودة باقية، من خلالها يسبّح الكون كله لله. وسيبقى البيت العتيق عتيقاً، لأنه المركز الثابت الذى سيظل ثابتاً بتجسيد التوحيد تسبيحاً للخالق رغم فناء المتغيرات من حوله، وفناء الأضداد.

أمّا تعليل الطواف بسبع، فلا يسيغهُ فى العقل شئ قدر ما يسيغهُ التكفير عن الخطايا وملاقاة الله تعالى بالندم والاعتذار.

وقد قيل إنّ الملائكة لمّا خلق الله آدم جعله بشراً من طين قالوا (أتجعل فيها من يُفسد فيها ويُسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك) غضب الله عليهم، وكان من علائم غضبه أن أعرض عنهم، ولمّا أعرض عنهم فزعوا، فتملكتهم الضراعة وأجهشوا بالبكاء إشفاقاً من غضب الله، فذهبوا يعتذرون إليه ويطوفون بالعرش سبعاً كما يطوف الناس بالبيت الحرام وهم يقولون:

(لبيك اللهمّ لبيك ..

ربنا معذرةً إليك ..

نستغفرك ونتوب إليك)

فنظر الله إليهم ونزلت عليهم الرحمة، ووضع الله سبحانه تحت العرش بيتاً هو البيت المعمور ثم قال : طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش، فكان طوافهم به أيسر من طوافهم بالعرش.

ثم أمر الله الملائكة من سكان الأرض أن يبنوا فى الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور، وأمر من فى الأرض أن يطوفوا به سبعاً كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.

هذا هو الجانب المقبول فى الرواية تعليلاً للطواف فيما لو صدقت، فالطواف، فضلاً عن كونه توجُّهاً للحق وحده، فهو تجسيد للتوحيد وتكفير للخطايا واعتذارٌ للّه ثم قُربة منه تعالى. وهو، من بعدُ، قدوة بطواف الملأ الأعلى حول العرش، ثم تحت العرش فى البيت المعمور، ثم فى الأرض، فى البيت العتيق.

ومن يتأمل الروايات التى وردت فى الحجر الأسود على اختلافها، يدرك من فوره إساغة الطواف بحركته الدائرية على النحو الذى ذكرناه ..

وقيل : إنّ الله عز وجل كان قد استودعه جبل أبي قبيس زمن طوفان نوح، فجاء جبريل ووضعه فى مكانه، وبنى إبراهيم عليه، وهو حينئذ يتلألأ نوراً حتى أضاء بنوره شرقاً وغرباً وشمالاً ويميناً إلى منتهى أنصاب الحرم من كل ناحية، وإنمّا سودته أنجاس الشرك والجهالة وأرجاس الوثنية وزرايا الذنوب والخطايا.

وهنا تبرز حكمة الطواف سبعاً واستلام الحجر الأسود فى كل مرة، وهى حكمة إلهية بالغة ما بلغ مقصودها، مردّها إلى رحمة الله تعالى، فى شهود التوحيد، وفى تكفير الخطايا والذنوب، وفى الشعور بالتقصير تجاه الحق جلّ وعلا، والاعتذار إليه ما أمكن أن يكون الاعتذار أسفاً وندماً وإشفاقاً، وفى القُربة من الله الواحد الأحد، وليس، من بعد إلا التطهير.

***

د. مجدي ابراهيم

 

عند التمعن في التطورات والتحولات الخطيرة للمجتمعات العربية والإسلامية، نكتشف مسارين حاضرين في تفاصيل الواقع العربي والإسلامي..

المسار الأول:

تفجير الهويات لتفكيك الدول القائمة وخلق دويلات دينية ومذهبية وكنتونات طائفية. مما يؤسس لمقاولات سياسية تهدف لبناء مجتمعات متطرفة، وبالتالي تدمير كل أسس التعايش بين الناس.

و في هذا المسار تلعب مؤسسات الدولة الثقافية – تحديدا دون غيرها- دورا خطيرا في حال ساعدت في انهيار المجتمع، حيث تصبح فضاءات الاجتماع العام، مسرحا للصراعات والاحتراب وممارسة العنف بكل أشكاله، أو أنها تلعب دورا استراتيجيا في حماية المجتمع من انزلاقات العنف وإضعاف الدولة والمجتمع، بل أكثر من ذلك يمكنها توطيد العلاقات وكشف المؤامرات وتصحيح الخيارات وتمكين الكفاءات من استثمار مسائل التنوع والاختلاف في مشاريع حضارية تعود بالنفع العام ودفع عجلة إبداع الدولة المدنية السليمة من تداعيات التخلف والرجعية والعدوان والعنف بكل صنوفه.

ولا شك أن هذا الخيار أو المسار هو من المسارات الخطيرة على المنطقة العربية، لأنه يدمر كل شيء، إذا ما وضع بأيادي طائفية ووفق مشاريع شيطانية تخلط الدين بالسياسة وتعمل على دفع الشعب ضد الدولة وعزل الثقافة عن دورها الحضاري الخلاق كما يذكر الأستاذ إبراهيم عبد غلوم: "فالإفراط في عزل الثقافة عن معناها الخلاق، وبالتالي عن كيفيتها في إنتاج المجتمع الذي نعيش فيه، إنما يؤدي إلى خلق ثقافة مركزية منغلقة تتصور الوجود الاجتماعي من خلال تصورها، وتوجه الخطاب الثقافي (بمعناه الشامل في الحياة) من خلال ما تنتجه النخبة المركزية من أفكار تتصل بكيفية إنتاجها للمجتمع . ويورث هذا السياق السوسيولوجي للثقافة المركزية سلسلة طويلة من الإشكاليات يوازي حجمها حجم التنوع في المجتمع (ديمغرافيا وثقافيا)، وتكون ـ عادة انعكاسا لمجتمع تسوده علاقات متنوعة ومتغيرة مع الثقافة المركزية (السلطة) تتوزع بين التحالف والولاء والانقسام والاختلاف والتمرد والعزلة . إلى آخر هذه السلسلة الطويلة من المواقف التي تنتج ثقافات موازية ومتصارعة أحيانا . ولعلنا نلاحظ الآن أن حجم إشكاليات الثقافة في دول الخليج يتفاوت فيها بمقدار ما ترثه من التنوع الثقافي "[1].

أي أن إحدى مشكلات الثقافة في العالم العربي ترتبط أساسا بالنخبة المركزية والتي تكون أخطر كلما كانت تحمل أجندات التدين السياسي، هذه النخب المركزية التي تسعى للتحكم في مصائر المجتمعات العربية عبر منصات المؤسسات الثقافية والعمل على قطع الطريق أمام الابداع الثقافي والإنتاج الفني الحضاري والرقي بالوعي الثقافي، حتى تستطيع مستقبلا تدجين المجتمع المدني وتوجيه الشعب نحو تمكينها من السلطة من خلال بساط عزل الثقافة الحية والحرة والعادلة عن حياة الناس.

لذلك يعد هذا المسار من المسارات الكارثية على الإنسان العربي والاستقرار العربي والنسيج الاجتماعي العربي وحتى الوعي الثقافي الديني للإنسان العربي. لأنه يشتت الفكر والفعل ويشدد الرقابة والتعطيل لكل ما يخالف نواياه غير المعلنة من خلال تعبئة الجميع ضد الجميع دون أفق ثقافي واجتماعي نزيه وسلمي. لذلك نجد أن الدول العربية البارز فيها هذا المسار، أو بروز تيارات الإرشاد الديني والتوعية الثقافية التي تعمل من أجل انخراط الجميع في هذا المسار، إما أنها أصبحت مسرحاً لصنوف التطرف والعنف والطائفية والحجر الثقافي وإنعدام حريات المعلومات والفكر والرأي أو تعيش حالة من الجمود تنبأ بأن القادم أسوأ.

عندما يدخل التدين السياسي أروقة المؤسسات الثقافية فإن المجتمع يصبح في وجه مدافع القابلية للقتل والتطهير الديني أو المذهبي أو العرقي والعنف المقدس والكل يشعر أنه يدافع عن مقدساته وتاريخه وثوابته، بينما في حقيقة الأمر يدمر مقدساته وتاريخه وثوابته ووطنه وإنسانيته وكرامته.

حيث يذكر المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي: وكلمة (تربية إجتماعية) تشترك في هذا المصير العام، فهي لا تعني شيئا إذا لم تكن-في الواقع وبما تحمل من معنى- وسيلة فعالة لتغيير الإنسان، وتعليمه كيف يعيش مع أقرانه، وكيف يكوّن معهم مجموعة القوى التي تغير شرائط الوجود نحو الأحسن دائما، وكيف يكوّن معهم شبكة العلاقات التي تتيح للمجتمع أن يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ "[2].

أي أن التربية الإجتماعية بحاجة لنخبة أصيلة نزيهة لا تقبل فرض مشاريع إيديولوجية تلتحف القداسة الدينية لتصل إلى مآربها السياسية عبر الثقافة ومؤسساتها، حيث يصبح الخطاب والكتاب والفن والمهرجان والمعرض وما هنالك من إنتاج وفعالية ثقافية رهن التدين السياسي والفكر حبيس شفاعة العقل التراثي، لأنه ببساطة " ّإذا تصورنا التربية الإجتماعية في نطاق هذه المصطلحات أمكننا أن نلخصها في كلمة واحدة هي: الثقافة"[3]

وبحسب الدكتور عبد الجبار الرفاعي في كتابه الفذ والاستراتيجي " الدين والكرامة الإنسانية[4]: "تقترن التربية في التدين السياسي بالتخويف من المختلف في المعتقد والهوية والثقافة، لذلك تشيع بين من يتبنون التدين السياسي حالات حذر وشك وسوء ظن بالآخر، وتضمحل فيه منابع المحبة بين الناس والرحمة والعفو والغفران في التعامل معهم، بل طالما تحوّل إلى بيئة لنمو نزعات الكراهية والتعصب والإنغلاق"[5].

إن مؤسسات الثقافة في المجتمعات العربية والإسلامية، لابد من حمايتها من الأجندات السياسية كلها وخصوصا المتطرفة والخطاب الثقافي بكل أشكاله الإعلامية والمنبرية والدعوية والتربوية والفنية يصبح مهددا وعامل هدم وإنحراف إذا تخندق تحت لواء تيارات الفكر الشمولي والتدين الشكلي وخصوصا السياسي منه، لذلك هذا المسار الكاسح لفضاءات الثقافة في العالم العربي والاسلامي يمثل تحد خطير للشعوب والدول ومؤسساتها ولمشاريع بناء المجتمع المدني والدولة المدنية.

المسار الثاني:

مسار يراهن على قوة الدولة، ويسعى بكل إمكاناته للدفاع عن مبدأ الدولة المدنية  الجامعة والحاضنة لكل التنوعات. وهذا المسار ينطلق من مبدأ تجاوز الآنا القبلية والقومية والمذهبية والحزبية إلى رحاب الاجتماع الوطني الذي يثرى بالجميع، وإلى الدولة المدنية التي تتسع للجميع.

فالثقافة في إطار الدولة المدنية القوية لا تهمش أحدا من التنوعات والهويات والثقافات الهامشية، بل تشتغل على تحقيق التعارف والحوار والتعاون بينها من أجل إثراء الفعل الثقافي وتطويره ضمن أطر العقلانية والحريات العامة والموضوعية العلمية والتنافس الإيجابي وليس تفخيخ القرارات وفبركة القوانين الخاصة بالنشاط الثقافي بما يتناسب والنخب المركزية ومن يدور في فلكها، أو استحواذ رواد التدين السياسي على الكعكة الثقافية واستثمارها في مشاريع الصراع على السلطة والثروة بلا أدنى ضمير أخلاقي. لأن " هناك منفعة، مصلحة يقتنصها الجميع في سياق النظر إلى الثقافة بوصفها شراكة في الإنتاج واعترافا عقلانيا شاملا بالتنوع. سنجدها تتجسد بصورة أساسية في توفر إمكانيات أوسع وأعمق في الاستثمار الثقافي، إن سباقا حقيقيا نحو الموضوعية يتحقق من جراء استثمار التنوع. بل إن النزوع الذاتي حينئذ يتمثل بوصفه تروعا إلى الموضوعية والعلموية، ومن شأن ذلك أن يعيد ترتيب الأشياء والأولويات في ضوء استراتيجية الفعل لا رد الفعل، وفوق أرضية مهيأة لامتلاك أدوات المعرفة وإنتاجها أيضا "[6]

هذا المسار الثاني إستراتيجي بالنسبة لمجتمع يطمح أفراده في صياغة مدنية ثقافية تظهر في جميع المجالات الحياتية، هذا المسار يريد للعقل الثقافي أن يكون واقعيا واستراتيجيا لا عقلا مستغرقا في المدونات التراثية، بل عقلا يجتهد في وعي الدين والتدين وضرورات الحكمة والأخلاق في ذلك كله، فلا يؤدلج الواقع بنظريات أثبتت فشلها ولا زالت تهدد أمن الأوطان وتروع القلوب وتقتل الأحلام والتطلعات لشعوب عانت من ويلات الإرهاب والعنف بإسم الدين وحماية المقدس الموهوم، إنه مسار الإنفتاح على النص والواقع بالعقل العملي الواعي لا العقل التراثي الفقهي الضيق الذي يعود لقرون بالية، هنا لابد من الإنفتاح من باب الثقافة ونظمها ومؤسساتها الإجتماعية قبل أبواب الاقتصاد والسياسة، لأن التضييق في الحقل الثقافي بأنظمة وقوانين ولوائح لا تخدم سوى أصحابها وتياراتهم وهو قتل للثقافة ومعطل لأدواتها ومصداقيتها، فلابد من بناء قانوني سليم من أجل فعالية المؤسسات الثقافية في تنشيط الفعل الثقافي وإثراء الحرية الثقافية والحماية القانونية للمثقفين في بناء أطر ومؤسسات المجتمع الثقافي بما يزكي المجتمع المدني..

في ظل هاذين المسارين ومداراتها الجدلية، لابد من الدعوة إلى المسار الثاني لتجنيب كل الدول العربية فتن وأزمات وكوارث المسار الأول الذي يدمر الدولة والمجتمع معا والتاريخ والهويات والتراث..

و في هذا السياق يجدر بنا أن نذكر الجميع، إن الثقافة تحتوي بصفة عامة عدداً من الفصول هي: الأخلاق، الجمال، والمنطق العملي، والصناعة الفنية، ولكن الأمر يقتضينا أن نتساءل: كيف ينبغي أن ندركها في صورة برنامج تربوي يصلح لتغيير الإنسان الذي لم يتحضر بعد، في ظروف نفسية وزمنية معينة، أو لإبقاء الإنسان المتحضر في مستوى وظيفته الإجتماعية، وفي مستوى أهدافه الإنسانية، أما فيما يتعلق بحالتنا، اعني البلاد العربية والإسلامية، فينبغي أن نفكر في الإنسان الذي لم يتحضر بعد، أو الذي خرج من دورة حضارته في أزمة التاريخية معينة، كيما نحدد – بالنسبة إليه- شروط الفاعلية التي يمكن أن تقوم على منهج للأخلاق والجمال مثلاً. أي إنه ينبغي أن نحدد من أجل الإنسان الشروط الأولية التي تحقق له ما يبتغي من الثقافة.[7] الشروط التي تبدأ بحماية المؤسسات الثقافية من عشوائيات وأنانيات الإنسان الذي لم يتحضر بعد واستفرد بمصير المجتمع الثقافي ومستقبله الحضاري...

لأنه عندما تغلب العنصرية والجهوية والحزبية  على كل طرف بعنوانه الخاص، يتم التضحية بالوطن وثقافته والمجتمع وفضاءاته والدولة ومؤسساتها من أجل الذات والجهة والقبيلة والطائفة والهوية والحزب، فإن ذلك يفتح الطريق لفتن وصراعات لا يمكن تفاديها إلا ببناء الدولة المدنية السليمة وحمايتها لتكون  الحاضن لجميع التعبيرات..

وخلاصة القول: إننا ندعو جميع العرب بكل مجتمعاتهم وتنوعاتهم، لتحرير المؤسسات الثقافية والقوانين الخاصة بالثقافة والمثقفين والإنتاج الثقافي من رياح وسطوة العقل التراثي ورهانات التدين السياسي، وإلا سنكون مصداقا للقابلية للتخلف ورهن إرادات المستدمر ومخططاته الشيطانية.

***

بقلم: أ. مراد غريبي - كاتب وباحث

............................

[1] الثقافة وإنتاج الديمقراطية، إبراهيم عبدالله غلوم،ص 121، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2002م.

[2] ميلاد مجتمع، مالك بن نبي دار الفكر (دمشق) ط 3،سنة 1986، ص 100.

[3]  ن. م ص 99.

[4] هذا الكتاب جدا مهم وأنصح بمطالعته لأنه يتضمن عصارة فكر وتجربة كما يكشف عن أبعاد وأشكال التدين وينبه لتدين رحماني أخلاقي مستبعد معزول عن واقع ثقافة ومجتمع المسلمين في الزمن المعاصر

[5]  الدين والكرامة الإنسانية، د.عبد الجبار الرفاعي، دار التنوير –مركز دراسات فلسفة الدين، ط1 سنة 2021م، ص 143.

[6] م.س، الثقافة وإنتاج الديمقراطية، ص153.

[7]  م. س، ميلاد مجتمع ص 100-101.

على الرغم من أنَّ هناك من يعتبر  الأمر بديهياً؛ أي أن يكون هناك تطابقٌ بين نصوص المبدعين ومواقفهم في الحياة العامة وسلوكهم الأخلاقي، تطابقٌ لجهة الانتصار لقيم الحقّ والعدالة والتحرّر من ربقة الظلم والعبودية، والوقوف ضد النزعات الفاشية والعنصرية والدكتاتورية. إلاّ أنَّ هناك من لايزال  يثير الأمر، بوصفه بذرة خلافٍ متجدّد، فهناك ممن يرون بضرورة الفصل بين نصّ المبدع ومواقفه في الحياة العامة والسياسية، ومن ضمنها انتماءاته الحزبية، رافعين شعار النص أولاً، كمعيارٍ لتقييم المبدع، وأنَّ إضافاته الإبداعية، للمنجز الثقافي في بلاده، هي الفيصل في تقييم شخصيته، أو حكم التاريخ عليه بعد رحيله، بغضّ النظر، إن كان متحيّزاً لطبيعة النظام السياسي في بلاده، أو متطرّفاً، أو منساقاً للنزعات العنصرية والطائفية أو الفاشية.

على العكس ممّن يرون بضرورة التطابق الإيجابي بين الإبداع والقيم الأخلاقية، أي التطابق الإنساني بين النصّ والسلوك الاجتماعي المتّزن والموقف السياسي المناصر للناس وحقوقهم وحرياتهم، وعلى وفق ذلك يؤمن  الكاتب والمفكر  الأردني  ابراهيم أبو عواد، بهذا الطرح، إذ تناول بالنقد، في مقالةٍ له نشرها موقع ميدل إيست أونلاين، الشهر الماضي، موقف الشاعر والناقد الأميركي عزرا باوند (1885 - 1972) في هذا المضمار، باوند هو رائد الحداثة الشعرية الغربية، ويكفي من ذلك أن الشاعر والناقد الإنكليزي من أصل أميركي ت. س. إليوت، أهداه قصيدته ( الأرض الخراب) التي تُعدُّ قصيدة القرن، مذيّلاً له إيّاها بعبارة " إلى الصانع الامهر"، إذ يرى أبو عواد أنّ باوند ارتكب خطيئةً بدعمه للفاشية، ومساندته المفضوحة لموسوليني، وتكريسه موهبته الشعرية ومكانته الأدبية  لدعم العنف والإرهاب، وإيحاد مبرٍّر أخلاقي لهما، واصفاً نموذج باوند في العلاقة بين الإبداع والأخلاق، بأنّه "يظهر الصِّدَامُ الحَتْمِي بَيْنَ الوَظيفةِ الجَمَالِيَّةِ للنَّصِّ الشِّعْرِيِّ الإنسانيِّ الذي يَحْفَظ كَرامةَ الإنسانِ ويُحَافِظ على شُعُورِه وأحلامِه وتاريخه وحضارته، وبَيْنَ الوظيفةِ الأيديولوجية للفَاشِيَّةِ التي تَقُوم على القتلِ والكَرَاهِيَةِ وتَصفيةِ الخُصُومِ وإلغاءِ الحُرِّياتِ الفرديةِ وتَدميرِ مُستقبلِ الإنسانِ وإقحامِ الدُّوَلِ في حُرُوبٍ دمويّةٍ عبثيّة".

إنحياز كبار المبدعين والكتّاب للشر، المتمثّل في دعم العنف والارهاب والحروب، يفسّره  الأكاديمي والكاتب السوري عدي الزغبي، على نحوٍ منطقيٍّ نوعاً ما، إذ يرى أنَّ الانسان عبارةٌ عن ملكاتٍ عقليّةٍ متعدّدة، تنمو بيولوجياً منذ الولادة، ربّما تتكامل أو تتقاطع، لكنّها تظلُّ متمايزةً عن بعضها البعض، فربّما تبرز عند مبدعٍ ما الملكة الإبداعية، وتضمحلُّ عنده الملكة الأخلاقية، بالنتيجة، يبرز ميل هذا المبدع إلى الشر، يقول الزعبي في مقالته " لماذا ينحاز بعض المثقفين إلى الشرير؟" المنشورة في مجلة رمّان" الثقافية، بأنّ" الانفصال بين الملكات العقلية المسؤولة عن الثقافة والإبداع بأشكالها المختلفة، وبين الملكة الأخلاقية، هو الأكثر إثارة للجدل: قد يكون المبدع منحطاً أخلاقياً، وضيعاً، تافهاً؛ أو قد يعيش في عالمه الخاص، لا يفهم الأخلاق أو السياسة على الإطلاق، ويقتصر عالمه على مجاله الإبداعي، والقليل من الحياة الاجتماعية الضرورية". ويذكر الزعبي  أمثلةً عن المواقف الأخلاقية للمبدعين عبر التاريخ، من المتنبي، بوصفه كان متملّقاً لكلّ أهل السلطة، مغروراً نرجسياً عنصرياً، إلى  الرسام الفرنسي إدغار ديغا، الذي كان يحتقر النساء.

ونذكر نحن أيضاً في هذا المجال الكاتب والروائي الألماني غونتر غراس

( 1927- 2015)، الذي اعترف عام 2006، بأنّه كانَ في صباه عضواً لفترةٍ محدودةٍ في فرقة الوحدات النازية الخاصّة أس أس (SS)، وأنّه التحق طواعيةً في سن الخامسة عشر بشبيبة هتلر. وفي سنّ السابعة عشر استُدْعِي للعمل ضمن فرقة الوحدات النازية الخاصة وارتدى زيّها، حيث أنّ تلك الوحدات جهاز الحرس الخاص الذي يتولّى حماية الزعيم النازي  أدولف هتلر، وقد نُسبت لهذه الفرقة  أعمالٌ وحشيَّة. ويُذكر بأنّه  تمّ حظرها بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية، فضلاً عن أنها  أدينت رسمياً بكونها "منظمة إجرامية" في ما عُرفَ بمحاكمات "نورنبيرغ".

التقييم الاخلاقي للمبدع، أصبح يُنظر إليه بأنّه تسييسٌ للموقف من الثقافة، ومن ثمَّ الإبداع، لاسيّما أنّ هذه الجدلية القديمة بين الإبداع والأخلاق، عادت إلى الواجهة، في كلِّ بلدٍ عربي، حصل فيه تغييرٌ للنظام السياسي، بما سُمِّي آنذاك الربيع العربي، حيث يُجرى تقييمٌ جديد، من قبل أهل الفكر والثقافة، لإبداع الحقبة السياسية السابقة، على سبيل المثال، ما حدث في العراق، في التاسع من نيسان عام 2003، حيث سقط في ذلك اليوم، النظام الدكتاتوري في العراق، إذ ذاك جرى فرز من آزر النظام، وامتدح زعيمه المقبور، وطبّل لحروبه وسياساته الرعناء، هذا الفرز جاء، بحسب  مُسمّياتٍ  مدوّنةٍ في تاريخ الثقافة العراقية، مثل " شعراء قادسية صدام" و" شعراء أمّ المعارك". المآسي المتلاحقة التي عانى منها العراقيون، عبر سلسلة حروبٍ وحصار، أحدثت انقساماً  بين المثقفين، لجهة أنَّ كلَّ من أيّد ذلك النظام في كتاباته، اعتُبر بالضدِّ من معاناة الناس ومشاعرهم وتطلّعاتهم، وبالضدّ من الصورة المألوفة عن  الأديب بأنّه ضمير عصره والمعبّر عن تطلّعات شعبه.

لكنَّ هناك من يقول بضرورة الفصل بين المنجز الإبداعي والموقف الأخلاقي، لا سيّما أنَّ الأخلاق تُعَدُّ قضيَّة نسبيةً، لها ضوابطها بحسب الشرائع السماوية والمعارف الوضعية، والخروج عنها في العصر الحديث، يعتبر انغماراً في فوضى لا أخلاقية.

الأمثل، بالنسبة إلى تلك الجدلية المتجددة، في كلِّ عصرٍ وأوان؛ أن يُنظر إلى المبدع برؤيةٍ موضوعية، تقيّم نتاجه الإبداعي شكلاً وبنيةً ومنجزاً، كما يتمُّ، أيضاً، تقييم موقفه الأخلاقي والسياسي من جميع الجوانب، شرعيةً ومعرفيةً، من جهةٍ أخرى. الكاتب السوري عدي الزعبي، يقيّم الشاعر والناقد والأكاديمي المفكر السوري- اللبناني - الفرنسي أدونيس( 1930- )، في هذا الاتجاه، ويأخذ على نقّاد أدونيس خلطهم بين تجربته الابداعية بوصفه علامةً كبيرةً في ريادة الشعر العربي المعاصر وتطوّره، وموقفه من الثورة السورية، وبحسب الزعبي يُعدُّ شعره " ثورة حقيقية، سواء أكنّا من المعجبين بهذا الشعر أم لا".

***

باقر صاحب

 

في المجتمعات التي تنام وتصحو على إيقاع عنف الجماعات الأصولية المنفلت من عقاله، واستشراء نوازع العدوانية للأصوليات والعصبيات المتكارهة والمتباغضة، فان بحوزة كل جماعة سوسيولوجية أو مكون انثروبولوجي مجموعة من الممارسات الشعائرية والأنشطة الطقوسية، التي أشبه ما تكون بالفروض الدينية واجبة الطاعة وإلزامية التنفيذ. ولأن طبيعة العلاقات داخل مؤسسة (العشيرة) لا تعتمد في تلبية ضروريات تكوينها، وتأمين شروط ديمومتها على مصدر خارجي يفرض عليها خصائص القيم وأنماط السلوك التي ينبغي اعتمادها. فهي عادة ما تميل الى التماسك الداخلي بين أعضائها والتخادم البيني على مستوى مكوناتها، ليس فقط لدرء المخاطر الخارجية التي تهدد وجودها الاجتماعي وكيانها الحضاري فحسب، وإنما لضمان استمرار تداول العادات والأعراف والتقاليد المتوارثة التي تمدّ جسور هويتها الحضارية والثقافية بين أجيالها السابقة واللاحقة أيضا".

وكأي جماعة (عصبية)، فان (العشيرة) دائما"ما تكون بحاجة ماسة لممارسة بعض (الشعائر) و(الطقوس) التي من شأنها الحفاظ على كيانها الاجتماعي، وتعزيز الروابط الأسرية والصلات القرابية والعلاقات الاجتماعية، بحيث تشدّ الجميع الى ثوابت أروماتها التاريخية والثقافية والقيمية والرمزية واللغوية. ولعل من أبرز تلك (الشعائر) التي تحرص (العشائر) كل الحرص على تكريسها في الوعي وديمومتها في السلوك، هي الاعتزاز بكل ما يعبر عن خصوصيات العشيرة المعنية (أصول حتى ولو كانت مختلقة، ومواريث حتى ولو كانت ملفقة، وسرديات حتى ولو كانت مصطنعة، والتفاني بالدفاع عن قيمها حتى ولو كانت عصبية، والذود عن أعرافها حتى ولو كانت استعلائية، والمنافحة عن رموزها حتى ولو كانت أسطورية. ولعل هذه المظاهر من (الاعتزاز) المتطرف و(التفاني) المتعصب قمينة باستتباع مجموعة من التصورات والتواضعات والممارسات المستهجنة أخلاقيا "وحضاريا" و"إنسانيا"، يمكن إدراجها ضمن اصطلاحين أساسيين يفضي أحدهما الى مجال الآخر هما؛ (الفزعة العصبية) و(النزعة الاستعلائية)، مع ما يتمخض عنهما من تداعيات اجتماعية وتبعات نفسية غالبا"ما كانت عوامل هدم لكيان المجتمع ومسخ لشخصيته ونسخ لهويته.

ففيما يتعلق بخاصية (الفزعة العصبية) التي تعتبر حجر الأساس في بناء المكون العشائري، فقد ساهمت هذه الخاصية الانثروبولوجية على امتداد تاريخ المؤسسة (القبلية / العشائرية) في إذكاء الروح العدوانية بين أفراد العشيرة الواحدة لأسباب تتعلق بالأدوار والوظائف والمكاسب من جهة، وفيما بين القبائل والعشائر المختلفة لأسباب تتعلق بالمصالح الاقتصادية والوجاهات الاجتماعية والزعامات السياسية من جهة أخرى. واللافت في الأمر ان القاسم المشترك بين الحالة الأولى والحالة الثانية، هو الاحتكام الى لغة (القوة) واستخدام (العنف) بين المتنافسين والمتخاصمين، بصرف النظر عن أهمية الأسباب الباعثة لهذا التصرف أو قيمة الدوافع المؤطرة لأنماطه وأبعاده. لا بل ان الطرف الذي يسعى لحل مشاكله وتسوية أموره عن طريق (القانون) باللجوء الى مؤسسات الدولة، لا يعاب فقط في رجولته ويطعن في كرامته من جانب أٌقرانه فحسب، بل وكذلك يفقد حقوقه كفرد وتهدر قيمته كانسان. من منطلق ان الفرد الذي لا يأخذ (حقه) بقوة يده، ولا يفرض (هيبته) بصلابة إرادته، لا يعد – وفقا"للقيم والأعراف العشائرية - رجلا"يستحق الاحترام والاعتبار.

وحين يعيش الفرد (العشائري) في بيئة اجتماعية من هذا النمط العدواني والاقصائي، لا يمكن إلاّ أن يكون شديد الاعتداد بنفسه وكثير التحمس لعشيرته من جهة، وشديد الازدراء لغيره وكثير التحسس إزاء آخره العشائري من جهة أخرى. ولعل هذه الحالة الشعورية المليئة بالزهو البدائي والمفاخرة الاستعراضية كفيلة بتضخيم أناه (المستقوي) بغيره، وتعظيم نزوعه (المستعلي) بما ليس فيه، على كل من يتموضع في الجانب الآخر من طيف الانتماء التحتي (العشائري) والولاء الفرعي (القبائلي). بحيث لا يني إحساسه الذاتي يتوسع ويتعمق إزاء قيمة الحدود المكانية والفوارق الاجتماعية والحواجز النفسية الفاصلة بين (النحن) الأفاضل و(الهم) الأراذل، والتي رسختها في وعيه وأوجبتها في سلوكه تلك البيئة المتشظية والمستقطبة.

وكما في كل حالات (المفاضلة) العصبية (الاثنية والقبلية والمذهبية والمناطقية) التي تستبطن شعائرها وتجتاف قيمها الجماعات العشائرية، فان عواقب هذا الضرب من مشاعر (الاستقواء) و(الاستعلاء) كفيلة بإجهاض قيم التعايش السلمي بين المكونات السوسيولوجية والانثروبولوجية من جانب، والإجهاز، من ثم، على كل ما يمت الى روح (المواطنة) الحضارية بصلة من جانب ثان. وهو ما يؤدي، في نهاية المطاف، الى جعل المجتمع بمثابة بركان يغلي بالكراهيات المدمرة ويتفجر بالصراعات المهلكة، التي كان العراق – ولا يزال – مسرحا"لها طيلة العقود الماضية. ولهذا فان ما يشاع في الندوات التلفزيونية واللقاءات والمؤتمرات والقنوات الفضائية، حول دور (العشائر) العراقية في توطيد السلم الأهلي وتحقيق الاستقرار الاجتماعي، لا يعدو أن يكون (فرية) لا أساس لها في الواقع. ذلك لأن (العشائر) ما كانت يوما"– ولن تكون في المستقبل – مصدرا" لترميم المتصدع في بنائنا الاجتماعي، وترصين المتخلع في كياننا الحضاري.

***

ثامر عباس – باحث عراقي

«الهندسة الثقافية» ليست مفهوماً معيارياً في الدراسات الاجتماعية، كما قد يبدو للوهلة الأولى. إنه مفهوم حديث الظهور نوعاً ما. ولذا فهو غير شائع بين الباحثين في هذا الحقل. لا بد من القول أيضاً إن المصطلح ليس مجرد وصف لحالة أو مسار عمل، بل ينطوي على إيحاءات محددة، هي – بوجه من الوجوه – حكم على غاياته. ولذا لا يمكن اعتباره محايداً أو موضوعياً، كما قد يود المغرمون بالتعريفات والتدقيق في المصطلحات. الذين يتحدثون عن الهندسة الثقافية، يريدون القول – غالباً – إن هناك من يسعى للتحكم في عقول الناس، باستعمال هذه الوسيلة.

إن أردنا شرح فكرة «الهندسة الثقافية» فهي تشير إلى جهد مخطط، هدفه تغيير الثقافة العامة لمجتمع ما، أو على الأقل إحداث تغيير كبير فيها. ونعرف أن تغيير الثقافة يؤدي، عادة، إلى تغيير هوية المجتمع أو شخصيته أو طريقته في التفكير أو مواقفه تجاه الحوادث والتحولات.

كثيراً ما يخلط الكتاب بين «الهندسة الثقافية» والدعاية التجارية أو السياسية، التي تؤدي – هي الأخرى – إلى تغيير في سلوكيات المجتمع المستهدف. وأذكر في هذا الصدد ما نقله أحد الكتاب عن رئيس شركة البسكويت الوطنية الأميركية (نابيسكو) وأظنها أضخم شركات الأغذية الخفيفة في العالم، الذي قال إن الخطط الدعائية للشركة تستهدف صنع مفهوم عن الحياة الحديثة، يحول منتجات نابيسكو إلى رمز للرفاهية والسعادة: «نحن نصنع المفاهيم وليس فقط البسكويت».

أراد الكاتب من وراء هذا الاستشهاد التأكيد على أن الدعاية التجارية تعيد تشكيل الوعي الجمعي والثقافة العامة. لكن يبدو لي أن هذا النوع من الدعاية يبقى محدوداً وسطحياً أيضاً. فالذين يحبون البسكويت والذين يحبون المشروبات الغازية والذين يرتدون أزياء معينة يشعرون بالسعادة ربما، لكنهم سيتخلون عنها لو اضطروا للاختيار بينها وبين وجبة الغذاء مثلاً. الدعاية تركز على توجيه الخيارات، لكنها لا تذهب أعمق من هذا.

أما الهندسة الثقافية فهي تستهدف تغيير الثقافة العامة، أو ما نسميه العقل الجمعي، من خلال إحداث تغيير عميق في القيم الأساسية التي يقيم عليها الأفراد مبادراتهم ومواقفهم العفوية تجاه الآخرين. هذا التغيير ينعكس على شكل انقلاب في خيارات الفرد، والتي سوف تتحدد – منذ الآن - على ضوء منظومة القيم الأساسية الجديدة، وتحديد ما يوضع للمقارنة، والمعايير التي تحكم التفاضل بين الخيارات.

لا شك في أن الحكومات هي الأقدر على هندسة الثقافة العامة وإعادة تشكيلها. ذلك أنها تمتلك بعض أهم القنوات المؤثرة في هذا العمل، وهي السوق، الإعلام، والتعليم، ودور العبادة. كما أنها تملك المال والوقت.

ويلعب الوقت دوراً حاسماً في الهندسة الثقافية. فتغيير العقول يتطلب وقتاً طويلاً جداً. وأعتقد أن كافة الحكومات تقوم بهذا العمل، في مرحلة من المراحل. بل حتى الحكومات الليبرالية في غرب أوروبا تهتم بها، وهي تضعها تحت عناوين مقبولة نظير «الاندماج الوطني» وتطوير الأعراف العامة مثلاً. وقد جرى التركيز على هذه المسألة بعد تفاقم مشكلة الهجرة إلى أوروبا. ونعرف على سبيل المثال أن التعليم في المرحلة الابتدائية بات يركز بدرجة أكبر على ترسيخ النموذج الثقافي الوطني الذي يمتد من تأكيد مفهوم المواطنة والحقوق المدنية، إلى سيادة القانون واستناده للإرادة العامة التي لا يمكن معارضتها، مروراً بنمط التغذية والعمل... إلخ. ولعل القراء الأعزاء يذكرون قرار الحكومة الفرنسية منع الرموز الدينية في المدارس العامة ودوائر الدولة، وهو جزء من التطبيق الفرنسي لمفهوم العلمانية الصلب الذي يشمل إبعاد المظهر الديني بشكل حازم عن مصادر قوة الدولة. لكنه يُطرح هناك في إطار مفهوم الاندماج الاجتماعي وتوحيد العرف العام.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

في المثقف اليوم